غربتي
تررررن ترررررن تررررررن
نادت الأم من المطبخ لابنتها ميار لتجيب على الهاتف ، خرجت ميار من غرفتها بكسل رافعة السماعه ، قائلة : " ألو "
تردد صوت المتصل وبلهفة قال : " ألو من معي ، ميار ؟ "
ردت ميار باستغراب : " نعم انا ميار من أنت ؟ "
سكتت ميار قليلا تحاول ان تستجمع صوت المتصل قائلة : " الحمد لله بخير ، من معي ؟ "
رد المتصل بصوت ملحقا به فرحة الواضحة من نبرته : " وخواتك وامك كيف حالهم ؟ "
شعرت ببعض الضيق من كثرة اسئلة هذا الشخص المتخفي بكلاماته وتساؤلاته التى لا تنتهي وكأنه فرد من العائلة .
ردت عليه ببعض من العصبية قائلة : " لن أجيب على اية اسئلة طالما انت لم تخبرني من أنت ، أستقول وإلا سأغلق الهاتف . "
سمعت ميار ضحكة المتصل الغامض ملحقا به كلمات اكثر غموضا قائلا : " لم تتغيري يا فتاة ، أمازلتي بنفس عصبيتك التى لا حدود لها ابدا . "
تأففت ميار من هذا المتصل الممل قائلة : " حسنا سأغلق الهاتف . "
لم تستطع غلق الهاتف لسرعة ما قاله لها جعلها وكأنها تمثال ثبت في مكان لا يستطيع احد تحركيه ، قال لها المتصل : " ميار ، أنا يوسف ........ "
شعرت بثقل لسانها فهذا الاتصال لم يأت في خاطرها ، أمعقول يوسف اخوها هو المتصل ، ابعد كل تلك الفترة من الانقطاع يتصل بهم ، ندت منها صرخة مفاجأة ، ثم صرخة مدمجة بسعادة وفرحة قائلة : " يووووسف ، حبيبي كيف حالك ؟ لست مصدقة بانك من تتحدث معي ، اسفة على اسلوبي في الحديث ، امعقول انت يوسف ، ياااااه واخيرا اتصلت ، اين انت يا اخي الحبيب ، لم كل هذا الغياب ؟ ، امعقول منذ سفرك حتى الآن لم تتصل بنا ولو لمرة واحدة قط ؟ "
ضحك يوسف من اسلوب اخته الذي لم يتغير ، فهي معروفة بصراخها ذات النبرات العالية دائما تصرخ وتصيح سواء اكانت تضحك ام تبكي ، دائما تملئ البيت بصياحهاالذي لا ينتهي الا بالنوم كما يقال نوم الظالم عبادة ، لكنها ليست ظالمة فهي طيبة جدا والاخت المفضلة لقلبه ، يحبها كثيرا ويتحدث معها دائما يحب صراخها ومزاحها ، رغم المشاجرات الكثيرة التى تدور بينهما الا انها محببة الى قلبه ويحب التحدث معها و مناقشتها في كل ما يحدث له قبل سفره ، اما الآن فاصبح وحيدا لا يجد من يتحدث معه او يتشاجر معه ، لا يوجد من يأنسه في غربته ، لا احد سواه فقط ، عايش في غربة مريرة لا احد بجانبه سوى نفسه .
تغيرت نبرته من ضحك الى آلم الى اشتياق قال محاولا الحفاظ على هدوئه : " اشتقت اليك يا ميار ، كيف حالك ؟ ، وكيف أمي واخواتي ، ومحمود خطيبك كيف حاله ؟ ، أمازلتو على خناقكم وعراكم الدائم ، انا لا انسى اليوم الذي تشاجرتوا فيه ونحن متجهين الى المطار ؟ " ثم ضحك ساخرا من الذكريات التى لاحقته على التدريج .
ضحك اكثرعند سماع قهقة اخته المميزة وهي تقول : " آآآه يا يوسف اتتذكر مشاجرتنا اثناء حفلة الخطوبة ، وقد قررت فسخها قبل ان نلبس الدبل . " ثم قهقت بصوت أعلى من السابق .
فرد عليها يوسف قائلا : " نعم أتذكر . "
سكتوا قليلا ثم لاحقها بنبرة بها حزم قائلا : " ميار ، لا تضيعين خطيبك من يديك ، انتي تعلمين بحب محمود لكي ، لكنك بكثرة شجارك الدائم معه ستجعلينه يتركك ، لانه ليس هناك احد يستطيع تحمل كل هذه المشاجرات والعراك الدائم طيلة الحياة ، فكري في كلامي حتى لا تندمي في يوم من الايام . "
مسكت ميار سلك السماعة لتحافظ على ارتباكها ، قائلة : " نعم اخي ، معك حق ، لكن ماذا افعل محمود عصبي جدا ، ودائم الشجار معي ولا ادري لما يفعل بي ذلك ، وكأنه لا يحبني !!!!!! "
ابتسم يوسف متخيلا وجه اخته المحمر المرتبك التي تمسك بأول ما يلقى بنظرها به ، لتحافظ على هدوئها ، قائلا : " ميار ، انتي تعلمي ان محمود يحبك وبشدة ، ورغم جنونه وافكاره الغريبة وعصبيته الزائدة الا انه يحبك ، واختارك زوجة له لتكملي معه مشوار الحياة ، لكنك بهذا الاسلوب تجعلينه ينفر منك ، ويكرهك ، تحملي يا حبيبتي واصبري ، ليس هناك شخص كامل ، كلا منا لديه مميزاته وعيوبه ، وأظن ان محمود بكل ما قدمه وفعله لاجلك يجعلك تتحملين عيوبه ، أم لديك رأيا آخر ؟؟؟؟؟ "
ظلت ميار مستمعة الى كلمات اخيه التي تعتبره حكيم البيت ، مطهر القلوب تنفذ كل ما يقوله لها لأنها تعلم انه دائما على حق ، طأطأت رأسها لأسفل قائلة : " حاضر اخي . " ثم سكتت .
كان يهطل رذاذ مطر ناعم ، شعر يوسف ببرودة احتاجت جسده ، لا يدري هل هي بردة الجو ، ام برودة الغربة ؟ ، انقبض قلبه عندما سمع كلمات اخته التالية ، وكأنها تحزر ما يفكر فيه قائلة : " أمي بجانبي تريد التحدث معك ، كانت بالمطبخ وعندما علمت بأنك من تتحدث تركت كل ما في يديها وجرت مسرعة نحوي ،و........ "
قاطعها يوسف بلهفة قائلا : " كيف حالها ؟ ، اما زلت تعاني بالالام التي لاحقتها قبل سفري . "
ردت ميار بسرعة : " الحمد لله بخير ، بس حاليا بتبكي من الشوق يا اخي ، متى ستأتي الينا ؟ اشتقنا اليك كثيرا . "
اغرورقت عينيه بالدموع بعد سماعه كلمات اخته ، شعر بسلام يغمر قلبه ، لكنه بقى صامتا ليستطيع التركز بشكل افضل ، كان كل ما يفكر فيه في تلك اللحظة ان يدفن بنفسه بداخل صدر امه الحنون ، كم ندم على سفره وغربته ، الغربة التي انهكت جسده وعقله وفكره ، لكنه لم يستطع تركها ، من أين سيجني المال ليلبي احتياجات بيتهم المكون من ام و4 اخوات منهم ميار التى اوشكت على الزواج ، من اين سيعلم اخواته ، والده مات وتركه يتحمل مسئولية بيت كامل دون ان يتجاوز 23 عاما ، عمل في وظائف كثيرة لكنها بائت بالفشل ، حتى قرر السفر للخارج ، ورغم اعتراض امه ومرضها الذي اصابها بعد علمها بهذا القرار إلا انه اصر مؤكدا لها انه لن يتغير وسيصبح يوسف الذي تربى على يد اب فاضل وام مثالية ، ورغم رفضه لفكرة السفر لما يحمل معه الالم ومتاعب وصعوبات ستواجه فيما بعد ، لكنه عندما قارن تحمل تلك الالم وهذا البيت الذي يريد الكثير والكثير من الاحتياجات وتحقيق
احلام اخواته ، فضل السفر تاركا الامه بداخله لا احد يدري بها سواه فقط .
راح يحوم في رحاب الذكريات ، تذكر عندما خرج من المطار ولم يجد مكان يسكن فيه ، راح يهيم في الشوراع معلنا الحياة التي اختارها ، ظل يحوم اياما وايام ،الى ان تصادق مع شخص ، أتاه بعمل مرهق كثيرا الا انه وافق به ، ثم اقترح له حل لتصدي تلك المشكلة التى يعاني منها اي شخص بدون اقامة ان يتزوج من امرأة ليأخذ منها الجنسية ويتركها ، ورغم معارضته على هذا الاقتراح الا انه وافق مضطرا لذلك ، فإذا رفض ستضيع كل احلامه واهدافه في تحقيق اماني اخواته ، ومعالجة امه ، وافق وتزوجها .
وبعد مرور فترة من الزواج اكتشف انها امرأة تريد الاستقرار والشعور بالحنان ، احبها وقرر الا يتركها .
اثناء مرور تلك الايام لم يتصل باهله ، اراد ان يصمد ويتحمل حتى يكون اول اتصال مصدر سعادة لهم لا تعاسة في خيبة املهم لتحقيق احلامهم واهدافهم وطلباتهم .
ومرت الايام ورأي يوسف نفسه تصر وتعطيه الارادة اكثر واكثر للوصول الى النجاح الذي يتمناه ، وبالفعل انتقل من هذا العمل الى عملا اخر افضل وارقى من السابق ، واصبح لديه بيت وزوجة على وشك الانجاب بطفل منه ، ورغم كل هذا النجاح إلا انه دائما يشعر بالوحدة ، فالوحدة تزداد شدة عندما نحاول الوقوف امامها وجها لوجه ، ولكنها تضعف عندما نتجاهلها ببساطة ، كان يوسف دائما يستمع الى ما يقول له قلبه وفي ذات الوقت يحكم بما يأمر به عقله ، في احدى الايام التى صادفته بل يتحدث معه كل يوم ، يجلس في غرفته بمفرده ويرى شخصين ، الشخص الاول هو قلبه ، والشخص الثاني هو عقله ، ثم تحدث مناقشات حادة بينهما ، من يوافق على رأي الآخر ومن يعترض وبشدة ، ولا سيما عندما يأتي الحديث الى اتصاله بأهله ، لكن الرأي الذي يغلب دائما في هذا الموضوع هو عقله وبجدارة ، ورغم شعور قلبه باليأس والالم والتعب والشوق والحنين الى الوطن ، دائما يشعر بسلام وراحة عندما يرى امه امامه تحضر الطعام لاخواته وتحفظهم القرآن ، و......... "
وفجأة انقطع تفكيره عندما سمع صوت امه المبحوح الواضح من نبرته دموع اشتياقها له قائلة : " يووووسف . "
لم يستطع يوسف تحمل تلك النبرة ، وضع السماعة بجانب الهاتف مغرقا بدموعه وشهقاته ، لم يدري ماذا اصابه عندما سمع صوتها ، حاول التحكم على اعصابه لكنه لم يستطع ، ازدات اضطراب اعصابه شيئا فشيئا وبدأت يداه ترتجفان بالرغم عنه ، وبحركة لا إرادية مسك السماعة محافظا على هدوئه قائلا : " أمي ....... اشتقت اليك يا حبيبتي ، كيف حالك ؟ "
ازدادت اضطراب اعصابه اكثر عندما صوت بكائها يزداد اكثر واكثر ، لم يدري ماذا يقول في تلك اللحظة ، احيانا نمر بلحظات لا نستطيع وصفها ، وهذا ما حدث معه ، شعر وكأنه في مكان خالي من البشر نسى كل ما يحدث حوله ، نسى كل شئ لم يرى سوى امه واخواته وعائلته وبلده التي اشتاق اليها كثيييييييرا .
ردت امه بنبرات مبحوحة اكثر من السابق : " ابني حبيبي كيف حالك ؟ ، كنت اموت كل لحظة يا يوسف خوفا وعليك ، أبعد مرور كل تلك الايام لم تتصل سوى الآن ؟ "
رد يوسف باضطراب قائلا : " الحمد لله امي انا بخير ، كيف حالك انتي ؟ امازلتي تعانين بالالم التي كنتي تعاني منها من قبل ؟ "
ردت الام قائلة : " نعم وازدادت اكثر بعد غيابك الطويل يا يوسف . "
لم يستطع التحمل اكثر من ذلك انفجر ببكائه لم يستطع ان يخفيه ، سمعت امه صوت بكائه الشديد وهو يقول لها : " أمي لم ارد الاتصال بكما الا بعد ان احقق كل ما تتمناه ، لم اريد ان اكون مصدر تعاسة لكما ، كنت اتألم مرارا وتكرارا من الغربة والبعد عنكما ، انتم لم تفارقوني بلحظة واحدة ، اعلم اني اطلت في الغياب ، لكن هذا افضل من ان اتصل بكما اخبركم بفشلي ، عدم اتصالي كان بمثابة تحقيق اهدافي التي تغربت لتحقيقها ، امي سامحيني انا اسف ، لم يكن الأمر بيدي سامحيني امي . " ثم ازداد بكائه اكثر واكثر .
سكت لوهلة ثم قال : " كم اشتقت اليك يا امي ، اشتقت لحنانك ، لحضنك الدافئ ، لطعامك المميز ، للجلوس معك ونتحدث كالعادة ، اشتقت اليك كثيرا ، انا انا اسعد واحد في الدنيا يا امي ، صوتك اعطاني الامل واعاد اليا الروح مرة اخرى . "
قالت له الأم : " وانا ايضا اشتقت اليك يا ابني فلذة كبدي ، قطعة من جسدى ، روحي ، رغم غيابك كل هذه الفترة كنت متأكدة بأنك لم تنسانا وستتصل بنا ، لا تغيب في الاتصال يا يوسف مرة اخرى ، كيف حالك يا ابني ؟ ، اصمد يا ابني اصمد ، واصبر ان الله مع الصابرين ، انا اشعر بك ، اشعر بتعبك والالمك ، كم تمنيت ان امنعك من السفر لكن لم استطع ، هل انت بخير الآن يا يوسف ؟ "
ردت عليها مبتسما قليلا : " بخير يا امي ، بخير ....... "
ثم الحقها بكلمات بها فرحة ليسعدها ويطمئنها عليه قائلا : " امي انا تزوجت وعما قريب سأصبح أب ، ولدي منزل وزوجة صالحة ، واعمل في شركة ، والحمد لله كل شئ على ما يرام . "
شهقت الأم عند سماعها ما قاله لها يوسف ممتزجة بفرحة وصدمة قائلة : " يوسف انت تزوجت وتقول انك ستصبح أب ، لم لا تخبرنا يا يوسف ........ مبارك لك ولدك ابني ، أأصبحت جدة ! ، لم اصدق ما تقوله . " ثم بكت .
لا يدري يوسف في تلك اللحظة ، هل هي دموع فرحة ام حزن ، الى ان سمع صوتها مرة أخرى قائلة : " مبارك لك ابني ، كنت أدعي من الله ان يأتيك بالزوجة الصالحة وان ارى اولادك قبل موتي . "
قاطعها يوسف قائلا : " لا تقولي ذلك يا أمي ، ان شاء الله عما قريب سأتي اليك ومعي ابني وزوجتي ، لم تدري كم تحبك يا أمي من كثر ما أحدثها عنكي . "
شعرت الأم بسعادة مغمورة بفرحة وشوق وطمانة عند سماعها ما يقوله يوسف لها ، ثم سألته قائلة : " ألم تشتاق إلى بيتك يا ابني ، متى ستعود الى اليه . "
رد عليها محاولا استعادة هدوئه قائلا : " عما قريب يا أمي ، عما قريب ، سأتي إليك ومعي ابني ، لكن سأعاود مرة أخرى . "
حزنت الأم لما قاله لها يوسف قائلة : " لم يا يوسف تأتي إلينا وتستقر ، فأنت مهما غبت ستعود الى بيتك ، كفى يا ابني من الغربة ، وتعالى . "
لاحقها يوسف بكلمات تقطع قلبه وجسده رغم انه دائم الاستماع الى قلبه ، لكن عقله دائما المنتصر في النهاية ، وهو ما قرر أنه اصبح أسير الغربة ، لم يستطع العيش بدونها رغم كرهه لها ، لكن لم يستطع ان يترك عمله واحلامه وابنه وزوجته ، فكل شئ قد تغير عن سابقا ، حاول أن يهدأ من روعها ويطمئن قلبها قائلا : " لم يعد بيدي الأمر يا أمي ، انا والغربة اصبحنا شخصا واحدا ، لم نستطع ان نتخلى عن بعضا ، فالغربة علمتني معنى الحياة ، وقد بنيت حياتي واسستها على غربتي ، لكن انا بخير يا أمي بخير ، لا تقلقي علي ، انت تعرفين ابنك جيدا ، سأتي اليك عما قريب يا امي . "
سكتت الأم قليلا تحاول ان تقتع بما قاله لها يوسف ، لكنها غير راضية عما قرر به .
فهم يوسف عما تفكر به فحاول طمأنتها قائلا : " أمي انتي تعلمين ابنك ولا تقبلين له ان يهدم كل ما بناه ، سامحيني أمي ، أنا مضطر اغلق الهاتف حالا ، لكن لن اقفل إلا بعد رضائك عليا . "
لاحقته الأم قائلة : " اسامحك ابني ، اسامحك .... قلبي راضي عنك يا حبيبي ، سأنتظر رجوعك إلي بإبنك ، سأنتظر اتصالك ، اعدني بأنك لن تفعل ذلك مرة اخرى . "
رد يوسف براحة اجتاحت قلبه قائلا : " أعدك أمي سأتصل بكما دائما .......... وداعا "
اغلق يوسف الهاتف ، مستعيدا بما يحدث حوله ، نظر إلى الشوارع المليئة بالبشر شاعرا ببرودة الجو المليئ بالغيوم التي اوشك على هطول امطار شديدة ، نظر إلى ساعته فتذكر بأن زوجته منتظرة عودته لذهابهم إلى الدكتور ، اتصل بها مؤكدا لها بعدم تأخره ، ثم ركب سيارته ذاهبا الى بيته . "
انتهت