وهذا الفصل السادس
6-الطريق الآمن
أعطت ريانون فرصة غداء لبيري وحاولت التركيز على ترتيب الرفوف عوضا عن التفكير بغابرييل هادسون. كانت مستعدة لأن تسامحه على انتهاكه خصوصياتها, وأن تقول له إنها بالغت في رد فعلها.
إلا أن اللحظة المؤاتية لم تحن, وقد أخل الحادث عند مغادرة المطعم توازنها. كانت ممتنة لحضوره القوي, وفي الشارع حين ضمها إليه, شعرت برغبة في الاستسلام لدفء يديه.
لا بد أنه قال مجنونة, إذ انهارت جراء حادث تافه كالذي حصل. كانت تكتب على أحد الملصقات بحذر, وترفع نظرها من حين لآخر لتراقب زبونين دخلا, إلا أنها توقفت فجأة, وجمد القلم في يدها فيما اضطرب نظرها. . . لقد واجهت في السابق حوادث مشابهة ولم تشعر بالانهيار, ليس مؤخرا على أي حال. فهي تشعر بالأمان في الأماكن العامة. كان الرجل يمازحها فحسب.
إلا أن رغبتها بالانهيار و الاستناد إلى غابرييل, لمجرد أنه فهم انزعاجها, أمر مزعج وخطير أيضا. لقد تعلمت ريانون بالطريقة الصعبة أن تتكل على نفسها, وأن تقف على قدميها بمفردها, وتحل مشاكلها. وهي ليست مستعدة للمساومة في هذا, فقد نالت استقلاليتها بعد جهد وعناء.
تمكن غابرييل بطريقة ما من خرق دفاعاتها, دفاعات تحتاجها لتعمل في العالم. وقد انتابها بحضوره مشاعر ظنت أنها تخلصت منها إلى الأبد. وقبل أن تكتشف أنه يعرف عنوان منزلها, كانت تتجه بخطى ثابتة نحو اكتشاف المشاعر التي يحييها فيها, والسماح لها بالنمو والتطور إلى شيء. . . ربما إلى شيء أعمق.
لكن, إن كان الأمر يعني أن تفتح الباب على مشاعر تضعفها. . . فهي لا تستطيع أن تحتمل ذلك على حساب ما اكتسبته في السنوات الخمس الماضية.
عطف غابرييل و حمايته كفيلان بنسف استقلاليتها. إنه شرك وإغواء في الوقت عينه, فإن سمحت له بأن يغريها لتعتمد على قوته,تخلى عنها, فستعود إلى دوامة اليأس التي ابتعدت عنها بحزم. ولم تبتعد مرة واحدة بل اثنتين.
-عذرا؟.
قطع الصوت حبل أفكارها, فنظرت لترى سيدة تقف قبالتها حاملة بيدها لوحة صغيرة.
-كم ثمن هذه اللوحة؟ فأنا عاجزة عن قراءة الثمن.
تناولت ريانون اللوحة ثم قرأت السعر بصوت مرتفع. عليها أن تكتب الأرقام بشكل أكبر, فخطها صغير.
دخل بيري, وأمسك الباب للزبونة التي غادرت وقد اشترت اللوحة.
سألها بيري:"إذا, كيف كان غداؤك".
-وقعنا عقدا بخصوص العمل.
-لا يعقل أنكما لم تتحدثا سوى عن الأعمال.
-بلى.
عادت ريانون إلى عملها ثم قالت لبيري:" ألا يتوجب عليك إفراغ بعض صناديق البضائع؟".
-طبعا راي.
تنهدت. لم تقصد أن تكون حازمة مع بيري, فعدم استقرارها وضياعها ليسا ذنبه. في الواقع, الذنب ليس ذنب غابرييل حتى, المشكلة مشكلتها وحدها.
وشعرت بنوبة من الغضب تجتاحها, فهذه ليست غلطتها حتى.
بعد أشهر من العلاج النفسي, اقتنعت أخيرا بأنها وحدها القادرة على شفاء نفسها.
غدا, ستبدأ بطلب المعدات للوحة آنجل إير, كما عليها الاتصال بغابرييل للاستعلام عن غرفة التخزين التي وعدها بها.
هذه الفكرة أيقظت فيها مزيجا من المشاعر المعقدة: القلق والأمل, والترقب, مشاعر تخلو تماما من المنطق. مشاعر لا ضرورة لها كما تبين لها لاحقا.
وفيما كانت تماطل مدعية أنه بالكاد تسنى لها الوقت للقيام بأي ترتيبات, اتصل بها في صباح اليوم التالي, وقال:
-حضرنا لك غرفة للتخزين قرب المصاعد كي يتم نقل المعدات إليها, وسأحرص على وجود شخص يساعدك كلما احتجت إلى إحضار شيء ما أو حمله.
-لا أظن أن الأمر ضروري.
-بلى, أعرف أن البلاط ثقيل الوزن, أتذكرين؟.
وتذكرت كيف حمل الصندوق بسهولة بعد أن جعلت من نفسها موضع سخرية بإيقاعها الصندوق أرضا.
-لن أحتاج إلى البلاطات قبل فترة, ليس قبل أن أنتهي من الكرتون.
-من ماذا؟.
-رسم ملون على الحائط أعمل على أساسه.
في المشاريع الأخرى, كانت تعمل في الاستديو ثم تثبت اللوحة في مكانها, لكن هذه اللوحة كبيرة جدا ومعقدة. لذا, فضلت العمل في الموقع عوضا عن المخاطرة بتقسيمها إلى أجزاء غير متناسقة.
-كما طلبت سقالة, يمكنك المجيء متى شئت للتأكد من تركيبها تماما كما تريدين.
وقف غابرييل يراقب عن كثب فريق العمل وهو يركب السقالة تحت إشراف ريانون, ليتأكد من أن أنها آمنة تماما.
أكدت له ريانون:" أنا متأكدة من أن السقالة متينة".
-ألست قلقة من العمل هنا؟.
-سأكون بخير.
فالوقوع من فوق يسبب كارثة, إلا أن حبل الأمان الذي أصر على تركيبه كفيل بضمان عدم حدوث أي مشكلة.
قال غابرييل منتقدا:" الإضاءة ليست ممتازة, فإن كنت تنوين العمل ليلا ستحتاجين إلى ضوء كاشف أو ما شابه, سأرى ما بوسعي فعله حيال هذا الأمر".
-شكرا لك!.
تناولت ورقة كبيرة ملفوفة وفتحتها, فإذا بالتصميم الذي وضعته سابقا, لكن بحج أكبر.
سألها:" هل ستنسخين هذه؟".
-نعم, فأنا لا أريد ارتكاب أي خطأ على لوحة بهذا الحجم. سأرسم شبكة على الحائط أولا.
-هل أساعدك في شيء؟.
كانت تنوي طلب مساعدة بيري, على أن تدفع له أتعابه, لكنها عادت وشعرت بالذنب لإلهائه عن فنه, فوقته محدود جدا نظرا لعمله بدوام كامل في صالة العرض.
عندما ترددت أضاف:" قلت لك إنني لن أستعجلك, ولكن ثمة عرقلة طفيفة بسبب السقالة. إن حدث طارئ ما وعجزنا عن استخدام المصاعد فسنواجه مشاكل جسيمة, لأن المدخل مغلق بشكل شبه كامل.
إنه محق لقد بقي مكان ليمر شخص واحد, فقد قلصت السقالة المسافة بشكل كبير.
-سأنهي الجزء العلوي أولا, وبعدئذ يمكننا إزالة السقالة.
-متى تنوين البدء بالعمل؟.
-غدا, بعد إغلاق صالة العرض, سأحضر للعمل لبضع ساعات.
-سأكون هنا, ولكن إليك المفتاح لتستخدميه لاحقا.
مد يده إلى جيبه, وناولها مغلفا.
-سأعلمك كيف تستعملينه.
وفيما كانا ينزلان السلالم, ظهر رجل ملتح, متوسط العمر, فقدمه غابرييل إليها على أنه الحارس.
سلم ميك دايارت على ريانون, وأكد لها أنه سيساعدها متى احتاجت إليه.
وفيما كان يواكبها إلى سيارتها, قال غابرييل:" إن غادرت في وقت متأخر, ولم أكن في الجوار, فسيرافقك ميك أو غيره من رجال الأمن إلى سيارتك أو يطلبون لك سيارة أجرة".
حين وصلت بعد ظهر السبت, وجدته واقفا عند موقع العمل يتأمل الحائط, كما رأت ضوءين كبيرين موجهين إلى الحائط. سألها:
-هل تناولت الطعام؟.
-نعم.
وانشغلا برسم الشبكة. وانتهيا قبل حلول الظلام.
قالت وهي تنزل من على السقالة:" شكرا لك, لم أتوقع إنهاء الشبكة اليوم".
-ما الخطوة التالية؟
-سأنقل الرسم على الحائط.
-أظن أنك ستنجزين هذا العمل بمفردك.
-نعم, ولكنني أقدر لك مساعدتك.
-هل لي بدعوتك لتناول الطعام؟.
-أنا خارجة للعشاء مع رفاقي هذه الليلة, كما أنك لست مضطرا لإطعامي.
-طالما يفعل أحدهم هذا. . .
نهار الأحد, كانت قد بدأت العمل منذ حوالي نصف ساعة, عندما سمعت وقع خطوات فتوقفت عن العمل, ونظرت إلى الأسفل وهي تتوقع رؤية الحارس. لكنها رأت غابرييل عند أسفل الدرج وقد اتكأ إلى الحائط. قال:" ظننت أنك ستكونين هنا".
-لم أكن أظن أنك ستأتي.
تردد صوتها في المبنى الفارغ الذي بدا أكثر هدوءا من البارحة.
-لدي بعض الأعمال المكتبية التي علي أن أنهيها. آمل ألا تبقي هنا طيلة النهار, فالعمل ستة أيام في الأسبوع في صالة العرض, وقضاء عطلة الأسبوع في العمل في صالة العرض, وقضاء عطلة الأسبوع في العمل لحسابي, يعتبر عبودية ولن أرضى بها.
-هذا مختلف عن العمل في صالة العرض.
لوى فمه:" أهذه عبودية تحبينها؟".
-أعلم أنني أتقاضى أجرا مقابل هذا, لكنني أقوم بعمل أحبه!.
-حسنا, لا تطيلي البقاء. هل تحتاجين إلى شيء ما؟.
هزت ريانون رأسها:"لا, شكرا لك".
وقف للحظة ثم قال:" حسنا, إلى اللقاء".
وقفت تستمع إلى وقع خطواته, وبقيت جامدة في مكانها إلى أن أيقنت أنه ذهب. . . ذهب بكل بساطة!
عادت إلى الرسم فارتكبت غلطة, وشتمت في سرها, مر الحارس بضع مرات ليطمئن عليها, ثم غاب.
وعند الساعة الواحدة, ظهر غابرييل من جديد وسألها: هل تناولت الغداء؟ أو أخذت استراحة؟".منتديات ليلاس