لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء


مجموعة قصص قصيرة ، للكاتبة : خولة القزويني ..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته قصص قصيرة للكاتبة خولة القزويني اتمنى ان تنال اعجابكم واستحسانكم ..

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 19-10-08, 08:53 AM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
أميرة الرومنسية



البيانات
التسجيل: May 2007
العضوية: 29213
المشاركات: 2,295
الجنس أنثى
معدل التقييم: اقدار عضو على طريق الابداعاقدار عضو على طريق الابداعاقدار عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 250

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
اقدار غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
افتراضي مجموعة قصص قصيرة ، للكاتبة : خولة القزويني ..

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته





قصص قصيرة للكاتبة خولة القزويني


اتمنى ان تنال اعجابكم واستحسانكم ..







(1)

تحت العباءة



من أسرة عريقة تربّت بناتها تربية محافظة، واعتزلن الرجال في حرملك محاط بأستار من الحرير، هي أشبه ببروتوكول يخلط الدين بالتقاليد، لا تخرج المرأة إلا متسترة بعباءتها، يغمرها الحياء في خطوها الملكي، محسوبة اللفتات، موزونة الحركات.
خلف هذا الباب الشاهق عشن ثلاث بنات أكبرهن ((شهلاء)) في غضاضة العمر، وانبلاج الصحو الماطر بالصبا، ياسمينة ندية، لونها قمح زاهٍ، وبشرتها وافرة الرواء، ترمح بقامتها المستقيمة فتشد إليها الأبصار وتهفو نحوها الأفئدة، بلغها أن ((عبد الجليل)) تاجر السجاد الشهير له مطمع فيها..
والدها يمني نفسه بهذه الزيجة الخرافية.. ويقلق من غد يحمل إليه عوائق وأعذار.
((لكنها في عمر ابنته))، في اضطراب تردد الأم والرغبة تنازعها ما بين القبول والرفض.
الأب ملهوفاً:
((ستعيش ملكة متوجة على هذه الثروة)).
وخيال الأم يجنح في أحلام ذهبية تبرق فيها المسرات من كل صنف ونوع، تسمع (شهلاء) وهي متوارية خلف الباب، تخاتلها (سندريلا) الأسطورة بثيابها المزركشة، وفتنة قدها تدخل قصراً بفخامة ملكية، تتراءى لها حديقة غنّاء تصدح فيها عصافير الجنة، وأمير تشمخ بمهابته بين الناس.
((بابا شهلاء، أتوافقين؟ إنه صديق عزيز أثق به تماماً ولا أعرف عنه إلا الخير)).
ابتسامتها الخفرة، وصمتها الرضي عبرا عن جوهرها الخفي..
((إنه لا يناسبك فهو كبير جداً))، معترضة أختها الصغرى.
((لا يأخذك الطمع يا شهلاء))، إشارة تنبيه من أختها الوسطى.
أشاحت عنهما بغرور:
((لا يهم طالما كنت ثرية)).
حاولتا أن تثنيانها عن هذه الزيجة بيد أن بريق المال أعمى بصيرتها وشلّ إرادتها.
الهدايا الباذخة تدخل دارهم وسيارة خاصة طوع أمرهم، الشفير الأنيق يعتمر القبعة السوداء ينحني كما الدمى المكوكة كلما أطلت عليه شهلاء.
في نشوة استحوذت الأم فبانت عليها فرحة ساذجة:
((ياه كما الأفلام)).
وبزهوة النصر ولذة الظفر تردد شهلاء:
((حتى تعرفين مقام ابنتك)).
محظوظة مثل أمك، لابد أن أرقيك من عين الحسد ونظرات الجيرة المتلصصة علينا خلف النوافذ.
الهمس الخفي المتجاذب بين العريس وأهل العروس أصابت شهلاء في مقتل، فالعرس الأسطوري المقترح ما كان إلا وهماً، والموكب الكرنفالي الذي راود خيالها العذري ما هو إلا سراب.
((إنه محرج أمام أولاده، ووفاة أمهم كانت قريبة جداً)).
بررت أمها الموقف على مضض فقد تركتها الصدمة في حيرة، بينما فرت شهلاء إلى حجرتها غاضبة والطرحة المشتهاه ببياضها الملائكي استبدلتها بعباءة سوداء طوقتها برعب غامض.
دخلت دار الزوجية مضطربة، يقلقها المجهول، معللة نفسها بهبات أخرى عوضاً عن فرحتها المخذولة والحلم الذي أجهض من قبل أن يولد.
ذعرت بفخامته فانكمشت وتورد وجهها، قاربها متأنياً وهدهدها بحنان فشمت عبق طيب من أردانه، وأنفاس معطرة كالبخور، رفعت إليه عينين فاترتين مستعذبة طلته الوسيمة وأناقه فخمه، أججت فيها عاطفة مرتبكة، تمهل في استدراجها الانسيابي ورقة متكلفة طوّعت قلبها النافر فخضعت لرجولته لينة وتلاشت بينهما السنين فما كانا إلا كياناً واحداً، وغدت أيامها معه ربيع دائم، قد بسط تحت قدميها الحرير والديباج وسخّر لخدمتها أسطول من الخدم وطاف بها عواصم الموضة والأناقة فتقلبت على السجاد الفاخر وتلحفت بالحرير والساتان، ومشت على بلاط من ذهب ونهمت من كأس الغنى حتى الرواء االفائض.
أنجبت البنين والبنات فالتحمت أواصرهما واستوثق وصالهما فكانت تخرج إلى الناس متبخترة كالطاووس، باطشة كقارون قد ركبها الغرور واستحكمها البطر، مستعلية في نظراتها على البسطاء، متفاخرة بثيابها، متباهية برنين الأساور في معصميها، تتجافى عن أختيها بأنفة، من يدخل قصرها يحسب أن سلاطين الأتراك وشاهات إيران قد تركوا لها مآثرهم، استبد بها الجشع فنهمت أكثر، (هل من مزيد؟) اشترى لها في كل بلد بيت فخم لتصطاف، إما على السواحل أو الأرياف، وربما في الجبال وحتى العواصم.
جاءها (عبد الجليل) هذا العصر جامحاً يزف لها بشرى من تباشير قدميها الخضراوتين ، حوطها بذراعيه:
((انتخبوني وزيراً للتجارة والصناعة)).
وكان ذلك الحفل الأسطوري الذي جمع رجال الساسة وزوجاتهم وسفراء الدول وعقيلاتهم وشهد السعادة يسكرها في نشوة فاقت الخيال.
ويسافر زوجها قاصداً بلدان بعيدة لحضور المؤتمرات وإبرام العقود والصفقات فتظل في وحدتها موسوسة.. ولكن الرحيل يبدد صبرها ويوغر قلبها بالشك.. ويبرر إنه العمل ليس إلا!
هذا الكهل المتصابي يزداد توهجاً كلما كبر، وتبرق عيناه بوميض شبابي فاتن يخذلها رغم صباها المتفجر وكأنها تحفة تتناغم مع الأثاث أو لعبة قد تململ منها، وجبة فقدت نكهتها، فأخذت في وحشتها تتضور، تبحث عنه حولها، على الجدران، المرايا، المقاعد، نبضه، أنفاسه، فما وجدت سوى الفراغ والذكرى.
((تمتلكين كل شيء، المال، الجاه، الخدم، والسائق رهن إشارتك)).
قال معرضاً حينما طالبته بحقوقها كزوجة.
عنفته يائسة:
((أريدك أنت، أخذتني طفلة وزهدتني شُعلة)).
أدبر عنها وشخيره يصفع رغبتها المذبوحة.
عرفت فيما بعد أن له (خليلة) من بلد أوروبي مفتون بها قد رمى تحت قدميها المال والنعيم.
خاطبته مستنكرة:
((هل تساويني بحُثالة؟)).
((أرجوكِ أنا رجل حر وصاحب سلطة وثروة ولم أقصّر بحقك، تملكين الدنيا طولاً بعرض فلا أرغب في معاودة هذا الحوار ثانية)).
وهكذا تقبلت حياتها وأدركت بعد سنين أنها ما كانت إلا واجهة يؤتمن عليها بيته وسمعته، والأخريات هن المتعة والسرور، النزوة اللذة، المزاج والافتتان، الجمال الخليع الذي يعربد لاستمالة أرباب الثروة، فحياته في الظل ملكه الخاص سر مشتيهاته، اكسيره الذي يجدد شبابه.
وتمنت في قرارة نفسها لو يخسر ثروته، لو يفقد حيويته، لو يعود بين يديها كسيحاً، عاجزاً تطمئن لحضوره الوافر في حياتها، ظنت أن خريفه قد أدبر فإذا بربيعها يذبل من قبل الأوان.
احترقت بجمر الغيرة واكتوت بنار الإهمال، فهو يمض أمامها بغطرسة بغيضة، متأنقاً ببذخ مخضباً بالطيب العريق، وشعره المستعار قد اختزل من عمره عشر سنوات، جاذبية مطعمة بنكهة الفخامة تتهافت عليه الحِسان كالجواري ويبرعن في إغرائه حتىالثُمالة.
ترك منصب الوزارة مختاراً وقصد وجهة خليلته وأشيع بين الناس زواجه منها، إذ قرر الاستقرار معها بعد أن استعذب عشرتها ووجد فيها حُلَمه المُشتهى.
((ما به قد هجرني بهذه القسوة؟ أينقصني جمال وشباب؟))، تحدث شهلاء نفسها حسرة وأسى.
وحاولت سد الفراغ بأولادها، بحياتها العريضة، بالسفر من بلد إلى بلد، لتؤكد دوماً لذاتها أنه حاضر في كيانها، حيٌ يُرزق، في هذه الممتلكات والعقارات التي وثقها بإسمها.. إنه واقع.. مهما ابتعد أو نأى فهو مختوم في الأشياء المادية حولها والكيانات الحية أمامها.
مرضت بسكر الدم وهي في ربيعها الثلاثين وداهمتها نوبات الألم في المفاصل والظهر، ترعبها فكرة الوحدة فتنخر في قلبها قبراً كئيباً يدفعها نحو الموت.
تطل على الناس بعباءتها الحرير مختالة اللفتات، تقمع أنينها المخبوء وألسنة الحرائق تمور تحت العباءة، وتغالب جرحها بذكر صنوف البذخ الأسطوري الذي تنعم به، تبتسم لكن داخلها انكسار، تعود لأختيها ببقايا كبرياء تتودد في تكلف وتطوي روحاً منكوبة قد نكأها الزمن.
فرغت عليها الدار حينما كبر الأولاد وشغلتهم شؤون الحياة تبقى متوحدة بصفير الريح تدك شبابيك حجرتها في هبوبها الشتوي، تسامر أشباح الليل باكية الفؤاد، تشد أنفاساً ثقيلة وهي تحتضن المدفأة لتبدد صقيع الوحدة ونهارات مجدبة جفت مناهلها مقبورة في أنوثتها ينهشها الحرمان وينحرها الجفاء.
((ما قيمة الحجر إذا هجرك البشر؟ منحني قصراً فخماً وبيوت كالقلاع وهجرني زوجة، وعافني امرأة، وأنكرني أنثى)).
بالأمس تنتظر الدعوات الرسمية لتخرج إلى الناس متأبطة ذراعه، اليوم تعتذر بالمرض، تتعلل بالتعب، وتتشرنق في حزنها المرير، تربكها التبريرات، لأن نفاقها المنطلي بسعادة موهومة قد بات واضح للعيان، بل إن البعض يتندر عليها لقدرتها على التمثيل.
يطل عليها (عبدا الجليل) كطيور المواسم يحدثها بلسان جف رضابه، حضوره الروتيني الفاتر، كم تمنت ملاطفة عارضة تحييها من الموات، أو مداعبة عابرة تروي ظمأها الحارق، بعاده الطويل حفر خندق جفاء فكانت مسافة وعرة.. يأتيها مستهلكاً يقف على الحياد، خارق في شموخه، جاحد في سمته، لم يجد فيها ما يفجر نبعه ويستفز دهشته، سمنتها المفرطة شوهت صباها، بدت أطرافها متورمة وكاد جلدها يتمزق إذ ترك علامات منفرة وشقوق، أشفق عليها هذه المرة إذ كانت تلهث في قيامها وقعودها، عنقها اللحمي المجعد كعنق عجوز مقفرة يثير اشمئزازه.
((ما رأيك لو نسافر معاً هذا الصيف؟)).
ألقى هذه الدعوة أمامها كما الافتراض.
وباستياء من تدرك أن فرضياته أسلوب دفاعي يحميه من هجومها الصاعق.
((كما تشاء)).
انقبض قلبه لنبرة صوتها المزكوم وأكوام من البلغم حبست منافذ أنفاسها فالرذاذ يتطاير حينما تغرق في العطاس فيبعث رائحة كريهة.
هل راجعتِ الطبيب؟ سألها منكمشاً ((قرف من حالتها البلغمية)).
تسعل وأنفها المزكوم يرشح كتل مخاطية.
تأوهت معربة عن انزعاجها:
((حينما تتعب نفسيتي، تسوء صحتي)).
تورع عن الخوض في الحديث وتلفت قائلاً:
((أنا جائع، جهزي لي الغداء)).
انقدح شرر شيطاني من لحاظها واحتقنت بالغل والحقد وتمنت هلاكه هذه اللحظة.
((الرجال لا تربطهم بالنساء عواطف شفقة أبداً))، تمتمت متذمرة.
بعد الغداء، شاءت أن تحدثه في شأن عملية دوالي ساقيها، تمددت على السرير وكشفت عنهما الثوب، أجفل محولاً ناظريه إلى جهة الباب.
قالت مشيرة إلى خرائط عروقها المتشابكة على الساق:
((بات المنظر يزعجني، اضطر إلى ارتداء الجوارب السوداء السميكة في ذروة الصيف)).
متشتت معها كما الأصم المبهوت، يحملق فيها مضطرباً ويومئ متجاوباً لكن قلبه لاهٍ، نهض فور سماعه رنة التليفون، خرج ملهوفاً.. فإن الآتِ أشهى والصوت القادم أحلى!
لا شيء يجعل لقاءهما شغفاً لثنائي نافر، يبقيها معلّقة رهن الزمن ولا يبالي إن عرفت أن له زوجة أخرى شاطرتها حياته وربما همشها مع السنين وهكذا فعل.
وفي صيف قائظ كانت تمشي على رصيف بحيرة جنيف تحمل كتل جسدها المنحني على عصا من خشب الأبنوس إلى جانبها شابة يافعة مديدة القامة أقرب إلى الفخامة، في تقاطع مباغت وقفت مبهورة أمام حلمها الهارب، أطرقت خجلة ثم رفعت رأسها بارتباك..
((تذكرتيني؟؟)).
بهتت الشابة وفهمت أن الانسحاب في هذه اللحظة قرار منطقي.
في صوت يرتعش هتفت:
((محمد))
أطال بها النظر مشفقاً أدهشته معالم لوحة بديعة شوهتها السنين.
((ماذا فعلت بكِ الأيام؟)).
اجتنبت الخوض في خصوصية حياتها.
شاغلته بحديث آخر:
((ماذا تفعل في جنيف؟)).
((مشروع تجاري)).
فوجئت متحسرة:
((ما شاء الله)).
((نعم، لا شيء يبقى على حاله)).
قطع حديثهما هتاف امرأة قادمة من الرصيف الآخر:
((محمد... محمد)).
التفتت شهلاء إلى المرأة ثم سألته:
((زوجتك؟))
((نعم))، قالها باعتذار.
اقتربت المرأة وتأبطت ذراعه وهي تلقي التحية:
((أهلاً خالة))
ارتبكت (شهلاء) بعد أن صدمتها الحقيقة المُرّة.
ثم وجهت السؤال إلى زوجها:
((أتعرفها؟)).
غامت عيناه بالذكرى:
((نعم، جارة قديمة)).
وافترقا..
ومضت (شهلاء) في سيرها المتباطئ تكابد ألماً عميقاً تخشى افتضاحه.
انضمت إليها (صفاء):
((من هذا الرجل يا أمي؟))
جاهدت كي تحبس دموعها المترقرقة حسرة وألم:
((جارنا القديم)).
صمتت برهة وشردت في سنين الماضي مستحضرة محطات الذكرى البعيدة:
((خطبتني أمه ورفضته)).
هبطت أجنحة المغيب الأرجوانية على شاطئ البحيرة المكثف بالأشجار وتذكرت شهلاء لحظات الغروب على سطوح منازلهم يوم كان (محمد) يطلق طائرته الورقية في فضاء يشملهم بالسرور، الصبيان والفتيات يغمرهم الفرح وحدها تنبض سراً.. وتلوح لطائرته من بعيد أنها في انتظاره.
((دعيني أجلس على الأريكة، أشعر بالتعب)) تنهدت في عناء.
((سأذهب لأشتري الآيس كريم)). قالت صفاء وهي تبتعد.
توحدت بنفسها، وكانت الذروة، بكت حتى الانهيار.
انتهت













(2)



غبار على المرآة




بقلم: خولة القزويني
في كل مرة يستوقفني بريق عينية إذ أجد نفسي أسبح في ذلك الصفاء يهمس في عذوبة كأنما يحملني في وهج الحنان إلى غيبوبة الحلم، توأمة روحية لا انفصام لها، استوثق ذلك الإحساس فور اندثار البسمة في غياهب الحزن، استدركت هذا اليوم وأنا في غاية الدهشة لما يهرب من اختراق عيوني إلى صميمه، عيناه غائبتان في قلق مدفون تستطلعان البعيد في وحشة ملقاة ثم تبحثان عن قرارهما في أعماقي. سألته.. ((ما بك هذه الأيام.. ثمة أمر يشغلك)؟! أجابني باقتضاب: ((لا شي على الإطلاق، مجرد صداع)) تنهد ليستريح وتسلل إلى الشرفة يعبث بأرقام تلفونه الخاص، يتشاغل هروباً مني، تبعته (( لست مرتاحاً كعادتك)) حدجني بنظرة قلقة، ينفي في إيماءة من رأسه، تراجعت عن محاولتي الأخيرة، تركته يسترجع أفكاره لعله يصل إلى حالة البوح التي اعتدت عليها في حياتنا، هكذا أفهمه دائماً لأنه لي كالمرآة المصقولة تعكس فيض مشاعري*** حداني النبضات المتحاورة *** الأرواح المتهانفة شفاهاً، دائماً هناك لغة نعبر من خلالها على كل المنغصات أنهكني صمته وتكتمه في هيكلة الكبرياء، المتكلسة حوله حينما تداهمه لحظة ضعف ودونما ارتكب حماقة استدرت ناحيته اعبر عن حنان مكنون في كيان أمومي بعيد، بعد الجذور الضاربة إطنابها في تاريخنا وأسبغ عليه هالة من الاطمئنان فابتدرني مشفقاً في اعتذار ((اتركيني ريثما استرد بعض معنوياتي)).
اكتشف المقربون اضطرابي واعتلال مزاجي وراحوا يدسون في جوف الواهمة الشره وساوس مختلقة تنبع عن حس دفين فتعوض النفس في غيبيات الأشياء لتسير عبر الأحداث والمواقف لعلها تستمد من بين هذه التراكمات خيط النجاة... ليست هناك امرأة أخرى.. أنثى جديدة تدس نفسها في ذاكرته فمناخه ليس بمناخ عاشق وشروده ليس بشرود مغرم... أظنه ذهول يختمر في نفس محبطة وهاتف يستبق كل هذه الاستنتاجات ((إنها مجرد ذرات غبار فوق تلك المرأة المصقولة لا تقلقي حتماً هناك مخرج لهذه الظلمات)).
سأمضي أنحت في هذا الجدار الأصم لوحة حب ناضجة تفرض نفسها رغم كل الخيبات، لأزحف إلي قلبه عبر هذا النفق المظلم مستنيرة بتاريخه المشرق في عمر زواجنا وأقيم هناك في قلبه معتصمة مضربة عن الحياة حتى استرد الاعتراف من فمه المقفل.. بدا متردداً ما بين إقبال وإدبار والكلمات الخجولة تتعثر فوق شفتيه المرتعشتين, اقتربت منه لأربت على كتفه متوددة ((أنت زوجي العزيز، إن قست الأيام عليك فليس لك في الدنيا ملجأ غير قلبي تفترشه بساطاً تحت قدميك وتحلق بجناحيك إلي رحاب العالم الأوسع)) ازدرد ريقه في حشرجات يائسة:
((كل التحاليل سلبية، لقد أنبأني الطبيب بهذه الحقيقة، فالإنجاب متعذر وأنتِ المجنة التي صدت كل سهام التقريع متهمة في أنوثتك والواقع هو أنا من أتحمل المسؤولية كاملة)).
ابتسمت في دعة وسكون وعيناي تذرفان في عذوبة: ((ليتك ما فعلت كل هذا لأني بالفعل حامل، وما كنت أريك أن أبشرك إلا وأنت في وجهك الضحوك، لتستوعب الحلم، ولأرى نفسي واضحة في عينيك، لقد انصرمت تلك الأيام بعذاب سادر واستقبحت حشريتي في عالمك الخاص روضت أعصابي المنهكة على قبول ذاتك المنكفئة)). في دهشة استطرد وقد أذهلته المفاجأة.
كيف حدث كل هذا؟ انفرط البوح مشعاً بحرارة الإيمان، (( إن الله على كل شيء قدير، وتقارير الأطباء، أثبتت أن مغالطات البشر كثيرة وتنحني إجلالاً لحكمة الله الغيبية)).
تندرت مازحة (( ظننت أنك منهمك في قرار صعب، الزواج من امرأة منجبة ولكنك متردد في فرض هذه الحقيقة على حياتنا)). استنكر قائلاً: ومن أين أجد لي مرآة صافية تعكس حقيقة روحي دون غبار؟!






(3)



ما بين الحلم والواقع



كتبت: خولة القزويني
كان يقف متردداً، حائراً بينهما، يبحث في خيالاته الصاخبة عن ذلك القرار المريح الذي يسكن إليه ويفضي بمكنونه دون قلق، هاجس يتفتق كالبرعم الأخضر في متاهات فكره. زوجته الطيبة تخط ملامح التهذيب في وجه حياته وترسم بعروقها النابضة دربا معبدا بالصبر والروية، ثم الأخرى المتكومة في زوايا ظله تتغير نزقاً وحماسة تجنح به إلى علياء الأماني، وتبدد ببريقها الأخاذ ضباب الغموض الذي يحدق في سنواتها الخمسين...
نور يتسلل إليه بهوادة، ونار تستعر في عروقه بصخب، كلاهما حياته بنقائضهما الرائعة، وباختلاجاتهما المتضاربة.. أشياء تتجمع في كيانه لتمنحه إحساساً جميلاً يدغدغ روحه.
حدثته ((سلمى)) وهي تختال في بهجتها ترتسم على وجهها نداوة الصبا وإصرار الشباب
((إن انتظاري لك طال سنوات وأيام عمري أوشكت أن تذبل، فاحسم أمرك لنتزوج!)).
يتملل كعادته، ويعض على شفتيه وهو يستجمع صورتها الساطعة في ذهنه ((خسارة أن تضيع محبوبة عمره)) قال ليهدئ في ثورتها:
- تريثي، فزوجتي لا تتقبل الأمر بسهولة، دعيني أقنعها..أحتاج لبعض الوقت!
تعرض عنه غاضبة:
- سنوات وأنا انتظر حتى ذوبني أسرك في لجة القسوة والحرمان.
- يغرق في الصمت..
ويعود إلى شروده هائما في دنيا أحلامه تسترد زوجته وفاء وعيه لهنيهات:
- ما بك يا خليل؟! أراك تسرح كثيراً هذه الأيام! يتنهد وهو يفيق من شروده
- إنها مشاغل العمل.
فيخجل من نفسه المرتابة تتعلل بمغالطات وهي في الحقيقة صادية تبحث في متاهات الجفاف والرتابة عن غيث حب، ورشقات مطر ترطب هذه الشقوق التي تنخر أرضه الجرداء.
تقترب وفاء منه، تصب له الشاي وابتساماته المشرقة تضيء له ليل الغربة وتثرثر أنفاسها دفقا حانيا لا ينضب، يالها من معتوهة تسد أمامه كل الثغرات التي يترقبها عن كثب ليتسلل غلي المرمى ويقذف بالحقيقية، فيستريح من هذا العناء. يزدرد ريقه وعيناه ساهمتان، شاردتان في وله الحلم ولهفة الغائبة، ورغم أنهما وعن دون قصد مصوبتان ناحية زوجته، ففي قلبه المضطرب تختبئ العصفورة الحبيسة وتصرخ بوهن مذبوح وشوق متكتم، تسامره زوجته، تلك العالقة في واقعة كالوشم الأيدي، تصطبغ بلونه ومزاجه ومذاقه الخمسيني.. هتف والذهن شارد ((سلمى!)).
حدجته وفاء بنظرة حادة موسومة بالغضب، روعته.. تلعثم، يحاول أن يداري غلطته
((أقصد وفاء!)). ادركت بحدسها الأنثوي أن ثمة خطر يحدث في حياتها، ابتلعت الغصة بدهاء ليفتر ثغرها عن ابتسامه مفتعلة.
((يبدوا أن مشاكل الموظفات تلاحقك حتى وأنت في بيتك!))
استراح بعض الشيء فقد حملت عنه مشق الأعذار، لكنه استطرد يبدد الشك ((أحياناً أنادي بعضهن باسمك.... تصوري ذلك!!))
بيد أن الأمر لن ينطوي على وفاء بسذاجة، وإنما بيتت النية على خطة محكمة لتخترق ذلك المجهول الكامن وراء سلمى، لتسبر أغواره، ممسكة بهذا الخيط الواهن ليدلها على ذلك البئر الذي يغترف منه أحلامه، فغضباته المتهورة وتوتره المنهك، أرقه رغم إعيائه اليومي هو دخان نار تحترق في أعماقه بقايا هم دفين يختمر في وجدانه. فراقبته بصمت، وأرهفت كل حواسها لتلتقط همس تلفوناته، التاعت حتى كبلت صرخاتها الخرساء بأغلال الحكمة والروية الجوفاء، وعندما استجمعت كل خيوطه أدانته وعرفت عن غريمتها كل شيء اقتحمت عالمها المجهول وقذفت بنفسها كالمنتحرة لا تأبه بكل العواقب الخرقاء..
عنفتها.
- أنت لصة محترفة سرقت زوجاً من زوجته ودمرت أسرة آمنة. لو كنت حية الضمير ما فعلت كل هذا!
صعقت سلمى وهي تتأرجح في مكانها، الصدمة هوت فوق رأسها كالمطرقة الحادة.. واستردت وفاء تتوعدها
سأفضحك أمام الناس عندي أشرطة تسجيل بصوتك وأنت تبثين لواعجك لزوجي..
قاضعتها سلمى وهي تتراجع إلى الوراء....مبهورة الأنفاس..
- أرجوك كفى... لقد تبخرت كل هذه الأحلام وتبددت كسحب ندية في ليلة صيف ثم تحزم وفاء حقائبها دون أن تنبس بحرف...
- يشدها خليل من ذاعها وهو يستوقفها
- إلى أين؟
- إلى جهنم! اذهب إلى حبيبة القلب فأنا بانتظار ورقة الطلاق! تلعثم خليل، المفاجأة عقدت لسانه
- ما هذه الأوهام التي تدور في راسك؟!
شدت على اسم غريمتها صارخة
- سلمى معبودة عمرك أيها الخائن!
- أطرق خجلاً ووجهه يتضرج حمرة.. والكلمات ترتعش بين شفتيه أرجوك اهدئي، دعيني أصارحك بالحقيقة!
غضبت تنهره بشدة
- الحقيقية أنك خائن...خدعتني لسنوات..
اندفعت صوب الباب مغتاظة فصفقته بشدة وراءها.
بينما عاود خليل الاتصال بسلمى.. لكنها أقفلت التليفون بوجهه وحاول مراراً حتى أفضت إليه لآخر مرة وجموعها تنساب لوعة وحرقة.
- انتهى كل شيء بيننا وأنا الآن مخطوبة لرجل آخر.
- أطرق يفكر بمرارة، تتسلل الأحلام من جنباته الملتاعة كالسراب، يجد نفسه تائها ما بين اليقظة والشرود، يحدث نفسه في لوم، تلسعه سياط الحقيقة بحرقة.
((أيها الأحمق، حاولت أن تمسك العصا من الوسط ففشلت، وطمعك الساذج أوهمك انك تستطيع أن تأكل على شبع حتى هوت العصا فوق رأسك وخسرت الاثنتين فشربت المرارة وذقت طعم الحرمان))












(4)


سر ابراهيم



بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) (الروم/21).
مقدمة الزاوية:
بين الزوجين.. حبل موصول برحمة إلهية، مسكون بدفء فطري، احتياج غريزي، تناغم عاطفي، انتماء. قد يختلفان، يتباعدان، يتخاصمان، لكنهما برحمة الله ولطفه يعودان. هكذا كتب القدر الإلهي: توأمة خالدة، ذكر وأنثى، بهما ((يعتمر)) الكون.. لهما في كل حكاية موقف، ولنا في كل موقف عبرة.

(( سر إبراهيم ))
بقلم: خولة القزويني
ثنائي الحلقة: إبراهيم / خديجة
زوجي إبراهيم يتمتع بكاريزما تختزل كل ملح الأرض وسكر النبات، وهذا ما يقلقني ويسبب لي صداع مستمر، فهو أشبه بالضوء الجاذب للفراشات، ولهذا كنت أتوجس من نزوة طارئة تقلب كيانه، فهو مدير علاقات عامة لشركة تجارية تلتف حوله نخبة نسوية تتوقد حياة وتتوهج أنوثة يخطرن أمامه متبخترات كعارضات في منصة العرض.
يتعبني كثيراً أسلوبه المنفتح مع النساء وملاطفتهن دون تردد، وقد عبرت عن ضيقي مئات المرات بشكل صامت لا يتعدى سوى نظرة متجهمة، حينما يذكر إحداهن بعفوية مزعجة كما لو كان يحدث زميل له في العمل لا يستوعب غيرتي كامرأة، في الواقع كبريائي كان يلجم لساني رغم حاجتي إلى التنفيس عن هذا الضيق، فأنا امرأة هادئة صموتة في داخلي تثور زوابع وتهتاج براكين وعندما تبلغ الحمم إلى الحلق تطبق الشفتين بكابح الكبرياء فلا أجد في ذاتي القدرة على البوح، بلغني في الآونة الأخيرة أنه على علاقة بامرأة مطلقة، ابتلعت الغصة وأنا أكذب الشائعات، مازال هناك ود كبير بيني وبينه، ولم أشعر بأي تغيير من جانبه لا بالسلب أو الإيجاب.
تهاتفني بعض الصديقات لتنبهني إلى هذا الخطر القادم على حياتي، فأشعر بالحرج بل والعجز في أحيان كثيرة، فماذا أقول؟ وبماذا أبرر؟
واجهته وأنا أرتعش على نقيض طبعي الساكن.
((هل حقاً هناك امرأة في حياتك؟))
قلتها وأنا متلعثمة بسذاجتي ومحبطة في معنوياتي ثم رد بكل هدوء وهو يقف أمام المرآة يستوثق من هندامه.
((وماذا يعني؟))
بانفعال وصوتي يختلج
((وهل تعتقد أنني ممكن أن أستمر معك طالما تخونني)).
ابتسم ساخراً وكأنه يصفعني إلى حد المهانة.
((أنت حرة إن شئت الاستمرار أو البقاء فالقرار قرارك)).
وبغيظ سألته:
((هذا يدل على أنك لا تحبني)).
قبلني بكل برود وهو يردد
((أحبك، أحبك، أحبك)).
صرخت:
((أرجوك خذ الأمر بجدية فأنا لا أمزح!))
خرج بحيويته العاصفة ورذاذ عطره ينضح شباب.
إذن الاعتراف سيد الأدلة، قررت استرداده والاستحواذ عليه ثانية وأنا أتذكر كيف خمد ذكائي مع سنين الزواج، عليّ أن أشعل فتيل ذهني ليتوقد من جديد ويسعفني بخطة جهنمية نافذة.
((حاولت أن أعرف من هي تلك المرأة؟ وماذا تملك من صفات لا يجدها فيّ؟))
باغته في عمله متعللة بحاجتي العاجلة إلى مبلغ من المال وانطلق راداري الخاص يبحث عن غريمتي ليلتقطها من بين تلك الجموع، ولم تلفت نظري أي واحدة منهن لها سلوك مريب يبعث على الشك، صحيح أنهن جميلات وأنيقات لكنهن في مستوى جمالي، بل أفوقهن في بعض المزايا ربما في بعضهن تلك الحيوية المتفجرة بحكم أعمارهن الفتية، تركت المكان وأنا مؤمنة تماماً أن عشيقته خارج محيط العمل!
استنجدت بشقيقتي الكبرى ((هيام)) التي عرفت بجرأتها النادرة ومهارتها الخلاقة في حبك القصص وصناعة الحيل، كشفت لها السر وحاجتي إلى معرفة هوية هذه المرأة!
طمأنتني أنها سترسم لهما خطة لإيقاعهما بالجرم المشهود.
نهرتها بشدة خشية افتضاح السر وشياعه بين الناس لأن في ذلك إهانة لي، حينما يعرفون أنه قد تركني وذهب لأخرى، حرصت أن يتم الأمر بسرية تامة.
((أرجوك يا أختاه لا تفعلي ذلك أريد فقط معرفة هذه المرأة)).
ربتت أختي هيام على كتفي وابتسامة النصر الواثقة ترتسم علي محيّاها.
جندت هيام أحد الرجال ليتابع تحركات زوجي إبراهيم وطمأنتني ((لا تقلقي فهو مخبر سري وهذا من صميم عمله)).
جاءتني بعد يومين بأخبار طازجة.
((إنه يلتقيها في يومي الأثنين والخميس بعد الانتهاء من العمل!))
تذكرت هنا أوقات اعتذاره التي تتفق مع غيابه في هذين اليومين متعللا باجتماعات طارئة أو زيارة مفاجئة لعميل.
غضبت بشدة وأحسست بالمهانة، تابعت هيام وأنا استمع بفضول وأستزيدها، صمتت وهي تغض طرفها عني وكأنها تتكتم على أمر.
((من هي؟))
أطرقت هنيهة ثم أردفت بنبرة خافتة
((نجوى إبنة خالتنا))
صرخت وأنا مبهوتة.
((نجوى؟))
لم أصدق، أتدرون لماذا؟
لأن نجوى امرأة منطفئة قد تثق بها كل زوجة، فليس في تكوينها الداخلي أو ملامحها الخارجية غير البؤس، غادرها الشباب مذ زمن وبقيت كالعود اليابس.
وعدت لأستوثق من الخبر.
((هل تأكدت أنها نجوى؟)).
((صدقيني مازلت أنوء تحت تأثير الصدمة فماذا وجد إبراهيم في هذه المرأة الناضبة؟)).
عصفت الأفكار برأسي وانقدح شرر ثاقب في أعماقي قادني إلى حقيقة، كنت أداريها، فنجوى كانت دائماً مستكينة تقترب من رجال العائلة مستظهرة ضعفاً طاغياً يستفز رجولة كل رجل، فقد هيمنته في بيته، وأتذكر أنها في إحدى دعوات العشاء كانت تقترب من زوجي بغواية نفسية تستثير شهامته بعينين مبتهلتين انشرخ فيهما الكبرياء وتفتعل الحزن بانهيار يحرك في الرجل طاقة الحماية فانغرس في ذهن كل رجل اعتقاد أنها مظلومة قد طلقها زوجها وتركها ضائعة مشردة.
كانت تقدم الشاي لزوجي وهي منحنية انحناء مغري تلبي رغباته بشكل يستبطن رغبة دفينة في استمالته، كنت أسخر في وقتها من حبائلها الوضيعة لأني واثقة أنها كالأرض الجرداء، لم ينبت عليها سوى الأشواك والأحراش، وبررت موقفها في ذلك الوقت أنها محاولة ذليلة، لطلب المال وكسب ودنا كأسرة مقربة لها.
ولماذا زوجي؟
هناك الكثير من الرجال في محيط العائلة أو خارجها ماذا ينقصه لينجذب إليها وكيف استوطنت قلبه واتخذته رفيق حميم!
قبل أن أنفذ خطتي تنبهت إلى حياتي وأسلوبي في معاملة زوجي، افتعلت قصة وادعيت أنها تخص إحدى زميلاتي في العمل قد تزوج زوجها من فتاة عانس ضعيفة، مكسورة دميمة، وقلت له أن زوجته ذات شخصية متشامخة وجميلة وأنيقة لا ينقصها شيء، برأيك ما سبب انجذابه للأخرى؟
قال وهو يستقرئ باطني بحذر:
((ربما الأخرى أشبعت فيه حاجة لا تتوفر في زوجته)).
استزدته:
((مثل ماذا؟))
((لا أستطيع أن أخمن، ولكن ربما كان ارتباطه بالثانية بدافع من حاجة الأخرى لحمايته)).
اغتظت:
((حقاً أنتم الرجال خونة))
ابتسم بخبث ثم استطرد:
((بعض النساء متعاليات على أزوجهن، يأنفن رعايته كتقديم كوب شاي أو صنع فنجان قهوة لاسترضائه، فالخادمة تلبي حاجات الزوج البديهية التي يفترض أن تستشعرها الزوجة الذكية، إنها جزئيات بسيطة قد يراها البعض تافهة، لكنها تعبر عن مدى إحساس الزوجة بزوجها والتقاطها لمؤشرات مزاجه.
قاطعته:
((يعني تخدمه كما كنا في عصر الحريم)).
((الرجل هو الرجل رغم تطور العالم واختلاف الثقافات، تبقى هناك فطرة تحرك أحاسيس الرجل نحو المرأة المطيعة الخاضعة والتي تحسسه بحاجتها له)).
أعرضت بتبرم لكنه واصل:
((رغبة الرجل في أن يظل ذا قيمة عند زوجته تحتاجه ليحميها لينفق عليها، ليذود عنها، ليحتويها، الآن أصبحت المرأة كيان مستقل اقتصاديا، متوحد نفسيا، وهذا للأسف قوض هذا الوصل المعنوي فتحول الزوجان إلى ندين)).
ارتبكت أعصابي فلم أعد أملك حجة إلا أن أقول له:
((لا أدري كيف يفكر رجل مثقف ومتحرر مثلك بتلك العقلية المتخلفة)).
((إنها الحقيقة)).
وانفجرت:
((وهل كان هذا سبب خيانتك لي؟))
رد بقلب بارد:
((لقد أحببتها!))
عنفته بعد أن خانني ذكائي
((الشمطاء العجوز نجوى، ماذا وجدت فيها؟))
اندهش كيف عرفت سره، فأجاب على مضض.
((ما فقدته فيك؟)).
انهمرت دموعي وأنا أغالب جرحي
((ماذا ينقصك في البيت؟)).
تنهد بحيرة:
((ينقصني الكثير)).
صرخت بعد أن فقدت الزمام
((صارحني لِمَ تهرب من المواجهة؟))
صمت لبرهة ثم قال:
((أخشى أن أجرحك)).
وبإصرار
((قل كل ما عندك)).
اختلج صوته وهو يستطرد.
((دائما تحدثيني عن طموحك في العمل، ورغبتك في الترقية كي تحصلين على رئاسة القسم، تضاعفت ساعات عملك، فتعودين إلى البيت منهوكة القوى تنامين في التاسعة والخادمة من تقوم بخدمتي ورعايتي، أبقى لساعات طويلة أشاهد التلفزيون لوحدي متبرماً متملماً كرجل عازب.
أطرقت بخجل وحاولت أن أبرر.
((قلت لك أنها فترة مؤقتة))
وتابع كمن فجر كبته طوال سنين.
((أنت جميلة ورشيقة وأنيقة ولكنك متعالية في حواراتك المقتضبة معي)).
قاطعته:
((أنا هادئة بطبعي وصامتة وأمقت الثرثرة الفارغة)).
جففت دمعي وأنا أدافع عن موقفي
((كل هذا لا يبرر خيانتك))
وقذف بالحقيقة المرة في وجهي:
((إنها زوجتي وليست عشيقتي وهي بالتالي خارج نطاق الخيانة)).
تركني في حمأة العذاب والهوان أفور وأصطلي وقررت أن أواجهها فاقتحمت عليها الشقة ذات صباح وحدثت بيننا مشادة عنيفة.
((سأعطيك ما تشائين فقط أخرجي من حياة زوجي)).
أعرضت بغرور
((إنه زوجي أيضاً ولا أفرط به)).
((لقد تفننت في إغوائه واستجلابه بأحابيل شيطانية)).
أدارت ظهرها وهي ترد من طرف لسانها:
((قولي ما تشائين فلن أرد عليك)).
ثم استدارت لتواجهني قائلة:
((لقد تزوجته سراً مراعاة لشعورك وليس من حقك التطاول عليّ بهذا الشكل الجارح)).
هممت لأصفعها ولكنها قبضت رسغي مستنكرة بسخرية.
((هكذا أنتن الزوجات تهملن رجالكن وبعد أن تخسرن الزوج تحاولن استرداده بأبشع الوسائل، صدقيني محاولاتك فاشلة فقد سبق السيف العذل)).
طردتني وأقفلت الباب خلفي فخرجت خائبة، مسحوقة، فالتي أمامي امرأة أخرى ليست نجوى المسكينة، المستكينة قد توهجت حرارة الحياة والشباب في عينيها بعد أن وهبها زوجي الثقة والقوة.
وفي طريقي لمحت سيارته تقف أمام العمارة، امتعضت وقرفت منه، فكيف بهذا الشاب المفعم بالحياة يلقي نفسه في شباك امرأة مطلقة على أبواب الكهولة تفننت في استرضائه وافتعلت مشاعر الحب لتستحوذ عليه.
هذا الجرح النازف أيقظني من غفلتي، كانت صفعة ساخنة من كف القدر لأثب إلى رشدي وأتنبه لحياتي، فأنا في وضع محارب، عليّ استنفار كل أسلحتي وأعلن حالة الطوارئ تحسباً لأي قرار، فلأحاول أن أكسب المعركة لأني أمام عدوّة خبيثة تحيك لي المؤامرات في الخفاء وقد تدفعه عبر أساليبها الماكرة إلى تطليقي لتستولي عليه كاملاً.
انتفضت على حياتي الراكدة وأحدثت انقلابات كبيرة في نظامنا اليومي، اشتريت غرفة نوم جديدة، وصبغت شعري بلون أشقر أظهرت له شخصية مرحة ومعاملة حميمة، تعلمت طهي بعض الأطباق التي يحبها، واحتويته بروح أم وبفنون عشيقة وتفاني زوجة، هذه الليلة تناول البيتزا الشهية التي أعددتها له مع عصير الليمون الطازج وشوربة البصل الفرنسية، وعلى ضوء الشموع انبثق ضوء خفاق من عينيه عبر عن إحساس كامن طالما ترقبته، فهمس بدفء صوته المتراخي.
((أحبك)).
بعدها دخل حجرة النوم بينما هممت لأعيد الأطباق إلى المطبخ وأنظف المائدة.
سمعته يناديني من الحجرة بلهفة المشتاق.
((خوختي))!
لاحت على وجهي ابتسامة النصر!

همسة:
((عندما يفقد الرجل إحساسه برجولته في البيت يبحث عن أخرى تحقق له هذا الإشباع)).











(5)


زوجة النائب


بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) (الروم/21).
مقدمة الزاوية:
بين الزوجين.. حبل موصول برحمة إلهية، مسكون بدفء فطري، احتياج غريزي، تناغم عاطفي، انتماء. قد يختلفان، يتباعدان، يتخاصمان، لكنهما برحمة الله ولطفه يعودان. هكذا كتب القدر الإلهي: توأمة خالدة، ذكر وأنثى، بهما ((يعتمر)) الكون.. لهما في كل حكاية موقف، ولنا في كل موقف عبرة.

زوجة النائب
بقلم: خولة القزويني
ثنائي الحلقة: مخلص / وداد
التقيته في إحدى الجمعيات الثقافية النسائية يلقي محاضرة حول حقوق المرأة السياسية، وقتها كنت ناشطة في هذا المجال وعضوة في هذه الجمعية، أعجبت بأفكاره التقدمية حول المرأة وحماسته التي أيقظت في داخلي مشاعر فاقت الوصف والخيال، فهو أستاذ في الجامعة متخصص في السياسات الدولية، شارك في المؤتمرات، وكان نجماً في المحافل الدولية، بعد كل ندوة يحضرها أو مقال يكتبه أبعث له الإيميلات الناقدة التي تستفز منابته فيرشح كل ما في داخله من قناعات استطعت اختراق قلبه فاعترف لي أنه معجب بشخصيتي وذكائي الحاد وأني الوحيدة من بنات حواء تغلغلت إلى وجدانه وعرفت كيف تفك رموزه!
تزوجنا..
وبدأت سلسلة من فصول العذاب والإحباط.
اكتشفت تناقضاته الكبيرة وأفكاره المتضاربة، حينما يحاول تطبيق نظرياته على أرض الواقع يشعر بمعاناة كبيرة داخله وصراعاً ذكورياً حامياً يدفعه إلى اتخاذ قرارات صادمة لتوقعاتي حتى آمنت أن هذه الجينات موروثة تمتزج في دم الرجل من إنسان العصر الحجري الذي كان يقطن الكهوف وحتى إنسان العصر الحاضر رغبته في السيطرة على أنثاه أمر فطري داخله.
وقد كان محط إعجاب النساء المستضعفات اللاتي قمعتهن الظروف الاجتماعية القاهرة وأوردتهن موارد الضعف والهوان، كل حرف كتبه وشعار رفعه يجسد أحلامهن الخابية، رشح نفسه في انتخابات مجلس الأمة بدعوة ملحة من نساء المنطقة ونجح نجاح ساحق..
ذلك هو زوجي (مخلص)
أما عن نفسي فأنا كاتبة في شؤون المرأة وشهرتي بلغت الآفاق فصوري تتصدر الصحف والمجلات وحضوري بارز في البرامج الثقافية على الفضائيات، بعد أن تزوجني مخلص انطفأ كل شيء داخلي بسبب القيود الشائكة التي يفرضها علي كلما هممت بممارسة أي نشاط.
اتصلت بي معدة برنامج في إحدى القنوات الفضائية لتستضيفني في ندوة يشاركني فيها مجموعة من المتخصصين في العلاقات الزوجية والأسرية، فاضطرني الأمر إلى السفر، سخر مخلص مني قائلاً:
((لم يبق في الدنيا غيرك فيلسوفاً في العلاقات الزوجية!)).
أحببته وفي داخلي انكسار رهيب
(إذا لم تقدر علمي فهم على الأقل يدركون حجم مكانتي)).
بامتعاض رد.
((كلام فاضي))
ابتلعت الغصة وأنا أكابد حياتي بمرارة وكل يوم تصدمني عقليته المتحجرة التي تتمحور على أنانية متأصلة فيه، كان ينتقدني بشكل جارح ويتابع خطواتي بقلق، فصرخت عليه ذات ظهيرة وأنا ألقي بالصحن من يدي غاضبة.
((أرجوك، بدأت أفقد ثقتي بنفسي، تعاملني كبلهاء ساذجة، ألست من آمنت بي وبعقليتي؟ ما بك اليوم وقد انقلبت إلى مخلوق جاحد، ناكر لهذه المزايا؟
برر..
((لأنك زوجتي ولا أحب أن تخالطي الرجال وحضورك المكثف مع هذه الحشود يزعجني)).
قلت وفي أعماقي يصرخ كائن مخنوق على وشك الانفجار.
((أرجوك أطلق سراحي إذن، فأنا أحب حياتي السابقة، كنت منتعشة، واثقة الخطى، مبتهجة أعيش طليقة، أراك تقول أشياء وتفعل نقيضها)).
وبكل هدوء يبرر:
((طبيعي أن أجامل في بعض المواقف)).
عنفته..
((يا لك من أفاق منافق)).
وأطلق قهقهة ساخرة في الهواء وهو ينفث دخان سيجارته، حينما أصبح نائب في البرلمان زادت غطرسته إذ كان يعود بعد كل جلسة محتقن الوجه، مرهقاً.. كنت أنتظره ليحاورني ويروي لي تفاصيل النقاش الذي دار بين النواب، لكنه يعود بفم مطبق وقلب مقفل أحاول استمالته وملاطفته ليكلمني، ليعبر لي عن أهميتي في حياته، ليعتبرني شريكة في فكره وهدفه، بكل صلافة واستخفاف يجتنب الخوض في هذا الحديث متعللاً بالصداع المزمن الذي يلازمه في كل جلسة وأن صحف الغد ستنشر وقائع الجلسة بالتفصيل.
استعطفته برقة:
((أنا زوجتك يا مخلص من حقي أن أفتخر كوني زوجة النائب وأول من تسمعه وأهم من يأخذ رأيه)).
صرخ مزعوجاً:
((وداد، وداد، أرجوك كفي فأنا في مزاج سيء اليوم)).
أعرف من سيماء وجهه أن ثمة حوار بين الأعضاء تركه بهذه النفسية المكفهرة.
صدقوني..
أحلامي كلها تحطمت على صخرة الواقع المرير، واكتشفت أن الرجال جميعهم كائنات مستبدة تستمد قوتها من اضطهاد النساء، وصلت قناعاتي إلى الحضيض، فبعد أن كنت أنادي بالمساواة بين الرجل والمرأة بدأت أعلن الحرب على جنس الرجال، فبدأت أكتب مقالات صارخة أناشد فيها الجمعيات النسائية بتشكيل قيادات سياسية تنافس الرجال وتدحض دجل المدعين، فالمرأة لابد أن تناهض من أجل أن تسترد كيانها وشخصيتها من قبضة الرجل.
حتى حدث ذلك الموقف الذي هز كياني وقلب أفكاري، كنت على وشك الخروج من مبنى الجريدة التي أكتب فيها فصادفت ((نورا)) السكرتيرة الخجولة ذات الوجه الهادئ تقف على ناصية الشارع مرتبكة.
لوحت بيدها فاقتربت منها أطلت من نافذة سيارتي باستحياء بان على وجهها المحمر:
((هل تستطيعين أستاذة وداد أن تقليني إلى بيتي فقد تعطلت سيارة زوجي)).
وفي طريقنا كنا ندردش في مسائل الحياة والعلاقات الزوجية، اكتشفت أن ((نورا)) سعيدة جدا وتحب زوجها ومستهامة به، فهما يتعاونان في أعمال البيت ويشتركان في مصروف الأسرة، وزوجها يدخل المطبخ في كثير من الأوقات ليعد العشاء إن كانت متعبة وقد تناوبا على تدريس الأولاد بكل حب واحترام، أحسست أن هناك لغة مشتركة بينهما عزز من رباطهما ووثق من دعائم بيتها، فحولهما إلى كيان واحد ينبض من قلبين من ذابا في بعضهما.
التفت إلى نورا وأنا أسخر بمرارة:
((زوجك شخص نادر في هذا الوجود!))
وبدهشة مغمسة بالخجل:
((عفوا أستاذتي، الرجل النادر هو الأستاذ مخلص عبدالله النائب الشجاع الذي نفتخر به جميعاً)).
كبحت لساني قل أن ينفلت مني الزمام، فأبوح بخلجاتي الدفينة.
والتقطت رأس الموضوع من جديد لأسألها.
((فعلاً أنا مبهورة كيف يفعل ذلك رجل في هذا الزمان يدخل المطبخ ويعد العشاء؟!)).
استطردت نورا وهي تتحرر من عباءة الخجل
((الإسلام كرّم المرأة وحفظ كيانها واحترم مشاعرها وحقوقها فهي ليست كائن مستعبد للرجل إنما نصفه الجميل وتوأمته الخالدة، وزوجي رجل متدين يخاف الله ويرعاني تمام الرعاية حتى أنني في العام الماضي أصبت بمرض أقعدني بالفراش أسابيع طويلة، فكان يحملني على ذراعيه ويأخذني إلى الحمام لأستحم، بل ويساعدني في ذلك ويرعاني بحنان ومحبة وهو يردد باستمرار هذا أقل الواجب يا عزيزتي، فأنت امرأة صالحة، إنه يداريني بامتنان وعرفان)).
سألتها وأنا ازدرد ريقي.
((ماذا يعمل زوجك؟)).
((طبيب أطفال)).
تنهدت وأنا أعظ نواجذي غيظاً كلما تراءت لي مواقف النائب المحترم المشينة!!
وقفت السيارة أمام بيت متواضع، كنت ألمح وجه شاب من وراء ستار النافذة، يبدو أنه كان يترقب زوجته بقلق.
غادرتني نورا ولكن في داخلي ثارت زوابع لا تستكين أو تهدأ إلا بالبحث عن الحقيقة، أدركت أنني أعيش في حالة تصادم مستمر مع ((مخلص)) ربما هي الضدية والندية، هل أعذره لأنه رجل وموقفه كزوج يختلف عن الأستاذ النائب؟! لِمَ لا أكون هادئة وسعيدة ومتصالحة مع نفسي كـ ((نورا)) ماذا أريد بعد كل هذه المعارك؟
خطأ كبير اقترفته عندما لهثت باندفاع وراء شعارات براقة، والتصدي لأفكار تزعم التقدمية؟ ربما لأني لم أفهم ديني تماماً وموقعي العظيم في منظومة الكون والخالق الذي كرمني بنظام شامل يكفل حقوقي كاملة بدءاً من نشأتي ذرة صغيرة في رحم أمي، وحتى الممات مدللة بحقوق سياسية واجتماعية واقتصادية، لِمَ كنت مغيبة عن رسالة الله ومنصهرة بهفوات إنسانية ناقصة، شعرت الآن بقناعاتي وهي تهتز، ماذا أعرف غير أن للذكر مثل حظ الأنثيين في مسألة الميراث، وشهادة رجل واحد تعادل شهادة امرأتين، إذا نست واحدة تذكرها الأخرى، والسؤال الذي اخترق عقلي الصخري وروض عنادي ((لماذا؟)) هذه الحقيقة المهمشة التي طمسناها بين طيات الكتب الصفراء واعتقدنا أننا متخلفون عن ركب الحضارة، شعرت بعطش إلى الكتابة، تركت فراشي وشخير زوجي هذه الليلة وجلست على مكتبي لأكتب مقالاً جديداً (من هو المسؤول عن ضلالنا)؟
وتناقلت المنتديات الثقافية مقالتي بالتحليل والنقد والتمحيص.
دخل زوجي البيت ظهرا، فانبرى يقول:
((مقالتك كانت حديث الرجال في الديوانيات)).
رفعت وجهي وأنا أحدق به طويلاً ثم أردفت
((أتدري يا مخلص أن مجمل ثقافتك التي درستها طوال السنوات الماضية بحاجة إلى إعادة نظر!)).
انتفض غاضباً
((كفي عن فلسفتك السمجة!))
تابعت بكل ثقة:
((لأنك لم تفهم المرأة تمام الفهم وهي الأقرب إليك بل كنت سبباً في تضليلها بشعاراتك المزيفة، مسكينة المرأة وقعت في فخ الثقافات المزدوجة وفي شرك المطامح الذاتية لبعض المدعين فانحرف ذهنها عن جادة الفطرة السليمة، تنخدع بشهاداتكم العليا التي نهلت من ثقافة الغرب وتلاقحت مع التقاليد البالية، فكان الناتج عقلية ملوثة.
انبهر
((لا أصدق ما تقولين! ألست من كانت تنادي بهذا الفكر المتحرر لسنوات وتحث المجتمع على اتباع نهج الغرب التقدمي، ما بك الآن وقد انحرفت بأفكارك؟)).
((أعترف أنني كنت مخطئة بل وضالة والفضل يعود إليك، صدمتي بك أيقظتني وغربلت فكري، فعدت لأقرأ من جديد وأعيد حساباتي وأجالس العلماء والفقهاء والمفكرين وأحاورهم من أجل أن أصل إلى الحقيقة، هؤلاء الصامتين الذين يستنبطون الحقائق الأصلية بعيداً عن الزيف والادعاء أفضل من تلك الإعلانات النارية التي تحرق نفسها مع كل موقف صادم.
ولأول مرة يقول بجدية وقد صعقته هذه الأفكار.
((ربما كان ينقصنا الكثير من المعرفة في هذا الأمر)).
انشغالي بهذه القضية ((البحث عن ذاتي)) امتص كل غضبي وأسكن غيظي، فعاد السلام يرفرف على حياتنا وقررت أن أبدأ الرحلة من جديد.
أنا من سأغيّر مخلص وألقنه درساً حقيقياً ليؤمن أن المرأة التي أمامه ذات روح قوية وإرادة صلبة وفكر أصيل، حقاً سيتأثر ويعيد النظر في آرائه فحقوقي هبة من عند الباري عز وجل وإيماني بها يعبر عن أصالة شخصيتي وتميزي عن باقي نساء الأرض.


همسة:
المرأة الحكيمة هي التي تتمتع بكامل حقوقها دون أن تتصادم مع الآخرين














(6)







وثالثنا الشيطان!


بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) (الروم/21).
مقدمة الزاوية:
بين الزوجين.. حبل موصول برحمة إلهية، مسكون بدفء فطري، احتياج غريزي، تناغم عاطفي، انتماء. قد يختلفان، يتباعدان، يتخاصمان، لكنهما برحمة الله ولطفه يعودان. هكذا كتب القدر الإلهي: توأمة خالدة، ذكر وأنثى، بهما ((يعتمر)) الكون.. لهما في كل حكاية موقف، ولنا في كل موقف عبرة.
وثالثنا الشيطان!
بقلم: خولة القزويني
ثنائي الحلقة: " سعيد وأمل "
قد تظنون للوهلة الأولى أن هناك رجس ملوث ودنس ملطخ بالإثم قد وقع بين امرأة ورجل في خلوة محرمة بضيافة شيطانية حافلة، فالشيطان له فنون مبتكرة في الغواية يستطيع عن طريق أحابيله الناعمة أن يستدرجنا إلى الوحل الذي خيل لنا أنه جنة السعادة.
شريكتي هنا، ليست حبيبة أو عشيقة استحوذت على مشاعري فنفذ سهم إبليس من مكمن عينيها الفتاكتين إلى قلبي حتى صرعتني في هواها فما عادت لي قدرة إلا أن استسلم لشيطانها القاهر، بل زوجتي التي استغرقها الشيطان إلى حد كانت تتحدث بلسانه وتبصر بعينيه وتفعل بيده، مؤلم أن اكتشف جنونها في السنة السابعة وسألت نفسي مرات عدة: لِمَ هي السابعة؟! ولم تكن مصادفة أو ظن بل حقيقة اكتشفها العلم لأنها المحك لقوة ا لعلاقة الزوجية أو ضعفها وهنا تبدأ وتيرة الزواج بالتغير حيث يدب الملل في قلب الزوجين ويشيب مشاعرهما بعضاً من الفتور، لكن بعض المنعطفات القاسية تستفز الحب من المنابت فيرشح نداوة جديدة ترطب القلب وتسمح للعاطفة بالتدفق المدرار.
ورغم كل الظروف والملابسات أحب زوجتي ((أمل)) وأبحث معها دوماً عن مساحة اتفاق مريحة وقواسم مشتركة تسمح لسفينة زواجنا أن تسير سيراً هادئاً وآمناً، لكن شيطانها المشاكس لا يسمح لعواصفها أن تهدأ، بل إنه يحشر أنفه في أدق تفاصيل خواطرها، فما أن نجتمع معاً حتى يباشر في غزل شرنقة خانقة تقفل على نفسها فما تسمح لأية نسمة عقلانية أن تتسلل إليها، في داخلها تعشعش الوساوس وتضطرب الهواجس، دائماً تصرّح وبمنتهى اليقين.
((أنت لا تحبني)).
اقتربت منها متودداً فإذا بها معرضة تنهرني بشدة.
((لست أداة للمتعة!)).
مندهش
((أنت زوجتي وهذا حقي الشرعي)).
تصدني
((لست أنا الباعثة على رغبتك)).
شعرت بالخيبة
((لِماَ تقولين ذلك؟)).
تسخر مني:
((أقول ذلك متأكدة لأنك تأتيني محملاً بصور الإثارة من هنا وهناك فإذا بي مجرد أداة للتنفيس)).
((هذه أفكار دخيلة عليك)).
صرخت معنفة:
((هذا هو واقع الحال، بدأت أشعر بالقرف منك، فكم من المرات ضبطت انفعالاتك وأنت مستغرق في بعض المشاهد)).
صرخت مدهوشاً:
((أية مشاهد؟ وأية صور؟ ما هذا الهراء؟)).
((كنت أحس بك متأثراً إلى درجة الغياب!!)).
سألتها متهكماً:
((وكيف عرفت ذلك؟ وما هي الأعراض؟!)).
بجدية تصرّح:
((حالتك كانت تشي بذلك، لونك، نظرة عينيك، رد فعلك المباشر ناحيتي، لم تعد لي قيمة عندك، أحسست أني منطفئة، لم تعد لي تلك الجاذبية التي تثير فيك المشاعر وتوقد في قلبك ذلك الميل المحبب إلى نفسي، في بداية زواجنا كنت مفعماً بالحب والاندفاع المحموم، كنت ألتقط إشاراتك عن بعد، في الفترة الأخيرة نضب منك ذلك التوق المثير وكأن كل شيء فيك خمد ناحيتي)).
سألتها وأنا أغلي غضباً:
((افترضي إني تأثرت بهذه الصور المغرية والمشاهد المثيرة فما هو دورك إذن؟!)).
تفاجئت بثورتها العارمة وصوتها يتهدج غيظاً:
((إذن تعترف بكل وقاحة، لقد حدس ظني، وكرامتي تأبى عليّ أن أكون مجرد وعاء فأية حمقاء بليدة المشاعر تقبل هذا الزيف)).
نهرتها بشدة:
((هذه وساوس مريضة وشكوك شيطانية ستدمر علاقتنا حتماً، لِماَ تتهربين مني كلما توددت لك؟! فما عدنا نخرج من خلوتنا الشرعية إلا بشجار وخصام، ما الذي حدث؟! ماذا دهاك؟! لم تكوني هكذا من قبل!)).
عادت تقول:
((أنا كما أنا، بل أنت الذي تغيرت، لم تعد تحبني، كل شيء صار عندك عبئاً ثقيلاً، كواجب وإلزام، أين ((سعيد)) أيام زمان حينما كان يفاجئني بالزهور الحمراء والكلام العذب والعناق الدافئ أحسستُ بك تنسلخ عن جلدك، فإذا بك شخصاً بارد المشاعر فاتر الإحساس وتابعت وهي مازالت غضبى:
هل تذكر البارحة؟ عندما كنا في المجمع التجاري لأشتري بعض الثياب، لعلك لم تنس المرأة الأجنبية التي خطرت أمام المحل كانت ترتدي الجينز الضيق والتيشرت الساخن لاحظتك تلحقها بنظرات الإعجاب كنت أتخفى عنك لأراقبك وأرصد إحساسك في غياب عيني، كانت كل ذرة فيك ذائبة في فتنتها، توقدت فيك رغبة جرحتني من الأعماق وألمتني بشدة)).
صدقوني لم أذكر هذه المرأة المعنية ففي المجمع التجاري حشد كبير من النساء والفتيات الكاسيات العاريات اللاتي اعتدنا على رؤيتهن فلم يكن هناك أي شيء مبهر يستحق الذكر.
ضحكت مستخفاً بكلامها وحماقتها المرهقة لأعصابي، فقهقهت ملء فمي لأخفف حدة التوتر بينما كانت تحتقن وتغضب.
((اضحك ما شئت فهل تظن نفسك شاباً يافعاً))
وأقهقه وتمضي في سخريتها:
((لقد اشتعل رأسك شيباً فلم تعد تثير في نفوس البنات سوى الاشمئزاز)).
وأصر على قهقهتي لأغيظها فإذا بي أنجح رغم كل سهامها الجارحة في صميم كرامتي..
((احترم نفسك واحترم سنك واكبح رادار عينيك الأرعن)).
وهبت خارجة كعاصفة هوجاء وأنا بقيت لوحدي أتساءل في حيرة: ((أليست هذه المرأة مريضة؟! هل هناك شيء يستدعي كل هذا الشجار السخيف؟! وأحسست بالمهانة لأني أعود بعد كل خلاف مجروحاً، متهماً، تصدني بقسوة وإذلال في لحظة لقاءنا الحميم تحت مسوغات مشوهة تنم عن باطن قبيح)).
انسحبت إلى كهف الصمت أتضور من ألم الجراح والكرامة المباحة على مذبح شكوكها، أحسست أن في داخلي قلب مشروخ لا يكاد يلتئم طالما هي معرضة، نافرة، ووجدت أن بعدي عنها لفترة طويلة أجدى في رأب الصدع.
وبقينا في فضاء مفتوح وحالة معلقة إذ لابد أن ينتهي الوضع إلى نتيجة مقنعة وحاسمة، أيام تمر وهي معرضة وأنا صامد لا أبادرها بالصلح، بل كنت قد خططت لهجرها فترة طويلة كنوع من التأديب، فقد انطفأت رغبتي ناحيتها ولم أعد أجد فيها ذلك الدفء الوثير، فعيناها حفرتان من الشر المستطير تتعقباني كجلاد ظالم قد تركت شكوكها المريضة جرحاً بالغاً في قلبي لأنها لم تثق بي مطلقاً وأنها حينما أعطتني نفسها يوماً كانت ترتاب في مشاعري ناحيتها، بل وتصر أنني لا أحبها وأن في داخلي مجرم يتصيد النساء ويأسرهن في عالمه الداخلي ويعيش مع كل واحدة منهن قصة غرام ملتهبة ولهذا يعود لزوجته وقد أنهكته هذه المغامرات!! هذه المرأة مجنونة حتماً تحتاج إلى معالج نفسي ينتزع من صدرها أشواك الشك والغيرة.
فكرت مراراً في وضعنا المضطرب كيف أرممه وأنتشله من الضياع هل من حيلة؟ هل من علاج ناجع؟ أنا قلق عليها أخشى أن تغرق في بئرها المعتم وتدمرها الأفكار السوداوية.
اتصلت بشقيقتي ((هالة)) التي تكبرني بخمس سنوات والتي لها خصوصية في قلبي تجعلني أطمئن لها وأصارحها بهمومي ومشاكلي فهي التي خطبت لي أمل وانتقتها من دون البنات، صارحت هالة بكل مخاوفي وقلقي وكانت هي حبل الوصل بيني وبين ((أمل)) تلك المشاكسة التي تمادت في غيها وضلالها فلم تعد تصغي لصوت العقل ونداء الضمير بل عملت بكل إصرار على تهميشي وتحويل البيت إلى مقبرة موحشة يلفها الصمت الكئيب.
أصارحكم..
شعرت بفراغ عاطفي كبير، فلست أنا من النوع الذي يبحث عن مبررات نزوة تمتص طاقتي الفائضة، أو دافع لزواج ثاني، إنما كنت بحاجة كبيرة إلى ((امرأة)) إلى صوت حنون وصدر مفعم بالرحمة وقلب مترع بالطيبة، فالخيبة تحفر في أعماقي جرحاً غائراً أخذ يتأزم يوماً بعد آخر خصوصاً مع تصلب موقفها كنت ألاطفها بدعابات شاعرية لكنها تجفل منزعجة، أبعث لها مسجات غزل تنفر، أيقنت في النهاية أنها امرأة محنطة العاطفة، تملكني الغضب خصوصاً عندما عادت شقيقتي هالة خالية الوفاض قد خاب سعيها في الصلح قائلة لي:
((إن شكوكها في محلها، فقد قرأت في بعض الأيام مسجات غزل من امرأة مجهولة، حاولت أن تكظم غيظها لكنها بذرة انغرست فيها فأينعت الشك والقلق)).
تحدجني ((هالة)) بنظرات مريبة تسأل:
((صارحني يا أخي فربما كان غضبها في محله)).
كنت في حينها أنفخ من جوفي المحترق أبخرة الغضب فإذا بها ألسن لهب متصاعدة في دماغي تلتهم كل ما تبقى لي من عقل، تقت إلى صفعها مرات عدة لتفق من غيها، تراجعت هالة مذعورة وهي تحدق بعيني المحملقتان بالشر فقلت:
((هذا اتهام صريح وجريمة تستحق العقاب لأني لم أعرف في حياتي أية امرأة سواها)).
سألتني هالة مقاطعة:
((والمسجات لمن؟)).
((ربما جاءتني خطأ، صدقيني لست مضطراً للكذب)).
نفضت ((هالة)) يديها معلنة عجزها عن لمّ الشمل.
في هذا المنعطف شعرت بالتغيير، نبت في داخلي غرس جديد ونما حتى استحوذ عقلي، حدثت نفسي هذه الليلة وأنا أشاهد فيلماً رومانسياً وأخص البطلة بذائقة فاحصة، كانت صحافية مشهورة أحبت طبيباً ناجحاً قد توفت زوجته وله مجموعة من الأولاد في أعمار مختلفة، أعجبت بالبطلة وأنا غير مدرك لخبيئة نفسي هل هو إعجاب في موقفها النبيل حينما تركت ذلك المجد من أجل حبها للرجل وتفانيها فيه واستحضر موقف زوجتي المشوه وهي تغرق في وحل أنانيتها وعنادها فتتداعى أمامي الصور في مقارنات قاسية، أم تلك الملامح الهرمة عبرت عن باطن فتي وعينان نشيطتان ينضح من بريقهما السحر، وطفت في فضاء الخيال أحدث نفسي، ماذا يمكن أن تقدم لي امرأة داخل شاشة التلفزيون وما تأثيرها عليّ؟! كان وضعي النفسي غير مستقر وربما ارتفع منسوب هرمون التستسترون أفقدني حالة التوازن، شعرت بنوع من الاضطراب وأنا أقلب وجوه النساء على الشاشة وأتذكر نقد زوجتي واتهامها الصريح وأربأ بنفسي أن أغمرها بهذا الزخم من الخواطر فكل شاكلة من النساء تخلق عندي حالة من الانفعال لست من ذلك النوع الذي يتقصى محاسنهن بمنظور ذكوري بحت، انغمرت في غربال من الأفكار المتضاربة فشطت عيناي بعيداً عن الفيلم وتشتت ذهني أقفلت جهاز التلفزيون وتمددت على سريري أستعيد شريط حياتي الزوجية، وأشعر أن مساحة الفراغ تكبر فإذا بالحياة جرداء قاحلة لا طعم لها ولا لون، أحس بالحنين لأنثى مبهمة لكيان ضائع غير محدد الملامح توق فطري للتلاحم الجسدي والنفسي، فسنوات من عمري انقضت وأنا في وجود امرأة تلتف حولي وبجانبي وبين عيني تكيفت مع شهدها ومرارتها، كانت تتناغم معي في لحظات التكامل الروحي والعاطفي، الآن انسل من جنباتي ذلك الدفء الرتيب فإذا بالبرودة تغزو مساحاتي وتستقر حتى أطراف أصابعي فتعم الفوضى حياتي، أخرج صباحاً دون فطور أو حتى فنجان قهوة ينعش مزاجي، أضطر لشراء الساندويتش وأنا في طريقي إلى العمل ثم أعود إلى نفس المطعم ظهراً لأشتري وجبة الغداء.
مرضت وأسقطتني الحمى في الفراش أياماً ولم تجد المضادات الحيوية نفعاً في درء هذه العوارض المتأزمة فكان الطبيب يستبدلها بمضاد آخر حتى عزى حالتي إلى وهني النفسي وقلقي الذي أكابده، رق قلب زوجتي ولان رأسها فجاءتني مكفهرة الوجه، عابسة المحيا قلت لها وأنا غارق في ضباب الحمى وقد خفت صوتي إلى حد الانكسار:
((تعوذي من الشيطان فما هذه إلا وساوس إبليس)).
بامتعاض ترد وقد جف الحنان من نبرتها.
((أرجوك اقفل هذه السيرة)).
في هذه الأثناء دق جرس الباب فإذا بالخادمة تأتيني باشة وهي تحمل باقة ورد كبيرة.
بفزع هستيري أخذت ((أمل)) الكارت وهي تقرأ بصوت عالٍ.
((سلامتك... الدوام من غيرك ظلام))
((نهلة))
رمت أمل الكارت على الأرض وخرجت غاضبة تهذر بكلام غير مسموع لكني استرق السمع إلى بعض كلماتها تأتيني مدوية في رأسي كطلق ناري ((خائن، خائن، مخادع)).
نسيت الحمى، نسيت المرض والخيانة وأمل والمشكلة برمتها تذكرت أمراً واحداً وأنا أتفحص باقة الورد المبهجة ((نهلة)) تلك الشابة اليافعة التي انتقلت إلى قسمنا الجديد في الوزارة، لم أفطن لها مطلقاً، فهي مجرد زميلة لي في العمل، كانت تتذرع بالحجج لتسألني في بعض جزئيات العمل بحكم خبرتي المتواضعة، قبل يومين قدمت لي قطعة من الكيك قائلة في حياء جميل ((تفضل إنها من صنع يدي)) لم أنتبه واقعاً إلى مواقفها المتوددة، ظننت أنها خصتني باحترام متميز لأني أكبرها بسنوات طويلة، فقد نسيت أن أخبركم أنني على مشارف الأربعين وزوجتي تغنجني باستمرار بـ ((الشايب))! الآن وقفت أتفحص نهلة بعينين مدركتين واستحضر بعض المشاهد التي جمعتني بها في الأيام الماضية وأربط المقدمات بالنتائج وأرتب الأحداث بشكل منطقي لأكتشف أن لي عندها خطوة خاصة عندها، فكلماتها وغمزها المتقصد فيه إثارة انتباهي، نظراتها الولهى خصوصاً عندما أطلب منها تجهيز بعض الملفات كانت تستجيب بخضوع حميم رطّب كلماتها بنداوة عجيبة ((على أمرك)) ((يشرفني خدمتك))، وصادفتها ذات مرة تتحدث بميوعة وهي تغمز مرددة عبر هاتفها النقال رقمها للطرف الآخر وبصوت مسموع وبإشارة ((إياك أعني واسمعي يا جارة)).
انتعش قلبي، وانحسرت حرارتي من كامل جسدي، ربما ارتفاع منسوب المعنويات كان أفتك في قتل الميكروب من المضاد الحيوي شغلت هذه الفتاة تفكيري وكأني عدت مراهقاً حيوياً يقفز بخطوات غزال رشيق، بخفة وتهافت بمرح وانشراح ووجدتني هذه الليلة أنسى توصيات الطبيب وأقرر قطع إجازتي وأستيقظ في وقت مبكر جداً، أرتدي دشداشتي النظيفة المكوية بشكل موسوس وأهذب شعري وأتعطر ثم أنطلق لألحق بحلمي المنتظر، لا أدري لِماَ أحسست أن الدنيا أجمل من قبل وأن في جوفي قلب يغرد بألحان شادية وروحي هائمة كفراشة هفهافة على مروج خضراء، وهذا الكون عذب في إطلالته المشرقة إذ تبتسم لي شمس هذا الصباح وتفرش ضوءها الممراج عل دربي الزاهر.
((نهلة)) شابة عشرينية، قمحية اللون، ملفوفة القد، مائلة للقصر، استقبلتني بمحياها الطلق وعذب لسانها، في حفاوة تقطر شوقاً ((حمداً لله على سلامتك، نوّرت المكتب)).
شئت أن أعبر لها عن مكنون قلبي، وإحساسي بالإمتنان، لكني ترددت، انعقد لساني أمام جحافل عواطفها الباذخة إذ أحسست أنها تفيض رقة، تثرثر تلك الثرثرة الأنثوية المتناغمة مع بحة صوتها الرخيم، ثرثرة مريحة أحياناً للرجل الجاد المتصلب فهي برغم تفاهتها لها مفعول حيوي في قلبه إذ تبدو كالماء المنساب بين الصخور، تطري جوفه القاحل.
((هل أعجبك الورد؟)).
((ما رأيك في ذوقي)).
((كنت أشعر بالضيق في غيابك)).
((واجهتني مشكلة)).
((حاولت الاتصال لأتفقدك لكني خجلت)).
((يا إلهي ماذا دهاني كيف أصرح بكل هذه الأشياء دون حساب؟!!)).
وأسمع بأذني وأصغى بقلبي وكأني أبحر في نهر من المشاعر التي تساقطت كرذاذ على قلبي المتعطش وأبصر في عينيها الفتيتين ذلك الرونق الخفاق الذي شف عن أعماق طيبة وروح حانية.
فانفرجت عن أساريري ابتسامة استرخت على وجهي بعد غياب طويل، عبرت لها باقتضاب من يخشى على هذه العاطفة الهادرة أن تنزلق به إلى هاوية لا قرار لها.
((أنت رائعة وذوقك جميل)).
خرجت ملتفة بحياءها الجميل وعذوبة بسمتها ولبثت في ضيافة حنانها الأمومي المنهمر مع لفتاتها الساكنة المتناثرة كندى الصباح من أطرافها الرشيقة، عادت لي بكوب من الشاي وساندويتش وضعتهما أمامي قائلة:
((يبدو أنك لم تفطر هذا الصباح؟))
اندهشت كيف حدست ذلك سألتها وقالت:
((أعرف ذلك من صوتك، إذ تبدو أحبالك الصوتية محتقنة)).
كنت أتمنى لو أمكث فترة أطول في المكتب، معزز، مدلل، تقف هذه الغادة الفتية قربي ترعاني وتنعش برذاذها البارد روحي الصادئة ونفسي الظامئة.
انقلبت حياتي إلى النقيض فكنت أواصل الليل بالنهار كاداً، عاملاً نشطاً كأني شخص جديد قد تعبأ كيانه بطاقة وحيوية غير عادية خصوصاً عندما شاركتني ((نهلة)) بلجنة مساءاً تضطرنا إلى اللقاء باستمرار لإدارة مشروع وعمل دراسة بصددها.
غيرت مزاجي المكتئب إلى آخر منشرح يتوق إلى العمل دون كلل أو ملل إذ كانت نوارة عمري تشرق في عتمة أيامي قمراً فاستكانت روحي واسترخت أوصالي حتى أني لم أعد أرى غيرها من النساء ولم تستطع أي أنثى مهما بلغت من الجمال والفتنة أن تهز وتراً من مشاعري، هناك إحساس وافر بالشبع والاستقرار، لم أعد قادراً عن الاستغناء عنها، طلبتها للزواج وبعثت شقيقتي لخطبتها وهنا كانت الطامة.
((شرط أهلها أن أطلق زوجتي)).
وفكرت في هذه المعادلة وحسبتها حسبة منطقية، طالما زوجتي صادة ونافرة لِماَ لا أسرحها بإحسان إذ كان لابد أن نضع حداً لهذا الوضع المعلق.
وحدثت المواجهة الأعنف..
جاءتني ((أمل)) ثائرة قد نسفت كل حواجز الصمت، باكية نادبة، صارخة، منتفضة.
((أتريد أن تتزوج عليّ؟!)).
سقطت على الأرض جزعة، يائسة، واستأنفت:
((هل تعاقبني لأني أحبك؟!!)).
كان لابد أن أتخذ موقفاً حازماً هذه المرة، قلت لها وكأني أطعنها بالسكين.
((خير لنا أن ننفصل!)).
حدقت بي في انبهار شلّ كل محاولاتي في التبرير ثم صرخت بأعنف طاقتها.
((لا.. لا.. أرفض الطلاق)).
تسمرت في مكاني مذهولاً فما يحدث أمامي الآن مشهد مناقض لبرودها وإهمالها.
انهارت أعصابها فاضطررت إلى معالجتها عند طبيب نفساني بعد أن اكتنفتها حالة من الاكتئاب وانتهبتها على أثر ذلك أمراض عدة وآلام جسدية مختلفة جعلتني في حالة استنفار وتأهب لأي طارئ يطرأ على صحتها وكان آخر عارض شعورها بشلل في ساقيها وكل طبيب كان يقدم لي تقريراً مفصلاً عن حالتها مع تأنيب جارح يقرع في أعصابي بألم ((المدام متأزمة نفسياً وحالتها ليست عضوية)).
في غمرة هذه المشكلة نسيت ((نهلة)) وهذا الربيع العارض في حياتي، إذ راحت أمل تتابع اتصالاتي وتراقب المسجات الواردة والصادرة بتوجس وشك وضربت حولي حصاراً من الجواسيس، ضقت ذرعاً بتعقيد الأمور وأكلتنني الآلام ونخرت في قلبي نزفاً لا يندمل فما عادت روحي تحتمل إذ قتلت داخلي كل تلك الأحاسيس الوليدة، بينما ((نهلة)) أخذت تبتعد عني بالتدريج لأني كنت مشغولاً بمرض زوجتي وأحاول قدر استطاعتي إحاطتها بسياج من الأمان والطمأنينة كي تعود إلى صحتها النفسية وتباشر إدارة البيت ورعاية الأولاد، وتلح ((نهلة)) بالاتصال المتكرر وأنا في دوامتي مضطرباً، مرتبكاً، فاضطررت إلى تجاهلها وعدم الرد على رسائلها، وفي انغماري الكئيب يأتيني منها مسج أخير قطع آخر خيوط الوصل بيننا.
((الوداع..
فقد انتهى كل شيء بيننا)).
حاولت رأب الصدع ولملمة خيوطي المبعثر لكن قبضتي المسترخية على الزمام أفلت كل شيء وحملني خسارات فادحة.
علمت فيما بعد أن ((نهلة)) تزوجت وتركت الوظيفة وبدأت أقنع نفسي أنها ما كانت في حياتي إلا نزوة شهية وفصل جميل قد أنعشني في أيام عجاف، ولم أجد أمامي سوى زوجتي التي تيقنت كم أنا صبور وحليم في محنتها بل أدركت من جانبي أيضاً أن الحقيقة تفرض نفسها والزواج يعني الواقعية التي تعني الثبات والرسوخ بمقتضى الاعتبارات الاجتماعية.
بعد أن تعافت ((أمل)) أحسست بها أكثر ليناً وعطفاً فعادت تسألني ذات السؤال:
((لِماَ تغيرت يا سعيد؟))
وهنا جازفت في سؤالي المضاد:
((وما الذي حدث منك لأتغير؟!)).
حدجتني بنظرة مشدوهة.
انبريت أدافع عن موقفي:
((النفس مجبولة على حب من يحبها ويرعاها ويحنو عليها، مع السنين أهملتيني وأهملت نفسك وقد نبهتك لأكثر من مرة أن المرأة هي الأقوى في استثارة مشاعر الرجل وهي من تتحكم بزمام الأمور، في الماضي كنت فراشة مستاهمة تتهافتين برشاقة وحنان يذكي أشواقي وكلما وقعت عيناي عليك أجد لجمالك لون وطعم متجدد، يتضوع منك عبير خلاب يستحوذ على كل مشاعري فكانت مساماتي تشرب من رحيقك وتنتعش فلم تعد لعيني ذلك الإبهار في أية امرأة، توقدك العاطفي ألهب إحساسي برغبة ضاربة لا تهدأ، بيد أنك انحدرت ذلك الانحدار السلبي، وإذا بهذا الجمال الرائق يتعكّر مع الصراخ والغضب والضغوط، تباغتيني بوجه عابس وثياب تعطي لجسدك حجماً متضخماً وأنا أتراجع دون وعي إلى حالة الانكماش حتى التوحد في قوقعة جليدية وأبتغي من هدوء البيت والأولاد قواسم مشتركة تثبت من دعائم رباطنا الزوجي عوضاً عن تلك الاستثارات العاطفية المؤججة للمشاعر ولهذا لم أقصد إهمالك أو تجاهلك)).
بدت تفكر وأظنها تستعرض خيباتها المتلاحقة في استجلاب قلبي لكنها بررت:
((لِمَ لا تصارحني؟ لِمَ لا تعبّر لي عن كل مضايقاتك بطريقة واضحة كنت أجدك سلبياً، منسحباً، منطوياً، تجلس أمام شاشة التلفزيون وبيدك الريموت كونترول، تقلب القنوات بزهق، ترفض محادثتي، محاورتي، ترفض أن تسمعني، بل لا تتفاعل معي، وما ظنك بي وقد تضاعفت مسؤولياتي تماماً فأنا موظفة وأم لأربعة أولاد، أدير شؤون البيت لوحدي وبحزم وصبر ووقتي لا يسمح لي أن أعود كما كنت أميرتك العاشقة، وأنا من أدرس الأولاد، وأطبخ وأرعاهم وأنت منغمس في عالمك الذاتي بأنانية قاسية)).
تراجعت، أدركت أن حكمي كان جائراً وجارحاً فابتسمت لها قائلاً:
((معك حق، بل وكل الحق)).
وتابعت وكأنها تنفجر:
((ساعدني في شؤون البيت ليخف الضغط عليّ قليلاً، لأخصص لي مساحة أتوحد فيها بنفسي، أمارس الرياضة، أعتني بجمالي، أسترد عافيتي النفسية كي أعود لك مبتهجة، ندية أنت تعرف كم أحبك بل أحبك بجنون لكن ضغوط الحياة امتصت رحيق نضارتي وتركتني ذابلة، أحتاج إلى دعمك إلى حنانك وحبك كي تعود لي حيويتي فأنتعش من جديد)).
وهنا طرأت في ذهني فكرة كومضة سريعة ألهمتني إياها تلك المصارحة الشفافة فقلت:
((ما رأيك لو نسافر إلى لبنان هذا الأسبوع لنجدد مشاعرنا وأيامنا الذاوية فنعود كما كنا في غضاضة السنين الأولى)).
افتر عن ثغرها ابتسامة مشرقة:
((صدقني كنت سأبادرك بنفس الفكرة، حمداً لله أن كان توارد خواطرنا دليلٌ على متانة وصلنا ورسوخ زواجنا)).
صدقوني..
بعد أن عدنا من شهر العسل ((عفواً أيام العسل))، استعاد قلبينا النشاط العاطفي السابق وتألقت روحينا من جديد والأهم من كل هذا تركنا الشيطان مدبراً دون رجعة.

همسة:
تزين المرأة وتطيبها لزوجها من أقوى أسباب الألفة والمحبة بينهما وعدم الكراهة والنفرة

 
 

 

عرض البوم صور اقدار   رد مع اقتباس

قديم 19-10-08, 09:04 AM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
أميرة الرومنسية



البيانات
التسجيل: May 2007
العضوية: 29213
المشاركات: 2,295
الجنس أنثى
معدل التقييم: اقدار عضو على طريق الابداعاقدار عضو على طريق الابداعاقدار عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 250

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
اقدار غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : اقدار المنتدى : القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
افتراضي

 




تابع ..







(7)




ست الحسن





اسم الزاوية : (( بيني وبينك حكاية ))
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) (الروم/21).
مقدمة الزاوية:
بين الزوجين.. حبل موصول برحمة إلهية، مسكون بدفء فطري، احتياج غريزي، تناغم عاطفي، انتماء. قد يختلفان، يتباعدان، يتخاصمان، لكنهما برحمة الله ولطفه يعودان. هكذا كتب القدر الإلهي: توأمة خالدة، ذكر وأنثى، بهما ((يعتمر)) الكون.. لهما في كل حكاية موقف، ولنا في كل موقف عبرة.
ست الحسن
بقلم: خولة القزويني
ثنائي الحلقة: ( ريم / حازم )
عندما قررت أن أتزوج فكرت في امرأة خرافية الحسن، فلم تكن ذائقتي متواضعة إلى حد أن أقبل زوجة بمقاييس جمالية عادية، حتى أني بت مثار استهزاء وسخرية من أقرب الناس لي، فثمة من قائل إني مغرور وأحمق ولم أعبأ بكل هذه النعوت طالما كنت مؤمناً بقناعاتي، وبررت أني أبحث عن هذه الحسناء لأغض بصري عن كل نساء الأرض طالما أعيش في وفرة محاسن تشبعني كرجل.
كانت والدتي تقطع الدروب وتنهب الطرقات بحثاً عن ضالتي هذه وتعود بأكداس من الإحباطات والخيبات، تعنّفني ساخرة وهي تضرب كفّاً بأخرى ((لم نعثر بعد على ست الحسن))، وكان أبي يتهكّم بمرارة يائس ((قدّم طلباً إلى إحدى قنوات الفضاء وانتظر الرد)).
كنت أريدها فارعة كعارضات الأزياء ولن أتنازل عن المتر والسبعين سانتي وبوزن سبع وخمسين كيلو غرام وذات عيون ملونة وشعر أشقر طويل ويهمني لون البشرة فالأبيض هو لوني المفضل ربما لأني درست في أمريكا استسغت الشقراوات وتبلورت ذائقتي وفق هذا النوع من الجمال، فبنات بلدي مصنفات بأوصاف متشابهة وعادية ولن يثرن اهتمامي أبداً وحدها الشقراء شهلاء العيون من ستتميز عنهن وستكون محط إعجابي.
عجزت أمي بعد أن أعياها البحث قائلة: ((لا توجد فتاة بهذه المواصفات، لابد أن تتنازل عن بعض الشروط قد نجدها شقراء لكنها قصيرة، وقد نجدها فارعة نحيفة بيد أنها سمراء، لما أنت متشدد بهذا الشكل ومتزمت في هذه المقاييس أخشى يا ولدي أن تبدد عمرك في هذه الأوهام فتضيع عليك الفرص الجيدة)).
ويأبى عليّ ذوقي أن يتنازل قيد أنملة، تصبرت وجاهدت وكافحت حتى عثرت عليها صدفة، كنت ذاهباً ذلك الصباح إلى إحدى المصارف المالية لإجراء معاملة عاجلة لمحتها جالسة خلف القاطع الزجاجي استطال عنقها بشكل ملفت، بدت طويلة، نحيفة، مشرقة، متألقة كنجمة سينما، دنوت منها لإجراء المعاملة، ابتسمت لي تلك الابتسامة التي تسقط رهبة الموقف وتحتوي مسافة التلاقي، تلصّصت على اسمها عبر البطاقة المعلقة على قميصها واحتفظت بالاسم غيباً وجنّدت على الفور مخابراتي السرية كي أستجمع كافة المعلومات عنها، وعرفت أن أمها إنجليزية، تخرجت لتوها من جامعة بريطانيا لتباشر عملها في البنك، عزباء، انطوائية، لا تخرج عن محيطه العائلي المحفوف فخير لي أن أصطاد هذه الغزالة قبل أن يسبقني أحد إليها.
استعدت أمي وبعض نساء العائلة لخطبتها، وكانت المشكلة في أمها التي لا تجيد التحدث بالعربية فاستعنت بابنة خالتي لتباشر مشروع الخطبة وذلك لأني وحيد الأسرة ليس لي أخ أو أخت.
كانت ((ريم)) تعيش في وسط عائلي بسيط جداً وعلى ما يبدو هي الابنة الوحيدة، تمّت الموافقة دون تعقيد لأني عرّيس لقطة فعائلتي ميسورة الحال، وأنا مهندس مدني ووسيم كنت ولازلت حلم العذارى الجميلات.
في فترة الخطبة وتجهيز لوازم الفرح كنت أتردد على ((ريم)) لم أذهب راجلاً بل طائراً في فضاء الشوق والهيام تطيّبت بأزكى العطور وتهندمت بأغلى ما عندي من ثياب، أستغل في الغالب أيام الإجازات لأقضي معها صباحات منعشة وأجاذبها عذب الأحاديث وكل ما يخص مستقبلنا المنتظر وأيامنا المرتقبة.
وكعادتي أضرب جرس الباب وأظل واقفاً لفترة طويلة بانتظار الخادمة تهلّ علي بوجهها الرحيم لتدخلني إلى الصالون أقول لها محبطاً:
((أيقظي سيدتك ((ريم)) ))
تذهب للحظات ثم تعود لتلقي عليّ نظرة إشفاق وبصوت خافت
((نائمة))!
أبقى رابضاً في مكاني وأعود لأكرر طلبي في إيقاظ خطيبتي ثانية وثالثة، ساعتان وأنا أجلس لوحدي حتى تهلّ عليّ غزالتي الكسلانة بوجهها الناعس وشعرها المبعثر، تتمغط بتثاقل ((سآخذ دوشاً سريعاً ثم أعود إليك)).
وتختفي في لحظة دون سلام أو كلام أو حتى لهفة وبررت أنها في فترة حرجة حتماً ستتضح الصورة لاحقاً.
جاءتني أمها السمينة التي انتفخ وجهها واحتقن لفرط النوم جلست صامتة وكأنها خاضعة لبروتوكول ((قصر باكنجهام)) فترت فرحتي وأحبطت مشاعري بشكل نافر وانقلب مزاجي إلى النقيض، هلّت علي ((ريم)) بعد أن أعياني الانتظار وقد تداركت جزعي بابتسامة مفتعلة بددت بعضاً من إحباطي ولعلّ إطلالتها الجميلة وبشرتها الريّانة أشبعت ناظري وسربت همّي بالتدريج، طوال جلستنا كنا صامتين أحاول بحذاقة أن أثير قضية تخص حياتنا لأحرّك مياهها الراكدة بيد أنها تختصر الرد أو تجيب باقتضاب، أسرد لها بعض الحوادث لأفهم رؤيتها في الحياة وطريقة تفكيرها وتحليلها للأمور، تحدّق بي مبهوتة وكأنها تهيم في واد غير الواد الذي أجوب فيه، تستأذن مقاطعة في جفاء ((عن إذنك نسيت أن عندي تدريب في النادي الرياضي))
فانسحبت بطريقة رسمية قائلاً: ((أرجو أن نتواصل في الهاتف))
مضيت في إجراءات زواجي كالمنتحر، أو كالذي آمن بقضية ومستعد أن يخوضها حتى النهاية رغم علمه بفشلها وعدم جدواها، ولكنها محاولة تدرء عني خيبة التراجع وفشل العودة.
سافرنا إلى ((فيينا)) وأعتقد أنني لم أذق العسل إلا في فطور الصباح وغير هذا أكذوبة وخرافة!
كنت أرسم لهذه الأيام في مخيلتي الساذجة مشاهد عاصفة بالمشاعر، أوقات حافلة بالمسرات والسعادة، زوجان يرتعان في المروج الخضراء ويتعانقان تحت ضوء القمر، تأخذهما لحظات الشوق إلى ذروة لانسجام النفسي والالتحام الروحي يذوبان في غيمة ممطرة بالحنان يتهامسان على شدو العصافير ودعابات نعامة تفتح أزهار القلب لترتشف النشوة من ثغر الصباح المتألق، واخترت ((فينا)) بخضرتها البديعة وشوارعها التي تثرثر بحكايات حب دافئة، وفي المساء يفترش الليل من وجهها أساطير عشق خالدة.
اتركوني أتنفس وأذرف دمعي وأحكي عن وجعي، فقد كفرت بهذا الجمال حينما اكتشفت أن خلف هذا البريق كيان معطوب وروح ميتة.
أحسست بها متباطئة في كل شيء، خاملة وكأنها خرجت من صقيع ألاسكا، لفتاتها الساذجة واستجاباتها الثقيلة أثارت غيظي في كل لقاء أبادر بحماوة رجولتي وعنفوان شبابي أختلق ذلك المناخ المتأجج بالحب فإذا بها جسد هامد يختزن الموت في كل خلاياه، دمية من الثلج تسر النظر لكنها خابية الإحساس منطفئة، بدّدت ساعات الشوق بنومها المتخم بالبلادة وخمولها المتكلس فوق نسيجها الباهت.
اشتد غضبي، اضطررت أن أصرخ حانقاً لأثير انفعالها تجيبني ببرود ((تعبانة يا حازم دعني أنام)).
أتركها وأخرج إلى بعض الغابات لأتريّض وأستمتع بالطبيعة الخلابة وأنتشي بزقزقة العصافير وهي تفترش الغصون المثمرة، فقد استأجرت بيتاً صغيراً في بقعة حالمة، هادئة، تثير النفس في كل مكامن اعشق والهيام.
أعود بعد ساعة على أمل أن أجدها مستيقظة وقد أعدت لنا مائدة الإفطار، قطفت وأنا في طريقي إليها بعضاً من الزهور البرية،وعندما اقتربت من المنزل سمعت صوت التلفاز يصدح في أرجاء البيت حمدت الله فقد استيقظت عروستي من الموت!
دخلت مستاءاً فصحون الأمس مازالت على حالها والوسائد مبعثرة وجدتها ممدة على السرير تشاهد فيلماً أجنبياً
أدهشتني
((ألم تنهضي لتأخذي دوشاً))
تتمغط بتكاسل:
((ريثما ينتهي الفيلم))
بحدة خاطبتها:
((هيا أسرعي فقد انصرم النهار الجميل دون طائل))
وبعدم اكتراث تسأل:
((وأين نذهب))
((سآخذك إلى أعلى جبل ونشاهد فيينا من فوق التلفريك))
أشاحت بوجهها معترضة
((أشعر بالبرد لا رغبة لي بمغادرة الفراش))
شعرت بالاستياء والملل، فأنا أمام امرأة هامدة الكيان، لا تثير فيّ أي حيوية أو إحساس دافئ، خبت كل دوافع الجذب ناحيتها.
قلت ممتعضاً ((إذن انهضي لنتناول الفطور ونخرج نتمشى في الغابة))
كانت مندمجة مع الفيلم إلى حد لم تهتم بوجودي أو تكترث باحتياجاتي التفت إلى الفيلم وظننته يحكي قصة اجتماعية وعاطفية كما كان يحلو لأمي أن تشاهد، اندهشت أن الفيلم كان عن ((بروسلي)) ومغامراته العنيفة وحدّثت نفسي متمنياً لو كانت عدوى العنف تسري في أوصالها فتبعث الحركة في ماكنتها البطيئة.
ذهبت إلى المطبخ وأعددت الفطور بنفسي وأنا أرثي لحالي البائس كم تمنّيت لو تباغتني بعناق حار أو تقبلني بلهفة أو تمسّد بأصابعها كتفي، أو أسمع حيوية ثرثرتها كامرأة.
لم أتزوج إلا دمية ملونة كتلك العارضة في واجهة المحلات أشبه بتمثال الشمع، لا تتفاعل أو تتعاطف، بدأت أزهق من حياتي معها، اعتراني الملل فالأيام تمضي رتيبة، بطيئة، وحدي من أثور وأغلي في الحقيقة كنت أتمنى لو تغضب أو تفجر غضبها فهي كائن محنط أمامي تحرق أعصابي ببرودها البليد في اليوم ألف مرة.
تذكرت أمي العجوز هذا الصباح عندما كنت أشرب قهوتي المرة والتي تتواطأ مع مرارة حياتي، كانت أمي تستيقظ فجراً لتصلي الصبح وتقرأ القرآن الكريم ثم تجهّز الحليب المعطّر بالهيل بخاصية يستسيغها أبي، تجهّز فطوره المميز بعاطفة ذوبت ذراتها حتى في إبريق الشاي وخبزها الحار، أتذكر وجهها الطيب وظفيرتها البيضاء وقد تدلت من تحت الوشاح الأسود، بقيت عروساً لم تشخ أبداً، تمضي ساعات الصباح مع أبي المتقاعد يتفاكهان، يتجاذبان الذكريات، يتناولان الفطور وقد تورّد وجهيهما ضحكاً، في قلب أمي مخزون هائل من الحنان والأمومة ظلت تنضح حتى من أصابعها المتعرقة ولم تسمح لغضون السنين وتجاعيد الزمان أن تستهلك روحها الحيّة فبقت في كيان أبي عروسه شابة وعشقه الأول.
غبطت أبي وتمنّيت لو حذوت حذوه الحكيم.
تم تجهيز الفطور، وحدث ذلك الزلزال العظيم فعروستي نهضت ببركة الله وسحبت كرسياً وجلست لتأكل، التفت إليها مندهشاً: ((ريم، اغسلي وجهك، استبدلي ملابسك، لم تتكاسلين عن هذه الأمور البديهية))
أومأت بغير اكتراث:
((لاحقاً، لاحقاً))
حدثتها ((ريم، ألم تشعري ناحيتي بأي مشاعر))
ردّت ببرود مخيف ((أكيد أشعر))
ومضيت وأنا بانتظار مفاجأة صاعقة
((ماذا تشعرين؟))
((أنك إنسان طيب وحنون))
التقطت أنفاسي مبهوراً، خائفاً من مواجهة الحقيقة المرّة
((أتعتقدين أن هذا كاف؟))
بهدوء انبرت تصرح:
((الحمد لله ظروفك المادية جيدة ومستقبلي مضمون معك))
هوت كلماتها على رأسي كالمطرقة، فهي تفكر بطريقة أمها الإنجليزية.
هل تصدقون؟
إنها تأكل وتتثائب حتى كاد النعاس يتسرّب إلى جفني كفيروس معدي
لاطفتها ((ريم، أحب أن ترتدي قميص النوم الأحمر، لا أحب الأبيض فهو يظهرك شاحبة))
أجفلت مستنكرة
((أحمر؟!! ذوق متختلّف))
((أعتقد أنه يمنحك شيئاً من الحيوية والحرارة))
((لا.. لا أحب هذا اللون، تعرف أن ألواني المفضلة الأبيض والأزرق))
((ولكنه يعجبني))
((وهو لا يعجبني))
وبانت عليها تباشير الانفعال!
وتعمّدت أن أضغط أكثر على أعصابها لأشعل فيها فتيل الإحساس.
((سآخذك في جولة إلى السوق لأنتقي لك الألوان التي أحبها شخصياً))
حدقت بي مبهورة
((لا يمكنني أن أتصور رجلاً في هذا القرن يعامل زوجته بهذا الأسلوب))
((ألست زوجتي، ينبغي عليك الطاعة والخضوع))
امتعضت دون أن تنبس بحرف
تركت المائدة ودخلت الحمام
صرخت بها مغتاظاً
((أتتركين الصحون مبعثرة ومتسخة))
لم تلتفت إلي واتجهت إلى مشوارها بخطى متثاقلة.
أعيتني الحيل، كيف أذوب هذا الكائن الصخري وأفجر في جوفه نبع ماء.
بمن أستعين في مثل هذه الحالة؟!!
جلست أفكر طويلاً وغمامة قاتمة تطوف في مخيلتي المضطربة حتى انتهيت إلى فكرة الغيرة، ربما إثارتها من هذا الجانب مدعاة لتفجير نبع من عاطفتها الكامنة!
خرجنا بعد مفاوضات عدة واستأجرنا قارباً يأخذنا في رحلة بحرية هادئة، وطوال الوقت كنت أحدثها بلطف عن جمال الطبيعة ومشاهدها الخلاّبة وخرير الماء المريح للأعصاب، وأحكي لها حكايات عن مغامرات مفتعلة وأنني كنت يوماً مطمعاً للحسان، وأنهن تساقطن تحت أقدامي حبّاً وهياماً فلسطوة الوسامة وهيمنة الجاذبية قوة قاهرة لا تقاومها أية امرأة لائقة صحياً!
هل تصدقون ماذا قالت؟!
((الأمر ذاته بالنسبة لي فقد حدثت معارك وحروب من أجل نيل رضاي، شباب العائلة، الأقارب، الأصدقاء كلهم يتهافتون عليّ تودّداً لكني رفضتهم جميعاً.
أوغرت الغيرة صدري وانتهبتني مشاعر الغليان، وما كنت قد أعددته من شراك سقطت أنا في براثنه السحيقة
ابتلعت الغصة وسألتها على مضض
((ولماذا رفضت؟))
بتلقائية طفولية اعترفت
((هكذا أنا لا أحب أحداً، لا يعجبني أن أرتبط برجل يعكّر علي حياتي، أحب أن أبقى حرة أنام وقتما أحب وأخرج متى أشاء وأمارس حياتي بمزاجي)).
اندهشت:
((ولكن الطبيعي أن تميل الأنثى إلى رجل، حاجة عاطفية، وجسدية ونفسيّة))
بسذاجة صادمة لكل أحلامي:
((لا لم أحتج إلى رجل أبدا فما هو الجديد الذي سيقدمه لي؟!))
ذهلت وصعقت، فهل كان يكتنف التمثال الفاتن هذا روحاً مريضة ونفساً شحيحة العاطفة، كنت طوال الرحلة أداعبها وألامس أصابعها لأستثير مشاعرها الميتة وفق هذا المناخ الحالم المفعم بالإحساس وكأني أتحسس سطوحاً خشبية جامدة، انكفأ قلبي وغامت روحي وبدأت أفكر بطريقة أشغل بها نفسي أو أتشاغل عنها فأفضل حالاتها عندما تستلقي على الفراش تشاهد الأفلام الأجنبية المتخصصة بالعنف والجريمة.
وفكّرت جدياً بطلاقها، فلم تكن هنالك قواسم مشتركة بيننا تستدعي الاستمرار في هذه الرحلة المقيتة، وهذا الجمال الباهر قد انطفأ في عيني وتبدد تأثيره فما عاد له قيمة في نفسي وأيقنت أنها حماقة أن أبني حياتي الزوجية على ألوان ومقاييس بالسانتي، عدنا بخيبتنا وانتكاستنا وشموعنا خابية.
في المطار اندفعت كالطفلة المغرورة ترتمي في حضن أمها
((Mamy I miss you))
ثم توقفت للحظات والتفتت تتستأذنني
((سأبيت هذه الليلة عند أمي))
أجبتها ساخراً
((هذه الليلة فقط؟!))
أومأت باستجداء المزيد
ابتسمت بمرارة
((هذه الليلة وكل ليلة!))
وافترقنا في المطار..
أثرت موضوع الطلاق وأنا في كامل إحباطي هل تصدقون أنها لم تبد أي رد فعل، وافقت دون تعليق.
وغابت عن حياتي ((ست الحسن)) وكأنها كابوس قد بدّدته اليقظة.
وكانت تجربة خصبة، ثرية، جعلتني أفهم المرأة وقيمتها في حياة الرجل كروح نابضة بالحياة تتفاعل عاطفياً وفكرياً وجسدياً تلقي بظلالها الحالمة على كيانه فتنعشه وتسكنه وآمنت بهذه المعاني الآن بعد أن غابت تحت المقاييس القشرية الزائلة والحماقة الذكورية المندفعة.

همسة:
((الجسد يشيخ لكن الروح تبقى، فجمال الروح أدعى للسعادة))

النهاية









(8)




ضرتي لوليتا



اسم الزاوية : (( بيني وبينك حكاية ))
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) (الروم/21).
مقدمة الزاوية:
بين الزوجين.. حبل موصول برحمة إلهية، مسكون بدفء فطري، احتياج غريزي، تناغم عاطفي، انتماء. قد يختلفان، يتباعدان، يتخاصمان، لكنهما برحمة الله ولطفه يعودان. هكذا كتب القدر الإلهي: توأمة خالدة، ذكر وأنثى، بهما ((يعتمر)) الكون.. لهما في كل حكاية موقف، ولنا في كل موقف عبرة.
ضرتي لوليتا
بقلم: خولة القزويني

ثنائي الحلقة: (حسام _ وبهجة)
منذ أن دخلت ((لوليتا)) بيتنا وأنا في هم وحزن وكمد،فهي شغلت زوجي ((حسام)) بشكل كبير حتى لم يعد يلتفت إلى ولأولادنا، هذه المجرمة التي فتنته بعوالمها المدهشة وشدت انتباهه إلى حد لم يجد في لقائي السلوة والفرح لها غواية مدمرة استحوذت على مشاعره فان همست أو نطقت بحرف في حضورها المقدس يخرسني ويلجم لساني، كم من المرات داهمته فإذا به متوحدا بها في انسجام وألفه، هذا الزمن البغيض الذي انطلق كالصاروخ أنجب "لوليتا" وغيرها من الملهيات الجاذبات لعقول الرجال وقلوبهم كما قلت لكم..
بدخول ((لوليتا)) بيتنا حدثت أشياء كثيرة أهمها أنها نافستني على حب زوجي وتعدت على حدودي فسلبت لبه وشغلت وقته.
أتعرفون من هي لوليتا؟
تستغربون إن قلت لكم أن هناك الكثيرات من الزوجات المعذبات في الأرض ابتلين بلوليتا وتمنين لو لم تخلق لوليتا الضرة التي كانت في تأثيرها أفتك من البارود!!
هل عرفتم من هي لوليتا؟!
أسركم..
إنها ((اللاب توب)) هذا الجهاز المرافق لزوجي والذي لا يفارقه لحظة قد أدمن عليه إلى درجة المرض، وأنا من أطلقت عليه اسم ((لوليتا)) لأنه لا يقل عن الضرة أذى واستحواذا لكيان زوجي وقطعا ضرني إلى درجة الانزعاج والنفور من حياتي.
لقد ادخر زوجي بعضا من المال ولعدة شهور كي يشتري ((اللاب توب)) فهو مولع بالأجهزة الالكترونية والبرامج التي تتناول هذا الموضوع، بل مدمن كمبيوتر، متعته التنزه في المواقع الالكترونية ومخاطبة الأصدقاء ومراسلتهم كنت لفترة مؤمنة أن ثقافة العصر تتطلب معرفة هذا العلم واكتساب هذه الخبرة فلم يعد هناك تواصل أفضل بالعالم إلا عبر ((شبكة النت)) والتوغل في هذا العالم وأسراره ولأني أمية في هذا المجال لم تكن لي الحماسة ذاتها عند زوجي.
المهم اشترى ((اللاب توب)) في الأيام الأولى استغرق في قراءة ((الكاتالوج)) إلى وقت متأخر من الليل دعوته ليتعشى لأفك عنه هذا الحصار نهرني غاضبا ((ألا ترين كم أنا مشغول)).
تركته ثم عدت ثانية
((لقد برد الطعام!))
تذمر وكأنه في معضلة
((قلت لك لا أريد أن أتسمم!))
أنهكني الانتظار فرقدت في فراشي وبقى ((مستيقضا)) يعبث في الجهاز، انزعجت من الضوء وبان علي التذمر:
((أرجوك يا حسام أطفئ النور دعنا ننام حتى لا تفوتنا صلاة الصبح))
ويبقى مع لوليتا حتى وقت متأخر من الليل لدرجة وجدت صعوبة في ايقاضه لصلاة الصبح.
اعتاد على هذا الجهاز وتمرس فيه وفهم صلاحياته وزاد شغفه وكبر ولعه لدرجة أنه كان يتعاطاه مع وجباته الثلاث وعندما يتعطل بسبب خلل فني تستنفر كل أعصابه فيتوعك وتنتابه حالات من الهستيريا فأراه داخل وخارج بالجهاز في محاولة لتصليح العطل لدي الشركة التي باعته الجهاز.
اعتزل (حسام) الناس وتنازل حتى عن برنامجه الرياضي اليومي، تقلصت ساعات المشي التي كان يقضيها من أجل تخفيف وزنه حتى تركها نهائيا لفرط خموله وكسله واعتياده الجلوس أمام (اللاب توب) فتروني دائما مع الأولاد في الصالون بينما هو في خلوته مع (لوليتا) طلب (ابني) هذه الليلة الذهاب إلى المكتبة إذ أنه قد تذكر في وقت متأخر حاجته إلى الأدوات الهندسية لامتحان الرياضيات غدا فأتيت إلى حسام على الفور:
((فريد يحتاج إلى أدوات هندسة لغرض الامتحان))
لم يلتفت حسام إلي، خاطبته ثانية بنبرة حادة، صرخ معنفا وهو ينظر إلي ساعته مبررا ((الآن؟ في هذا الوقت المتأخر؟!))
أين هو من حاجته طوال هذا اليوم هل تذكر في هذا الوقت أعتقد أن المكتبات مغلقة هذه الساعة.
بكى (فريد) وكان بكاءه الوخزة التي فجرت ذلك الاحتقان المتراكم داخلي دافعت عن ولدي:
(( هل تلومه على نسيانه؟ انه طفل لا ينبغي أن تقسو عليه بهذا الشكل انظر إلى نفسك وقد نسيت مسؤوليات بيتك))
استشاط غيظا
مسؤوليات البيت؟! وهل قصرت في ذلك؟! لقد تسوقت ليلة أمس ووفرت لك كامل احتياجاتك، والولدان أقلهما إلى المدرسة صباحا وأرجعهما إلى البيت ظهرا لا أدري لم تغتاظين من هوايتي هذه؟!
((إننا نحتاج إلى وجودك معنا أحدثك فإذا بك شارد الذهن مشوش البال تجاذبني الحوار على مضض وكأني جماد لا إحساس لي أو شعور)).
((أنت تبالغين))
أقفل الجهاز وهو يتأفف ثم عاد وجلس معنا في الصالون.وكان جالسا على فوهة بركان، متشنجا، غضوبا، متوترا في كل لحظة يشرد بعيدا وعيناه على ساعة الحائط، أحسست أنه مجاملا ثقيلا انقضت لحظات الضجر فانبرى يقول للولدين:
((أعتقد أنه حان وقت النوم فاذهبا إلى حجرتكما))
انسحبت قبله إلى غرفة النوم واستبدلت ثوب البيت بقميص مثير وتطيبت بأزكى عطر ثم صففت شعري بغنج فاتن ما أن دخل الغرفة حتى تراجع خطوة مذعورا فلم يكن مستعدا لهذا المناخ الذي يقتضي منه الانسلاخ عن عالمه الالكتروني فمزاجه غير متوافق مع حماوة اللحظة التي أحاول افتعالها تكهرب الآن وأراد أن يخرج من هذا المأزق تركني ودخل الحمام جلست على حافة السرير أنتظر ظنا مني أنه يتهيأ لذلك التناغم الجميل تأخر في الحمام قلقت، نقرت على الباب بأطراف أصابعي مستعلمة وضعه سمعته يئن بصوت واهن:
((اشعر بمغص في بطني)).
قلت مستاءة منه:
((هكذا...داهمك المقص فجأة))؟!
برر في احتيال:
((اشتد الآن لقد كنت أعاني من نوبة إسهال منذ الصباح))
((ألم تذهب إلى الطبيب؟!))
((ظننت أني سأتعافى لكن يبدو أن زيارة الطبيب باتت ضرورية!))
أحسست بالمذلة والمهانة فقد افتعل هذه الأزمة لأنه صدني، استبدلت ثيابي وغسلت وجهي من المكياج وارتميت على فراشي غاضبة ألفظ نفسا حارقا كفحيح أفعى سامة.
جلس قربي مرتبكا، محرجا، يشاهد التلفزيون شاردا وفي كل لحظة يتلفت إلى ليستوثق أنني نائمة وأوهمته بذلك حينما سحبت الغطاء على وجهي صاح بصوت خافت:
((بهجه..بهجه))
لم أرد عاد إلى ((لوليتا)) ليقضي معها وقتا حميما ودافئا.
صدقوني ذرفت الدموع تحت الغطاء وكتمتها في صدري غصة ثقيلة متصبرة على أمل أن يمل في النهاية فحتما علاقته بلوليتا مآلها الملل والبرود.
لم أكن في هذا الصباح بمزاج رائق ولعله أدرك ما أعانيه فقال مبررا:
((إنني بصدد دراسة مشروع مهم فأرجو أن تتفهمي موقفي))
قلت له بلهجة حادة وأنا أبحث عن موضوع يسرب غضبي ووضعي المهان:
((هذه فترة امتحانات الولدين أحتاج أن تقف إلى جانبي على الأقل مساعدتي في تدريسهما مادة الرياضيات))
قال لي وهو ضجر
((حسن، حسن))
وفعلا وفى بوعده بعد الغداء جلس مع فريد وهيثم وكنت أجهز لهم الشاي والحلوى واسترق السمع إليه وهو يشرح للولدين بشكل مختصر وسريع فما لمست منه الحرص والعناية إذ كان يختزل الصفحات ويمر عليها مرورا عابرا، استاء الولدان فلم يبد أي نوع من الحماس في مواصلة الدرس.
صاح غاضبا
((هذا بسبب غباءكما فلست مضطرا للخوض في أدق تفاصيل الدرس)).
اقتربت منه لأهدئ الوضع:
((هون عليك يا حسام أعد الشرح مرة أخرى وببطء))
هاج وماج:
((لا أستطيع فقد سئمت من حماقتهما أنا متعب وأحتاج إلى النوم))
((أرجوك اهدأ قليلا)).
((لقد ضيعت وقتي معهما دون طائل))
تركنا وغاب في حجرته
عدوت وراءه أستجديه
((أرجوك يا حسام هدئ من روعك وعد إلى الولدين فهذا امتحان مهم لا تضيع عليهما الفرصة)).
حسم الأمر:
((أخرجي الآن فأنا منهك سآخذ قسطا من الراحة ثم أعيد الشرح لهما في المساء)).
خرجت لمتابعة باقي الدروس للولدين حتى أذان المغرب تركتهما بعد ذلك لأصلي في حجرة نومي هممت بالباب لأفتحه تفاجئت به مقفلا طرقت الباب عدة طرقات فتح حسام الباب وهو يتمغط طافت عيناي في المكان لأستطلع آثار الجريمة فربما كان مع ((لوليتا)) طوال هذا الوقت ويوهمنا أنه نائم.
سألته
(( هل كنت تعبث باللاب توب؟))
أنكر:
((لا..كنت نائم))
اتجهت إلى الناحية الأخرى من السرير واكتشفت أن الجهاز كان مفتوحا تنهدت وأنا أغالب ضيقي:
((أنا لا أعترض على أية هواية تحبها لكن أطالبك بالاعتدال وتفهم احتياجاتنا)).
قال وهو يفتعل النشاط:
((أنا وعدتك بأني سأشرح للولدين الدرس وسأفعل)).
سأصلي الآن ثم أباشر تدريسهما، لا تقلقي.
وعند الساعة الثامنة جلس قربهما يشرح فصول الكتاب بهدوء لكنه بدا منهوك القوى يتثاءب بتكاسل دب النعاس في عينيه فاسترخى جفنيه الثقيلين حتى فقد التركيز
صاح فريد ((بقى الجزء الأكبر يا أبي لم تشرحه لي بعد))
ترك (حسام) الورقة والقلم وتمدد على الأرض وقال في صوت غائم:
(( لقد غفت عيناي لم أعد قادر على الشرح))
تألمت بشدة فصرخت بكامل قواي:
((اذهب إلى غرفتك فقد سئمتك، لا أحب أن أراك ممدا هكذا أمامي كجثة هامدة!
دخل غرفته وغاب عن الوعي.
حاولت أن أشرح الدرس للولدين ولم يكن بمقدوري فعل ذلك فأنا لست بارعة في الرياضيات وجهت الولدين توجيها سليما وشحنتهما بطاقة وثقة وعزم راجية من عند الله أن يفلحا في إجابة الامتحان.
ولأول مرة ينام حسام باكرا وذلك لأنه لم يأخذ حصته من النوم ظهرا ولا أدري متى استيقظ إذ نبهتني الساعة بحلول صلاة الفجر وجدته جالسا على الفراش مواجها ((اللاب توب))
التفت إليه أسأل
((صليت؟))
((بعد قليل))
((انهض ماذا تنتظر ستشرق الشمس بعد قليل)).
((حسن))
قمت منزعجة، منفعلة أتمتم مغتاظة
((الناس تستيقظ لتصلي وتقرأ القرآن وأنت في لهو وسكرة))
لم يجبني أبدا تجاهل بكل برود.
صليت وقرأت القرآن الكريم ثم اتجهت إلى غرفة الولدين لأيقاظهما استعدادا للمدرسة.
في صبيحة هذا اليوم جاءني هاتف من أخي يخبرني أن أمي متوعكة وستدخل المستشفى لإجراء بعض الفحوصات فاضطررت أن أعود إلي بيتي باكرا وأجهز الغداء اتصلت بحسام وأخبرته أنني سأغادر البيت لملازمة أمي في المستشفى ورجوته أن يعتني بالولدين في غيابي.
لا أخفي عليكم..
كنت قلقة جدا على البيت أخشى أن يحدث أي خلل في غيابي خصوصا وأنني شخصية موسوسة أجتر المواقف السلبية وأضخمها بشكل هستيري عند حلول المغرب عدت إلى البيت والذي بدا صامتا، هادئا كان ابني البكر (فريد) يجلس أمام التلفزيون يشاهد الرسوم المتحركة سألته أين أباك؟ قال بنبرة متعبة ((لقد تغدينا معا ثم ذهب إلى حجرته ولم أره منذ الظهر)).
وتابعت:
((وأخوك هيثم؟))
أجاب((نائم))
ذهبت إلى غرفة هيثم لأوقظه كي يباشر واجباته المدرسية وجدته غارقا في الحمى قد احتقن وجهه بشكل مخيف ناديته مرعوبة
((هيثم، هيثم مابك؟))
تمتم بهذيان)):ماما أنا متعب جدا))
وثبت إلى غرفة حسام وجدته نائم واللاب توب قربه.
فقدت أعصابي صرخت به:
((حسام،حسام))
انتفض مذعورا
((نعم..نعم..مابك؟))
((انهض لنأخذ هيثم إلى المستشفى ألم تلحظ عليه الحمى)).
قفز من فراشه متجها إلى غرفة هيثم يتفقده ذُهل:
((لم أكن أعلم أنه مريض لقد حضر من المدرسة وقال أنه متعب وسينام وليس له رغبة في الطعام ))
أخذناه إلى المستشفى، كنت أغلي كالغربال أصطخب غيظا فجرت الموقف بكل ما في من أسى وعذاب موجهه حديثي الغاضب لحسام:
((كفاني ما رأيت منك كفاني أن تحملت كل هذا العذاب أهملتني، أهملت بيتك، حدسني قلبي أن هناك مكروه داخل البيت فتركت أمي عائدة لأستطلع الأمر، لأني لا أثق بك مطلقا لا أعتمد عليك بتاتا أنت رجل أناني لا تصلح أن تكون زوجا أو أبا، وأنا مضطرة أن أضعك اليوم بين خيارين أما أنا أو اللاب توب فليس لي طاقة على الاستمرار معك صمت وكأن على رأسه الطير لم يجبني أو ينبس بأدنى حرف بعد أن كشف الطبيب على ((هيثم)) وإعطائه العلاج اللازم عدنا للبيت.
تخاصمنا فلم نتحدث إلى بعضنا أبدا تركته مع لوليتا ليوم ليومين حتى أني أهملت البيت لم أعد أرعى حاجاته وذلك لينتبه إلى حجم المشكلة التي نعانيها جميعا في اليوم الثالث بادر في مصالحتي وقد كنت متصلبة بعض الشئ.
قال: أعدك أنني سأهجر هذه الهواية طالما سببت لك هذه الأزمة.
هونت عليه الأمر:
((أنا لا أطالبك بهذا الموقف الحدي، مارس هذا النشاط المحبب إلى نفسك فلك كل الحق ولكن بحدود،فأنت أدمنت عليه بشكل مرضي حتى نسيت مسؤولياتك كزوج وأب وعزلت نفسك عن أسرتك وعن كل الناس لولا دخولي في هذا الوقت الحرج لا أدري ما كان سيحدث لهيثم إذ قد وصلت درجة حرارته الذروة، وأنت لاه عنه لم تكلف نفسك عناء ملاحظته ومتابعته بل ومعرفة سر تعبه هذا اليوم وعزوفه عن الغداء.
أطرق خجلا(( نعم أنت محقة،فقد بالغت في إدماني هذه الهواية)).
قلت له:
((عندما تكون لوحدك لك مطلق الحرية في فعل ما تشاء أما أن تتشاغل بها وأنا حاضرة معك جالسة قربك فهذا مزعج وجارح بالنسبة لي.وفعلا كان لهذا المنعطف أثر كبير في تغيير ميله إذ لم يكن من السهل عليه الابتعاد عن لوليتا لكني تصبرت على أن يتدرج في تقنين الممارسة وقد كنت أبرر أحيانا عندما أسمع هروب الأزواج إلى الديوانيات أو خيانتهم مع كيانات من لحم ودم وأن تعاطي هذا النشاط أدعى لبقائه في المنزل ولهذا صممت أن أساعده حتى النهاية وأن أختلق الأعذار لبعض هفواته.


همسة:
أيها الزوج:
[عندما تكون في خلوة مع زوجتك امنحها كل الاهتمام]


النهاية









(9)



غيرتك عذاب




اسم الزاوية : (( بيني وبينك حكاية ))
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) (الروم/21).
مقدمة الزاوية:
بين الزوجين.. حبل موصول برحمة إلهية، مسكون بدفء فطري، احتياج غريزي، تناغم عاطفي، انتماء. قد يختلفان، يتباعدان، يتخاصمان، لكنهما برحمة الله ولطفه يعودان. هكذا كتب القدر الإلهي: توأمة خالدة، ذكر وأنثى، بهما ((يعتمر)) الكون.. لهما في كل حكاية موقف، ولنا في كل موقف عبرة.
غيرتك عذاب!
بقلم: خولة القزويني
www. Kawlaalqazwini.com
تزوجها قطة مغمضة كما تقول الأمثال، وديع

لم يكن ((عادل)) رجلاً عادياً، أحببته طيفاً داعبني سنوات ثم انتظرته وعداً تحقق في ليلة مقمرة عزف فيها الشوق أعذب نغم لأدخل بيته أميرة حب مكللة بطوق من الياسمين.
في الليلة الأولى اكتشفت منطقة معتمة في قلبه ربما ظل يداريها عني قبل الزواج، لكنها تجلّت الآن بصورتها الواضحة دون قصد منه، حدث عندما كنا نتسامر على الوسادة كأي عروسين تنضج شفاهنا ثرثرة بريئة تخيلوا...
خاصمني في أول ليلة حتى خلت أن ما حدث صوبة عين، وشر مستطير لحقنا بعد شغف الانتظار.
بلسان طفلة كبيرة تحسن الظن صرحت بعد أن سألني إن خطبني أحد قبله
((نعم خطبني الكثير وكان ابن خالتي محمود أكثرهم إلحاحاً في طلبه))
تجهّم ((عادل)) واحتقن وجهه سأل
((هل كان يحبك؟))
وبتلقائية ((نعم كان معجب بي))
حدق في وجهي طويلاً كأنه يستقرئ معاني دفينة، حسبتها وقفة يسترجع فيها شيئاً في الذاكرة، لكنه صرخ بنبرة زاجرة
((وأنت؟))
تسمرت في فزع، أخلت أن الكلمات جفت في حلقي:
((أنا؟ وما شأني به أنا؟ فليحبني هو أو غيره، المهم أن قلبي كان لك وحدك))
انطفأ رونقه، واختفت البشاشة فتركني إلى الصالون لحقته وأنا في دهشة.
((ما بك؟))
غابت عنه الابتسامة وأطرق يغمغم
((أعوذ بالله من شر الشيطان))
اقتربت منه محمومة بعاطفة لم تزل في أوج أوارها
((اترك عنك هذه السخافات ودعنا ننسى الماضي))
رمقني بنظرة باردة
((اتركيني فأنا منزعج الآن))
لكني صممت أن أقوض المسافة النفسية في تلك اللحظة الحرجة
طوقته ملاطفة
((لم أكن أعرف أنك تحبني بهذه القوة))
تنهد دون أن ينبس بحرف
واسترسلت وكأن صده يحفز كل دوافع شوقي إليه
((الحمد لله أن أخذت البرهان بدءاً من هذه الليلة!))
رنا إليّ بعينين متسائلاً عن قصدي
أجبته على الفور:
((نعم.. الغيرة برهان الحب الشديد))
نطق وقد بدا قلقاً:
((وهل تشكّين في حبي، أشهر وأنا أنتظر ريثما تستتب الأمور لأخطبك فوالدك العنيد كان يبحث عن أسباب الرفض قبل مبررات القبول))
تهلل وجهي وقلت بشيء من الغرور:
((والحمد لله، الواسطات خطفت أميرتك بحبال الحيلة من قصر أبيها إلى مملكتك))
افتر ثغره عن ابتسامة رائقة فقال مداعباً:
((ولست محتالاً ولكن والدك ثعلبُ ماكر وأظنه يحتاج إلى دهاء))
أحسست أن الغضب قد تسرب عن صدره عبر مجاذبة ذكية افتعلتها كي لا ينغمر في فكر قاتم يصوّر له أوهاماً وخرافات واستطعت بحذاقة أنثى مرهفة الحس أن أعبر النفق المظلم إلى حياة زاخرة بالبشر والسعادة.
قلت لكم أن ((عادل)) رجل غير عادي وأنا محقة فيما أقول، فقد تفوق على غيره من الرجال بامتياز وضمن مقاييسي المتواضعة، كنت فتاة صعبة المراس، قوية الشخصية، شديدة، لم يكد الرجل يقترب من مداري حتى يضطر إلى رسم الضوابط النفسية والفكرية وكأنه في حضرة ملكة تشترط في زوارها طقوساً خاصة، فلا يطلق الواحد منهم لكلمته العنان إلا بإجازة مرور صعبة، لم يكن يعجبني أي رجل، كنت أقول لوالدي ممتعظة ((لا يستهويني أحد من الرجال وأحسب نفسي أشد صلابة منهم، أنظر إليهم بعين الاستضعاف فيتصاغرون أمامي وأحس أني أخاطبهم من شاهق فتضيع كلماتي في الهواء، وأحسب أن بيني وبينهم هوة كبيرة))
ودخلت سن حرجة، قلقت أمي من وحش العنوسة القابع خلف باب الزمن الكئيب، وماذا أفعل بقلبي وقد احتمى بصندوق مقفل ينتظر المفتاح السحري الذي يخرجه من ظلمات الحيرة والوحشة.
لا يعجبني إلا الرجل الشهم أو ((سي السيد)) هو وحده من يستحق خضوعي ويفجر مكامن أنوثتي، وحدث صدفة أن التقيت ((عادل)) في إحدى الدورات التدريبية، كان هو الأستاذ الذي يشرف على هذه الدورة، استوقفتني هيبته، وسمته الجاد، متدين عبرت لفتاته عن رزانة شديدة وتحفظ جميل يكسب لرجولته فخامة مميزة، جعل الفتيات يتلفتن إليه في محاولة لاجتذابه، لكنه صاد، معرض، وهذا ما استثار فضولي وأغوى فيّ شيئاً غامضاً لم يتمخض عنه الغيب بعد.
تعاقبت أيام الدورة وأنا أحاول استمالته دون طائل فكل ما فيه كان يشع بإصرار في مخيلتي ويجتذبني بخيط مبهم، أينما أبحر أستشفه بعيد النظر، ذكياً، مثقفاً، يحدس فيصيب حدسه وإذا تكهن فلا يخطئ أبداً أحاديثه تستطرق مغاليق الفكر فتوغل إلى حد الاستيطان كمبدأ راسخ، ذلك العمق المكتنز في النفس يستثير فيّ عاطفة أخذت تلح يوماً بعد يوم، فكيف السبيل إليه وهو مسربل بشرنقة الدين تردعه المحرمات وأنا فتاة متحررة، نشأت في عائلة لم تعرف من الدين إلا الطقوس الهشة، تهيبت الموقف وودت أن لا أثير الاضطراب في حياتي الساكنة فقررت أن أسدل على قلبي ستار النسيان، لكن صوته الرزين المطعّم بنكهة فحولة تغوي فيّ حاسة غريبة، سأفاتحه دون مواربة وأفصح عن خلجاتي الحبيسة لعلها تصب مرامي قلبه، هتف مرحباً لدى اقترابي منه أسأله حن حاله وأعماله لكنه عاد وتصلب وألقى الستار ثانية ممتنعاً الخوض معي في خصوصيات حميمة فلفني معه في دوامة من الحيرة حتى ظننت أن له قلباً كالصخر لا تفتته إلا موجات من العاطفة الهادرة وما بين كرّ وفرّ لان بعض الشيء وتقبل وضعي، تفاجئت وأنا استقرئ ذاته بين السطور أنه مسرور لهذا التوق المشتعل فيّ، فاختصر المسافة وخطبني من والدي ولكن طلبه رٌفض وكأن هناك تماس كهربائي بينه وبين والدي.
لم أكن أعرف لوالدي سبب وجيه لرفضه لكن القدر في النهاية جمعني به بعد شهور الضنك والحرمان عبّر لي بوفرة إحساس لم ألمسها في أي رجل، هذا الصلب يأتي لي بنجوم السماء قلادة يطوق بها عنقي وينشد في حبي أشعار نور يسرجها من ضوء القمر، أدركت فيه تركيبة متناقضة فيه تطرف جميل يجعلني دوماً في فورة حب لا تهدأ، فيه السكون المريح الذي يجعل من صدره وسادة تمتص آلامي وفيه الهدر المخيف لإعصار نزق يهتاج بعبثية ترغمني على الاختباء بعباءة ضعفي كي أدفع عني طيشه الاقتحامي.
في ربوع القاهرة الجميلة افترشنا على بساطها أحلامنا الغضة وحفرنا في ترابها المنعش أقدارنا، هل كان شهر عسل أم قارورة عسل ارتشفنا من رحيقها أمانينا البكر، في مطعم قروي بين حقول القمح جلست متكئة على ذراعه، جاءتني عجوز من سرب الفلاحين المحتشدين قرب النهر تقرأ كفي وإذا بها تهذّر في دعابة ثقيلة ((ما شاء الله فمحبيك كثر!)) لم أشأ ألتفت إلى ((عادل)) حتى وجدته مكفهراً نهض كالملدوغ والشرر يتطاير من عينيه، سحبت يدي من العجوز وتبعته مذعورة ((عادل، عادل)).
كأن كهربة الكون أوغرت صدره، انشحن غضباً فهطلت أمطار غيظه، عنيفة، ساحقة، مستبدة وعلى جرف النهر الساكن في وداعة لاطفته ((يا حبيبي لِمَ تعذبني بهذه الغيرة؟))
وأشرت إلى النهر وأنا أطوقه بحنان:
((حبي لك أشبه بهذا النهر، خالد خلود الدهر))
زجرني بشدة
((كفي عن ملاحقتي؟))
تسمرت في مكاني كالمأخوذة، وانتابتني حالة من الإحباط ووجدت نفسي أرد بفظاظة، ربما الجرح الغائر في أعماقي قد انتفض واشتعل كجذوة حارقة دمرت كل بوادر الصلح، فانطلق لساني كالسوط:
((أنت رجل شكّاك ومعقد تحاسبني على أقل هفوة))
حدجني مبهوتاً فتركني عائداً إلى الفندق، لحقته والشرر يتطاير من عيني ولساني لازال يسوطه بذميم الأوصاف
((اذهب لعلاج نفسك، فقد سئمت غيرتك، في لحظة تنقلب من النقيض إلى النقيض))
وعندما اختلينا في الغرفة، ارتميت على فراشي باكية، أقاوم انهياري بجلد وصبر، وفجأة وجدت نفسي أقول
((فلنعد، لا أريد أن أكمل بقية الرحلة))
وبقسوة رد ((فليكن))
تخيلوا
عدنا وسط دهشة الأهل متخاصمان، متباعدان، مدبران عن بعض، مضت أيام وأنا يائسة من استرداده، أجد نفسي في مقام مجاذبة بين الأسى والندم، أحسست وأنا أراقبه عن كثب أن تشامخه قد تحوّل إلى ضعف وهوان، جاء بعد فترة ليبادلني حديثاً طلياً ثم عكف على مداراتي بالحسنى وأخذ يسرد على مسامعي ما جرى طيلة هذه الأيام من عذاب وألم، ضغط على يدي متودداً بعد أن لمس فيّ خوراً وضعفاً قائلاً:
((خلود حبيبتي سامحيني، أعرف أنها صفة مزعجة لا أعرف كيف أتخلص منها لكن أرجوك أن تفهمي شيئاً واحداً وهو أني أحبك))
عبرت تقاطيعي الذابلة عن سعادة فأجبته بصوت مفعم بالحنان
((فعلت كل شيء لإرضائك، ارتديت الحجاب، تركت الماكياج، امتثلت لأوامرك إلى حد الخضوع لأني أحبك وأسعى للحم عرى المودة والتفاهم، فلا تدع هذه الأمور تقضم وشائج حبنا وتشوه ملامح ودنا))
خنقته العبرة فكف عن مواصلة الحديث وإذا بقلوبنا المحبة تغتسل بدموع الندم والغفران فنعود أكثر حباً وأشد التحاماً وأوثق رباطاً.
مرت علينا الأيام السعيدة بحلاوة قلمّا أجد لها ذائقة مميزة في حياتي حاولت مداراته كي لا أخدش شعوره أو أمس شغاف هذه المنطقة المحرمة أسكرني بنعيم رعايته وأفعم قلبي بهجة وبقى يلازمني كظلي، يناجيني يناغيني يدللني كطفلة منقادة لنزق وطيش صبياني، في هذه الليلة ونحن في الانصهار الذائب توأمة نسجت من ذوبنا كيان واحد.
قال لي وصوته ينساب في قلبي كقيثارة حلم:
((ما رأيك لو نتناول فطورنا صباح غد في مطعم الساحل، كنت أتذكر توهجك الجميل وازدهارك المتألق حينما تتناغمين مع الطبيعة وكأنك زهرة ندية في آنية الكون))
شعت عيناي بنور السعادة وقلت بوجه طلق
((يسعدني ذلك))
تابع:
((سأمر عليك الساعة التاسعة صباحاً في مقر عملك لأصطحبك))
وهنا.. كانت القشة التي قصمت ظهر البعير
حاولت أن أنجز عملي على وجه السرعة، جاءني احد الموظفين المرحين ممن يأخذ كل شيء في الحياة بدعابة ونكتة وكعادته يحدثني بوجه مبتسم، الفرّاش وضع فنجان قهوتي وخرج دون أن ألحظ ترك الباب مغلقاً وأظنها المصادفات السيئة التي تخطط لنا قدراً معاكساً لأهواءنا..
دخل عليّ زوجي صدفة دون أن ينبهني برسالة أو تليفون، كنت منهمكة مع الموظف في ترتيب بعض الأوراق.. أجفل زوجي وتراجع مشدوهاً، فقد عبر محيّاه عن احتقان يعلم الله آثاره المدمرة، ودون أن ينبس بأدنى حرف، ترك المكان صامتاً ذلك الصمت المخيف وأدرك أن هناك كم هائل من الزوابع التي ستواجهني لاحقاً وحدست أنه سيذهب إلى البيت، تبعته ألهث خائفة، مذعورة، وعندما وصلت رأيته بركاناً يغلي حمماً، هاج وماج:
((كيف تسمحين لنفسك بهذا التصرف؟))
نظرت له نظرة جامدة، قاسية:
((أي تصرف؟))
((تعرفين ما أقصد))
((أنت تطعنني بكرامتي))
حدجني بنظرة صارمة متوعدة وصاح:
((أمامك خياران إما أن تستقيلي وتجلسي في بيتك معززة مكرمة أو تغيري طبيعة عملك، هذا الاختلاط لا يحبذه الشرع والدين وأمقته أنا شخصياً))
في هذه اللحظة أحسست أني أغرق وأضيع وأن كل مشاعري تتلاشى قلت ودموعي تلمع من وراء أهدابي أحاول إنقاذ كبريائي المسحوق
((لقد طفح الكيل يا عادل، وأظن الخيار الوحيد هو الطلاق، فغيرتك عذاب لا أطيقه))
بصلابة وعناد رد:
((أنت حرة، افعلي ما تشاءين))
تفاجئت أن يترك لي الخيار وكأنه يدفعني في كياسة باتجاه الانفصال أحسست أني هامش، لا قيمة لي في حياته، نزوة قد حولت كل مشاعري إلى أبخرة عذاب تبددها رياح الفرقة، فتصلبت في موقفي مصرّة، ظننته سيعتذر، سيحاول رأب الصدع، وكل ظنوني ذهبت شططاً عدت لأهلي محملة بحقائب حزني وأعباءنا ناءت بكاهلي، ونار تتلظى في قلبي.
أيام صعبة، مريرة فتكت بصحتي، وحطمت عنفواني، اتخذت من الوحدة ملاذاً لأحزاني، بت في حال كسيف تتنازعني الوساوس والظنون أعيش مع أهلي ولبي شارد وقلبي موزع يتعذّر عليّ أن أفعل أي شيء تجيش الرغبة في صدري إلى عادل وكأن ما حدث سحابة عارضة قوضتها حقيقة حبنا، وصدق مشاعرنا، لأعود أرزح تحت ثقل الأشواق وقهر الحنين، ما أن يتفرق عني إخوتي حتى تعود لي الوحشة بأنيابها المفترسة تنهش صدري وكأن الدنيا ليل كئيب غادره النور للأبد، حاولت أن أتمالك صوابي فلا أرخي العنان لآلامي فأحطم ما بقي لي من أعصاب، بادرت في الاتصال به، بعثت له المسجات، يتجاهل، يقفل الهاتف، جن جنوني ملكني نوع من الفزع ألهب فؤادي وعندما سقطت مريضة أتقلب على جمر اليأس والإحباط ذهبت والدتي إليه، لتسترضيه، وتفاجئت بها تسمعني ما هو الأنكى والأشد ((خبر مرضه)) ورقدته الطويلة في وقت الغياب، كنت أظنه أكثر صبراً وجلداً مني وإذا به أكثر انهياراً وخوراً، يا لكبرياء الرجل وعنفوانه المستبد.
إني أحبه بعمق، بقوة، فأيام الشهد لها حلاوة في نفسي لن تستطع كل عوامل الخصام ودواعي الفرقة أن تبددها هي الأقوى والأكثر رسوخاً أحسست أن لا حياة لي دونه.
أقبلت عليّ والدتي قائلة ((طالما تحبينه بهذا الجنون، أقبليه كما هو الرجل يا ابنتي لا يتغير، بل يتحوّل إلى كائن عدواني إن سعيت إلى تغييره، يعتبر ذلك استفزازاً لرجولته، اقبليه كما هو بعيوبه بنقائصه كي تعيشين سعيدة، لو لم يكن زوجاً طيباً لما أحببته كل هذا الحب، أظنه عرف كيف يسعدك هو وحده يملك تلك الشفرة السرية لكيانك المغلق، فقد حدثته وأيقنت من لمحات فكره واضطرابات إحساسه أنه يحبك ويتعذب في بعدك، وليس رجل قاسي كما تظنين))
قلت والدموع تنهمر على خدي ((نعم يا أمي فحبه قد استوعب فكري وملأ قلبي، وحياتي، كنت في أيام الصفو ناعمة البال، قريرة العين))
ربتت أمي على كتفي
((أنقذي حياتك يا ابنتي فليس بين الزوجين كبرياء وكرامة افعلي ما هو الصواب وستجنين ثمار هذه المبادرة إن وفرت عليه جهد الصراع واختصرت طريق الصلاح))
تركت فراشي بنشاط وحيوية ثم ارتديت ثيابي متجهة إلى بيتنا، اقتحمت عليه وحدته.. كان راقداً في فراشه، ذابلاً، شاحباً اقتربت وأنا أغالب حيائي.
((آسفة، آسفة، آسفة أقولها لك من أعماق قلبي وحرقة دمي))
أحسست أني أثرت شفقته فاغرورقت عيناه وأطرق محزوناً
((أرجوك لا تَبكِ))
وبلسان متعثر، ينضح فيه الندم ردد
((لقد جرحتك، وآذيتك كثيراً))
أجبته برباطة جأش:
((أعدك أني سأغير وظيفتي وسأعمل في مدرسة درءاً لأي اختلاط))
رمقني بنظرة حب عميقة قائلاً بصوت حزين:
((أتعتقدين أن الطلاق قرار سهل عليّ اتخاذه، كانت ترتعد فرائصي لمجرد التفكير به ويقض له مضجعي لهوله، وترتجف أواصري لبشاعته))
كان يستطرد بدمه ودموعه وهو أصفر الوجه، مختلج الجفون وتوسلت إليه أن يهدأ، أن يسكن فقد كان في صوته نبرة استرحام مخنوقة.
صفا الود، وعاد الأمل يداعبنا من جديد وخمدت رقدة العذاب فاستوينا بعد انكسار، غادرنا شبح القلق فترة طويلة إذ أحسست وكأنه يفيض حباً وحناناً بعد كل خصام، أحبني بجوارحه حتى فنا في حبي
لفتنا الأيام بدوائر الحب والمرح والأمل وسارت سفينة الحياة في خضم الصعاب، أحسبه يقاوم هذه الحالة كلما استبدت به وإذا به ينكرها، يتكتم عليها، يتحاشى الخوض في غمارها الكئيب وإن غلبته وأثارت زوبعة أتركه لوحده ريثما يهدأ ويسترجع حساباته فيعود لي مشرقاً مزدهراً وكأن شيئاً لم يكن.

همسة:
((أيتها الزوجة.. لا تسعي إلى تغيير زوجك اقبليه كما هو بطبيعته))















(10)



دلال بنت الأكابر




اسم الزاوية : (( بيني وبينك حكاية ))
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) (الروم/21).

مقدمة الزاوية:
بين الزوجين.. حبل موصول برحمة إلهية، مسكون بدفء فطري، احتياج غريزي، تناغم عاطفي، انتماء. قد يختلفان، يتباعدان، يتخاصمان، لكنهما برحمة الله ولطفه يعودان. هكذا كتب القدر الإلهي: توأمة خالدة، ذكر وأنثى، بهما ((يعتمر)) الكون.. لهما في كل حكاية موقف، ولنا في كل موقف عبرة.



دلال.. بنت الأكابر
بقلم خولة القزويني


جاءت تميس بقدها الأهيف وترهف إلى همس الإطراء يتبعثر مع خصلات شعرها المسافرة في الهواء ودون أن تلتفت إلى أحد في خطوها الواثق تدخل كافتيريا البنات..
إحداهن تلوح من بعيد.
((دلال))
ينتهي بها المقام إلى نخبة خاصة من الصديقات لهن تصوّر عبثي يجعل من الحياة ألعوبة مشبعة بالملذات وهن قد تكيفن ضمن هذه الحدود من الاهتمامات.
تستعرض سوسن هاتفها الجديد.
((لقد اشتريته البارحة، إنه قادر على التقاط أروع الفضائح)).
ويضحكن في دعابات فارغة.
لم تكن ((دلال)) في مزاج يجعلها متناغمة مع ثرثرة تافهة.
تقترب منها ((هبة)) هامسة.
((يبدو أنه لم ينتبه إلى أسلحة الدمار الشامل في جسدك المثير)).
تنهدت ((دلال)) دون أن تنبس بحرف.
وتستطرد ((هبة)).
((لا أدري ماذا أعجبك بهذا الشاب البائس؟))
في شرود طوق إحساسها عن الحضور المتفاعل، تستعيد ذاكرتها صوراً ليست ببعيدة، إنها رهن العام الدراسي الجديد في كلية التجارة والاقتصاد متخطين فيها سنوات ثلاث، لمحته بسمته الجاد، يتخذ من الدرج الأخير مقراً لسكونه المهيب كم هي من المصادفات التي جمعها في قاعة المحاضرة لوحدهما دون أن يجتاز حاجز صمته، ترك حضوره المهيمن في نفسها حالة من التحدي، كلهم يتهافتون عليها مأخوذين بسحرها، مذ وعت أنها بهذه الفتنة أدركت أن طريقها معبد إلى قلب كل رجل، هو وحده من قطع عليها طريق أحلامها وشاء أن يوجه لهذا الإبهار صفعة توقظه من الوهم.
((سناء)) توجه لدلال سؤالاً وهي تضغط على يديها متوددة.
((ألم تطلبي شيئاً لفطورك؟))
في التفاتة ودهشة من استيقظ من غيبوبة.
((نعم، سأطلب في الحال)).
وعجلت بالنهوض من مكانها لتطلب القهوة والساندويتش ثم عادت تسترجع في مخيلتها شيئاً كان قد علق في ذهنها، لم يكن خجولاً أو انسحابياً فصده متقصد، إنه يناقش الدكتور بثراء فكري عجيب قلما أجده في شباب اليوم.
تعود ((هبة)) تلكزها بكوعها مداعبة.
((نحن هنا))
بضجر ترد ((دلال))
((أصبحت مملة يا هبة، دعيني وشأني)).
ترميها بنظرة عابثة.
((لقد تغيرت كثيراً يا دلال لم تعد رفقتنا تثير فيك الأنس)).
رقت تقاطيعها بغتة وقالت ملاطفة:
((منهكة بعض الشيء))
((الإنهاك لا يسوغ فرارك بهذا الشكل))
بعد إفطارها دعت هبة إلى رفقتها في باحة الكلية.
وبشموخ الظباء تتهافت، مترعة بطاقة مكنونة لم تستسلم لسطوة الفتنة تستفرغها من المنابت، فجمالها مطعم بهجين له نكهة الحنان المتدفق طوعاً في ضوء القمر، تنساب في لفتاتها براءة استثنائية تجمع بين دفق الأنوثة وشغب الأطفال، مسكونة بحالة مميزة من التناقضات حتى تعذر على الآخرين فهمها رغم كل ما تملك من وسائل إقناع فطرية.
((هبة.. هل تسدين لي خدمة؟))
((بكل سرور))
((أريد رقم هاتفه)).
شخصت هبة ببصرها إلى سطوح المبنى الشامخة وكأنها تتذكر قامته الممتدة بهيبة مخيفة، إنه يضرب حوله أسوار من الغموض.
التفتت إليها دلال ثانية.
((ما بك؟ هل كان طلبي عسير؟ اشحذي بصيرتك، فأنت ذكية وحاذقة ولك دهاء مشهود له))
اطمأنت هبة لفطنتها وعملت تفكر على طريقة مختصرة لتوفير الرقم لكنها استطردت متذمرة.
((إنه شخص معقد، لِمَ تتهالكين عليه وأنت بنظرة تصرعين أعتى الرجال؟))
بشموخ انقلب إلى إذلال تقول ((دلال)):
((حاولت التقرب منه، طلبت منه دفتر محاضراته متعللة بغيابي، اعتذر، ترامت تحت أقدامي كراريس المحاضرات من الآخرين ولكنهم أشبه بالذباب أهشهم عني بقرف)).
سألتها ((هبة)) بتوجس.
((وماذا تقصدين من وراء هذه العلاقة؟))
((أريد إذلاله، المتكبر، المتغطرس)).
((مسألة تحدي فقط؟ لا أظن إنه يعني لك شيئاً هاماً لكنني لا أرى فيه إلا شاب عادي من عائلة متوسطة الحال، سيارته من طراز قديم، شكله يرجع إلى العصور الوسطى، لا أظنه يفهم حاجات الفتاة العصرية))
قالت دلال بدافع خفي:
((إنه متدين على ما يبدو)).
بسخرية ترد هبة:
((وماذا وجدت فيه غير العقد والجحود)).
برقت عيناها بلمعة خاطفة وهي تستعيده في الذاكرة وبإعجاب.
((شدني إليه دون إرادة مني، غض طرفه عني بشكل لافت حتى ظننته متردداً لكن اتضح لي أنه من العنفوان ما يذهل النفس))
صمتت وكأنها تستحث خباياها في استحضار صور الدهشة تركت في نفسها حاسة انجذاب مشتعلة.
((حضوره اللافت بجرأة يقنع الأستاذ، تورعه عن السخافات التي تستهوي الشباب، صرامته وصلابة مواقفه.
والتفتت إلى هبة مؤكدة.
((يثيرني اقتحامه في بعض المواقف التي يجبن فيها الطلبة)).
افترقتا عن بعضهما لتذهب كل منهما إلى محاضرتها بعد أن طمأنت هبة دلال قائلة:
((سيكون الرقم معك غداً)).
رن موبايل ((دلال)) وكانت المتحدثة والدتها.
((حاولي أن تعودي بسرعة إلى البيت فأم عامر ستزورنا اليوم مع ولدها لخطبتك))
أبدت دلال نوع من الاستياء، بينما تحاول الوالدة إقناعها.
((لقد تخرج للتو من لندن ويحمل شهادة عليا في الطب، إنها فرصة لا تعوّض يا دلال)).
تسمّرت في مكانها، استوقفها هذا الخبر وعقد لسانها فوجدت نفسها بحركة آلية تدخل قاعة المحاضرات وهي ساهمة والأستاذ يستحث خطاها غاضباً ((هيا.. تفضلي)).
ودون إرادة وتخطيط وجدت عينيها تختلس إلى ((أحمد)) نظرة متأملة حدج الأستاذ دلال بنظرة استفزازية قائلاً:
((لا أحب أن يدخل بعدي أي طالب، مفهوم؟))
ثم أجال طرفه في الطلبة حتى استقرت عيناه على دلال منجذباً إلى سحرها الأخاذ.
((هل أعددتم التقارير؟))
همهمات تصدح دون أن يعرف مصدرها، شفاه تثرثر باحتجاجات غير منطقية ووسط هذا الضجيج يشق ((أحمد)) الصفوف متجهاً إلى منصة الأستاذ، يبسط أوراق بحثه على الطاولة.
سأله الأستاذ:
((ماذا أعددت لنا يا أحمد؟))
في تكوين ((دلال)) إشارات خاصة تنبئها أن ثمة انفراج في مسألتها المعقدة حتماً سيصيب المرمى بشكل لا يلفت إليه الحضور.
بصوت أجش ونبرات تستدلك على باطن متوازن راحت كلماته تنهمر في مسامعهم بأريحية عجيبة.
((التقرير يتناول الجمال كمفهوم في بعدها الأخلاقي))
انبهر الأستاذ، اتسعت حدقتاه كأن لعينيه آذان تصغى إصغاء من نوع آخر وبشغف من يعرف أن لهذا الشاب ثقافة متجددة تستطيع أن تختزل ثقافة أساتذته.
ارتبكت دلال وتضرجت وجنتيها فليس تقريره كان مصادفة وهو مدرك تماماً أنها رديفة الجمال، لفرط ما شهدت من إطراء وثناء على محاسنها صمتت وبان الاضطراب في تقاطيعها، لو أنه وجه لها نظرة خاصة تستثنيها عن الأخريات وتحيطها بسياج خاص يجعل منها مملكة خاصة به.
سأله أحدهم.
((ولماذا اخترت هذا الموضوع؟))
أجاب دون تردد.
((في هذا العصر تغير مزاج الإنسان بشكل جذري جعلني استدرك بشدة لما شذت ذائقنا عن الوضع السليم، تعطلت البوصلة الإنسانية الدقيقة التي ترشد الحواس إلى التفاعل الفطري، حتى ظننت أننا في عصر الدمى المتحركة)).
قهقه أحدهم.
((أحتاج مترجم يا جماعة))
أطرقت ((دلال)) بوجه كسيف وفكرت ملياً في كلماته فربما كانت المعنية في حديثه لفرط ما وجهت إليه من إشارات إثارة لتجتذبه، إنها تتحرق على نار وتود لو تكشف خبايا هذا الشاب المتحفظ.
((أكمل)) قال الأستاذ وهو يدعو الطلبة إلى الإنصات.
وقرأ أحمد.
((إن الله جميل يحب الجمال، وجمال الله نشهده في المخلوقات، في كل الأشياء المبهرة حولنا، ونحن كبشر ننسب هذا الجمال إلى صنع الله وقدرته، فننشد إلى الوجوه الجميلة، مشاهد الطبيعة الخلابة هذه المظاهر أشبه بالذرات الصغيرة التي تنتسب إلى الجمال المطلق المتمثل في الله، كل شيء في الدنيا ناقص وشغف الإنسان في المطلق يجعله طموحاً نحو الأفضل والأجمل والأقوى والأشد.. الكون هو آيات من صنع الله وهذا التناسق في التكوين يجعلنا ندرك عظمة الله فكأن الله يريد أن يرشدنا إلى بعض جميل صنعه قائلاً في فحوى هذه المعالم ((إنك يا إنسان مبهور بهذا الكم القليل والبسيط من الجمال فما بالك بالجمال المطلق الذي أنا مصدره)).
في وجوه البشر تلك الملامح التي تجسد عظمة الله وروعة صنعه، هذا الصلصال البديع التكوين ينفخ الله فيه بعضاً من روحه ويتمثل إنساناً فيه من الجمال السوي والسحر والنور هذه الروح المسكونة داخل الجسد هي التي تعطي للوجه معناه وانفعالاته وإحساساته والتي هي أشبه بذرات أو طاقة تدخل إلى الآخرين فتحدث فيهم شيئاً من التفاعل، لماذا تشوهت فكرة الجمال، وتحوّل إلى مجرد ملامح باهتة، ناضبة الإحساس منطفئة الرونق، هل تظن أن المشارط قادرة على بعث هذا الإلهام في النفس؟ هل يمكن فصل جمال الشكل عن جمال الروح وهل يمكن للأغلفة أن تستعيضك عن الدر المكنون لقيمة الأشياء ومعناها، الروح هي من تعطي للملامح حيويتها وتضخ فيها دفقاً وإشعاعاً، وأجمل ما يكون الجمال أن تشكر فيه ربك كنعمة من نعمه وتتحرر من استيطانه ذاتك كلعنة تفقدك اهتمامك بقيمة الروح.
نقل طرفه بين الحضور متوجساً أن يكون في تقريره ما يتعذر فهمه وقد حدثته نفسه أن ((دلال)) ستنشب مخالبها في قريحته لتهدر كل هذا الفكر الذي يبتذل جمالها، سحنتها المبتدلة وشت بانزعاج فعلقت بصوت مختلج.
((أظنك تقصد أن كل الجميلات فارغات المحتوى فعملت على زرع هذه الفكرة كي تسخر من غرورهن؟))
استوى جالساً وراح يتحدث بصوت صارم.
((لم تفهمي قصدي يا آنسة، مبعث كلامي أن نصبغ الجمال بصبغة ربانية وننسبها إلى الجمال المطلق الذي يوثق إيماننا بالله، فجمال الجميلة لا يسوغ لها الغرور والتكبر طالما هو هبة من الله سبحانه بالعكس إنه مدعاة للشكر والعبادة والتقرب إليه سبحانه كي يحفظه ويصونه ودليلاً على كرمه والتعامل بهذه الروحية الشفافة يضيف للملامح انبعاثات نورانية من الداخل أشبه بضوء المصباح أو الدم المتدفق في العروق، وستظل خاصية الجمال متجددة مع السنين حتى لو تغضنت البشرة ونضب منها الرواء، فالتفاعل في عمق خصائص الجمال يجعلك تكتشف مذاقاته المختلفة بأحاسيس أجمل وأروع ليست كاميرا العين هي وحدها من تلتقط المشهد للحظة آنية بل هناك مجمل من الكاميرات والعدسات الحساسة التي لا ترى بالعين المجردة تعمل على هضم جماليات متدفقة تنشطر في الروح أكثر فأكثر فتربطك بالله سبحانه وتشهدك على جميل صنعه وقدرته في السيطرة على إحساسك وتوجيهه عبر هذه المؤثرات)).
تلفتت دلال حولها محتارة فقد تهيبت أن توضع نفسها في مداخلة تخرجها بحجم صغير وبجمال مسلوخ، بيد أن ((أحمد)) عرف كيف ينتشلها من الحرج قائلاً:
((أنا معك أن ليس كل الجميلات فارغات وأؤكد لك العكس أن في عصرنا الحاضر تعمل المرأة على صقل شخصيتها من الداخل وإثراء ثقافتها لأنها تدرك أن الشكل الخارجي عملة زائفة سرعان ما تستبدل بالحقيقة)).
وتنفض المحاضرة ليتفرق الطلبة إلا منهما، تأتيه في ارتباكها الجميل وبصوت تهتز أوتاره طرباً مبدية إعجاباً خاصاً به ثم تسأله بشيء من التودد.
((هل كنت تقصدني في هذه المحاضرة؟))
هز رأسه مستخفاً بكلامها.
((وهذه من علامات الغرور التي تشوه حقيقة الجمال)).
لم تفهم قصده.
سألته ثانية.
((اختيارك لهذا الموضوع دليل على اهتمامك بالجمال والمرأة والحب)).
قاطعها محاولاً إنها وقفتهما الساكنة في خلوة تستهجنها ذاته.
((هذه الأشياء التي ذكرتيها ليس كل ما يعني به الرجل في حياته، هناك واجبات كثيرة يليق بالرجل أن يضطلع بها)).
وقبل أن تهم بالسؤال الآخر، أستأذنها وانصرف.
((عن إذنك سألحق بمحاضرتي الأخرى)).
داخلها شيء كبير من القلق فقد استحوذت عليها فكرة أن هذا الشاب عصى الفهم، تعجز نفسها عن فهم أعماقه وسبر أغواره، تشعر بانغمارها في أمواجه دون أن تملك أشرعة الخوض بمهارة.. تتدفق في داخلها أحاسيس جديدة تشعرها أن خلف سطوحه الباردة يقف إنسان مفعم بجماليات نادرة تسبغ عليه رونقاً خاصاً يجذبها إليه يوماً بعد آخر.
عادت إلى بيتها ساهمة الفكر تشخط رجلين محبطتين قد سلكا درباً شائكاً ينذر بسر مكنون لم يتمخض عنه الغيب بعد..
وفي غمرة أفكارها المدلهمة يأيتها هاتف...
بتثاقل ترد
((نعم))
وإذا بالصوت يصدح بالبشر
((خذي الرقم))
بتهافت ودهشة
((هبة!)) كيف فعلت ذلك؟
((دوني عندك الرقم فأنا في عجلة من أمري، سأحدثك لاحقاً.
(..........96))
جلست دلال على حافة السرير وهي تحتفظ بقصاصة الورقة بين كفيها وكأنها تحتضن قلبه، هذا الرقم سيكون نقطة الانطلاق إلى مغامرة ستخوضها مهما كان الثمن قد تبدو مخيفة بعض الشيء لكنها الطريق الأمثل لاختراق صمته، فيها لهفة عارمة لسماع صوته، إنه ترك في نفسها شيء من الفضول والتحدي المثير لكوامن عواطفها وبأصابع مرتعشة ضغطت على الأرقام وإذا بكل عصب في جسدها ينتفض برعشة مجنونة.
يرن الهاتفف دون استجابة، انهارت فرحتها فعادت تتصل للمرة الأخيرة وهي تضمر في نفسها الغاضبة أنها ستمزق القصاصة إن لم يرد فقد يكون للغيب أحياناً تصاريف أخرى، وبعد الرنة الرابعة يخفق قلبها مع دفء صوته وإذا بها تتلعثم، تحتبس الفرحة النزقة في أوداجها، لهفة تركت صوتها يغمغم في خفوت خجل.
بأدب جم سأل.
((من المتكلم؟))
تزدرد رمقها
((ألا تعرفني أنا دلال))
صمت طويلاً يسترجع في ذاكرته المشهد الأخير في الكلية.
لكنها بادرته قبل أن يتكلم.
((أحمد، أحتاج أن أحدثك))
تراجع خطوة متخذاً بعض الحذر
((أظن حديثنا في الكلية أفضل))
((ولكنك تصدني))
((يعتمد على طبيعة الحديث))
باغتته بدفعة من المشاعر الاستفزازية.
((أننت معجب بي وتحاول أن تصدني))
استثارت غضبه.
((كفاك غرور يا آنسة، أظن أن الحديث قد انتهى وليس هناك ما يستدعي أن نتناجى خلسة)).
انتكست مخذولة بمرارة صده لكنها تابعت بشيء من الإصرار.
((كيف لي أن أتجاهلك من بين حشد التافهين يحومون حولي كالذباب، أنت وحدك أدركت مجاهيل نفسي وسبرت أغواري حتى فجرت داخلي إحساس غامض يشدني إليك)).
استوقفته باعترافها الصريح فقال وقد اتخذت لهجته بعضاً من اللين.
((أنا لا أدري عمّا تتحدثين وكأنك تخاطبين إنساناً آخر))
بنبرة حادة
((بل أنت من أقصد وأعتقد أن لك من الذكاء ما يسوغ لك أن تفهم ما أعني وما أشعر بالضبط))
((إذن دعيني أسألك))
((تفضل))
((ماذا تريدين بالضبط؟))
اطمأنت إلى بلوغها المرمى بعد أشواط ثقيلة.
((ألا تعرف؟))
ويذعن في قطع الطريق ومحاصرتها في زاوية.
((إن ما أعرفه عنك فتاة هوائية، مزاجية، مغرورة، لا يستهويها إلا المظاهر الباذخة والشكليات السطحية)).
ارتاحت لاستجابته فتمادت:
((لا تظلمني أرجوك فأنا أتعذب في أعماقي لأني لم أجد الإنسان الذي يخاطب وجداني ويكتشف كياني ويجاذبني بلغة العقل))
((أحببتك)) ...
قاطعها كالملدوغ
((أرجوك كفى، أنت تغامرين في مسألة حساسة، والآن أعتذر عن الاستمرار في الحوار... مع السلامة))
لكنها لم تقفل الهاتف بل حاولت أن تنتحي بالحديث منحى آخر.
((أردت أن أقول لك أنك رجل مميز في مواقفك ونادر في صفاتك فارساً نفتقده في زمن يقتات على الشهوات))
صمت مأخوذاً بكلامها.. وفي وقفتها أطلقت تنهيدة حارة وإذا بصوتها يختنق لتواصل بهمس.
((لن أطيل عليك أكثر مما فعلت.. يسعدني أن نبقى على اتصال))
ودون أن يخرج من صمته، أقفل الهاتف.
ارتمت على سريرها مأخوذة بدهشة الموقف والخطوة الإيجابية التي أثمرت بهذا الشكل، انفراج بسيط يبشر بحل العقدة فقد لان بعض الشيء وخفض لها جناحه وستمضي في استكشاف مجاهيل روحه بكل عزم وحيلة.
تدخل عليها والدتها بفرحتها الكبيرة.
((اذهبي إلى الصالون لتجهيز نفسك ((فأم عامر)) ستزورنا هذه الليلة مع ولدها))
لم تكن دلال في وضع يسمح لها أن تستوعب معاني الكلمات، بدت هائمة مشبعة بإحساس مريح يدب في عروقها كالخدر فيسلبها طاقة التفاعل مع كل من حولها، إنها غارقة في جلة المشاعر الجديدة، تحلّق في أفق خاص بها، في نشوة استحوذت على أعصابها فكبلتها بقيد هذا الرجل الذي كلما تمادى في الصد أوغلت هي في الحب.
هتفت بها الأم قلقة.
((ما بك اليوم؟ هل أنت متوعكة لم تبارحين الفراش منذ أن حضرت من الكلية؟))
تنهدت وهي تتمرغ على السرير بتكاسل.
((يا أمي لا أفكر في الزواج الآن))
((إنها مجرد زيارة للتعارف))
((لا أرغب في لقاء أحد))
((ولكني اتفقت معهم على هذا الموعد))
بضجر قالت:
((حسنُ سأقابلهم شريطة أن لا أذهب إلى الصالون فليس لي رغبة في ذلك))
وكان المساء حافلاً في بيت الأكابر، يأتيها عامر ببنيته الرياضية الممشوقة وعطره الباريسي يتضوع حول المكان، متألقاً كنجم سينمائي، محدقاً بفتاته إبهاراً برق كشعاع يتطاير من عينيه، يلمح فيها لفتات نافرة، تتمايل بأنفة واستعلاء وتدبر عنه في غطرسة وتشامخ وعندما وقعت عيناه بعينيها أدرك فيها إعراضاً أطفأ جذوة شوقه وأوهن عزمه عن مباحثة أمه في شأن الزواج حاول ملاطفتها ليوغل أكثر في دفائن قلبها لمس فيها بروداً وانكماشاً فرغم تلك الحفاوة التي لا تعدو إلا مسحاً ظاهرياً لطقوس شكلية إلا أن الأمر برمته غير مقنع لنرجسيته المتطلبة خضوعاً وامتناناً فأجفل متصنعاً التجاهل والاستنكار لحسنها الذي تهافت عليه في بدء اللقاء، ولعلها كانت تتصرف بلباقة شديدة دون أن تجرح إحساسه فما في قلبها لا سلطان لها عليه، وحده أحمد من استحوذ على مشاعرها فكانت كل مقاطع عزفها تتناغم مع نبض فؤادها وانتظرت أمها مبادرة تطمئنها على سير الخطبة، خرجا متعللان بأعذار مفتعلة فقد كان موقفهما بارداً ينم عن فتور ناقص اندفاعهما في أول الأمر وانتظرت الأم لأيام متوجسة من هذا الإعراض وعندما يئست من ردهم بادرت لتتصل كي تحسم حالة القلق المضنية فأجابتها أم عامر أنه أجل فكرة الزواج، ولم تكن أم دلال من الحماقة ما تقتنع بهذا السبب الواه، فألحت لمعرفة الأسباب مما اضطر أم عامر أن تصارحها بالحقيقة فعامر لا يرغب في الزواج من ابنتها.
اهتاجت
((وما في ابنتي من عيب؟ إنها ملكة جمال أظنه..
قاطعتها أم عامر اختصاراً للحديث وحفاظاً لماء الوجه.
((ولأنها ملكة جمال فهو لا يستحقها))
بدت أم دلال غارقة في شرودها، قد أخرستها الظنون وألجمتها الصدمة فلأول مرة ترفض ابنتها بهذا الشكل المهين وتمادت في التفاسير السلبية والاحتمالات البعيدة مأخوذة بوساوس مزعجة.
هل هناك ما يغيب عني؟ كيف هو سلوك ابنتي في الجامعة، هل تحرى عنها وعرف ما يكدره؟ لا.. لا.. مستحيل فابنتي مؤدبة وثيابها محتشمة لكن.. لِمَ تراجع بعد أن كان متحمساً لها؟
ولم ترتدع عن شكوكها إلا عندما انتزع زوجها فتيل قلقها بلهجة حازمة.
((اتركي عنك هذه القضية الفتاة مرغوبة وخطابها كثر فلم بقيت ترزحين تحت ثقل هذه المسألة؟))
وبقيت دلال رهينة حبها المشاكس وغموض رجل يكتنفه أطواراً من الغرابة والغموض، صارحته بدخيلة نفسها لكنه معرض في ظاهر سلوكه، تجمعهما مقاعد الدراسة، يتبادلان لغة مشتركة رغم الصمت الثقيل، ((أحمد)) آخذ في التفوق والإبداع، مذهل في عبقرية علمية أضفت عليه هيبة جاذبة فاستهامت به دوناً عن غيره، المعارض الوحيد لقوانين فتنتها الساحقة، تستدرجه بوسائل أخرى تخفي في باطن روحها علل قلبها، يلتفت إلى احتقان أعصابها المنهكة وهي تترقب انجلاء الأزمة، وانبلاج صبح الأمل في عتمة حبها، أدهشت في ذلك الصباح حشد الطلبة وهم يتفرقون في كل ناحية ينتظرون طلتها الصاعقة ومشيتها المختالة كظبية شاردة فإذا بفينوس الكلية مرتدية ثوباً طويلاً حوّط فتنتها بسياج من الرهبة، يتساءلون ويتقولون ((ماذا حدث؟)) وكأنها قديسة عازمة على نحر شهوتها بأثمان عذابها تدبر في استعلاء دون أن تنبس بحرف، يقف ((أحمد)) على بعد مترقباً في دهشة حضورها المبهج ولأول مرة ينضج وجهه بالبشر، يتأملها كوكباً درياً يزدان بهالة من السحر ودون أن تتكلم تشير في التفاتة مقصودة ((لعلني أعجبتك هذه المرة)) وأشاعت أنها ستتحجب، التقطت الطالبات أنفاسهن ارتياحاً فهي من كانت تستأثر بالإعجابُ ما دونها يتساقط بإهمال، الآن حُجب الجمال، وتقوضت الفتنة، وكبح طغيان أنوثتها الأخاذة، مباركة حوطتها من كل جانب، التفت حولها الطالبات يغمرنها بمشاعر ود ويستبطنها حسد دفين، وعندما خفت الزحمة وانفض الجميع خطت ناحية ((أحمد)) وهي تطأ الأرض تيهاً وزهوراً فانبرت بصوت يختلج تأثراً:
((ربما أستطيع الآن اختصار المسافة!))
طافت عيناه بوجهها وكأنه يقرأ فيها معالم جديدة، تنهد قائلاً.
((أمنية مزمنة أكابدها على مضض))
((منذ فترة أتصل بك فلا ترد))
((لأني واثق أن حسم الأمور من البداية خير من الغرق في وهم النعيم)).
وبتوسل ذوب مهجتها.
((أرجوك افصح لي عن ما في داخلك، يخيّل لي أنك تعيش صراعاً مزقك شر تمزيق فمواقفك معي متناقضة))
أطرق صامتاً ثم استأذنها كعادته فتركها نهباً للحيرة والإرباك، خنقتها العبرة فكفت عن ملاحقته لمتابعة الحديث وقررت وهي في حمأة الغضب أن تختفي من حياته حتى لو اضطرها الأمر إلى تغيير الكلية ووطدت العزم على نسيانه ووضع حل لهذه العلاقة المبعثرة.
غابت عن صباحاته فخلّف مكانها الشاغر جرحاً في قلبه، عتمة حولت الكلية إلى مأتم عزاء، كان لها حضوراً باذخاً وألقاً ساطعاً يندر أن يستشفه في أنثى، وذلك الجاذب الغامض الذي يخلق في باطنه شعور بالإبهار فينشد إلى لقياها بغريزة الاستكشاف همهمة تصدح حول مكانها وغموض تحيكه مصادفات قاسية، أشيع أنها تزوجت وإذا بقلبه يضطرم بحرارة شوق استشرت في أوصاله كهيثم محترق فاستبد به شعور باليأس والإحباط ففر بعد أيام إلى صديقتها ((هبة)) ليستطلع خبايا الأمر فتفضي إليه ((إنها مريضة)) ثم نظرت إليه بترقب لترى ماذا عساه يفعل ومحبوبة قلبه تضيع من يده.
قال مذعوراً:
((تلفونها مقفل)).
((نعم فقد تعبت وليس لها رغبة في مخاطبة أحد))
سألها على حذر من يخشى أن تنزل به صاعقة.
((يقال أنها تزوجت))
ترد ((هبة)) باستهجان وهي تصعد فيه نظراً فاحصاً لاستكشاف ذلك التميز الذي أرهق صاحبتها الحسناء بلوعة الحب.
((مجرد إشاعات))
استراح بعض الشيء، لكنه بقى في مقام مجاذبة بين الإقبال والإدبار ماذا يمكن أن يفعل لبنت الأكابر الغيداء وهو الشاب المعدم، ذاق مرارة اليتم والحرمان، يحبها ويكابد من أجل أن يظل حبه عبقاً بالطهر والنقاء، فلم يخوض تجربة عاثرة يعلم أنها تنتهي إلى عذاب مستديم، قد تفنن في صدها بغية تطويق هذا العصف النازف كي لا يبدد منه العقل، ترمض في لوعته، وكبح طوفان هياجه لتسلم محبوبته من لعنة تطاردها أبد الدهر.
يعيش مع جدته في بيت متواضع، ادخر طاقته وعقله للعلم والكفاح وتبتل كناسك كبت فورة شبابه ليوم يباركه الله، فنشأ شهماً تفوح من أعطافه رجولة آسرة دوخت أعصابها فحولتها إلى محض روح مستهامة به.
فزواجهما ضرب من المحال هي بنعيمها الوافر وهو بفقره المدقع.
في يقظة الحب وباكورة الرجفة الأولى ظن أنه مجرد كائن مختلف يدهش مزاجيتها بنزوة مثيرة فتصب عليه تفانين أنوثتها كولع جديد تستطرب له الأوصال، فإذا بها محبة والهة اصطفته عن باقي الرجال وادخرت له وحده خارطة الجمال الخرافية ليخوض في تضاريسها مستكشفاً معالم أجمل وكانت في رحلة الشوق هذه خصبة المشاعر، دافئة العاطفة وافرة الإحساس، صادقة، كالزهرة نضحت ندى لازال منتشياً بأريجها الفوّاح.
وتذكر أن الحب مغامرة كبرى لا يدانيها إلا الفرسان وسيقتحم قلعتها ليفوز بها ظافراً.
نهضت من رقدتها على صوته الأجش يصدح في أرجاء الفيلا فتنحني له الجدران الشاهقة إجلالاً.
ورفض طلبه باستنكار كبير واستهجان أذل كبرياءه، لكنها خرجت تتعثر بثوبها الطويل وذبولها المتراخي أضفى عليها هالة من القداسة، صرخت بكل ما في داخلها من طاقة حب وعذاب.
((أنا أريده يا والدي، أحبه))
مفاجأة أوقعتهم في ذهول.
ترد أمها: ((ترفضين أولاد الذوات من أجل هذا النكرة؟))
ويردعها أبوها متوعداً
((اخرسي وإلا قتلتك))
فتراها تصول وتجول في حمأة الغضب مدفوعة بأمنية حياتها البعيدة تصارع من أجل فرصتها الأخيرة، حتى صاحت مهددة.
((إن لم توافقون على زواجي منه أقتل نفسي، فلا حياة لي دونه)).
وبعد نزاع شديد، وكر وفر رضخ الجميع فالإرادة الصلبة حسمت الموقف كما يقره المنطق وتم الزواج في مملكة أعلامها منكسة وشطآنها كئيبة وليلها بهيم، دخلت ((دلال)) لتعيش مع رجل كادح، متدين متفوق ينقصه المال والوجاهة.
وكانت حقاً بنت أكابر بخصالها الحميدة، وشمائلها الجمة وصبرها الجميل، تعلمت وتهذبت على يدي زوجها واكتسبت منه الفضائل والمعارف، فتلبست بهوية جديدة صاغها الحب الطاهر صياغة فريدة، عندما تزورها أمها محملة بالهدايا والعطايا، تأنف وتتأبى بحكمة مذهلة.
((رضيت أن أعيش مع زوجي علي الكفاف سعيدة بكرامتنا وبإيماننا ببعض)).
وأحبها أحمد فكانت لروحه سكن ولفؤاده مرفأ فتآلفا وتشاكلا وانصهرا في توأمة واحدة.
من يصدق أن ((دلال)) بنت الأكابر قد تحولت إلى لؤلؤة في صدف الطهر والحياء، تحجبت والتزمت بتعاليم دينها فقد كان أحمد حلمها الذي جسد رجولة نادرة وشهامة استثنائية، تخرجا سوياً هو بامتياز وهي جيد جداً، ساندته بعزم وهمة ليكمل المشوار فنال الدكتوراه في الاقتصاد، وها هو الآن أستاذ جامعي يُشار له بالبنان ومستشار تنحني له الأعناق الباسقة، وكلما تحدث في مجمع ينسب فضل نجاحه إلى ((دلال)) زوجته الصابرة الحنونة قائلاً بامتنان ((هي مدعاة فخري ونجاحي)).
إلى أن حدث ما يكن في الحسبان مرض أحمد بعد أن تطوّر التهاب الكلية إلى حالة مزمنة سبب له عطل في نشاطها فرزح تحت ثقل الآلام والأوجاع مما اضر الطبيب إلى إجراء عملية عاجلة لاستئصال كليته المعطوبة وزرع أخرى وكان الوقت حرج والأزمة تشتد فكانت دلال المتبرع الذي تخفى عن الأعين ليقدم العطاء هبة وقرباناً لهذا الحب الكبير، فقد شاركته محنته وتحسست دمعته وتقلبت معه على جمر الوجع فآن لها أن تقدم له قطعة من جسدها لتعيش داخله أبد العمر، ونجحت العملية ونشط الزوجان وتابعا حياتهما وفق الحب الذي لم تحطمه يد الدهر الخؤون أو تمسه الأيام بجارحة عرف أحمد فيما بعد أن دلال هي من وقفت إلى جانبه وكانت القوة التي تضخ الحياة إلى موات جسده لتنتفض فيه الروح ثانية فأوقرها في نفسه أكثر من قبل وأعزها في قلبه كأغلى أمنية وأخلص لها تمام الإخلاص.
أقبل عليها ذات ليلة قائلاً:
((تزوجتيني فقيراً وكافحت معي بصبر وإيمان وذقت معي مرارة الحياة وحلاوتها والآن أوسع الله عليّ من نعمه ويسر لي من فيوضات عطائه ما يكفيني أن أعيش معك مستوراً للأبد، لهذا وثقت كل ما أملك وما أدخر من مال وعقار باسمك أنت فقط، لم يرزقني الله منك بولد لكن منحني الحب الكبير والسلام الداخلي والعاطفة النبيلة والإيثار العظيم، فكنت لي نعم الزوجة ونعم الحبيبة ولن أنكأ جرحك بضره من أجل طلب الولد فأنت كل حياتي وسعادتي، سأرد لك في الآخر كل النعيم والجاه الذي فقدتيه زمناً بما هو أوفر وأعظم منه، إنه ثمن بخس أمام قطعة عزيزة من جسدك كانت هي مصدر شفائي ودوائي، فحقاً كما أنت بنت أكابر تستحقين وسام المجد والافتخار.
دمعت عينا دلال وخفق قلبها هلعاً.
((لِمَ تحدثني هكذا كما لو كنت مودعاً))
طوقها بذراعيه.
((أريد أن أضمن سعادتك الآن وغداً))
بتوجس أردفت.
((أنت تقلقني هل حدث شيء جديد))
طمأنها:
((لم يحدث ولكنها استحقاقات يرتبها القدر بإنصاف وبنسق عفوي))
((لم أفهمك))
بنبرة محبة قال:
((العطاء والبذل غذاء الحب ورواؤه الأبدي وهذا ما يفعله كلانا لبعض)).
انتهت
همسة:
((بنت الأكابر تطلب رجلاً لا جيباً))









(11)






الكاتب يعترف



بقلم: خولة القزويني
حينما يرتعش القلم بين أصابعه يدرك أن الفكرة عصية تهرب مع الأشياء الأخرى إلي العدم.. إلى اللا قيمة. خصام يحبط كل محاولات الإبداع، تشتكي انهزامها عندما خبت الدوافع الجميلة التي لونت حياته بصبة أرجوانية صارخة، ثابتة، متوهجة, لأنها نوع مميز تم طمره بوحل الدنانير.
رشح القلم بقطر داكن فوق بياض الصفحات فانكمش قلبه.. ارتجت روحه إنه فأل سيئ.. أطرق يفكر ساهماً.. عابس المحيا.. يستحضر الماضي رغم السهاد الذي أرقه.. غدا مقالته الأسبوعية.. بالأمس كان الهدف الحقيقة مجردة عن كل الهوامش والمبررات.. وحدث أن أصبح الخبز رهين الفكرة المفتعلة.. دنيا ودنانير غطت بسحرها الأخّاذ المسافات الممتدة عبر تنهدات طويلة رحل فوقها عبر صهوة الكلمة.. الحسرات الفائرة في كيانه المعذب، كان يبصقها في كلمات مدوية احترقت فوق الصفح الناصعة صادق ملتاعة خرجت من أعماق محمومة بالإيمان تنفث النار والنور فوق صنم الخطيئة.. اخترقت سهام العدالة كل زوايا المدينة لتحصد الأعناق المتطاولة على رغيف الناس.. وجلس الآن يتنهد يحتدم في صراع مع القلم الذي بات يسخر منه.. حولتني إلى ريشة ناعمة تميّع الحقيقة وتلون الواقع وفق مشتهيات البعض وفي طعم كل مزاج وفي نكهته مرة المذاق.. وبمقتضى الحال الذي فرضته على نفسك.. هل تذكر حينما كان الفكر يقدح خواطر كزهر البرتقال يتضوع أريحا ذكيا يسري في النفس قشعريرة ارتياح تعوضك عن الطعام والشراب، أو كسنابل تعشش في الذاكرة وتتبرعم حينا بعد حين تعرف انك متوائما مع نفسك كأن هرموناتك المضطربة قد تدافعت من جديد لتتسق مع فكرك... متصالحاً مع ذاتك إلى حد الانعتاق من قيود الواقع، تهزم اللاءات والممنوعات، تقفز حواجز المستحيل بخفة الحصان الرشيق لتجيء اليوم محدقا في ذاتك الخاملة وقد جف فيها النبع تستثير صمتها لتنفض عنها الرواسب تستنطقها فلا تجيب، تتوارى خجلة خلف غلالة رقيقة من الحلم المهزوم معنوناً بالمدينة الفاضلة. الوجدان معطل، النبض مبرمج وبين الشك واليقين هوية يسقط فيها كل مبدع وكفر بعد إيمان. فالفكرة والقلم توأمه وثيقة يتجاذبان المحبة في تناغم عفوي وأنت من يغذي شغفها وأنت من يطعم نهمها. برسائل شوق صادقة.. تركتها طعما للغربة وتركت نفسك رقما في سلة بيض لتحصد ثمن الخيانة.. عاهة مستديمة في الفكر مبعثها الجفوة بين الفكر والقلم.
استراح الكاتب، أدرك أن الصوت عندما يفكر يستوعب الإنسان مساحة المحراب المقدس الكامن في روحه ليصلي عليها ويتعبد متجردا من كل دنس وخطيئة، مدركاً أن لحن القول انتحار لكرامة الكاتب.. اشرأب عنقه.. ومضة مشعة..حدق بالورق طويلاً.. الدهشة تعقد لسانه.. حدث ما كنت أبحث عنه مصالحة بين الفكرة والقلم.






( 12)



انعطاف




بقلم: خولة القزويني
خطوات ويتحول إلى نثار..
تم كل شي وفق تخطيط محكم، المكان، الزمان، والآن هو بانتظار ساعة الصفر وفي طريقه أعد حقيبته ومجموعة من عذاباته ترقد مخفية عن الأنظار دخل بهو الفندق مرتديا بنطلون الجينز والتيشيرت الأبيض، تحسبه كائنا مشردا يهوى التسكع في الطرقات.
استأجر غرفة لثلاثة أيام وتابع سير الإجراءات حتى وجد نفسه قرب النافذة أطل في الشارع والسوق المكتظ بالناس والقوس الأسمنتي الذي طوق شارعين كان قد حدثت فيها مجازر بشرية.
مازال ذلك الصوت الهادر من عتمة المجهول يحرضه إلى الجنه بغواية تلامس فيه شغفا مالك وهذه الدنيا الرخيصة اختزل سنين عذابك في لحظة حاسمة فتسيل دماءك توقا إلى الحور العين، أعداءنا يتناهبون حقوقنا يتمرغون على ترابنا، يتقاذفون لقمنا المغصوبه، اترك حزامك الناسف ليبدد فرحتهم.
جلس مطرقا استحوذ عليه الرعب، فالموت بانتظاره وحصاد هذه الحشود يتطلب عزم وشجاعة الدافع الوحيد الذي كان يغذي فورته بغضه لحياة مريرة وأيام قاحلة عاشها ملفوظا من فم القدر، الخدوش المتناثرة على جسده الجروح المتقرحة تشهد له طفولة مسحوقة يوم كان والده ينقض عليه ضربا بالسوط طنا منه أن أمه كانت لعوب خانته مع أشباح.
تنهد مقهورا وزفر نفسا حارقا من كبد محرور، جعل يتلفت حوله ويفتح الثلاجة ربما يجد شيئا يأكله ليس سوى الماء.
نزل إلى مطعم الفندق.
اتخذ ركنا منعزلا وطلب شطيرة همبرجر لمحها طيفا عذريا تجلس متشحة بخمار أسود هل هي المصادفة من جعلتها تجلس أمامه بهذا الافتضاح السافر رفع عينيه الصادتين وجدها تتأمل باختراق متقصد عجب لهذه المرأة إنها تذعن في إحراجه، بيد أنها منبسطه في جلستها إلى مسه بشئ من الخجل حاول أن يقضم الشطيرة قضمات كبيرة ومتتابعة ليغادر المطعم، ارتعشت يداه فسقط نثار الطعام على ثيابه ترك المكان متعثرا في مشيته، اصطدم بإحدى الطاولات فانكب الماء على بنطاله، انتفضت من مكانها واقتربت منه متوددة تقدم له منديلها تجمدت الدماء في عروقه تشنج حتى جفت الكلمات في حلقه ولأول مرة سمعها تنطق
((سائح ؟))
((نعم))
فر خائفا الشيطان يتلبس ثياب امرأة استغفر ربه، دخل حجرته وأحكم إغلاق الباب خشية أن تقتحم وحدته!
حاول أن ينفض صورتها من ذهنه انتبه إلى البقعة الملوثة على بنطاله الآن هدأ وبدأ يهضم إحساسه المضطرب منديلها المعطر، صوتها المنغم بحنان، بشرتها الوافرة الرواء.
(دع عنك هذه الشيطانة) نعم إنها شيطانة ستجره إلى دنيا رخيصة فهو موعود بالجنة وبحور مقصورات في الخيام! هو جندي من جنود الله لن تزعزعه امرأة!
(سائح!) صوتها المتماوج بدفء متحرر من كل ضوابط الإيقاع، فيه انسيابية مريحة، نظراتها المتلاشية عبرت عن مخزون كبير من الأنوثة.
أحس بالضجر، برغبة كبيرة في التجول ترك حجرته وصادفها تجلس مع طفل صغير في ((بهو الفندق)).
وكأنما كانت بانتظاره هذه الماكرة!.بشت في وجهه فور أن أقبل، تجهم وتظاهر بالتحفظ وصبي السابعة يحوم حولها ممراحا انه يشبهها ربما ابنها أو أخيها الصغير؟!
((لما تسأل؟!))
همت تقترب ((من أي بلد؟))
انفجر بجلد ((أعتقد أن هذه أمور خاصة))
أجفلت انكشف رونقها فهتفت بخجل ((أسفه لم أقصد إزعاجك))
كان يفكر بها وهو ينهب الطرقات مستطلعا موقع العملية اكتنفته حالة من الجزع المرير ومجاذبة حادة بين طرفي نقيض، لأول مرة في حياته تصادفه امرأة!
من هي أول وآخر امرأة في حياته؟ ((أمه)) المرأة المسحوقة تحت وطأة شكوك زوج موسوس لم يعرف يوما طعم الحنان ونكهة العاطفة وذروة التلاشي في الآخر.
يوشك أن يلين تحت ضغط الخفقات، مازالت عيناها تحفران في قلبه وطن لما كان يكره أن يعيش ويحسب أن دنياه دوامة أحزان تتواطء الأقدار لتلقيه في حاوية النسيان بقى لزمن نكرة وأراد أن يحطم ماضيه بهذا المنعطف القهري ((الموت)).
الماء العذب يتسلل الى تجاويف قلبه الصخري وينحت في جدرانه منافذ حياة.
تركه ذلك الخفاش الذي لم يتشخص بهوية أو عنوان سلمه صك الجنه وغاب في غموض الفكرة، اليوم انكشفت له جفه ناضحه بالحياة تتسرب أضواءها المتلألأه الى شرايينه فتوقد فيه النور
لا..لا..لا بد أن أسير حتى النهاية
سأحسم أمري وأكبت هذا الإحساس
عاد الى الفندق وكان ناضب الروح فقد خلا مقعدها تلفت بحثا عنها اغتم وحزن نزل الى المطعم لعلها هناك تراجع مستاءا من نفسه
((أيها الأحمق تهزمك امرأة، أيها المجاهد الجبان!))
انتبه الى صوت الطفل وضحكاته في إحدى أركان الفندق المخصصه للعب الأطفال زغرد قلبه وكاد أن يفر من صدره وجاء يحدثها على استحياء
((آسف فقد كنت فظا معك))
افتر ثغرها عن ابتسامة عريضه مفعمه بالمشاعر ظل أمر الطفل يقلقه حتى صرخ ((ماما)) مستغيثا فور أن سقط من الأرجوحة هبت لنجدته احتضنته مذعورة، هامسه بذوب يقطر حنانا ((حبيبي،حبيبي))
أجفل الشاب، استاء من نفسه فليترك عنه هذا الشعور الخائب ويعود الى غايته.
خفق قلبه بشدة حينما اعتنق الطفل أمه الشابه واسترجع في ذاكرته طفولته الكئيبة والضرب المبرح والسقطات التي شفت عن عبث طفولي فطري.
غرق في حيرته وبخطوات فوضوية وشت عن باطن مشوش دخل غرفته واستلقى على سريره جزعا قد تضاربت أهدافه واختلت كل مقاييسه تناهى الى سمعه طرق مذعور على الباب، كانت (هي) تستنجده
((الصبي متعب جدا أحتاج الى مساعدتك ))
انتبه الى هذه المرأة كانت وحيدة دون رجل فاندفعت الغصة من حلقه حارة
((أين أباه؟))
شحب لونها فتباطئت بالرد.
رد ((فهمت))
أردفت قائله بعد أن استجمعت قواها
(( لقد قتل في عملية إرهابية عندما كان ماشيا في الشارع أتى رجل انتحاري ليحصد المارة دون ذنب ، وهذا ولدي الوحيد مصاب بسرطان الدم جئت به الى العاصمة لعلاجه))
اهتز كيانه، ارتعدت أوصاله، ارتجعت أعصابه وتساقطت كل قيمه في الوحل..فلينتشل ذاته من ذلك المستنقع الآس وذهب بها.. ومعها في انعطاف جديد.
























قراءة ممتعة ارجوها لكم

 
 

 

عرض البوم صور اقدار   رد مع اقتباس
قديم 25-10-08, 12:56 AM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Mar 2007
العضوية: 24813
المشاركات: 209
الجنس أنثى
معدل التقييم: تالا 15 عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 11

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
تالا 15 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : اقدار المنتدى : القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
افتراضي

 

يعطيك العافيه على القصص الرائعة
كل قصه لها صدى خاص اعجبني
يسلموووووو

 
 

 

عرض البوم صور تالا 15   رد مع اقتباس
قديم 09-05-09, 09:08 AM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:

البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 13121
المشاركات: 13,907
الجنس ذكر
معدل التقييم: dali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسي
نقاط التقييم: 4990

االدولة
البلدCuba
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
dali2000 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : اقدار المنتدى : القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
افتراضي

 

هذة المشاركة قيمة جدًا تسلم ايدك يا اقدار

نبذة عن الكاتبة من العم جوجل ،،احببت ان اضيفها بمروري هنا









قراءة موفقة للجميع

 
 

 

عرض البوم صور dali2000   رد مع اقتباس
قديم 19-05-09, 10:05 PM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Apr 2009
العضوية: 143729
المشاركات: 56
الجنس أنثى
معدل التقييم: زهور السوسن عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 19

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
زهور السوسن غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : اقدار المنتدى : القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
افتراضي

 

لم انتبهـ للوقت ..

فقد أبحرت في عالم الإبداع الذي سطرته يمناها لأصطاد من أعماقهـ لآلئ إبداعها ..


_:_ أقــــدار _:_

كل التقدير ~

 
 

 

عرض البوم صور زهور السوسن   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
للكاتبة خولة القزويني, مجموعة قصص قصيرة للكاتبة خولة القزويني, خولة القزويني
facebook




جديد مواضيع قسم القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 06:05 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية