الفصل الرابع: 4- تقدم بحذر
شد غابرييل على يدها بالرغم من أنها حاولت الإفلات منه, وبعد أن سكت لبرهة سألها:" ألم تخبريني أنت أين تسكنين؟".
-لا!.
قالت هذا بغضب وأفلتت يدها بقوة. جاهدت كيلا تبتعد عنه وتجلس في زاوية المقعد أو تطلب من السائق أن ينزلها حالا. إذا فعلت هذا, فسيلحق بها غابرييل.
استقامت وصممت على البقاء هادئة والتصرف بعقلانية. هذا صعب, فقلبها يخفق بقوة وقد جف حلقها.
-أنا لا أطلع زبائني على عنوان منزلي أبدا.
لم يتحرك غابرييل, بل كتف يديه, واستقام. استحال عليها أن ترى تعابير وجهه في الظلام, فشعرت بأنه غريب عنها. قال لها بصوت منخفض وسوي:" أملت أن أكون أكثر من مجرد زبون بالنسبة لك".
أخذت ريانون نفسا عميقا:" كيف وجدت عنواني؟"
-من ملفات الشركة, فقد قلت إنك استعنت بخدماتنا يوما.
لم تستطع أن تنقل المعدات الثقيلة من منزلها إلى صالة العرض بمفردها, لذا استعانت بخدمات الشركة.
شعرت بالبرد وسألت بحدة:" هل بحثت عنه؟ أهذه الطريقة التي تنتهجها للتعرف إلى النساء؟".
-لا, كنت أبحث عن شيء آخر ووجدت اسمك.
ردت بعنف:" فحفظت عنوان منزلي! لا يحق لك هذا!".
بعد لحظة قال:" لم أفعل هذا عمدا. سامحيني ريانون, لم أقصد إزعاجك".
كذبت:" أنا لست بمنزعجة بل غاضبة فحسب, كيف تجرؤ على فعل هذا بي؟ هذا تصرف غير محترف".
كان غابرييل يعرف أنها محقة. فعناوين الزبائن سرية, وما كان ليرحم أي موظف يضبطه وهو يستعمل عناوين الزبائن لأغراض شخصية. عندما ظهر اسمها في اللائحة التي كان يطلع عليها, قرأ العنوان من دون أن يتمكن من ردع نفسه, ومنذ تلك اللحظة علق العنوان في ذهنه وحفظه.
شعر بالخزي, فلطالما اعتبر نفسه مثالا للصدق والأمانة. وكان يعتز بصفاته هذه في العمل وفي حياته الخاصة.
طبعا, لم يكن ينوي يوما استخدام هذه المعلومة. لكن ريانون تصرفت كما لو أنها تنتظر منه أن يطلع السائق على وجهتهما, وقد قال له العنوان من دون أن يفكر في العواقب بعد أن نسي كيف حصل عليه. قال:" لم أفعل هذا عمدا, والآن كل ما بوسعي فعله هو الاعتذار, وطلب الغفران منك".
-لا أريد أن تعتذر, فجل ما أبغيه هو المحافظة على بعض الخصوصية.
-أعدك بألا أنتهك خصوصيتك بعد اليوم.
ومن دون أن يفكر مد يده ليمسك يدها, إلا أنه عاد ووضعها على المقعد, على المسافة التي تفصل بينهما, وتابع:" أقسم لك أنني لم أتعمد ما جرى".
شعرت ريانون بانقباض في معدتها, وعاودتها الذكريات القديمة المزعجة, فانطوت على نفسها وجلست في زاوية السيارة".
أرادت أن تفكر بهدوء.
أرادت أن تفكر بعيدا عن غابرييل, فأدارت رأسها وراحت تنظر إلى الشارع والبيوت المظلمة.
بقي غابرييل صامتا بدوره. أتراه احترم حاجتها إلى التفكير؟ أم لم يشأ متابعة الحديث أمام السائق؟.
حين توقفت سيارة الأجرة أمام منزلها قال للسائق:" لا توقف العداد".
ولحق بريانون إلى المدخل. كان الشارع مضاءا تماما وقد تأكدت من هذا الأمر قبل أن تنتقل للعيش فيه.
ومن دون أن تنظر إلى غابرييل, أقحمت المفتاح في القفل. فقال لها:" أظنك لن تدعيني للدخول".
فتحت الباب قليلا, ثم استدارت تواجهه:" كانت أمسية لطيفة, شكرا لك".
قال بندم:" كانت أمسية رائعة إلى أن أفسدت كل شيء, أليس كذلك؟".
نظرت إلى سيارة الأجرة, فلم تر السائق كما لم يتزحزح غابرييل من مكانه.
مرر إصبعه على خدها نزولا إلى ذقنها وضغط قليلا على وجهها كي تستدير نحوه. كانت عيناه داكنتان تراقبان:
-لا تدعي غبائي يفسد هذه الأمسية.
مرر إبهامه على خدها بنعومة, فارتجف جسمها كله ثم اقترب منها وهمس:
-عمت مساء ريانون.
وفي اللحظة التالية اتجه بعيدا نحو سيارة الأجرة.
في اليوم التالي, وفيما كانت ريانون ترتب بعض الأواني الزجاجية سمعت أحدهم يناديها:"آنسة ريانون لويس؟".
استدارت وفي يدها إناء زهور جميل لترى رجلا يرتدي سترة جلدية ويحمل في يده باقة من الأزهار الملونة. انزلق الإناء من يدها وتحطم.
قال الرجل مجفلا:" تبا! آسف, لم أقصد إخافتك!".
أكدت له ريانون ما إن تمكنت من الكلام وتوقف قلبها عن الوثب:" لا بأس, لا تقلق, أنت لم تخطئ بشيء".
قال وهو يقدم لها الباقة:" هذه الأزهار لك".
حدقت إلى الباقة. وقد جعلتها رائحة الأزهار العطرة تشعر بالغثيان. وصل بيري إلى جانبها, وراح يتفحص الأضرار ثم قال:" أعطني هذه الباقة, شكرا".
ودخل زبون راح ينظر باستغراب إلى ريانون و بيري, ثم سأل:" هل من خطب؟".
قال بيري:" حذار أين تدوس, سننظف المكان في لحظات".
وعاد فاستدار إلى ريانون وسألها:" هل أنت بخير؟".
-نعم, خذ هذه الأزهار وأحضر مكنسة من فضلك.
ومرت بين القطع المتناثرة وتوجهت إلى الصندوق. عندما غادر الزبون, كان بيري قد أزال الزجاج عن الأرض.
سلمها مغلفا صغيرا:" وجدت هذا مع الأزهار".
ترددت قبل أن تفتح المغلف, ورفعته قليلا. فوجدت حرف((غ)) مطبوعا بالخط العريض أعلى البطاقة.
-أظن أن مرسل الزهور هو ملاكك غابرييل.
انتظر قليلا وحين لم تجب سألها:" ماذا أفعل بالأزهار؟".
أول ما خطر لها هو أن تطلب منه أن يرميها, إلا أنها عادت فقالت:" يمكنك الحصول عليها".
نظر إليها بيري باستغراب:" هل أنت واثقة؟".
فتحت فمها لتقول نعم, إلا أنها ترددت حين رأت امرأتين تدخلان صالة العرض وقالت:
-لا, جد إناء, وضعها في مكان ما, فقد تعجب زبائننا.
وضب بيري الأزهار في إناء صيني ووضعها في الواجهة.
حوالي الساعة الخامسة, وبعد أن انتهت ريانون من تلبية طلب أحد الزبائن, نظرت إلى الخارج فرأت غابرييل واقفا يتأمل الأزهار. رآها تنظر إليه فحياها ودخل من الباب, وبعد أن غادر الزبون, اقترب من الصندوق وقال:" منحت أزهاري مكانا مميزا".
-وضعها بيري هناك.
وضعها بعيدا عن الصندوق.
اتسعت عيناه واقترب منها وقال بهدوء:" هل فكرت بما حدث؟ آمل ألا تكوني غاضبة مني".
ابتلعت ريانون ريقها, وقد تسارعت دقات قلبها:
-أنا لست غاضبة منك ولكن....
أخذت نفسا عميقا وتابعت:" يستحسن أن نحصر علاقتنا بالعمل وحسب".
لقد فكرت في الأمر ليلة أمس, وعند ساعات الصباح الأولى توصلت إلى هذا القرار.
عبس غابرييل وسألها:" لماذا؟".
بدا الأمر منطقيا في فكرها إلا أن صوتها راح يرتجف حين ردت:
-أنا واثقة من أنك لا تخرج برفقة موظفيك.
-لست موظفة عندي, أنت فنانة تعملين لحسابك الخاص وقد أبرمنا عقدا.
-لم نوقع خطيا على أي عقد.
-الاتفاقات الشفهية ملزمة قانونا.
-الخرج برفقتك ليس جزءا من العقد.
قال:" سأضيف هذا البند إلى العقد إذا!".
وعندما لاحظ رد فعلها, أضاف بصبر:" أنت تعلمين أنني لا أعني ما أقول, ولكنك تختبئين وراء إصبعك".
-أنت واثق جدا من نفسك!.
تراجعت ريانون إلى الوراء وقد تفاجأت من وقاحتها, إلا أنها شعرت بشيء من الانتصار المرير حين احمرت وجنتاه غضبا.
تلاشى الشعور بالنصر حين بسط يديه على المنضدة بينهما, وقال:" وقد استحالت ملامح وجهه قاسية:" كنت تقضين وقتا ممتعا للغاية مساء أمس, إلى أن أفسدت كل شيء".
وقف يحدق إليها بسيطرة وهيمنة, فخافت أكثر. وتنبه غابرييل لما يجري, فاستقام وابتعد قليلا عنها, ثم قال:" استدعين هفوة واحدة تفسد شيئا قد يستحيل رائعا إذا أعطينا نفسينا فرصة؟".
هل تبالغ في رد فعلها؟ كانت تعلم أنها حساسة للغاية حيال بعض الأمور, فترددت.
خرج بيري من الغرفة الخلفية حاملا بيده ورقة صغيرة. حيا غابرييل ثم قال:
-عذرا راي! أنا عاجز عن قراءة هذا العنوان.
قرأت له العنوان. وتراجع غابرييل إلى الوراء, عندما دخل شخصان إلى صالة العرض.
تقدمت ريانون من الزبونين تعطيهما معلومات عن القطع التي ينظران إليها.
كانت ريانون عادة تحيي الزبائن وتدعوهم إلى إلقاء نظرة على المعروضات وطرح أسئلة عليها إذا احتاجوا إلى أي معلومات. فهي لا تحبذ دفع الناس إلى الشراء بالقوة, إلا أنها تحتاج اليوم إلى فسحة للتنفس بعيدا عن غابرييل.
أخذ غابرييل يتجول في الأنحاء كما لو أنه غير مرئي. حبذا لو أن هذا صحيح ولو يصبح غير مرئي! ظهر بيري من جديد, فالتقط غابرييل منحوتة من الزجاج الملون وصلت اليوم, وراح يتسامر مع بيري بصوت منخفض.منتديات ليلاس