لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > روايات احلام > روايات احلام > روايات احلام المكتوبة
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

روايات احلام المكتوبة روايات احلام المكتوبة


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (2) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 29-06-08, 08:03 PM   المشاركة رقم: 16
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Oct 2007
العضوية: 45653
المشاركات: 214
الجنس أنثى
معدل التقييم: arewa عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 30

االدولة
البلدMorocco
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
arewa غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : arewa المنتدى : روايات احلام المكتوبة
افتراضي

 

8- وحدهما وسط الزحام


مرت الليلة بهدوء تام , باستثناء حادثة غريبة نسبيا . كانت سارا تنقل مريضة الى القسم في ساعات الصباح الأولى , بعد ولادة طبيعية .
وبعد أن أعطت تعليماتها تركت القسم وتوجهت نحو المكتب . كان أمامها نصف ساعة قبل أن ينتهي دوامها , وهو وقت كافي لكتابة التقرير الليلي والاستعداد لتسليم العمل الى الممرضات الأخريات .
اعتادت إيرين أن تقوم بهذه المهمة , لكنها منشغلة بولادة أخرى , فقررت سارا أن تتولى الأمر عنها . كانت على وشك الدخول إلى المكتب عندما انفتح الباب من الداخل وبرزت تريشا .
تملكت سارا الدهشة للحظة , قبل أن تقول :
- ما الذي يجري , يا تريشا ؟ ماذا تفعلين في المكتب ؟ تعلمين أنه لا يسمح للمرضى بذلك من دون أن ترافقهم ممرضة .
قالت تريشا بسرعة :
- آسفة .. كنت .. أريد أن أستعمل الهاتف .
وراحت تنظر الى الممر المظلم متجنبة نظرات سارا .
- في هذا الوقت المبكر ؟
لم تحاول سارا إخفاء عدم تصديقها . فدارت حول تريشا ونظرت جيدا في أنحاء الغرفة , ولكن كل شيء بدا منظما . فالأوراق على المكتب كما هي , وخزانة الأدوية مقفلة دوما كعادتها .
ألقت على المرأة نظرة فاحصة , وقد لاحظت عليها بعض الاضطراب . أتراه الشعور بالذنب لأنه ما كان عليها أن تدخل الى المكتب مهما كانت الظروف ؟ أم لأنها تكذب بالنسبة الى سبب دخولها ؟ وكان من المستحيل اكتشاف الحقيقة .
- اسمعي , أنا آسفة . ما كان علي أن أدخل . لكني أردت الاتصال بغاري وحسب .
- أرأيت ؟ لم ألمس أي شيء هنا .
فتنهدت سارا . كان غاري وراء كل هذا مرة أخرى , وإن لم يكن بشكل مباشر . ورأت أن لا فائدة من إحداث جلبة وإقلاق المريضات . فستخرج تريشا من المستشفى في اليوم التالي , وهكذا سيتخلصون منها ومن غاري .
انتظرت الى أن ذهبت تريشا الى سريرها , ثم دخلت المكتب وأخذت تتفحص الأدراج والخزائن بدقة . لكنها لم تجد شيئا مريبا . وبدا لها أن تريشا قالت الحقيقة , أما سبب حاجتها الماسة الى الاتصال في مثل هذا الوقت , فقصة أخرى . وكانت قصة لم تشأ سماعها فقد رأت منهما ما يكفيها .
كتبت التقرير , وسلمته الى الممرضات العاملات نهارا فور وصولهن ثم غادرت المستشفى متنهدة بارتياح . لم تأسف لانتهاء مناوبتها ليلا لهذا الأسبوع , وتمنت أن تكون الأمور أسهل حين عودتها بعد أيام . ولم يكن العمل ليزعجها أبدا إنما أمر آخر مختلف تماما ... إنه رجل طويل القامة داكن الشعر ذو جاذبية مثيرة , ويدعى الدكتور جيلسبي إذا ما أردنا التحديد أكثر .. !
***

وإذ قررت سارا أن تستمتع ببعض الراحة , وتخصص بعض الوقت لنفسها , قامت بأقل ما يمكنها من الأعمال المنزلية خلال أيام إجازتها الثلاثة . وأمضت وقتها في السباحة وقراءة الصحف , أو النزهات الطويلة سيرا على الأقدام .
قصدت النهر وسلكت الدرب الذي سارت فيه مع نيال ذلك الصباح . لكنها دهشت لعدم استمتاعها بذلك . أشياء كثيرة ذكرتها بما حدث بينهما هناك , وأسئلة كثيرة تزاحمت في رأسها .
عادت الى العمل وهي تشعر براحة اقل مما كانت ترجو. أما عزاؤها الوحيد فانشغال نيال با جتماعات العمل , حيث استحوذت قضية افتتاح وحدة جديدة في قسم الولادة على اهتمامه , وهكذا لم تكن معرضة للقائه حيثما توجهت , لكنها ما لبثت أن أدركت بعد ساعات أنها اشتاقت اليه .
شعرت بالراحة عندما لاحظت أن حمى العمل في القسم تتراجع مما يتيح لها الوقت للتفكير . حضرت أمهات جديدات للولادة فتم إدخالهن الى المستشفى , فيما خرجت أخريات . وغادرت تريشا وجويس ديننغ التي افتقدها الجميع , لاسيما أرييل التي كانت تتماثل للشفاء . توجهت سارا الى غرفتها قبل الغداء , فوجدتها تنظر بكآبة . سألتها وقد لاحظت انقباضها :
- كيف حالك الآن ؟
بدت أرييل كئيبة , فصممت , في ذهنها على مناقشة موضوعها مع الدكتورة مينا , فالممرضات يعرفن سهولة انزلاق الأمهات الى هاوية الكآبة . ويعود ذلك جزئيا الى التغيير المفاجىء بعد الولادة , والى تغير الهرمونات . وكانت أرييل بحاجة الى مراقبة ومتابعة , تحسبا لأي طارىء ...
- لابأس , كما أظن . سأمضي أسبوعا آخر , على الأقل , قبل أن أتمكن من الخروج . هذا ما قالته الدكتورة بيتل هذا الصباح .
وتنهدت آرييل مجددا قبل أن تعاود التحديق من النافذة وأضافت :
- أتمنى أن أحمل ستار معي , لكنها لا زالت غير قادرة على مغادرة العناية الفائقة .
قالت سارا تشجعها :
- إقامتها لن تطول , فصحتها في تحسن مستمر .
- أعلم ذلك . لم يكن لدي أدنى فكرة ...
وعضت على شفتيها عندما إنهمرت الدموع من عينيها .
- يجب أن لا تلومي نفسك . فهذا لن يفيدك .
وتقدمت نحو المرأة تحتضنها وهي تضيف :
- عليك الاعتناء بنفسك لتصبحي قادرة على العناية بستار عندما تخرج من المستشفى .
- هذا ما قاله لي الدكتور جيلسبي أمس .
وبدا أن أرييل لم تلاحظ تصلب سارا عند ذكر هذا الاسم , إذ تابعت تقول :
- قال لي إن علي أن أهتم بنفسي من أجل ستار .
- وهو على صواب طبعا .
وابتعدت سارا عن النافذة وأمسكت بلوح الملاحظات حول حالة أرييل , محاولة التركيز على ما دون عليه بدلا من الاستماع الى دقات قلبها التي تسارعت لمجرد ذكر إسم نيال جيلسبي .
كان ضغط دم آرييل طبيعيا , ولم يكن هناك ما يدل على أنها ستتعرض لمزيد من النوبات . بقيت المرأة تحت المراقبة الشديدة خوفا من إصابة كليتيها بأي تلف فأعراض الإرجاج تؤثر بشدة فيها . وقد أظهر فحص عينات البول والدم ضرورة الاهتمام وجعل من الضروري إبقاء أرييل في المستشفى لمدة أطول بغية ملاحظة تطور حالتها .
وضعت لوحة الملاحظات من يدها ثم تقدمت نحو المرأة تحيطها بذراعها وتقول :
- يجب أن تفكري بإيجابية وفي ما ستفعلينه بعد ان تغادري المستشفى . تعلمين أنه ليس من الحكمة أن تأخذي ستار الى المخيم لأنها ستحتاج الى عناية كبرى في الشهور الأولى . فهل قررت شيئا ما ؟ هل هناك من سيساعدك ؟ أسرتك مثلا ؟
- لا ليس لدي أسرة . لقد نشأت في ملجأ .
مسحت أرييل دموعها بظاهر يدها وأكملت :
- لقد تناقشت مع جيسون في الأمر الليلة الماضية , وقررنا قبول عرض جويس حتى نجد مكانا لنا . عرضت علينا أن نقيم معها عندما أخرج من المستشفى . فزوجها رالف يدير مصبغة وقد عرض على جيسون وظيفة معه . سيجرب ذلك على أي حال .
هتفت سارا , وهي تفكر في هذا الحظ الحسن :
- آه هذا رائع .
لقد أثمر نقل جويس الى غرفة أرييل أكثر مما توقعوا فقد أقامت المرأتان علاقة صداقة جيدة , وساعد على ذلك تقبل أرييل لوضع سام من دون تردد .
منتديات ليلاس
وعندما خرجت الى الممر بعد دقائق , كانت لا تزال تبتسم . كان جميلا أن ينتج عن تلك الحادثة السيئة أثر جيد . وعندما تجاوزت غرفة الممرضات نظرت الى ساعتها فتملكتها الدهشة لأنها أدركت أنه وقت الغداء . وكانت قد أحضرت معها الشطائر ففكرت أن تأكلها في الحديقة فالطقس جميل .
وما إن استقرت على المقعد الخشبي حتى سمعت وقع خطوات خلفها . نظرت فكاد قلبها يتوقف عن الخفقان وهي ترى نيال . عندما رآها , توقف , وتردد لحظة قصيرة كانت كافية لكي تشعر بأنه لم يسر لرؤيتها هناك .
أخفضت بصرها وتظاهرت بانشغالها بلفافة الشطائر , فبذلك لا يضطر الى محادثتها فقد بدا جليا أنه يكره الفكرة .
- سارا ؟
كان صوته مزيج من الاستفهام والمرح , سمرت ناظريها على اللفافة في حجرها , وركزت على نزع الورق اللاصق عنها . لم تشأ أن تلتفت الى تينك العينين الباردتين فترى ما تتوقع رؤيته ...
- انظري الي يا سارا .
جاء صوته حازما , ويده التي امتدت لترفع لفافة الشطائر عن ركبتيها جامدة كالصخرة .
ابتلعت غصة الألم في حلقها وهي تجاهد لتجد ما تقوله , فيجب أن تقول كلمة يفهم منها الدكتور نيال جيلسبي منها أنها لا تبالي بشعوره نحوها !
وكانت على وشك النطق بكلمة باردة , حين رفعت وجهها لتقابل عينيه الباردتين الخضراوين ... ولكنهما لم تكونا باردتين كما توقعت !
ساد بينهما صمت قصير شعرت معه سارا وكأن قلبها توقف عن الخفقان . وراحت تتساءل عن معنى تلك النظرة في عيني نيال . ثم تحركت يده لتلامس خدها بنعومة جعلتها ترتجف كورقة في الخريف وأخذ يمررإصبعه على شفتيها تمنت في تلك اللحظة أن تلامس خده كما فعل معها لكن الخجل جعلها لا تحرك ساكنا ثم وقبل أن تستوعب ما يجري , أشاح وأنزل يده الى جانبه , تاركا إياها تتخبط في بحر الحرمان والألم .
- يتعلق الأمر بما جرى , ذاك اليوم , قرب النهر أليس كذلك يا سارا ؟
دفع بشعره الى الخلف بصبر فارغ , ولم تتمكن من لومه على شعوره هذا . فلم لا تنفك تحمل المسألة أكثر مما ينبغي ؟
وشرعت تقول : " لا أدري ما تعنيه .. " .
فقاطعها : " إياك .. إياك أن تكذبي علي يا سارا . فهذا ما لا أحتمله وهو أهم شيء بنظري " .
أهم شيء ؟ ما الذي يعنيه ؟ حدقت ببلادة , وتأملت العذاب الذي بدا جليا على ملامحه من دون أن تفهم سببه .. ثم هبت واقفة فجأة وقالت :
- أنا أعتذر , يا نيال .
بان الازدراء في صوتها لكنه بالكاد , أخفى ألمها وهي تضيف :
- لم أدرك أنك تشعر بهذا القدر من الذنب إزاء ما حدث .
- الذنب ؟
وتقدم نحوها قليلا حتى كاد يصطدم بها . وعندما ردد ذلك السؤال , تنبهت الى ما قالته , وأدركت على الفور أنها لا تود الاستمرار في هذا الحديث .
سألها بخشونة :
- أشعر بالذنب ؟ ما معنى ذلك بحق الله ؟
- لاشيء . إنس ما قلته . أنا .. أنا لم أعن ذلك .
وسرعان ما اندفعت بعيدة عنه , وهرولت مسرعة نحو طريق الحديقة الضيق . ناداها باسمها -مرة واحدة , بصوت يكاد لا يعلو على صوت وقع خطواتها على الحصى , لكنها لم تتوقف .
ما الفائدة ؟ وماذا ستقول له ؟ أنها تشعر مثله بالأسف على تلك اللحظات عند النهر ؟
خنقت ضحكة مرة وهي تدخل المستشفى . سيكون ذلك كذبا ! لقد قال لها إنه لا يريدها أن تكذب عليه ما لن تخبره أيضا ان نظراته تلك أصبحت هاجسها الوحيد وستبقى كذلك . فلا بد أنه لا يود سماع هذه الحقيقة .
***
- حسنا , كل منكم يعرف ما عليه أن يفعله .
ونظرت إيرين الى الجمع المحتشد وأضافت :
- علينا أن نشق طريقنا في هذا الجمع . وبعد أن يمر الموكب , سيعود كل منكم الى سيرته عند ... فلنقل عند الساعة العاشرة تقريبا .
قالت هيلين ضاحكة :
- لم لانضبط ساعاتنا على وقت واحد ؟ فهكذا نصل في الوقت نفسه .
- يا لك من امرأة سليطة اللسان !
ومدت إيرين يدها لتقرص أذنها , وضحكت حين تهربت صديقتها , ثم أضافت :
- انني أحاول التأكد من أنكم ستحصلون على حصة عادلة من مقصف العشاء الذي أعددته . فأنا أعرفكم كلكم , تأخذون الأمور بالمزاح والتهكم , وبعد ذلك لا تلومون سوى أنفسكم !
ضحك الجميع , وتوجهوا نحو الطريق الذي سيمر به موكب المشاعل , والمؤدي الى وسط المدينة . دهشت سارا وهي ترى عدد المدعوين الى حفلة إيرين , ساد جو من الضحك والهزل بينهم وهم متوجهون الى مركز المدينة .
تمنت لو تستطيع أن تتفاعل معهم , لكنها لم تحضر إلا خوفا من استياء إيرين . فمنذ تلك المواجهة بينها وبين نيال , منذ أسبوعين , لم تعد تشعر بالحماسة حيال أي شيء .
- هل أنت واثقة من أنك بخير , يا عزيزتي سارا ؟ هل هناك ما أثار إشمئزازك ؟
ابتسمت وهي تلاحظ الاهتمام البادي في صوت إيرين , وأجابت :
- لا , إنني منهكة وحسب .
- هل أنت واثقة من ذلك ؟
والتفتت إيرين الى الوراء , ثم لوحت لزوجها الذي كان ينتظرها . عادت تتأمل سارا وتقطب جبينها قائلة :
- لقد لاحظت أنك هادئة جدا مؤخرا , فإن كان هناك ما يشغل بالك فأخبريني ... أنت تعلمين ذلك , أليس كذلك ؟
- نعم شكرا يا إيرين . وكما قلت لك , أظنني منهكة قليلا , قد أطلب إجازة .
- فكرة حسنة . اقضي عطلتك في منطقة حارة حيث الشمس والبحر والرمال و ...
ضحكت سارا , وقالت : " صورة جميلة " .
لم تشأ أن تجعل إيرين تتكهن بمشاعرها , فالشخص الوحيد الذي يهمها أن تكون معه لا يريد حتى أن يشعر بوجودها .
نظرت حولها , بحثا عن عذر للتهرب من مزيد من النصائح .
- آه أنظري .. هذا مايك . سأكلمه . أراك فيما بعد .
وأسرعت من دون أن تنتظر جواب إيرين , لكنها ما إن غابت عن نظر صديقتها , حتى حولت وجهتها , فآخر ما كانت تريده هو أن تمضي السهرة مع مايك لتشعر بمزيد من الذنب . وقد دعاها للخروج معه مرات عدة في الأسبوعين الأخيرين , لكنها رفضت الدعوة كل مرة . إذ لم يكن من الإنصاف أن تعطي مايك الأمل في شيء لن يكون .
وسرعان ما غابت بين الجموع المحتشدة للتفرج على الموكب والاشتراك فيه . رأت مشاعل من مختلف الأشكال والأحجام , بعضها معقد التصميم , مما جعل من الصعب على المرء أن يصدق أنها مصنوعة من الخيزران أو خشب الصفصاف أو من مناديل ورقية بيضاء .
قصد الكثير من صبية القرية ورش العمل قبل موعد الموكب بأسابيع ليصنعوا مشاعلهم . وها هم يحملونها عاليا مزهوين بها , والشموع في داخلها تلقي بوهجها نحو السماء المظلمة . ساد جو من الإثارة في كل مكان , لكن سارا شعرت بأنها بعيدة عن هذا الصخب . بدا وكأنها فقدت مؤخرا , قدرتها على الاستمتاع بحياتها . ولحسن الحظ , كان نيال مشغولا جدا فاقتصر الوقت الذي أمضاه في قسم الولادة على الاستشارات .
وكانت قد ساعدته في كل عملية قيصرية أجراها , وجاهدت كي لا تظهر له مشاعرها على الاطلاق . ولا يعني هذا أنه ألمح الى ما حدث لكنها , على أي حال , لم تمنحه الفرصة لذلك . فهي لم تشأ أن تثير موضوع ما عنته حين اتهمته بأنه يشعر بالذنب .
- سارا .. سارا !
وقفت مكانها حين سمعت أحدا يناديها . والتفتت حولها لتبتسم وهي ترى لورا و إيان يتقدمان نحوها من بين الحشود وما كادت تسلم عليهما , حتى شعرت بجسد صغير يرتمي عليها , فضحكت وهي ترفع روبي عاليا وتحتضنه , هاتفة :
مرحبا يا أشعة الشمس .
أخذت تقبله ضاحكة عندما إحتضنها بشدة . وكان روبي يحب كل من يتعرف إليه . أخذت لورا إبنها من بين ذراعي سارا وهي تضحك وتقول :
- ستخنق سارا المسكينة بهذا الشكل . تعال , يالها من تحية ! لكنها تثبت أننا لم نرك منذ فترة طويلة . فماذا فعلت في هذه الأثناء ؟
- آه , لا شيء يذكر . كيف حالك يا إيان ؟
طرحت سارا سؤالها حين تقدم من بين الجموع . كان يحمل مشعلا على طرف عصا طويلة , وعندما سألته عما يمثله , قطب حاجبيه قائلا :
- إنها سيارة . وقد صنعها روبي بنفسه .
- إنها جميلة . يالك من صبي ماهر !
وضحكت وهي تعبث بشعر روبي , ثم جمدت شفتاها حين رأت الرجل القادم نحوها , من خلف أصدقائها . حدقت في نيال فاختفى كل من لورا وإيان والحشد كله ...
أخذت نفسا عميقا , فعاد كل شيء , فجأة , كما كان . وجه روبي الضاحك , تقطيبة لورا المستفهمة التي التفتت لترى ما الذي استرعى انتباه سارا ..
قال نيال معتذرا :
- أرجو ألا أكون قد قاطعتكم . رأيت سارا صدفة , وأنا أحتاج الى التحدث اليها , إن لم يكن لديكم مانع . بالمناسبة أنا نيال جيلسبي , المستشار الجديد في المستشفى .
فقال إيان وقد مد يده مصافحا :
- تشرفنا بمعرفتك . أنا إيان غريدي وهذه زوجتي لورا وهذا الشاب هو روبي .
- سمعت الكثير عن روبي في المستشفى .
وضحك نيال عندما ألقى روبي بنفسه بين ذراعيه على الفور , وحمل الطفل , قائلا :
- مرحبا روبي , أنا نيال .
- نيا ...
وأخذ روبي يجاهد ليلفظ الاسم الغريب , وقد سره أن يجد صديقا جديدا . لم ينتبه للصمت القصير الذي ساد , لكن سارا أحست به بقوة . فالتفتت الى لورا فأدهشها النظرة المقطبة التي رمقت بها نيال . قالت لورا فجأة :
- لدي شعور غريب بأنني رأيتك من قبل .
ثم ضحكت بارتباك وأضافت :
- من حسن الحظ أنني امرأة متزوجة وسعيدة بزواجي والا لفهمت الأمر خطأ .
فأجاب نيال باسما :
- يا ليت ! لكني واثق من أنني كنت لأتذكرك لو تعارفنا من قبل , يا لورا .
جاء رده مهذبا , لكن سارا لاحظت فيه توترا مفاجئا , مما أثار فضولها على الفور . ما الذي جرى لنيال ؟ ولماذا إنزعج حين ظنت لورا أنها تعرفه ؟
ولم تجد الوقت الكافي لتحليل هذه الرموز , إذ التفت اليها وسألها :
- نسيت أن أسأل عن الوقت الذي سنجتمع فيه لنتوجه الى منزل إيرين ؟
فتمتمت وقد انقبض قلبها :
- الــ ... العاشرة .
لم تعتقد أنه سيحضر الليلة . وفكرة أن تمضي السهرة معه , جعلتها تسعى لإيجاد طريقة للهرب .
- أراك هناك إذن .
وابتسم لها ابتسامة باردة جامدة قبل أن يعيد روبي الى والديه . لكن ظهر في ابتسامته تلك لمسة خفيفة من التحدي . وراحت تتأمله وهو يشق طريقه بين الجمع , متسائلة عما إذا كان هناك طريقة تتجنب بها حضور الحفلة ...
قالت لورا متنهدة :
- أتمنى أن أتذكر أين رأيته من قبل . عندما ذكر اسمه بدا لي مألوفا , لا كنني لا أستطيع أن أتذكر وهذا ما يغيظني .
ضحك إيان وقال :
- همممم ... من حسن الحظ أنني لست رجلا غيورا , وإلا أقلقني اهتمامك بهذا الطبيب .
أجابت ببساطة تعكس سعادتهما :
- أنت تعلم أني لا أفكر في أحد سواك يا حبيبي .
ثم أضافت :
- ولكنني واثقة من أنني سأتذكر أين تعرفت الى نيال جيلسبي من قبل .
قال إيان :
- هذا ما يحدث عادة . فما إن أغمض عيني حتى توقظني بضربة من كوعها لتخبرني بما تذكرت لتوها . وبعد ذلك تنام هي قريرة العين فيما أبقى أنا مستيقظا طوال الليل .
ضحكا , وشاركتهما سارا الضحك رغم حيرتها لما حدث للتو . كان تصرف نيال غريبا عندما ذكرت لورا أنهما تقابلا من قبل ... لقد ترك الأمر يمر ببساطة لكنها شعرت بانزعاجه . ولم تجد فرصة لتعيد التفكير في ذلك لأن روبي استرعى انتباههم , وطلب أن يحمل مشعله .. عندما بدأ الاستعراض , جابوا في المدينة , فرافقتهم سارا , وقد حمل روبي مشعله مزهوا به . وبعد ذلك أقيمت الألعاب النارية في الحديقة العامة فبقيت مع لورا وإيان لمشاهدتها , مع أن عقلها لم يكن يسجل ما يجري إلا جزئيا , وراحت أفكارها تسبقها الى الحفلة التي ستقام فيما بعد .
ترى هل سيثير نيال موضوع ما قالته في الحديقة ذلك اليوم ؟ أم سيفضل تناسيه ؟ لقد أشاع الاضطراب في نفسها منذ قابلته . وتنهدت وهي تنظر الى صاروخ انطلق نحو السماء وانفجر ثريات من النجوم الحمراء والذهبية . يوما ما , ستفهم سبب تأثير نيال فيها .. وتملكها شعور بأن الجواب سيحمل معه الكثير من المشاكل .
استغرقت عودة سارا الى حيث ركنت السيارات وقتا طويلا , فقد كانت الزحمة خانقة حتى استحال على المرء في بعض الأحيان , شق طريقه فيها . وأخيرا نجحت في ذلك , وهي لا تزال تفكر في عذر تختلقه لئلا تذهب الى منزل إيرين . إن قضاء الحفلة برفقة نيال هو ما ودت تجنبه في الوقت الحالي .
هتفت هيلين حين رأتها :
- كنا على وشك أن نفقد الأمل . تقدمتنا إيرين مع معظم المدعوين لكننا قلنا إننا سنقلك معنا .
وألقت هيلين نظرة ارتياب الى مقعد السيارة القديمة الخلفي , ثم أضافت :
- ولكن المكان سيكون ضيقا . جمعنا المزيد من الناس أثناء الاستعراض .
وشرعت سارا تقول , متمسكة بالفرصة السانحة لها :
- هذا غير مهم . اسمعي يا هلين لا أظن ...
سأقل بنفسي سارا وأي شخص آخر يحتاج الى ذلك , طبعا .
استدارت بسرعة عند سماعها صوت نيال , وفتحت فمها لترفض العرض , لكن هيلين سبقتها بالقول :
- هذا عظيم ! وسيسهل الأمور كثيرا . وما من شخص آخر تقله لأننا تدبرنا أمرنا . الى اللقاء هناك .
لوحت هيلين بيدها بسرعة , وقفزت الى سيارتها ثم صفقت الباب لتنطلق بهم السيارة . وحاولت سارا أن تفكر في شيء تقوله فلم تفلح , ولم تكن تستطيع أن ترفض عرضه من دون عذر مناسب.
- جاهزة ؟
فتح نيال باب سيارته وانتظرها , ولم يكن أمامها خيار آخر , فصعدت الى جانبه . ساد الصمت بينهما في الأميال الأولى التي قطعاها قبل أن يتركا المدينة . وكان نيال يركز اهتمامه على الزحام أما سارا فكانت تحاول عدم التفكير في شيء معين . وفضلت الجلوس صامته , على أن تخاطر بقول ما لا ينبغي أن تقوله .
- اسمعي يا سارا , علينا أن نتفاهم على بعض الأمور , بدءا مما حدث ذلك اليوم .
أجفلت حين اخترق صوته الصمت فجأة , وخفق قلبها بألم عندما سمعت ما قاله .
- ليس لدي فكرة عما تعنيه ...
راحت تقول هذا , متلهفة الى تجنب حديثه , لكنه قاطعها بفروغ صبر , وقال بخشونة :
- بل تعرفين . إنني مدين لك بتفسير , وربما كان علي أن أخبرك بذلك قبل ...
وسكت فجأة ثم انحنى الى الأمام ليحدق من الزجاج قائلا :
- ما هذا بحق الله .. ؟
- ماذا ؟
وأجفلت سارا وراحت تحدق في الطريق أمامهما . كان الظلام حالكا , بعد أن خلفا المدينة وراءهما . ولم تكن الطريق مضاءة , ولم يكن يبدد الظلام سوى مصباحي سيارتهما . في البدء , لم تر شيئا , لكنها ما لبثت أن لمحت ضوءا صغيرا أصفرا يتمايل بجنون وسط الطريق .
خفف نيال من سرعته , ثم ضغط بعنف على الكابح , وهو يتمتم شاتما عندما ظهر رجل أمام نور سيارتهما . كان يحمل في يده مصباحا كهربائيا وراح يلوح به في الظلام , ثم أتجه نحو السيارة راكضا حالما أوقفها نيال , وأخذ يتكلم بسرعة , وهو يلهث بشدة .
خرجت الكلمات متقطعة من فمه وهو يقول : " اخرج ... ساعدنا .. إنها زوجتي " .
فسأله نيال وهو يفتح الباب بسرعة :
- هل تعرضتما لحادث ؟
- لا . لا .
وأخذ الرجل يعب الهواء ويحاول أن يرغم الكلمات على الخروج من فمه مترابطة :
- ليس حادثا , تمزقت عجلة السيارة , والعجلة الاحتياطية مفرغة من الهواء . وزوجتي تلد .
استدار وراح يركض عائدا نحو سيارته , وكأنه يتوقع منهما اللحاق به .
- لم يساورني الشعور بأن هذا يحصل عمدا ؟

 
 

 

عرض البوم صور arewa   رد مع اقتباس
قديم 29-06-08, 08:07 PM   المشاركة رقم: 17
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Oct 2007
العضوية: 45653
المشاركات: 214
الجنس أنثى
معدل التقييم: arewa عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 30

االدولة
البلدMorocco
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
arewa غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : arewa المنتدى : روايات احلام المكتوبة
افتراضي

 

9- في عينيه ... ندم


- ماذا علينا أن نفعل ؟ لا يمكن أن تلد جيني هنا على جانب الطريق . ابتسم نيال ليطمئن الشاب الذي راح يدور حولهما بقلق .
- هذا الطفل آت شئنا أم أبينا . لا تقلق يا بول , لقد ولدت أطفالا كثيرين في ظروف أسوأ من هذه . والآن , إذا أردت القيام بعمل جيد إتصل بمركز الإسعاف من جديد .
أسرع بول الى السيارة ليجري الاتصال , فيما عاد نيال الى المرأة الشابة المستلقية على العشب بعد أن أصنع لها فراشا مؤقتا من بساط وسترات قديمة كانت في صندوق السيارة . وضعت سارا المصباح في موضع مناسب , لتنشغل بعد ذلك في فحص تطور حالتها .
- كيف حالها يا سارا ؟
كان صوت نيال هادئا حياديا , لا يكشف عن شعوره . وكانت تعلم حاجة جيني الى الهدوء والاسترخاء في هذا الوضع حيث لا مسكنات للألم .
- كل شيء على ما يرام يا دكتور , يمكنني أن أرى الآن رأس المولود .
أجابت سارا بهدوء مماثل , رغم أن قوله أثار فضولها , ما الذي عناه حين قال إنه ولد الكثير من الأطفال في ظروف أسوأ من هذه بكثير ؟
- هذا حسن . لن يطول الأمر إذن .
والتفت الى جيني , وقال يشجعها :
- أريدك يا جيني أن تركزي تفكيرك على كل ما تعلمته في مرحلة التدريب قبل الولادة . ويمكنك أن تدعي الأمر لي ولسارا . عندما أقول لك أن تلهثي لا أن ترفعي , ستفعلين , وإن كنت ترغبين بالقيام بعكس ذلك . هل فهمت ؟
- نعم فهمت .
واستطاعت جيني أن تبتسم رغم الرعب الذي أطل من عينيها وقالت :
- أظن أن بول عوض عن خطئه بعدم فحص العجلة قبل الانطلاق , وذلك بتوقيفكما لطلب العون!
- أتصور أن احتمال نجاحه في توقيف سيارتي كان واحدا من ملايين !
وضحك نيال ثم ركز انتباهه الكامل على جيني .
أخذت سارا تراقب بعناية , تطور الولادة , وأومأت حين نظر اليها قائلة :
- كل شيء يسير على ما يرام .
قال بول وهو يندفع نحوهم ليخبرهم بما جرى معه :
- ستصل بعد عشر دقائق أخرى . يبدو أن زحام موكب المشاعل قد أعاقها .
وركع على الأرض قرب زوجته وأمسك بيدها وهو يسأل :
- كيف حالها ؟ والطفل ؟
- بخير . كل شيء يسير ... آه ها هو الطلق مرة أخرى !
قطع كلامه عندما شهقت جيني وقد عاودها الطلق .
- والآن اصبري ... هذا حسن .. حاولي ألا ترفعي .
- ها قد بدا الرأس .شعرت سارا بقشعريرة الإثارة . وبرفق , أمسكت برأس المولود , وأدخلت خنصرها في فمه لتخرج منه المواد المخاطية , ثم ضحكت حين صرخ فجأة باكيا .
قالت :
- حسنا , هذا الصغير يسعى لإعلان وجوده على الفور . لم ينتظر حتى يخرج كليا الى هذا العالم الواسع .
وبعد دقائق انتهى كل شيء . لفته سارا بوشاح كبير كانت جيني قد وضعته في الحقيبة التي حملتها معها الى المستشفى , ثم ناولت الطفل الصارخ الى أمه قائلة :
- إنه صبي صغير ذو رئتين قويتين بحسب الصوت الصادر عنهما .
- صبي ؟
راحت جيني تضحك وتبكي في الوقت نفسه وقد نسيت خوفها وألمها حين احتضنت ابنها بين ذراعيها . انهمرت دموع بول هو أيضا , وبدا على وجهه من الذهول وهو ينظر الى ابنه .
شرع يقول :
- لا أدري كيف أشكركما ...
ثم سكت بعد أن غلبته المشاعر .
فقال له نيال وهو يربت على كتفه :
- لا داعي لشكرنا , فنحن مسروران للغاية لتمكننا من المساعدة .
والتفتت الى الطريق بعد أن سمعوا صوت سيارة الإسعاف البعيد , ثم ضحك بهدوء معلقا :
- يبدو أن سيارة الإسعاف نجحت أخيرا في الوصول . حسنا , أن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدا .
قامت سارا بتغطية الأم وطفلها بدثار , ثم نهضت وانتظرت بجانب الطريق حتى توقفت سيارة الإسعاف . وبعد ثوان , رفع طاقم السيارة الأم والطفل لنقلهما , وكانو على وشك إغلاق الباب , عندما نادت جيني :
- انتظروا لحظة . ما اسمك الأول يا دكتور جيلسبي ؟
فأجاب على السؤال بحيرة : " نيال "
- نيال .
أخذت جيني تردد الاسم ثم قالت :
- نعم , إنه يعجبني .
والتفتت الى زوجها ضاحكة وأضافت :
- لم نستطع أن نتفق على اسم , لكن أظننا وجدنا الاسم المناسب . هل نستطيع أن نطلق اسمك على ابننا , يادكتور ؟
فأجاب نيال برقة :
- هذا يشرفني , يا جيني . شكرا لك .
ظهرت مشاعر عميقة في صوته فتسببت بغصة في حلق سارا .
غالبت دموعها وهما يلوحان لسيارة الإسعاف , وتملكها العجب لرغبتها في البكاء بعد ما حدث الليلة .
- حسنا , كانت أمسية استثنائية , أليس كذلك ؟ ولم تنته بعد .
نظر ساخرا الى بقعتي الوحل على ركبتي بنطلونها الجينز . ثم التفتت الى بنطلونه الذي كان قذرا أيضا , وقال :
- أظن أنه علينا أن نغير ملابسنا قبل أن نتابع طريقنا الى الحفلة . وإلا سنضطر الى تقديم شرح مفصل عن سبب هذه الحالة المزرية .
شعرت سارا بوجهها يحمر خجلا وهي تسمع نبرة المزاح في صوته .
فأسرعت نحو السيارة , كي لا تفكر في التفسير الذي يعطيه الآخرون لحالة ملابسهما .
نظر نيال إليها وهو يجلس خلف المقود :
- بيتك أم بيتي ؟
- عفوا ؟
أجفلت وهي ترى الابتسامة التي ارتسمت على شفتيه وهو ينطلق بالسيارة .
- هل نذهب الى بيتي أولا لأغير ملابسي , أم تريدين الذهاب الى بيتك ؟
- آه .. ذلك ... ذلك غير مهم حقا .

وتساءلت عما إذا كانت تتخيل أشياء لا وجود لها . هل سمعت حقا تلك النبرة العابثة في صوته ؟
شغلت هذه الفكرة بالها طوال الطريق ومع ذلك , وحين توقفت السيارة أمام بيته , لم تكن واثقة مما إذا كانت مخيلتها تعبث بأعصابها مرة أخرى . نظرت حولها بسرعة , متسائلة عما إذا كان عليها أن تنتظر في السيارة فيما يغير ثيابه . لكنه اتخذ القرار بدلا منها , حين دار حول السيارة ليفتح الباب لها .
منتديات ليلاس
تبعته سارا الى المنزل . وعندما أشعل الأنوار نظر اليها باسما نظرة اعتذار , بعد أن لاحظت أكوام الخشب والمعدات منثورة على أرض الردهة :
- انني أجدد المنزل
لهذا أعتذر عن هذه الفوضى . لحسن الحظ , لا آتي الى هنا إلا للنوم ولذلك لا ألاحظه . أنهيت العمل في المطبخ , فهل تريدين انتظاري هناك ؟
- نعم بالطبع .
وأخذت تنقل خطواتها في الردهة بحذر , ثم شهقت مسرورة عندما فتحت باب المطبخ , وقالت :
- آه هذا جميل جدا .
- هل أعجبك ؟
وتبعها الى المطبخ ثم أخذ ينظر حوله بابتسامة راضية وأضاف :
- لقد جاءت النتيجة كما أردتها بالضبط . عندما أشعر بالكآبة على حالة المكان , أدخل الى هنا لأذكر نفسي بأنني لم أخطىء حين اشتريت هذا المنزل .
فقالت ضاحكة , غير قادرة على إخفاء اعجابها بالمطبخ :
- لم تخطىء حتما .
ومررت إصبعها على خشب الصنوبر الذي صنعت منه الخزائن ورأت خزانة ذات رفوف للأطباق تمتد من الأرض الى السقف , وقد رتبت فيها أطباق صفراء وزرقاء تتماشى مع ستائر النوافذ .
سارت الى النافذة لتنظر منها الى الحديقة , وأجفلت عندما لمس نيال ذراعها بخفة , ليحول انتباهها الى حيث كان يشير :
- تلك هي أدير تحلق . هل ترينها ؟
- نـ ... نعم .
حاولت أن تجعل نبرة طبيعية ولكنها عجزت عن إخفاء ارتجاف كلمتها هذه . كان نيال قريبا منها للغاية فاشتمت رائحة العشب التي علقت بثيابه وامتزجت برائحة النظافة التي تفوح منه . أخذت نفسا عميقا , فساءت الأمور أكثر . وازدادت فعالية الرائحة , فجعلت رأسها يدور . وتسارعت نبضات قلبها , وأدركت انها تحبس أنفاسها .. ثم .. ابتعد نيال فجأة .
- سأبدل ثيابي ولن أتأخر . حضري لنفسك القهوة إذا شئت . ستجدين كل ما تحتاجينه في الخزائن.
- شكرا .
وانتظرت حتى ابتعد , فاستدارت تحدق في الباب ثم تنفست بعمق قبل أن تبدأ بتحضير القهوة ... أرادت أن تشغل نفسها أكثر مما أرادت أن تشرب القهوة . وفضلت ذلك على الجلوس والتفكير في طبيعة الشعور الذي أثاره نيال فيها حين وقف قربها منذ دقائق .
وضعت إبريق القهوة على الموقد الكهربائي , ثم ضغطت على الزر . فتعالى صوت دوي , انطفأت بعده الأنوار فجأة وغرق المكان كله في ظلام دامس .
ضغطت سارا على قلبها الذي تسارعت خفقاته , وتساءلت عما فعلته . ثم سمعت صوت نيال يناديها , فسارت باتجاه ما ظنته الباب لكنها ما لبثت أن أطلقت صرخة ألم حين اصطدم وركها بزاوية المنضدة .
صاح حالما سمع صوتها :
- سارا ؟ هل أنت بخير ؟
واندفع يهبط السلم ركضا , ثم أطلق شتيمة حين تعثر بكومة من الأخشاب في الردهة .
سارت نحو الباب باحتراس , حتى لا تصطدم بشيء آخر , ووركها لا يزال يؤلمها :
- أنا بخير يا نيال . لا أدري ما الذي حدث . ضغطت على زر الموقد الكهربائي فانقطعت الكهرباء . آسفة .
- هذا غير مهم . هل أنت بخير ؟
كان مجرد ظل عندما تقدم نحوها في الردهة . سادت الظلمة في المنزل , ولم يضئه سوى شعاع القمر الفضي الذي تسلل عبر نافذة المطبخ .
عندما وصل الى عتبة الباب كان في عينيه قلقا ولهفة عليها أدهشاها .
اتسعت عيناها لرؤيته بهذا الشكل , ولم تستطع تحويلهما عنه . كان جسمه متناسقا , رائعا . لاحظت ذلك وعيناها تنتقلان من كتفيه العريضتين الى وركيه الضيقين , وبدا كتمثال من العظام والعضلات القوية . ولم تلاحظ التعبير الذي بدا على وجهه إلا بعد أن رفعت عينيها ورأت نظرة الاهتمام التي رمقها بها فأيقظت حواسها كلها .
- سارا ... هل أصابك مكروه ؟
نطق باسمها برقة , كما نطقه ذلك اليوم عند النهر , فتملكها دوار عندما اختلط المشهدان في ذهنها .
- لا , لا شيء يستحق الذكر .
وفي لحظة سحرية ومن دون مقدمات أخذها من خصرها وقربها منه لتلتقي بعدها شفتيهما في قبلة دافئة زاخرة بمشاعرهما التي حاولا أن يكبتاها امتزج فيها الترقب بالخوف إذ أدركا أنهما يتعديان الحدود التي رسماها ذلك اليوم عند النهر .
- سارا .. سارا ..
نطق بإسمها مرة أخرى , وراح يكرره بشوق , فجعله من الجمال بحيث اغرورقت عيناها بالدموع وهي تسند رأسها على صدره الدافىء . رفعت رأسها وأخذت تتأمل قسماته أرادت أن يعرف كم تحبه وتشتاق اليه إلى وجوده ... وقربه .. وحبه تسللت يده لتمسح الدموع من على وجنتيها وراح يقبل بنعومة أهدابها بادلته قبلاته وكأن غيمة من الشوق واللهفة كانت تلفهما معا .
- نيال ...
همست باسمه خارقة الصمت , فشعرت به يجمد مكانه وهو يتلمس العواطف الجياشة التي التي حملها صوتها . وتوقف قلبها عن الخفقان حين عما إذا كان يرفض ما تقدمه له من حب وحنان .
لكنه فاجئها حين حملها بين ذراعيه قائلا:
- تعلي نخرج الى الشرفة ونبتعد عن هذه الفوضى .
تعلقت بعنقه وخرج بها الى الشرفة , حيث وضعها برفق على الإرجوحة وجلس بجوارها فلم يستطع تمالك نفسه عن ضمها بين ذراعيه وشدها الى صدره وتقبيلها لدرجة أنها لم تستطع أن تتنفس . فتأوهت حين التصقت بجسده وقد امتدت يداه لأزرار قميصها وراح يفكها بيد مرتجفة من عمق المشاعر أزاح قميصها وراح يقبل كل إنش من جسدها فذابت بين يديه . رفعت بصرها اليه لتلتقي نظراتهما وكان نظراته تقول لها هل أتوقف لكنها كانت في عالم آخر عالمهما معا نعم انها تحبه وتريده لها , وقد أدركت أن هذه الأمسية انطبعت في ذهنها الى الأبد . لم تحب رجلا آخر من قبل , ولم ترغب في ذلك قط . لكن البهجة والسعادة غمرتاها الآن , وهي في أحضان هذا الرجل الذي استحوذ على حبها واهتمامها وعواطفها كلها .
* * *
- سارا .
ناداها باسمها برقة من جديد , لكن صوته حمل نبرة جعلت قلبها يجمد . أبقت عينيها مغمضتين وقد تملكها إحساس بالخوف .
- آه , يا سارا .
ارتجفت سارا وهي ترى نظراته المصوبة اليها , وأخذت تشعر بمزيج من الارتياح والشوق إليه . سيكون كل شيء على ما يرام , لأن نيال ماكان ليظهر لها تلك العاطفة لو لم يكن يُكنُّ لها بعض الحب .. وماذا لو لم يكن يحبها ؟ لم تستطع التخلص من هذا الاحساس بالشك , فأجفلت حين ابتعد عنها وهو يقول بهدوء :
- يجب أن نتحدث , يا سارا .
- لماذا ؟
وضحكت ضحكة قصيرة , اختلط فيها التوتر بالشك , وأضافت :
- ماذا هناك لنقوله , يا نيال ؟ مدت يدها ناحية ذراعه لتعيده الى جانبها وأضافت :
- أردت منك أن تعرف مشاعري نحوك , وأنت أيضا أردت ذلك .
- نعم , لقد أردت ذلك .
كان في موافقته ألم مبرح جعلها ترجع ذراعها الى جانبها , شعرت بقلبها يدمى فشهقت . رأت وجهه يتغضن , وهو يغالب عواطفه , فعرفت أنها لن تنال منه أكثر من ذلك .
هبت واقفة , حتى أنها لم تكترث لعريها . فقد ندم نيال على إظهار اهتمامه بها وعواطفه نحوها ! وأحست حين أدركت ذلك أن أثمن لحظات حياتها أضحت رخيصة .
بدا وجهه قاتما , كما غاب لون عينيه فبدتا باردتين فارغتين .
- سأحضر القهوة . لا !
ورفع يده يسكتها حين رآها تهم بالكلام , وأضاف :
- أقل ما علي أن أفعله هو أن أشرح لك الأمر يا سارا .
ودخل الى المنزل قبل أن تنطق بكلمة واحدة . اخترق وقع قدميه على الأرضية الخشبية السكون . أخذت تتنفس بعمق ولكن الهواء أبى أن يملأ رئتيها , وأحست بالموت والفراغ , وبرغبة في الهرب من هذا البيت ومن نيال ومما قد يقوله أو سيفعله لن يشكل أي فرق . إنها تحبه حتى وإن كان لا يشعر بشيء نحوها . أخذت تجمع ملابسها الملقاة على الأرض وراحت تلبسها بسرعة وعندما دخلت أخيرا الى المنزل , وجدته جالسا الى مائدة المطبخ . ودت لو تغتسل , وتترك المياه الساخنة تنصب على جسدها البارد , علها تدفىء أطرافها المتجمدة . لكن ما من شفاء لهذا الصقيع الذي جرى في شرايينها ! قد يدفئها نيال بقربه مرة أخرى , لكنها شكت في أن يساعدها ما سيقوله على ذلك .
نهض وسكب لها فنجان قهوة وكان قد ارتدى كامل ملابسه ومن دون أن ينطق بكلمة واحدة .
وجلست هي بوهن , قانعة بتدفئة يديها حول فنجانها , فقد خشيت أن ترفعه الى شفتيها ويداها ترتجفان بهذا الشكل .
سمعته يتمتم بصوت خافت , لكنها لم تنظر اليه . لم تستطع ذلك , لم تستطع أن تنظر إلى عينيه فتقرأ الندم فيهما .
- هل تذكرين حين التقيت بلورا ؟
كان صوته خافتا , ولهذا لم تجفلها اللهجة بل السؤال . رفعت عينيها إليه . لكنها سرعان ما حولتهما بعيدا حين رأت نظراته على وجهها , وقالت :
- لا أفهم ما تعنيه .
واتجف صوتها .
- قالت لورا إنها تظن أنها تعرفت إلي من قبل .
كان صوته خشنا بعض الشيء , مما يظهر أنه بذل جهدا بالغا ليحدثها بالموضوع .
أرادت أن تمد يدها لتلمسه , وتخفف عنه وتريحه , لكنها خشيت أن يصدها . فقدرتها على السيطرة على أعصابها ضعيفة للغاية .
وعندما أومأت , تابع يقول , وقد ازداد انخفاض صوته فزاد من توتر أعصابها :
- لم أعرف بما أجيب , صراحة . تجاهلت الأمر لأنني لم أشأ أن أعترف بأنها رأت على الأرجح صورة لي . ولهذا السبب بدوت مألوفا لها .
- لا أفهم . أي صورة ؟ ماذا تقول , يا نيال .
وأدركت فجأة أن عليها أن تعرف كل شيء . ما شأن لورا أو الصورة بكل هذا ؟
أخذ يحدق في فنجانه الفارغ وقد عكس صوته كآبة جعلتها تضطرب حتى قبل أن تسمع ما كان يقوله :
- الصورة التي كانت أليسون تحتفظ بها قرب سريرها . كانت شريكتها في الغرفة فتاة تدعى لورا عندما كانت تلميذة في مدرسة التمريض . ولعلها هي لورا التي قابلتها الليلة الماضية .
- أليسون ؟
وبللت سارا شفتيها وسألته : " ومن ... من هي أليسون ؟ " .
عند ذلك رفع بصره , وبدا في عينيه تعبير جمد الدم في عروقها , وأجاب :
- زوجتي .

 
 

 

عرض البوم صور arewa   رد مع اقتباس
قديم 29-06-08, 08:13 PM   المشاركة رقم: 18
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Oct 2007
العضوية: 45653
المشاركات: 214
الجنس أنثى
معدل التقييم: arewa عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 30

االدولة
البلدMorocco
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
arewa غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : arewa المنتدى : روايات احلام المكتوبة
افتراضي

 

- لن يحبها أبدا



- زوجتك ..
سمعت سارا نبرة الصدمة في صوتها . وأخذت تحدق في نيال وقد شحب وجهها ليماثل شحوب الأموات .
تنفست بسرعة وهي ترى الغرفة تدور من حولها وقالت :
- أنا لم ... لم أكن أعلم أنك متزوج .
- أنا لست متزوج حاليا .
وهب واقفا فجأة وسار نحو النافذة , وأراح يديه على قاعدتها ثم أحنى رأسه , وتابع يقول :
- توفيت أليسون منذ ثلاث سنوات عندما كنا نعمل مع القوات الدولية في أفريقيا .
واستدار نحوها فعضت على شفتيها وهي ترى العذاب في عينيه , وسمعته يضيف :
- وقد مات الطفل معها .
- طفل .. ؟
وعجزت عن إضافة أي كلمة أخرى , فقد أثقل ذهنها ما أخبرها به , وامتلأ قلبها أسى للألم الذي رأته على وجهه . ولكن بدا أنه لم يكن بحاجة الى ما يحثه على الكلام , وساورها شعور بأنه يريد أن يطلعها على الأمر ... إنه بحاجة الى أن يروي لها القصة كلها .
- نعم , كانت أليسون حاملا في شهرها السابع عندما ماتت من جراء نزيف في المشيمة .
- نزيف في المشيمة ؟
وقطبت سارا جبينها وهي تحاول استيعاب ما تسمعه ثم أضافت :
- ولكن أما كان ممكنا مساعدتها ؟ فهذه الحالة لا تؤدي الى الوفاة عادة .
- لو كنت موجودا , ربما لاستطعت مساعدتها . وهذا ما فكرت فيه مرارا وتكرارا . هل كان بإمكاني أن أنقذ أليسون ؟
ومرر أصابعه في شعره بضعف . كان وجهه كئيبا وعيناه غائمتين بذكرى ما حدث . حزنت سارا من أجله ولما عاناه , وللألم الذي يملأ نفسه . ولكن أي عزاء يمكنها أن تقدمه له ؟ كل ما يمكنها فعله هو الإصغاء الى حديثه , وإن كان قلبها يتحطم يأسا .
- أين كنت , يا نيال ؟ قلت إنك كنت في أفريقيا , ولكن أين كنت عندما .. عندما مرضت أليسون؟
تنهد وهو يعود ليجلس عند المائدة , وقال :
- توجهت الى إحدى القرى الحدودية البعيدة . تألف فريقنا من طبيبين وثلاث ممرضات , وكانت أليسون إحداهن . إلا أنها خفضت ساعات عملها عند تقدم حملها . لم تكن مريضة أو ما شابه , بل كانت تشعر بأنها في أحسن حال . لقد ناسبها الحمل .
وابتسم وهو يشرد مع الذكريات ويضيف :
- كانت أليسون امرأة هادئة جدا , لكنها حازمة للغاية . لهذا رفضت العودة الى انجلترا عندما اكتشفت أنها حامل . كانت تؤكد أنها لن تتعرض لأي خطر إذا ما أنجبت طفلها حيث كنا نعيش . وكان المكان يبعد أكثر من مئة ميل عن أقرب مستشفى . اقنعتني بأن لا بأس في ذلك وأن لا شيء يستدعي القلق .
رفع ناظريه , فشعرت سارا بعينيها تغرورقان بالدموع حين رأت الأسى على وجهه , وهو يقول:
- ما كان علي أن أصغي إليها . كان علي أن أجبرها على العودة للوطن .
راحت تنظر إليه بعطف , وقالت :
- ما كانت لتعلم , يا نيال . لم يكن بإمكانك أن تتنبأ بما سيحدث , وليس باستطاعة أحد أن يفعل .
- ربما , ربما هذا صحيح . ولكن ما كان علي أن أتركها كل هذه الفترة . فالقرية التي قصدناها تبعد يوما كاملا في سيارة الجيب عن المركز الطبي . وهذا يعني أنه علينا قضاء يومين في الطريق ذهابا وإيابا , ويوما في القرية للعمل . قررنا أن يذهب الفريق كله , فلا بد أن هناك أمور أخرى نقوم بها عدا التطعيم . وكان على أليسون أن تبقى لتواجه أي مشاكل صغيرة قد تنشأ أثناء غيابنا .
- لقد جرى ذلك إذن أثناء غيابكم عن القرية ؟
- نعم . وكما علمت فيما بعد , بدأت أليسون تنزف بغزارة عصر أول يوم . كان في المركز امرأتان من المواطنين الأصليين , ولكنهما تفتقران الى العلم والخبرة فلم تعرفا ما عليهما فعله . طلبتا من أليسون أن تستلقي , وقامتا بكل ما في وسعهما , لكن النزيف لم يتوقف ... أرسلوا بطلبي الى القرية , فتركت كل شيء وعدت على جناح السرعة , ولكن الأوان كان قد فات . فقد توفيت أليسون من الصدمة التي يسببها النزيف .
- أنا آسفة جدا , يا نيال . لا بد أنك عانيت الكثير .
ومسحت سارا دموعها وهي تضيف :
- يا له من حادث مؤلم .
- كان بالإمكان تجنبه وهذا ما يعذبني أكثر ... لو لم أصطحب أليسون معي الى أفريقيا للعمل , لما حدث ذلك قط . كما أنها لم تكن من النوع المغامر ! لقد رافقتني لأنني أردت ذلك . سافرت معي إلى هناك ومع ذلك , زعندما كانت بأمس الحاجة إلي , أين كنت أنا يا سارا ؟
- لا تقل هذا .. لا , يانيال . وضعت يدها على كتفيه مواسية وقالت : " لم يكن الذنب ذنبك . يجب أن تدرك هذا .
- يا ليتني أستطيع !
- وأشاح بنظره عنها فجأة , موضحا أنه لا يريد أي تعزية منها .
وتراجعت , وشدت على قبضتيها وهي تراه يقصيها عنه من جديد .
وعندما نهض وتوجه نحو الباب لم تحاول منعه . وكيف تستطيع ذلك ؟
فليس لديها ما تقدمه إليه . لعل ما شعر به نحوها منذ قليل , لم يكن سوى رغبة عابرة , لكنها لم تكن كافية لتنسيه المرأة التي ما زال يحبها .
وقف ويده على مقبض الباب , ثم قال بصوت خالٍ من أي شعور :
- وأنا سألوم نفسي إذا ما تطورت الأمور بيننا , يا سارا وإبداء أسفي غير كافٍ , لكنني

آسف فعلا . كل ما أرجوه هو أن تتمكني مع الأيام , من الصفح عني .
كيف يمكنها أن تحتمل ذلك ؟ بكل هذه البساطة انتهى كل شيء قبل أن يبدأ . كيف يمكنها أن تبقى وتستمع اليه وهو يتنكر لكل ما شعرا به ؟ لكن يبدو أن شعور نيال لم يكن كشعورها . وهذا ما يحاول أن يقوله لها , إنها مجرد بديل للمرأة التي أحبها ليس أكثر .
لم تعرف سارا كيف تمكنت من الحفاظ على أعصابها , ومنع نفسها من الانهيار عند هذه النقطة .
- لم يحصل شيء يستدعي الصفح .والآن , إن كنت لا تمانع , أود أن أعود الى بيتي .
تنحى جانبا حين توجهت الى الباب . ومضت لحظة ظنت فيها أنه يهم بالكلام , لكن هذا لم يحدث.
تقدمته نحو الباب وقد تلاشى فجأة كل لون ودفء من حياتها لقد اغتال حبها في مهده .
لن يحبها نيال أبدا كما أحبته , وقد فاق ذلك قدرتها على الاحتمال .
* * *
- سارا ماذا حدث لك ؟ بطاقة الاسم موضوعة بشكل خاطىء . وأعادت إيرين الطفلة الى المنضدة وقطعت السوار البلاستيكي من حول معصمها , ثم تناولت قلما وكتبت المعلومات الصحيحة على البطاقة .
استبدلت البطاقة الأولى بالجديدة ثم حملت الطفلة الى أمها قائلة :
- هاك يا سيدة لويس . هل تريدين أن تحملي لوسي بعد أن اغتسلت وأصبحت جميلة ؟
تركت ايرين الوالدين تالمبتهجين بابنتهما , ثم عادت لتنهي عملها .
نظرت الى سارا وهي ترفع حاجبيها ممازحة , لكن سارا لمحت الاهتمام في عيني صديقتها وهي تقول :
- أن يحدث خطأ كهذا ... وفي آخر يوم لي هنا !
قالت ذلك بلطف , لكن سارا كانت تعلم أنه خطأ لا يغتفر .
- آسفة ... فقط ... فقط لم أدرك ..
وسكتت عندما اغرورقت عيناها بالدموع . أصبح هذا يتكرر مؤخرا .. فأي شيء يجعلها تبكي بسهولة . أشاحت بوجهها وهي بالكاد تسمع تعليمات إيرين الى هيلين الهادئة , بأن تنقل المريضة الى القسم .
منتديات ليلاس
عندما انغلق الباب , استدارت إيرين إليها مجددا , وسألتها :
- ما الذي يحدث يا سارا ؟ أخبريني , لقد تغيرت كثيرا منذ ليلة حفلتي . ماذا حدث حينذاك ؟ أعلم أنك ونيال انشغلتما بحالة ولادة في الطريق , لكن ثمة شيء آخر قد حدث , أليس كذلك ؟
- لا أفهم ما تعنينه ؟
وحاولت سارا أن تضحك , لكن ضحكتها جاءت مصطنعة , عالية أقرب الى الهياج العصبي . عضت على شفتيها وهي تشغل نفسها بترتيب غرفة التوليد لتعدها لولادة جديدة , فنظرت إليها إيرين بهدوء وقالت :
- لا تفهمين ؟ أنا لست عمياء . أعرف أن شيئا ما حدث تلك الليلة بينك وبين نيال جيلسبي .
ولاحظت النظرة المجفلة التي رمقتها بها سارا فابتسمت بلطف وأضافت :
- يجب أن أكون عمياء وصماء وخرساء حتى لا ألاحظ توترك حين تكونين بقربه , عزيزتي , هل هناك شيء ما بينكما أستطيع أن أعرفه ؟
- لا .
ثم خففت سارا من لهجتها الحادة وهي ترى الدهشة ترتسم في عيني إيرين , وهزت كتفيها قائلة :
- لا أظن أن نيال مهتم بي , يا إيرين .
- ولكن ماذا عنك أنت ؟ هل أنت مهتمة به ؟
ولم تنتظر إيرين جوابها , إنما غيرت الموضوع بلباقة , ما جعل سارا ممتنة لها . وأكملت بقية نهارها من دون أن ترتكب المزيد من الأخطاء .
لكنها وجدت صعوبة في التركيز على عملها , كحالها مع أي شيء آخر حاليا . كان ذهنها لا ينفك يعود المرة تلو الأخرى الى اللحظات في تلك الليلة الرائعة عندما أحست أن العالم ملك يديها , ثم الى اللحظات التالية حين انهار كل شيء من حولها .
وعندما حان وقت الغداء , كانت قد وصلت الى حافة اليأس . لا شيء يمكنه أن يغير حقيقة أن نيال ما زال يحب زوجته . وعليها أن تتقبل ذلك وتتابع حياتها الخاصة . لكنها أدركت فجأة أن هذا الأمر مستحيل وهي تراه كل يوم , لهذا عليها أن تترك مستشفى " دلفرستون العام " . فهذه الطريقة الوحيدة التي ستحررها من عذاب التفكير في عدم اكتراث نيال بها .
تركت غدائها في خزانتها , وتوجهت الى مكتبة المستشفى حيث رزمة من مجلات التمريض من على الرف .
قرأت إعلانات عن العديد من الوظائف , تتراوح بين قابلة خارجية وممرضة خاصة في لندن . وصورت الصفحات التي لفتتها , ثم وضعتها في حقيبتها لتعيد قرائتها في بيتها مساءاً . لم تشأ أن تترك هذا المستشفى . لكن لم يبق أمامها خيار آخر فرؤية نيال يوميا أمر يعذبها , وتعجز عن احتماله . وكأنما قدر لها العذاب , فكان عليها أن تعمل معه في اليوم نفسه , حين أحضرت سيارة الاسعاف حالة طارئة . خرجت سارا لتلاقي الممرضين وقلبها على المرأة الممددة على الحمالة وقد فقدت وعيها , وكان ممرضو الإسعاف قد وضعو لها مصلا , ففتحت سارا الباب على مصرعيه ليمروا منه . سألتهم :
- اسمها تريزا كيلي . نزيف حاد . وهذا كل ما نعرفه عنها باستثناء أنها أنجبت طفلا من اسبوعين.
ولتفت الممرض الى الوراء عندما وصلت سيارة الى الباب , وقال :
- هذا زوجها . وقد اصطحب أولاده الى بيت أحد الأقارب قبل أن يلحق بنا . لديه خمسة أطفال , جميعهم دون السابعة من العمر ,كما فهمت . فضلا عن الطفل الرضيع , أي أن المجموع ستة .
ولوى الممرض شفتيه .
- ستة .
وألقت سارا نظرة فارغة على المرأة المحمولة وأضافت :
- تبدو لي كبيرة في السن .
- هذا ما تقولينه أنت .
ولم يزد الممرض على ذلك وهو يساعد على نقل المريضة الغائبة عن الوعي . أخذتها سارا على الفور الى قسم الجراحة حيث طلبت هيلين أن تقيس ضغط دمها فيما اتصلت تطلب طبيبا . توقعت حضور مينا , لكن الباب فتح وبرز منه نيال قائلا :
- مينا مشغولة , ماذا لديك ؟
كانت لهجته مقتضبة واهتمامه مركزا على المريضة الغائبة عن الوعي . أخذت نفسا عميقا , وأرغمت نفسها على التركيز على حالة المريضة , بالرغم من أن وجودها قرب نيال لم يكن بالأمر السهل , وقالت :
- اسمها تريزا كيلي وقد أنجبت طفلا منذ حوالي الأسبوعين , وهو طفلها السادس . تعاني من نزيف حاد , لكننا لم نعرف عنها أي شيء آخر بعد .
- ولما لا ؟ بحق الله يا سارا , كان عليك أن تعرفي ما يكفي عن تاريخ المريضة , كي تكون لدينا فكرة عما نواجهه ؟
والتفت الى هيلين وقد سيطر على صوته البرودة قائلا :
- اذهبي وحاولي إحضار أوراقها . أحضريها الى بأسرع ما يمكن .وأدار عينين باردتين الى سارا بينما أسرعت هيلين نحو الباب .
سألها :
- هل كان برفقتها أحد ؟
- لابد ... لابد أن زوجها ينتظر في الطابق السفلي .
راحت ترتجف , وحاولت ألا تظهر له مدى تأثرها للهجة التي خاطبها بها .
أشاحت بوجهها , وهو يأمر هيلين باقتضاب , بأن ترى ما يمكنها معرفته من زوج تريزا أيضا . وارتجفت يداها وهي تنزع , بسرعة ملابس المرأة المخضبة بالدم .
- والآن فلنر ما لدينا .
تجهم وجهه وهو يفحص المرأة الغائبة عن الوعي وسأل :
- ما هي حرارتها وضغط دمها ؟
التقطت سارا الجدول وقرأت ما دون عليه , فأومأ باختصار , وركز اهتمامه على عمله . وكان قد فرغ من ذلك تقريبا , عندما تحركت المريضة وقالت :
- أين أنا ؟
وحاولت النهوض لكن الألم ما لبث أن عاودها , فانحنت وهي تمسك ببطنها .
- لا تتحركي , يا سيدة كيلي .
وأعاد نيال المرأة الشاحبة الى الوسائد خلفها وقطب وجهه اهتماما وهو يسألها :
- متى حدث هذا ؟ هل تنزفين بشدة منذ ولادة طفلك الأخير ؟
- نعم , كثيرا . ظننته سيتوقف , لكنه ازداد سوءاً اليوم , ورحت أشعر بارتفاع حرارتي وبدوار . وعندما بدأ الألم ينتابني ... هنا .
ومدت تريزا يدها تشير الى بطنها . وكانت العرق تتشكل على جبينها فتقدمت سارا بهدوء نحو أعلى السرير لتمسكها .
- هل واجهت مشاكل أثناء الولادة ؟ لقد أرسلت ممرضة لتحضر ملفك , ولكن إذا ما أخبرتني بكل شيء , ستوفرين علينا الوقت .
فتمتمت تريزا :
- لا . كل شيء جرى ببساطة ...
وتجنبت النظر الى عينيه , وراحت تتأمل يديها اللتين كانتا تضغطان على بطنها .
- فهمت .
بدا جليا أنه لمس النفور في صوتها . وتساءلت سارا عما يستتر وراء ذلك . ولكن , وقبل أن تسترسل في تكهناتها , التفت نيال إليها , وقال بلهجة أكثر تكلفا ورسمية :
- أظن أنه علي أن أفحصها بشكل أدق لأرى سبب ذلك . جهزي المريضة أيتها الممرضة .
امتثلت سارا لأوامره , فساعدت تريزا على ارتداء ثوب مخصص لهذه الحالات , بينما أخذ نيال يغسل يديه . وأثناء ذلك عادت هيلين وتوجهت مباشرة نحوه , وأخفضت صوتها ليسمعه وحده . وأدركت سارا أنه لم يكن مسرورا بما سمعه .
كان وجهه جامدا حين أشار اليها لتنظم إليهما , وقال :
- يبدو أن السيدة كيلي لم تدخل المستشفى لتلد آخر أطفالها , كما أنها لم تستدع قابلة قانونية . يقول زوجها إن أمه هي التي ولدتها .
- أمه ؟ هل تعرف ما تفعله ؟
طرحت سارا سؤالها هذا بذعر واضح .
- لا . يبدو أن الزوج لا يرى جدوى من احداث جلبة عظيمة بسبب شيء تافه كالولادة . فهذه وظيفة المرأة التي خلقت من أجلها , لهذا ستسير الأمور بسهولة , او شيء من هذا القبيل .
- يا إلهي ! أهناك من يؤمن بهخذا في أيامنا هذه .
والتفتت سارا الى الخلف , تنظر الى المرأة المستلقية على السرير فبدا العطف على وجهها وهي تقول :
- لعل هذا يفسر إنجابها لكل هؤلاء الأطفال في مثل هذه الفترة القصيرة . ولعله لا يؤمن بتحديد النسل .
- ربما لا .
ظهرت في صوت نيال خشونة مفاجئة . فنظرت اليه وصدمتها المرارة التي قرأتها على وجهه . تلهفت الى معرفة سبب ذلك , لكنها لم تجد سبيلا للاستفهام وهيلين تقف هناك وتستمع اليهما . جاهدت لتركز على عملها .
- من المحتمل إذن أن يعود سبب مرض تريزا الى نقص الرعاية الصحية أثناء ولادتها طفلها .
- هذا أكثر من مجرد احتمال , إنه أساس المسألة . ولعل أجزاء من المشيمة بقيت في رحمها , فتسببت لها بعدوى . فكل الدلائل تشير الى ذلك , من النزيف الى الألم والحرارة , وهي محظوظة إن لم تصب بتسمم في الدم أيضا . علينا أن نجري لها فحص دم شامل .لكن المهم , الآن , هو أن نرى ما يحدث داخلها .
تركهما لتغسلا هي وهيلين أيديهما . وعادت سارا لتساعده , محاولة تركيز ذهنها على ما يحدث . ستفكر فيما بعد في أسباب ما ارتسم على ملامحه , وذلك عندما تنفرد بنفسها ... كانت واثقة من أمر وحيد وهو أنه لن يرحب بهذا الاهتمام !
* * *
- اشربي جرعة من هذا فقط , يا تريزا ... هذا حسن . عندما يبدأ مفعول المضاد الحيوي ستشعرين بتحسن كبير , لقد نظف الدكتور جيلسبي الرحم ولكنك لا زلت تعانين من التهابات التي يجب القضاء عليها .
- شكرا أزعجتكم جميعا , أليس كذلك ؟
وابتسمت تريزا بوهن . فلاحظت سارا أنها جميلة رغم شحوبها البالغ . كان وجهها أكثر تجعدا مما يفترض به أن يكون في مثل سنها . لكن لم يكن من السهل أن تنجب ستة أطفال وترعاهم .
فقالت لها مشجعة :
- لم تكوني مزعجة أبدا , فلا تكوني سخيفة . كل مانريده هو شفاؤك وبعدها تستطيعين العودة الى البيت وأسرتك .
لكن تريزا أشاحت بوجهها وأجابت : " أتمنى ألا أعود "
وكبتت المرأة شهقة باكية , وأضافت :
- لا أدري إذا كنت أستطيع احتمال المزيد ! فليس لدي لحظة أقضيها مع نفسي , وعلي أن أهتم بالطهي والغسيل وحمام الأطفال .
- ومن يود أن يعتني بستة أولاد ؟
ومسحت تريزا عينيها بظاهر يدها وتابعت تقول :
- لا , ليس هناك سوى والدة " لي " . وهي مشغولة برعاية أسرتها وترى أن علي أن أهتم بأسرتي وأكف عن التذمر .
فأجابتها سارا :
- ولكن لا بد أ، هذا صعب . فستة أطفال , عائلة كبيرة .
وأضافت وهي تتساءل كيف تقولب اقتراحها بلباقة :
- ربما عليك أن تفكري في طريقة نهائية لتحديد النسل , إذا كنت لا تريدين زيادة عدد أولادك .
ضحكت تريزا بمرارة , وقالت :
- لا أظن أن " لي " سيوافق. فبحسب رأيه , كلما زاد عدد أطفاله كلما برهن عن رجولة فائقة . لقد حذرني الطبيب من الحمل مرة أخرى بعد الطفل الخامس . لكن " لي " لم يهتم لذلك .
- ربما عليك إذن أن تتخذي قرارك بنفسك , فهو جسدك أنت وحياتك . ولا يمكنك ترك القرار لشخص آخر . لا سيما وأنه لا يهتم لمصلحتك فعليا .
وتركت للمرأة لحظة تستوعبر فيها كلامها , ثم ابتسمت لها وغادرت الغرفة قبل أن تقول ما لا ينبغي أمن تقوله . كان من الصعب عليها أن تصدق بأن إمرأة تسمح بأن يهيمن زوجها عليها بهذا الشكل , في هذا العصر .
- أريد أن أكلمك يا سارا , إذا سمحت .
وقفت , وخفق قلبها بسرعة عندما ظهر نيال فجأة . تقدمها الى باب المكتب من دون أن ينتظر موافقتها . ثم تنحى جانبا لتدخل أمامه . أغلق الباب ثم وقف مستندا اليه وأخذ يتأملها بإمعان , وشعرت سارا بأن هنالك ما يزعجه فتسارعت دقات قلبها .
- أريد أن أتحدث معك عما جرى في بيتي .
أكدت كلماته ظنها فشعرت للحظة بدوار خفيف . وعندما تكلمت جاء صوتها لاهثا بعض الشيء . قالت برقة :
- ماذا عنه , يا نيال ؟
- حول ما قلته وانجرافي وراء مشاعري .
ومرر أصابعه في شعره بفروغ صبر وأضاف :
- لابد أنك تعلمين ما أود قوله , يا سارا .
وفهمت . كما فهمت أيضا ما رأته في وجهه منذ قليل ... مشهد المرارة تلك وتأنيب الضمير . وشعرت برغبة في الضحك , إنما لتغطي الألم الذي اعتصر فؤادها عندما أدركت مدى ندمه ...
- لا تقلق يا نيال . فأنا واثقة من أنك لم تقصد ما قلته . إذا كان هذا ما يقلقك ! وأرى أن تطرد من ذهنك كل ما قلناه وفعلناه في تلك الليلة .
وضحكت بمرارة , وقد فاق ألمها ما يمكن وصفه وأضافت :
- كل شخص يمر بحالة ضعف ... حتى أنت !
ثم سارت متمهلة نحو الباب . وتردد نيال للحظة , فتساءلت عما إذا كان لديه شيء آخر يود قوله . لكنه تنحى جانبا أخيرا ليدعها تمر دون أن ينطق بكلمة . وغادرت المكتب بساقين ثقيلتين ثقل الرصاص , والألم والعذاب يدميان قلبها . لقد تلاشى أي أمل في أن يبذل رأيه ويعود اليها . لم تستطع مواجهة أي شخص في تلك اللحظة , لهذا توجهت الى غرفة الجلوس الخالية في مثل هذا الوقت من النهار , فالأمهات يسترحن في أسرتهن قبل بدء مواعيد الزيارة المسائية . سارت الى النافذة وأخذت تنظر منها الى المدينة , وهي تشعر بوحدة لم تشعر بمثلها من قبل , فقد أصبح الوضع فجأة واضحا كالبلور .
لقد وهبت قلبها لرجل لا يريده . وهناك امرأة وحيدة يريدها نيال , امرأة واحدة فقط أرادها أن تحمل أولاده وتلك المرأة ليست هي .

 
 

 

عرض البوم صور arewa   رد مع اقتباس
قديم 29-06-08, 08:19 PM   المشاركة رقم: 19
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Oct 2007
العضوية: 45653
المشاركات: 214
الجنس أنثى
معدل التقييم: arewa عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 30

االدولة
البلدMorocco
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
arewa غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : arewa المنتدى : روايات احلام المكتوبة
افتراضي

 

11- الحب دائما على حق !


- لن يبقى أحد هنا . اولا الدكتور هندرسون , ثم إيرين والآن أنت !
وصفقت سالي باب خزانتها بعنف وحملقت في سارا قائلة :
- ما ظننت قط أنك قد ترحلين .
- ولا انا تخيلت ذلك . لكنها فرصة سانحة وهي أحسن من أن أضيعها .
وأغلقت سارا خزانتها ثم ابتسمت رغم العذاب الذي يثقل قلبها . لم يكن من السهل عليها أن تقرر الرحيل عن المستشفى لكنه القرار الصائب الوحيد .
- قابلة خاصة ؟
وقطبت سالي جبينها وهي تضيف :
- انها فكرة غريبة . لكني لا أظنها مختلفة عن أي عناية صحية خاصة أخرى .
- بالضبط , ولكن يبدو أنها ستكون ممتعة . فسأعمل في العيادة والبيوت أيضا , وأنا أتطلع الى ذلك بشوق . على أي حال , أتوقع أن تتغير الأمور هنا بناء على الملحق الجديد .
لكن سالي بقيت تنظر اليها بارتياب , وقالت :
- أظن ذلك . لكن الأمور لن تعود كما كانت .
خرجت سالي من غرفة الممرضات لتلحق بها سارا بعد لحظات .
وتنهدت الأخيرة وهي تتوجه الى المكتب لتستلم التقرير . ستتبدل الأمور فعلا , وربما لن تكون أفضل , لكنها لا يمكن أن تصبح أسوأ , وهذا جل ما تريد تجنبه .
فالعمل مع نيال أصبح لا يحتمل . ولا يتعلق الأمر بأنه راح يعاملها بتهذيب كما يعامل بقية الممرضات . ولكن ما جرى بينهما أعمق من أن يسمح بالعودة بسهولة الى نقطة الانطلاق ليصبحا مجرد زميلي عمل . ربما استطاع نيال أن يمحو ذهنه كل شيء , لكنها عجزت عن ذلك , وذكرى تلك الليلة ما زالت هاجسا في عقلها وقلبها .
- حسنا , هذا كل شيء .
انهت بريندا كارليل , الممرضة المسؤولة , عن تسليم سارا التقرير عن المرضى , وأطلعتها على ما ينبغي عليها مراقبته من حالات خاصة , وعما حدث أثناء النهار , ثم قالت :
- أرجوا لك ليلة هادئة . بالمناسبة سمعت أنك قدمت استقالتك وأنك ستغادرين الى حيث أضواء المدينة .
فأجابت سارا عندما انتهت من تسجيل ملاحظاتها :
- هذا صحيح . سأرحل في آخر الشهر .
- هذا غريب . ظننتك ستستلمين مكان إيرين . لابد أنك فزت بهذه الوظيفة في مسابقة .
فهزت سارا كتفيها , وقالت :
- ربما . لكنني شعرت بالحاجة الى التغيير .
- حسنا . إذا كان هذا شعورك , فمن الأفضل أن تذهبي الآن بدلا من أن ترحلي فيما بعد .
وغادرت بريندا المكتب بينما جلست سارا تنظم العمل . بعد رحيل إيرين وعدم تعيين بديلة لها , وقعت وظيفة الإشراف على الممرضات على عاتق سارا . وكانت الليلة هادئة , لحسن الحظ إذ لم تصل سوى حالة واحدة , بعد انتهاء مواعيد الزيارات .
تأكدت من اقفال الأبواب الخارجية بعد خروج آخر زائر , قبل أن تعود الى القسم . وقد حرصت الإدارة على ابقاء الأبواب مقفلة بعد خروج الزائرين وذلك لأسباب أمنية . يدق المرضى الجدد الجرس ليدخلوا الى المستشفى كما لم يسجل القسم أي حوادث من قبل , لهذا كانت الممرضات والأمهات يشعرن بالسرور والارتياح , إذ يدركن أن المبنى آمن .
وبعد أن اطمأنت الى حسن سير الأمور , توجهت نحو غرفة التوليد حيث كانت هيلين وسالي تساعدان في حالة ولادة . سألتهما بهدوء :
هل كل شيء على ما يرام هنا؟
- بأحسن حال . السيدة دايفيز تتوقع حضور زوجها بعد أن يستلم الرسالة التي تركتها له . إنه في اجتماع كنسي .
فطمأنت سارا المرأة :
- سأنتبه للجرس .
ثم غادرت الغرفة

الغرفة , وقامت بجولة سريعة على الأقسام كلها , متوقفة أحيانا لتبادل الحديث مع بعض الأمهات . كان البعض منهن يشاهد التلفزيون في غرفة الجلوس , لكن معضمهن اختار الاستلقاء في الأسرة للقراءة أو لتبادل الحديث . لم يكن هناك قانون صارم يتعلق بإطفاء الأنوار , لكن الغالبية كانت تفضل الخلود الى النوم عند الساعة العاشرة .
إن الولادة عملية مرهقة , وتعتبر معظم النساء فترة وجودهن في المستشفى فرصة للراحة , قبل أن يعدن الى بيوتهن وحياتهن التي غالبا ما تكون محمومة قلقة .
عادت سارا الى المكتب , لتنهي بعض الأعمال المكتبية التي تراكمت أثناء النهار . وعندما دخلت لاحظت أن الباب مغلق , ودهشت إذ وجدت النور مطفأ كذاك .
مدت يدها تتلمس الجدار بحثا عن مفتاح الضوء , وشهقت بدهشة حين رأت رجلا قرب خزانة الأدوية . مضت لحظة حاولت فيها أن تستوعب ما يجري . فهل أدخل شخص ما زوج السيدة دايفيز واتى به الى هنا ؟ولكن لماذا بقي في الظلام ؟
وإذا به يستدير فجأة , فأجفلت عندما عرفته , وهتفت :
- غاري ! ما الذي ...؟
لكنها لم تكمل كلامها إذ اندفع نحوها . ولم تجد فرصة لتبتعد عن طريقه فدفعها بعنف , وارتطم رأسها بحافة المكتب محدثا صوتا م
مثيرا للغثيان ثم ساد الظلام .
* * *
كان النور يؤلم رأسها . فأشاحت سارا نظرها عن الضوء الساطع ثم تعالى أنينها حين تسببت لها الحركة بألم في رأسها يبعث على الغثيان . وشعرت بحركة خفيفة قربها , وبيد باردة تلمس خدها.
سارا ؟ هل تسمعينني , يا حبيبتي ؟
عرفت صوت نيال , لكنها لم تفهم الكلمات التي قالها , فما هذا التحبب الرقيق ؟ أغمضت عينيها لتجنب الألم الذي بدا أسوأ من ذلك الذي حاصر رأسها , وحاولت السيطرة على جموح مخيلتها . لم يكن نيال قربها ! إنها مخيلتها وحسب التي تعبث بها ...
- سارا حدثيني .. قولي أي شيء . قولي لي أن ابتعد . ولكن قولي شيئا يجعلني أعلم أنك بخير .
كان في صوته عذاب اضطرها الى فتح عينيها بالرغم من ألمها الشديد .
أدارت رأسها بحذر على الوسادة فشعرت بخفقات قلبها تتوقف وهي ترى نيال محتضنا إياها منحنيا فوقها ... كان في عينيه من اللهفة , والتركيز و ...
عضت على شفتيها خائفة من أن تتسرب الكلمة الأخيرة إلى أفكارها فتثير فيها الألم .
وتمتمت بصوت أجش :
- ما ... ماذا حدث ؟
- ألا تتذكرين ؟
عكس صوته اهتماما أكبر , وقد فاضت عيناه بمشاعر جعلتها تصاب بدوار . عادت تغمض عينيها , خائفة من الصور التي يستعيدها ذهنها الأحمق , فنيال لا يشعر نحوها بما تشعر به نحوه ... وقد أعلن ذلك بوضوح !
قطبت حاجبيها وهي تحاول أن تستجمع أجزاء الصورة الضبابية التي تزاحمت في رأسها , وأن تتذكر ما حدث ... ظلام ... النور المفاجىء , ثم شخص يندفع نحوها ...
شهقت عندما ركبت الصورة :
- كان ذاك غاري ! أنت تعرف من أعني , صديق تريشا . كان في المكتب فدفعني . ولكن .. ولكن ماذا كان يفعل هناك .
وماذا تظنين ؟
بدا صوته خشنا وهو يهب فجأة واقفا . وانسدل فجأة على وجهه نقاب ضبابي , مخفيا الدفء والمشاعر التي رأتها في تلك اللحظات .
جاهدت سارا كي تسيطر على شعورها بالخسارة . كانت تعلم أن مخيلتها تعبث بها , ولن مازال ذلك يؤلمها .
- كان يريد المخدرات , طبعا . لابد أنه اكتشف مكانها عندما جاء ليزور تريشا . إذا كنت تذكرين , كانت ارييل تحقن بالفاليوم , حين ذاك وأظن أن غاري سمع أحدهم يذكر ذلك , فلمعت فكرة سرقته من هنا . هنالك سوق واسعة للفاليوم في الشوارع .
- مخدرات ...؟
أخذت تكرر ذلك ببلادة . ونظرت اليه مذهولة , ثم شهقت وهي تتذكر فجأة أمر آخر .
- لقد فاجأت تريشا في المكتب صباح يوم خروجها من المستشفى . أتظنها كانت تفحص الخزانة لترى ما يمكنها أن تجد فيها ؟
- ربما . أتصور أن غاري دفعها الى القيام بهذا العمل , تعلمين كيف كانت خاضعة له. ولكن هذا ليس عذرا .
كانت لهجة نيال عنيده وصلبة وهو يضيف :
- سأتصل بالشرطة وأعلمهم بالأمر . أتصور أنهم سيرغبون في التحدث إليها .
فسألته مجفلة وهو يحاول ترتيب الوسائد التي استلقت عليها :
- كنت تعلم إذن أنه غاري , أليس كذلك ؟
- ابقي مستلقية , ولا تتحركي . لقد تعرضت لضربة قوية على رأسك .
وجلس على حافة سريرها , محاولا جهده كي لا يهزه . أخذ يتأمل وجهها الشاحب للحظة , مطيلا النظر الى الرضة الضخمة على صدغها الأيسر وقد كسا ملامحه الغضب :
- ليتني أستطيع الإمساك بذلك القذر ...
- ربما من الأفضل ألا تستطيع .
وتمكنت من الضحك . رغم نبضات قلبها المتسارعة بجنون , مما زاد من ألم رأسها . هل الغضب الذي يشعر به نيال هو بسبب غصابتها ؟ هل يعني هذا أنه يشعر نحوها بشيء ما ؟ أخذت تفكر في ذلك محاولة السيطرة على هذه النشوة التي شعرت بها .
- ربما .
كانت لهجته ساخرة وهو يأخذ يدها بين يديه برفق . ولم يبد عليه أنه لا حظ الرجفة التي سرت في كيانها حين لمس أصابعها وهو شارد الذهن .
- على أي حال , لن يحدث ذلك فالشرطة ألقت القبض على غاري .
- ها ... هذا عمل سريع .
وتساءلت ان كان نيال سينسب ارتجاف صوتها الى ما حدث معها لكنها لاحظت النظرة التي وجهها إليها . ترك يدها فجاة ثم هب واقفا وهو يقول :
- علينا أن نشكر مايك داوسن . فحين لم يفلح غاري في الخروج من الباب المؤدي الى الشارع , حاول الهرب عن طريق المبني الرئيسي .
وصادف أن رآه مايك خارجا من القسم فحاول إيقافه .
وهز نيال كتفيه , متجنبا بحذر عينيها ويبتعد عن السرير ويضيف :
- يبدو أنهما تعاركا لبعض الوقت , لكن مايك هزمه أخيرا .
فقالت :
- هذا من ... حسن الحظ .
وأغمضت عينيها حتى لا يرى الألم الذي اعتصر حين ابتعد عنها بهذا الشكل , وهمست بلهجة مفككة , غير قادرة على احتمال المزيد من هذا العذاب في حالتها الراهنة :
- أظن .. أنه علي أن أرتاح إذا لم كن لديك مانع , يا نيال .
- طبعا أنا آسف . لم أكن أعني أن ...
وصمت ... ثم سار الى الباب , ووقف ويده على المقبض . كان في صوته خشونة بالغة جعلتها تفتح عينيها حين قال :
- إذا احتجت لأي شيء , فأعلميني أرجوك يا سارا . أتعدينني بذلك ؟
لم تستطع احتمال سخرية القدر . فالأمر الوحيد الذي تحتاجه هو ما لا يمكنها الحصول عليه ... أي هو نفسه ! ولم تجبه , وعندما خرج أغمضت عينيها مجددا . إنها تحب نيال من كل قلبها وستحبه الى الأبد .
* * *
منتديات ليلاس
أنا بخير , صدقيني . اسمعي يا لورا . انني اقدر عرضك هذا حقا , لكنني لا أحتاج لأي رعاية .
وجاهدت سارا لتضفي على صوتها نبرة مرحة عندما راحت صديقتها تحتج على الفور .
وتابعت تقول :
- لا . لا .. ؟ ديك ما يكفيك من العمل من دون أن تأتي الى هنا لتعتني بي . لقد قالت إيرين إنها ستأتي وتزورني في ما بعد , لهذا لن أكون وحدي .
كان ذلك تحريفا للحقيقة . فقد اتصلت إيرين وعرضت عليها أن تزورها لكن سارا لم تقبل بذلك , كما لم تقبل بزيارة لورا لها ,وتنهدت وهي تنهي المخابرة أخيرا . كان الجميع لطفاء للغاية معها , وعرضوا عليها المجيء للعناية بها . ولكن جل ما كانت تريده هو أن تبقى وحدها .
كانت قد أمضت اليومين الماضيين في المستشفى , وحاولت أن تتظاهر بالشجاعة , لكنها لا تريد الآن سوى البقاء وحدها . لم يكن الحادث وما نتج عنه من ارتجاج خفيف في الدماغ , سبب انزعاجها بل تحطم قلبها هو ما آلمها أكثر . فهذا الألم لن تشفى منه كليا .. ولكن عليها , بشكل ما , أن تواجهه وتتابع حياتها .
لم يحبها نيال , لكن العالم لم ينته لمجرد أنه أوضح لها ذلك , وإن كانت تشعر أحيانا بأنه انتهى فعلا .
لم يأت لرؤيتها مرة أخرى أثناء وجودها في القسم ولم يدهشها هذا .
فقد قام بواجبه حين زارها وانتهى الأمر عند هذا الحد . أتراه علم بأنها قدمت استقالتها ؟ وأخذت تتساءل عن هذا فجأة . واوشكت أن تضحك بصوت عال . ولماذا يهتم بها ؟ فهي , برحيلها , ترتاح وتريحه هو أيضا . فنيال لا يريد ما يذكره بها , كما أنها لا تريد ما يذكرها دائما بمدى ندمه على مضاجعتها .
جالت في أنحاء المنزل شاعرة بالكدر , وحاولت العثور على ما يصرف ذهنها تلك الأفكار الحزينة . لقد ألحت عليها إيلين روبرتس مديرة المستشفى , كي تأخذ إجازة مرضية بقية الأسبوع , مما جعل الأيام الممتدة أمامها خالية حزينة . كانت متلهفة الى الانفراد بنفسها ولكنها , عندما أصبحت وحيدة , شعرت بأن الفراغ يدفعها للبكاء .
وفي محاولة لملء الفراغ , قررت الشروع في فرز ما تريد حمله معها الى لندن . ستحتاج الى استئجار شاحنة صغيرة لنقل الأثاث . لكن هناك التحف والأواني الصينية والأشياء الأخرى التي جمعتها خلال السنوات القليلة الماضية . كل هذا يجب فرزه والتخلص من التافه منه . لكن , وبعد نصف ساعة , شعرت بالتململ والضجر من البقاء محبوسة في بيتها .
كان الطقس قد تغير , وهب نسيم بارد من التلال فانخفضت درجات الحرارة . ارتدت سترة سميكة , ثم خرجت في نزهة على الأقدام , آملة أن يخفف ذلك من ضجرها . سارت من جديد نحو النهر ووقفت على الضفة تنظر الى المياه المتدافعة عند قدميها . ولم تدرك أنها تبكي حتى شعرت بتبلل خديها . عندما ستترك المستشفى سينتهي كل شيء , لن ترى نيال مرة أخرى . كيف ستتمكن من احتمال ذلك ؟
- لا تبكي يا حبيبتي !
قطع صوته أفكارها التعيسة وجعلها تستدير بسرعة , أوشكت معها على الانزلاق الى النهر , إلا أن نيال مد يديه وجذبها اليه محتضنا إياها لتلتصق بجسده الصلب . ونظر نيال اليها بعينين مرحتين وقال :
- يبدو لي أنك بحاجة الى من يعتني بك , أيتها الممرضة هاريس .
حاول أن يجعل نبرة صوته مرحة , لكنه فشل في ذلك , وأحست سارا بتوتر كل عصب في جسمها .
نظرت اليه مذهولة :
- هل ... هل هذا عرض منك يا دكتور جيلسبي ؟
ضحك ضحكة عميقة , رقيقة وحنونة بحيث أنعشت كيانها, كان يمسكها بين ذراعيه بقوة وكأنها سف تطير من بين يديه يداعب خصرها كما يداعب أوراق الزهرة. وهي تنظر اليه بعينين متلألئة بدموعها حينها قال :
- نعم , إنه كذلك ! ويبدو لي أنه كان علي القيام بذلك منذ زمن طويل .
- نيال !
فأطبق بشفتيه على شفتيها فغاب اسمه في خضم المشاعر التي غمرتها عندما أحست بطعم شفتيه. آه كم اشتاقت اليه , ملأت البهجة قلبها الى حد شعرت معه بأنه يكاد ينفجر .
وابتسمت عندما رفع رأسه وفي عينيه الذهول نفسه المرتسم في عينيها :
- أحبك سارا ! وقد كنت أكبر مغفل حين لم أدرك ذلك من قبل , لكنني أحبك أعشقك وأهيم بك !
- وأنا أحبك , يا نيال .
حدقت في عينيه الخضراوين العاصفتين , وهي تمرر أصابعها بنعومة على شفتيه كي يدرك أنها تعني كل حرف قالته :
- أحبك أكثر مما يمكن لأي شخص أن يحب .
- يا حبيبتي ,ولم يكمل بل أطبق بشفتيه على شفتيها وهو يحتضنها ممررا يديه على جسدها كما لو أنه خائف ألا تكون حقيقة وأنها بقربه وتشاركه حبه وتريده كما يريدها .
وتنبها الى ما يدور حولهما , حين تناهت الى سمعهما أصوات الأولاد الذين كانوا يصيحون ويلعبو ن بالقرب منهم .
تركها نيال من بين يديه وهو ينظر الى ملعب الأولاد شزرا :
هممم ... يبدو أن هذا المكان يعج بالناس . هل منزلك بعيد يا سارا ؟
- آه , إنه قريب جدا .
وابتسمت له ابتسامة عريضة , وهي تدس يدها في يده ليستديرا عائدين . درا حول الملعب . ثم توقف نيال وقد ظهرت على ملامحه كآبة خفيفة وهو ينظر الى الأولاد .
قال لها بهدوء :
- ربما ذات يوم يا سارا , سيلعب ابننا هنا .
وكان هذا كل ما تاقت إليه نفسها . أحلى وعد بالحياة , عربون الالتزام الكامل . مدت يديها نحوه لتضعها على وجنتيه وشعرت بقلبها يمتلىء حبا وحنانا وهي تقول :
- هذا محتمل أكثر منه مستحيلا , يا حبيبي .
عادا الى بيتها يدا بيد . وأغلقت سارا الباب خلفهما , فجذبها اليه حاملا إياها الى الأريكة الجلوس ووضعها عليها ليستلقي بجانبها رفع نفسه قليلا ليصبح وجهها مقابل وجهه وتلتقي نظراته بنظراتها خفق قلبها بقوة حين أطبق فمه بنعومة على عنقها ورا ح يقبلها وهي ترتجف بين ذراعيه منتشية بحبه , راح يزيح السترة عن جسدها لتتخلله يديه صدرت عنها تمتمة ناعمة باسمه وبيديها أخذت تفك أزرار سترته لتمرر بعد ذلك أطراف أصابعها على شعر صدره .
كانت مشاعرها تماثل مشاعره قوة . فهو نورها , دفئها , حياتها ... وسبب وجودها .
* * *
أخذ يحدق في عينيها بحب عارم شعرت إزاءه بغصة في حلقها .
- أحبك , يا سارا .. أحبك أكثر مما أحببت أي امرأة أخرى.
همست وهي ترتجف , لا تكاد تصدق ما يقوله :
- حتى ... حتى اليسون ؟
وأجاب :
- نعم , حتى أليسون . لقد نشأنا أنا وأليسون معا . وماكنت أشعر به نحوها مختلف تماما . وقبلها على أنفها , وأكمل لقد أحببتها فعلا لكنني لم أكن مغرما بها . لم أشعر معها قط بمثل ما أشعر به معك الآن ...
كلامه هذا خدر احاسيسها و وصرف ذهنها عن أي شيء في العالم باستثناء حبهما الجديد المتكامل . هذا الحب الذي سيدوم الى الأبد .
فكل ما أرادته في حياتها وكل ما حلمت به جسَّده نيال وحبه .
لم يحاول أخفاء رغبته وتملكه حين راحت قبلاته الساخنة تنهال على وجهها وجسدها لذا شعرت بقلبها ينتعش.
ضحك للتعبير الذي بدا على وجهها .
- ما رأيك بغرفة نوم مميزة فيها سرير ضخم ؟
- أنا ... أنت ...
وتنفست بعمق وهي تسأله :
- هل هذا عرض زواج , يادكتور جيلسبي .
- نعم .
ورفع حاجبه بغطرسة وأضاف :
- أظنني أعلم الجواب مسبقا , لكن من المفروض أن أسمع منك الجواب بالقبول .
ضربته بنعومة على صدره قائلة وهي تبتسم بعبوس خفيف :
- لماذا , أنت ... أيها المغرور .
- نعم أم لا ؟ هيا , قرري الآن هل ستتزوجينني ؟
- حسنا , إن كان هذا سيمنعك من التصرف كرجل الكهف ...
وتنهدت بلهجة مسرحية وأضافت :
- أظن أن علي ان أقول نعم .
- هذا حسن . وأعلمك أنه لم يكن لدي النية لقول ( لا ) كجواب . كان نيتي ان أقنعك بكل الوسائل الممكنة .
وسرت قشعريرة في جسمها وهي تتلمس للعاطفة التي حملها صوته , وقالت :
- هممم ... جعلني قولك هذا أتمنى لو أنني تمنعت قليلا .
- آه , لا تقلقي , تستحقين الآن مكافأة لأنك لم تجعليني أنتظر . وأنت الرابحة من كافة النواحي , يا سارا .
احتضنها من جديد وهم أن يقبلها لكنه تردد بشكل خفيف , فقالت له :
- إن خسارتي الوحيدة هي ألا تحبني يا نيال .
فرد معترفا بهدوء :
- لكنني أحبك لقد أغرمت بك منذ عهد طويل , منذ ذلك اليوم قرب النهر . كنت ... كنت فقط خائفا من أن أواجه مشاعري لأنني كنت أشعر بالذنب حيالها .
- حيال أليسون ؟
- نعم .
وتنهد , وتابع يقول :
- بدا أنه ليس من العدل أن أحب وأسعد مرة أخرى وهي ميتة . شعرت بالذنب فلو لم أصطحب أليسون ألى أفريقيا وأجعلها تحمل طفلي , لبقيت حية حتى اليوم . لقد أقسمت على ألا أضع امرأة أخرى في مثل هذا الموقف , وعلى أن أبقى بعيدا عن أية علاقة شخصية , كي لا أجازف مجددا.
فقالت وقد كرهت أن تسمع منه ذنبك هذا الكلام :
- لكن الذنب لم يكن ذنبك يا نيال .
ورفعت رأسها لتنظر الى وجهه , وسرها أن يتقبل قولها باسما .
- انني أدرك ذلك الآن . لكنني قبل أن أتعرف إليك لم أسمح لنفسي بأن أفكر في ذلك بتعقل . ولم يكن ذلك صعبا . فلم أكن بحاجة الى القيام بذلك , حتى تعرفت اليك سارا . كنت قانعا بالبقاء وحيدا بقية حياتي , فلا يرافقني سوى عملي , وأدركت مدى خطرك على توازني النفسي منذ رأيتك للمرة الأولى في غرفة الممرضات . لكنني صممت على مقاومة مشاعري لأنني شعرت بالذنب .
- ظننتك ما زلت مغرما بأليسون ولا تحتمل التفكير في امرأة أخرى في حياتك .
عندما اعترفت بذلك بهدوء , رأته يجفل . وأجاب :
- لا . كل ما أخبرتك به صحيح ... لقد أحببت أليسون . كانت دوما جزاءا من حياتي , وكانت فتاة حلوة رقيقة . لكنني لم أحبها بقدر ما أحببتك يا سارا . لم أبتعد عنك لأنني لا أستطيع أن أحبك بقدر ما أحببتها , ولكن لأنني أدركت كم يمكنني أن أحبك ! وهذا ما جعلني أشعر بالذنب , لهذا صممت على وضع حد لذلك .
فسألته باسمة :
- فهمت . لكن ما الذي جعلك تغير رأيك ؟
- سمعت أنك قدمت استقالتك ! فأدركت فجأة أنك ستخرجين من حياتي الى الأبد وأنني لن أراك أبدا . وعدت عقلي بعد اصابتك تلك , مما دفعني الى بذل الجهد لأرى نتيجة تصرفاتي معك .
وضحك فبدا صبيانيا ووسيما وجذابا , وتسارعت خفقات قلب سارا . قال :
- كان لدي اجتماع عمل بعد ظهر اليوم , لكنني أرسلت اعتذارا الى مجلس الإدارة . وتحججت بأن لدي أمرا هاما مستعجلا أقوم به , ثم جئت الى هنا مباشرة . ولم أكذب .
تحول ضحكها الى آهة محمومة عندما باشر بتقبيلها , وأغمضت عينيها وقد جرت حمى المشاعر الجياشة في كيانها . نيال على صواب , فما من حاجة ماسة أكثر الحاحا من الحب !
-

 
 

 

عرض البوم صور arewa   رد مع اقتباس
قديم 29-06-08, 08:20 PM   المشاركة رقم: 20
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Oct 2007
العضوية: 45653
المشاركات: 214
الجنس أنثى
معدل التقييم: arewa عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 30

االدولة
البلدMorocco
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
arewa غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : arewa المنتدى : روايات احلام المكتوبة
افتراضي

 

تمت بحمد الله

 
 

 

عرض البوم صور arewa   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
أحلام, دار الفراشة, جينيفر تايلور, jennifer taylor, روايات, روايات احلام, روايات احلام المكتوبة, روايات رومانسية, سيد الصقر, tender loving care
facebook




جديد مواضيع قسم روايات احلام المكتوبة
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t82248.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Ask.com This thread Refback 19-08-15 10:53 PM
Untitled document This thread Refback 26-04-10 10:05 PM


الساعة الآن 06:11 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية