كاتب الموضوع :
ميثان
المنتدى :
القصص المكتمله
ابتسمت محدثتي بلطف بالغ،وقالت:أنت ضيفنا،ونرجو أن تقبل ما وفرناه لك.شكرتهم على ذلك.
في مطار واشنطن العاصمة،وجدت تذكرة الصعود للطائرة مزدوجة باسمي،واستمتعت بمقعدين
سياحيين مع عدم الأخذ بما سببه الفاصل بين المقعدين من الآم،لا بد أن تنساها وأنت تستمتع بزيارة
أولى -
بعد- الإدراك- لدولة كالولايات المتحدة بكل تنوعها وثرائها المعرفي والثقافي والاجتماعي.
وفي سان فرانسيسكو تلك المدينة الحالمة حدثت المفارقة المضحكة واللافتة في آن،حيث كنا نستعد
للطيران باتجاه كبرى مدن ولاية تكساس،هيوستن،إذ قدم لي الموظف في المطار بطاقتين لصعود
الطائرة،انتبهت لكونها تخصاني ولم أهتم بباقي التفاصيل.
قضيت باقي الوقت قبيل موعد الإقلاع مع الزملاء في البرنامج وهم يمثلون صحافيين وصحافيات من
مصر،والضفة الغربية،والأردن،والمغرب،وتونس،وسوريا،وزميل سعودي إلى جانب العبد الفقير إلى الله.
وعندما أعلن عن وقت الرحلة وقفت في صفوف الانتظار بزهو،معتداً بقدرتي على الانخراط في
النظام،ولو كنت عربياً.
وفي الطائرة قدمت بفخر يشبه زهوي الأول بطاقتي للمضيفة التي أشارت إلى أن مقعدي يقبعان في
مؤخرة الط ائرة،فمضيت أجر ذيولي،لا ألوي على شيء إلى مضيفي المؤخرة،وهناك،قال لي مضيف
أذكر تفاصيل وجهه التي كانت جامدة كقالب ثلج بلا معالم تنبض فيه،إن أحد المقاعد في الكرسي رقم
!E والآخر في المقعد 71 ،D68
قلت له :
إني اعتقد أن لدي قدرات ممتازة،أومن بها تماماً،لكني لم أتصور أنها ستصل يوماً ما إلى درجة
أن انفصل بين مقعدين بينهما ما لا يقل عن ثلاثة أمتار !فغر المضيف فاه مستغربا ً!فزدته :هذان المقعدان
يفترض أن يكونا للعبد الفقير إلى الله الماثل أمامكم،وهو حتى هذه الساعة كتلة واحدة، وان كبرت
وتضخمت،إلا أن فصلها إلى جزأين يبدو متعذراً اللحظة.
لجأت إلى السخرية،لأخفف من الموقف في تأثيره على نفسيتي،ولا شي يخطر في بالي ويجول في
ذهني إلا رحلة بيروت تلك التي تتراءى بتفاصيلها أمام ناظري.
قال لي:تبدو الرحلة ممتلئة بالركاب،انتظر حتى نرى ماذا يمكن أن يفعل.
كأنه قال لي:اصبر لننظر في كتلتك المترامية وكيف نجد لها حلاً.
أصدقكم جميعاً أني حينها وقعت في شجر البوادي،وخضت في وادي حيص بيص،وتمنيت أن تنشق
الطائرة إلى نصفين ولو سقطت إلى أرض المطار،ثم تعود وتلتئم ببقية المسافرين .لقد عنت لي
الأفكار التي لا تروى،لعل أقلها أن أعود من حيث جئت رافضاً الانصياع لقوانين الأسوياء أجساداً!
يلزمني الآن وأنا في كامل وعيي التأكد على أنه ليس بين أفكاري التي اجتاحتني كإعصار كاترينا،تنفيذ
أي عمل يصنف بأنه عدائي أو إرهابي،تنفيذاً لوصية كان يرددها صديق قديم مفادها أن الخوف
مليح /ولأني
لا أحب أن أكون إلا أنا.
بعد دقائق مرت على أطول من حصار العراق ٥،قال لي المضيف البائس :أعتذر لك .لا يوجد مقعدان
خاليان الآن.يلزمك أن تبحث بنفسك عن حل لمشكلتك!
أطرقت للوجوم،واليأس،والقلق في آن.
كان على مقربة مني،ضمن مجموعة من الوجوه المتكا ثرة والمتناثرة،التي تداخلت في بعضها لتشكل
نسيجاً لا رابط له في ذاكرتي،شقراء في بحر الثامنة عشرة من عمرها،جلست بحنو إلى جانب
شاب يكبرها بعامين أو ثلاثة.
كان الفتى الأمريكي قد نثر حدائد مزروعة في وجهة،بين أنفه وشفته ولسانه وأذنه،ما أوحى إلى وفقاً
لإرث ثقافي – اجتماعي مكتسب بأنه يصنف في خانة من لا خير فيهم، اعتباراً على أن "سيماهم على
وجوهم".
خلال لحظات الحيرة والقلق التي بدت على معالم وجهي المستدير أكثر مما يجب،كتب الله لي أن
أستمع بتركيز إلى الفتاة وهي تطأطئ وتنحني إلى صاحبها،لتقول له :"عزيزي،لم لا نأخذ المقاعد الأخرى
لإنقاذ موقف هذا الشاب؟.
الله أكبر...
ربما للمرة الأولى أستمع إلى من يقدم شبابي في وصفة لي على سمنتي!
هز الحبيب المغرم ذو الخلاخل رأسه موافقاً دون إبداء تفاصيل،وقامت الفتاة ذات الصوت الهامس،من
مقعدها تجر إليها صد يقها،لينثرا بعد ذلك في مقعدين متباينين،مضحيين بقربهما من بعضهما،حتى لا يوقعا
عربياً سميناً في حرج!
درس مؤثر
مازلت مديناً لتلك الفتاة بكلمات شكر وعرفان،ولصاحبها باعتذار لتصنيفي له،وبشكر يوازي شكر
صاحبته.
أنا مدين لهما بالشكر كثيرا ً...لا لكونهم ا ساعداني في محنة مزعجة فقط،بل لكونهما علماني
أن الإنسان لا يجب أن يصنف الناس باعتبار أشكالهم أبدا ً.لست أدري ربما وفقاً لما كنت عليه قبل
تعلمي هذا الدرس،قابلت من يقول ولو في نفسه :ماذا ترجو من سمين لم يستطيع أن يحل مشكلته
مع بدنه؟ !إذا كان كذلك،فكيف سيتعاطى مع غيرها؟!
أزعم أن أبلغ الدروس أثراً،تلك التي يصلك المعنى فيها بالممارسة لا بالاستماع إلى الخطب
والتوجيهات والنصائح الملقاة على قارعة كل طريق!
كانت هذه الحادثة وغيرها مفتاحاً مختلفاً لي للتعاطي مع الولايات المتحدة إجمالاً،ولعل من العناصر
التي جعلتني أغير وجهة نظري ذاك المشهد الذي ما زال عالقاً في ذهني إبان مغادرتي
وعائلتي الولايات المتحدة قافلين عودةً إلى بلادنا بعد عامين من الدراسة.
كان المشهد صورة ناطقة لزوجتي النجدية المحافظة المحجبة،وهي تعانق جارتها سيندي البروتستانتية
المنفتحة،ذات الشعر الأصفر المتناثر،في مشهد وداع كان مكسواً بدموع صادقة ولحظات حزن عارمة
على الفراق...كل ذلك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) بثمانية أشهر!
كان الصدق طاغياً،والموقف حقيقياُ لا تمثيل فيه ولا مجاملة.
سيندي وأشواق،لم تعبئا في صدق عناقهم ا،بصعود اليمين المتطرف في إدارة بوش،ولا باليمين البن
لادني أو الزرقاوي في ادعاء تمثيل العالم الإسلامي...
كان الحضور طاغياً للإنسان،ذلك الذي يغيب في كل صراع!
|