السلالم, إلا أنه لم يرد أن يراها تذهب, فنظرة واحدة منها كانت كفيلة بأسره وإثارة اهتمامه.
لم يكن عليه أن يلمسها, فقد أخافتها لمسته وجعلتها تقع على السلالم.
وتذكر وجهها الشاحب وعينيها اللتين ازداد لونهما عمقا تحت تأثير الصدمة, وفمها الجميل, فشتم منزعجا.
لقد خسر فرصة التقرب منها, إذ جعلها تقع وتتألم إلى حد كاد يغمى عليها.
وبعد كل ما جرى, لم يبق سوى مساعدتها في الصعود إلى سيارتها بأمان, ونسيان هذه المقابلة التي اتخذت طابع كارثة.
***********
قادت ريانون بحذر وبطء, وهي تدرك أن يدها لن تحتمل الكثير من الضغط. كانت عضلات كتفيها متشنجة, وعند الضوء الأحمر في إشارة المرور, استغلت الفرصة لتمارس تمارين التنفس, كما أفلتت المقود لتريح أصابعها.
حين مررت أصابعها على المقود, تذكرت بوضوح يد الغريب وهي تلامس يدها. كانت يدا قوية لكن مطمئنة. تذكرت عينيه, وكيف تغير لونهما من الرمادي الفضي, إلى ازرق شبيه بلون صبيحة نهار في الشتاء. كانت عيناه تشعان دفئا. حين أمسكت به يحدق إليها, بدت عيناه ممتنتين, ثم استحالتا معتذرتين, فقلقتين, ولاحقا فضوليتين.
أصبح ضوء إشارة المرور أخضر, فداست برجلها على البنزين بتردد, ثم انطلقت.
أحست وكأنها تقف على طرف حافة, وبشعور غريب في معدتها وبنبض غريب في عنقها. شعرت بحرارة تجتاح جسمها, وبتعب شديد وضعف.
لقد هزها الحادث من دون شك, وستحتاج إلى بعض الوقت لتستعيد عافيتها بالكامل.
وصلت ريانون إلى الفيللا القديمة في (( مونت ألبرت)) التي تتشاطرها مع شابة أخرى, وراحت تحمل البلاطات تدريجيا وتنقلها إلى غرفة نوم في الطابق الأعلى حولتها إلى مشغل.
قد تتمكن لاحقا من إنجاز بعض أعمالها الصغيرة في صالت العرض الجديدة وسط المدينة, إلا أنها تتقاضى الآن أجرا مقابل لوحة كبيرة.
بعد أن نقلت البلاط, نظرت إلى كوعها, ووضعت كمادة باردة في المكان المتورم. وفي وقت لاحق من الأمسية, أصرت مدبرة منزلها وهي ممرضة سابقة, على تحريك يد ريانون مرات عدة.
-يدك ليست مكسورة,ولكن يستحسن أن تذهبي إلى الطبيب ليفحصها.
هزت ريانون رأسها:" أعدك بالذهاب إلى الطبيب إذا لم تتحسن".
بعد العشاء, غلفت ريانون البلاط بورق جرائد وحطمتها بالمطرقة بيدها اليسرى. وكما قالت للرجل الغريب في مرآب السيارات, فإن معظمها محطم أصلا.
بعد أن وضعت بعض القطع المحطمة داخل التصميم, أحست بعدم رغبة في العمل فتوقفت.
بعد أسبوع, ونهار الجمعة تحديدا, كانت تدخل الطابق الأرضي من المرآب حين استوقفها صوت عميق مرح, صوت رجل جعلها ترتجف إنه الإله اليوناني.
لحق بها ورماها بابتسامة:" مرحبا مجددا! كيف حال يدك؟".
ونظر إلى يدها الظاهرة تحت فستان لونه بيج.
أجابت مندهشة قبل أن تبتسم: " بخير شكرا".
-لا تزال الكدمة ظاهرة.
لقد مرت المرحلة الأسوأ, إلا أن لونا بنفسجيا ما زال باديا. مرر أصبعا رجوليا على الكدمة, فاجتاحتها رجفة غريبة.
-آسف, هل لايزال كوعك يؤلمك؟.
-كلا.
قالت هذا, وابتعدت قليلا إلى الوراء, مخلفة مسافة بينهما.
رمقها بنظرة مازحة: " إذا, أعتذر لأنني تخطيت حدودي".
قالت ببرودة:" لا بأس!".
لا يمكنها اعتبار لمسته عدائية, فغالبا ما يلمس الناس بعضهم بشكل طبيعي, بشكل لا يثير مشاعر حميمية.
توجهت إلى السلالم, فعلق على الموضوع قائلا:" ألن تستقلي المصعد؟".
هزت ريانون رأسها, وعوضا عن الاعتراف بخوفها من المصاعد. قدمت عذرها المعتاد:
-صعود السلالم يساعدني على الحفاظ على رشاقتي.
استدار ليرافقها.
-يبدو أن الأمر ينجح.
وجال بنظره على قوامها, فراح كل عصب في جسمها يصرخ أشاحت بوجهها ولم تجب.
سأل بنعومة, وهو يصعد السلالم إلى جوارها:" هل أعتذر مجددا؟".
هزت رأسها, وانقبض حلقها, بالرغم من أن عقلها كان يردد لها أنها تتصرف بسذاجة. فأمامها رجل جذاب يعلمها أنه معجب بها. قد تسر غالبية النساء بهذا, كما أن غالبية النساء كن ليبتسمن له, ويتساهلن قليلا.
كانت ريانون تدرك تماما بأنها مختلفة عن باقي النساء.
وبعد قليل قال:" أشعر أنني أدين لك بنوع من التعويض. هل لي بدعوتك لشرب القهوة أو ما شابه؟ أو ربما لتناول العشاء؟".
ردت بحزم:" أنت لا تدين لي بشيء".
سأل:" هل أنت متزوجة؟ أو مرتبطة؟".
دفعها السؤال المفاجئ إلى الرد دون تفكير:" لا!".
-أنت حتما تكرهينني جدا, وأنا لا ألومك, فبعد الحادث...
-أنا لا أكرهك... فأنا لا أعرفك حتى.
قال بخفة:" إذا شئت..".
أشكت أن تقول له إنها لا ترغب, لكنها ترددت. إذا أرادت أن تكون امرأة طبيعية, فقد حان الوقت لتبدأ بالتصرف كسيدة, آن الأوان لتنسى الماضي.
وصلا إلى فسحة الدرج, فتوقف كما لو أنه يعيق مسارها بالرغم من وجود مسافة تقارب نصف المتر بينهما. سحب بطاقة من جيبه وناولها إياها قائلا:
-غابرييل هادسون. أعمل في مجال النقل الجوي.
اسم معروف, فغابرييل هادسون يملك إحدى أكبر الشركات الخاصة في البلد.
أكدت البطاقة شكها, فالشعار المألوف مرسوم في زاوية الباقة, وقد وضع اسمه بالحرف العريض وسط البطاقة. تتمحور كافة إعلانات الشركة حول العناية والسرعة, فتصور الجناحين يحملان برفق أغراضا ثمينة ويحلقان بها في كافة أرجاء نيوزيلندا والعالم. كانت هذه الشركة ذات شعبية لأنها, وخلافا لغيرها من الشركات, توصل الغرض إلى المنزل.
إنه رجل أعمال محترم, ذائع الصيت لنجاحه الباهر وهو لا يزال في العشرينات من عمره, وقد رشح العام الفائت لنيل جائزة الرجل الأغنى والأكثر تواضعا أما حياته الخاصة, فقد بقيت خاصة ولم تنشر للعلن.
قالت:" استعنت بخدماتك".
ومن لم يفعل فكل من له صلة بمجال الأعمال في نيوزيلندا, استعان لمرة على الأقل بخدمات شركة(( آنجل إير)) .
-هل نقلنا لك لوحات الموزاييك؟.
شعرت بحاجة لأن تغطي ملاحظتها السخيفة فقالت:
-وأعمال فنية عائدة لأناس آخرين أيضا, بالإضافة إلى الكتب.
-كتب؟.
-نعم, فأنا أملك صالة عرض ومكتبة.
مال برأسه قليلا:" أين؟".
شعرت بأنها أعطته الكثير من المعلومات, فردت باستخفاف:
-انتقلنا منذ أسابيع إلى شارع هاي.
كان إيجار المكان رخيصا بالنسبة لوسط (( أوكلاند)) بالرغم من أنه ضعف ما كانت تدفعه كإيجار المحل الصغير في الضاحية, إلا أنها أملت أن يعوض عليها هذا المكان المال الذي دفعته.
-ما أسمه؟
ما من جدوى من التراجع الآن:
-موزاييكا.
صعد شاب السلالم ومر قربهما, فاقترب غابرييل هادسون منها ليفسح له الطريق, فشكره الشاب وتابع سيره بعجل.
لا مست كتفها يد قاسية مليئة بالرجولة, واشتمت رائحة عطره الزكية التي سبق4 أن لاحظتها في لقائهما الأول.
بدأ بدنها يقشعر, وحنجرتها تضيق, لكنه ابتعد عنها وسمح لها بمعاودة السير, فأسرعت إلى السلالم.
عندما وصلت إلى الطابق التالي, توقفت لتفسح المجال لسيارتين بالمرور وفتح باب المصعد فخرج منه عدد من الركاب سأل غابرييل: " هل ستطلعيني على اسمك؟".
-ريانون, ريانون لويس.
كرر, كما لو أنه يجرب وقع اسمها على السمع.
-ريانون, أنت من ويلش أليس كذلك؟.
-نعم في الأصل.
-أرغب برؤية صالة العرض يوما ما, وقد نخرج أيضا لشرب فنجان من القهوة.
كانت نبرة صوته ودية, ومطمئنة.
إنه رجل متحضر, معروف, محترم, ووسيم, وناجح, وهو لن يلقى صعوبة في إيجاد امرأة أخرى في حال صدته الآن. لعله سينساها بعد لحظة واحدة, وبالرغم من ذلك ترددت:
-لا أحب ترك الموظف بمفرده لفترة طويلة.
اقترح:" بعد العمل إذا؟".
-علي أ أراجع الحسابات وأجري الجردة.
مال غابرييل برأسه وخفض عينيه, وزم فمه.
ظن أنها تشعر بالحياء وبعد أن تذكرت القرار الذي اتخذته سابقا, قالت ريانون بسرعة:
-يستغرق هذا الأمر عشرين إلى ثلاثين دقيقة. نحن نقفل في السادسة كافة أيام الأسبوع باستثناء السبت, إذ نقفل عند الثانية.
هل قالت ما ظنت إنها قالته؟ هل قبلت دعوة رجل ما للخروج؟ قفز قلبها من مكانه ثم عاد.