كاتب الموضوع :
nightmare
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
تطلع بيتر إلى الممرضة قائلاً بلهجة آمرة:
- آنسة هانسن، أرشدي هذا الرجل إلى السهل بينما اتصل أنا ببرنارد.
أطاعت الممرضة الأمر فورا وتوجهت إلى حيث يجلس السائق و راحت تشرح له بلغته الخاصة ما سيفعله بالماشية.
أمسك بيتر بذراع جيسيكا متوجهين نحو العيادة:
- تعالي يا جيسيكا، سأخابر برنارد و بعدها ننتهي من ملفك.
توجه الدكتور اوبريان إلى مكتب الآنسة هانسن لاجراء المخابرة بينما جلست جيسيكا في عيادته تعيد تصفح ملفها.
فجأة سمعت باب الغرفة خلفها يفتح فالتفتت ظانة أن الداخل هو بيتر نفسه، لكن الابتسامة الناعمة المرتسمة على ثغرها تلاشت عندما وجدت نفسها تواجه دان. عقدت الدهشة لسانها فلم تقو على الكلام و هي تراقبه يغلق الباب خلفه و يدس المفتاح في جيبه. ظنت أنها تتخيل فصاحت بصوت يشبه الحشرجة:
- ماذا تفعل هنا؟
سار دان بخطى بطيئة ناحية المكتب و راح يتفحص الأوراق المكدسة، ثم قال:
- تلقى بيتر مكالمة طارئة من المستشفى و طلب مني اتمام ملف اجازة الطيران بنفسي.
- ماذا؟
- عندما أريد أن أعيان أحداً فأفضل أن يكون عملي كاملاً.
شبكت يديها خلف ظهرها و قالت بحزم:
- لن يحدث هذا أبداً.
تلاقت نظراتهما لثوان و أحست بعينيه الرماديتين توشكان على الانقضاض عليها، و هو يتقدم منها مبتسماً ابتسامة غريبة لم تلحظها من قبل.
نهضت عن مقعدها مذعورة، و تراجعت نحو الباب بخطى متعثرة و يداها على وجنتيها الملتهبتين:
- إذا تجرأت على لمسي فسأملأ المكان صياحاً.
ابتسم مجدداً و ازدادت عيناه لمعاناً:
- أصرخي ما استطعت، فالآنسة هانسن ذهبت لتناول الغداء (و أشار باصبعه إلى باب الغرفة خلفها مردفاً) عدا عن أني أقفلت ذلك الباب و المفتاح في جيبي.
تراخت يداها و تحول لون وجنتيها القرمزي إلى أصفر شاحب:
- يا لك من ماكر نذل.
هتف بتململ:
- إنك تسببين لي الضجر يا جيسيكا. هيا.
لم تخشه كما الآن. و قد تحولت إلى هدف سهل لعينيه تجوبانها من رأسها إلى أخمص قدميها بنهم و وقاحة. شعرت بجفاف هائل في حلقها، و عاد الدم يلهب وجنتيها فالتصقت بالباب صائحة:
- حسناً يا دان، لقد ثأرت لنفسك. أعترف أني أخطأت بالهزء منك و انت تتلقى هدية الزعيم. و أعترف أني أخبرت بيتر عن مغزى الهدية. لقد أخطأت و انت الآن تحاسبني على خطئي، و أظن أننا تعادلنا. أليس كذلك؟
بدا و كأنه لم يسمع حرفاً مما قالت و خطا نحوها مردداً بنبرة باردة:
- يبدو أنك حقاً تريدينني أن أعاينك بطريقتي.
ما ان أصبح قربها و هم بمد يده إليها، حتى رفعت ذراعها و صفعته على وجهه صفعة تردد صداها في انحاء الغرفة. تسمرت في مكانها تحدق به بعينين ضائعتين، و حاولت الكلام لكنها بدت عاجزة عن فعل أي شيء. ما قامت به لا يغتفر أبداً، و هي في قرارة نفسها لم تقصد صفعه. لكن خوفها منه دفعها إلى ذلك بعد أن أعمى بصيرتها.
اشتعلت عيناه و قد هاله ما فعلت، فأمسك بها ضاغطاً بأنامله على كتفيها و صائحاً كبركان ثائر يقذف حممه في كل اتجاه:
- أقسم ألا ألمسك بعد الآن، لكن عليّ اللعنة إن لم أجعلك تدفعين ثمن ما فعلته.
فجأة، دفعها بقسوة بعيداُ عنه، فاستندت إلى أحد المقاعد مغمضة العينين فريسة الدوار و الارتعاش، و سار إلى الباب يفتحه على مصراعيه قائلاً بنبرة متوعدة:
- بإمكانك الذهاب يا دكتورة، لقد تعادلنا الآن.
لم تصدق للوهلة الأولى أنه جاد في كلامه، فبقيت للحظات ثم هرعت نحو الباب تتحقق من فتحه و خرجت لا تلوى على شيء، تحمل إلى منزلها زوبعة من القلق و الاضطراب و دموعاً سخية تبلل وجنتيها.
من الواضح أنه لم يستسغ سخريتها منه أمام بيتر و الممرضة، فثأر منها في العيادة و لابد أنها تمادت في هزئها حتى استحقت هذا العقاب. ربما لو تقبلت ردة فعله ببرودة لما كان حصل كل هذا، لكن الهلع تملكها و شبح ليلة الكوخ غشى عينيها ففقدت صوابها. تعلم جيداً أنه لن يسكت عن فعلتها و لو كانت ناجمة عن خوف. إنها تدين له بالاعتذار، و لكن هل يكتفي بالاعتذار و ينسى ما حدث، هل يمحو أسفها آثار أناملها عن وجهه؟
في مساء اليوم التالي كانت جيسيكا تستريح في عيادتها، بعد نهار حافل بالمعاينات و المرضى، عندما دخل بيتر حاملاً ملفها الطبي.
- جيسيكا بخصوص ملفك الطبي، هل...
قاطعته جيسيكا معاتبة:
- لماذا طلبت من دان الاهتمام به يا بيتر؟
- لم أطلب شيئاً من أحد. سألته أن يخبرك عن اضطراري للذهاب إلى المستشفى و أني سأنهي الملف اليوم بعد الظهر.
- هكذا إذن.
لمعت عيناه ببريق ماكر يسألها:
- هل احتال عليك؟
- يبدو أنه لم يحتمل سخريتي فأراد أن يثأر مني...
- و هل أفلح في ذلك؟
- لا وجود للفشل في قاموس هذا الرجل.
غادر بيتر بعد أن وضع الملف على الطاولة، بينما خلعت جيسيكا سترتها البيضاء و تناولت حقيبتها متجهة إلى عيادة دان، حيث وقفت برهة تستجمع قواها قبل أن تقرع الباب و تدخل.
كان دان يرتدي سترته و يتهيأ للرحيل حين ظهرت أمام الباب:
- هل من خدمة أؤديها لك؟
أجابت بكلمات سريعة قبل أن تفقد هدوءها:
- تعلم كل العلم أني هنا لأعتذر عن الصفعة.
- لا تكوني سخيفة يا جيسيكا. فأنا أعلم انك استمتعت بها.
- و أنت هل وجدت متعة في العقاب؟
- أجل في حينه (و أردف مبتسماً) لقد استحقيت عقابك أما الآن فأنت تستحقين شيئاً أفضل.
قبل أن تدرك نواياه سارع إلى إغلاق الباب و وجدت تفسها أسيرة عناقه. المقاومة كانت آخر ما فكرت فيه بعد أن واجهها بطريقة تختلف عن المرة السابقة. لكن ما أن مضت لحظة، حتى انتفضت بين ذراعيه و تراجعت متمتمة بعبارات متقطعة:
- لا... لا تفعل...
لم يعترض دان على تراجعها بل لزم مكانه مستوضحاً بوجه عابس:
- مما تخافين هذه المرة يا جيسيكا؟ من نفسك؟
و حمل حقيبته و مضى من غير أن يفسح لها المجال للاجابة. لقد ذكر الخوف قبل أن يرحل و ما أدراه عن مقداره في نفسها؟ انه يعلم فقط حقيقة الهلع الذي سببه لها البارحة، لكنه يجهل حجم الخوف الذي تثيره أحاسيسها في نفسها.
بعد اسبوعين، وصل والدا جيسيكا لتمضية عطلة الاسبوع معها، حاملين أوراق التبني اللازمة التي على بيتر و فيفيان توقيعها لدى المحكمة في لويزفيل.
و في نفس الليلة، أقيمت حفلة خاصة في منزل آل اوبريان، احتفاء بقدوم جوناثان و زوجته، ضمت عشرات المدعوين تحلقوا حول حوض السباحة في الحديقة، و من بينهم أوم هايني، و العمة ماريا دلبورت و برنارد و أوليفيا كينغ...
جلست جيسيكا إلى جانب أوليفيا تحدثها و تداعب الطفل الجالس في حضنها، عندما رأت دان يدخل الحديقة و يتوجه مباشرة إلى حيث يجلس بيتر.
تمنت لو لم يأت الليلة، فهي على يقين أنه سيفسد عليها الحفلة و يحرجها أمام أهلها و المدعوين، فلزمت مكانها تراقبه من بعيد ينضم إلى والديها بعد أن قدمه بيتر إليهما.
لم يستغرق دان وقتاً طويلاً حتى يحوز على اعجاب السيدة نيل و زوجها، بأناقته المعهودة و سحره المتألق. فزالت الكلفة بسرعة بين الثلاثة يتسامرون و يضحكون. ثم انسحب بيتر متوجهاً إلى وسط الحديقة ممسكاً بيد ميجان و هتف بالحاضرين قائلاً:
- أسألكم جميعاً الترحيب بابنتنا ميجان اوبريان، التي يسعدنا كثيراً أن تنضم إلى عائلتنا. أشكركم جميعاً على مشاركتنا فرحتنا.
علت عبارات الترحيب من كل صوب و دارت ميجان مع والديها بين الحاضرين للتعارف، و عند وصولهم إلى حيث تجلس جيسيكا رفع بيتر يده طالباً من الحاضرين الاصغاء:
- كلمة أخرى أود إضافتها. شكر خاص للدكتورة نيل التي ندين لها بكل ما نتمتع به من سعادة.
وقفت جيسيكا و قد تورد وجنتاها خجلاً و هي تسمع صيحات الموجودين تعلو من جديد مرحبة بها و أنظارهم مسلطة عليها. تلاقت عيناها و عينا دان الواقف في الطرف الآخر للحديقة يراقب المشهد، فلوح لها بيده و الابتسامة تعلو وجهه. لم تتمكن من ملاحظة تعابير وجهه، لكنها على ثقة بأنها تعابير هزء و سخرية كالعادة، فعادت إلى مقعدها بقرب أوليفيا تلاعب الطفل في محاولة لخنق شعور بالاضطراب ساورها فجأة.
- أشكرك بدوري يا جيسيكا على ما قمت به لسكان هذه المدينة.
- لا اظن أني فعلت ما يستحق كل هذا يا أوليفيا.
همست العمة ماريا مقاطعة:
- حان الوقت لتجدي لنفسك عريساً يا حلوتي. ستبدوان رائعين أنت و طفلك.
أيدت اوليفيا قول العجوز هاتفة:
- العمة على حق يا جيسيكا. أنت تعشقين الأطفال فلا تضيعي وقتك، و ابدئي بالاهتمام جدياً بفكرة الزواج.
- عليّ أن أجد الزوج المناسب أولاً.
أنفرجت أسارير العمة ماريا و قالت بلهجة ماكرة:
- ما رأيك بدان؟ سبق و قلت لك أنه زوج مثالي.
تنبهت أوليفيا إلى أن المحادثة بدأت تتطرق إلى أمور شخصية بحتة، فالتفتت إلى العجوز مقترحة:
- علينا ألا نستعجل الأمور يا عمة، فجيسيكا ستجد الرجل المناسب في الوقت المناسب.
نظرت جيسيكا إليها شاكرة و ناولتها الطفل قائلة:
- من الأفضل أن تأخذي لوغان. أريد أن أتحدث قليلاً إلى ميجان.
توجهت إلى مكان ميجان و فرانسين، و اضطرت في طريقها للمرور بقرب دان الواقف مع مجموعة من الرجال مديراً لها ظهره يستمع إلى برنارد يتحدث عن الصيد. و ما أن باتت خلفه مباشرة حتى استدار ناحيتها يبتسم لها، و تلاقت نظراتهما للحظات طويلة قبل أن تتمكن بعد جهد من الافلات من سطوتها و متابعة طريقها.
- مرحباً أيتها الجميلتان. كيف حال ميجان اوبريان؟
لمعت عينا ميجان مجيبة بزهو كبير:
- إني سعيدة جدا يا دكتورة نيل وبت واثقة الآن من أني لن أغادر هذا المكان أبداً.
التفتت جيسيكا إلى ابنة برنارد سائلة:
- ما رأيك يا فرانسين؟
ابتسمت الصغيرة ابتسامة عريضة كشفت عن أسنان ناصعة:
- رائع أن يكون لي ابنة خال. و خلال العطلة القادمة سأعلمها ركوب الخيل.
- لا شك في أنكما ستمضيان وقتاً ممتعاً.
قفزت ميجان إلى حضن جيسيكا هاتفة:
- سيكون نهاراً عظيماً.
علا صوت دان خلف جيسيكا سائلاً:
- أي نهار هذا يا ميجان؟
جاهدت جيسيكا في الحفاظ على هدوئها و هي تلتفت لمواجهة الزائر الجديد، بينما أجابت ميجان و الابتسامة لم تفارق شفتيها:
- اليوم الذي ستعلمني فيه فرانسين ركوب الخيل.
جثا دان أمام فرانسين يستوضح باهتمام:
- هل تجيدين ركوب الخيل يا فرانسين؟
- أجل دكتور، لقد دربني والدي و هو فارس ماهر.
طوقت ميجان عنق جيسيكا بيديها تسألها بدلال:
- هل تركبين الخيل يا دكتورة جيسيكا؟
- لا يا عزيزتي.
تدخلت فرانسين قائلة:
- و أوليفيا لا تركب الخيل أيضاً، فقد سقطت يوما عن صهوة جواد. يقول والدي أن على من لا يحبذ ركوب الخيل أن يبقى بعيدا عنها، فهي حساسة جداً.
نظر دان إلى جيسيكا معلقاً بسخرية:
- و هناك أيضاً أشخاص حساسون للغاية، و في الواقع أنا أعرف واحداً منهم يخجل من الحقيقة إلى درجة كبيرة.
و مدّ ذراعه تستلقي حول خصرها فانتفضت مبتعدة عنه.
- أرجو المعذرة، أظن فيفيان تود التحدث إلي.
أفلحت في التخلص من ذراعه لكنها بقيت هدفاً لنظراته الساخرة و هي تجتاز الحديقة.
بادرتها السيدة اوبريان قائلة:
- أريد التحدث إليك على انفراد منذ وصول والدك البارحة مع أوراق التبني. نود أن نشكرك على ما فعلته لأجلنا و في الحقيقة لا أدري من أين أبدأ.
- لا تقولي شيئاً يا فيفيان. يهمني أن أراك سعيدة.
- آه، إننا سعداء، سعداء جدا.
- إذن هذا يكفيني.
جففت السيدة اوبريان دموعها مبتسمة بحنان:
- بما أننا نتكلم عن السعادة، فقد لاحظت أن دان يبدو مكتئباً هذه الأيام. هل تعتقدين أنه يواجه مشاكل مع تلك السيدة من بريتوريا؟
تصنعت جيسيكا اللامبالاة مشيحة بوجهها إلى البعيد:
- لا أدري يا عزيزتي.
- ليست مفاجأة أن يقع أخيراً في غرامها، و ستؤدي له خدمة كبيرة إن تخلفت عنه بعد ذلك.
شعرت جيسيكا بالغيرة تمزقها، انه ما زال يقابل سيلفيا سامرز. و حاولت اقناع نفسها بنسيان الأمر، لكن السؤال راح يكبر في رأسها حتى كاد يتحول إلى صراخ.
طوال السهرة، تجنبت جيسيكا قدر المستطاع التحدث إلى دان مكتفية بالنظر إليه بين الحين و الآخر يتحدث إلى والديها. واضح أنه حظي باعجابهما فقد امضيا السهرة بأكملها يستمعان إليه. و تجاهلت عدة مرات اشارة والدتها لها بالانضمام إليهم مفضلة البقاء بعيدة وحيدة مع هواجسها و تساؤلاتها...
الفصل العاشر
10-" قد تدوم علاقتكما سنة أو سنتين و بعدها تتحولين إلى صفحة بالية في دفتر ذكرياته. و تقييده بسلاسل الزواج يحتاج إلى امرأة خارقة تعرفه حق المعرفة."
منتديات ليلاس
فاجأ جوناثان نيل ابنته بالسؤال و هي تهم باشعال النور في غرفة الجلوس:
- ألا توافقينني الرأي بأن دان ترافورد شاب لطيف و ذكي؟
قاطعتهما إيميليا بحماس ممعنة النظر في جيسيكا:
- إني أراه جذاباً أيضاً، و قد دعوته لتناول العشاء غداً مساءً.
هتفت جيسيكا باستياء واضح:
- أماه! لماذا؟
فوجئت الوالدة بردة فعل ابنتها:
- لا أرى مبرراً لاستيائك يا جيسيكا.
- هل قبل الدعوة؟
- بكل سرور. في الحقيقة يا جيسيكا لا أدري كيف أفسر موقفك منه. فهو بهي الطلعة، جذاب و يملك من الرجولة قدراً يستحيل عليك تجاهله أو معاملته كواحد من مرضاك. لا امرأة، و حتى أنت تستطيع النظر إليه من غير أن تشعر بشيء غريب في داخلها.
كانت لتجد تعزية و راحة في قول أمها، لو أنها لم تلق من دان تلك الصدمات المتتالية فأجابت بعصبية:
- أنت محقة في ما ذكرت. لكن...
- لكن ماذا؟
تنهدت جيسيكا و الغصة تكاد تخنقها:
- كل ما في الأمر، أننا لا نتفق في أمور كثيرة.
- و لم لا يا ابنتي؟
انضم الوالد إلى النقاش قائلاً:
- ربما هناك تفسير كيميائي، فكل مركبين عند وضعهما معاً يتجاوبان أو يتباعدان.
حدجت إيميليا زوجها بنظرة ثاقبة معلقة:
- كنت دائماً امقت نظرياتك العلمية، أما الآن فأجدها مناسبة و منطقية.
لاحظ الأب صمت ابنته و ارتباكها فتقدم من زوجته مقترحاً:
- لنوقف هذا التحقيق الآن، فالوقت متأخر و جميعنا متعبون.
همت إميليا بالاعتراض، لكن جيسيكا تمنت لهما ليلة هادئة و توجهت إلى غرفة نومها.
أبت عيناها الاستسلام للرقاد طوال الليل فبقيت تصارع الأرق من غير حدوى. دعوة دان إلى العشاء تشغل فكرها و تقلقها. قد يخطئ بكلمة أو بحركة أمام والديها و تقع الطامة الكبرى.
في الصباح، لزمت فراشها إلى أن سمعت جلبة في الطابق الأسفل، فأيقنت أن والديها استيقظا، فتحاملت على نفسها بالرغم من تعبها و انضمت إليهما لتناول الافطار.
وقفت جيسيكا و والدتها في المطبخ تضعان اللمسات الأخيرة على اطباق الطعام قبل نقلها إلى الطاولة، عندما طرق الباب الخارجي، فوضعت إميليا ما في يديها و هتفت بحماس كلي:
- لا شك في أنه دان.
تمتمت الابنة متصنعة اللامبالاة:
- أظن ذلك.
- حسناً ألن تبادري إلى استقباله؟
- والدي في غرفة الجلوس و سيفتح له الباب.
ضاقت إيمليا ذرعاً بعناد ابنتها فصاحت بسخط:
- يمكنك على الأقل إلقاء التحية.
تهادى صوت جوناثان مرحباً:
- أهلاً دان، تفضل بالدخول.
- أرجو أن لا أكون قد بكرت في الحضور.
- أبداً، النساء في المطبخ و أنا أكره الجلوس بمفردي.
توجها إلى غرفة الجلوس، في حين أصلحت إيميليا هندامها و قالت قبل أن تغادر المطبخ:
- إذا كنت قد نسيت اللياقة و حسن الضيافة، فأنا لم أنسها.
بقيت جيسيكا وحيدة تحاول تهدئة نفسها قبل مواجهتها دان أمام والديها. حاولت التنصت إلى ما يدور بينهم في الغرفة الأخرى، فلم تسمع سوى قهقهات و همسات غير واضحة ضاعفت من ارتباكها، فتمنت فجأة لو أن السهرة في نهايتها فيضطر دان إلى الرحيل قبل أن تقابله.
عادت إلى العمل علها تنسى الضيف الذي جاء يقلق راحتها، و لكنها فوجئت بدان يدخل المطبخ بهدوء و يقف قبالتها قائلاً:
- لا أظنك تمانعين بالانضمام إلينا.
كادت تطيح بالأطباق من شدة اضطرابها فاستندت إلى حافة الطاولة متمتمة:
- لا أبداً، لكني منهمكة ببعض الأعمال هنا.
- أظن أن دعوتي إلى العشاء لم ترق لك.
أدركت أنه لاحظ اضطرابها، و بات من المستحيل اخفاء حقيقة شعورها:
- أصبت في ظنك.
- لماذا يا جيسيكا؟
- صحيح أننا نعمل معاً و لكن هذا لا يجبرنا على المشاركة في الحياة الاجتماعية.
تقطب وجهه فجأة و رمقها بنظرة تحد قائلاً:
- يبدو أنك لا تحبين كشف أوراقك كاملة.
- هذا ينطبق عليك أيضاً.
- هذا صحيح، فأنا أحب الاحتفاظ ببعض السرية و خاصة الممتع منها، كالليلة الرائعة التي قضيناها في أحد أكواخ الزعيم سدريك مثلاً.
أغاظتها طريقته في الكلام عن تلك الامسية المشؤومة، فعلا الاحمرار وجهها من شدة الغضب و مدت يديها تمسك بطبق أمامها متمنية لو تضربه به. لكنه ابتسم وكأنه أدرك ما يجول في رأسها و قال:
- هل ستتلفين طبقاً جيداً كهذا يا جيسيكا؟
استدارت نحو النافذة تذرف دمعاً لم تقو على حبسه في مقلتيها، و قالت بصوت يخنقه الغضب و الحسرة:
- من الخساسة أن تأتي على ذكر تلك الليلة.
- لا أنكر أني أبدو في بعض الأحيان فظاً و حقيراً، و هذا يعود لصراحتي المفرطة. هل سبق و أخفيت عنك ما يدور في خلدي تجاهك؟
لم يعطها فرصة لتجيب على سؤاله، بل تقدم منها بسرعة و أمسك بكتفيها برفق، فشعرت بالارتياح و تمنت لو تستسلم مرة أخرى لتلك الأحاسيس الرائعة التي ترافق ملامسته لها. لكنها و بعد كل ما حدث لم تعد تجرؤ على ذلك.
- أرجوك يا دان، أنا...
لم يدعها تكمل عبارتها و أدارها نحوه باسطاً لها يده:
- هدنة؟ سنعلن هدنة هذه الليلة إذا أردت، و غداً بامكانك أن تنعتيني بما يحلو لك من صفات.
ترددت لبرهة في الاجابة قبل أن تضع يدها في يده موافقة:
- حسناً، لكن أن تفهم أني قبلت اقتراحك حتى لا أزيد من هموم والديّ.
- إني أتفهم موقفك... يا لنعومة هاتين اليدين الجميلتين!
أدركت أنها ارتكبت خطأ فادحاً في تسليمه يدها و حاولت سحبها من براثن قبضته. لكنه شد على معصمها و مرر اصبعه بحركات ناعمة على راحة يدها، فتلاشت مقاومتها بسرعة و كادت ترتمي مجددا بين ذراعيه لكنها استطاعت في اللحظة الأخيرة أن تفلت يدها، و تبتعد عنه هامسة بصوت يقارب الحشرجة:
- لا تفعل هذا!
انحنى أمامها بحركة هازئة:
- أرجو أن تقبلي اعتذاري. ألن تتركي العمل و توافينا إلى غرفة الجلوس؟
أومأت برأسها إيجاباً بعد أن استعادت بعضاً من هدوئها:
- لبضع دقائق فقط، فالعشاء سيفسد ان ترك مدة أطول هنا.
مرت بقية السهرة بسلام، وزع دان اثناءها اهتمامه بين جوناثان و إيميليا بطريقة زادت من اعجابهما به. فبالرغم من شغف الدكتور نيل بالكلام عن جراحة الأعصاب، تمكن دان من اختصار الحديث متجنباً ازعاج إيميليا، و خاض معها في مواضيع تروقها و تثير اهتمامها. بقي في كامل تهذيبه و لياقته حتى اللحظة الأخيرة، و ما ان دقت الساعة العاشرة حتى نهض مستأذناً للانصراف. حاولت إيميليا ثنيه عن قراره لكنه اعتذر بلطافة:
- أعلم أن الوقت ما زال باكراً، لكن امامكما رحلة طويلة في الغد.
رافقته جيسيكا إلى الخارج، متعجبة من صمته المفاجئ. لقد تصرفا بتودد أمام والديها و تبادلا أطراف الحديث معهما، و فجأة لم يعد هناك ما يقولانه لبعضهما. وصلا إلى السيارة الغارقة في الظلام، فأمسك بيديها هامساً:
- تصبحين على خير.
أدركت أنه يعلن نهاية الهدنة، فسحبت يديها من يديه و تراجعت عدة خطوات تبحث عن الأمان:
- طبت مساء يا دان.
أطلق احدى ضحكاته الساخرة فتردد صداها في أرجاء الحديقة، و مضى يشق طريقه بسرعة هائلة.
ما ان انضمت إلى والديها في غرفة الجلوس حتى بادرتها إيميليا قائلة:
- تصرفك الليلة يخالف ما قلته عن علاقتك بدان يا جيسيكا.
أجابت الابنة بحذر:
- اننا نتفق أحياناً و ليس دائماً.
- أظنه شاباً لطيفاً للغاية. أليس كذلك يا جوناثان؟
أجاب الوالد و هو يملأ غليونه:
- كلمة لطيف ليست الصفة المناسبة لشخص مثل دان يا ايميليا.
- كيف تصفه إذن؟
- لا أعلم، فأنا كما تعلمين لا أجيد اختيار الكلمات المناسبة.
قاطعتهما جيسيكا مقترحة:
- لنقل أنه يجمع بين الذكاء الخارق و التعجرف ليحصل على ما يريده في الحياة.
- أرى أنك تظهرين بعض الكره بالرغم من دقة وصفك له. انه و لا شك حاد الذكاء، لكن من الطبيعي أن يحتاج المرء بعضاً من الكبرياء في هذه الدنيا.
تنهدت جيسيكا بمرارة:
- قد تكون على حق يا والدي.
التفتت إليها إيميليا قائلة:
- آمل أن تدعيه إلى هنا عندما نأتي مرة أخرى.
- ان كنت معجبة به إلى هذا الحد فسأفعل ما تطلبينه يا أمي.
- انك تحيرينني يا جيسيكا. دان ترافورد هو أروع رجل رأيته منذ زمن طويل.
- إني أوافقك الرأي.
- الرجل لا يعير الزواج اهتماماً إلا عندما تدفعه المرأة المناسبة إلى ذلك.
هتفت جيسيكا بيأس:
- من قال إني هذه المرأة المناسبة التي ستجعل دان يفكر بالزواج؟ عدا عن أني لست مهتمة بالمحاولة.
نهض جوناثان عن كرسيه مقاطعاً:
- إنه جواب كاف لانهاء النقاش. سآوي إلى الفراش.
قامت إيمليا بدورها قائلة:
- انتظرني يا جوناثان (و تطلعت إلى ابنتها بشفقة مردفة) أتمنى لو أستطيع فهمك يا جيسيكا.
في الاسبوع التالي، شغل العمل جيسيكا عن مكالمة دان، فأمضت معظم أمسياتها في المستشفى، و لم ترتد منزلها الا نادراً لنيل بضع ساعات من النوم و الراحة.
وصلت إلى مسكنها مساء الجمعة آملة بقسط من الراحة بعد نهار طويل قضته في المعاينات و استقبال المرضى. لكنه آمالها تبخرت عندما رأت سيارة غريبة متوقفة أمام المنزل، ترجلت منها سيدة غريبة، طويلة القامة تتمتع بجمال و سحر خارقين، و تقدمت من جيسيكا سائلة بصوت ناعم:
- دكتورة نيل؟
رمقتها جيسيكا بنظرة شاملة قبل أن تجيب:
- نعم.
سلطت الزائرة الغريبة عينيها الخضراوين على جيسيكا بطريقة وقحة قائلة:
- كنت آمل أن أراك. أنا سيلفيا سامرز.
عقدت المفاجأة لسان جيسيكا:
- آه!
- أخالك قد سمعت باسمي من قبل.
نجحت جيسيكا في اخفاء اضطرابها و أجابت بهدوء مصطنع:
- اعتقد أن الدكتور ترافورد أتى على ذكرك. تفضلي بالدخول.
راحت جيسيكا تتأمل ضيفتها الفاتنة الجالسة على الأريكة في مواجهتها.
جمالها لا يخفى على أحد و أنوثتها البالغة تسلب العقول و الألباب، و لا عجب من أن تتفق رجولة دان الجذابة مع هذه التحفة البديعة. و بعد سكوت سألتها بتهذيب:
- هل من خدمة أؤديها لك يا آنسة سامرز؟
وضعت الزائرة رجلاًً فوق الأخرى و أجابت:
- ليس أنت من سيؤدي الخدمة بل أنا يا دكتورة. اعتبري ما سأقوله الآن نوعاً من التحذير.
همت جيسيكا بالاعتراض:
- آنسة سامرز، أظنك...
قاطعتها سيلفيا بهدوء:
- لا تسيئي فهمي. لست هنا لألعب دور عاشقة تلتهمها الغيرة أو لأخدش عينيك لمحاولتك سلبي ما اعتبره خاصاً بي. جئت لأحذرك من أن زواجك من دان حلم لن يتحقق أبداً، فهو لا يصلح لذلك. و إن كنت تظنين أن تحولك إلى صديقة له سيمهد لك الطريق للنفاذ إلى قلبه فأنت مخطئة. قد تدوم علاقتكما سنة أو سنتين و بعدها تتحولين إلى صفحة بالية من دفتر ذكرياته. هذا هو دان ترافورد، و تقييده بسلاسل الزواج يحتاج إلى امرأة خارقة تعرفه حق المعرفة.
أدركت جيسيكا أن محدثتها لم تعنها في بعبارتها الأخيرة، فهي منذ لقائها دان تستعد لهذه الصدمة لكنها لم تتوقع أن تكون بهذه القوة.
- ما الذي دفعك للاعتقاد بوجود علاقة بيني و بين دان؟
- دان أخبرني بذلك، و لا شك في أنك بت تعلمين أنه ليس من الذين يلتهون بالكلام، و عندما ينوي انهاء علاقة ما، فهو يعلن ذلك بكل بساطة و من ثم يذكر الأسباب.
- دان أخبرك بوجود علاقة بيني و بينه؟
ابتسمت سيلفيا ببرودة:
- كلا، لكنه قال ما يعني:"أريدها و سأحصل عليها"، فكوني على حذر يا صغيرتي. أنت هدفه الآن و ان لم تتصرفي بذكاء فستتلقين ضربة موجعة للغاية.
- تتكلمين و كأنني طريدة سهلة المنال!
- بل هو الصياد البارع (و نهضت عن مقعدها ترمق جيسيكا بنظرة ساخرة و أردفت) أمر مضحك... لم أخله سيء الاختيار إلى هذه الدرجة.
قطع الصمت الذي خيم بينهما هدير سيارة توقفت أمام الباب، و وقع خطوات سريعة تقترب من المدخل.
- جيسيكا... هل أنت في الداخل؟
جمدت جيسيكا في مكانها و قد عرفت صوت القادم فالتفتت إلى ضيفتها لتلقاها متجهمة الوجه عرضة للارتباك.
التقت عينا دان بعيني جيسيكا للحظات طويلة قبل أن يلتفت إلى سيلفيا قائلاً بنبرة باردة:
- ظننتك عائدة إلى بريتوريا.
- هذا صحيح، فأنا على وشك الرحيل (و لوحت بيدها ضاحكة) استمتعا بوقتكما.
مرت بمحاذاتهما متجهة نحو الباب، مخلفة وراءها رائحة عطرها الذكية كحاجز بينهما.
ران الصمت على الغرفة لفترة قبل أن يقطعه دان قائلاً:
- لم أتوقع أبداً أن تأتي إلى هنا. ماذا أخبرتك؟
لم تكن في حالة تسمح لها باعادة ما دار من حديث بينهما، فاكتفت بالاجابة بعصبية:
- لم تحمل أخباراً جديدة.
أصر دان على سؤاله:
- هذا يترك مجالاً واسعاً للخيال، و من الأفضل أن تخبريني.
- لا أخالك بحاجة للايضاح فيما يتعلق بشخصيتك، لكني سأطلعك على رأيي فيك (و استدارت ناحيته بعينين تقدحان شرراً و أردفت) أنت سافل و متوحش، و كل ما أحسه تجاهك الآن هو الازدراء و الكره.
- اذن أنت الآن تكرهينني، أليس كذلك؟
بدا كفهد شرس يستعد للانقضاض على فريسته، فانكمشت على نفسها تترقب هجومه. لكن شيئاً لم يحصل، بل جمد كل منهما في مكانه اثر سمعها رنين الهاتف في زاوية الغرفة.
تنفست الصعداء و تراجعت عدة خطوات من غير أن ترفع نظرها عنه و رفعت السماعة مجيبة:
- الدكتورة نيل تتكلم. ما الأمر يا سوزان؟
أصغت جيسيكا بانتباه إلى محدثها ثم أعادت سماعة الهاتف إلى مكانها بعجلة، و استدارت ناحية دان فلم تجده. فاستقلت سيارتها و اتجهت مباشرة إلى المستشفى. لم تر دان بمثل هذا الغضب من قبل، و ارتجفت يداها على المقود لحظة تفكيرها بما كان سيحصل لو لم ينجدها رنين الهاتف في الوقت المناسب. قادت السيارة كالمجنونة دامعة العينين، دامية القلب، تفكر بكلام سيلفيا عن الرجل الذي بالرغم من كل ما سمعته عنه و ذاقته منه، بقيت حتى اليوم تحتفظ بنذر قليل من الأمل في صدق شعوره نحوها. لكن الأمل تبخر الآن، و زالت معه صور مشرقة لمستقبل كانت معالمه قد بدأت ترتسم أمام عينيها.
قضت جيسيكا عدة ساعات في غرفة العمليات، تجري عملية ولادة قيصرية لاحدى السيدات. و توجهت بعدها مباشرة إلى مكتبها بعد أن أعطت تعليماتها إلى الممرضات للاهتمام بالطفل و أمه خلال الليل.
لاحظت أحدى الممرضات علامات الارهاق على وجهها فتقدمت منها سائلة:
- تبدين هزيلة هذه الليلة يا دكتورة، هل أكلت شيئاً هذا المساء؟
- لم تسنح لي الفرصة بعد.
- هذا ما ظننته. سآتيك بالعشاء إلى هنا.
عادت الممرضة بعد قليل تحمل فنجاناً من الشاي و بعض السندويشات، وضعتها على المكتب و غادرت الغرفة تاركة جيسيكا غارقة في مقعدها مغمضة العينين، شاردة الذهن. نظرت إلى نفسها في المرآة فبدت نحيلة متعبة بعكس سيلفيا ذات الجمال الباهر و الاطلالة الساحرة. لن تفوز أبداً بقلب دان و حبه، و لن تكون أبداً تلك المرأة الخارقة التي تكلمت عنها سيلفيا سامرز... اكتفت بتناول قطعة صغيرة من الجبن، ثم حملت حقيبتها و غادرت مكتبها بخطى متثاقلة بطيئة باتجاه مرآب السيارات. كل ما تحتاجه الآن هو أن ترتمي في سريرها لتنعم بقليل من الراحة بعد هذه الليلة المضنية...
وصلت إلى منزلها بعيد منتصف الليل، فترجلت من السيارة بسرعة مهرولة نحو الباب. و ما أن همت بالدخول حتى فوجئت بصوت دان هامساً خلفها:
- جيسيكا؟
لم تحرك ساكناً، تراقبه قادماً من الظلمة بقامته الطويلة و منكبيه العريضين. و تملكها الخوف عندما لاح لها وجهه الباسم فوضعت يدها على فمها تخنق صيحة كادت تفضح أمرها.
- اعتذر عما سببته لك من خوف.
حدقت في عينيها الرماديتين تعكسان النور القادم من الداخل و سألته بحيرة:
- ماذا تفعل هنا و في مثل هذا الوقت؟
- يجب أن أكلمك.
- ألا يمكن ارجاء ذلك إلى الغد؟
- ما أريد قوله لا يحتمل التأجيل.
أغلقت الباب خلفه و تبعته إلى غرفة الجلوس حيث رمت حقيبتها على أحد المقاعد و وقفت تعبث بشعرها متثائبة:
- قهوة؟
- ليس الآن. جيسيكا، جئت لأوضح لك...
التقطت أنفاسها تتحضر للمناقشة و علقت ضاحكة:
- توضح لي؟ لا أعتقد ان هناك شيئاً يستحق التوضيح.
- يراودني شعور بأن سيلفيا لم تخبرك بالحقيقة كاملة.
- يكفيني ما سمعته يا دان، سبق و قلت لي مراراً أنك تريدني و سيلفيا كشفت لي عن عزمك لاستدراجي إلى علاقة معك تسهل عليك الحصول على مرامك.
علت ضحكة مدوية لتزيد من غيظها:
- هل هذا ما قالته لك؟
- بربك يا دان، هل تريدني أن أعيد حرفياً ما قالت؟
- لابد من أن أعرف تماماً ما نسبته من أقوال إلي.
- حسناً، فيما يتعلق بي. قلت لها أنك تريدني و ستحصل علي مهما كلف الأمر (و رمقته بنظرة تحد متابعة) و بالمناسبة أود أن ألفت انتباهك إلى أنك لن تنجح أبداً في مسعاك يا دان. تظن نفسك قادراً على اختيار اية امرأة تريد و بالسهولة نفسها التي تختار ثيابك. فاعلم ايها المتعجرف أني سأخيب املك...
- جيسيكا...
- اياك أن تلمسني. حظي السيء هو الذي جمعني برجل مهاتر و عديم الاحساس مثلك. و الآن اطلب منك الانصراف حالاً.
تبدلت ملامح وجهه فجأة و تطاير الشرر من عينيه:
- لن أرحل من هنا قبل أن أقول ما جئت لأجله.
- لا أحفل اطلاقاً بما ستقول...
لم يمهلها فرصة أخرى بل انقض عليها ممسكاً بذراعيها و ضمها إليه بقوة خارت معها قواها فأحست بحاجة إلى البكاء. و هي تحدق بعينيه المتأججتين بنيران الغضب.
- إن كانت كلماتي لا تفي بالغرض يا جيسيكا فسأجرب وسيلة أخرى.
فانتفضت كالمجنونة تحاول التخلص من قبضتيه من غير فائدة. لم يحفل بالدموع الساخنة التي بللت وجنتيها. و لم يدعها إلا بعد أن شل كل مقاومة فيها فأبعدها عنه قائلاً:
- و الآن، هل ستستمعين إلى ما سأقوله؟
وقفت قبالته ترتجف كورقة يابسة، تكفكف دموعها بعصبية.
- أكرهك يا دان ترافورد! اكرهك. هل تسمعني!
- هل توافقين على الزواج مني يا جيسيكا؟
سرت نفحة من الغضب في أنحاء جسمها و صاحت بيأس:
- هل جننت؟ تعرض على الزواج الآن لأنك عجزت عن نيل مأربك مني بالطرق الأخرى؟
- لم أفكر بطرق اخرى يا جيسيكا.
رفعت يداً مرتعشة تمسح دموعها و نظرت إليه تتمنى ان تصدقه. لكن وجهه القاسي خلا من أية مسحة حنان أو عطف.
- إنك لا تعي ما تقول يا دان، و تظن أنه بامكانك اقناعي بمثل هذه الكلمات. اقر بأنك واسع الحيلة. تعرف متى ترمي شباكك لكني للأسف لن أقع فيها.
أفقده كلامها صوابه فرفع قبضته فجأة و هوى بها على حافة الأريكة القريبة:
- ويحك يا جيسيكا! لماذا لا تصدقينني؟
- هل تذكر محادثتنا يوم استدرجتني إلى منزلك لتناول العشاء؟ سخرت ليلتها من فكرة الزواج و أوضحت لي أنك تريدني... كصديقة لك. رفضت عرضك ساعتها، فأمضيت عطلة الأسبوع التالية مع سيلفيا سامرز.
- أؤكد لك...
تابعت كلامها و كأنها لم تسمعه:
- بعدها سألتني بك وقاحة أن أقول نعم حتى تلغي سيلفيا سامرز من حياتك. و لا تسألني عن رأيي في رجل يتصرف بهذه الخساسة مع امرأة تقاسمه شقته و تمضي برفقته أيامأ حميمة؟
- لم ألمسها قط.
ارتسمت ابتسامة هازئة على شفتيها:
- أهذا صحيح؟ أتتوقع مني تصديق ذلك؟
- حاولت تجاهل ما أحسه نحوك، لكني لم أقدر. كنت بيني و بينها طوال الوقت و صورتك في عيني كيفما تحركت. صدقيني يا جيسيكا لم أقو حتى على لمسها.
تغيرت ملامحه فجأة و غشت عينيه مسحة من البراءة و الصدق، جعلتها فريسة الاضطراب من جديد، فأغمضت عينيها تنصت إليه متابعاً كلامه:
- أخبرتها بعزمي على انهاء علاقتي بها لكنها لم تصدقني. و جاءت إلى منزلي بعد ظهر اليوم من غير أن ادعوها، فاطلعتها على الحقيقة كاملة بطريقة اعترف أنها كانت قاسية و فظة بعض الشيء.
سألته بنبرة تقارب الحشرجة:
- هل قلت لها أنك تريدني؟
- قلت لها أني أريد الزواج منك (لاحظ دهشتها فابتسم مردفاً) أردت أن أكون صريحاً و عادلاً معها و لكنها لم تبادلني حسن الصنيع. فسعت جاهدة لاظهاري بمظهر الكاذب أمامك.
- لماذا تريد الزواج مني؟
- لأنك امرأة متفوقة و مختلفة يا جيسيكا و منذ البداية كنت بمثابة تحد بالنسبة الي. لست خارقة في الطب و حسب بل أيضاً في قيادة الطائرات، و كان علي أن اكتشف الناحية الانسانية فيك. سخرت منك لأنك تقحمين عاطفتك في معالجتك للمرضى لكنك علمتني ما كنت أجهله، و أدركت أن في الطب ما هو أبعد من الدواء و الجسم العليل. بسببك صرت أعيّ أهمية الناحية النفسية لدى المريض، و أكثر ما أعجبني فيك شجاعتك و... (تقلصت عضلات وجهه فجأة و بان الخوف في عينيه و كأنه تذكر شيئاً فتابع بارتباك) يا الهي، لم أخف في حياتي كلها كما في ذلك اليوم الذي تسلقت فيه تلك الشاحنة لمساعدة السائق المحجوز في مقصورته. أصبت بالهلع يومها بمجرد تفكيري باحتمال انزلاق الشاحنة و أنت بداخلها، ففقدانك يحول حياتي قفراً مقيتاً يا جيسيكا، صدقيني.
تركت أنامله تعبث بخصرها، تشعر بفيض من الفرح يغمرها و أدنت جسمها منه مطلقة تنهيدة طويلة:
- دان...
تقرب منها هامساً بصوت عذب صادق:
- أحبك يا جيسيكا.
كانت تظن أنها لن تسمع هذه الكلمة منه، و هاهو الآن يقولها بحنان كما تمنتها و حلمت بها.
- أحب كل شيء فيك، مشيتك و البحة التي تنتابك حين تضطربين. أحب هاتين العينين الرائعتين تنشران السعادة حين تضحكين و أحبهما تقدحان شرراً عندما تغضبين (و رفع رأسه فجأة و تسمرت عيناه في عينيها و كأنه يحاول النفاذ إلى مكنونات صدرها و تابع بالنبرة الحنونة نفسها) اشفقي علي يا جيسيكا، فأنا لم أحس بحاجتي إلى حب امرأة كحاجتي الآن، و لا سبق أن ربطت مصيري بحب كما أفعل الآن.
ادهشها ما تسمعه منه فلم تقو على الكلام، و لكن الشك في قلبها بان بجلاء في عينيها، فزمجر خائفاً مما يراه:
- أرجوك يا جيسيكا لا تعذبينني هكذا.
- أحبك. ألم تلاحظ ذلك في مناسبات عديدة؟
لمعت عيناه فرحاً و انفرجت أساريره:
- كيف لي أن اتأكد و أنت لم تقولي كلمة واحدة؟
- و أنت ايضاً لم تقل شيئاً.
- أخبرتك بأني أريدك.
- لم يكن كلامك مشجعاً و خاصة بالنسبة إلى فتاة مثلي. تحترم مبادىء معينة في الحياة. لكني لا اخفي عنك أني أصبحت جشعة فيما بعد و أردت الحصول على اضعاف ما تعرضه علي.
- أظن أنك ستحصلين على أكثر مما كنت تتوقعين يا حبيبتي.
و ضمها إليه بحنان فاسندت رأسها بارتياح إلى صدره الدافئ و أحست بلهاثه يتسارع حول أذنيها، لكنه لم يحاول التمادي محجماً عن احراجها كما في السابق، فارتمى على الأريكة و جذبها إلى جانبه قائلاً:
- تلك الليلة في فندا، و بعد رقصة الأفعى لم أنو احراجك، لكن...
- أعلم ذلك. لقد كانت ليلة ساحرة مجنونة، و ما كنت لأشعر بالخجل مما أقدمت عليه لو كنت أعلم ان حبك لي يوازي حبي لك. لكني ظننت..
أكمل العبارة عنها مبتسماً بسخرية:
- لو لم تأت الممرضة رافيل لكنت علمت ليلتها كم أحبك يا جيسيكا.
- انقذتني بمجيئها من موقف حرج للغاية.
- أتظنين أن والديك سيعترضان على زواجنا ان قررناه يوم السبت المقبل؟
- لا اعتقد ذلك و لكن ماذا عن عملي مع بيتر؟
- لا مانع لدي في أن تتابعي عملك حتى نهاية العقد.
شبكت يديها حول ساعده تسأله برقة:
- و بعد ذلك؟
- سندع للوقت الاجابة على ذلك.
و رفع رأسه ينظر إليها بعينان تشعان حناناً حتى أحست بعظامها تذوب تحت تأثيرهما و تابع قائلاً:
- أتظنين أن والدك سيكتفي بالقطيع الذي اهداني اياه الزعيم سدريك ليكون بمثابة مهر لعروسي
عقدت حاجبيها بدلال مجيبة:
- لا تكن سخيفاً يا دان، فهو لا يولي هذه الأمور أية أهمية. بالمناسبة. ماذا فعلت بذلك القطيع؟
- اعطيته جوناس الخادم الذي يعمل في منزلي منذ سنوات و اقترحت عليه أن يبادر إلى الزواج من امرأة تجيد الاهتمام بالمنزل و الاعتناء بالأطفال في حال أردت ممارسة الطب بعد زواجنا.
دفنت وجهها في صدره متمتمة بتأثر:
- آه يا دان، كم أحبك!
رفع وجهها بيده يتأملها:
- لم أعد احتمل غياب وجهك عني. لقد توردت وجنتاك...
- أعلم ذلك، فأنا لم أعتد بعد التغلب على تأثير كلماتك فيّ.
تذكرت كلام الزعيم سدريك عن الدوما و تشبيهه الرجل عند البحث عن عروسه ... "انه يزداد شراسة و نهماً كلما تمعن في بحثه و لا يترك لفريسته فرصة للهرب حينما يوجه ضربته".
- دان، حبيبي أرجوك..
اتكأ على مرفقه مسلطاً عليها نظرات جامحة:
- أتطلبين مني التوقف؟
- أكثر ما يسعد الفتاة العاشقة هو أن تكون بين ذراعي حبيبها، تسند رأسها إلى صدره و تستمع إلى كلمات قلبه. أنا لا أبحث عن المتعة بقدر ما أبحث عن سعادة الروح، و يكفيني ان تضمني إلى صدري و تهمس لي بكلمات عذبة حتى أنسى كل ما حولي.
- أحبك...
- قل لي يا دان، هل أزعجك طلبي منك بالتوقف؟
حدجها بنظرة ملؤها الحب و الحنان:
- بل على العكس، أنت على حق في كل ما قلته. حان موعد النوم، و لست على استعداد لأن أبدأ حياتنا باستغلال فتاة تكاد تنهار من شدة النعاس.
مرر أنامله بنعومة على خديها و همس مودعاً:
- سأراك غدا يا ملاكي.
و تناول سترته و خرج مغلقاً الباب خلفه بهدوء.
أوت إلى سريرها تحضن صدى كلمات دان العذبة الرقيقة، تحلم بالمستقبل و ما يحمله من أحلام و آمال. غداً ستشرق شمس جديدة حاملة معها حرارة الحنان و دفء السعادة، و ستفتح لها ذراعيها مرحبة و تدفن في لهيبها مرارة الماضي و دموعه، و تضيء بنورها شموع الأمل و الحب...
|