6- عندما ينطفىء الحلم ..
لم تستطع سارا أن تنام رغم ارهاقها . استلقت في سريرها وراحت تتقلب لأكثر من ساعة , قبل أن تعود وتنهض ثانيا , إذ لم تجد فائدة من محاولة النوم وذهنها مشغول . ولعل نزهة قصيرة سيرا على الأقدام تغيرها .
كانت الساعة قد تجاوزت السادسة بقليل عندما خرجت لتسير في الطريق المؤدي الى النهر . توجهت نحو الحديقة العامة الصغيرة وملعب الأطفال الذيكان خاليا في تلك الساعة . جلست على أرجوحة هناك , وأخذت تتأرجح ببطء وقد اكتشفت أن هذه الحركة اراحت أعصابها . أغمضت عينيها وزادت من سرعة الأرجوحة , وابتسمت فيما الهواء يعبث بشعرها .
لعلها متوترة الأعصاب وتحتاج الى اجازة , فقد أمضت وقتا طويلا في العمل ولم تخرج للترفيه عن نفسها بأمور بسيطة كالتأرجح مثلا . عندما كانت تنتهي من عملها , كانت تملأ أوقات فراغها بمهمات جادة . ولم تعد تتذكر متى أمضت يوما كاملا من دون أن تفعل شيئا , فلا عجب أن تشعر بالإرهاق .
منتديات ليلاس
زادت من سرعة الأرجوحة وهي تفكر في ما عليها أن تفعله في الإجازة .. ربما ستتمشى أو تسبح , أو تستلقي طوال النهار لتقرأ وتشرب القهوة ..
زادت من سرعة الأرجوحة بعد أن أسعدتها هذه الأفكار . تمسكت بالسلاسل بقوة وقد شعرت وكأنها عصفور يحلق في الجو . وضحكت بصوت عال , إذ أثار هذا التفسير الذي وجدته لتصرفاتها الغريبة مؤخرا ارتياحها . إنها تحتاج الى عطلة , وهذا كل مافي الأمر .
- إن لم تنتبهي ستصلين الى الشمس , وعندها ستحترق أجنحتك .
أعادتها الى الواقع تلك اللهجة المازحة وفاجأها ذلك الصوت العميق.
فتحت عينيها ونظرت الى نيال جيلسبي مذهولة , فرأته يستند الى أحد أعمدة الأرجوحة وقد ارتسم على وجهه تعبير جعل قلبها يخفق بعنف .
أوقفت الأرجوحة وراحت تبحث جاهدة لتجد ما تقوله , أنما استحال عليها ذلك . وعجزت عن الكلام حتى تنبهت الى أنه يمسك بأدير , فسألته وقد جف حلقها :
- هل ... هل ستطيرها ؟
- نعم .
ونظر الى الطائر فخيل الى سارا أن في صوته خشونة لم تلاحظها قبل لحظات , ظهرت وهو يقول :
- لم أستطع أن أنام ففكرت في أن أتمشى قليلا في الهواء الطلق .
ونظر اليها وقد تألقت عيناه الخضراوان , وهو يضيف :
- وهل عجزت عن النوم أنت أيضا , يا سارا ؟
لـ ... لا .
تجنبت عينيه وهي تنزلق عن الأرجوحة , مطلقة ضحكة قصيرة لتخفي بها أحاسيسها , وأضافت :
- لا أدري لماذا , فقد كنت متعبة للغاية .
- أعرف ما تعنين .
وتنهد نيال تنهيدة عميقة , ثم سوى غطاء رأس الطائر الجلدي قبل أن يعود وينظر اليها . وبدا الإنهاك جليا في عينيه وهو يقول :
- أحيانا يكون المرء مرهقا للغاية ومع ذلك لا يستطيع طرد الأفكار التي تزعجه من ذهنه .
وصفت هذه الكلمات شعورها بدقة , ومع ذلك أحست بأنه يلمح لأمر آخر ألا وهو
جزهما عن النوم . شدت على اصابعها وهي تتساءل عما يعنيه , وتلهفت الى أن تسأله , لكنها خافت من ردة فعل سلبية :
- تبدو فلسفة غريبة , أليس كذلك ؟
وضحك برقة وكأنه يلطف الجو . ثم أكمل :
- كما أن هذا الصباح أجمل من أن نضيعه سدى . هل تودين مرافقتي وتجربة قدرتك على تطيير هذه السيدة الصغيرة ؟
- أنا ؟ آه , لكنني لا أستطيع ! علي حقا أن أعود ...
سكتت وقد شعرت برجفة تتملكها حين رأت الدفء يختفي فجأة من وجهه .
- المعذرة . لن أستبقيك أكثر من ذلك . لابد أن داوسن يتساءل أين عساك تكونين .
- أين عساي أكون ... ؟
وشعرت سارا بوجهها يشحب , عندما فهمت فجأة ما يعنيه , وقالت بسرعة :
- آه , لقد أقلني مايك الى بيتي وحسب . ليس ... ليس بيننا ...
وسكتت حين أدركت الورطة التي ستوقع نفسها فيها إذا ما تابعت كلامها .
- فهمت .. يبدو أن استنتاجي خاطىء .
وكان صوت نيال من الاتزان بحيث نسب القشعريرة التي تملكتها الى الإرتباك .
أتراه ظن حقا أنها ومايك حبيبان ؟ أخذت تتساءل عن هذه المسألة وهي ترتجف . ثم أدركت , بقلب منقبض , أن المظاهر قد تكون خادعة , لكنها , على أي حال , لا ترضى بتصرف كهذا , لا سيما أنها تعتبر مايك مجرد صديق لها ... وشعرت أنها عاجزة عن شرح كل هذا لنيال في تلك اللحظة .
- حسنا , يجب أن أعود الى المنزل , الكثير من العمل ...
وعضت على شفتيها وهي تراه يرفع حاجبيه , فأدركت , من دون أن تنظر الى عينيه , مدى ضعف حجتها . فلو كانت نائمة , كما يفترض بها أن تفعل , لما تمكنت من القيام بكل هذه الأعمال الهامة.
وحاولت التفكير في عذر أكثر اقناعا , فلم تجده . عندها , قالت مكرهة :
- يمكن للعمل أن ينتظر .
- هل أعتبر ذلك موافقة منك ؟ هل ستأتين ؟ تعالي يا سارا . احزمي أمرك .
وضحك حين لاحظ ترددها وقال مداعبا :
- اطمئنك الى أن سمعتك ستكون في أمان لأننا لن نكون وحيدين .
- لن نكون وحيدين ؟
رددت ببلادة وهي تنظر اليه مشوشة الذهن واضطرب قلبها حين رأت ابتسامته التي أنارت وجهه فجعلته يبدو , فجأة , أصغر سنا واكثر وسامة .
راحت نبضات قلبها تتسارع وهي تلحظ بعض الأمور الأخرى .
فقد استبدل بذلة العمل الرسمية بملابس بسيطة , كما فعلت هي , وارتدى بنطلونا من الجينز وكنزة تبنية اللون . ولم تسىء ملابسه البسيطة الى جاذبيته , وفكرت بقنوط أن مامن شيء يسيء اليها .
أدركت أنها تحدق فيه من دون أن تتمكن من تحويل عينيها عن جسمه الرياضي القوي . ثم رفعت عينيها الى كتفيه العريضتين . ولاحظت أنه لم يحلق ذقنه قبل أن يخرج فبدا مظهره مهملا , لا سيما مع تلك الخصلة المتدلية على جبينه .
وكان هذا وجها آخر لنيال جيلسبي , الذي أحاطت به هالة من الرجولة البدائية , بعد أن نزع عنه تلك البذلة الأنيقة وربطة العنق المميزة وتخلى عن مظهره المتحفظ , فأيقظ فيها مشاعر خطرة أخافتها . ولم تحول نظراتها عنه إلا بعد أن رأته يتأملها مطولا . ولم تستطع ضبط الرعشة التي سرت في جسمها وهي تسمعه يقول ممازحا :
- ستكون أدير حارستك , يا سارا . صدقيني . لن تشعري بالأمان مع أحد بقدر ما ستشعرين معها .
- لم أتصور لحظة ...
وسكتت حين رمقتها عيناه بنظرة باردة برودة النهر الجاري قربهما , ولكن ابتسامتة كانت حنونة بحيث أشاعت الدفء في كيانها .
- كنت أمازحك , يا سارا ... فهل سترافقينني ؟ أرجوك , أنا واثق من أنك ستستمتعين بذلك . وليس هناك ما هو أحب إلى قلبي من قضاء هذا الصباح معك ومع أدير .
وهل بإمكانها أن ترفض الآن ؟
- لا بأس , سأرافقك وشكرا .
وابتسمت محاولة تجاهل أحاسيسها ومتسائلة باضطراب عن سبب تأثير نيال عليها بهذا الشكل .
شعرت بالراحة عندما التفت وأشار الى النهر بمودة غير متكلفة هدأت من مخاوفها . إنه صباح رائع , وتود فعلا أن ترى أدير تطير . فلم ستفسر تلك الدعوة بأكثر مما تحمله من معنى ؟
- سنتابع سيرنا على ضفاف النهر إذا كنت لا تمانعين فهنالك موقع جيد يمكننا أن نستخدمه لتطيير أدير منه . المكان ليس بعيدا من هنا.
- حسنا هذا يناسبني .
سبقته الى النهر , وسارت في الإتجاه الذي أشار إليه . حين ضلق الطريق , وأحالت أغصان الأشجار المتدلية فوقهما أشعة الشمس الى وهج مخضوضر . لم تعد تسمع خرير النهر , فشعرت وكأنهما أصبحا فجأة في عالم صغير خاص بهما .
تابعت سارا السير , وأحاسيسها ترافق ذاك الرجل السائر في أعقابها , ولعل السبب يعود الى رهافة حسها . وبدا الشذا الحاد للطحالب والأعشاب التي تنبت بين الصخور أكثر حدة مما عهدته.
ترى ألاحظ نيال كل هذا هو أيضا ؟ أخذت تتساءل وهي ترتجف .. أتراه أصبح على غرارها يرى الأشياء بوضوح أكثر من السابق ويشمها ويسمعها ؟
- إذا استدرت نحو الشمال , بعد ذلك الدغل مباشرة تجدين دربا يؤدي الى التل , وهذه وجهتنا .
- ها قد وصلنا .
لفت انتباهها الى طريق بين الأشجار .. سحبت نفسا عميقا واستدارت نحو الدرب من دون أن ترى أمامها . وفي نهايته كشفت الأشجار عن موقع عال فسيح , فشقت سارا طريقها صعدا , متعمدة عدم رؤية يده الممدودة لمساعدتها . ثم قفزت على العشب , وأرغمت نفسها على الابتسام وهي تلتفت إليه , فخفق قلبها بسرعة لأنها قرأت التعبير المرتسم على وجهه , ورأت ذلك الشوق الغريب الذي جعل الشرر يتطاير من عينيه .
سألته بصوت أبح وقد هزها المنظر الممتد أمامها :
- هنا في الأعلى , أليس كذلك ؟
وعادت لتحدق الى أعلى التل حيث التقت خضرة العشب بزرقة سماء ايلول , وحاولت السيطرة على عاصفة المشاعر المتخبطة في داخلها . اتراه حقا نظر اليها بتلك الطريقة ... بمثل ذاك ... الشوق ؟
- نعم فتيارات الهواء في هذا الموقع أقوى لبعده عن الأشجار وبذلك ستتمكن أدير من الطيران على العلو الذي تريده .
كانت لهجته عادية . ولو كانا في ظروف أخرى لاعتبرت نفسها مخطئة في تفسير ما رأته على ملامحه .. لكن في هذه اللحظات , أنبأها حدسها أن كلماته البسيطة هي مجرد غطاء لمشاعره الحقيقية.
قد يتصرف نيال ببرودته المعتادة , لكنه يخفي تحت الثلج نارا لاهبة ! وصاح بها عقلها محذرا ... الخطر ... الخطر ..
- هل أنت قادمة , يا سارا ؟
توقف والتفت الى الوراء حين أدرك أنها لا تتبعه , فأخذت سارا نفسا عميقا . كانت الشمس تسطع بقوة ,فمنعتها من رؤية تعابير وجهه , لكن هذا لم يعد يهمها . إنها تعي ما رأته وسمعته , وأخافها هذا بعض الشيء لأنها تجهل كيف عليها أن تتصرف . فهل عليها أن تضع حدا لذلك منذ الآن , وأن تسير مبتعدة من دون النظر الى الوراء .أتدير ظهرها للخطر ؟ أليس هذا الطريق الصواب ؟
نعم إنه هو . لكن من المؤسف ألا تستطيع أن تسلك هذا الطريق , وألا تجد أحيانا حلا آخر سوى القفز الى جوف النار ... وتخاطر بالاحتراق !
- هناك أنظري فوق رؤوس تلك الأشجار ... نعم !
هتفت سارا بابتهاج عندما حلقت أدير فوق الأشجار . حبست أنفاسها وهي ترى الطائر يحوم فوق الرؤوس لينقض بعد ذلك نحو الأرض بخفة . وعندما ارتفع مجددا , شهقت سارا لأنها لاحظت في مخالب أدير , فأرة أو ما شابه حملتها الى الأجمة لتلتهمها .
قالت بصوت خافت :
- ما أغرب هذا . كيف استطاعت أن تراها من ذلك العلو .
- لا أدري . هذا ما يحيرني أنا أيضا على الدوام .
وضحك نيال لحماستها وأضاف :
- إذا ألا يستحق هذا حضورك الى هنا ؟ وهل أنت نادمة على عدم عودتك للقيام بالأمور الجوهرية من غسيل وكي وغير ذلك ؟
ضحكت للمرح الظاهر في صوته , وأجابته :
- أبدا , فقد كان رائعا . لا أتذكر صباحا استمتعت فيه بهذا القدر .
- هذا حسن .
وابتسم لها ابتسامة عريضة أخيرة قبل أن يستدير لينادي الطائر ليعود إليه .
أخذت سارا تنظر إليهما مبتسمة . فما قالته كان صحيحا , فقد أمضت ساعتين رائعتين , أحست خلالهما ببهجة عارمة , إذ لم يزعجها نيال بكلمة أو نظرة , إذا استثنت حقيقة وجوده قربها يوترها . وراحت تتساءل عما إذا بالغت في تفسير ما حدث .
نبذت الفكرة من ذهنها عندما عاد ليضع الغطاء على رأس الطائر ويستدير نحوها ، قائلا :
- حسنا , أظن أن من الأفضل أن نعود . علي أن أعاين مريضتين عصر هذا اليوم , لهذا لن أجرؤ على التغيب عن المدرسة أكثر .
ضحكت لكنها دهشت لما قاله , وسألته :
- أستعود الى العمل الآن بعد أن أمضيت هناك الليل بطوله ؟
هز كتفيه ثم سوى وقفة أدير على ذراعه وأجابها وهو ينزل عن التل .
- ليس من العدل أن نهمل المرضى .
فقالت برقة :
- لكن ليس من العدل أيضا أن تعمل ليلا نهارا . لا يمكنك أن تمضي حياتك كلها في العمل , يا نيال .
توقف قرب الدرجات , ثم وقف ومد لها يد المساعدة . كان ذهنها مشغولا بما يقول ولكن ما إن صعدت الدرجات حتى سقطت الى الأمام .
- حذار .
حذرها نيال صارخا , لكن صرخته ضاعت بسبب الزعقة التي أطلقها الطائر حين انزلق من مكانه بعد أن مد نيال يديه ليمسك بسارا . ساعدها على النزول ثم انحنى ليتأمل وجهها المرتاع وأخذ يزيح الخصلات المتبعثرة على وجهها ويسألها بلهفة :
- هل أنت بخير ؟ هل أصابك أي أذى ؟
- نعم , أنا بخير , ولم أصب بأذى .
ضحكت ضحكة مرتجفة وقد تسارعت دقات قلبها رعبا لقربه الشديد منها وهي تحس بأنفاسه الدافئة تلفح خدها .
حاولت أن تبتسم وهي تنظر اليه , لكن الابتسامة ما لبثت أن جمدت على شفتيها عندما تشابكت نظراتها مع نظرات نيال , وبدا وكأن العالم توقف عن الحركة . وسمعت صوتها ينطق باسمه من دون أن تدرك , فارتجفت تأثرا :
- نيال ... وحبست أنفاسها وهي ترى عينيه تظلمان ومن دون أن تدري التقت شفاههما في قبلة متلهفة ... فصدرت منها أنة خفيفة , وقد شعرت بدوار وحاولت أن تحلل ما يحدث لها, وبتردد تسللت يدها بنعومة لتداعب عنقه وتتخلل أصابعها شعره فقربها منه وهو يتحسس جسدها بنعومة أحست بعدها أن كل خلية من جسدها تشتعل لهفة إليه . وصدرت عنها تمتمة بالغة الرقة , ولم تدر هي نفسها إن كانت تعبر عن إحتجاج أم عن سرور . شعرت به يتوتر وقد أحس بترددها .
- آه يا سارا !
بدا وكأن اسمها ينبض بحزن حلو مر , وهو يخرج من بين شفتيه , لكن لم يتسن لها الوقت لتحلل ما يكمن وراء هذا الحزن .
بردت صرخة أدير المفاجئة السحر الذي تملكهما , وجعلت نبضات قلب سارا تتسارع . جمدت عيناها حين التقتا بعيني نيال ...
وعندما رأت العذاب في عينيه , سرت قشعريرة في جسمها , وشعرت بالألم يعتصر قلبها . هل ندم نيال على ما حدث الآن ؟ أيمكن ذلك ؟
قال لها بصوت خشن :
- آسف يا سارا . لم أقصد أن أعرضك للأذى .
بدا الندم في صوته , مما جعلها تشكك في مشاعره .
وأخذت نفسا مرتجفا لتمنع نفسها من البكاء . لا لن تفعل .
- لا تقلق يا نيال . لم أصب بسوء , والأمر لا يستحق الذكر . ألا توافقني الرأي ؟
هزت كتفيها من دون اكتراث , وتساءلت أين عثرت على هذه القدرة على الكذب فيما قلبها ينسحق ويدمى ؟
ومضت لحظة صمت , التمعت عيناه بعدها , وبدا فيهما غضب أذهلها . ثم استدار وتقدمها على الدرب من دون أن ينطق بكلمة واحدة أخرى .
تبعته سارا بصمت من دون أن تحاول فهم سبب غضبه . ما أهمية ذلك الآن ؟ لقد أدركت حقيقة شعوره نحوها وهذا جل ما كانت تحتاج الى معرفته .
لقد ندم نيال على لحظة الضعف تلك لأنه ما زال يحب المرأة التي خذلته . فأسفت لأنها لم تفكر في ذلك قبل أن تعرض نفسها لهذه المذلة الحقيقية , وتفضح مشاعرها وضعفها .
***
- ما الذي يجري هنا ؟
طرحت سارا السؤال وهي تدخل الى القسم , ونظرت حولها لتستوعب الموقف . كانت جويس ديننغ جاثمة على سريرها تبكي وتهز سام . وراح الطفل ينوح بصوت عال , وقد شعر بحزن أمه كما يفعل الأطفال غالبا .
وضعت سارا يديها على وركيها واستدارت نحو الأمهات الأخريات وقالت :
- حسنا انني أنتظر . أريد أن أعرف ما يجري .
وأجابت تريشا حين رفضت أي من المرأتين الأخريين الكلام .
- ماذا يجري برأيك ؟ لا نريد أن يصاب أطفالنا بالعدوى ! لا يحق لكم أن تضعوه هنا بين أطفالنا الطبيعين .
تريثت سارا قبل أن تجيبها .. فربما هناك عذر لمثل هذا التعصب , لكن لا يمكنها أن تتقبله أبدا . ونظرت شزرا الى كل امرأة بدورها , قبل أن تعود وتلتفت الى تريشا التي تكهنت بأنها المحرضة على هذه الثورة .
- سام طفل منغولي . وهي حالة غير معدية , ولا يشكل أي خطر على غيره من الأطفال في هذا القسم أو في غيره .
قالت تريشا :
- هذا ما تقولينه أنت . إن وضع هذا الطفل هنا جريمة . هذا ما قاله " غاري " الليلة الماضية . وقال أنه سيعالج هذه المسألة حتى وإن عارضت أنت ذلك , فهو لا يقبل بوضع طفل معاق مع ابنه .
التفتت سارا نحو جويس المسكينة فما هو شعور المرأة التي تواجه هذا النوع من التعصب ؟ وعادت تنظر الى تريشا التي بدا على ملامحها كل ما عانته من غضب وإحباط منذ الصباح :
- لا يمكنني إلا أن أكرر ما سبق أن قلته لك .. لا خطر على أي من الأطفال في هذا القسم . يعاني سام من خلل وراثي وهذا ليس ناتجا عن مرض , ولذا فهو لا يعدي . مفهوم ؟
واستدارت لتنظر الى جويس , وتقول لها :
- لم لا تأتين معي , يا جويس ؟ سأعد لك كوبا من الشاي . دعيني أحمل سام عنك .
- لا .
وتشبثت جويس بالطفل , ثم وقفت ونظرت في أنحاء الغرفة قبل أن تسير نحو الباب من دون أن تضيف أي كلمة أخرى .
تبعتها سارا , وقد سرها أن ترى الخجل باديا على وجه المرأتين الأخريين . هذا ما ينبغي أن يحصل , ولا عذر لمثل هذا التصرف في عصرنا الحالي .
- اجلسي يا جويس ريثما أضع إبريق الشاي على النار .
وقادت جويس برفق الى كرسي في غرفة الممرضات , ثم جلست بقربها تحضر الشاي .
فرحت حين رأت المرأة تتمالك نفسها , ووضعت سارا الكوب على منضدة قربها وهي تبتسم لها مشجعة , وقالت :
- لم يفهمن الأمر , جويس مع أن هذا ليس بعذر , أليس كذلك ؟
- آه , لا أدري .
وحاولت جويس أن تبتسم ثم أضافت :
- أظن أنه من الطبيعي أن يقلقن . وهذا مضحك لأنني كنت أعلم أن هذا قد يحدث , ومع ذلك تأثرت حين أخذت تريشا تتأفف من وجودي معهن .
- لقد أدركت أنها المحرضة . ولا يمكنني سوى الاعتذار . لو كان لدينا فكرة عما تخطط له , لما وضعناها معك في القسم نفسه .
- الذنب ليس ذنبك يا سارا , ولا ذنب تريشا كما أظن . لقد أثار هذه المشكلة الشاب المدعو " غاري " . لقد رأيته ينظر الى سام شزرا عندما جاء لزيارتها في الليلة الماضية . وكان واضحا , حين ذاك , أنه يخطط لشيء ما أظن أنه علي أن أعتاد على الأمر .
وتنهدت الأم وهي تمرر يدها على وجنة سام المتوهجة وأكملت :
- يطلق الناس التعليقات على الدوام علي أن أتعود على ذلك , وألا أتأثر . فسام إبننا رغم إعاقته ونحن نحبه جدا .
وقفت سارا وقالت :
- هذا هو المهم إذن . والآن , ماذا نفعل ؟ هل تريدين البقاء في ذلك القسم يا جويس ؟ أم تفضلين الانتقال الى قسم آخر ؟
- جزء مني يريد مني أن أبقى هناك إذ لا أريد أن يساورهن الظن بأنني أخجل بسام , بينما الجزء الآخر يأبى التعرض لمزيد من الاستياء .
- دعيني إذن أهتم بأمر نقلك . فهذا أفضل لك ولسام على المدى الطويل . ولست بحاجة الى الشعور بالاستياء حاليا .
تركت جويس تنهي كوب الشاي , وذهبت للبحث عن إيرين لتطلعها على ما حدث . وعندما قصت عليها ما حصل , هزت إيرين رأسها بعدم تصديق , وقالت :
- هل تصدقين أن هناك أشخاصا بهذا الجهل ؟ مسكينة جويس , أظنها على حق حين قالت إن السبب هو زوج تريشا ذاك . فإحدى العاملات في قسم الجراحة النسائية قالت الليلة إنه سيء الطباع للغاية .وهذا واضح فهو ترك تريشا عندما كانت حاملا في شهرها السادس , وراح يخرج مع فتاة أخرى , كما قيل لي . ولكن هذه العلاقة لم تدم , فقد تخلت عنه تلك المرأة بعد أن اكتشفت سوء طباعه . ولهذا عاد الى تريشا .
فتنهدت سارا , وعلقت :
- ولهذا توافق على كل ما يقول . فهي في حاجة ماسة إليه , مما يجعلها تفعل كل ما يسره .
- هذا محتمل جدا , ومع ذلك , لا يفيدنا . فأنا أحاول تأمين مكان أنقل جويس إليه . لقد استقبلنا خمس حالات جديدة عصر اليوم . وهناك امرأتان في قسم التوليد حاليا .
فضحكت سارا , وقالت :
- انها تخمة حقيقية بالأطفال . وهم يولدون دوما في أيلول .
ضحكت الاثنتان . وأخيرا , قالت إيرين :
- ماذا لو وضعنا جويس مع أرييل ؟ فقد تحسنت حالتها كثيرا وأشك في أن يحدث ذلك أي مشاكل . وهو السرير الوحيد الخالي حاليا . لا أريد وضع جويس في قسم آخر لتثار هذه القضية مجددا , وتحدث تريشا المزيد من المشاكل .
فقالت سارا : " تبدو فكرة صائبة " .
- علي أولا أن أناقش الفكرة مع الدكتور جيلسبي الذي ما يزال في مكتبه لذا سأتصل به , إلا إذا شئت أن تفعلي ذلك بنفسك .
ابتعدت عنها سارا خشية أن تفضح مشاعرها . ففكرة التحدث الى نيال , مرة أخرى , بعد كل ما حدث هذا الصباح من ارتباك بينهما فاقت قدرتها على الاحتمال .
فأجابت متصنعة المرح : " سأترك لك هذا الشرف يا إيرين . الآن سأذهب وأتحدث الى جويس وأطلعها على فكرتنا " .
تركت إيرين لتجري اتصالها , لكن فكرة العمل مع نيال في الأسابيع التالية أقلقتها . قد ينسى هو ارتباكهما ذاك , لكن هل تستطيع هي ذلك ؟ورفعت يدها تتلمس وجهها , وقد أحست بطعم الدموع على وجنتيها , فانقبض قلبها .
لن يكون من السهل عليها أن تنساه .