2- وهم أم خيال ؟
سارا .. تعالي الى هنا . لقد حجزنا لك مقعدا .
- شكرا . ظننت أنني لن أصل أبدا ! فاتني الباص , لهذا اضطررت للعودة الى بيتي والاتصال بسيارة أجرى .
اندست سارا قرب إيرين ثم ابتسمت للآخرين . كانت مجموعة كبيرة من الموظفين قد تجمعت في المقهى بجانب المستشفى لاحتساء العصير قبل التوجه الى حفلة الدكتور هندرسون التي تقام في فندق قريب .
ورأت هناك ممرضات من مختلف الأقسام ومن قسم الولادة أيضا .
- آه , لم أكد أعرفكن . أنتن رائعات من دون ثياب التمريض .
ضحك الجميع , ثم رفعت هيلين كأسها , وقالت :
- ماذا لو شربنا نخب أول ولادة أحضرها , نخب الطفلة هولي لويز .
- هولي .. لويز !
أخذ الجميع يردد هذا الاسم . والتفتت سارا حولها عندما دس شخص ما كوبا من العصير في يدها .
هاك .. خذي هذا لتبللي شعر الطفلة .
- شكرا يا مايك .
وابتسمت سارا لمايك داوسن الذي عين حديثا كطبيب متمرن في قسم الجراحة . أخذت جرعة من شرابها ثم رفعت صوتها ليعلو الضجة , وسألته :
- ظننتك في العمل الليلة ؟
- قررت أن أحضر الى هنا أثناء فترة استراحتي , لأرى ما استقر عليه رأيك بالنسبة الى مساء الغد . أتودين مشاهدة الفيلم الجديد الذي يعرض في سينما ريتز ؟
- بكل تأكيد .
ولم تفتها لهفة مايك وهو يرتب الأمور ليصطحبها في مساء اليوم التالي . وكان عليه أن يغادر بعد ذلك , وراح يضحك حين رأى الموظفين يغيضونه ويمازحونه لاضطراره الى العمل فيما هم يستمتعون بوقتهم .
لوحت له بيدها عندما وصل الى الباب , وهي تتنهد في داخلها متسائلة
عما إذا كانت علاقته بها قد تخطت الحد نوعا ما .
همست ايرين , وهي ترمقها بنظرة تحمل معنى مبطنا :
- كأنني أرى دلائل الحب . أتراها أجراس الزفاف التي أسمعها من بعيد ؟
فضحكت سارا , وأجابت :
- أشك في ذلك . مشكلتك , يا إيرين برينتس , أنك شاعرية لا أمل في شفائك . هل يعود السبب الى انك أمضيت ثلاثين عاما في نعيم الزواج , حتى بت تودين رؤية الجميع يسير على الطريق نفسه .
هزت إيرين كتفيها من دون أن تهتم بتعليق سارا , وقالت :
- لا يمكنني إنكار ذلك . ومايك فتى جيد , يا سارا , ومن الواضح أنه يميل إليك .
- هممم ... ربما . على أي حال , رقصة التانغو يلزمها شخصان , كما يقولون .
فتنهدت إيرين بأسف , وسألتها :
- أتعنين أنك لا تهتمين لأمره بالطريقة ذاتها ؟ من المؤسف يا سارا أنك صعبة الإرضاء , وفي هذه الحالة , لن تعثري أبدا
على الرجل الكامل والمناسب .
- إذن , سيكون علي أن أبقى عزباء , أليس كذلك ؟
وضحكت رغم أنها تعلم أن في كلام إيرين شيئا من الحقيقة .
فهي صعبة الإرضاء .. نعم لقد خرجت مع عدد من الشبان , بمن فيهم مايك , لكنها لم تجد بينهم من رغبت في قضاء بقية حياتها معه. ولم يكن هذا الأمر ليقلقها لأنها كانت واثقة من أنها ستجد يوما ما ذلك الشخص الذي يملأ حياتها .
جرعت من شرابها ثم حاولت أن تتصوره . هل سيكون أسمر أم أشقر ؟ طويلا أم قصيرا ؟
وأخذتالصورة المبهمة , التي كانت تتشكل في خيالها , تتضح , فسعلت لأنها غصت بشرابها , فجأة .. لم تعد ترى سوى عينين خضراوين , عينين بخضرة البحر ... تحت حاجبين سوداوين , تحدقان فيها .
- هل أنت مستعدة ؟
نبهتها إيرين الى أنهم مستعدون للانتقال الى مكان الحفلة , فأسدلت سارا ستارا على الصورة التي شغلت ذهنها , ووضعت كوبها جانبا . لا بد من وجود سبب جعل صورة نيال جيلسبي تتراءى لها في هذه اللحظة بالذات , ولا بد أن اللوم يقع على إرهاقها الذي جعل الطبيب البارد كالثلج يبدو في زي الرجل الكامل .
- أريد أن أشكركم جميعا من كل قلبي على هذه الهدية الرائعة .
وابتسم الدكتور هندرسون وهو يرفع بيده عدة صيد السمك التي أهداه إياها الموظفون , ثم أضاف :
- وكلما استعملتها سأتذكركم .
صفق الجميع عندما ساعد بعضهم الطبيب المسن على النزول عن الكرسي الذي إتخذه منبرا . ونظر الى سارا بأسف وهو يتناول كأس مياه معدنية , ويقول :
- لم أدرك من قبل صعوبة اتباع نصائح الطبيب . لكن ميغ ستشنقني إذا ما خالفتها وأكثرت من الأكل .
فضحكت سارا , واجابت :
- هذا لأنها تفكر في مصلحتك , يا دكتور .
فتنهد , وقال :
- أعرف , أعرف . وسأكون عاقلا , يا سارا . تلك النوبة القلبية التي أصابتني كانت تحذيرا بأن علي أن أحترس من الآن فصاعدا .
قطبت سارا جبينها عندما استعمل الرجل المسن التعابير التي استخدمها نيال جيلسبي عصر هذا اليوم . ونظرت حولها فإذا بها تراه في الناحية الأخرى من القاعة . واستغربت مثل هذا التوارد في الأفكار , فكلما فكرت فيه أثناء السهرة , كانت تراه على مرمى نظرها .
نظر حوله فجأة ثم قطب جبينه عندما لاحظ أنها تحدق فيه . وشعرت هي بالاحمرار يزحف الى وجهها , فأشاحته وهي تشعر بالارتباك لأنه تنبه الى أنها تحدق فيه بهذا الشكل . وأرغمت نفسها على التركيز على حديث الكتور هندرسون عن خططه لقضاء عطلته في صيد السمك في اسكوتلندا , ومع ذلك كانت تشعر بنظرات تخترق ظهرها بشكل غريب ...
- يمكنني أن أنصحك بأماكن جيدة عدة لتجرب فيها عدة الصيد تلك يا ريتشارد .
أجفلت متوترة حين ميزت ذلك الصوت العميق الذي سمعته خلفها . واهتزت يدها فأراقت الشراب على يدها , ثم عاد الاحمرار ليغزو وجهها وهي ترى نيال جيلسبي ينظر اليها . التفتت حولها بحثا عن طاولة تضع فيها كوبها عليها , ثم قفزت مجفلة مرة اخرى عندما أخذته يد ضخمة من قبضتها .
- اسمحي لي أيتها الممرضة هاريس .
وابتسم نيال جيلسبي ببرودة وهي تتمتم شاكرة . فتحت حقيبتها بسرعة لتبحث فيها عن منديل ورقي , شاعرة بنظراته تراقبها وبتلك الابتسامة الباردة نفسها ترتسم على وجهه .
تملكها ارتباك بالغ وهي ترى نفسها هدفا لعينيه الثاقبتين , وهذا جعلها تنثر نصف محتويات حقيبتها على الأرض وهي تنبشها بأصابع عصبية ... قلما أحمر , قرطان وحفنة م النقود المعدنية تبعثرت على الأرض وانتهت تحت منضدة قريبة .
التهب وجه سارا خجلا وهي تجلس القرفصاء لتجمع أغراضها .
واجفلت فجأة , عندما بدا وجهه قبالتها , وشعرت بقلبها يخفق بجنون ويمنعها من التفكير في ما قد تقوله , وتركت نيال جيلسبي ينقذ الموقف فقام بذلك على طريقته الخاصة وبلهجته الجافة الجامدة:
- أظن أن أحد قلمي أحمر الشفاه تدحرج حتى ذلك الكرسي هناك ... آه , أنا أراه الآن .
استعاد أحمر الشفاه ثم وقف . أغمضت سارا عينيها وراحت تعد حتى العشرة , آملة أن تستعيد اتزانها , وإن لم يكن بشكل كامل ! وفجأة لم تعد ترى سوى تينيك العينين الخضراوين اللتين تحدقان فيها من الجانب الآخر للمنضدة . وذكرها هذا الموقف بما سبق وحدث لها في المقهى . وكيف صور لعا التعب نيال جيلسبي كرجل أحلامها ...
كبحت ضحكة عصبية وهي تنهض واقفة لتحافظ على ما أمكن من كبريائها في مثل هذه الظروف . يجب أن تستريح , فلا أحد يعلم أي تخيلات أخرى قد يصورها لها ذهنها .
- ها هو ذا .
مد نيال جيلسبي إليها يده التي تحمل أحمر الشفاه . فأخذته سارا منه وهي تتمتم بالشكر , وحاولت أن تتجاهل الرعشة التي سرت في كيانها .
ألقت أحمر الشفاه في حقيبتها , ثم رسمت ابتسامة على شفتيها وجاهدت في سبيل تجاهله . لكن الأمر كان أشبه بمن يحاول تجاهل الشمس المشرقة .
كانت تشعر بحرارة جسمه من خلال قماش ثوبها الرقيق . فاقشعر جسمها , وكبتت بصعوبة شهقة كادت تفلت منها حين ادركت تأثيره على أحاسيسها . أذهلها اكتشافها وصدمها وافزعها . ماذا جرى لها؟
ولم تضطرب بهذا الشكل حين يقترب هذا الرجل منها ؟ اندفعت بالكلام , حتى لاتمنح نفسها فرصة للتفكير في الأمر , وقالت :
- هل تمارس هواية صيد السمك , يا دكتور جيلسبي ؟
- كنت امارسها .
وابتسم ابتسامة أخرى باردة , لكن خيل اليها أنها ليست بالبرودة التي اعتادت أن تراها .. بدا وكأن شيئا من التوتر يحيط بفمه , ويسيطر على وقفته إذ تركزت نظراته على بقعة فوق رأسها . ولكم شعرت بالراحة ندما استلم الدكتور هندرسون دفة الحديث :
- من الصعب أن نجد وقتا للهوايات , اليس كذلك يا نيال ؟ فمهمتنا تتطلب الكثير من الوقت . بحيث يصبح كل شيء آخر ثانويا .
وتنهد الدكتور هندرسون بأسى ثم أكمل :
- اتمنى الآن لو أقدر على جعل حياتي أكثر توازنا , فلا يصبح التقاعد بنظري مثبطا للهمة بهذا الشكل . إذ لا فائدة من البكاء على الماضي , بل علي أن أتطلع الى المستقبل . وإذا لم أعد الى البيت حالا , فستأتي ماغ للبحث عني .
والتفت الى سارا باسما , وهو يقول :
- أعتقد أنك واجهت صعوبة في وصولك الى هنا الليلة , فهل تشاركينني سيارة الأجرة ؟ يمكنني أن أقلك في طريقي إلى بيتي .
- آه , نعم ! أرجوك , إذا لم يكن في ذلك إزعاج لك .
هبت واقفة , لأن هذا الأمر عذر جيد لمغادرة الحفلة , ولأنه سيوفر عليها أجرة سيارة الأجرة وتابعت تقول :
- سأعلم الآخرين بأنني مغادرة , ثم أقابلك عند الباب يا دكتور هندرسون .ولعل ذلك يفسر
وهرعت الى حيث إيرين لتخبرها بذلك , فحاول بعضهم اقناعها بالبقاء لكنها تذرعت بالتعب . واخذت تفكر , وهي تغادر القاعة في أن ما قالته ليس عذرا مختلقا , على أي حال فقد كان يومها متعبا في المستشفى , فعدا عن ولادة التوأم وهولي لويز , ساعدت في ثلاث ولادات أخرى .
ولعل ذلك يفسر الأشياء الغريبة الأخرى التي حدثت معها هذه الليلة . وراحت تفكر بردة فعلها عندما اقترب نيال منها منذ دقائق مثلا .. لقد كان جهازها العصبي متعبا لذا ليس من المستغرب أن تظهر مزاح دلائل ذلك في تصرفاتها ؟
سارت نحو ردهة الفندق وقد سرها هذا التفسير الذي بررت به مشاعرها تجاه نيال . كنها لم تجد أثرا للدكتور هندرسون . توجهت نحو المدخل الأمامي , متسائلة عما إذا كان عليها أن توقف سيارة أجرى إذا ما رأت واحدة . لكن لم يكن في المدينة سيارات كثيرة , خصوصا في مثل هذا الساعة من الليل . لهذا من الحماقة أن تترك السيارة تمر لتنتظر أخرى قد لا تأتي إلا بعد وقت طويل .
نزلت الى الشارع فارتجفت قليلا عندما لفح هواء الليل ذراعيها العاريتين . حين خرجت , كان الطقس دافئا فلم تشأ أن تزعج نفسها بحمل معطفها , لكنها تمنت ذلك , وهي تشعر ببرودة الهواء , لو أحضرت معها سترة .
- ستموتين بردا إذا ما وقفت هناك بهذا الشكل . تعالي معي .
التفتت بسرعة واتسعت عيناها دهشة حين رأت نيال جيلسبي خلفها . ابتسم ابتسامة باردة وأشار الى سيارة مركونة في الجهة المقابلة من الشارع وأضاف :
- لقد قلت لريتشارد إني سأقلكما معي , فلا داعي للوقوف هنا بانتظار سيارة أجرة ..
- آه , لكن لا يمكنني ... أعني أ، هذا ليس ضروريا ...
كبتت نفسا عميقا لتسيطر على خفقات قلبها المتسارعة , وأكملت :
- ما أريد أن أقوله هو أنك لست مضطرا لتقلني , يا دكتور جيلسبي . سأستقل سيارة أجرة .
استدارت سارا لتبتعد ثم توقفت عندما سمعته يقول برقة :
- سارا أنا لا أعض الناس , لكنك على ما يبدو تظنين العكس .
- ماذا ؟
وحملقت مذهولة , متسائلة عما إذا تخيلت ذلك الهزل الجاف في صوته . مزاح , ونيال جيلسبي ؟ أبدا , فهذان أمران متناقضان .
وضحك أرق ضحكة يمكن تصورها .. ضحكة جعلت سارا تغرق في مشاعر الدفء والحنان .
- قلت إنني لا أعض . فهل ستثقين بكلمتي بهذا الشأن ؟ أم علي أن أقدم شهادة خطية بذلك ؟
- أنا ...
وضحكت ضحكة مخنوقة , وتحركت فيها روح الفكاهة بشكل مفاجىء , فأضافت , وهي تنظر الى السماء :
- آه , لا أقبل بأقل من شهادة خطية ! أعني لايمكن لفتاة أن تمنح الثقة الكاملة لأحد , خاصة في ليلة كهذه .
تبع نيال نظراتها ثم ضحك , وقال :
- هممم ... فهمت ما تعنينه . القمر بدر هذه الليلة , أليس كذلك ؟ ومع ذلك , أنا واثق من أنك مستعدة لأي طارىء , أيتها الممرضة هاريس . وأتصور , مع كل ما استطعت حشره في حقيبة يدك , أنك تحملين معك الرصاصة الفضية التي تستخدم للقضاء على الإنسان الذئب , اليس كذلك ؟ علي أن أعترف بان معلوماتي في هذا المجال محدودة .
- آه , نسيت أن أحضرها معي الليلة !
وراحت تتساءل عما إذا كانا فعلا يتبادلان مثل هذا الحديث . فلو قال لها أحد , منذ نصف ساعة خلت , أن مثل هذا الحوار سيدور بينهما لسخرت منه .
قرصت نفسها لتتأكد من أنها لا تحلم . لكن نيال جيلسبي ما زال واقفا هناك وعلى فمه الجميل ابتسامة باهتة .
سحبت نفسا عميقا وهي تتساءل متى أدركت بالظبط أن فمه جميل , ثم قررت على عجل أنها لا تريد جوابا عن هذا السؤال ! ولكم شعرت بالراحة عندما خرج الدكتور هندرسون , محاطا بمعظم العاملين في قسم التوليد الذين تجمعوا لوداعه . نزل الدرجات نحوهما ثم ابتسم لسارا .
- هل قال لك نيال إنه عرض علينا أن يقلك معه يا عزيزتي ؟
لم ينتظر جوابيها , واستدار ليلوح بيده للمرة الأخيرة لمودعيه الذين هتفوا باسمه محيين . صعدت سارا الى مقعد السيارة الخلفي بعد أن فتح نيال الأبواب , وحاولت أن تتجاهل النظرات التي لاحقتها , لم تكن بحاجة الى النظر اليهم لتعلم أنها ستضطر غدا لتقديم الكثير من الايضاحات .
***
- إذن دعوته الى منزلك لتناول القهوة , يا سارا ؟ زكم من الوقت بقي عندك ؟
- أنا لم أدعه للدخول . هل هذا يجيب هذا عن سؤالك ؟
تنهدت سارا وهي تتجه نحو الباب ثم أضافت :
- أنا في غرفة الاستقبال إذا أرادني أحد .
- آه , لا تقلقي ! إذا جاء نيال بحثا عنك , فسنخبره أين يجدك .
وانفجرت " سالي غرين " , إحدى زميلات سارا , بالضحك , فتجاهلتها هذه الأخيرة وتركت غرفة الممرضات . لم تعد تحتمل .. فمنذ جاءت الى العمل هذا الصباح وهن يمازحنها بشأن هذا الموضوع .
كان خبر توصيل نيال جيلسبي لها الى بيتها قد انتشر بسرعة في القسم وفي كل أنحاء المستشفى على الأرجح . وأراد الجميع أن يعرف ما حدث .
ومع ذلك , عندما حاولت أن تخبرهم , لم يصدقوها . وتعرف أنها مهما كررت لهم الأمر لما صدقوها .
ابتسمت سارا بجفاء وهي تفكر في الليلة الماضية . لقد استغرق ركنه للسيارة ونزوله ليفتح لها الباب , ستين ثانية كاملة . وقد دهشت نوعا ما لهذا التصرف المهذب الذي يتجاهله معظم الرجال في هذه الأيام . لكن نيال خرج من السيارة وفتح لها الباب .
وارتجفت حين تذكرت دفء ابتسامته ولطفه . وكانت تشعر بتأثيره عليها طوال فترة استعدادها للنوم .
ضحكت لحماقتها وهي تندس في فراشها وتطفىء النور . ولم تكن هذه التصرفات سوى دلالة أخرى على الإرهاق الذي كانت تشعر به بالأمس .
نامت وهي تحتضن هذه الأفكار , سعيدة بأنها عثرت على هذا التفسير البسيط لكل ما حدث . ولكن حين وصلت الى مكتب الاستقبال ورأت نيال جيلسبي واقفا هناك , لم تستطع إنكار الرعشة التي تملكتها , هازئة من كل تفسيراتها .
ومهما كان تحليلها وتفسيرها للوضع , فلا يمكنها أن تنكر أن نيال يمتلك قدرة غريبة على بعث الاضطراب في نفسها .
- آه , أيتها الممرضة ! تعالي معي أرجوك . أريد منك أن تساعديني هذا الصباح , إذا سمحت .
كان صوته أقرب الى الجفاء حين رآها فضبطت سارا اساريرها راجية من الله الا يدرك مدى اضطرابها لكلامه هذا .
فأجابته بهدوء لم تكن تشعر به :
- الأخت برينتس هي التي تساعد الدكتور هندرسون عادة في عيادة ما قبل الولادة .
- هذا ما اعتقده .
وقطب جبينه وهو يلتقط الملفات ويتقدم منها مضيفا :
- بما أن الأخت برينتس ستتقاعد قريبا فكرت في طريقة ما لتسيير العمل .. فلا فائدة من تدريب الأخت برينتس على طريقتي في العمل .. منذ الآن فصاعدا ستساعد الممرضة " برادشو " الدكتورة "بيتيل" وانت ستساعدينني .
- طبعا يا دكتور .
أجابت سارا بذلك بهدوء , ثم سحبت نفسا عميقا وتبعته الى غرفة الفحص . كان تعليله منطقيا , طبعا , لأنها تعلم أن المرأة تطمئن بالا إن رأت الطبيب والممرضة نفسيهما كلما جاءت للفحص . فهذا ينشىء بينها وبين الممرضات علاقة تعاطف تسهل عليها الافضاء إليهن بما يقلقها .
كانت سارا تؤمن بالرعاية المستمرة , إلا أن رأي الدكتور هندرسون كان مخالفا , إذ كان يختار المريضة التي ينبغي عليها أن تزوره في العيادة الخارجية . كانت توافق نيال جيلسبي الرأي ومع ذلك بعثت فيها فكرة العمل والقرب منه بهذا الشكل أثناء الأسابيع التالية الاضطراب الشديد . وكيلا يكتشف ذلك ركزت اهتمامها على عملها بعد أن راجعا معا قائمة الأمهات اللاتي سيحضرن هذا الصباح لمراجعة الطبيب المختص . كان هناك ثلاث أمهات جديدات , وكل واحدة منهن متوترة الأعصاب لاتعرف ماذا يحدث معها ولماذا .. والحقيقة أن نيال جيلسبي تعامل بشكل رائع معهن , إذ كان هادئا صبورا وهو يشرح لهن ضرورة رعاية الأم قبل الولادة وفائدته للأم والجنين .
قال نيال باسما , لهانا جارفيس , وهو يجلس على حافة سرير الفحص :
- لابد أنك تساءلت عن السبب الذي جعل الممرضة تأخذ منك عينة دم للفحص لدى وصولك .
وكانت هانا احدى المريضات الجديدات وقد بدت متوترة للغاية , فراح يشرح لها :
- هناك أشياء عديدة نريد أن نجري لها فحصا , ولهذا سنأخذ منك عينة كلما أتيت الى هنا , لنطمئن الى أنك لن تصابي بفقر الدم وغير ذلك . أما ما نحتاج الى معرفته قبل أي شيء فهو نوع دمك وما إذا كان إيجابيا أم سلبيا .
- وما معنى هذا يا دكتور ؟ هل هو مرض ؟
طرحت "هانا" هذا السؤال مقطبة جبينها , لكن سارا لاحظت أنها أصبحت أكثر إطمئنانا واسترخاء بعد حديثها مع الطبيب .
- لا , ليس مرضا . إن معظم الناس إيجابي , إنما هناك أشخاص دمهم سلبي وهؤلاء عددهم قليل . وهذا لا يسبب لهم , عادة , أي مشاكل . على أي حال , إذا كان دمك سلبيا , فمن الضروري أن نعرف ذلك لأنه قد يسبب مشاكل للجنين .
- كيف ذلك ؟
- إذا كان دم الطفل سلبيا , مثل أمه , فما من مشكلة . ولكن إذا كان إيجابيا , فقد يسبب له فقر دم شديد وسيكون علينا مراقبته بعناية بالغة . إذا تسربت أي خلية من خلايا دم الجنين الى دمك أنت أثناء الولادة , فسينتج جسمك مضادات تقاوم العناصر التي تحملها خلايا ذلك الدم . ويكمن الخطر إذن في أنه أثناء الحمل , قد تمر هذه المضادات عبر المشيمة وتهاجم أي دم إيجابي لجنين آخر قد تحملين به في المستقبل . وإن حدث ذلك أصيب الجنين بأمرض عدة كاليرقان وفقر الدم الحاد أو بتلف دماغ الجنين حتى .
- يا إلهي ! اليس لهذا علاج ؟ وهل تعني أن المرأة ذات الدم السلبي يجب ألا تخاطر بإنجاب طفل آخر ؟
- أبدا . الأمر ببساطة هو أننا نعطي الأم إبرة تمنع تشكل المضادات بعد كل ولادة . عند ذلك , لا يتعرض الطفل الثاني الذي ستنجبينه لأي خطر , ولكن يجب أن يوضع أي حمل آخر تحت المراقبة , طبعا .
- عملكم رائع , يا دكتور . فأنا لم أكن أعرف سبب أخذ الدم مني للفحص . وأنا أخاف من وخز الإبر , لكنني لم أعد أخافها بعد أن عرفت السبب . وسلامة الجنين تستحق ذلك , أليس كذلك ؟
أضاءت ابتسامة مشرقة وجه نيال وهو ينهض ويربت على يد الأم قائلا :
- هذا صحيح . وهو ثمن قليل لطفل صحيح الجسم . ستساعدك الممرضة هاريس على الاستعداد لكي أفحصك . إذا كان هناك ما تريدين معرفته , يا سيدة جارفيس , فاسأليني . فكلما توفرت لديك معلومات , كلما أصبح الأمر أسهل بالنسبة لك .. سأعود بعد لحظات ...
غادر غرفة الفحص , تاركا سارا تعد الأم الشابة للفحص كما تفعل مع كل امرأة تقصد العيادة للمرة الأولى .
لقد أدهشها الوقت الذي أمضاه في الشرح , فقد توقعت منه , أن يتصرف بشيء من الفظاظة مع المريضات ولكنه أظهر نحوهن تعاطفا بالغا ومداراة لمشاعرهن .
عادت لتعلمه بأن "هانا " جاهزة , وعندما رأته قطبت جبينها للحظة . كان يبدو غامضا , فتملكها عندها شعور بأنه رجل بارد للغاية يجيد السيطرة على نفسه , لكن بعد ساعات من العمل معه , وجدت نفسها تغير رأيها .
فوراء ذلك المظهر الجليدي , لاحظت الصبر والعطف والروح المرحة . وهذا ما جعلها تتساءل عن شخصية نيال الحقيقية . هل هو حقا ذلك الشخص العملي البارد الذي يصر على أن تجري الأمور كما يريد , أم أن شخصيته الحقيقية هي تلك التي يظهرها لمريضاته بحيث يريح أعصابهن بمهارة يفتقر اليها معظم الأطباء ؟ أم أنه ذلك الرجل الذي لمحته الليلة الماضية ؟ الرجل الساخر حتى من نفسه ؟
تنهدت وهي تتمنى لو تكتشف الجواب فيمكنها , حينذاك , أن تعالج مشاعرها المتضاربة . هل يمكنها أن تعرض نيال جيلسبي على إحدى الآلات , كما هو الحال عند شراء السكاكر أو الشوكولا أو غير ذلك , فتعطيها الآلة الجواب الذي يجعلها تفهم ردة فعلها نحوه؟
أوشكت أن تقنع نفسها بهذا الجواب , لكنها أدركت , عندما جاء , أن الأمر لن يكون أبدا بهذه السهولة . فنيال جيلسبي ليس ذلك الرجل الذي يسهل فهمه , فهو لا يسمح لأحد بالاقتراب منه عاطفيا بحيث يتمكن من معرفته جيدا .