كاتب الموضوع :
محبة القراءة دائما
المنتدى :
روايات زهور
( نجلاء) :
ـ ألن تخبرنى عن سبب رحيلك المفاجئ هذا ؟
( منصور) :
ـ لقد قلت لك من قبل يا هانم أننى مضطر إلى السفر
( نجلاء) :
ـ لا أعرف لماذا لا يبدو لى هذا السبب مقنعا ؟ و على أية حال إذا كان الأمر متعلقا بالمال فيمكننى أن ...
قاطعها قائلا :
ـ ليس للأمر أية علاقة بالمال إنه ارتباط لابد منه
و هم بهبوط درجات السلم عندما امسكت ساعده قائلة :
ـ عم عبده
و صمتت قليلا قبل أن تستطرد :
ـ أريد منك أن تعرف قبل رحيلك أننا أيضا أحبناك و تعلقنا بك و كنا نتمنى ألا تتركنا و ترحل
نظر إليها مليا ثم قال :
ـ بارك الله فيك يا بنيتى
ثم أسرع بهبوط درجات السلم ووقفت ( نجلاء) تراقب رحيله من نافذة غرفة نومها إلى ان غاب عن عينيها ثم عادت إلى الفراش حيث كان زوجها راقدا و قد استلقى على احد جنبيه و هو ينظر إلى الجهة المقابلة للنافذة و سألها بصوت خافت :
ـ هل رحل ؟
سألته باستغراب :
ـ هل أنت مستيقظ ؟
( وجدى) :
ـ نعم
قالت معاتبة :
ـ لم لم تحاول ان تنهض لتوديعه
قال و قد ازداد صوته خفوتا :
ـ لا أعتقد انه كان سيرحب بذلك
( نجلاء) :
ـ هذا ما قاله و لكن كان يمكنك على الأقل أن تعرض عليه توصيله إلى موقف السيارات
( وجدى) :
ـ و هذا ايضا رفضه
التفتت إليه قائلة :
ـ لا أعرف لماذا يسيطر على ذلك الشعور بأن هذا الرجل يمت لك بصلة ما ؟
تصرفاته و افعاله
و صمتت و قد ارتسمت على وجهها ملامح الحيرة ثم قالت :
ـ لقد كان ينظر إلى ( وائل) بحنان بالغ حتى أننى خشيت أن يختطفه و يأخذه معه قبل ان يرحل و موضوع ( هالة) لقد سمح لنفسه بالتدخل فى الأمر و اصلاح العلاقة بينها و بين زوجها كما لو كان فردا فى العائلة و أنت لقد رأيتك متأثرا هذا المساء لرحيله بالرغم من أنك نادرا ما تتأثر لفراق احد و لا تتميز بذلك الحس العاطفى و هذا شئ غريب بالنسبة لأجير عندك بالرغم من أننى لا أنكر أننى أيضا تأثرت لقراره بالرحيل عنا فقد احسست أن وجوده فى منزلنا يضفى عليه لمسة ما .. لمسة غريبة لم نعهدها فى احد ممن يعملون لدينا او ممن نعرفهم و ازدادت اقترابا منه و امسكت ساعده قائلة :
ـ ( وجدى) أما زلت مستيقظا ؟
لكنها لم تتلق جوابا منه و إن احست بجسده يرتعد فقربت وجهها من وجهه و رأت عينيه محتقنتين بالدموع فهتفت غير مصدقة :
ـ ( وجدى) هل تبكى ؟!
نهض من فوق الفراش ليجلس على حافته و هو يدير لها ظهره قائلا بعد ان اطلق زفرة قصيرة :
ـ ( نجلاء) ألا تكفين عن ذلك الفضول ؟
و لكنه قفزت من الفراش لتواجهه قائلة :
ـ هل تعرف ان هذه هى المرة الأولى التى ارى فيها الدموع فى عينيك ؟
مد يده ليزيل أثر الدموع من عينيه قائلا و هو يشيح بوجهه إلى الجهة الأخرى :
ـ إن عينى متعبتان قليلا ربما بسبب الإجهاد و قلة النوم
و لكن ( نجلاء) ألحت عليه :
ـ لا اعتقد أن للاجهاد و قلة النوم علاقة بتلك الحالة التى تبدو عليها
نهض من الفراش دون ان يرد عليها ليجلس فوق أحد المقاعد و هو يشعل لنفسه سيجارة فى حين ظلت ( نجلاء) جالسة فوق حافة الفراش و هى تقول :
ـ هل تعرف السبب الحقيقى فى تلك الازمة التى كادت تودى بزواج أختك ؟
إنها لم تصدق ان زوجها يحبها حبا حقيقيا و لم تكن تثق به و بنواياه تجاهها بل كانت موقنة انه لولاك و لولا مساعداتك له ما استمر هذا الزواج و ذلك هو الخطأ الفادح الذى كاد يعصف بزواجهما لأن ( منير) كان يحبها حقيقة و يتألم لأنها لا تثق بذلك و أنت ترتكب نفس الخطأ فأنت لا تثق فى حبى لك و فى تمسكى بك بالرغم من كل شئ و من أى شئ و تنسى أننى أحببتك و تزوجتك بالرغم من كل عيوبك التى غفرتها لك و عملت على اصلاحها لكنى لم افكر للحظة واحدة ان اتترك بسببها إنك تنظر لى دائما على اننى انتمى إلى اسرة ثرية و من أصل عريق و أنك يجب ان تبدو أمامى دائما فى الصورة المثلى و فى المستوى اللائق حتى لا يؤثر ذلك على ارتباطنا و انه يتعين عليك من أجل ذلك ان تخفى عنى الكثير من اسرار حياتك و بعضا من تلك الهموم التى تصل بك إلى حد البكاء كما رأيت هذه الليلة فى عينيك و نسيت أننى امرأتك و زوجتك و حبيبتك قبل أى شئ آخر و أننى أتألم لأنى لا تثق بى و بحبى لك بالقدر الذى استحقه و تعمل على ابعادى عن مشاركتك ما يتعين على ان اشاركك فيه كزوجة احبتك و رضيت ان تشاركك حياتك بكل ما فيها و بكل ما تحتويه من أسرار تحرص على اخفائها عن الآخرين يوم أن وافقت على الاقتران بك
سألها بصوت واهن :
ـ ماذا تريدين منى ان اقوله ؟
اقتربت من المقعد الجالس عليه لتجثو امامه و هى تضع يديها على ركبتيه قائلة :
ـ الحقيقة
سألها و قد عادت عينيه تحتقنان بالدموع :
ـ أية حقيقة ؟
( نجلاء) :
ـ من هو هذا الرجل الذى جئت به إلى منزلنا فجأة و رحل عنا فجأة ؟
لاذ ( وجدى) بالصمت دون ان يعطى جوابا و ظلت ( نجلاء) تحدق فيه برهة و هى تنتظر منه ان يقول اى شئ بلا جدوى ثم ما لبثت ان نهضت و هى تستعد لمغادرة الغرفة قائلة :
ـ مع الأسف كنت أظنك تثق بى اكثر من ذلك ؟
و لكنه أمسك برسغها قائلا و قد سالت العبرات على وجنتيه :
ـ إنه ابى
ظلت ( نجلاء) صامتة لحظات و هى تحاول استيعاب ما قاله ثم ما لبثت ان عادت تجثو امامه قائلة :
ـ كنت اعرف و اشعر بان هناك صلة ما .. صلة قوية تربطك بهذا الرجل و لكنى لم أكن اتصور
و بدا تفكيرها مشوشا و هو تزداد قائلة :
ـ والدك ؟! غير معقول !
ثم نظرت إليه قائلة :
ـ و لكن كلنا نعلم ان والدك قد مات لقد اخبرتنا بذلك
قال ( وجدى) بصوت مرتعش :
ـ لم تكن هذه هى الحقيقة
( نجلاء) :
ـ و لكن لماذا ؟ لماذا اخفيت عنا هذه الحقيقة و لماذا تركته يعمل حارسا لدينا و أنت تعلم انه أبوك ؟
( وجدى) :
ـ كانت لدى اسبابى
بدت ( نجلاء) و قد تخلصت من صدمة المفاجأة و هى تقول بصوت غاضب :
ـ لا اعتقد ان هناك اى سبب فى هذه الدنيا يجعلك تنكر وجود ابيك و ترضى له هذا الوضع المهين
( وجدى) :
ـ سأروى لك القصة من البداية و لكنى اوافقك على انه مهما كانت الأسباب فقد كنت نذلا للغاية فى تصرفى هذا و اخذ يروى لها القصة كلها
بعد ان انتهى من روايته لقصته صمتت ( نجلاء) قليلا ثم قالت :
ـ إننى لن اتجادل معك فى كل ما حدث فى الماضى بل اناقشك فى تصرفاتك مع ابيك بالرغم من أننى اعترف بأنها قد صدمتنى فلم اكن أظن انك بكل هذه القسوة بالرغم من كل المبررات التى سقتها و لكن سأسألك سؤالا واحدا : ماذا ستفعل الآن ؟
نظر إليها ( وجدى) و كأنه يتطلع إلى الإجابة فى عينيها و قال :
ـ و ماذا تنتظرين منى ان افعل ؟
قالت بدهشة :
ـ لا اعتقد انك ستستمر فى ارتكاب هذا الخطأ الفادح يجب عليك الآن تصحح كل الأخطاء التى ارتكبتها لابد ان تعرف ( هالة) بوجود أبيها و يجب ان تكشف لها عن شخصيته فهذا حقها ثم يتعين عليك بعد ذلك أن تعثر على ابيك و ان تعيده إلى هنا ليأخذ مكانه الصحيح و يستعيد ما فقده منك و من اختك من حب و احترام لابد ان تعيد له أبوته المفقودة و بنوتك التى حرم منها طويلا يجب ان يأخذ كل شئ مساره الصحيح منذ هذه اللحظة
قال و قد ارتسم الخوف فى عينيه :
ـ و لكن وضعى و مكانتى فى المدينة و الانتخابات التى أسعى إلى خوضها إن أبى له سابقة اجرامية ثم ماذا سيقول الناس عنى بل ماذا ستقول ( هالة) عندما تعلم أننى أخفيت عنها و عنهم الحقيقة و اظهرت أبى بمظهر الأجير الذى يعمل لدى ؟ هناك أشياء كثيرة متشابكة و معقدة إننى سأفقد احترام الناس و تقديرهم لى إن لم يكن بسبب ماضى أبى فسيكون بسبب فعلتى معه يجب أن اضع كل هذا فى حساباتى
انفعلت ( نجلاء) قائلة فى غضب :
ـ فلتذهب حسابتك و كل تلك الأشياء إلى الجحيم المهم الآن هو والدك الرجل طاعن فى السن و لابد انه رحل عن هنا و هو حزين منكسر القلب لجفائك معه و حرمان من استعادة حبك و حب ابنته الذى حرم منه طويلا ألم تفكر لحظة واحدة فى هذا ؟ ألم يحرك فيك شيئا ؟ ما الذى ستجنيه من احترام الناس لك إذا نا فقدت احترامك لنفسك ؟ و بأى ضمير ستواجه نفسك بعد الآن ؟ بل كيف سيمكنك ان تنظر إلى نفسك فى المرآة بعد هذا الجرم الفظيع الذى ارتكبته فى حق ابيك الذى قد يموت بعيدا عنك دون ان تراه او تدرك موته و فى قلبه غصة منك و من جحودك ؟ هل ستكتفى وقتها ببعض العبرات التى تتساقط فوق وجنتيك كما تفعل الآن ؟
هب ( وجدى) من مقعده و هو يقول فى انفعال :
ـ كفى يا (نجلاء) كفى إنك تعذبيننى بهذه الكلمات
وقفت ( نجلاء) إلى جواره و احاطت ذراعه بيدها و هى تقول :
ـ سيكون العذاب اضعافا مضاعفة إذا ام تسع إلى ايقاظ ضميرك و اصلاح الأمر مع ابيك و رد اعتباره إليه صدقنى إننى اقول لك ذلك لأننى أحبك و اخشى عليك من عذاب قاس لا يرحم .. عذاب الضمير ذلك لأننى اعرف أنه بالرغم من كل شئ فأنت لست بهذه القسوة و العقوق و الأنانية التى تحاول ان تبدو عليها هيا أسرع .. أسرع قبل فوات الأوان
12 ـ اللقاء القصير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
بذل ( وجدى) جهدا كبيرا حتى توصل إلى عنوان أبيه كان المنزل قديما متواضعا ووقف ( وجدى) أمام الشقة التى يقطنها أبوه واضعا سبابته على الجرس دون أن يجيبه أحد حتى فتح باب الشقة المجاورة ليخرج منه احد الأشخاص متسائلا :
ـ هل تبحث عن أحد ؟
قال ( وجدى) :
ـ أليست هذه هى شقة منصور الدهشورى ؟
أجابه الجار :
ـ نعم و لكنه ليس هنا الآن .. من أنت ؟
( وجدى) :
ـ إننى ابنه
نظر إليه الجار بدهشة قائلا :
ـ ابنه ؟! و لكنه لم يخبرنا ان لديه ابنا
( وجدى) :
ـ لقد حالت الظروف دون حضورى فأنا أقيم فى بورسعيد
قال الرجل :
ـ على كل حال مفتاح الشقة معى فلقد اعتاد ان يترك معى مفتاحا آخر للشقة فى الايام الاخيرة لأقضى له بعض الطلبات و معاودته إذا ألم به مرض حال دون خروجه
( وجدى) :
ـ هل هل هو مريض ؟
أجابه الرجل قائلا :
ـ لقد بدأ يتردد على الطبيب كثيرا فى الايام الاخيرة سأحضر لك المفتاح لتنتظر عودته
و لكنه ما لبث أن توقف و فى عينيه نظرة متشككة قائلا :
ـ هل تسمح لى بأن أرى بطاقتك أولا ؟
قدم له ( وجدى) البطاقة ووقف الرجل يقرأ بياناتها بدقة ثم ردها إليه و قد علت وجهه ابتسامة حرج قائلا :
ـ لا تؤاخذنى يا بنى و لكنها أمانة و يتعين على المرء منا أن يكون حذرا فى مثل هذه الظروف سأحضر لك المفتاح
غاب الرجل لحظة بالداخل ثم عاد يقدم له مفتاح الشقة قائلا :
ـ تفضل اعتقد ان والدك لن يتأخر كثيرا فهو لا يغيب فى الخارج غالبا و لا يخرج إلا إذا اضطرته الضرورة هل يمكننى تقديم اى خدمة لك ؟
( وجدى) :
ـ أشكرك
و فتح باب الشقة و أغلقه و هو يتأمل حجرات الشقة و أثاثها المتواضع حتى استقرت عيناه على مكتب صغير تناثرت فوقه مجموعة من الصور و الاوراق و الخطابات وقف يتفحصها و قد ارتدت به الذاكرة إلى الوراء كانت صورا لوالدته و هى فى عنفوان شبابها و صورا لها مع أبيه بعد الزواج كما كانت تضم صورا له و لأخته و هم بعد اطفال صغار و بعضها كانت تضمه مع أبيه كما عثر بينها على صورة حديثة له أخذها أبوه من منزله قبل رحيله و بدافع من الفضول أخذ ( وجدى) يقلب الخطابات و الاوراق المفتوحة التى وجدها على المكتب إلى جوار الصور بعد ان جلس على المقعد الذى يواجهه و انهمك
انهمك تماما
* * *
فى اثناء ذلك كان ( منصور) قد انتهى من الفحص الطبى الذى اجراه لدى الطبيب حيث نهض من فوق مائدة الفحص ليرتدى ثيابه و يقترب من الطبيب و هو يقول :
ـ قل لى الحقيقة يا دكتور لم يعد هناك جدوى أليس كذلك ؟
نظر إليه الطبيب حائرا لكنه لم يلبث ان اطرق برأسه قائلا :
ـ نعم لقد تمكن المرض الخبيث من احشائك
استقبل ( منصور) الخبر بصمت مهيب استمر لحظات ثم قال :
ـ كنت اعرف ذلك و احسه فقد كانت آلامى فى الفترة الاخيرة غير محتملة
قال له الطبيب بصوت حزين :
ـ لقد بذلنا كل ما بوسعنا لكن المرض استفحصل و الامر متروك الآن بين يدى الخالق سبحانه و تعالى
سأله ( منصور) :
ـ كم تبقى لى ؟
أجابه الطبيب :
ـ هذا فى علم الله و لكن بحساباتنا الطبية أمامك بضع أيام قليلة
( منصور) :
ـ كل ما اطلبه منك الآن هو بعض المسكنات لكى توقف ذلك الألم الرهيب الذى يهاجمنى من آن لآخر فقد اصبح الألم فوق احتمالى إلى ان تنفذ مشيئة الله
الطبيب :
ـ مع الأسف حتى المسكنات لن تخلصك من آلامك تماما و لكن ربما استطاعت التخفيف بعض الشئ سأكتب لك بعضها
قدم له الطبيب التذكرة الطبية قائلا فى أسى :
ـ هل ترغب فى ان ابلغ أحدا من أقاربك بالأمر ؟
صمت ( منصور) قليلا ثم نهض واقفا و هو يقول :
ـ أشكرك و لكن ليس لى أحد يمكنك إبلاغه
ثم اغتصب ابتسامة مريرة على وجهه قائلا :
ـ أعتقد ان هذا افضل حتى ارحل عن هذه الدنيا بهدوء دون ان اسبب الحزن لأحد
كان ( وجدى) فى أثناء ذلك مستغرقا فى قراءة أوراق و خطابات أبيه بدموع حارة فقد كشفت له تلك الاوراق و الخطابات عن مفاجأة غير متوقعة مفاجأة زلزلت كيانه و هزت ضميره لقد عرف من هذه الاوراق و الخطابات المتبادلة بين أبيه و خاله الدور الخفى الذى قام به أبوه لمساعدته دون ان يدرى فقد أمد ابوه خاله بالمال اللازم لانقاذ مصنع الزجاج من الافلاس و البيع بعد ان تراكمت عليه الديون و الاعباء و هو الذى اسهم فى تطوير و تنمية ذلك المصنع ليتحول إلى مؤسسة كبيرة عن طريق المساعدات الخفية التى كان يقدمها إلى خاله لاضافتها إلى حسابات الشركة و ذلك لعلمه أن (وجدى) يعمل بها و ان المؤسسة ستعود إليه بعد ان اشتراها سرا من خاله و إن ابقى عليه ظاهرا مالكا لها كما انه هو الذى اضاف بعض الأرصدة المالية لحساب خاله قبل ان يموت لعلمه بأن ذلك المال سيئول إليه و إلى اخته بعد وفاته و كل تلك الأوراق و الخطابات تكشف عن ذلك كما كشف عن مبلغ السبعين ألف جنيه التى تبقت معه و التى أودعها البنك باسم ابنه و أبناء (هالة) بالتساوى بعد ان حرر الشيكات و كتب خطابا قصيرا لجاره كان يهم بتسليمه له لتقديمه إليه و إلى اخته بعد موته لقد فعل أبوه كل ذلك من أجله و من اجل أخته كان يرعاهم دائما بصورة مستترة و من بعيد و هو الذى تصوره انانيا قاسيا جاء يبحث عنه طمعا فى ماله لقد قابل كل ذلك بجحود بالغ و نعته بأحط الصفات دون ان يحاول الاب ان يدافع عن نفسه مرة واحدة او يكشف عن الحقيقة و لكن لماذا ؟ لماذا فعل ذلك ؟
و فى تلك اللحظة فتح باب المنزل حيث فوجئ ( منصور) بوجود ابنه فهتف قائلا :
ـ ( وجدى) ما الذى جاء بك إلى هنا ؟ و كيف عثرت على مكانى ؟
اقترب منه ( وجدى) حاملا فى يده الاوراق و الخطابات و هو يقول :
ـ ليس هذا هو المهم .. المهم ان تقول لى اولا لماذا أخفيت عنى الحقيقة ؟
وضع ( منصور) الادوية التى يحملها معه فوق المكتب قائلا بغضب :
ـ كيف سمحت لنفسك أن تقلب فى اوراقى ؟
رد عليه ( وجدى) :
ـ لقد عثرت عليها مصادفة و انا اقلب فى الصور
أحس ( منصور) بالآلام تعاوده فى امعائه فجلس على المقعد القريب و هو يحاول ان يخفى تلك التقلصات التى ظهرت على وجهه و عاد ( وجدى) يلح عليه فى سؤاله قائلا :
ـ قل لى لماذا اخفيت عنا الحقيقة كل هذه السنين ؟ لماذا تركتنا نكرهك ؟ و لماذا تركتنى اتعامل معك بكل هذا العقوق بالرغم من كل ما فعلته من اجلى ؟
أجابه ( منصور) :
ـ لأننى خشيت أن تظنوا ان هذه النقود التى انفقتها من اجلكم من الاتجار بالمخدرات كنت اعرف انكم لن تصدقونى حينما اقول لكم إن هذه الأموال قد حصلت عليها عن طريق الحلال تماما فبعد خروجى من السجن سافرت إلى السعودية و عملت فى خدمة أحد الامراء هناك خدمته بكل اخلاص و و فاء حتى صرت اقرب إليه من اخيه و عندما مات الرجل ورثنى جزء من ثروته فعدت بها إلى القاهرة و قررت ان استغلها فى رعايتكما و تعويضكما عن تقصيرى فى القيام بمسئوليتى كأب و زوج تتبعت اخباركم و استطعت الاتصال بخالك بوسيلة ما حينما علمت أنه ينوى بيع مصنعه الذى عينك للعمل فيه و قدمت له المساعدة اللازمة لانقاذ المصنع من الافلاس ثم اشتريت منه المصنع بعد ان اتفقنا على اخفاء هذا الامر و ان يبقى فى الظاهر المالك الفعلى للمصنع الذى سرعان ما تمكنت بمساعدة جهود خالك و اموالى من تحويله إلى مؤسسة كبيرة و كنت أعرف ان ذلك كله سيئول إليك و إلى اختك فى النهاية و مادمت قد عرفت الحقيقة فقد اودعت كل ما تبقى لدى من مال باسم ابنك و ابناء ( هالة) فى احد البنوك و كنت سأكلف احد الاشخاص تسليمها إليك بعد موتى لكن يمكنك ان تأخذ الشيكات الآن ما دمت موجودا هنا
قال ( وجدى) غير مصدق :
ـ و لكن لماذا لم يخبرنا خالى بذلك ؟
( منصور) :
ـ لأننى جعلته يقسم على القرآن أمامى بأن يبقى ذلك السر خفيا بيننا و لا يخبر به احدا مدى الحياة كما اجبرته على ان يقسم امامى بألا يخبر اى مخلوق عن وجودى او لقائى به
تنهد ( وجدى) قائلا :
ـ و الآن فهمت السر فى تبدل موقفه منك خلال السنوات الاخيرة و كيف كان يقول لأمى دائما ان تتذكرك بالخير و ألا تظلمك فى حكمها عليك و عندما كانت تسأله عن السر فى تحوله هذا كان يلوذ بالصمت و لكن لا يمكن ان تكون قد اخفيت عنا وجودك و كل ما قدمته من اجلنا خشية ان نظن أنها اموال جاءت عن طريق المخدرات فقط كان يمكنك ان تحاورنا و ان تثبت لنا حقيقة المصدر الذى جاءت منه هذه النقود
( منصور) :
ـ ليست خشيتى من ألا تصدقونى فقط هى التى جعلتنى أخفى الحقيقة عنكم و لكن ماضى الذى لا يشرف ايضا لقد وضعت ذلك فى تقديرى و كنت أعرف ان ظهورى فى حياتك و انا احمل على اكتافى ذلك الماضى سيتسبب فى الاضرار بمستقبلك و مكانتك التى وصلت إليها كما يلحق الضرر بأختك و أبنائها و عندما جئت إليك فى بورسعيد تعمدت ان ابدو امام صعلوكا متشردا جاء يبحث لنفسه فقط عن مأوى و عمل حتى اكون قريبا منك و من اختك و كنت مقتنعا قبلك بأن يظل وجودى و حقيقتى سرا خفيا فلم اكن اريد سوى ان اكون قريبا منكما و ان انعم بصحبتكما فى ايامى الاخيرة و قبل ان افارق الحياة
قال ( وجدى) بقلق :
ـ تفارق الحياة ؟! ماذا يعنى هذا ؟
قال ( منصور) سريعا و هو بيحاول معالجة زلة لسانه :
ـ أعنى انه لم يبق لى فى العمر مثل ما مضى لقد تقدمت فى السن كما ترى و من يدرى
و فوجئ بابنه يخر امامه على الارض جاثيا على ركبتيه و قد امسك بيديه ليقبلهما فى حرارة قائلا :
ـ سامحنى يا أبى
ابتسم الاب ابتسامة صافية مرددا :
ـ إنها المرة الاولى التى اسمعها منك منذ سنوات طويلة
انهال ( وجدى) تقبيلا ليدى والده و ركبتيه قائلا :
ـ إنك اعظم اب فى الوجود فقد اقدمت على الكثير من التضحيات فى الوقت الذى قابلت انا فيه كل ذلك بمنتهى العقوق و الجحود إننى لن اغفر لنفسى ابدا
رفع الاب وجه ابنه إليه قائلا :
ـ لا تحمل نفسك أكثر مما تحتمل فكل منا أخطأ فى حق الآخر و قد نسيت كل شئ الآن و أنا لم اكن أريد منك سوى هذا العطف و الحنان الذى اراه منك الآن
قال ( وجدى) :
ـ أما انا فلن اسامح نفسى فأنا ..
قاطعه الاب و هو يساعده على النهوض قائلا و الابتسامة على وجهه :
ـ ما رأيك لو أعد لك بعض الحلوى الشرقية التى كنت تحبها من يدى و انت طفل صغير ؟
ضحك ( وجدى) و قال :
ـ أوافق و لكن بشرط ان تعدها لى هناك فى بورسعيد فى منزلى
تراجع الاب فى مقعده و بدت على وجهه ملامح الرفض قائلا :
ـ بورسعيد ؟! لكنى لن استطيع ان اعود معك
قال ( وجدى) بإصرار :
ـ لماذا يا أبى ؟ لقد جئت إلى هنا لأعود بك لم يعد هناك ما نحرص على اخفائه لقد قلت الحقيقة للجميع لزوجتى و اختى و لكل الذين يعرفوننا فى بورسعيد
قال له الاب و قد بدا مذعورا :
ـ لماذا فعلت ذلك ؟
( وجدى) :
ـ لأن هذا هو ما كن يجب أن يحدث منذ البداية إنك أبى و يجب ان يعلم الجميع بذلك و الآن انا اكثر الأبناء فخرا بك
ترقرت الدموع فى عينى الأب و هو يقول :
ـ و لكن يا بنى أنا ..
قاطعه ( وجدى) متوسلا و هو يقول :
ـ أرجوك يا أبى عد معى إن ( هالة) و الاولاد و زوجتى و الجميع فى انتظارك عد يا أبى عد
مرت ثلاثة أيام على وجود ( منصور) الدهشورى فى منزل ابنه لم يتركه الجميع خلالها لحظة واحدة إلا تلك الساعات التى يقضيها فى النوم فقد اصبح محاطا ليلا و نهارا بابنته و زوجها و ابنه و زوجته و احفاده أحاطه الجميع بحبهم و حنانهم و رعايتهم و كأنهم يعوضونه و يعوضون أنفسهم عن كل سنوات الفراق و كل ما حرم منه من حب و حنان و كان ( منصور) حريصا خلال تلك الايام على اخفاء آلمه و حقيقة مرضه عنهم إذ كان يهرع إلى غرفته مختفيا عن الانظار كلما شعر بذلك الوحش الذى لا يرحم و هو يهاجمه لينهش امعائه
و فى احدى الامسيات و بينما كان جالسا أمام التلفيزيون و قد تعلقت ( هالة) بذراعه و احاط به احفاده من كل جانب يداعبونه و يداعبهم و بينما جلس ( وجدى) على الارض إلى جواره و احاط زوجته بإحدى ذراعيه إذا به يستشعر ذلك الألم و قد هاجمه من جديد و على نحو أكثر قسوة فتخلص من يدى ابنته قائلا و هو يحاول إخفاء آلامه :
ـ لقد سهرت اليوم أكثر مما يجب سآوى الآن إلى غرفتى
قالت ( هالة) محتجة :
ـ الوقت مازال مبكرا يا أبى
أجابها و هو يتحامل على نفسه :
ـ سامحينى يا بنيتى فإننى أشعر بحاجة إلى النوم تصبحون على خير
و أحس ( وجدى) بشئ من القلق تجاه أبيه فنهض ليلحق به قبل ان يصعد إلى غرفته قائلا :
ـ هل تشعر بشئ يا أبى ؟
ابتسم الاب برغم آلامه الهائلة قائلا :
ـ لا .. لا شئ لا تقلق فأنا فقط بحاجة إلى النوم هيا عد لزوجتك
و لكن ( وجدى ) لم يتخلص من قلقه و هو يقول :
ـ هل اصحبك إلى غرفتك ؟
ظل الاب محتفظا بابتسامته و هو يقول :
ـ لماذا يا ولدى ؟ هل سأضل الطريق إليها ؟ إن أباك لم يصل إلى إلى هذه الدرجة من الكبر هيا عد إليهم حتى لا تثير قلقهم و تحرك ( وجدى) عائدا بخطوات مترددة فى حين اخذ الاب يتحامل على نفسه و هو يصعد درجات السلم و يحس بألم لا يطاق فى احشائه كان يريد ان يصل إلى غرفته قبل ان يلحظ احد آلامه المضنية لكن قدميه لم تساعداه فقبل ان يصعد الدرجتين الأخيرتين من السلم الخشبى احس برجفة تسرى فى كل اوصاله فنادى ابنه قائلا :
ـ ( وجدى)
هرع الابن ليتلقف اباه الذى هوى بين ذراعيه و قد اصابه الذعر هاتفا :
ـ أبى ما الذى حدث ؟
قال ابوه و هو يزدرد لعابه و قد بدا الألم رهيبا على وجهه :
ـ هناك حقيقة اخيرة اخفيها عنك و آن لك ان تعرفها إننى اموت يا بنى
كاد ( وجدى) يصرخ و هو يقول :
ـ ماذا ؟
لكن ( منصور) وضع يده على فم ابنه قائلا :
ـ لا تثير انتباه الآخرين احملنى إلى فراشى أولا
و حمل ( وجدى) أباه إلى غرفته حيث أرقده على الفراش و هو يجثو إلى جواره و قال الاب و قد اختفت ملامح التقلص من على وجهه لتحل محلها ملامح الارتياح :
ـ الحمدلله أننى وجدت ذراعاك لتحملانى فى اللحظة التى احتاج إليها
تدفقت الدموع من عينى الابن المذعور و هو يقول :
ـ أبى ما نوع هذا المرض ؟ و متى اصبت به ؟
قال الاب :
ـ منذ سنتين تقريبا لم اشعر بخطورته و قسوته لكنه سرعان ما تمكن منى و بدأ يصارعنى صراعا لا هوادة فيه و لكننى لا اشعر الآن أنه قد انتصر على فلم يكن الموت هو ما يخيفنى حقا لكنى كنت بحاجة فقط لكى اعوض سنوات الحرمان التى عانيتها بعيدا عنك و عن أختك كنت بحاجة لحبكما و وجودكما بقربى و هذا هو سبب مجيئى إلى هنا و كنت أخاف ان افارق الدنيا و انتما ناقمان على دون ان تعرفا كم احبكما و كم تعذبت لفراقكما و الحمد لله لقد قضيت الايام الاخيرة محاطا بكل الحب و الحنان الذى افتقدته و تمنيته و استطعت انت و اختك و زوجتك و زوج اختك و اولئك الاحفاد الاشقياء ان تعوضوننى فى تلك الايام القليلة عن كل حرمان السنين و الفضل فى هذا يرجع إليك فشكرا لك يا بنى شكرا لأنك اسعدت أباك العجوز فى ايامه الاخيرة و جعلته يفارق هذه الدنيا و على وجهه ابتسامة و الآن مرحبا بالموت
انهمرت دموع الابن فى غزارة قائلا :
ـ أبى .. لا تقل هذا مازال أمامنا الكثير من الايام و الشهور و السنين لنعوضها مازلنا بحاجة إليك نعم نحن بحاجة إليك أكثر من حاجتك إلينا فلا تقل هذا و لا تفارقنا ما زال لدى الكثير لأقوله لك و تقوله لى مازلت بحاجة لحبك و حنانك و رعايتك أكثر مما احتجت إليه و أنا طفل صغير فلا تتركنى
و امتدت يد الاب تتحسس قسمات وجه ابنه و على وجهه تلك الابتسامة الصافية إلا انها لم تلبث ان تهاوت إلى جنبه بلا حراك و تجمدت معها الدموع فى عينى ( وجدى) حتى الدموع عجزت عن ان تعبر عن أحزانه فى هذه اللحظة لقد حرم من أبيه طويلا و كان لقاؤه معه قصيرا لم يستطع ان يمنحه كل ما اراده ان يمنحه إياه من حب تكفيرا عن ذنبه فى حقه و اظهارا لذلك الحب الدفين فى اعماقه بالرغم من الصورة الظالمة التى انطبعت فى ذهنه عنه كما لم يستطع ان يحصل منه على التعويض الكافى لحرمانه منه كل هذه السنين لم تكن نقوده هى التى يحتاج إليها و لا المنصب الذى وصل إليه و امتلاكه لكل تلك الثروة التى تحت يديه و التى كان لأبيه فضل كبير فى امتلاكه لها بل كانت حاجته الحقيقية التى كشفها خلال الايام الاخيرة هى وجوده إلى جواره نعم لقد كشف انه يحب اباه أكثر من اى شئ آخر بل إنه كان مستعدا للتضحية بكل ما يملك مقابل أن يبقى معه و إلى جواره و لو لعام واحد فقط و لكن هكذا كانت مشيئة الله و اختار القدر ان يكون فراقهما طويلا و لقاؤهما قصيرا فى اللحظة التى كشف فيها ( وجدى) كل هذا الحب الكامن فى أعماقه نحو ابيه و جذب ( وجدى) الغطاء ليسدله على وجه أبيه قائلا :
ـ وداعا .. وداعا يا أبى الحبيب
و ترك لدموعه العنان
( تمت بحمد الله)
هذه القصة من اروع ما قرأت كلها مشاعر دافئة و جميلة اتمنى تعجبكم
|