كاتب الموضوع :
اقدار
المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
تابع ..
(7)
ست الحسن
اسم الزاوية : (( بيني وبينك حكاية ))
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) (الروم/21).
مقدمة الزاوية:
بين الزوجين.. حبل موصول برحمة إلهية، مسكون بدفء فطري، احتياج غريزي، تناغم عاطفي، انتماء. قد يختلفان، يتباعدان، يتخاصمان، لكنهما برحمة الله ولطفه يعودان. هكذا كتب القدر الإلهي: توأمة خالدة، ذكر وأنثى، بهما ((يعتمر)) الكون.. لهما في كل حكاية موقف، ولنا في كل موقف عبرة.
ست الحسن
بقلم: خولة القزويني
ثنائي الحلقة: ( ريم / حازم )
عندما قررت أن أتزوج فكرت في امرأة خرافية الحسن، فلم تكن ذائقتي متواضعة إلى حد أن أقبل زوجة بمقاييس جمالية عادية، حتى أني بت مثار استهزاء وسخرية من أقرب الناس لي، فثمة من قائل إني مغرور وأحمق ولم أعبأ بكل هذه النعوت طالما كنت مؤمناً بقناعاتي، وبررت أني أبحث عن هذه الحسناء لأغض بصري عن كل نساء الأرض طالما أعيش في وفرة محاسن تشبعني كرجل.
كانت والدتي تقطع الدروب وتنهب الطرقات بحثاً عن ضالتي هذه وتعود بأكداس من الإحباطات والخيبات، تعنّفني ساخرة وهي تضرب كفّاً بأخرى ((لم نعثر بعد على ست الحسن))، وكان أبي يتهكّم بمرارة يائس ((قدّم طلباً إلى إحدى قنوات الفضاء وانتظر الرد)).
كنت أريدها فارعة كعارضات الأزياء ولن أتنازل عن المتر والسبعين سانتي وبوزن سبع وخمسين كيلو غرام وذات عيون ملونة وشعر أشقر طويل ويهمني لون البشرة فالأبيض هو لوني المفضل ربما لأني درست في أمريكا استسغت الشقراوات وتبلورت ذائقتي وفق هذا النوع من الجمال، فبنات بلدي مصنفات بأوصاف متشابهة وعادية ولن يثرن اهتمامي أبداً وحدها الشقراء شهلاء العيون من ستتميز عنهن وستكون محط إعجابي.
عجزت أمي بعد أن أعياها البحث قائلة: ((لا توجد فتاة بهذه المواصفات، لابد أن تتنازل عن بعض الشروط قد نجدها شقراء لكنها قصيرة، وقد نجدها فارعة نحيفة بيد أنها سمراء، لما أنت متشدد بهذا الشكل ومتزمت في هذه المقاييس أخشى يا ولدي أن تبدد عمرك في هذه الأوهام فتضيع عليك الفرص الجيدة)).
ويأبى عليّ ذوقي أن يتنازل قيد أنملة، تصبرت وجاهدت وكافحت حتى عثرت عليها صدفة، كنت ذاهباً ذلك الصباح إلى إحدى المصارف المالية لإجراء معاملة عاجلة لمحتها جالسة خلف القاطع الزجاجي استطال عنقها بشكل ملفت، بدت طويلة، نحيفة، مشرقة، متألقة كنجمة سينما، دنوت منها لإجراء المعاملة، ابتسمت لي تلك الابتسامة التي تسقط رهبة الموقف وتحتوي مسافة التلاقي، تلصّصت على اسمها عبر البطاقة المعلقة على قميصها واحتفظت بالاسم غيباً وجنّدت على الفور مخابراتي السرية كي أستجمع كافة المعلومات عنها، وعرفت أن أمها إنجليزية، تخرجت لتوها من جامعة بريطانيا لتباشر عملها في البنك، عزباء، انطوائية، لا تخرج عن محيطه العائلي المحفوف فخير لي أن أصطاد هذه الغزالة قبل أن يسبقني أحد إليها.
استعدت أمي وبعض نساء العائلة لخطبتها، وكانت المشكلة في أمها التي لا تجيد التحدث بالعربية فاستعنت بابنة خالتي لتباشر مشروع الخطبة وذلك لأني وحيد الأسرة ليس لي أخ أو أخت.
كانت ((ريم)) تعيش في وسط عائلي بسيط جداً وعلى ما يبدو هي الابنة الوحيدة، تمّت الموافقة دون تعقيد لأني عرّيس لقطة فعائلتي ميسورة الحال، وأنا مهندس مدني ووسيم كنت ولازلت حلم العذارى الجميلات.
في فترة الخطبة وتجهيز لوازم الفرح كنت أتردد على ((ريم)) لم أذهب راجلاً بل طائراً في فضاء الشوق والهيام تطيّبت بأزكى العطور وتهندمت بأغلى ما عندي من ثياب، أستغل في الغالب أيام الإجازات لأقضي معها صباحات منعشة وأجاذبها عذب الأحاديث وكل ما يخص مستقبلنا المنتظر وأيامنا المرتقبة.
وكعادتي أضرب جرس الباب وأظل واقفاً لفترة طويلة بانتظار الخادمة تهلّ علي بوجهها الرحيم لتدخلني إلى الصالون أقول لها محبطاً:
((أيقظي سيدتك ((ريم)) ))
تذهب للحظات ثم تعود لتلقي عليّ نظرة إشفاق وبصوت خافت
((نائمة))!
أبقى رابضاً في مكاني وأعود لأكرر طلبي في إيقاظ خطيبتي ثانية وثالثة، ساعتان وأنا أجلس لوحدي حتى تهلّ عليّ غزالتي الكسلانة بوجهها الناعس وشعرها المبعثر، تتمغط بتثاقل ((سآخذ دوشاً سريعاً ثم أعود إليك)).
وتختفي في لحظة دون سلام أو كلام أو حتى لهفة وبررت أنها في فترة حرجة حتماً ستتضح الصورة لاحقاً.
جاءتني أمها السمينة التي انتفخ وجهها واحتقن لفرط النوم جلست صامتة وكأنها خاضعة لبروتوكول ((قصر باكنجهام)) فترت فرحتي وأحبطت مشاعري بشكل نافر وانقلب مزاجي إلى النقيض، هلّت علي ((ريم)) بعد أن أعياني الانتظار وقد تداركت جزعي بابتسامة مفتعلة بددت بعضاً من إحباطي ولعلّ إطلالتها الجميلة وبشرتها الريّانة أشبعت ناظري وسربت همّي بالتدريج، طوال جلستنا كنا صامتين أحاول بحذاقة أن أثير قضية تخص حياتنا لأحرّك مياهها الراكدة بيد أنها تختصر الرد أو تجيب باقتضاب، أسرد لها بعض الحوادث لأفهم رؤيتها في الحياة وطريقة تفكيرها وتحليلها للأمور، تحدّق بي مبهوتة وكأنها تهيم في واد غير الواد الذي أجوب فيه، تستأذن مقاطعة في جفاء ((عن إذنك نسيت أن عندي تدريب في النادي الرياضي))
فانسحبت بطريقة رسمية قائلاً: ((أرجو أن نتواصل في الهاتف))
مضيت في إجراءات زواجي كالمنتحر، أو كالذي آمن بقضية ومستعد أن يخوضها حتى النهاية رغم علمه بفشلها وعدم جدواها، ولكنها محاولة تدرء عني خيبة التراجع وفشل العودة.
سافرنا إلى ((فيينا)) وأعتقد أنني لم أذق العسل إلا في فطور الصباح وغير هذا أكذوبة وخرافة!
كنت أرسم لهذه الأيام في مخيلتي الساذجة مشاهد عاصفة بالمشاعر، أوقات حافلة بالمسرات والسعادة، زوجان يرتعان في المروج الخضراء ويتعانقان تحت ضوء القمر، تأخذهما لحظات الشوق إلى ذروة لانسجام النفسي والالتحام الروحي يذوبان في غيمة ممطرة بالحنان يتهامسان على شدو العصافير ودعابات نعامة تفتح أزهار القلب لترتشف النشوة من ثغر الصباح المتألق، واخترت ((فينا)) بخضرتها البديعة وشوارعها التي تثرثر بحكايات حب دافئة، وفي المساء يفترش الليل من وجهها أساطير عشق خالدة.
اتركوني أتنفس وأذرف دمعي وأحكي عن وجعي، فقد كفرت بهذا الجمال حينما اكتشفت أن خلف هذا البريق كيان معطوب وروح ميتة.
أحسست بها متباطئة في كل شيء، خاملة وكأنها خرجت من صقيع ألاسكا، لفتاتها الساذجة واستجاباتها الثقيلة أثارت غيظي في كل لقاء أبادر بحماوة رجولتي وعنفوان شبابي أختلق ذلك المناخ المتأجج بالحب فإذا بها جسد هامد يختزن الموت في كل خلاياه، دمية من الثلج تسر النظر لكنها خابية الإحساس منطفئة، بدّدت ساعات الشوق بنومها المتخم بالبلادة وخمولها المتكلس فوق نسيجها الباهت.
اشتد غضبي، اضطررت أن أصرخ حانقاً لأثير انفعالها تجيبني ببرود ((تعبانة يا حازم دعني أنام)).
أتركها وأخرج إلى بعض الغابات لأتريّض وأستمتع بالطبيعة الخلابة وأنتشي بزقزقة العصافير وهي تفترش الغصون المثمرة، فقد استأجرت بيتاً صغيراً في بقعة حالمة، هادئة، تثير النفس في كل مكامن اعشق والهيام.
أعود بعد ساعة على أمل أن أجدها مستيقظة وقد أعدت لنا مائدة الإفطار، قطفت وأنا في طريقي إليها بعضاً من الزهور البرية،وعندما اقتربت من المنزل سمعت صوت التلفاز يصدح في أرجاء البيت حمدت الله فقد استيقظت عروستي من الموت!
دخلت مستاءاً فصحون الأمس مازالت على حالها والوسائد مبعثرة وجدتها ممدة على السرير تشاهد فيلماً أجنبياً
أدهشتني
((ألم تنهضي لتأخذي دوشاً))
تتمغط بتكاسل:
((ريثما ينتهي الفيلم))
بحدة خاطبتها:
((هيا أسرعي فقد انصرم النهار الجميل دون طائل))
وبعدم اكتراث تسأل:
((وأين نذهب))
((سآخذك إلى أعلى جبل ونشاهد فيينا من فوق التلفريك))
أشاحت بوجهها معترضة
((أشعر بالبرد لا رغبة لي بمغادرة الفراش))
شعرت بالاستياء والملل، فأنا أمام امرأة هامدة الكيان، لا تثير فيّ أي حيوية أو إحساس دافئ، خبت كل دوافع الجذب ناحيتها.
قلت ممتعضاً ((إذن انهضي لنتناول الفطور ونخرج نتمشى في الغابة))
كانت مندمجة مع الفيلم إلى حد لم تهتم بوجودي أو تكترث باحتياجاتي التفت إلى الفيلم وظننته يحكي قصة اجتماعية وعاطفية كما كان يحلو لأمي أن تشاهد، اندهشت أن الفيلم كان عن ((بروسلي)) ومغامراته العنيفة وحدّثت نفسي متمنياً لو كانت عدوى العنف تسري في أوصالها فتبعث الحركة في ماكنتها البطيئة.
ذهبت إلى المطبخ وأعددت الفطور بنفسي وأنا أرثي لحالي البائس كم تمنّيت لو تباغتني بعناق حار أو تقبلني بلهفة أو تمسّد بأصابعها كتفي، أو أسمع حيوية ثرثرتها كامرأة.
لم أتزوج إلا دمية ملونة كتلك العارضة في واجهة المحلات أشبه بتمثال الشمع، لا تتفاعل أو تتعاطف، بدأت أزهق من حياتي معها، اعتراني الملل فالأيام تمضي رتيبة، بطيئة، وحدي من أثور وأغلي في الحقيقة كنت أتمنى لو تغضب أو تفجر غضبها فهي كائن محنط أمامي تحرق أعصابي ببرودها البليد في اليوم ألف مرة.
تذكرت أمي العجوز هذا الصباح عندما كنت أشرب قهوتي المرة والتي تتواطأ مع مرارة حياتي، كانت أمي تستيقظ فجراً لتصلي الصبح وتقرأ القرآن الكريم ثم تجهّز الحليب المعطّر بالهيل بخاصية يستسيغها أبي، تجهّز فطوره المميز بعاطفة ذوبت ذراتها حتى في إبريق الشاي وخبزها الحار، أتذكر وجهها الطيب وظفيرتها البيضاء وقد تدلت من تحت الوشاح الأسود، بقيت عروساً لم تشخ أبداً، تمضي ساعات الصباح مع أبي المتقاعد يتفاكهان، يتجاذبان الذكريات، يتناولان الفطور وقد تورّد وجهيهما ضحكاً، في قلب أمي مخزون هائل من الحنان والأمومة ظلت تنضح حتى من أصابعها المتعرقة ولم تسمح لغضون السنين وتجاعيد الزمان أن تستهلك روحها الحيّة فبقت في كيان أبي عروسه شابة وعشقه الأول.
غبطت أبي وتمنّيت لو حذوت حذوه الحكيم.
تم تجهيز الفطور، وحدث ذلك الزلزال العظيم فعروستي نهضت ببركة الله وسحبت كرسياً وجلست لتأكل، التفت إليها مندهشاً: ((ريم، اغسلي وجهك، استبدلي ملابسك، لم تتكاسلين عن هذه الأمور البديهية))
أومأت بغير اكتراث:
((لاحقاً، لاحقاً))
حدثتها ((ريم، ألم تشعري ناحيتي بأي مشاعر))
ردّت ببرود مخيف ((أكيد أشعر))
ومضيت وأنا بانتظار مفاجأة صاعقة
((ماذا تشعرين؟))
((أنك إنسان طيب وحنون))
التقطت أنفاسي مبهوراً، خائفاً من مواجهة الحقيقة المرّة
((أتعتقدين أن هذا كاف؟))
بهدوء انبرت تصرح:
((الحمد لله ظروفك المادية جيدة ومستقبلي مضمون معك))
هوت كلماتها على رأسي كالمطرقة، فهي تفكر بطريقة أمها الإنجليزية.
هل تصدقون؟
إنها تأكل وتتثائب حتى كاد النعاس يتسرّب إلى جفني كفيروس معدي
لاطفتها ((ريم، أحب أن ترتدي قميص النوم الأحمر، لا أحب الأبيض فهو يظهرك شاحبة))
أجفلت مستنكرة
((أحمر؟!! ذوق متختلّف))
((أعتقد أنه يمنحك شيئاً من الحيوية والحرارة))
((لا.. لا أحب هذا اللون، تعرف أن ألواني المفضلة الأبيض والأزرق))
((ولكنه يعجبني))
((وهو لا يعجبني))
وبانت عليها تباشير الانفعال!
وتعمّدت أن أضغط أكثر على أعصابها لأشعل فيها فتيل الإحساس.
((سآخذك في جولة إلى السوق لأنتقي لك الألوان التي أحبها شخصياً))
حدقت بي مبهورة
((لا يمكنني أن أتصور رجلاً في هذا القرن يعامل زوجته بهذا الأسلوب))
((ألست زوجتي، ينبغي عليك الطاعة والخضوع))
امتعضت دون أن تنبس بحرف
تركت المائدة ودخلت الحمام
صرخت بها مغتاظاً
((أتتركين الصحون مبعثرة ومتسخة))
لم تلتفت إلي واتجهت إلى مشوارها بخطى متثاقلة.
أعيتني الحيل، كيف أذوب هذا الكائن الصخري وأفجر في جوفه نبع ماء.
بمن أستعين في مثل هذه الحالة؟!!
جلست أفكر طويلاً وغمامة قاتمة تطوف في مخيلتي المضطربة حتى انتهيت إلى فكرة الغيرة، ربما إثارتها من هذا الجانب مدعاة لتفجير نبع من عاطفتها الكامنة!
خرجنا بعد مفاوضات عدة واستأجرنا قارباً يأخذنا في رحلة بحرية هادئة، وطوال الوقت كنت أحدثها بلطف عن جمال الطبيعة ومشاهدها الخلاّبة وخرير الماء المريح للأعصاب، وأحكي لها حكايات عن مغامرات مفتعلة وأنني كنت يوماً مطمعاً للحسان، وأنهن تساقطن تحت أقدامي حبّاً وهياماً فلسطوة الوسامة وهيمنة الجاذبية قوة قاهرة لا تقاومها أية امرأة لائقة صحياً!
هل تصدقون ماذا قالت؟!
((الأمر ذاته بالنسبة لي فقد حدثت معارك وحروب من أجل نيل رضاي، شباب العائلة، الأقارب، الأصدقاء كلهم يتهافتون عليّ تودّداً لكني رفضتهم جميعاً.
أوغرت الغيرة صدري وانتهبتني مشاعر الغليان، وما كنت قد أعددته من شراك سقطت أنا في براثنه السحيقة
ابتلعت الغصة وسألتها على مضض
((ولماذا رفضت؟))
بتلقائية طفولية اعترفت
((هكذا أنا لا أحب أحداً، لا يعجبني أن أرتبط برجل يعكّر علي حياتي، أحب أن أبقى حرة أنام وقتما أحب وأخرج متى أشاء وأمارس حياتي بمزاجي)).
اندهشت:
((ولكن الطبيعي أن تميل الأنثى إلى رجل، حاجة عاطفية، وجسدية ونفسيّة))
بسذاجة صادمة لكل أحلامي:
((لا لم أحتج إلى رجل أبدا فما هو الجديد الذي سيقدمه لي؟!))
ذهلت وصعقت، فهل كان يكتنف التمثال الفاتن هذا روحاً مريضة ونفساً شحيحة العاطفة، كنت طوال الرحلة أداعبها وألامس أصابعها لأستثير مشاعرها الميتة وفق هذا المناخ الحالم المفعم بالإحساس وكأني أتحسس سطوحاً خشبية جامدة، انكفأ قلبي وغامت روحي وبدأت أفكر بطريقة أشغل بها نفسي أو أتشاغل عنها فأفضل حالاتها عندما تستلقي على الفراش تشاهد الأفلام الأجنبية المتخصصة بالعنف والجريمة.
وفكّرت جدياً بطلاقها، فلم تكن هنالك قواسم مشتركة بيننا تستدعي الاستمرار في هذه الرحلة المقيتة، وهذا الجمال الباهر قد انطفأ في عيني وتبدد تأثيره فما عاد له قيمة في نفسي وأيقنت أنها حماقة أن أبني حياتي الزوجية على ألوان ومقاييس بالسانتي، عدنا بخيبتنا وانتكاستنا وشموعنا خابية.
في المطار اندفعت كالطفلة المغرورة ترتمي في حضن أمها
((Mamy I miss you))
ثم توقفت للحظات والتفتت تتستأذنني
((سأبيت هذه الليلة عند أمي))
أجبتها ساخراً
((هذه الليلة فقط؟!))
أومأت باستجداء المزيد
ابتسمت بمرارة
((هذه الليلة وكل ليلة!))
وافترقنا في المطار..
أثرت موضوع الطلاق وأنا في كامل إحباطي هل تصدقون أنها لم تبد أي رد فعل، وافقت دون تعليق.
وغابت عن حياتي ((ست الحسن)) وكأنها كابوس قد بدّدته اليقظة.
وكانت تجربة خصبة، ثرية، جعلتني أفهم المرأة وقيمتها في حياة الرجل كروح نابضة بالحياة تتفاعل عاطفياً وفكرياً وجسدياً تلقي بظلالها الحالمة على كيانه فتنعشه وتسكنه وآمنت بهذه المعاني الآن بعد أن غابت تحت المقاييس القشرية الزائلة والحماقة الذكورية المندفعة.
همسة:
((الجسد يشيخ لكن الروح تبقى، فجمال الروح أدعى للسعادة))
النهاية
(8)
ضرتي لوليتا
اسم الزاوية : (( بيني وبينك حكاية ))
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) (الروم/21).
مقدمة الزاوية:
بين الزوجين.. حبل موصول برحمة إلهية، مسكون بدفء فطري، احتياج غريزي، تناغم عاطفي، انتماء. قد يختلفان، يتباعدان، يتخاصمان، لكنهما برحمة الله ولطفه يعودان. هكذا كتب القدر الإلهي: توأمة خالدة، ذكر وأنثى، بهما ((يعتمر)) الكون.. لهما في كل حكاية موقف، ولنا في كل موقف عبرة.
ضرتي لوليتا
بقلم: خولة القزويني
ثنائي الحلقة: (حسام _ وبهجة)
منذ أن دخلت ((لوليتا)) بيتنا وأنا في هم وحزن وكمد،فهي شغلت زوجي ((حسام)) بشكل كبير حتى لم يعد يلتفت إلى ولأولادنا، هذه المجرمة التي فتنته بعوالمها المدهشة وشدت انتباهه إلى حد لم يجد في لقائي السلوة والفرح لها غواية مدمرة استحوذت على مشاعره فان همست أو نطقت بحرف في حضورها المقدس يخرسني ويلجم لساني، كم من المرات داهمته فإذا به متوحدا بها في انسجام وألفه، هذا الزمن البغيض الذي انطلق كالصاروخ أنجب "لوليتا" وغيرها من الملهيات الجاذبات لعقول الرجال وقلوبهم كما قلت لكم..
بدخول ((لوليتا)) بيتنا حدثت أشياء كثيرة أهمها أنها نافستني على حب زوجي وتعدت على حدودي فسلبت لبه وشغلت وقته.
أتعرفون من هي لوليتا؟
تستغربون إن قلت لكم أن هناك الكثيرات من الزوجات المعذبات في الأرض ابتلين بلوليتا وتمنين لو لم تخلق لوليتا الضرة التي كانت في تأثيرها أفتك من البارود!!
هل عرفتم من هي لوليتا؟!
أسركم..
إنها ((اللاب توب)) هذا الجهاز المرافق لزوجي والذي لا يفارقه لحظة قد أدمن عليه إلى درجة المرض، وأنا من أطلقت عليه اسم ((لوليتا)) لأنه لا يقل عن الضرة أذى واستحواذا لكيان زوجي وقطعا ضرني إلى درجة الانزعاج والنفور من حياتي.
لقد ادخر زوجي بعضا من المال ولعدة شهور كي يشتري ((اللاب توب)) فهو مولع بالأجهزة الالكترونية والبرامج التي تتناول هذا الموضوع، بل مدمن كمبيوتر، متعته التنزه في المواقع الالكترونية ومخاطبة الأصدقاء ومراسلتهم كنت لفترة مؤمنة أن ثقافة العصر تتطلب معرفة هذا العلم واكتساب هذه الخبرة فلم يعد هناك تواصل أفضل بالعالم إلا عبر ((شبكة النت)) والتوغل في هذا العالم وأسراره ولأني أمية في هذا المجال لم تكن لي الحماسة ذاتها عند زوجي.
المهم اشترى ((اللاب توب)) في الأيام الأولى استغرق في قراءة ((الكاتالوج)) إلى وقت متأخر من الليل دعوته ليتعشى لأفك عنه هذا الحصار نهرني غاضبا ((ألا ترين كم أنا مشغول)).
تركته ثم عدت ثانية
((لقد برد الطعام!))
تذمر وكأنه في معضلة
((قلت لك لا أريد أن أتسمم!))
أنهكني الانتظار فرقدت في فراشي وبقى ((مستيقضا)) يعبث في الجهاز، انزعجت من الضوء وبان علي التذمر:
((أرجوك يا حسام أطفئ النور دعنا ننام حتى لا تفوتنا صلاة الصبح))
ويبقى مع لوليتا حتى وقت متأخر من الليل لدرجة وجدت صعوبة في ايقاضه لصلاة الصبح.
اعتاد على هذا الجهاز وتمرس فيه وفهم صلاحياته وزاد شغفه وكبر ولعه لدرجة أنه كان يتعاطاه مع وجباته الثلاث وعندما يتعطل بسبب خلل فني تستنفر كل أعصابه فيتوعك وتنتابه حالات من الهستيريا فأراه داخل وخارج بالجهاز في محاولة لتصليح العطل لدي الشركة التي باعته الجهاز.
اعتزل (حسام) الناس وتنازل حتى عن برنامجه الرياضي اليومي، تقلصت ساعات المشي التي كان يقضيها من أجل تخفيف وزنه حتى تركها نهائيا لفرط خموله وكسله واعتياده الجلوس أمام (اللاب توب) فتروني دائما مع الأولاد في الصالون بينما هو في خلوته مع (لوليتا) طلب (ابني) هذه الليلة الذهاب إلى المكتبة إذ أنه قد تذكر في وقت متأخر حاجته إلى الأدوات الهندسية لامتحان الرياضيات غدا فأتيت إلى حسام على الفور:
((فريد يحتاج إلى أدوات هندسة لغرض الامتحان))
لم يلتفت حسام إلي، خاطبته ثانية بنبرة حادة، صرخ معنفا وهو ينظر إلي ساعته مبررا ((الآن؟ في هذا الوقت المتأخر؟!))
أين هو من حاجته طوال هذا اليوم هل تذكر في هذا الوقت أعتقد أن المكتبات مغلقة هذه الساعة.
بكى (فريد) وكان بكاءه الوخزة التي فجرت ذلك الاحتقان المتراكم داخلي دافعت عن ولدي:
(( هل تلومه على نسيانه؟ انه طفل لا ينبغي أن تقسو عليه بهذا الشكل انظر إلى نفسك وقد نسيت مسؤوليات بيتك))
استشاط غيظا
مسؤوليات البيت؟! وهل قصرت في ذلك؟! لقد تسوقت ليلة أمس ووفرت لك كامل احتياجاتك، والولدان أقلهما إلى المدرسة صباحا وأرجعهما إلى البيت ظهرا لا أدري لم تغتاظين من هوايتي هذه؟!
((إننا نحتاج إلى وجودك معنا أحدثك فإذا بك شارد الذهن مشوش البال تجاذبني الحوار على مضض وكأني جماد لا إحساس لي أو شعور)).
((أنت تبالغين))
أقفل الجهاز وهو يتأفف ثم عاد وجلس معنا في الصالون.وكان جالسا على فوهة بركان، متشنجا، غضوبا، متوترا في كل لحظة يشرد بعيدا وعيناه على ساعة الحائط، أحسست أنه مجاملا ثقيلا انقضت لحظات الضجر فانبرى يقول للولدين:
((أعتقد أنه حان وقت النوم فاذهبا إلى حجرتكما))
انسحبت قبله إلى غرفة النوم واستبدلت ثوب البيت بقميص مثير وتطيبت بأزكى عطر ثم صففت شعري بغنج فاتن ما أن دخل الغرفة حتى تراجع خطوة مذعورا فلم يكن مستعدا لهذا المناخ الذي يقتضي منه الانسلاخ عن عالمه الالكتروني فمزاجه غير متوافق مع حماوة اللحظة التي أحاول افتعالها تكهرب الآن وأراد أن يخرج من هذا المأزق تركني ودخل الحمام جلست على حافة السرير أنتظر ظنا مني أنه يتهيأ لذلك التناغم الجميل تأخر في الحمام قلقت، نقرت على الباب بأطراف أصابعي مستعلمة وضعه سمعته يئن بصوت واهن:
((اشعر بمغص في بطني)).
قلت مستاءة منه:
((هكذا...داهمك المقص فجأة))؟!
برر في احتيال:
((اشتد الآن لقد كنت أعاني من نوبة إسهال منذ الصباح))
((ألم تذهب إلى الطبيب؟!))
((ظننت أني سأتعافى لكن يبدو أن زيارة الطبيب باتت ضرورية!))
أحسست بالمذلة والمهانة فقد افتعل هذه الأزمة لأنه صدني، استبدلت ثيابي وغسلت وجهي من المكياج وارتميت على فراشي غاضبة ألفظ نفسا حارقا كفحيح أفعى سامة.
جلس قربي مرتبكا، محرجا، يشاهد التلفزيون شاردا وفي كل لحظة يتلفت إلى ليستوثق أنني نائمة وأوهمته بذلك حينما سحبت الغطاء على وجهي صاح بصوت خافت:
((بهجه..بهجه))
لم أرد عاد إلى ((لوليتا)) ليقضي معها وقتا حميما ودافئا.
صدقوني ذرفت الدموع تحت الغطاء وكتمتها في صدري غصة ثقيلة متصبرة على أمل أن يمل في النهاية فحتما علاقته بلوليتا مآلها الملل والبرود.
لم أكن في هذا الصباح بمزاج رائق ولعله أدرك ما أعانيه فقال مبررا:
((إنني بصدد دراسة مشروع مهم فأرجو أن تتفهمي موقفي))
قلت له بلهجة حادة وأنا أبحث عن موضوع يسرب غضبي ووضعي المهان:
((هذه فترة امتحانات الولدين أحتاج أن تقف إلى جانبي على الأقل مساعدتي في تدريسهما مادة الرياضيات))
قال لي وهو ضجر
((حسن، حسن))
وفعلا وفى بوعده بعد الغداء جلس مع فريد وهيثم وكنت أجهز لهم الشاي والحلوى واسترق السمع إليه وهو يشرح للولدين بشكل مختصر وسريع فما لمست منه الحرص والعناية إذ كان يختزل الصفحات ويمر عليها مرورا عابرا، استاء الولدان فلم يبد أي نوع من الحماس في مواصلة الدرس.
صاح غاضبا
((هذا بسبب غباءكما فلست مضطرا للخوض في أدق تفاصيل الدرس)).
اقتربت منه لأهدئ الوضع:
((هون عليك يا حسام أعد الشرح مرة أخرى وببطء))
هاج وماج:
((لا أستطيع فقد سئمت من حماقتهما أنا متعب وأحتاج إلى النوم))
((أرجوك اهدأ قليلا)).
((لقد ضيعت وقتي معهما دون طائل))
تركنا وغاب في حجرته
عدوت وراءه أستجديه
((أرجوك يا حسام هدئ من روعك وعد إلى الولدين فهذا امتحان مهم لا تضيع عليهما الفرصة)).
حسم الأمر:
((أخرجي الآن فأنا منهك سآخذ قسطا من الراحة ثم أعيد الشرح لهما في المساء)).
خرجت لمتابعة باقي الدروس للولدين حتى أذان المغرب تركتهما بعد ذلك لأصلي في حجرة نومي هممت بالباب لأفتحه تفاجئت به مقفلا طرقت الباب عدة طرقات فتح حسام الباب وهو يتمغط طافت عيناي في المكان لأستطلع آثار الجريمة فربما كان مع ((لوليتا)) طوال هذا الوقت ويوهمنا أنه نائم.
سألته
(( هل كنت تعبث باللاب توب؟))
أنكر:
((لا..كنت نائم))
اتجهت إلى الناحية الأخرى من السرير واكتشفت أن الجهاز كان مفتوحا تنهدت وأنا أغالب ضيقي:
((أنا لا أعترض على أية هواية تحبها لكن أطالبك بالاعتدال وتفهم احتياجاتنا)).
قال وهو يفتعل النشاط:
((أنا وعدتك بأني سأشرح للولدين الدرس وسأفعل)).
سأصلي الآن ثم أباشر تدريسهما، لا تقلقي.
وعند الساعة الثامنة جلس قربهما يشرح فصول الكتاب بهدوء لكنه بدا منهوك القوى يتثاءب بتكاسل دب النعاس في عينيه فاسترخى جفنيه الثقيلين حتى فقد التركيز
صاح فريد ((بقى الجزء الأكبر يا أبي لم تشرحه لي بعد))
ترك (حسام) الورقة والقلم وتمدد على الأرض وقال في صوت غائم:
(( لقد غفت عيناي لم أعد قادر على الشرح))
تألمت بشدة فصرخت بكامل قواي:
((اذهب إلى غرفتك فقد سئمتك، لا أحب أن أراك ممدا هكذا أمامي كجثة هامدة!
دخل غرفته وغاب عن الوعي.
حاولت أن أشرح الدرس للولدين ولم يكن بمقدوري فعل ذلك فأنا لست بارعة في الرياضيات وجهت الولدين توجيها سليما وشحنتهما بطاقة وثقة وعزم راجية من عند الله أن يفلحا في إجابة الامتحان.
ولأول مرة ينام حسام باكرا وذلك لأنه لم يأخذ حصته من النوم ظهرا ولا أدري متى استيقظ إذ نبهتني الساعة بحلول صلاة الفجر وجدته جالسا على الفراش مواجها ((اللاب توب))
التفت إليه أسأل
((صليت؟))
((بعد قليل))
((انهض ماذا تنتظر ستشرق الشمس بعد قليل)).
((حسن))
قمت منزعجة، منفعلة أتمتم مغتاظة
((الناس تستيقظ لتصلي وتقرأ القرآن وأنت في لهو وسكرة))
لم يجبني أبدا تجاهل بكل برود.
صليت وقرأت القرآن الكريم ثم اتجهت إلى غرفة الولدين لأيقاظهما استعدادا للمدرسة.
في صبيحة هذا اليوم جاءني هاتف من أخي يخبرني أن أمي متوعكة وستدخل المستشفى لإجراء بعض الفحوصات فاضطررت أن أعود إلي بيتي باكرا وأجهز الغداء اتصلت بحسام وأخبرته أنني سأغادر البيت لملازمة أمي في المستشفى ورجوته أن يعتني بالولدين في غيابي.
لا أخفي عليكم..
كنت قلقة جدا على البيت أخشى أن يحدث أي خلل في غيابي خصوصا وأنني شخصية موسوسة أجتر المواقف السلبية وأضخمها بشكل هستيري عند حلول المغرب عدت إلى البيت والذي بدا صامتا، هادئا كان ابني البكر (فريد) يجلس أمام التلفزيون يشاهد الرسوم المتحركة سألته أين أباك؟ قال بنبرة متعبة ((لقد تغدينا معا ثم ذهب إلى حجرته ولم أره منذ الظهر)).
وتابعت:
((وأخوك هيثم؟))
أجاب((نائم))
ذهبت إلى غرفة هيثم لأوقظه كي يباشر واجباته المدرسية وجدته غارقا في الحمى قد احتقن وجهه بشكل مخيف ناديته مرعوبة
((هيثم، هيثم مابك؟))
تمتم بهذيان)):ماما أنا متعب جدا))
وثبت إلى غرفة حسام وجدته نائم واللاب توب قربه.
فقدت أعصابي صرخت به:
((حسام،حسام))
انتفض مذعورا
((نعم..نعم..مابك؟))
((انهض لنأخذ هيثم إلى المستشفى ألم تلحظ عليه الحمى)).
قفز من فراشه متجها إلى غرفة هيثم يتفقده ذُهل:
((لم أكن أعلم أنه مريض لقد حضر من المدرسة وقال أنه متعب وسينام وليس له رغبة في الطعام ))
أخذناه إلى المستشفى، كنت أغلي كالغربال أصطخب غيظا فجرت الموقف بكل ما في من أسى وعذاب موجهه حديثي الغاضب لحسام:
((كفاني ما رأيت منك كفاني أن تحملت كل هذا العذاب أهملتني، أهملت بيتك، حدسني قلبي أن هناك مكروه داخل البيت فتركت أمي عائدة لأستطلع الأمر، لأني لا أثق بك مطلقا لا أعتمد عليك بتاتا أنت رجل أناني لا تصلح أن تكون زوجا أو أبا، وأنا مضطرة أن أضعك اليوم بين خيارين أما أنا أو اللاب توب فليس لي طاقة على الاستمرار معك صمت وكأن على رأسه الطير لم يجبني أو ينبس بأدنى حرف بعد أن كشف الطبيب على ((هيثم)) وإعطائه العلاج اللازم عدنا للبيت.
تخاصمنا فلم نتحدث إلى بعضنا أبدا تركته مع لوليتا ليوم ليومين حتى أني أهملت البيت لم أعد أرعى حاجاته وذلك لينتبه إلى حجم المشكلة التي نعانيها جميعا في اليوم الثالث بادر في مصالحتي وقد كنت متصلبة بعض الشئ.
قال: أعدك أنني سأهجر هذه الهواية طالما سببت لك هذه الأزمة.
هونت عليه الأمر:
((أنا لا أطالبك بهذا الموقف الحدي، مارس هذا النشاط المحبب إلى نفسك فلك كل الحق ولكن بحدود،فأنت أدمنت عليه بشكل مرضي حتى نسيت مسؤولياتك كزوج وأب وعزلت نفسك عن أسرتك وعن كل الناس لولا دخولي في هذا الوقت الحرج لا أدري ما كان سيحدث لهيثم إذ قد وصلت درجة حرارته الذروة، وأنت لاه عنه لم تكلف نفسك عناء ملاحظته ومتابعته بل ومعرفة سر تعبه هذا اليوم وعزوفه عن الغداء.
أطرق خجلا(( نعم أنت محقة،فقد بالغت في إدماني هذه الهواية)).
قلت له:
((عندما تكون لوحدك لك مطلق الحرية في فعل ما تشاء أما أن تتشاغل بها وأنا حاضرة معك جالسة قربك فهذا مزعج وجارح بالنسبة لي.وفعلا كان لهذا المنعطف أثر كبير في تغيير ميله إذ لم يكن من السهل عليه الابتعاد عن لوليتا لكني تصبرت على أن يتدرج في تقنين الممارسة وقد كنت أبرر أحيانا عندما أسمع هروب الأزواج إلى الديوانيات أو خيانتهم مع كيانات من لحم ودم وأن تعاطي هذا النشاط أدعى لبقائه في المنزل ولهذا صممت أن أساعده حتى النهاية وأن أختلق الأعذار لبعض هفواته.
همسة:
أيها الزوج:
[عندما تكون في خلوة مع زوجتك امنحها كل الاهتمام]
النهاية
(9)
غيرتك عذاب
اسم الزاوية : (( بيني وبينك حكاية ))
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) (الروم/21).
مقدمة الزاوية:
بين الزوجين.. حبل موصول برحمة إلهية، مسكون بدفء فطري، احتياج غريزي، تناغم عاطفي، انتماء. قد يختلفان، يتباعدان، يتخاصمان، لكنهما برحمة الله ولطفه يعودان. هكذا كتب القدر الإلهي: توأمة خالدة، ذكر وأنثى، بهما ((يعتمر)) الكون.. لهما في كل حكاية موقف، ولنا في كل موقف عبرة.
غيرتك عذاب!
بقلم: خولة القزويني
www. Kawlaalqazwini.com
تزوجها قطة مغمضة كما تقول الأمثال، وديع
لم يكن ((عادل)) رجلاً عادياً، أحببته طيفاً داعبني سنوات ثم انتظرته وعداً تحقق في ليلة مقمرة عزف فيها الشوق أعذب نغم لأدخل بيته أميرة حب مكللة بطوق من الياسمين.
في الليلة الأولى اكتشفت منطقة معتمة في قلبه ربما ظل يداريها عني قبل الزواج، لكنها تجلّت الآن بصورتها الواضحة دون قصد منه، حدث عندما كنا نتسامر على الوسادة كأي عروسين تنضج شفاهنا ثرثرة بريئة تخيلوا...
خاصمني في أول ليلة حتى خلت أن ما حدث صوبة عين، وشر مستطير لحقنا بعد شغف الانتظار.
بلسان طفلة كبيرة تحسن الظن صرحت بعد أن سألني إن خطبني أحد قبله
((نعم خطبني الكثير وكان ابن خالتي محمود أكثرهم إلحاحاً في طلبه))
تجهّم ((عادل)) واحتقن وجهه سأل
((هل كان يحبك؟))
وبتلقائية ((نعم كان معجب بي))
حدق في وجهي طويلاً كأنه يستقرئ معاني دفينة، حسبتها وقفة يسترجع فيها شيئاً في الذاكرة، لكنه صرخ بنبرة زاجرة
((وأنت؟))
تسمرت في فزع، أخلت أن الكلمات جفت في حلقي:
((أنا؟ وما شأني به أنا؟ فليحبني هو أو غيره، المهم أن قلبي كان لك وحدك))
انطفأ رونقه، واختفت البشاشة فتركني إلى الصالون لحقته وأنا في دهشة.
((ما بك؟))
غابت عنه الابتسامة وأطرق يغمغم
((أعوذ بالله من شر الشيطان))
اقتربت منه محمومة بعاطفة لم تزل في أوج أوارها
((اترك عنك هذه السخافات ودعنا ننسى الماضي))
رمقني بنظرة باردة
((اتركيني فأنا منزعج الآن))
لكني صممت أن أقوض المسافة النفسية في تلك اللحظة الحرجة
طوقته ملاطفة
((لم أكن أعرف أنك تحبني بهذه القوة))
تنهد دون أن ينبس بحرف
واسترسلت وكأن صده يحفز كل دوافع شوقي إليه
((الحمد لله أن أخذت البرهان بدءاً من هذه الليلة!))
رنا إليّ بعينين متسائلاً عن قصدي
أجبته على الفور:
((نعم.. الغيرة برهان الحب الشديد))
نطق وقد بدا قلقاً:
((وهل تشكّين في حبي، أشهر وأنا أنتظر ريثما تستتب الأمور لأخطبك فوالدك العنيد كان يبحث عن أسباب الرفض قبل مبررات القبول))
تهلل وجهي وقلت بشيء من الغرور:
((والحمد لله، الواسطات خطفت أميرتك بحبال الحيلة من قصر أبيها إلى مملكتك))
افتر ثغره عن ابتسامة رائقة فقال مداعباً:
((ولست محتالاً ولكن والدك ثعلبُ ماكر وأظنه يحتاج إلى دهاء))
أحسست أن الغضب قد تسرب عن صدره عبر مجاذبة ذكية افتعلتها كي لا ينغمر في فكر قاتم يصوّر له أوهاماً وخرافات واستطعت بحذاقة أنثى مرهفة الحس أن أعبر النفق المظلم إلى حياة زاخرة بالبشر والسعادة.
قلت لكم أن ((عادل)) رجل غير عادي وأنا محقة فيما أقول، فقد تفوق على غيره من الرجال بامتياز وضمن مقاييسي المتواضعة، كنت فتاة صعبة المراس، قوية الشخصية، شديدة، لم يكد الرجل يقترب من مداري حتى يضطر إلى رسم الضوابط النفسية والفكرية وكأنه في حضرة ملكة تشترط في زوارها طقوساً خاصة، فلا يطلق الواحد منهم لكلمته العنان إلا بإجازة مرور صعبة، لم يكن يعجبني أي رجل، كنت أقول لوالدي ممتعظة ((لا يستهويني أحد من الرجال وأحسب نفسي أشد صلابة منهم، أنظر إليهم بعين الاستضعاف فيتصاغرون أمامي وأحس أني أخاطبهم من شاهق فتضيع كلماتي في الهواء، وأحسب أن بيني وبينهم هوة كبيرة))
ودخلت سن حرجة، قلقت أمي من وحش العنوسة القابع خلف باب الزمن الكئيب، وماذا أفعل بقلبي وقد احتمى بصندوق مقفل ينتظر المفتاح السحري الذي يخرجه من ظلمات الحيرة والوحشة.
لا يعجبني إلا الرجل الشهم أو ((سي السيد)) هو وحده من يستحق خضوعي ويفجر مكامن أنوثتي، وحدث صدفة أن التقيت ((عادل)) في إحدى الدورات التدريبية، كان هو الأستاذ الذي يشرف على هذه الدورة، استوقفتني هيبته، وسمته الجاد، متدين عبرت لفتاته عن رزانة شديدة وتحفظ جميل يكسب لرجولته فخامة مميزة، جعل الفتيات يتلفتن إليه في محاولة لاجتذابه، لكنه صاد، معرض، وهذا ما استثار فضولي وأغوى فيّ شيئاً غامضاً لم يتمخض عنه الغيب بعد.
تعاقبت أيام الدورة وأنا أحاول استمالته دون طائل فكل ما فيه كان يشع بإصرار في مخيلتي ويجتذبني بخيط مبهم، أينما أبحر أستشفه بعيد النظر، ذكياً، مثقفاً، يحدس فيصيب حدسه وإذا تكهن فلا يخطئ أبداً أحاديثه تستطرق مغاليق الفكر فتوغل إلى حد الاستيطان كمبدأ راسخ، ذلك العمق المكتنز في النفس يستثير فيّ عاطفة أخذت تلح يوماً بعد يوم، فكيف السبيل إليه وهو مسربل بشرنقة الدين تردعه المحرمات وأنا فتاة متحررة، نشأت في عائلة لم تعرف من الدين إلا الطقوس الهشة، تهيبت الموقف وودت أن لا أثير الاضطراب في حياتي الساكنة فقررت أن أسدل على قلبي ستار النسيان، لكن صوته الرزين المطعّم بنكهة فحولة تغوي فيّ حاسة غريبة، سأفاتحه دون مواربة وأفصح عن خلجاتي الحبيسة لعلها تصب مرامي قلبه، هتف مرحباً لدى اقترابي منه أسأله حن حاله وأعماله لكنه عاد وتصلب وألقى الستار ثانية ممتنعاً الخوض معي في خصوصيات حميمة فلفني معه في دوامة من الحيرة حتى ظننت أن له قلباً كالصخر لا تفتته إلا موجات من العاطفة الهادرة وما بين كرّ وفرّ لان بعض الشيء وتقبل وضعي، تفاجئت وأنا استقرئ ذاته بين السطور أنه مسرور لهذا التوق المشتعل فيّ، فاختصر المسافة وخطبني من والدي ولكن طلبه رٌفض وكأن هناك تماس كهربائي بينه وبين والدي.
لم أكن أعرف لوالدي سبب وجيه لرفضه لكن القدر في النهاية جمعني به بعد شهور الضنك والحرمان عبّر لي بوفرة إحساس لم ألمسها في أي رجل، هذا الصلب يأتي لي بنجوم السماء قلادة يطوق بها عنقي وينشد في حبي أشعار نور يسرجها من ضوء القمر، أدركت فيه تركيبة متناقضة فيه تطرف جميل يجعلني دوماً في فورة حب لا تهدأ، فيه السكون المريح الذي يجعل من صدره وسادة تمتص آلامي وفيه الهدر المخيف لإعصار نزق يهتاج بعبثية ترغمني على الاختباء بعباءة ضعفي كي أدفع عني طيشه الاقتحامي.
في ربوع القاهرة الجميلة افترشنا على بساطها أحلامنا الغضة وحفرنا في ترابها المنعش أقدارنا، هل كان شهر عسل أم قارورة عسل ارتشفنا من رحيقها أمانينا البكر، في مطعم قروي بين حقول القمح جلست متكئة على ذراعه، جاءتني عجوز من سرب الفلاحين المحتشدين قرب النهر تقرأ كفي وإذا بها تهذّر في دعابة ثقيلة ((ما شاء الله فمحبيك كثر!)) لم أشأ ألتفت إلى ((عادل)) حتى وجدته مكفهراً نهض كالملدوغ والشرر يتطاير من عينيه، سحبت يدي من العجوز وتبعته مذعورة ((عادل، عادل)).
كأن كهربة الكون أوغرت صدره، انشحن غضباً فهطلت أمطار غيظه، عنيفة، ساحقة، مستبدة وعلى جرف النهر الساكن في وداعة لاطفته ((يا حبيبي لِمَ تعذبني بهذه الغيرة؟))
وأشرت إلى النهر وأنا أطوقه بحنان:
((حبي لك أشبه بهذا النهر، خالد خلود الدهر))
زجرني بشدة
((كفي عن ملاحقتي؟))
تسمرت في مكاني كالمأخوذة، وانتابتني حالة من الإحباط ووجدت نفسي أرد بفظاظة، ربما الجرح الغائر في أعماقي قد انتفض واشتعل كجذوة حارقة دمرت كل بوادر الصلح، فانطلق لساني كالسوط:
((أنت رجل شكّاك ومعقد تحاسبني على أقل هفوة))
حدجني مبهوتاً فتركني عائداً إلى الفندق، لحقته والشرر يتطاير من عيني ولساني لازال يسوطه بذميم الأوصاف
((اذهب لعلاج نفسك، فقد سئمت غيرتك، في لحظة تنقلب من النقيض إلى النقيض))
وعندما اختلينا في الغرفة، ارتميت على فراشي باكية، أقاوم انهياري بجلد وصبر، وفجأة وجدت نفسي أقول
((فلنعد، لا أريد أن أكمل بقية الرحلة))
وبقسوة رد ((فليكن))
تخيلوا
عدنا وسط دهشة الأهل متخاصمان، متباعدان، مدبران عن بعض، مضت أيام وأنا يائسة من استرداده، أجد نفسي في مقام مجاذبة بين الأسى والندم، أحسست وأنا أراقبه عن كثب أن تشامخه قد تحوّل إلى ضعف وهوان، جاء بعد فترة ليبادلني حديثاً طلياً ثم عكف على مداراتي بالحسنى وأخذ يسرد على مسامعي ما جرى طيلة هذه الأيام من عذاب وألم، ضغط على يدي متودداً بعد أن لمس فيّ خوراً وضعفاً قائلاً:
((خلود حبيبتي سامحيني، أعرف أنها صفة مزعجة لا أعرف كيف أتخلص منها لكن أرجوك أن تفهمي شيئاً واحداً وهو أني أحبك))
عبرت تقاطيعي الذابلة عن سعادة فأجبته بصوت مفعم بالحنان
((فعلت كل شيء لإرضائك، ارتديت الحجاب، تركت الماكياج، امتثلت لأوامرك إلى حد الخضوع لأني أحبك وأسعى للحم عرى المودة والتفاهم، فلا تدع هذه الأمور تقضم وشائج حبنا وتشوه ملامح ودنا))
خنقته العبرة فكف عن مواصلة الحديث وإذا بقلوبنا المحبة تغتسل بدموع الندم والغفران فنعود أكثر حباً وأشد التحاماً وأوثق رباطاً.
مرت علينا الأيام السعيدة بحلاوة قلمّا أجد لها ذائقة مميزة في حياتي حاولت مداراته كي لا أخدش شعوره أو أمس شغاف هذه المنطقة المحرمة أسكرني بنعيم رعايته وأفعم قلبي بهجة وبقى يلازمني كظلي، يناجيني يناغيني يدللني كطفلة منقادة لنزق وطيش صبياني، في هذه الليلة ونحن في الانصهار الذائب توأمة نسجت من ذوبنا كيان واحد.
قال لي وصوته ينساب في قلبي كقيثارة حلم:
((ما رأيك لو نتناول فطورنا صباح غد في مطعم الساحل، كنت أتذكر توهجك الجميل وازدهارك المتألق حينما تتناغمين مع الطبيعة وكأنك زهرة ندية في آنية الكون))
شعت عيناي بنور السعادة وقلت بوجه طلق
((يسعدني ذلك))
تابع:
((سأمر عليك الساعة التاسعة صباحاً في مقر عملك لأصطحبك))
وهنا.. كانت القشة التي قصمت ظهر البعير
حاولت أن أنجز عملي على وجه السرعة، جاءني احد الموظفين المرحين ممن يأخذ كل شيء في الحياة بدعابة ونكتة وكعادته يحدثني بوجه مبتسم، الفرّاش وضع فنجان قهوتي وخرج دون أن ألحظ ترك الباب مغلقاً وأظنها المصادفات السيئة التي تخطط لنا قدراً معاكساً لأهواءنا..
دخل عليّ زوجي صدفة دون أن ينبهني برسالة أو تليفون، كنت منهمكة مع الموظف في ترتيب بعض الأوراق.. أجفل زوجي وتراجع مشدوهاً، فقد عبر محيّاه عن احتقان يعلم الله آثاره المدمرة، ودون أن ينبس بأدنى حرف، ترك المكان صامتاً ذلك الصمت المخيف وأدرك أن هناك كم هائل من الزوابع التي ستواجهني لاحقاً وحدست أنه سيذهب إلى البيت، تبعته ألهث خائفة، مذعورة، وعندما وصلت رأيته بركاناً يغلي حمماً، هاج وماج:
((كيف تسمحين لنفسك بهذا التصرف؟))
نظرت له نظرة جامدة، قاسية:
((أي تصرف؟))
((تعرفين ما أقصد))
((أنت تطعنني بكرامتي))
حدجني بنظرة صارمة متوعدة وصاح:
((أمامك خياران إما أن تستقيلي وتجلسي في بيتك معززة مكرمة أو تغيري طبيعة عملك، هذا الاختلاط لا يحبذه الشرع والدين وأمقته أنا شخصياً))
في هذه اللحظة أحسست أني أغرق وأضيع وأن كل مشاعري تتلاشى قلت ودموعي تلمع من وراء أهدابي أحاول إنقاذ كبريائي المسحوق
((لقد طفح الكيل يا عادل، وأظن الخيار الوحيد هو الطلاق، فغيرتك عذاب لا أطيقه))
بصلابة وعناد رد:
((أنت حرة، افعلي ما تشاءين))
تفاجئت أن يترك لي الخيار وكأنه يدفعني في كياسة باتجاه الانفصال أحسست أني هامش، لا قيمة لي في حياته، نزوة قد حولت كل مشاعري إلى أبخرة عذاب تبددها رياح الفرقة، فتصلبت في موقفي مصرّة، ظننته سيعتذر، سيحاول رأب الصدع، وكل ظنوني ذهبت شططاً عدت لأهلي محملة بحقائب حزني وأعباءنا ناءت بكاهلي، ونار تتلظى في قلبي.
أيام صعبة، مريرة فتكت بصحتي، وحطمت عنفواني، اتخذت من الوحدة ملاذاً لأحزاني، بت في حال كسيف تتنازعني الوساوس والظنون أعيش مع أهلي ولبي شارد وقلبي موزع يتعذّر عليّ أن أفعل أي شيء تجيش الرغبة في صدري إلى عادل وكأن ما حدث سحابة عارضة قوضتها حقيقة حبنا، وصدق مشاعرنا، لأعود أرزح تحت ثقل الأشواق وقهر الحنين، ما أن يتفرق عني إخوتي حتى تعود لي الوحشة بأنيابها المفترسة تنهش صدري وكأن الدنيا ليل كئيب غادره النور للأبد، حاولت أن أتمالك صوابي فلا أرخي العنان لآلامي فأحطم ما بقي لي من أعصاب، بادرت في الاتصال به، بعثت له المسجات، يتجاهل، يقفل الهاتف، جن جنوني ملكني نوع من الفزع ألهب فؤادي وعندما سقطت مريضة أتقلب على جمر اليأس والإحباط ذهبت والدتي إليه، لتسترضيه، وتفاجئت بها تسمعني ما هو الأنكى والأشد ((خبر مرضه)) ورقدته الطويلة في وقت الغياب، كنت أظنه أكثر صبراً وجلداً مني وإذا به أكثر انهياراً وخوراً، يا لكبرياء الرجل وعنفوانه المستبد.
إني أحبه بعمق، بقوة، فأيام الشهد لها حلاوة في نفسي لن تستطع كل عوامل الخصام ودواعي الفرقة أن تبددها هي الأقوى والأكثر رسوخاً أحسست أن لا حياة لي دونه.
أقبلت عليّ والدتي قائلة ((طالما تحبينه بهذا الجنون، أقبليه كما هو الرجل يا ابنتي لا يتغير، بل يتحوّل إلى كائن عدواني إن سعيت إلى تغييره، يعتبر ذلك استفزازاً لرجولته، اقبليه كما هو بعيوبه بنقائصه كي تعيشين سعيدة، لو لم يكن زوجاً طيباً لما أحببته كل هذا الحب، أظنه عرف كيف يسعدك هو وحده يملك تلك الشفرة السرية لكيانك المغلق، فقد حدثته وأيقنت من لمحات فكره واضطرابات إحساسه أنه يحبك ويتعذب في بعدك، وليس رجل قاسي كما تظنين))
قلت والدموع تنهمر على خدي ((نعم يا أمي فحبه قد استوعب فكري وملأ قلبي، وحياتي، كنت في أيام الصفو ناعمة البال، قريرة العين))
ربتت أمي على كتفي
((أنقذي حياتك يا ابنتي فليس بين الزوجين كبرياء وكرامة افعلي ما هو الصواب وستجنين ثمار هذه المبادرة إن وفرت عليه جهد الصراع واختصرت طريق الصلاح))
تركت فراشي بنشاط وحيوية ثم ارتديت ثيابي متجهة إلى بيتنا، اقتحمت عليه وحدته.. كان راقداً في فراشه، ذابلاً، شاحباً اقتربت وأنا أغالب حيائي.
((آسفة، آسفة، آسفة أقولها لك من أعماق قلبي وحرقة دمي))
أحسست أني أثرت شفقته فاغرورقت عيناه وأطرق محزوناً
((أرجوك لا تَبكِ))
وبلسان متعثر، ينضح فيه الندم ردد
((لقد جرحتك، وآذيتك كثيراً))
أجبته برباطة جأش:
((أعدك أني سأغير وظيفتي وسأعمل في مدرسة درءاً لأي اختلاط))
رمقني بنظرة حب عميقة قائلاً بصوت حزين:
((أتعتقدين أن الطلاق قرار سهل عليّ اتخاذه، كانت ترتعد فرائصي لمجرد التفكير به ويقض له مضجعي لهوله، وترتجف أواصري لبشاعته))
كان يستطرد بدمه ودموعه وهو أصفر الوجه، مختلج الجفون وتوسلت إليه أن يهدأ، أن يسكن فقد كان في صوته نبرة استرحام مخنوقة.
صفا الود، وعاد الأمل يداعبنا من جديد وخمدت رقدة العذاب فاستوينا بعد انكسار، غادرنا شبح القلق فترة طويلة إذ أحسست وكأنه يفيض حباً وحناناً بعد كل خصام، أحبني بجوارحه حتى فنا في حبي
لفتنا الأيام بدوائر الحب والمرح والأمل وسارت سفينة الحياة في خضم الصعاب، أحسبه يقاوم هذه الحالة كلما استبدت به وإذا به ينكرها، يتكتم عليها، يتحاشى الخوض في غمارها الكئيب وإن غلبته وأثارت زوبعة أتركه لوحده ريثما يهدأ ويسترجع حساباته فيعود لي مشرقاً مزدهراً وكأن شيئاً لم يكن.
همسة:
((أيتها الزوجة.. لا تسعي إلى تغيير زوجك اقبليه كما هو بطبيعته))
(10)
دلال بنت الأكابر
اسم الزاوية : (( بيني وبينك حكاية ))
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) (الروم/21).
مقدمة الزاوية:
بين الزوجين.. حبل موصول برحمة إلهية، مسكون بدفء فطري، احتياج غريزي، تناغم عاطفي، انتماء. قد يختلفان، يتباعدان، يتخاصمان، لكنهما برحمة الله ولطفه يعودان. هكذا كتب القدر الإلهي: توأمة خالدة، ذكر وأنثى، بهما ((يعتمر)) الكون.. لهما في كل حكاية موقف، ولنا في كل موقف عبرة.
دلال.. بنت الأكابر
بقلم خولة القزويني
جاءت تميس بقدها الأهيف وترهف إلى همس الإطراء يتبعثر مع خصلات شعرها المسافرة في الهواء ودون أن تلتفت إلى أحد في خطوها الواثق تدخل كافتيريا البنات..
إحداهن تلوح من بعيد.
((دلال))
ينتهي بها المقام إلى نخبة خاصة من الصديقات لهن تصوّر عبثي يجعل من الحياة ألعوبة مشبعة بالملذات وهن قد تكيفن ضمن هذه الحدود من الاهتمامات.
تستعرض سوسن هاتفها الجديد.
((لقد اشتريته البارحة، إنه قادر على التقاط أروع الفضائح)).
ويضحكن في دعابات فارغة.
لم تكن ((دلال)) في مزاج يجعلها متناغمة مع ثرثرة تافهة.
تقترب منها ((هبة)) هامسة.
((يبدو أنه لم ينتبه إلى أسلحة الدمار الشامل في جسدك المثير)).
تنهدت ((دلال)) دون أن تنبس بحرف.
وتستطرد ((هبة)).
((لا أدري ماذا أعجبك بهذا الشاب البائس؟))
في شرود طوق إحساسها عن الحضور المتفاعل، تستعيد ذاكرتها صوراً ليست ببعيدة، إنها رهن العام الدراسي الجديد في كلية التجارة والاقتصاد متخطين فيها سنوات ثلاث، لمحته بسمته الجاد، يتخذ من الدرج الأخير مقراً لسكونه المهيب كم هي من المصادفات التي جمعها في قاعة المحاضرة لوحدهما دون أن يجتاز حاجز صمته، ترك حضوره المهيمن في نفسها حالة من التحدي، كلهم يتهافتون عليها مأخوذين بسحرها، مذ وعت أنها بهذه الفتنة أدركت أن طريقها معبد إلى قلب كل رجل، هو وحده من قطع عليها طريق أحلامها وشاء أن يوجه لهذا الإبهار صفعة توقظه من الوهم.
((سناء)) توجه لدلال سؤالاً وهي تضغط على يديها متوددة.
((ألم تطلبي شيئاً لفطورك؟))
في التفاتة ودهشة من استيقظ من غيبوبة.
((نعم، سأطلب في الحال)).
وعجلت بالنهوض من مكانها لتطلب القهوة والساندويتش ثم عادت تسترجع في مخيلتها شيئاً كان قد علق في ذهنها، لم يكن خجولاً أو انسحابياً فصده متقصد، إنه يناقش الدكتور بثراء فكري عجيب قلما أجده في شباب اليوم.
تعود ((هبة)) تلكزها بكوعها مداعبة.
((نحن هنا))
بضجر ترد ((دلال))
((أصبحت مملة يا هبة، دعيني وشأني)).
ترميها بنظرة عابثة.
((لقد تغيرت كثيراً يا دلال لم تعد رفقتنا تثير فيك الأنس)).
رقت تقاطيعها بغتة وقالت ملاطفة:
((منهكة بعض الشيء))
((الإنهاك لا يسوغ فرارك بهذا الشكل))
بعد إفطارها دعت هبة إلى رفقتها في باحة الكلية.
وبشموخ الظباء تتهافت، مترعة بطاقة مكنونة لم تستسلم لسطوة الفتنة تستفرغها من المنابت، فجمالها مطعم بهجين له نكهة الحنان المتدفق طوعاً في ضوء القمر، تنساب في لفتاتها براءة استثنائية تجمع بين دفق الأنوثة وشغب الأطفال، مسكونة بحالة مميزة من التناقضات حتى تعذر على الآخرين فهمها رغم كل ما تملك من وسائل إقناع فطرية.
((هبة.. هل تسدين لي خدمة؟))
((بكل سرور))
((أريد رقم هاتفه)).
شخصت هبة ببصرها إلى سطوح المبنى الشامخة وكأنها تتذكر قامته الممتدة بهيبة مخيفة، إنه يضرب حوله أسوار من الغموض.
التفتت إليها دلال ثانية.
((ما بك؟ هل كان طلبي عسير؟ اشحذي بصيرتك، فأنت ذكية وحاذقة ولك دهاء مشهود له))
اطمأنت هبة لفطنتها وعملت تفكر على طريقة مختصرة لتوفير الرقم لكنها استطردت متذمرة.
((إنه شخص معقد، لِمَ تتهالكين عليه وأنت بنظرة تصرعين أعتى الرجال؟))
بشموخ انقلب إلى إذلال تقول ((دلال)):
((حاولت التقرب منه، طلبت منه دفتر محاضراته متعللة بغيابي، اعتذر، ترامت تحت أقدامي كراريس المحاضرات من الآخرين ولكنهم أشبه بالذباب أهشهم عني بقرف)).
سألتها ((هبة)) بتوجس.
((وماذا تقصدين من وراء هذه العلاقة؟))
((أريد إذلاله، المتكبر، المتغطرس)).
((مسألة تحدي فقط؟ لا أظن إنه يعني لك شيئاً هاماً لكنني لا أرى فيه إلا شاب عادي من عائلة متوسطة الحال، سيارته من طراز قديم، شكله يرجع إلى العصور الوسطى، لا أظنه يفهم حاجات الفتاة العصرية))
قالت دلال بدافع خفي:
((إنه متدين على ما يبدو)).
بسخرية ترد هبة:
((وماذا وجدت فيه غير العقد والجحود)).
برقت عيناها بلمعة خاطفة وهي تستعيده في الذاكرة وبإعجاب.
((شدني إليه دون إرادة مني، غض طرفه عني بشكل لافت حتى ظننته متردداً لكن اتضح لي أنه من العنفوان ما يذهل النفس))
صمتت وكأنها تستحث خباياها في استحضار صور الدهشة تركت في نفسها حاسة انجذاب مشتعلة.
((حضوره اللافت بجرأة يقنع الأستاذ، تورعه عن السخافات التي تستهوي الشباب، صرامته وصلابة مواقفه.
والتفتت إلى هبة مؤكدة.
((يثيرني اقتحامه في بعض المواقف التي يجبن فيها الطلبة)).
افترقتا عن بعضهما لتذهب كل منهما إلى محاضرتها بعد أن طمأنت هبة دلال قائلة:
((سيكون الرقم معك غداً)).
رن موبايل ((دلال)) وكانت المتحدثة والدتها.
((حاولي أن تعودي بسرعة إلى البيت فأم عامر ستزورنا اليوم مع ولدها لخطبتك))
أبدت دلال نوع من الاستياء، بينما تحاول الوالدة إقناعها.
((لقد تخرج للتو من لندن ويحمل شهادة عليا في الطب، إنها فرصة لا تعوّض يا دلال)).
تسمّرت في مكانها، استوقفها هذا الخبر وعقد لسانها فوجدت نفسها بحركة آلية تدخل قاعة المحاضرات وهي ساهمة والأستاذ يستحث خطاها غاضباً ((هيا.. تفضلي)).
ودون إرادة وتخطيط وجدت عينيها تختلس إلى ((أحمد)) نظرة متأملة حدج الأستاذ دلال بنظرة استفزازية قائلاً:
((لا أحب أن يدخل بعدي أي طالب، مفهوم؟))
ثم أجال طرفه في الطلبة حتى استقرت عيناه على دلال منجذباً إلى سحرها الأخاذ.
((هل أعددتم التقارير؟))
همهمات تصدح دون أن يعرف مصدرها، شفاه تثرثر باحتجاجات غير منطقية ووسط هذا الضجيج يشق ((أحمد)) الصفوف متجهاً إلى منصة الأستاذ، يبسط أوراق بحثه على الطاولة.
سأله الأستاذ:
((ماذا أعددت لنا يا أحمد؟))
في تكوين ((دلال)) إشارات خاصة تنبئها أن ثمة انفراج في مسألتها المعقدة حتماً سيصيب المرمى بشكل لا يلفت إليه الحضور.
بصوت أجش ونبرات تستدلك على باطن متوازن راحت كلماته تنهمر في مسامعهم بأريحية عجيبة.
((التقرير يتناول الجمال كمفهوم في بعدها الأخلاقي))
انبهر الأستاذ، اتسعت حدقتاه كأن لعينيه آذان تصغى إصغاء من نوع آخر وبشغف من يعرف أن لهذا الشاب ثقافة متجددة تستطيع أن تختزل ثقافة أساتذته.
ارتبكت دلال وتضرجت وجنتيها فليس تقريره كان مصادفة وهو مدرك تماماً أنها رديفة الجمال، لفرط ما شهدت من إطراء وثناء على محاسنها صمتت وبان الاضطراب في تقاطيعها، لو أنه وجه لها نظرة خاصة تستثنيها عن الأخريات وتحيطها بسياج خاص يجعل منها مملكة خاصة به.
سأله أحدهم.
((ولماذا اخترت هذا الموضوع؟))
أجاب دون تردد.
((في هذا العصر تغير مزاج الإنسان بشكل جذري جعلني استدرك بشدة لما شذت ذائقنا عن الوضع السليم، تعطلت البوصلة الإنسانية الدقيقة التي ترشد الحواس إلى التفاعل الفطري، حتى ظننت أننا في عصر الدمى المتحركة)).
قهقه أحدهم.
((أحتاج مترجم يا جماعة))
أطرقت ((دلال)) بوجه كسيف وفكرت ملياً في كلماته فربما كانت المعنية في حديثه لفرط ما وجهت إليه من إشارات إثارة لتجتذبه، إنها تتحرق على نار وتود لو تكشف خبايا هذا الشاب المتحفظ.
((أكمل)) قال الأستاذ وهو يدعو الطلبة إلى الإنصات.
وقرأ أحمد.
((إن الله جميل يحب الجمال، وجمال الله نشهده في المخلوقات، في كل الأشياء المبهرة حولنا، ونحن كبشر ننسب هذا الجمال إلى صنع الله وقدرته، فننشد إلى الوجوه الجميلة، مشاهد الطبيعة الخلابة هذه المظاهر أشبه بالذرات الصغيرة التي تنتسب إلى الجمال المطلق المتمثل في الله، كل شيء في الدنيا ناقص وشغف الإنسان في المطلق يجعله طموحاً نحو الأفضل والأجمل والأقوى والأشد.. الكون هو آيات من صنع الله وهذا التناسق في التكوين يجعلنا ندرك عظمة الله فكأن الله يريد أن يرشدنا إلى بعض جميل صنعه قائلاً في فحوى هذه المعالم ((إنك يا إنسان مبهور بهذا الكم القليل والبسيط من الجمال فما بالك بالجمال المطلق الذي أنا مصدره)).
في وجوه البشر تلك الملامح التي تجسد عظمة الله وروعة صنعه، هذا الصلصال البديع التكوين ينفخ الله فيه بعضاً من روحه ويتمثل إنساناً فيه من الجمال السوي والسحر والنور هذه الروح المسكونة داخل الجسد هي التي تعطي للوجه معناه وانفعالاته وإحساساته والتي هي أشبه بذرات أو طاقة تدخل إلى الآخرين فتحدث فيهم شيئاً من التفاعل، لماذا تشوهت فكرة الجمال، وتحوّل إلى مجرد ملامح باهتة، ناضبة الإحساس منطفئة الرونق، هل تظن أن المشارط قادرة على بعث هذا الإلهام في النفس؟ هل يمكن فصل جمال الشكل عن جمال الروح وهل يمكن للأغلفة أن تستعيضك عن الدر المكنون لقيمة الأشياء ومعناها، الروح هي من تعطي للملامح حيويتها وتضخ فيها دفقاً وإشعاعاً، وأجمل ما يكون الجمال أن تشكر فيه ربك كنعمة من نعمه وتتحرر من استيطانه ذاتك كلعنة تفقدك اهتمامك بقيمة الروح.
نقل طرفه بين الحضور متوجساً أن يكون في تقريره ما يتعذر فهمه وقد حدثته نفسه أن ((دلال)) ستنشب مخالبها في قريحته لتهدر كل هذا الفكر الذي يبتذل جمالها، سحنتها المبتدلة وشت بانزعاج فعلقت بصوت مختلج.
((أظنك تقصد أن كل الجميلات فارغات المحتوى فعملت على زرع هذه الفكرة كي تسخر من غرورهن؟))
استوى جالساً وراح يتحدث بصوت صارم.
((لم تفهمي قصدي يا آنسة، مبعث كلامي أن نصبغ الجمال بصبغة ربانية وننسبها إلى الجمال المطلق الذي يوثق إيماننا بالله، فجمال الجميلة لا يسوغ لها الغرور والتكبر طالما هو هبة من الله سبحانه بالعكس إنه مدعاة للشكر والعبادة والتقرب إليه سبحانه كي يحفظه ويصونه ودليلاً على كرمه والتعامل بهذه الروحية الشفافة يضيف للملامح انبعاثات نورانية من الداخل أشبه بضوء المصباح أو الدم المتدفق في العروق، وستظل خاصية الجمال متجددة مع السنين حتى لو تغضنت البشرة ونضب منها الرواء، فالتفاعل في عمق خصائص الجمال يجعلك تكتشف مذاقاته المختلفة بأحاسيس أجمل وأروع ليست كاميرا العين هي وحدها من تلتقط المشهد للحظة آنية بل هناك مجمل من الكاميرات والعدسات الحساسة التي لا ترى بالعين المجردة تعمل على هضم جماليات متدفقة تنشطر في الروح أكثر فأكثر فتربطك بالله سبحانه وتشهدك على جميل صنعه وقدرته في السيطرة على إحساسك وتوجيهه عبر هذه المؤثرات)).
تلفتت دلال حولها محتارة فقد تهيبت أن توضع نفسها في مداخلة تخرجها بحجم صغير وبجمال مسلوخ، بيد أن ((أحمد)) عرف كيف ينتشلها من الحرج قائلاً:
((أنا معك أن ليس كل الجميلات فارغات وأؤكد لك العكس أن في عصرنا الحاضر تعمل المرأة على صقل شخصيتها من الداخل وإثراء ثقافتها لأنها تدرك أن الشكل الخارجي عملة زائفة سرعان ما تستبدل بالحقيقة)).
وتنفض المحاضرة ليتفرق الطلبة إلا منهما، تأتيه في ارتباكها الجميل وبصوت تهتز أوتاره طرباً مبدية إعجاباً خاصاً به ثم تسأله بشيء من التودد.
((هل كنت تقصدني في هذه المحاضرة؟))
هز رأسه مستخفاً بكلامها.
((وهذه من علامات الغرور التي تشوه حقيقة الجمال)).
لم تفهم قصده.
سألته ثانية.
((اختيارك لهذا الموضوع دليل على اهتمامك بالجمال والمرأة والحب)).
قاطعها محاولاً إنها وقفتهما الساكنة في خلوة تستهجنها ذاته.
((هذه الأشياء التي ذكرتيها ليس كل ما يعني به الرجل في حياته، هناك واجبات كثيرة يليق بالرجل أن يضطلع بها)).
وقبل أن تهم بالسؤال الآخر، أستأذنها وانصرف.
((عن إذنك سألحق بمحاضرتي الأخرى)).
داخلها شيء كبير من القلق فقد استحوذت عليها فكرة أن هذا الشاب عصى الفهم، تعجز نفسها عن فهم أعماقه وسبر أغواره، تشعر بانغمارها في أمواجه دون أن تملك أشرعة الخوض بمهارة.. تتدفق في داخلها أحاسيس جديدة تشعرها أن خلف سطوحه الباردة يقف إنسان مفعم بجماليات نادرة تسبغ عليه رونقاً خاصاً يجذبها إليه يوماً بعد آخر.
عادت إلى بيتها ساهمة الفكر تشخط رجلين محبطتين قد سلكا درباً شائكاً ينذر بسر مكنون لم يتمخض عنه الغيب بعد..
وفي غمرة أفكارها المدلهمة يأيتها هاتف...
بتثاقل ترد
((نعم))
وإذا بالصوت يصدح بالبشر
((خذي الرقم))
بتهافت ودهشة
((هبة!)) كيف فعلت ذلك؟
((دوني عندك الرقم فأنا في عجلة من أمري، سأحدثك لاحقاً.
(..........96))
جلست دلال على حافة السرير وهي تحتفظ بقصاصة الورقة بين كفيها وكأنها تحتضن قلبه، هذا الرقم سيكون نقطة الانطلاق إلى مغامرة ستخوضها مهما كان الثمن قد تبدو مخيفة بعض الشيء لكنها الطريق الأمثل لاختراق صمته، فيها لهفة عارمة لسماع صوته، إنه ترك في نفسها شيء من الفضول والتحدي المثير لكوامن عواطفها وبأصابع مرتعشة ضغطت على الأرقام وإذا بكل عصب في جسدها ينتفض برعشة مجنونة.
يرن الهاتفف دون استجابة، انهارت فرحتها فعادت تتصل للمرة الأخيرة وهي تضمر في نفسها الغاضبة أنها ستمزق القصاصة إن لم يرد فقد يكون للغيب أحياناً تصاريف أخرى، وبعد الرنة الرابعة يخفق قلبها مع دفء صوته وإذا بها تتلعثم، تحتبس الفرحة النزقة في أوداجها، لهفة تركت صوتها يغمغم في خفوت خجل.
بأدب جم سأل.
((من المتكلم؟))
تزدرد رمقها
((ألا تعرفني أنا دلال))
صمت طويلاً يسترجع في ذاكرته المشهد الأخير في الكلية.
لكنها بادرته قبل أن يتكلم.
((أحمد، أحتاج أن أحدثك))
تراجع خطوة متخذاً بعض الحذر
((أظن حديثنا في الكلية أفضل))
((ولكنك تصدني))
((يعتمد على طبيعة الحديث))
باغتته بدفعة من المشاعر الاستفزازية.
((أننت معجب بي وتحاول أن تصدني))
استثارت غضبه.
((كفاك غرور يا آنسة، أظن أن الحديث قد انتهى وليس هناك ما يستدعي أن نتناجى خلسة)).
انتكست مخذولة بمرارة صده لكنها تابعت بشيء من الإصرار.
((كيف لي أن أتجاهلك من بين حشد التافهين يحومون حولي كالذباب، أنت وحدك أدركت مجاهيل نفسي وسبرت أغواري حتى فجرت داخلي إحساس غامض يشدني إليك)).
استوقفته باعترافها الصريح فقال وقد اتخذت لهجته بعضاً من اللين.
((أنا لا أدري عمّا تتحدثين وكأنك تخاطبين إنساناً آخر))
بنبرة حادة
((بل أنت من أقصد وأعتقد أن لك من الذكاء ما يسوغ لك أن تفهم ما أعني وما أشعر بالضبط))
((إذن دعيني أسألك))
((تفضل))
((ماذا تريدين بالضبط؟))
اطمأنت إلى بلوغها المرمى بعد أشواط ثقيلة.
((ألا تعرف؟))
ويذعن في قطع الطريق ومحاصرتها في زاوية.
((إن ما أعرفه عنك فتاة هوائية، مزاجية، مغرورة، لا يستهويها إلا المظاهر الباذخة والشكليات السطحية)).
ارتاحت لاستجابته فتمادت:
((لا تظلمني أرجوك فأنا أتعذب في أعماقي لأني لم أجد الإنسان الذي يخاطب وجداني ويكتشف كياني ويجاذبني بلغة العقل))
((أحببتك)) ...
قاطعها كالملدوغ
((أرجوك كفى، أنت تغامرين في مسألة حساسة، والآن أعتذر عن الاستمرار في الحوار... مع السلامة))
لكنها لم تقفل الهاتف بل حاولت أن تنتحي بالحديث منحى آخر.
((أردت أن أقول لك أنك رجل مميز في مواقفك ونادر في صفاتك فارساً نفتقده في زمن يقتات على الشهوات))
صمت مأخوذاً بكلامها.. وفي وقفتها أطلقت تنهيدة حارة وإذا بصوتها يختنق لتواصل بهمس.
((لن أطيل عليك أكثر مما فعلت.. يسعدني أن نبقى على اتصال))
ودون أن يخرج من صمته، أقفل الهاتف.
ارتمت على سريرها مأخوذة بدهشة الموقف والخطوة الإيجابية التي أثمرت بهذا الشكل، انفراج بسيط يبشر بحل العقدة فقد لان بعض الشيء وخفض لها جناحه وستمضي في استكشاف مجاهيل روحه بكل عزم وحيلة.
تدخل عليها والدتها بفرحتها الكبيرة.
((اذهبي إلى الصالون لتجهيز نفسك ((فأم عامر)) ستزورنا هذه الليلة مع ولدها))
لم تكن دلال في وضع يسمح لها أن تستوعب معاني الكلمات، بدت هائمة مشبعة بإحساس مريح يدب في عروقها كالخدر فيسلبها طاقة التفاعل مع كل من حولها، إنها غارقة في جلة المشاعر الجديدة، تحلّق في أفق خاص بها، في نشوة استحوذت على أعصابها فكبلتها بقيد هذا الرجل الذي كلما تمادى في الصد أوغلت هي في الحب.
هتفت بها الأم قلقة.
((ما بك اليوم؟ هل أنت متوعكة لم تبارحين الفراش منذ أن حضرت من الكلية؟))
تنهدت وهي تتمرغ على السرير بتكاسل.
((يا أمي لا أفكر في الزواج الآن))
((إنها مجرد زيارة للتعارف))
((لا أرغب في لقاء أحد))
((ولكني اتفقت معهم على هذا الموعد))
بضجر قالت:
((حسنُ سأقابلهم شريطة أن لا أذهب إلى الصالون فليس لي رغبة في ذلك))
وكان المساء حافلاً في بيت الأكابر، يأتيها عامر ببنيته الرياضية الممشوقة وعطره الباريسي يتضوع حول المكان، متألقاً كنجم سينمائي، محدقاً بفتاته إبهاراً برق كشعاع يتطاير من عينيه، يلمح فيها لفتات نافرة، تتمايل بأنفة واستعلاء وتدبر عنه في غطرسة وتشامخ وعندما وقعت عيناه بعينيها أدرك فيها إعراضاً أطفأ جذوة شوقه وأوهن عزمه عن مباحثة أمه في شأن الزواج حاول ملاطفتها ليوغل أكثر في دفائن قلبها لمس فيها بروداً وانكماشاً فرغم تلك الحفاوة التي لا تعدو إلا مسحاً ظاهرياً لطقوس شكلية إلا أن الأمر برمته غير مقنع لنرجسيته المتطلبة خضوعاً وامتناناً فأجفل متصنعاً التجاهل والاستنكار لحسنها الذي تهافت عليه في بدء اللقاء، ولعلها كانت تتصرف بلباقة شديدة دون أن تجرح إحساسه فما في قلبها لا سلطان لها عليه، وحده أحمد من استحوذ على مشاعرها فكانت كل مقاطع عزفها تتناغم مع نبض فؤادها وانتظرت أمها مبادرة تطمئنها على سير الخطبة، خرجا متعللان بأعذار مفتعلة فقد كان موقفهما بارداً ينم عن فتور ناقص اندفاعهما في أول الأمر وانتظرت الأم لأيام متوجسة من هذا الإعراض وعندما يئست من ردهم بادرت لتتصل كي تحسم حالة القلق المضنية فأجابتها أم عامر أنه أجل فكرة الزواج، ولم تكن أم دلال من الحماقة ما تقتنع بهذا السبب الواه، فألحت لمعرفة الأسباب مما اضطر أم عامر أن تصارحها بالحقيقة فعامر لا يرغب في الزواج من ابنتها.
اهتاجت
((وما في ابنتي من عيب؟ إنها ملكة جمال أظنه..
قاطعتها أم عامر اختصاراً للحديث وحفاظاً لماء الوجه.
((ولأنها ملكة جمال فهو لا يستحقها))
بدت أم دلال غارقة في شرودها، قد أخرستها الظنون وألجمتها الصدمة فلأول مرة ترفض ابنتها بهذا الشكل المهين وتمادت في التفاسير السلبية والاحتمالات البعيدة مأخوذة بوساوس مزعجة.
هل هناك ما يغيب عني؟ كيف هو سلوك ابنتي في الجامعة، هل تحرى عنها وعرف ما يكدره؟ لا.. لا.. مستحيل فابنتي مؤدبة وثيابها محتشمة لكن.. لِمَ تراجع بعد أن كان متحمساً لها؟
ولم ترتدع عن شكوكها إلا عندما انتزع زوجها فتيل قلقها بلهجة حازمة.
((اتركي عنك هذه القضية الفتاة مرغوبة وخطابها كثر فلم بقيت ترزحين تحت ثقل هذه المسألة؟))
وبقيت دلال رهينة حبها المشاكس وغموض رجل يكتنفه أطواراً من الغرابة والغموض، صارحته بدخيلة نفسها لكنه معرض في ظاهر سلوكه، تجمعهما مقاعد الدراسة، يتبادلان لغة مشتركة رغم الصمت الثقيل، ((أحمد)) آخذ في التفوق والإبداع، مذهل في عبقرية علمية أضفت عليه هيبة جاذبة فاستهامت به دوناً عن غيره، المعارض الوحيد لقوانين فتنتها الساحقة، تستدرجه بوسائل أخرى تخفي في باطن روحها علل قلبها، يلتفت إلى احتقان أعصابها المنهكة وهي تترقب انجلاء الأزمة، وانبلاج صبح الأمل في عتمة حبها، أدهشت في ذلك الصباح حشد الطلبة وهم يتفرقون في كل ناحية ينتظرون طلتها الصاعقة ومشيتها المختالة كظبية شاردة فإذا بفينوس الكلية مرتدية ثوباً طويلاً حوّط فتنتها بسياج من الرهبة، يتساءلون ويتقولون ((ماذا حدث؟)) وكأنها قديسة عازمة على نحر شهوتها بأثمان عذابها تدبر في استعلاء دون أن تنبس بحرف، يقف ((أحمد)) على بعد مترقباً في دهشة حضورها المبهج ولأول مرة ينضج وجهه بالبشر، يتأملها كوكباً درياً يزدان بهالة من السحر ودون أن تتكلم تشير في التفاتة مقصودة ((لعلني أعجبتك هذه المرة)) وأشاعت أنها ستتحجب، التقطت الطالبات أنفاسهن ارتياحاً فهي من كانت تستأثر بالإعجابُ ما دونها يتساقط بإهمال، الآن حُجب الجمال، وتقوضت الفتنة، وكبح طغيان أنوثتها الأخاذة، مباركة حوطتها من كل جانب، التفت حولها الطالبات يغمرنها بمشاعر ود ويستبطنها حسد دفين، وعندما خفت الزحمة وانفض الجميع خطت ناحية ((أحمد)) وهي تطأ الأرض تيهاً وزهوراً فانبرت بصوت يختلج تأثراً:
((ربما أستطيع الآن اختصار المسافة!))
طافت عيناه بوجهها وكأنه يقرأ فيها معالم جديدة، تنهد قائلاً.
((أمنية مزمنة أكابدها على مضض))
((منذ فترة أتصل بك فلا ترد))
((لأني واثق أن حسم الأمور من البداية خير من الغرق في وهم النعيم)).
وبتوسل ذوب مهجتها.
((أرجوك افصح لي عن ما في داخلك، يخيّل لي أنك تعيش صراعاً مزقك شر تمزيق فمواقفك معي متناقضة))
أطرق صامتاً ثم استأذنها كعادته فتركها نهباً للحيرة والإرباك، خنقتها العبرة فكفت عن ملاحقته لمتابعة الحديث وقررت وهي في حمأة الغضب أن تختفي من حياته حتى لو اضطرها الأمر إلى تغيير الكلية ووطدت العزم على نسيانه ووضع حل لهذه العلاقة المبعثرة.
غابت عن صباحاته فخلّف مكانها الشاغر جرحاً في قلبه، عتمة حولت الكلية إلى مأتم عزاء، كان لها حضوراً باذخاً وألقاً ساطعاً يندر أن يستشفه في أنثى، وذلك الجاذب الغامض الذي يخلق في باطنه شعور بالإبهار فينشد إلى لقياها بغريزة الاستكشاف همهمة تصدح حول مكانها وغموض تحيكه مصادفات قاسية، أشيع أنها تزوجت وإذا بقلبه يضطرم بحرارة شوق استشرت في أوصاله كهيثم محترق فاستبد به شعور باليأس والإحباط ففر بعد أيام إلى صديقتها ((هبة)) ليستطلع خبايا الأمر فتفضي إليه ((إنها مريضة)) ثم نظرت إليه بترقب لترى ماذا عساه يفعل ومحبوبة قلبه تضيع من يده.
قال مذعوراً:
((تلفونها مقفل)).
((نعم فقد تعبت وليس لها رغبة في مخاطبة أحد))
سألها على حذر من يخشى أن تنزل به صاعقة.
((يقال أنها تزوجت))
ترد ((هبة)) باستهجان وهي تصعد فيه نظراً فاحصاً لاستكشاف ذلك التميز الذي أرهق صاحبتها الحسناء بلوعة الحب.
((مجرد إشاعات))
استراح بعض الشيء، لكنه بقى في مقام مجاذبة بين الإقبال والإدبار ماذا يمكن أن يفعل لبنت الأكابر الغيداء وهو الشاب المعدم، ذاق مرارة اليتم والحرمان، يحبها ويكابد من أجل أن يظل حبه عبقاً بالطهر والنقاء، فلم يخوض تجربة عاثرة يعلم أنها تنتهي إلى عذاب مستديم، قد تفنن في صدها بغية تطويق هذا العصف النازف كي لا يبدد منه العقل، ترمض في لوعته، وكبح طوفان هياجه لتسلم محبوبته من لعنة تطاردها أبد الدهر.
يعيش مع جدته في بيت متواضع، ادخر طاقته وعقله للعلم والكفاح وتبتل كناسك كبت فورة شبابه ليوم يباركه الله، فنشأ شهماً تفوح من أعطافه رجولة آسرة دوخت أعصابها فحولتها إلى محض روح مستهامة به.
فزواجهما ضرب من المحال هي بنعيمها الوافر وهو بفقره المدقع.
في يقظة الحب وباكورة الرجفة الأولى ظن أنه مجرد كائن مختلف يدهش مزاجيتها بنزوة مثيرة فتصب عليه تفانين أنوثتها كولع جديد تستطرب له الأوصال، فإذا بها محبة والهة اصطفته عن باقي الرجال وادخرت له وحده خارطة الجمال الخرافية ليخوض في تضاريسها مستكشفاً معالم أجمل وكانت في رحلة الشوق هذه خصبة المشاعر، دافئة العاطفة وافرة الإحساس، صادقة، كالزهرة نضحت ندى لازال منتشياً بأريجها الفوّاح.
وتذكر أن الحب مغامرة كبرى لا يدانيها إلا الفرسان وسيقتحم قلعتها ليفوز بها ظافراً.
نهضت من رقدتها على صوته الأجش يصدح في أرجاء الفيلا فتنحني له الجدران الشاهقة إجلالاً.
ورفض طلبه باستنكار كبير واستهجان أذل كبرياءه، لكنها خرجت تتعثر بثوبها الطويل وذبولها المتراخي أضفى عليها هالة من القداسة، صرخت بكل ما في داخلها من طاقة حب وعذاب.
((أنا أريده يا والدي، أحبه))
مفاجأة أوقعتهم في ذهول.
ترد أمها: ((ترفضين أولاد الذوات من أجل هذا النكرة؟))
ويردعها أبوها متوعداً
((اخرسي وإلا قتلتك))
فتراها تصول وتجول في حمأة الغضب مدفوعة بأمنية حياتها البعيدة تصارع من أجل فرصتها الأخيرة، حتى صاحت مهددة.
((إن لم توافقون على زواجي منه أقتل نفسي، فلا حياة لي دونه)).
وبعد نزاع شديد، وكر وفر رضخ الجميع فالإرادة الصلبة حسمت الموقف كما يقره المنطق وتم الزواج في مملكة أعلامها منكسة وشطآنها كئيبة وليلها بهيم، دخلت ((دلال)) لتعيش مع رجل كادح، متدين متفوق ينقصه المال والوجاهة.
وكانت حقاً بنت أكابر بخصالها الحميدة، وشمائلها الجمة وصبرها الجميل، تعلمت وتهذبت على يدي زوجها واكتسبت منه الفضائل والمعارف، فتلبست بهوية جديدة صاغها الحب الطاهر صياغة فريدة، عندما تزورها أمها محملة بالهدايا والعطايا، تأنف وتتأبى بحكمة مذهلة.
((رضيت أن أعيش مع زوجي علي الكفاف سعيدة بكرامتنا وبإيماننا ببعض)).
وأحبها أحمد فكانت لروحه سكن ولفؤاده مرفأ فتآلفا وتشاكلا وانصهرا في توأمة واحدة.
من يصدق أن ((دلال)) بنت الأكابر قد تحولت إلى لؤلؤة في صدف الطهر والحياء، تحجبت والتزمت بتعاليم دينها فقد كان أحمد حلمها الذي جسد رجولة نادرة وشهامة استثنائية، تخرجا سوياً هو بامتياز وهي جيد جداً، ساندته بعزم وهمة ليكمل المشوار فنال الدكتوراه في الاقتصاد، وها هو الآن أستاذ جامعي يُشار له بالبنان ومستشار تنحني له الأعناق الباسقة، وكلما تحدث في مجمع ينسب فضل نجاحه إلى ((دلال)) زوجته الصابرة الحنونة قائلاً بامتنان ((هي مدعاة فخري ونجاحي)).
إلى أن حدث ما يكن في الحسبان مرض أحمد بعد أن تطوّر التهاب الكلية إلى حالة مزمنة سبب له عطل في نشاطها فرزح تحت ثقل الآلام والأوجاع مما اضر الطبيب إلى إجراء عملية عاجلة لاستئصال كليته المعطوبة وزرع أخرى وكان الوقت حرج والأزمة تشتد فكانت دلال المتبرع الذي تخفى عن الأعين ليقدم العطاء هبة وقرباناً لهذا الحب الكبير، فقد شاركته محنته وتحسست دمعته وتقلبت معه على جمر الوجع فآن لها أن تقدم له قطعة من جسدها لتعيش داخله أبد العمر، ونجحت العملية ونشط الزوجان وتابعا حياتهما وفق الحب الذي لم تحطمه يد الدهر الخؤون أو تمسه الأيام بجارحة عرف أحمد فيما بعد أن دلال هي من وقفت إلى جانبه وكانت القوة التي تضخ الحياة إلى موات جسده لتنتفض فيه الروح ثانية فأوقرها في نفسه أكثر من قبل وأعزها في قلبه كأغلى أمنية وأخلص لها تمام الإخلاص.
أقبل عليها ذات ليلة قائلاً:
((تزوجتيني فقيراً وكافحت معي بصبر وإيمان وذقت معي مرارة الحياة وحلاوتها والآن أوسع الله عليّ من نعمه ويسر لي من فيوضات عطائه ما يكفيني أن أعيش معك مستوراً للأبد، لهذا وثقت كل ما أملك وما أدخر من مال وعقار باسمك أنت فقط، لم يرزقني الله منك بولد لكن منحني الحب الكبير والسلام الداخلي والعاطفة النبيلة والإيثار العظيم، فكنت لي نعم الزوجة ونعم الحبيبة ولن أنكأ جرحك بضره من أجل طلب الولد فأنت كل حياتي وسعادتي، سأرد لك في الآخر كل النعيم والجاه الذي فقدتيه زمناً بما هو أوفر وأعظم منه، إنه ثمن بخس أمام قطعة عزيزة من جسدك كانت هي مصدر شفائي ودوائي، فحقاً كما أنت بنت أكابر تستحقين وسام المجد والافتخار.
دمعت عينا دلال وخفق قلبها هلعاً.
((لِمَ تحدثني هكذا كما لو كنت مودعاً))
طوقها بذراعيه.
((أريد أن أضمن سعادتك الآن وغداً))
بتوجس أردفت.
((أنت تقلقني هل حدث شيء جديد))
طمأنها:
((لم يحدث ولكنها استحقاقات يرتبها القدر بإنصاف وبنسق عفوي))
((لم أفهمك))
بنبرة محبة قال:
((العطاء والبذل غذاء الحب ورواؤه الأبدي وهذا ما يفعله كلانا لبعض)).
انتهت
همسة:
((بنت الأكابر تطلب رجلاً لا جيباً))
(11)
الكاتب يعترف
بقلم: خولة القزويني
حينما يرتعش القلم بين أصابعه يدرك أن الفكرة عصية تهرب مع الأشياء الأخرى إلي العدم.. إلى اللا قيمة. خصام يحبط كل محاولات الإبداع، تشتكي انهزامها عندما خبت الدوافع الجميلة التي لونت حياته بصبة أرجوانية صارخة، ثابتة، متوهجة, لأنها نوع مميز تم طمره بوحل الدنانير.
رشح القلم بقطر داكن فوق بياض الصفحات فانكمش قلبه.. ارتجت روحه إنه فأل سيئ.. أطرق يفكر ساهماً.. عابس المحيا.. يستحضر الماضي رغم السهاد الذي أرقه.. غدا مقالته الأسبوعية.. بالأمس كان الهدف الحقيقة مجردة عن كل الهوامش والمبررات.. وحدث أن أصبح الخبز رهين الفكرة المفتعلة.. دنيا ودنانير غطت بسحرها الأخّاذ المسافات الممتدة عبر تنهدات طويلة رحل فوقها عبر صهوة الكلمة.. الحسرات الفائرة في كيانه المعذب، كان يبصقها في كلمات مدوية احترقت فوق الصفح الناصعة صادق ملتاعة خرجت من أعماق محمومة بالإيمان تنفث النار والنور فوق صنم الخطيئة.. اخترقت سهام العدالة كل زوايا المدينة لتحصد الأعناق المتطاولة على رغيف الناس.. وجلس الآن يتنهد يحتدم في صراع مع القلم الذي بات يسخر منه.. حولتني إلى ريشة ناعمة تميّع الحقيقة وتلون الواقع وفق مشتهيات البعض وفي طعم كل مزاج وفي نكهته مرة المذاق.. وبمقتضى الحال الذي فرضته على نفسك.. هل تذكر حينما كان الفكر يقدح خواطر كزهر البرتقال يتضوع أريحا ذكيا يسري في النفس قشعريرة ارتياح تعوضك عن الطعام والشراب، أو كسنابل تعشش في الذاكرة وتتبرعم حينا بعد حين تعرف انك متوائما مع نفسك كأن هرموناتك المضطربة قد تدافعت من جديد لتتسق مع فكرك... متصالحاً مع ذاتك إلى حد الانعتاق من قيود الواقع، تهزم اللاءات والممنوعات، تقفز حواجز المستحيل بخفة الحصان الرشيق لتجيء اليوم محدقا في ذاتك الخاملة وقد جف فيها النبع تستثير صمتها لتنفض عنها الرواسب تستنطقها فلا تجيب، تتوارى خجلة خلف غلالة رقيقة من الحلم المهزوم معنوناً بالمدينة الفاضلة. الوجدان معطل، النبض مبرمج وبين الشك واليقين هوية يسقط فيها كل مبدع وكفر بعد إيمان. فالفكرة والقلم توأمه وثيقة يتجاذبان المحبة في تناغم عفوي وأنت من يغذي شغفها وأنت من يطعم نهمها. برسائل شوق صادقة.. تركتها طعما للغربة وتركت نفسك رقما في سلة بيض لتحصد ثمن الخيانة.. عاهة مستديمة في الفكر مبعثها الجفوة بين الفكر والقلم.
استراح الكاتب، أدرك أن الصوت عندما يفكر يستوعب الإنسان مساحة المحراب المقدس الكامن في روحه ليصلي عليها ويتعبد متجردا من كل دنس وخطيئة، مدركاً أن لحن القول انتحار لكرامة الكاتب.. اشرأب عنقه.. ومضة مشعة..حدق بالورق طويلاً.. الدهشة تعقد لسانه.. حدث ما كنت أبحث عنه مصالحة بين الفكرة والقلم.
( 12)
انعطاف
بقلم: خولة القزويني
خطوات ويتحول إلى نثار..
تم كل شي وفق تخطيط محكم، المكان، الزمان، والآن هو بانتظار ساعة الصفر وفي طريقه أعد حقيبته ومجموعة من عذاباته ترقد مخفية عن الأنظار دخل بهو الفندق مرتديا بنطلون الجينز والتيشيرت الأبيض، تحسبه كائنا مشردا يهوى التسكع في الطرقات.
استأجر غرفة لثلاثة أيام وتابع سير الإجراءات حتى وجد نفسه قرب النافذة أطل في الشارع والسوق المكتظ بالناس والقوس الأسمنتي الذي طوق شارعين كان قد حدثت فيها مجازر بشرية.
مازال ذلك الصوت الهادر من عتمة المجهول يحرضه إلى الجنه بغواية تلامس فيه شغفا مالك وهذه الدنيا الرخيصة اختزل سنين عذابك في لحظة حاسمة فتسيل دماءك توقا إلى الحور العين، أعداءنا يتناهبون حقوقنا يتمرغون على ترابنا، يتقاذفون لقمنا المغصوبه، اترك حزامك الناسف ليبدد فرحتهم.
جلس مطرقا استحوذ عليه الرعب، فالموت بانتظاره وحصاد هذه الحشود يتطلب عزم وشجاعة الدافع الوحيد الذي كان يغذي فورته بغضه لحياة مريرة وأيام قاحلة عاشها ملفوظا من فم القدر، الخدوش المتناثرة على جسده الجروح المتقرحة تشهد له طفولة مسحوقة يوم كان والده ينقض عليه ضربا بالسوط طنا منه أن أمه كانت لعوب خانته مع أشباح.
تنهد مقهورا وزفر نفسا حارقا من كبد محرور، جعل يتلفت حوله ويفتح الثلاجة ربما يجد شيئا يأكله ليس سوى الماء.
نزل إلى مطعم الفندق.
اتخذ ركنا منعزلا وطلب شطيرة همبرجر لمحها طيفا عذريا تجلس متشحة بخمار أسود هل هي المصادفة من جعلتها تجلس أمامه بهذا الافتضاح السافر رفع عينيه الصادتين وجدها تتأمل باختراق متقصد عجب لهذه المرأة إنها تذعن في إحراجه، بيد أنها منبسطه في جلستها إلى مسه بشئ من الخجل حاول أن يقضم الشطيرة قضمات كبيرة ومتتابعة ليغادر المطعم، ارتعشت يداه فسقط نثار الطعام على ثيابه ترك المكان متعثرا في مشيته، اصطدم بإحدى الطاولات فانكب الماء على بنطاله، انتفضت من مكانها واقتربت منه متوددة تقدم له منديلها تجمدت الدماء في عروقه تشنج حتى جفت الكلمات في حلقه ولأول مرة سمعها تنطق
((سائح ؟))
((نعم))
فر خائفا الشيطان يتلبس ثياب امرأة استغفر ربه، دخل حجرته وأحكم إغلاق الباب خشية أن تقتحم وحدته!
حاول أن ينفض صورتها من ذهنه انتبه إلى البقعة الملوثة على بنطاله الآن هدأ وبدأ يهضم إحساسه المضطرب منديلها المعطر، صوتها المنغم بحنان، بشرتها الوافرة الرواء.
(دع عنك هذه الشيطانة) نعم إنها شيطانة ستجره إلى دنيا رخيصة فهو موعود بالجنة وبحور مقصورات في الخيام! هو جندي من جنود الله لن تزعزعه امرأة!
(سائح!) صوتها المتماوج بدفء متحرر من كل ضوابط الإيقاع، فيه انسيابية مريحة، نظراتها المتلاشية عبرت عن مخزون كبير من الأنوثة.
أحس بالضجر، برغبة كبيرة في التجول ترك حجرته وصادفها تجلس مع طفل صغير في ((بهو الفندق)).
وكأنما كانت بانتظاره هذه الماكرة!.بشت في وجهه فور أن أقبل، تجهم وتظاهر بالتحفظ وصبي السابعة يحوم حولها ممراحا انه يشبهها ربما ابنها أو أخيها الصغير؟!
((لما تسأل؟!))
همت تقترب ((من أي بلد؟))
انفجر بجلد ((أعتقد أن هذه أمور خاصة))
أجفلت انكشف رونقها فهتفت بخجل ((أسفه لم أقصد إزعاجك))
كان يفكر بها وهو ينهب الطرقات مستطلعا موقع العملية اكتنفته حالة من الجزع المرير ومجاذبة حادة بين طرفي نقيض، لأول مرة في حياته تصادفه امرأة!
من هي أول وآخر امرأة في حياته؟ ((أمه)) المرأة المسحوقة تحت وطأة شكوك زوج موسوس لم يعرف يوما طعم الحنان ونكهة العاطفة وذروة التلاشي في الآخر.
يوشك أن يلين تحت ضغط الخفقات، مازالت عيناها تحفران في قلبه وطن لما كان يكره أن يعيش ويحسب أن دنياه دوامة أحزان تتواطء الأقدار لتلقيه في حاوية النسيان بقى لزمن نكرة وأراد أن يحطم ماضيه بهذا المنعطف القهري ((الموت)).
الماء العذب يتسلل الى تجاويف قلبه الصخري وينحت في جدرانه منافذ حياة.
تركه ذلك الخفاش الذي لم يتشخص بهوية أو عنوان سلمه صك الجنه وغاب في غموض الفكرة، اليوم انكشفت له جفه ناضحه بالحياة تتسرب أضواءها المتلألأه الى شرايينه فتوقد فيه النور
لا..لا..لا بد أن أسير حتى النهاية
سأحسم أمري وأكبت هذا الإحساس
عاد الى الفندق وكان ناضب الروح فقد خلا مقعدها تلفت بحثا عنها اغتم وحزن نزل الى المطعم لعلها هناك تراجع مستاءا من نفسه
((أيها الأحمق تهزمك امرأة، أيها المجاهد الجبان!))
انتبه الى صوت الطفل وضحكاته في إحدى أركان الفندق المخصصه للعب الأطفال زغرد قلبه وكاد أن يفر من صدره وجاء يحدثها على استحياء
((آسف فقد كنت فظا معك))
افتر ثغرها عن ابتسامة عريضه مفعمه بالمشاعر ظل أمر الطفل يقلقه حتى صرخ ((ماما)) مستغيثا فور أن سقط من الأرجوحة هبت لنجدته احتضنته مذعورة، هامسه بذوب يقطر حنانا ((حبيبي،حبيبي))
أجفل الشاب، استاء من نفسه فليترك عنه هذا الشعور الخائب ويعود الى غايته.
خفق قلبه بشدة حينما اعتنق الطفل أمه الشابه واسترجع في ذاكرته طفولته الكئيبة والضرب المبرح والسقطات التي شفت عن عبث طفولي فطري.
غرق في حيرته وبخطوات فوضوية وشت عن باطن مشوش دخل غرفته واستلقى على سريره جزعا قد تضاربت أهدافه واختلت كل مقاييسه تناهى الى سمعه طرق مذعور على الباب، كانت (هي) تستنجده
((الصبي متعب جدا أحتاج الى مساعدتك ))
انتبه الى هذه المرأة كانت وحيدة دون رجل فاندفعت الغصة من حلقه حارة
((أين أباه؟))
شحب لونها فتباطئت بالرد.
رد ((فهمت))
أردفت قائله بعد أن استجمعت قواها
(( لقد قتل في عملية إرهابية عندما كان ماشيا في الشارع أتى رجل انتحاري ليحصد المارة دون ذنب ، وهذا ولدي الوحيد مصاب بسرطان الدم جئت به الى العاصمة لعلاجه))
اهتز كيانه، ارتعدت أوصاله، ارتجعت أعصابه وتساقطت كل قيمه في الوحل..فلينتشل ذاته من ذلك المستنقع الآس وذهب بها.. ومعها في انعطاف جديد.
قراءة ممتعة ارجوها لكم
|