8- وحدهما وسط الزحام
مرت الليلة بهدوء تام , باستثناء حادثة غريبة نسبيا . كانت سارا تنقل مريضة الى القسم في ساعات الصباح الأولى , بعد ولادة طبيعية .
وبعد أن أعطت تعليماتها تركت القسم وتوجهت نحو المكتب . كان أمامها نصف ساعة قبل أن ينتهي دوامها , وهو وقت كافي لكتابة التقرير الليلي والاستعداد لتسليم العمل الى الممرضات الأخريات .
اعتادت إيرين أن تقوم بهذه المهمة , لكنها منشغلة بولادة أخرى , فقررت سارا أن تتولى الأمر عنها . كانت على وشك الدخول إلى المكتب عندما انفتح الباب من الداخل وبرزت تريشا .
تملكت سارا الدهشة للحظة , قبل أن تقول :
- ما الذي يجري , يا تريشا ؟ ماذا تفعلين في المكتب ؟ تعلمين أنه لا يسمح للمرضى بذلك من دون أن ترافقهم ممرضة .
قالت تريشا بسرعة :
- آسفة .. كنت .. أريد أن أستعمل الهاتف .
وراحت تنظر الى الممر المظلم متجنبة نظرات سارا .
- في هذا الوقت المبكر ؟
لم تحاول سارا إخفاء عدم تصديقها . فدارت حول تريشا ونظرت جيدا في أنحاء الغرفة , ولكن كل شيء بدا منظما . فالأوراق على المكتب كما هي , وخزانة الأدوية مقفلة دوما كعادتها .
ألقت على المرأة نظرة فاحصة , وقد لاحظت عليها بعض الاضطراب . أتراه الشعور بالذنب لأنه ما كان عليها أن تدخل الى المكتب مهما كانت الظروف ؟ أم لأنها تكذب بالنسبة الى سبب دخولها ؟ وكان من المستحيل اكتشاف الحقيقة .
- اسمعي , أنا آسفة . ما كان علي أن أدخل . لكني أردت الاتصال بغاري وحسب .
- أرأيت ؟ لم ألمس أي شيء هنا .
فتنهدت سارا . كان غاري وراء كل هذا مرة أخرى , وإن لم يكن بشكل مباشر . ورأت أن لا فائدة من إحداث جلبة وإقلاق المريضات . فستخرج تريشا من المستشفى في اليوم التالي , وهكذا سيتخلصون منها ومن غاري .
انتظرت الى أن ذهبت تريشا الى سريرها , ثم دخلت المكتب وأخذت تتفحص الأدراج والخزائن بدقة . لكنها لم تجد شيئا مريبا . وبدا لها أن تريشا قالت الحقيقة , أما سبب حاجتها الماسة الى الاتصال في مثل هذا الوقت , فقصة أخرى . وكانت قصة لم تشأ سماعها فقد رأت منهما ما يكفيها .
كتبت التقرير , وسلمته الى الممرضات العاملات نهارا فور وصولهن ثم غادرت المستشفى متنهدة بارتياح . لم تأسف لانتهاء مناوبتها ليلا لهذا الأسبوع , وتمنت أن تكون الأمور أسهل حين عودتها بعد أيام . ولم يكن العمل ليزعجها أبدا إنما أمر آخر مختلف تماما ... إنه رجل طويل القامة داكن الشعر ذو جاذبية مثيرة , ويدعى الدكتور جيلسبي إذا ما أردنا التحديد أكثر .. !
***
وإذ قررت سارا أن تستمتع ببعض الراحة , وتخصص بعض الوقت لنفسها , قامت بأقل ما يمكنها من الأعمال المنزلية خلال أيام إجازتها الثلاثة . وأمضت وقتها في السباحة وقراءة الصحف , أو النزهات الطويلة سيرا على الأقدام .
قصدت النهر وسلكت الدرب الذي سارت فيه مع نيال ذلك الصباح . لكنها دهشت لعدم استمتاعها بذلك . أشياء كثيرة ذكرتها بما حدث بينهما هناك , وأسئلة كثيرة تزاحمت في رأسها .
عادت الى العمل وهي تشعر براحة اقل مما كانت ترجو. أما عزاؤها الوحيد فانشغال نيال با جتماعات العمل , حيث استحوذت قضية افتتاح وحدة جديدة في قسم الولادة على اهتمامه , وهكذا لم تكن معرضة للقائه حيثما توجهت , لكنها ما لبثت أن أدركت بعد ساعات أنها اشتاقت اليه .
شعرت بالراحة عندما لاحظت أن حمى العمل في القسم تتراجع مما يتيح لها الوقت للتفكير . حضرت أمهات جديدات للولادة فتم إدخالهن الى المستشفى , فيما خرجت أخريات . وغادرت تريشا وجويس ديننغ التي افتقدها الجميع , لاسيما أرييل التي كانت تتماثل للشفاء . توجهت سارا الى غرفتها قبل الغداء , فوجدتها تنظر بكآبة . سألتها وقد لاحظت انقباضها :
- كيف حالك الآن ؟
بدت أرييل كئيبة , فصممت , في ذهنها على مناقشة موضوعها مع الدكتورة مينا , فالممرضات يعرفن سهولة انزلاق الأمهات الى هاوية الكآبة . ويعود ذلك جزئيا الى التغيير المفاجىء بعد الولادة , والى تغير الهرمونات . وكانت أرييل بحاجة الى مراقبة ومتابعة , تحسبا لأي طارىء ...
- لابأس , كما أظن . سأمضي أسبوعا آخر , على الأقل , قبل أن أتمكن من الخروج . هذا ما قالته الدكتورة بيتل هذا الصباح .
وتنهدت آرييل مجددا قبل أن تعاود التحديق من النافذة وأضافت :
- أتمنى أن أحمل ستار معي , لكنها لا زالت غير قادرة على مغادرة العناية الفائقة .
قالت سارا تشجعها :
- إقامتها لن تطول , فصحتها في تحسن مستمر .
- أعلم ذلك . لم يكن لدي أدنى فكرة ...
وعضت على شفتيها عندما إنهمرت الدموع من عينيها .
- يجب أن لا تلومي نفسك . فهذا لن يفيدك .
وتقدمت نحو المرأة تحتضنها وهي تضيف :
- عليك الاعتناء بنفسك لتصبحي قادرة على العناية بستار عندما تخرج من المستشفى .
- هذا ما قاله لي الدكتور جيلسبي أمس .
وبدا أن أرييل لم تلاحظ تصلب سارا عند ذكر هذا الاسم , إذ تابعت تقول :
- قال لي إن علي أن أهتم بنفسي من أجل ستار .
- وهو على صواب طبعا .
وابتعدت سارا عن النافذة وأمسكت بلوح الملاحظات حول حالة أرييل , محاولة التركيز على ما دون عليه بدلا من الاستماع الى دقات قلبها التي تسارعت لمجرد ذكر إسم نيال جيلسبي .
كان ضغط دم آرييل طبيعيا , ولم يكن هناك ما يدل على أنها ستتعرض لمزيد من النوبات . بقيت المرأة تحت المراقبة الشديدة خوفا من إصابة كليتيها بأي تلف فأعراض الإرجاج تؤثر بشدة فيها . وقد أظهر فحص عينات البول والدم ضرورة الاهتمام وجعل من الضروري إبقاء أرييل في المستشفى لمدة أطول بغية ملاحظة تطور حالتها .
وضعت لوحة الملاحظات من يدها ثم تقدمت نحو المرأة تحيطها بذراعها وتقول :
- يجب أن تفكري بإيجابية وفي ما ستفعلينه بعد ان تغادري المستشفى . تعلمين أنه ليس من الحكمة أن تأخذي ستار الى المخيم لأنها ستحتاج الى عناية كبرى في الشهور الأولى . فهل قررت شيئا ما ؟ هل هناك من سيساعدك ؟ أسرتك مثلا ؟
- لا ليس لدي أسرة . لقد نشأت في ملجأ .
مسحت أرييل دموعها بظاهر يدها وأكملت :
- لقد تناقشت مع جيسون في الأمر الليلة الماضية , وقررنا قبول عرض جويس حتى نجد مكانا لنا . عرضت علينا أن نقيم معها عندما أخرج من المستشفى . فزوجها رالف يدير مصبغة وقد عرض على جيسون وظيفة معه . سيجرب ذلك على أي حال .
هتفت سارا , وهي تفكر في هذا الحظ الحسن :
- آه هذا رائع .
لقد أثمر نقل جويس الى غرفة أرييل أكثر مما توقعوا فقد أقامت المرأتان علاقة صداقة جيدة , وساعد على ذلك تقبل أرييل لوضع سام من دون تردد .
منتديات ليلاس
وعندما خرجت الى الممر بعد دقائق , كانت لا تزال تبتسم . كان جميلا أن ينتج عن تلك الحادثة السيئة أثر جيد . وعندما تجاوزت غرفة الممرضات نظرت الى ساعتها فتملكتها الدهشة لأنها أدركت أنه وقت الغداء . وكانت قد أحضرت معها الشطائر ففكرت أن تأكلها في الحديقة فالطقس جميل .
وما إن استقرت على المقعد الخشبي حتى سمعت وقع خطوات خلفها . نظرت فكاد قلبها يتوقف عن الخفقان وهي ترى نيال . عندما رآها , توقف , وتردد لحظة قصيرة كانت كافية لكي تشعر بأنه لم يسر لرؤيتها هناك .
أخفضت بصرها وتظاهرت بانشغالها بلفافة الشطائر , فبذلك لا يضطر الى محادثتها فقد بدا جليا أنه يكره الفكرة .
- سارا ؟
كان صوته مزيج من الاستفهام والمرح , سمرت ناظريها على اللفافة في حجرها , وركزت على نزع الورق اللاصق عنها . لم تشأ أن تلتفت الى تينك العينين الباردتين فترى ما تتوقع رؤيته ...
- انظري الي يا سارا .
جاء صوته حازما , ويده التي امتدت لترفع لفافة الشطائر عن ركبتيها جامدة كالصخرة .
ابتلعت غصة الألم في حلقها وهي تجاهد لتجد ما تقوله , فيجب أن تقول كلمة يفهم منها الدكتور نيال جيلسبي منها أنها لا تبالي بشعوره نحوها !
وكانت على وشك النطق بكلمة باردة , حين رفعت وجهها لتقابل عينيه الباردتين الخضراوين ... ولكنهما لم تكونا باردتين كما توقعت !
ساد بينهما صمت قصير شعرت معه سارا وكأن قلبها توقف عن الخفقان . وراحت تتساءل عن معنى تلك النظرة في عيني نيال . ثم تحركت يده لتلامس خدها بنعومة جعلتها ترتجف كورقة في الخريف وأخذ يمررإصبعه على شفتيها تمنت في تلك اللحظة أن تلامس خده كما فعل معها لكن الخجل جعلها لا تحرك ساكنا ثم وقبل أن تستوعب ما يجري , أشاح وأنزل يده الى جانبه , تاركا إياها تتخبط في بحر الحرمان والألم .
- يتعلق الأمر بما جرى , ذاك اليوم , قرب النهر أليس كذلك يا سارا ؟
دفع بشعره الى الخلف بصبر فارغ , ولم تتمكن من لومه على شعوره هذا . فلم لا تنفك تحمل المسألة أكثر مما ينبغي ؟
وشرعت تقول : " لا أدري ما تعنيه .. " .
فقاطعها : " إياك .. إياك أن تكذبي علي يا سارا . فهذا ما لا أحتمله وهو أهم شيء بنظري " .
أهم شيء ؟ ما الذي يعنيه ؟ حدقت ببلادة , وتأملت العذاب الذي بدا جليا على ملامحه من دون أن تفهم سببه .. ثم هبت واقفة فجأة وقالت :
- أنا أعتذر , يا نيال .
بان الازدراء في صوتها لكنه بالكاد , أخفى ألمها وهي تضيف :
- لم أدرك أنك تشعر بهذا القدر من الذنب إزاء ما حدث .
- الذنب ؟
وتقدم نحوها قليلا حتى كاد يصطدم بها . وعندما ردد ذلك السؤال , تنبهت الى ما قالته , وأدركت على الفور أنها لا تود الاستمرار في هذا الحديث .
سألها بخشونة :
- أشعر بالذنب ؟ ما معنى ذلك بحق الله ؟
- لاشيء . إنس ما قلته . أنا .. أنا لم أعن ذلك .
وسرعان ما اندفعت بعيدة عنه , وهرولت مسرعة نحو طريق الحديقة الضيق . ناداها باسمها -مرة واحدة , بصوت يكاد لا يعلو على صوت وقع خطواتها على الحصى , لكنها لم تتوقف .
ما الفائدة ؟ وماذا ستقول له ؟ أنها تشعر مثله بالأسف على تلك اللحظات عند النهر ؟
خنقت ضحكة مرة وهي تدخل المستشفى . سيكون ذلك كذبا ! لقد قال لها إنه لا يريدها أن تكذب عليه ما لن تخبره أيضا ان نظراته تلك أصبحت هاجسها الوحيد وستبقى كذلك . فلا بد أنه لا يود سماع هذه الحقيقة .
***
- حسنا , كل منكم يعرف ما عليه أن يفعله .
ونظرت إيرين الى الجمع المحتشد وأضافت :
- علينا أن نشق طريقنا في هذا الجمع . وبعد أن يمر الموكب , سيعود كل منكم الى سيرته عند ... فلنقل عند الساعة العاشرة تقريبا .
قالت هيلين ضاحكة :
- لم لانضبط ساعاتنا على وقت واحد ؟ فهكذا نصل في الوقت نفسه .
- يا لك من امرأة سليطة اللسان !
ومدت إيرين يدها لتقرص أذنها , وضحكت حين تهربت صديقتها , ثم أضافت :
- انني أحاول التأكد من أنكم ستحصلون على حصة عادلة من مقصف العشاء الذي أعددته . فأنا أعرفكم كلكم , تأخذون الأمور بالمزاح والتهكم , وبعد ذلك لا تلومون سوى أنفسكم !
ضحك الجميع , وتوجهوا نحو الطريق الذي سيمر به موكب المشاعل , والمؤدي الى وسط المدينة . دهشت سارا وهي ترى عدد المدعوين الى حفلة إيرين , ساد جو من الضحك والهزل بينهم وهم متوجهون الى مركز المدينة .
تمنت لو تستطيع أن تتفاعل معهم , لكنها لم تحضر إلا خوفا من استياء إيرين . فمنذ تلك المواجهة بينها وبين نيال , منذ أسبوعين , لم تعد تشعر بالحماسة حيال أي شيء .
- هل أنت واثقة من أنك بخير , يا عزيزتي سارا ؟ هل هناك ما أثار إشمئزازك ؟
ابتسمت وهي تلاحظ الاهتمام البادي في صوت إيرين , وأجابت :
- لا , إنني منهكة وحسب .
- هل أنت واثقة من ذلك ؟
والتفتت إيرين الى الوراء , ثم لوحت لزوجها الذي كان ينتظرها . عادت تتأمل سارا وتقطب جبينها قائلة :
- لقد لاحظت أنك هادئة جدا مؤخرا , فإن كان هناك ما يشغل بالك فأخبريني ... أنت تعلمين ذلك , أليس كذلك ؟
- نعم شكرا يا إيرين . وكما قلت لك , أظنني منهكة قليلا , قد أطلب إجازة .
- فكرة حسنة . اقضي عطلتك في منطقة حارة حيث الشمس والبحر والرمال و ...
ضحكت سارا , وقالت : " صورة جميلة " .
لم تشأ أن تجعل إيرين تتكهن بمشاعرها , فالشخص الوحيد الذي يهمها أن تكون معه لا يريد حتى أن يشعر بوجودها .
نظرت حولها , بحثا عن عذر للتهرب من مزيد من النصائح .
- آه أنظري .. هذا مايك . سأكلمه . أراك فيما بعد .
وأسرعت من دون أن تنتظر جواب إيرين , لكنها ما إن غابت عن نظر صديقتها , حتى حولت وجهتها , فآخر ما كانت تريده هو أن تمضي السهرة مع مايك لتشعر بمزيد من الذنب . وقد دعاها للخروج معه مرات عدة في الأسبوعين الأخيرين , لكنها رفضت الدعوة كل مرة . إذ لم يكن من الإنصاف أن تعطي مايك الأمل في شيء لن يكون .
وسرعان ما غابت بين الجموع المحتشدة للتفرج على الموكب والاشتراك فيه . رأت مشاعل من مختلف الأشكال والأحجام , بعضها معقد التصميم , مما جعل من الصعب على المرء أن يصدق أنها مصنوعة من الخيزران أو خشب الصفصاف أو من مناديل ورقية بيضاء .
قصد الكثير من صبية القرية ورش العمل قبل موعد الموكب بأسابيع ليصنعوا مشاعلهم . وها هم يحملونها عاليا مزهوين بها , والشموع في داخلها تلقي بوهجها نحو السماء المظلمة . ساد جو من الإثارة في كل مكان , لكن سارا شعرت بأنها بعيدة عن هذا الصخب . بدا وكأنها فقدت مؤخرا , قدرتها على الاستمتاع بحياتها . ولحسن الحظ , كان نيال مشغولا جدا فاقتصر الوقت الذي أمضاه في قسم الولادة على الاستشارات .
وكانت قد ساعدته في كل عملية قيصرية أجراها , وجاهدت كي لا تظهر له مشاعرها على الاطلاق . ولا يعني هذا أنه ألمح الى ما حدث لكنها , على أي حال , لم تمنحه الفرصة لذلك . فهي لم تشأ أن تثير موضوع ما عنته حين اتهمته بأنه يشعر بالذنب .
- سارا .. سارا !
وقفت مكانها حين سمعت أحدا يناديها . والتفتت حولها لتبتسم وهي ترى لورا و إيان يتقدمان نحوها من بين الحشود وما كادت تسلم عليهما , حتى شعرت بجسد صغير يرتمي عليها , فضحكت وهي ترفع روبي عاليا وتحتضنه , هاتفة :
مرحبا يا أشعة الشمس .
أخذت تقبله ضاحكة عندما إحتضنها بشدة . وكان روبي يحب كل من يتعرف إليه . أخذت لورا إبنها من بين ذراعي سارا وهي تضحك وتقول :
- ستخنق سارا المسكينة بهذا الشكل . تعال , يالها من تحية ! لكنها تثبت أننا لم نرك منذ فترة طويلة . فماذا فعلت في هذه الأثناء ؟
- آه , لا شيء يذكر . كيف حالك يا إيان ؟
طرحت سارا سؤالها حين تقدم من بين الجموع . كان يحمل مشعلا على طرف عصا طويلة , وعندما سألته عما يمثله , قطب حاجبيه قائلا :
- إنها سيارة . وقد صنعها روبي بنفسه .
- إنها جميلة . يالك من صبي ماهر !
وضحكت وهي تعبث بشعر روبي , ثم جمدت شفتاها حين رأت الرجل القادم نحوها , من خلف أصدقائها . حدقت في نيال فاختفى كل من لورا وإيان والحشد كله ...
أخذت نفسا عميقا , فعاد كل شيء , فجأة , كما كان . وجه روبي الضاحك , تقطيبة لورا المستفهمة التي التفتت لترى ما الذي استرعى انتباه سارا ..
قال نيال معتذرا :
- أرجو ألا أكون قد قاطعتكم . رأيت سارا صدفة , وأنا أحتاج الى التحدث اليها , إن لم يكن لديكم مانع . بالمناسبة أنا نيال جيلسبي , المستشار الجديد في المستشفى .
فقال إيان وقد مد يده مصافحا :
- تشرفنا بمعرفتك . أنا إيان غريدي وهذه زوجتي لورا وهذا الشاب هو روبي .
- سمعت الكثير عن روبي في المستشفى .
وضحك نيال عندما ألقى روبي بنفسه بين ذراعيه على الفور , وحمل الطفل , قائلا :
- مرحبا روبي , أنا نيال .
- نيا ...
وأخذ روبي يجاهد ليلفظ الاسم الغريب , وقد سره أن يجد صديقا جديدا . لم ينتبه للصمت القصير الذي ساد , لكن سارا أحست به بقوة . فالتفتت الى لورا فأدهشها النظرة المقطبة التي رمقت بها نيال . قالت لورا فجأة :
- لدي شعور غريب بأنني رأيتك من قبل .
ثم ضحكت بارتباك وأضافت :
- من حسن الحظ أنني امرأة متزوجة وسعيدة بزواجي والا لفهمت الأمر خطأ .
فأجاب نيال باسما :
- يا ليت ! لكني واثق من أنني كنت لأتذكرك لو تعارفنا من قبل , يا لورا .
جاء رده مهذبا , لكن سارا لاحظت فيه توترا مفاجئا , مما أثار فضولها على الفور . ما الذي جرى لنيال ؟ ولماذا إنزعج حين ظنت لورا أنها تعرفه ؟
ولم تجد الوقت الكافي لتحليل هذه الرموز , إذ التفت اليها وسألها :
- نسيت أن أسأل عن الوقت الذي سنجتمع فيه لنتوجه الى منزل إيرين ؟
فتمتمت وقد انقبض قلبها :
- الــ ... العاشرة .
لم تعتقد أنه سيحضر الليلة . وفكرة أن تمضي السهرة معه , جعلتها تسعى لإيجاد طريقة للهرب .
- أراك هناك إذن .
وابتسم لها ابتسامة باردة جامدة قبل أن يعيد روبي الى والديه . لكن ظهر في ابتسامته تلك لمسة خفيفة من التحدي . وراحت تتأمله وهو يشق طريقه بين الجمع , متسائلة عما إذا كان هناك طريقة تتجنب بها حضور الحفلة ...
قالت لورا متنهدة :
- أتمنى أن أتذكر أين رأيته من قبل . عندما ذكر اسمه بدا لي مألوفا , لا كنني لا أستطيع أن أتذكر وهذا ما يغيظني .
ضحك إيان وقال :
- همممم ... من حسن الحظ أنني لست رجلا غيورا , وإلا أقلقني اهتمامك بهذا الطبيب .
أجابت ببساطة تعكس سعادتهما :
- أنت تعلم أني لا أفكر في أحد سواك يا حبيبي .
ثم أضافت :
- ولكنني واثقة من أنني سأتذكر أين تعرفت الى نيال جيلسبي من قبل .
قال إيان :
- هذا ما يحدث عادة . فما إن أغمض عيني حتى توقظني بضربة من كوعها لتخبرني بما تذكرت لتوها . وبعد ذلك تنام هي قريرة العين فيما أبقى أنا مستيقظا طوال الليل .
ضحكا , وشاركتهما سارا الضحك رغم حيرتها لما حدث للتو . كان تصرف نيال غريبا عندما ذكرت لورا أنهما تقابلا من قبل ... لقد ترك الأمر يمر ببساطة لكنها شعرت بانزعاجه . ولم تجد فرصة لتعيد التفكير في ذلك لأن روبي استرعى انتباههم , وطلب أن يحمل مشعله .. عندما بدأ الاستعراض , جابوا في المدينة , فرافقتهم سارا , وقد حمل روبي مشعله مزهوا به . وبعد ذلك أقيمت الألعاب النارية في الحديقة العامة فبقيت مع لورا وإيان لمشاهدتها , مع أن عقلها لم يكن يسجل ما يجري إلا جزئيا , وراحت أفكارها تسبقها الى الحفلة التي ستقام فيما بعد .
ترى هل سيثير نيال موضوع ما قالته في الحديقة ذلك اليوم ؟ أم سيفضل تناسيه ؟ لقد أشاع الاضطراب في نفسها منذ قابلته . وتنهدت وهي تنظر الى صاروخ انطلق نحو السماء وانفجر ثريات من النجوم الحمراء والذهبية . يوما ما , ستفهم سبب تأثير نيال فيها .. وتملكها شعور بأن الجواب سيحمل معه الكثير من المشاكل .
استغرقت عودة سارا الى حيث ركنت السيارات وقتا طويلا , فقد كانت الزحمة خانقة حتى استحال على المرء في بعض الأحيان , شق طريقه فيها . وأخيرا نجحت في ذلك , وهي لا تزال تفكر في عذر تختلقه لئلا تذهب الى منزل إيرين . إن قضاء الحفلة برفقة نيال هو ما ودت تجنبه في الوقت الحالي .
هتفت هيلين حين رأتها :
- كنا على وشك أن نفقد الأمل . تقدمتنا إيرين مع معظم المدعوين لكننا قلنا إننا سنقلك معنا .
وألقت هيلين نظرة ارتياب الى مقعد السيارة القديمة الخلفي , ثم أضافت :
- ولكن المكان سيكون ضيقا . جمعنا المزيد من الناس أثناء الاستعراض .
وشرعت سارا تقول , متمسكة بالفرصة السانحة لها :
- هذا غير مهم . اسمعي يا هلين لا أظن ...
سأقل بنفسي سارا وأي شخص آخر يحتاج الى ذلك , طبعا .
استدارت بسرعة عند سماعها صوت نيال , وفتحت فمها لترفض العرض , لكن هيلين سبقتها بالقول :
- هذا عظيم ! وسيسهل الأمور كثيرا . وما من شخص آخر تقله لأننا تدبرنا أمرنا . الى اللقاء هناك .
لوحت هيلين بيدها بسرعة , وقفزت الى سيارتها ثم صفقت الباب لتنطلق بهم السيارة . وحاولت سارا أن تفكر في شيء تقوله فلم تفلح , ولم تكن تستطيع أن ترفض عرضه من دون عذر مناسب.
- جاهزة ؟
فتح نيال باب سيارته وانتظرها , ولم يكن أمامها خيار آخر , فصعدت الى جانبه . ساد الصمت بينهما في الأميال الأولى التي قطعاها قبل أن يتركا المدينة . وكان نيال يركز اهتمامه على الزحام أما سارا فكانت تحاول عدم التفكير في شيء معين . وفضلت الجلوس صامته , على أن تخاطر بقول ما لا ينبغي أن تقوله .
- اسمعي يا سارا , علينا أن نتفاهم على بعض الأمور , بدءا مما حدث ذلك اليوم .
أجفلت حين اخترق صوته الصمت فجأة , وخفق قلبها بألم عندما سمعت ما قاله .
- ليس لدي فكرة عما تعنيه ...
راحت تقول هذا , متلهفة الى تجنب حديثه , لكنه قاطعها بفروغ صبر , وقال بخشونة :
- بل تعرفين . إنني مدين لك بتفسير , وربما كان علي أن أخبرك بذلك قبل ...
وسكت فجأة ثم انحنى الى الأمام ليحدق من الزجاج قائلا :
- ما هذا بحق الله .. ؟
- ماذا ؟
وأجفلت سارا وراحت تحدق في الطريق أمامهما . كان الظلام حالكا , بعد أن خلفا المدينة وراءهما . ولم تكن الطريق مضاءة , ولم يكن يبدد الظلام سوى مصباحي سيارتهما . في البدء , لم تر شيئا , لكنها ما لبثت أن لمحت ضوءا صغيرا أصفرا يتمايل بجنون وسط الطريق .
خفف نيال من سرعته , ثم ضغط بعنف على الكابح , وهو يتمتم شاتما عندما ظهر رجل أمام نور سيارتهما . كان يحمل في يده مصباحا كهربائيا وراح يلوح به في الظلام , ثم أتجه نحو السيارة راكضا حالما أوقفها نيال , وأخذ يتكلم بسرعة , وهو يلهث بشدة .
خرجت الكلمات متقطعة من فمه وهو يقول : " اخرج ... ساعدنا .. إنها زوجتي " .
فسأله نيال وهو يفتح الباب بسرعة :
- هل تعرضتما لحادث ؟
- لا . لا .
وأخذ الرجل يعب الهواء ويحاول أن يرغم الكلمات على الخروج من فمه مترابطة :
- ليس حادثا , تمزقت عجلة السيارة , والعجلة الاحتياطية مفرغة من الهواء . وزوجتي تلد .
استدار وراح يركض عائدا نحو سيارته , وكأنه يتوقع منهما اللحاق به .
- لم يساورني الشعور بأن هذا يحصل عمدا ؟