كاتب الموضوع :
محبة القراءة دائما
المنتدى :
روايات زهور
لقد حققت الحياة لـ ( وجدى) الكثير من الآمال و الأحلام التى تمناها فقد تمكن بكده و عرقه و كفاحه لسنوات طويلة فى أثناء الدراسة و بعدها من تحويل مصنع الزجاج الصغير الذى يملكه خاله فى بورسعيد إلى مؤسسة صناعية كبيرة و عندما توفى خاله تاركاً هذا المصنع باعتباره وريثه الوحيد هو و أخته ( هالة) كان ( وجدى) قد نجح فى القفز بهذا المصنع قفزات هائلة بفضل ذكائه و روحه المتقدة فى العمل و السعى وراء مواطن النجاح و عزز هذا النجاح المادى بمكانة اجتماعية مرموقة عندما اقترن بـ ( نجلاء نور الدين) ابنة ( نور الدين عزمى) محافظ بورسعيد السابق و هو بدوره من أسرة ذائعة الصيت ذات جذور عريقة و على الرغم من أنه لم يعش قصة حب حقيقة مع زوجته قبل الزواج إلا أن هذا الحب سرعان ما وجد طريقه بينهما بعد زواجهما الذى دام حتى الآن عشر سنوات كاملة قربت كثيراً بين أفكارهما و طباعهما و ازداد التفاهم بينهما على الرغم من بعض الصعوبات التى حالت دون ذلك فى البداية فقد ظلت هناك عقدة تحكم ( وجدى ) فى علاقته بزوجته على الرغم من ثرائه المادى الكبير و هى احساسه دوماً بأنها تتميز عليه اجتماعياً بحكم النشأة و ربما يرجع ذلك إلى نشأته الأولى التى كانت تتميز باليتم و الفقر و ألوان عديدة من المهانة و الحرمان طالما حاول نسيانها و اقتلاعها من جذور ذكرياته دون جدوى فقد ظلت ذكرى هذه الأيام المريرة و الكريهة فى نفسه باقية وتشكل جزءاً من اصراره على النجاح و الثراء ومعادة الفقر و التمرد على كل ما عاشه فى طفولته وصباه و على الرغم من أن ( نجلاء) لم تحاول أبداً أن تظهر له هذا التميز إلا إذا حدث ذلك عرضاً أو دون قصد إلا أن هذا كان يثيره دائماً و يحاول تعويضه عن طريق التباهى بعصاميته و نجاحه المادى أحياناً و أحياناً أخرى بالقسوة و الغلظة فى معاملتها تعويضاً عن ذلك الإحساس و قد أدى ذلك إلى مشاكل عديدة فى حياتهما فى البداية كادت تقودهما ذات يوم إلى الطلاق و لكن سرعان ما تراجعا عن هذه الفكرة عندما تبينا هولها بالنسبة لهما فعلى الرغم من كل شىء إلا أن أحدهما لم يكن يستطيع أن يستغنى عن الآخر و هكذا وطدا نفسيهما على احتواء هذه الأزمات التى تنشأ بينهما من آن لآخر بالعمل على تحقيق المزيد من التقارب النفسى و التفاهم بينهما و أصبحت ( نجلاء) من ناحيتها حريصة على عدم تحريك هذه العقدة النفسية التى تحكم ( وجدى) و تخرجه عن طبيعته المألوفة احياناًُ و أصبح ( وجدى) أيضاً أكثر حرصاً على عدم الانسياق وراء هذه العقدة الدفينة و أنعم الله عليهما بطفل جميل عزز هذا الحب و التقارب الذى جمع بينهما و لم يعد باقياً من طموحاته وأحلامه القديمة سوى ذلك المستقبل السياسى الذى أعد نفسه له و على الرغم من أن رجل الاعمال والصناعة لا يحبذ كثيرا الانخراط فى العمل السياسى ـ فلكل منهما مجاله ـ إلا أن ( وجدى) كان يحلم دائماً بأن يستأثر بالاثنين لقد آلى على نفسه منذ الصغر أن يحوز كل أسباب القوة و الثراء و كان يرى فى العمل السياسى ما يمنحه القوة و النفوذ اللذين يسعى إليهما و مع كل ما حققه من ثراء مادى و مركز اجتماعى ممتاز و نفوذ فعلى فى مدينة بورسعيد إلا أنه لم يتراجع عن طموحه السياسى أبداً
كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء ببضع دقائق و كان ( وجدى) قد بذل جهداً كبيراً فى انهاء عدد من الأعمال الهامة الخاصة بالمؤسسة و بعد انصراف عدد من الأشخاص من مكتبه قام باجراء اتصال هاتفى أخير بإحدى الشركات التى يتعامل معها ثم استرخى فى مقعده و قد أخذ منه التعب مبلغه و نظر فى ساعته و هو فى حالة من الخمول كان الوقت مازال كافياً و يسمح له بحضور حفل عيد الميلاد لكنه بالإضافة إلى عدم رغبته فى حضور هذا الحفل منذ البداية كان مرهقاً و غير قادر على ممارسة تلك المجاملات التى طالما اضطرته الظروف إلى القيام بها . إن أقصى ما يستطيع عمله الآن هو أن يتسلل بسيارته إلى المنزل لينعم بحمام دافئ ثم يدس نفسه فى الفراش منتهزاً خلو المنزل من ( نجلاء) و ( وائل) ابنه فلو أتيح لهما أن يلتقيا به قبل أن يستغرق فى النوم فإنه لن ينجو من تأنيب ( نجلاء) له لعدم حضوره معها إلى الحفل كما وعد كما سيكون مضطراً إلى تلك المداعبات و الروايات التى يحكيها لـ ( وائل) قبل نومه كما عوده و هو غير مهيأ لذلك الآن . و بالفعل نهض ( وجدى) من مقعده مقاوماً حالة الاسترخاء التى تملكته ليصلح من رباط عنقه ثم تناول سترته من فوق المشجب استعداداً لمغادرة المكتب لكنه سمع عدة طرقات على الباب قبل أن يتهيأ للانصراف ووجد سكرتيرته تدلف إلى الداخل و على وجهها بعض علامات الانزعاج و همست له قائلة :
ـ هناك شخص يطلب مقابلتك بالخارج يا ( وجدى) بك
سألها قائلاً :
ـ من هو ؟
أجابته قائلة :
ـ لقد رفض ذكر اسمه
نظر إليها بدهشة قائلاً :
ـ حسناً و ما الذى يدعوك إلى الانزعاج هكذا ؟
ترددت قليلاً قبل أن تقول :
ـ إنه يرتدى ملابس رثة و تبدو عليه معالم الشر و القسوة برغم تقدمه فى العمر و لقد صاح فى طريقة خشنة و تهيأ لى فى لحظة أنه سيقوم بصفعى عندما أصررت على عدم السماح له بمقابلتك دون موعد سابق و دون أن يوضح لى اسمه و هدفه من المقابلة و لم أجد بداً من التظاهر باستئذانك قبل السماح له بالدخول لكى أبلغك الأمر هل تحب أن أطلب الأمن ؟
سألها ( وجدى) :
ـ ربما كان أحد أهالى المدينة ؟
قالت السكرتيرة فى ثقة :
ـ كلا إنه يبدو غريباً و لهجته أيضاً لا تدل على أنه من أبناء بورسعيد
( وجدى) :
ـ حسناً دعيه يدخل
و ترددت قائلة :
ـ و لكن يا أستاذ ( وجدى) ...
أومأ برأسه قائلاً :
ـ قلت لك دعيه يدخل
نظرت إليه و معالم التردد واضحة على وجهها و هى تقول مستسلمة :
ـ حسناً هل أرسل لك أحد رجال الأمن ؟
قال لها ( وجدى) و هو يعود إلى مقعده وراء مكتبه :
ـ لا .. لا داعى لذلك إذا احتجت أحداً من الأمن فسأطلبه بنفسى
و غادرت السكرتيرة المكتب و هى مازالت قلقة و بعد قليل فتح الرجل باب الغرفة ليقول بصوت واهن و لكنه لا يخلو من الخشونه و الحماس :
ـ أوحشتنى يا ( وجدى)
كان الرجل يرتدى ملابس رثة للغاية و تكشف ملامح وجهه المترهلة و شعره الأبيض عن تجاوزه الستين من العمر ببضع سنوات و إن بدا بقامته المديدة و صلابة عوده محتفظاً بشئ من بقايا الشباب الراحل و أحس ( وجدى) برجفة تسرى فى جميع أجزاء جسده لدى رؤيته لذلك الشخص برغم عدم تعرفه لكن شيئاً ما جعله يرتجف و هو يرى هذا الرجل الطاعن فى السن يقترب منه ويتحدث إليه على هذا النحو و أخذ يحدق فيه بتمعن دون أن يتحرك من فوق مقعده .
|