إعدام الحب
تأخر كيفن نصف ساعة قبل أن ينضم إليهما.. كانا جالسين حول المائدة ينتظران قدومه فدخل مرتدياً قميصاً حريرياً عاجياً و سروالاً بلون الشوكولا . و كان يمسك بين يديه مزهرية نحاسية فيها زهور مزينة بأجمل طريقة و أروعها.. قدمها إلى العمة روزي مقبلاً إياها و شاكراً ما بذلته من عناء في التحضير لعيد ميلاده.
قالت العمة روزي بفخر: ما أجملها عزيزي كيفن!
قال كايس: خُدعت.
قالت أماندا: أنا التي خدعت!
ابتسم كيفن مبدياً أسنانه البيضاء, أما العمة روزي فأفسحت مكاناً لآنية الزهور في نهاية المائدة و هي لا تدرك معنى النكتة الدائرة بين هؤلاء الثلاثة.
كان ذلك مثالاً سارت عليه الأمسية. بعدما أكل الجميع و امتلأت بطونهم, قدمت له العمة روزي هديتها التي هي كنزة جميلة محبوكة يدوياً كلفتها بلا ريب شهوراً من الكدح بأصابعها المريضة.
ارتداها كيفن و أصر على بقائها مع أن وجهه تورد بسبب وجود التدفئة المركزية ثم قدم كايس هديته الحقيقية في صندوق مربع عميق, جعلت رقاب النسوة ترتفع فضولاً لرؤية ما في داخلها.
صاحت أماندا حالما رأت ما في الصندوق: لم ألعب هذه اللعبة يوماً! هلا لعبنا بها بعد تنظيف المائدة؟
سألت العمة روزي: أهي كالمونوبولي عزيزي؟
قال كيفن: لا.. بل تشبهها و لكنها لعبة بحاجة إلى معلومات عامة.
خاب أمل العجوز: أو.. كنت أحب اللعب بالمونوبولي .. و لكنني غير بارعة في المعلومات العامة.
قال كيفن: ستستمتعين بها.. إنها تدعى لعبة المطاردة, و هي مسلية لكنها تتطلب معلومات عامة.
جاء دور أماندا لتقدم هديتها التي وضعتها بوقار أمامه.. جلست و القلق يساورها.. و بدا أن الجميع يشعرون بأن شيئاً ما على وشك الوقوع. ران الصمت في الوقت الذي كان كيفن يفتح هديته.. كان كيفن جاداً, حركاته بطيئة, و كأنه يخاف أن ينظر إلى ما في العلبة الطويلة المستديرة. ألقى نظرة على وجه أماندا الشاحب فلاحظ أنها تجلس و يداها مضمومتان في حضنها و أنها تتجنب النظر في عينيه.. و فتح غطاء العلبة.
ساد صمت طويل مقطوع الأنفاس, فيما كيفن ينظر إلى ما في العلبة بوقار.. ثم سحب الهدية بعناية فائقة و وضعها على الطاولة ليراها الجميع.
صاح كايس بأنفاس مقطوعة: يا الله أماني.. أين وجدتها؟
ردت بتوتر: إنها واحدة من مجموعة محدودة.
لم يقل كيفن شيئاً.. كان عليها أن تقدمها له و هما بمفردهما فهي هدية محض شخصية.
- اشتراها صهري بناء على طلبي.. من نحات في رودس.
و كـأنما لم تستطع أماندا السيطرة على نفسها فمدت يدها تمرر أصابعها على التمثال الذهبي بدءاً من الرأس المتكبر نزولاً إلى الصدر الرائع فالقدمين المنفرجتين في خطوة متعجرفة فوق صخرة مصقولة.
ذكرت اسم التمثال الرائع.
- إنه كالوسوس حامي رودس.
كادت تقفز منتفضة حين مد كيفن يده يمسك بأصابعها, و يضغط عليها بشدة قبل أن يرفعها إلى شفتيه..لم تستطع النظر إليه فالخجل غلفها كلياً.
قالت: إنه أحد عجائب الدنيا السبع الذي كان يشرف على مدخل الميناء بساقيه الضخمتين.. أقامه أهل رودس تخليداً لذكرى نجاتهم من حصار دام اثني عشراً و خصصوه للإله هيليوس, إله الشمس الوثني..
و كانوا يؤمنون أن رودس لن تتعرض للأذى ما دام منتصباً, و قد بقي واقفاً سبعين سنة ثم هدمته هزة أرضية.. إنه رائع.. أليس كذلك؟
قالت العمة روزي: إنه يشبهك أليس كذلك عزيزي كيفن؟
رد كيفن موافقاً بصوت أجش: أجل.. إنه أجمل هدية تلقيتها في حياتي.. شكراً لك أماني.. سأحافظ عليه و كأنه كنز ثمين.
أرادت أن تقول: إنه هدية حبي! لكنها عرفت أن من الخطأ الاعتراف بهذا.
دعك كايس ذقنه مفكراً ثم تمتم: زكاري كافلوس هو من نحت هذا التمثال.. فهو مشهور عالمياً في نحته لأشياء كهذه.. ثمنه مرتفع أماني.
ضحكت أماني لتخفف من توترها. ما زالت يدها في يد كيفن و عرفت أنه يريد منها أن تنظر في عينيه.. و لكن خديها كانا متوردين, و في عينيها قلق و خجل لهذا احتاجت إلى شجاعتها كلها لترفع عينيها إليه.
بدا وقوراً جداً.. لكن عندما نظرت إلى عينيه الصفراوين تحولتا إلى عقيق قاتم خطفتا أنفاسها بسبب الرسالة الصامتة التي رأتها فيهما. رفع يدها مجدداً و قبّل كفها.. و كرر: شكراً لك.
التفت إلى كايس: فلنلعب لعبة المطاردة.. بإمكان أماني مساعدة العمة روزي في تنظيف المائدة.
اتهمته صائحة: متعصب! شوفيني!
شكلوا فريقين للعب, النساء ضد الرجال.. كان الرجلان واثقين أنهما سيمسحان البلاط بأماندا و العمة روزي و لكنهما لم يستطيعا الصمود أمام سيدة عجوز اكتسبت معلوماتها العامة من سنين طويلة, معلومات تعلمتها و في لا تدري أنها تعرفها.
ربحت السيدتان اللتان رفعتا أيديهما حبوراً.. بعد ذلك غادر كايس المنزل و توجهت العمة روزي إلى النوم..
اقتادها إلى غرفتهما و ذراعه حول كتفها و تمثال كولوسوس في اليد الأخرى.. وفي هذا الوقت كانا يتجادلان عن هوية من ربح الحرب العالمية الثانية: تشير شل أم جون واين.
لكن ما إن أدخلها إلى غرفتهما حتى عانقها بحنان غير معقول جعل قلبها يرقص جذلاً.
قال يمازحها و يده على خصرها: كالوسوس.. هه؟
تمتمت: أنتَ إله الشمس بالنسبة لي.
تنهد و قال بصوت مرتجف: تُشعرين الرجل بأنه مميز.. تعالي فأنا أشعر أنني باق خالداً ما دمت معي.
ياله من اعتراف بالحب.. لكن ليس الحب الذي تريد..
قالت: غدا موعد أول تمرين بالملابس الكاملة.
انتهى أول تمرين بالملابس, و كانت أماندا مرهقة.. فقد جرت جميع الأمور بالمعكوس, فما أكثر ما نسيت من الجمل التي كان عليها قولها. و ما زاد الطين بلة المشاكل التي حدثت في ديكور المسرح و الأبواب التي لم تنفتح و الإضاءة التي لم تظهر في الوقت المناسب و الوعاء الفضي الذي وقع على قدم ماتيوس آشلي الذي أخذ يعرج و هو يخرج من المسرح غاضباً.
أوقفت أماندا سيارتها الصغيرة أمام المنزل و جلست تسند رأسها إلى الوراء متنهدة بقوة.. فقد كانت مرهقة أشد الإرهاق و معدتها تتقلص و هو أمر سيلازمها حتى موعد افتتاح المسرحية, أما أعصابها فكانت متوترة توتراً يجعلها غير قادرة على الحراك. جمعت أغراضها و ترجّلت من السيارة متعبة.. و لم تفكر إلا في الجلوس في حوض الحمام الواسع في جناحها.. لذا كانت ابتسامتها للعمة روزي هشة.
رفعت عينني متعبتين و قالت: مرحباً حبيبتي.. أما زال كيفن في مشغله؟ أنا متعبة.
بدت العجوز متوترة الأعصاب بشكل غريب.
- هل من خطب؟
همست روزي: إنها هنا! تلك المرأة!
أحست أماندا بالبرد يغزو كيانها.. فثمة شخص واحد تشير إليه العمة روزي بتلك المرأة.. زوجة كيفن.. السابقة.. ماذا تريد من كيفن هذه المرة؟ شعرت برغبة في التحري عن الأمر.
- أين هما؟ فوق؟
هزت العجوز رأسها نفياً و أشارت إلى غرفة الاستقبال التي نادراً ما تستخدم: هناك.. كان عنده بعض اللباقة ليبعدها عن جناحكما.. إنهما في الداخل منذ ساعة و أكثر.. لقد تجاوزتني و كأنني خادمة.. يا لتلك السيدة المتعجرفة الحقيرة..
وضعت أماندا يداً لتهدئ روع العجوز المضطربة: لا بأس عزيزتي.. سأنضم إليهما.
بذلت أماندا جهداً لتجمع أحاسيسها المتوترة و لكنها أخيراً توجهت إلى غرفة الاستقبال و وقفت لحظة أمام الباب لتنظر إلى سروالها الرياضي الأبيض و إلى القميص الأزرق الشاحب, ستشعر بلا ريب بأنها أقل شأناً أمام العارضة الجميلة.. رفعت ذقنها تستحضر كل تدريبها القاسي الذي تتطلبه مهنتها, ثم رفعت شعرها إلى الوراء و أرسلته كالستارة على كتفيها و فتحت الباب و خطت بهدوء إلى الداخل.
صدمها الجو التوتر السائد.. كانا واقفين في وسط الغرفة يتحدثان بصوت منخفض أجش و لكن سرعان ما توقفا ما إن رأياها.
قالت ببراعة الممثلة المشهورة: مرحباً.
توجهت مباشرة إلى كيفن و رفعت نفسها لتطبع قبلة سريعة على خده و هذا ما تفعله دائماً لدى وصولها.. و لكنها وجدته كلوح من خشب.. لم يلتفت حتى.. فأحست بألم كبتته أمام المرأة الأخرى.. ابتعدت عنه متوردة الوجه و ارتدت إلى سوان التي تراقبها باستغراب.
قالت بلطف: أنتِ سوان بلا ريب.. عرفتك من وجهك.. تسرني مقابلتك.
مدت أماندا يدها و وسعت ابتسامتها, فهزت المرأة الأخرى رأسها الأنيق التصفيف و لم تتحرك لتصافح اليد الممدودة.. بعد لحظة توتر أنزلتها أماندا إلى جانبها و قالت تعرف عن نفسها:
أنا أماندا هاموند لوكهارت.. يبدو أن كيفن قد أحسن التصرف.
أضافت في سرها: و بأكثر من طريقة.. لأنه لم يعترف حتى الآن بوجودها.
قالت المرأة السمراء: سمعت بك.
جاء صوتها هامساً أملس فشعرت أماندا و كأنها أفعى تتسلل إلى بشرتها.. رفّت رموشها الطويلة فبانت عينان سوداوان غريبتان اشتهرت بهما.. راحتا تطوفان بأماندا ثم ارتدت إلى كيفن.. و تمتمت:
أعتقد أن عليّ الذهاب في الوقت الحاضر.. اتصل بي حبيبي.. بعدما.. تدبر أمورك هنا.
أجفل كيفن بحدة.. كان ملء الجو التوتر.. انتظرت المرأة رد كيفن الذي بدا غير قادر على النطق بكلمة واحدة أما أماندا فنظرت إليه بغضب حائر.
قاطعت أماندا الصمت مضطربة: اسمع.. يبدو أنني قاطعت شيئاً.. خاصاً.. سأترككما بمفردكما ثانية.. أعذراني على تطفلي.
ارتدت بحدة و توجهت نحو الباب و هي غير قادرة على التنفس.. و كانت صفعات الغضب و السخط و الإذلال تحط عليها.. ألمْ يكفها هذا اليوم و مشاكله حتى وجدت جواً مضطرباً و امرأة تنظر إليها من وراء أنفها الجميل؟ هذا وحده كاف ليفور الدم في كيانها.. عندما كانت تهمّ بإمساك قبضة الباب عاد كيفن إلى وعيه و أوقفها.
- لا!
بدا صوته متحجراً كحبل مشدود يحتك بالخشب فأثر صوته في أعصاب أماندا بالطريقة عينها.. ثم أردف بصوت هادئ بعض الشيء: لا أماني.. أرجوك انتظري..
ارتدّ إلى زوجته السابقة: سوان؟ سأتصل بك..هه؟
كأنه يتوسل المرأة الأخرى أن تفهم! فعاد الغضب يصفع أماندا مجدداً.. فأضاف بصوت أجش بسبب تردد سوان كورتيز: أرجوك.
راحت العينان السوداوان تنتقلان ما بين كيفن و أماندا, ثم هزت كتفيها النحيلتين و سارت بعدم اكتراث.
إنها فعلاً مذهلة الجمال.. دمها اللاتيني أكثر بروزاً في وجهها المثير الغاضب و ثغرها المطلي بلون الدم.
استسلمت بهدوء قائلة: حسناً.. تعرف مكان إقامتي حبيبي.. سأنتظر سماع صوتك.
ارتدت و سارت في حركة رشيقة و على وجهها قناع من النصر الساخر جعل أماندا تبتعد عن الباب قبل أن تصل المرأة الأخرى إليه.. ابتسمت سوان كورتيز بسبب هذه الحركة, ثم خرجت بهدوء من الغرفة تاركة وراءها جواً مشحوناً لم تشهد أماندا مثله قطّ.
وقفا كصنمين يصغيان إلى وقع أقدام سوان.. ثم انفتح الباب الأمامي وانغلق.. عندئذٍ أطلقت أماندا نفساً طويلاً لم تكن تدري أنها تحبسه.
قالت ببرود: حسناً.. ما كان هذا؟
لم يرد كيفن. نظرت إليه فإذا هو ما يزال في وسط الغرفة يحدق إلى ما لا شيء. بشرته الرمادية تدل على أن ما حدث قبل دخولها أفقده توازنه المعتاد.
إنها تؤثر فيّ.. قالها مرة.. أحست بنذير شؤم يأتي مع الذكرى.. لقد أثرت سوان كورتيز بكل تأكيد فيه اليوم.
دلكت جبينها بيد مرتجفة ثم دنت من كرسي جلست عليه بحذر.
تحرك أخيراً و تقدم إلى إبريق القهوة الكهربائي فسكب لنفسه فنجاناً.. كانت يده ترتجف و هو يرفع الفنجان إلى فمه. سألته بهدوء: ما الأمر كيفن؟
لم يرد.. بل اقترب من النافذة فحجب جسده الضخم نور الخارج. قال فجأة بحيث أجفلها: وصلت هذا الصباح من نيويورك.
- لتعمل هنا؟
هزّ رأسه نفياً: بل لتراني.
همست: هكذا.. إذن.
بدا أنه استجمع قواه إذ ارتدّ لينظر إليها, ثم تقدم ليجلس قبالتها:
اسمعي أماندا.. سأحاول شرح أمر ما بدون.. لا أعرف كيف أبدأ..
تلعثم مرة أخرى فضمت أماندا يديها معاً, و اشتدت أصابعها.
- لقد تكلمنا مرة عن زواجي بسوان.
هزت رأسها إيجاباً.
- تعرفين أنني وجدت صعوبة في تخليص نفسي من زواجي بها.. و تعرفين أنني أشعر تجاهها بالمسؤولية.
راقبته أماندا و كأنها لا ترى شيئاً مما حولها.
- أخبرتك بشأن عملية الإجهاض؟
هزت رأسها إيجاباً.. و لكن حدسها أنباها بأنه على وشك أن يدمر حياتها.
- هي تقارب الثلاثين الآن.. و عملها يكاد يأفل. عمل العارضة جيد ما دام مظهرها جيداً.. و سوان تذبل. في العام المنصرم قابلت رجلاً.. إيطالياً ثرياً و وقعت في حبه. طلب منها الزواج, فسبحت في السماء السابعة و وجدت أن مستقبلها بات في أمان مع رجل تحبه و تظن أنه يحبها.
صمت قليلاً, فقالت أماندا: يسرني أن تجد أخيراً من تحبه.
هز رأسه: ليس الأمر هكذا.. كان كل شيء يسير جيداً.. ثم أدخلت فجأة إلى المستشفى بسبب ألم في الزائدة الدودية.
قالت مشفقة: أنا أسفة كيفن.. لا شك أن ذلك محنة..
هز رأسه مجدداً, و عادت نظرة الألم: كانت المسألة أخطر من هذا.. بعدما معاينة دقيقة تبين.. تبين..
و لم يستطع إكمال جملته.. فمدت يدها إليه و لكنه ابتعد قبل أن تلمسه و وقف يبتعد متوجهاً إلى النافذة:
تبين أن عندها عيباً.. عملية الإجهاض.
ابتلع ريقه: عملية الإجهاض دمرت كل فرصة لها للحمل مجدداً.
- يا للمسكينة! يا لصدمتها!
أردف كيفن: تخلى عنها.. ذلك النذل القذر رافضاَ الزواج بها لأنها لن تنجب له أطفالاً! فحطمها هذا و تركها مذهولة عدة أشهر. عملت, نامت, و عملت المزيد, ثم انهارت أخيراً..
صمت مجدداً ثم قال بفظاظة: لم أعرف بهذا كله.. لم تخبرني شيئاً.. كنا دائماً.. على اتصال.. مع ذلك لم تخبرني شيئاً. كنا مقربين.. اللعنة!
أصاب غضبه أماندا بنفاد صبر.. ما يقوله قصة تراجيدية حزينة.. و لكنها تعرف أنه لم يتطرق إلى لب الموضوع.
وقفت لتواجهه بعناد, و سألت: إلى أين يقودنا هذا كيفن؟ أفهم تكدرك.. و الله أعلم أن لا أحد من البشر يحب سماع بؤس شخص أخر.. مهما كانت الظروف.. و لكنك لا تسرد عليّ ما تسرد بغية اطلاعي على مأساتها بل هناك أكثر من هذا.. فما هو؟
ارتدّ بعنف و وضع فنجانه من يده بقوة: لقد أعدمت.. انتهى أمرها! ذهب مستقبلها العملي و خبا جمالها و ولىّ مستقبلها, لقد دمّرت أحداث الماضي فرص سعادتها.. إنها بحاجة إليَّ! و أنا.. و أنا لا أستطيع أن أدير ظهري لها.. لا أستطيع!
وعت أماندا أن الأمور تكاد تصل إلى النهاية.
التوى ثغرها بمرارة و قالت ساخرة: و هذا يعني ماذا.. بالضبط؟ هل دعوتها لتقيم هنا معك؟ أهذه هي المسألة؟ دعوت سوان إلى هنا و تريد مني أن أرحب بها بذراعين مفتوحتين؟
- أنا أطلب منك الطلاق أماندا لأستطيع الزواج منها مجدداً.
- ماذا؟
حدقت إليه بذهول كامل.. و راح الصمت يطبق على أذنيها اللتين لم تصدقا ما سمعته.
نظر كيفن إليها باكتئاب و كرر بلطف شديد: سأتزوجها مجدداً.
سرى في أوصال أماندا برد شديد و هزت رأسها رافضة تصديق ما تسمع.. و لكن كيفن نظر إليها بعينين متألمتين رافضاً سحب كلامه الذي انتزع الحياة من جسدها.
تنفست بهمس مرتجف: لا.. أنتَ لا تعني هذا حقاً.
امتدت يده بتوسل و قال بصوت أجش: أنا أسف.
قالت و هي تحاول إيجاد عذر له: أنتَ مرهق.. أنتَ لا تعني ما تقول! لن تفعل هذا بي.. بنا معاً!
لا جواب.. لا شيء سوى وجه منهك يرفض التراجع.
أردفت بصوت مرتعش: لقد لفقت عليك أدواراً! رواية رائعة! و أنتَ.. أنتَ تشعر بالصدمة و الرهبة, و هذا حقك! و لكنني لا أصدق أنك على هذه الدرجة من السذاجة و الرقة بحيث تذهب بعيداً إلى هذا الحد..
- أرجوك.. حاولي فهمي أماندا..
- إنها كاذبة فاسقة مخادعة متآمرة.. و أنتَ تعرف هذا.
و لم يحاول الدفاع عن المرأة الأخرى بل وافقها الرأي: إنها كل ما وصفتها به.. و لكنني ساهمت في ما أصبحت عليه أنا الذي أوصلها إلى ما هي عليه و يجب عليّ تحمل النتائج.
لا يمكنه أن يفعل هذا بها! لا يمكنه أن يعرّضها لكل هذا! ارتفعت يدها إلى رأسها و غطّت عينيها المتألمتين, ارتدت مبتعدة غير قادرة على الوقوف لكنها عادت تنظر إليه بحد, و لكنك تحبني!
تصلب كيفن: لم أستخدم هذه الكلمة قطّ.
- أنتَ تحبني! و أنت زوجي!
ابيضّ وجهه: أريد منك الموافقة على الطلاق لأتزوجها.
نظرت إلى وجهه ملياً لتستوعب الحقيقة المكتوبة عليه.. التوى ثغرها و تحوّل وجهها الجميل فجأة إلى خطوط قاسية.. فقالت لتهزأ من نفسها: لماذا تزوجتني؟ هل الزواج لعبة؟
ارتفع صوتها مع ارتفاع ألمها و برقت عيناها بسبب دموع لاحت في مآقيها.
منتديات ليلاس
أضافت: أحببتها دائماً! بل لم تشعر قط تجاهي بشيء حقاً! كل ما كان عليها أن تفعل هو أن تدخل إلى هنا.. و..
قاطعها بصوت أجش: لا تقولي هذا أماندا.. تعرفين أنني لست هكذا.. أنا..
صاحت: لا أصدق أنك قادر على إيقاع مثل هذا الألم بي!
اهتز جسمه كله بسبب العذاب الذي رآه في وجهها, حدق مذهولاً إلى الدموع المتساقطة على وجنتيها و تأوه بصوت مخنوق: أماني.. إنها عاقر.. عاقر! ألا تفهمين حبيبتي؟ لو أوقفتها عن الخروج ذلك اليوم.. و لو خرجت و راءها و منعتها من الإجهاض لما تدمرت حياتها هكذا! طالما أدرت حياتها.. كل ناحية منها! و لم يكن من حقي سحب هذا الدعم في تلك اللحظات الحاسمة!
صاحت: لكنه لم يكن طفلك! كانت خائنة غير مخلصة للقسم الذي كنت أنتَ تقدسه! كانت تحمل طفل رجل آخر.. ثم تخلصت منه و كأنه ثوب قديم بال لم تعد تريده! كيف تلوم نفسك لمجرد شعورها بالندم على ما فعلت؟
جادلها متعباً: لا يهمني طفل من كان! تعلمت أن تتكل عليّ في كل شيء مدة أربع سنوات.. و لا أستطيع أن أتجاهل أنني السبب في ما حصل لها!
سألت بألم: و ماذا عني؟ وعما تفعله بي؟
- أنتِ قوية أماني.. و ستعيشين.. أما فهي فلا.. هي غير قوية أبداً لذا عليّ الإمساك بيدها مجدداً.
نظرت إليه عبر ضباب دموعها السخية.. و ردت لها الهزيمة نظرتها.. فاستسلمت و هبطت كتفاها اللتان سرعان ما رفعتهما مجدداً, لأن الكبرياء تغلبت على كل شيء آخر.
قالت بصراحة و ذقنها مرفوع: أنتَ غبي كيفن.. أنتَ تحبني و تنوي رمي كل شيء عرض الحائط بسبب فورة ضمير ستزول مع الصباح حيث ستشعر بالفراغ و الدمار كما أشعر الآن.. حسناً.. هذا حقك.. و لا حق لي في مناقشة قرارك.. لأنك لم تسمح لي قط بمناقشتك.. لكن عندما تصدمك الحقيقة و تدرك خطورة ما فعلت لا تسع إليّ بحثاً عن العزاء عندي.. لأنك لن تجده عندي أبداً.. سأذهب الآن لأوضب أغراضي. أما الطلاق فأنا موافقة عليه.. أرسل إليّ الأوراق متى شئت لأنني لن أقف حجرة عثرة..
سارت شامخة الرأس و لكنها رجت ربها ألا تنهار ساقاها من تحتها.
- أماندا..
انتفضت و لكنها لم تتوقف بل همست: على الأقل اتركني و كرامتي كيفن.. لقد بترت مني كل شيء آخر.
و خرجت من الغرفة.
غروب الحب
كانت أماندا توضب حقائبها حين ظهر كيفن بباب غرفتها.. استند بيديه إلى الباب منهك الوجه متألماً, متوتراً.. بدا رجلاً مشتتاً عاطفياً..
تجاهلته أماندا و راحت تنقل من الخزانة إلى الحقيبتين المفتوحتين فوق السرير.
لم تغير ثيابها.. و لم تستحم كما وعدت نفسها.. كان شعرها الأشقر الشاحب يلعب دور ستارة تخفي وجهها البارد الخالي من الدم.
لم يتكلم كيفن و لم يتحرك, بل وقف هناك يسدّ الباب بجسمه الضخم المتوتر و عيناه ضيقتان شاحبتان تبرقان بشكل غريب, و هما تلاحقان كل تحركاتها و هي توضب أغراضها. كان الجو مشحوناً بشيء لم يسبق أن شعرت بمثله إلا مرة واحدة حين قتل والديها.. و كان وضعاً طالما تمنت ألا تواجهه مرة أخرى. إنه وضع يبطئ الأحاسيس و يخدر الأعصاب بحيث يحتاج المرء إلى تركيز عميق لمجرد القيام بأبسط الأعمال.. في أعماقها كانت تشعر بالبرودة فمشاعرها مغطاة لأنها لا تستطيع التعرض لمزيد من الألم.
ما إن أنهت توضيب حقيبتين حتى أخذت حقيبة زينتها الصغيرة و حملتها إلى الحمام و هناك تابعت مهمة توضيب أغراضها الخاصة.
أصبح كيفن خلفها و كان صامتاً مكفهر الوجه يراقبها و كأنه رجل مصمم على أن يشهد استنزاف حبهما حتى النقطة الأخيرة.
لم تنظر إليه و لو لمرة, ما إن أنتهت حتى حملت الحقيبة إلى غرفة النوم متجنبة أي احتكاك به.. كانت أعصابها ترتجف بشكل خطير لأنها تعرف أن أي احتكاك به قد يطلق خيوط السيطرة التي تتمسك بها.
أغلقت الحقائب بقوة أجفلتهما معاً.. و لكن كيفن تماسك و دنا منها يريد أن يحمل الحقيبتين الثقيلتين عن السرير.. و لكنه ارتدَّ محبطاً أبيض الوجه حين ارتدت إليه أماندا و كأنها قطة شرسة.
قالت من بين أسنانها: لا تلمسها! لا تلمس أبداً ما يخصني! لقد نجحت في تلويث كل شيء.. كل شيء! فابتعد عني! سأتصرف بنفسي.. كما فعلت دوماً.
ثم ارتدت عامدة متعمدة عن وجهه الشاحب و تقدمت إلى حيث تمثال كالوسوس واقفاً شامخاً. انتزعته من مكانه و نظرت إليه باشمئزاز.
- يا إلهي.. أماني..
لكن توسله لم يلق آذاناً صاغية, فقد ارتدت و التمثال في يدها.. أما هو فضاقت عيناه.
هل يظن أنني سأحطم رأسه به؟
رفعت التمثال عالياً ثم رمته من النافذة.. فتعالى صوت تناثر الزجاج.. و وقفت أماندا مسمرة هادئة تنتظر سماع الصاروخ الذي سيتحطم على أرض الشرفة الحجرية في الأسفل.
قالت بهدوء: هذه مشكلة الآلهة المصطنعة, ليس لها روح.. تقف جامدة فيما هي من الداخل فارغة, جوفاء, تأخذ كل شيء بشراهة و لا تقدر على العطاء.
رفعت حقيبتها ثم ألقت نظرة أخيرة مريرة على كيفن الذي كان يتكئ على الجدار قرب الحمام و وجهه مستند إلى ذراعه و جسده كله يرتجف.
خرجت من الغرفة و هي تكافح للوصول إلى الأسفل بسبب هذه الحقائب.. لاحظت العمة روزي واقفة بباب شقتها قلقة, لكنها رفضت الاعتراف بوجودها.. رمت الحقيبتين في صندوق السيارة ثم عادت إلى المنزل و جلبت ما تبقى من متاعها.
وجدته في الغرفة يقف قرب النافذة المحطمة, و يداه مشدوتان إلى جنبيه يحدق إلى التمثال الملقى على الأرض في الأسفل, مقطوع الرأس.
جمعت بقيت أغراضها ثم خرجت مرة أخرى بدون أن تقول كلمة.. و عندما كانت تسير في الرواق سمعت صوت عظام تضرب الخشب, ثم تحطم الزجاج.. عرفت أن كيفن يحطم ما تبقى من النافذة بيده.
كانت العمة روزي قد تحركت إلى أسفل درجها و نظرت إلى أماندا شاحبة قلقاً.
- ماذا حدث أماني؟
وضعت أماندا أغراضها أرضاً و ابتسمت لها, فاغرورقت عينا العجوز بمزيد من الدموع. ابتلعت أماندا غصة بؤس كانت تحاول جاهدة استيعابه, و حضنت جسد العمة الصغيرة بقوة.
- لا تتكدري حبيبتي.. هذا ما يريده كيفن.. و هذا هو المهم في النهاية.
في لهجتها مرارة كبيرة.. و لكنها لم تكن قادرة على التصرف بطريقة أخرى.
حاولت الابتعاد لكن العمة العجوز تعلقت بها.
- ماذا حدث؟ لماذا ترحلين؟ لا أظن كيفن يسمح برحيلك..
قاطعتها: لا تضيفي شيئاً آخر..
وضعت شفتين باردتين على خد العمة روزي.. ثم همست:
فليسامحه الله عمتي روزي.. أما أنا فلن أسامحه أبداً.
ثم التقطت بقية أغراضها متجاهلة بكاء العمة روزي و صوت التنفس العميق الأجش,الذي أعلمها بأن كيفن الواقف فوق أمام النافذة قد سمع ما قالته.
تركت أماندا المنزل بدون أن تلقي نظرة إلى الخلف. و لكنها أخذت شيئاً واحداً أرضاها و هو توسل كيفن الحزين الذي أطلقه قبل مغادرتها غرفة النوم. لقد قال: لا تذهبي أماندا.. أرجوك لا تذهبي.
وصلت إلى شقتها فوجدت كايس هناك يستند إلى الجدار قرب بابها.. استقام حين شاهدها.
قالت: كيف..؟
- اتصلت بي العمة روزي.
آلمها ألا يكون كيفن من اتصل به.
- ادخلي.. سأجلب الحقائب من السيارة.
أعطته مفاتيح السيارة ثم فتحت باب شقتها بأطراف مخدرة, و دخلت. ارتجفت أماندا و عقدت ذراعيها حول صدرها و راحت تتنقل من غرفة إلى الأخرى و هي تشعر بالبرد و الجفاف من الداخل.
- وضعت أغراضك في غرفة نومك.
جاء صوت كايس المتأني الحذر من خلفها.. فارتدت إليه مبتسمة ابتسامة حزينة.
- فكرت في فنجان شاي.. نعم هذا ما تحتاج إليه.. فنجان ساخن لذيذ من..
- أماني..
شدت عينيها و أغمضتهما بقوة:
- أماني.. أماني.. أماني! يا ألهي أكاد أصاب بالغثيان من سماع هذا الاسم.
أتنفض جسمها كله ثم أجهشت بالبكاء.. فتقدم كايس بقلق نحوها. مدت يديها نحوها توقفه و قالت بضعف:
- أرجوك كايس.. أشكرك على مجيئك كما أشكرك على اهتمامك.. و لكن هلا ذهبت الآن؟ فأنا بحاجة للانفراد بنفسي.
ران صمت قصير, ثم صدم صوته طبلتي أذنيها فقد عاد مرحه المتأصل إليه.
- طبعاً حبيبتي.. لا مشكلة.. لا مشكلة.. إنسي أن كايس العجوز قد أظهر وجهه أبداً!
لقد جرحته وهذا ما آلمها, أضاف: سأذهب.. و لكنني راجع في وقت لاحق.. لا يمكن أن أزعج السيدة.. فالليلة الكبيرة قريبة, و هي بحاجة للراحة.
- كايس!
- حسناً.. حسناً.. أنا أسف! انظري.. انظري.. أنا ذاهب.. لقد ذهبت!
و خرج تاركاً وراءه صمتاً بارداً, أما أماندا فارتمت فوق الكرسي و دفنت رأسها بين ذراعيها على مائدة المطبخ.
لاقت المسرحية نجاحاً باهراً اهتاج النقاد, و أحبها المشاهدون.. و الأهم أن أماندا وجدت أنها قادرة على دفن حزنها في الشخصية التي تلعبها.
كانت تمثل في الأمسيات و تعود إلى المنزل لتناول عشاء خفيف.. ثم تمضي الليل و هي تتقلب و تتلوى لتبعد عنها الألم الذي تشعر به..
و كانت تتوقع في كل يوم وصول أوراق الطلاق لتوقعها, و لكن ذلك لم يحدث حتى الآن.
ثم رأته في الأسبوع التالي على العرض جالساً في مقدمة المسرح في المقعد الأول من الصف الثالث.
ثم تستطع أماندا معرفة ما الذي لفت نظرها إليه بالضبط.. ربما هي مشاعرها المجروحة أو سوء حظها القديم الذي أجبرها على النظر إلى الصالة من موقعها على المسرح حيث يمكن لها أن ترى الصفوف الأولى التي تضيئها أنوار المسرح الأمامية.. ولكنها رأته فتلعثمت بالكلمات التي كان عليها قولها و هي تمثل.
في الليلة التالية كان هناك أيضاً في التي تلتها ثم التي بعدها في المعقد ذاته و المكان ذاته..و كان حجم جسمه يبرز كثيراً بحيث تعجز عن تجاهل وجهه الذهبي المشرق الذي تخفيه ظلال و الأنوار الخافتة.
مضى أسبوع على هذا العذاب الغريب ثم قررت أخيراً أنها لن تستطيع الاحتمال أكثر.. و ظهر مرة أخرى تلك الليلة التي كان أداؤها فيها ضعيفاً جعل أفراد الفرقة يتأففون. في اليوم التالي أرسلت له مذكرة وصلت إليه في مشغله تطلب فيها الامتناع عن الحضور إلى المسرح لآن وجوده يفسد أداءها.
و من تلك الليلة انقطع عن المجيء و لكن مقعده ظل فارغاً.. و كأنه شاهد ضريح حبهما الميت.
لم تعرف لماذا جاء.. و لكنها رفضت التفكير في دوافعه, و قد سبق أن أرسل لها ليلة الافتتاحية بطاقة يقول فيها:<< حظاً سعيداً.. كيفن>>, مع باقة جميلة موضوعة في آنية خزفية عرفت أنه من رتبها.. لكن عدا هذا, لم يكن هناك اتصال بينهما, و لم يحدثها كايس عنه قطّ مع أنه يزور العمة روزي دائماً.
في الأسبوع السابع على عرض المسرحية و بالتحديد بعد ظهر الأربعاء سمعت رنين جرس باب شقتها.
فتحت الباب ثم وقفت تنظر فاغرة فاها إلى الزائر. سألها صوت ساخر:
- هل لدى السيدة اللطيفة شراب لمسافر متعب؟
صاحت: بيدروس!
و ارتمت بين أحضانه.. تحتضنه و كأنه الحياة رُدّت إليها.. راحت تضحك, و تكاد تبكي, و تصيح:
- من أين أتيت؟ أين آيرين؟ ماذا فعلتما ببيير؟ أوه.. ما أروع أن أراك!
قال متذمراً بلطف: مهلك, مهلك حبيبتي! كوني لطيفة و توقفي عن شد ثيابي هكذا.. البذلات الإيطالية غالية الثمن هذه الأيام.
كان بيدروس فيرغوس رجلاً يضع السلطة و الثراء حول كتفيه كالعباءة.. جسده الطويل مخلوق لارتداء الثياب المتقنة الفاخرة.. مع ذلك فهو يبدو خطيراً حتى وهو يرتدي جينزاً عتيقاً و تيشرت.. شعره قوي سميك أسود و لكن مع فودين فضيين أما عيناه فأشبه بالمخمل البني.
دخلا إلى شقتها و البسمة تعمّ وجهها: قهوة؟
- يونانية؟
- طبعاً.
- إذن.. أجل, أرجوك. فأنا بحاجة إليها بعد هذا السفر الطويل.
جلس بيدروس و كأنه في بيته, أما أماندا فراحت تحضر القهوة ثم جلست إلى جانبه.
قال: أنا هنا في لندن في زيارة سريعة, و لكن آيرين لم تأت معي بسبب...
أجفلها صمته فرفعت عينيها.. و لكنه ابتسم يطمئنها:
- لا.. لا.. أنها ليست مريضة.. كيف يقول الرجل هذا بدون الابتسام كالأبله؟ إنها تتوقع طفلنا الثاني.
صاحت أماندا: طفل؟
و حضنته مجدداً, و لكنها توقفت في الوقت المناسب قبل أن تفسد بذلته بالقهوة..
- أوه بيدروس.. هذا رائع! فتاة.. أصر على أن تكون ابنة أختي ذهبية الشعر زرقاء العينين لتدير رجال عائلة فيرغوس حول أصبعها.
ضحك بيدروس: إنه مطلبي أيضاً.. لكنها, وهي العملية دائماً, تقول إن هذا بيد الله و يجب أن أرضى بما يريد.
لكن المرح فارقه بعد قليل و بدا متجهماً: آيرين قلقة عليك عزيزتي.. عندما أخبرتها بما حدث معك ارتاعت و خافت عليك و أرادت المجيء لمواساتك و لكن وضعها منعها.. و ها أنا أرى أن معها الحق في قلقها عليك فقد فقدت بضعة كيلوات و أرى الدوائر السوداء كما أرى أن الابتسامة التي ترسمينها على وجهك ابتسامة تعب.. لذا أخبريني كيف حدث كل هذا.. زواج خاطف ثم انفصال غريب.
أليس هناك علاج للقلب المكسور...
- أنا بخير حقاً بيدروس.. قل لآيرين أن لا داعي للقلق.. فما أكثر ما تفشل الزيجات.
- نعم كثيراً ما يحدث ذلك.
- يجب أن تقول لها أنني على ما يرام..
انقطعت لبرهة عن الكلام ثم أضافت: تبين لي و لكيفن أننا ارتكبنا غلطة.. و اكتشفنا أننا نرغب في أشياء مختلفة.
سأل بيدروس بلطف: مثل ماذا؟
تنهدت: الحب.
- الحب؟!
كان صهرها يخوض الموضوع بحذر شديد, فهو يعرف قوة كبرياء عائلة هاموند.. و أماندا كآيرين, تستطيع بسهولة أن تقلب حباً قوياً إلى كراهية شرسة لا تلين, و لديه الخبرة في هذا التحول السريع و يعرف كذلك طباع العائلة التي نادراً ما تظهر, لكن حين تظهر يصبح بإمكان صاحبة هذا الطبع صعق أي رجل حيث يقف. و لهذا يخوض الموضوع بحذر.
- خلته يحبني مع أنه لم يستخدم تلك الكلمة يوماً.
قال بيدروس ساخراً: بكل تأكيد عزيزتي.. فلننصف كيفن, لأنني واثق أنني تلقيت انطباعاً بأن الحب بشرق كالشمس عليكما معاً؟
- لا تكن غامضاً في كلامك معي بيدروس, أنا و أنتَ نعرف تمام المعرفة ما ميزة كلمة الشمس.
- أجل, إنه تمثال خاص برونزي مغطى بالذهب الخالص و هو كما يقول الإنكيز يكلف ثروة, و قد طلب سراً من أفضل نحاتي رودس.
ردت متجهمة: كانت إشارة لا جدوى منها..
- إعلان الحب أماندا.. إن لم يرد كيفن على الحب بلطف فهذا لا يعني إلغاء الرسالة.
- لقد طردني.
انتفض بيدروس...
أضافت: من غير سابق إنذار. في يوم كان كل شيء رائعاً كاملاً.. و في اليوم التالي ذهب كل شيء و ما زلت غير قادرة على تصديق ما جرى.
سألها بحدة: و هل ارتكبت خطيئة ما؟ أم جرحته و أغضبته ليعاملك بمثل هذه القسوة؟
تخلص من فنجان القهوة و ارتدّ بحدة ليواجهها و يقول بلهجة آمرة: أجيبيني أماندا! ماذا فعلت لتستحقي مثل هذه المعاملة؟
أحست أماندا أن سيطرتها التي تفرضها على مشاعرها انهارت فجأة.. و الدموع التي طال احتباسها انطلقت.
قالت بمرارة: أنا التي أحببته.. هذا كل شيء.. تمثالي الذهبي الكبير كولوسوس! لقد تجرأت على الوقوع في حب إله الشمس الإغريقي, بيدروس. و لقد أوضح وضوح الشمس رأيه بي!
تمتم بيدروس بصوت أجش: أماندا.. لا تظلمي نفسك هكذا.
أردفت بصوت كسير: حظك تعس أماني.. عشت معك فترة ممتعة و لكن هذا لن يحدث بعد الآن.. أطلب منك الطلاق لأتزوج سواك.
أغرقت في البكاء أما بيدروس فضمها بين ذراعيه بحنان.. انفتحت أبواب السد و راحت تسرد عليه كل القصة المؤسفة و دموعها على وجنتيها.
أصغى بيدروس الذي بان عليه الغضب.. فذلك الولاء اليوناني الأزلي للعائلة يضج في رأسه و يجعله راغباً في الانتقام.
ثم قال بحدة: سأقتله!
عرفت أنه قادر على ذلك, فصاحت مجفلة: لن تقدم على شيء كهذا.
- لن أقتله بيدي, فعلى رجل في مثل مركزي أن يكون كتوماً في مثل هذه الأمور.
- بيدروس..
- سأجعله يتألم قليلاً.. إذن.
- إنه رجل بعيد النظر يرى ما لا يراه الآخرون إلا في ما خصّ زوجته السابقة.. فمعها لا يستطيع رؤية كذبها القديم!
- قد يصبح ضمير الرجل عبئاً لا يحتمل عزيزتي.. خاصة حين يريد قلبه إبعاده في اتجاه مضاد.
- و هذا الضمير هو الذي يكسب دوماً.. أهذا قصدك؟
- لا.. ليس هذا قصدي. ربما يقاوم كيفن بشراسة رغبات قلبه.. و جرحك عميقاً في سياق هذا أماندا.. لكن هذا لا يعني أن الضمير هو الذي يربح دائماً.
تذكرت صدى توسله المشبع بالألم عندما كانت راحلة فاعترفت بأن بيدروس على حق فيما قاله.
أضاف: هل أرسل إليك أوراق الطلاق لتوقعيها؟
- حتى الآن لم يرسلها و أنا أستغرب ذلك.
- و هو إلى الآن لا يقضي أوقاته مع زوجته السابقة.
- و كيف عرفتَ ذلك؟
- لأنني يا عزيزتي جعلته شغلي الشاغل.
- يا لتصرفك المثالي! و من أعطاك الحق في التدخل بشؤوني؟
- حقوقي واضحة.. أنا قريبك الذكر الوحيد.
انتفخ كبرياء: آيرين قلقة عليك! و صديقك العزيز كاسدي قلق عليك.. و أنا قلق عليك! فحالتك المثيرة للشفقة تثبت أن لقلقنا ما يبرره!
راحت تذرع الغرفة ذهاباً و إياباً: سأعيش.
- أجل.. ستعيشين.. أسلافك المتكبرين يطالبونك بهذا.. و لكنهم لا يطالبونك بدفن نفسك في عملك و تجاهل فرصة البدء بحياة جديدة و علاقة جديدة!
كيف تفكر في رجل آخر و كيفن لا يفارق تفكيرها لحظة؟ احتضنت نفسها بشدة متمنية لو أن بيدروس موجود الآن في جزيرته رودس المحبوبة.
هز كتفيه: ما زال كيفن بمفرده مع سيدة عجوز طيبة و كلب مخيف المظهر.
- و ماذا يعني هذا.. بالضبط؟
- هذا يدل أنه رغم عذاب الضمير الذي يشعر به غير قادر على المضي في هذا...
- ربما رفضته! الضعفاء, الخنوعون, المطيعون الذي يضحون بأنفسهم لا يرقون كثيراً للنساء.. و أنتَ تعرف هذا!
- حقاً؟
ردت: أجل.. حقاً.
في هذه المرة لم يتمالك نفسه إذ اندفع يقهقه بصوت عال حتى شعرت أماندا بالإهانة, ثم علق:
- هذه هي فتاتي التي أعرفها! عرفت الآن أن روحك القتالية لم تتخل عنك حتى الآن.. سأكون مستريحاً الليلة بصحبتك على العشاء!
وقف.. هو ليس أقصر من كيفن بكثير.. أضاف بصوت كسول:
- لا أطيق تناول العشاء مع الجثث أماندا, إنها تضجر.
قالت تؤنبه: إيها المتعجرف..
جعلها تبتسم في الوقت الذي كانت فيه على استعداد لضربه.. قال موافقاً بعدم اكتراث: أعرف.
و رمى ذراعه حول كتفيها و اتجه معها إلى الباب:
- و ماذا يمكن أن أكون و أجمل امرأة في العالم تحبني؟
- تحايلك عليّ عن طريق أختي لن ينفعك.
عانقته بحب و حرارة ثم ارتدت عابسة في وجهه:
- أتساءل عما إذا كانت آيرين على معرفة بضعفك نحو الممثلات فأنا شخصياً أجد الأمر وقاحة!
* * *