الفصل الثالث: 3- حررني أرجوك
لم تتوقع ريانون ما جرى. وقف غابرييل مسمرا في مكانه لفترة طويلة فخيل إلى ريانون بأن الزمن توقف. وقف من دون حراك يحاول التأكد من أنها قصدت ما قالته.
لم يعانقها بقوة كما توقعت, بل شبك أصابعه بأصابعها, وعانقها للحظة ثم ابتعد قليلا إلى الوراء. تسنى لها بعض الوقت لتشعر بخيبة أمل, إلا أنه سرعان ما ضمها إليه. ضمها إلى صدره بقوة وحنان وغابا في عالم من الأحلام والأماني.
لم تظن يوما أن عناقا واحدا من رجل قد يكون مليئا بالحنان والرقة. بدا وكأنه خال من أي أنانية فجل ما يريده هو منحها الحنان من دون مطالبتها بشيء.
بدت وكأنها... بدت وكأنها لم تعانق رجلا من قبل!
حين رفع رأسه مجددا ونظر إليها بغموض, لم تستطع مبادلته النظر لشعورها بالدوار. لامس خدها واقترح مازحا: " تستطيعين مبادلتي العناق؟!".
شعرت ريانون بالخجل واحمرت وجنتاها. لإخفاء خجلها أبعدت رأسها واستدارت مفلتة يدها من يده, ومسوية شعرها.
تمتمت:" علي أن أغادر".
حين تحرك تراجعت إلى الخلف, إلا أنه اتجه نحو الأريكة لإحضار حقيبة يدها. أعطاها الحقيبة ورماها بنظرة غامضة:" أرى أنك منشغلة هذا المساء".
-وعدت زميلتي في السكن بمرافقتها للتسوق.
-تعيشين مع زميلة في السكن؟ أهي فنانة مثلك؟
-جانيت ممرضة.
-ممرضة إذا!
رافقها إلى خارج المبنى, ثم إلى سيارتها. وقبل أن يغلق باب سيارتها وراءها قال:
-أنا مسافر إلى أستراليا غدا لزيارة مكتبنا في سيدني, لكنني سأتصل بك بعد عودتي.
ستتمكن من أن ترتاح ومن أن تفكر, إلا أنها شعرت بنوع من خيبة الأمل.
لم تصدق ماذا جرة منذ بضع دقائق.
ظلت طيلة رحلة العودة تفكر بعناقه, وتسترجعه بكل حذافيره, وقد شعرت بفرح كبير وهدوء إلى أن أيقظها سائق دراجة نارية من أحلام اليقظة ليخبرها بأن ضوء الإشارة استحال أخضر وأن عليها الانطلاق.
اتصل بها غابرييل في نهاية الأسبوع التالي وقال:" عدت مساء أمس, وقد سلمتني سكرتيرتي بطاقتي دعوة لحضور عرض الرقص الأفريقي الليلة. فهل تودين مرافقتي إن كنت غير مرتبطة؟".
-الليلة؟
-أعلم أنني أدعوك في اللحظة الأخيرة, إن كنت مشغولة...
-لا... أعني نغم, شكرا لك.
-هل أمر لاصطحابك من منزلك؟.
-لا, لاقني إلى هنا. في أي ساعة؟.
-هل تناسبك الساعة السابعة والربع؟ نستطيع عندئذ تناول وجبة سريعة قبل العرض, ثم الخروج لتناول العشاء بعد انتهاء العرض.
وفيما كانت تضع سماعة الهاتف, سألها بيري بفضول:" أتخرجين في موعد؟".
-لحضور عرض الرقص الإفريقي.
-يقال إنه عرض جميل, وحسبما سمعت, يصعب الحصول على بطاقات بسهولة.
-حصل غابرييل على بطاقتي دعوة.
رفع بيري حاجبيه:" غابرييل هادسون؟ ماذا سترتدين؟".
نظرت إلى تنورتها الضيقة وقميصها الأخضر.
-لا أملك الوقت الكافي لأذهب إلى المنزل وأبدل ملابسي.
نظر إليها بيري رافضا ما تقوله.
-يا عزيزتي, عليك أن ترتدي شيئا مميزا إن كنت ستخرجين مع غابرييل هادسون. لما لا تذهبين للتسوق في فرصة الغداء وتجدين لنفسك ثوبا خلابا؟ اسمعي, لما لا نذهب سويا إلى السوق, فإن تركتك تذهبين بمفردك, ستشترين حتما ثوبا تقليديا لن يلائمك.
كانت ريانون تعلم أن ثيابها تقليدية فهي لم تشأ أن تسترعي الانتباه.
-لا, لا أستطيع أن أفعل.
-هيا يا راي, ثمة العشرات من المحال التجارية على مقربة من هنا, وأنا واثق من أننا سنجد لك ثوبا ملائما. كما أننا لن نفقد عددا كبيرا من الزبائن إن أقفلنا لنصف ساعة.
وافقت بعد جهد جهيد, فهي لا تحبذ فكرة التسوق بمفردها. استمتع بيري بوقته وهو يرفض كل ثوب تقليدي, و أخيرا وافق على فستان أزرق قصير قال إنه يبرز لون عينيها بروعة وسترة من الساتان زرقاء اللون, كما اشترت حذاء عالي الكعبين.
-تبدين رائعة.
قال لها بيري هذا لاحقا حين أقفلت صالة العرض, وأخذت حماما سريعا في حمام المكتب, وارتدت ثيابها, ثم وضعت القليل من الزينة التي اشترتها تحت إشراف بيري.
بقي بيري معها بعد أن أقفلت الصالة وراح يتأمل ما صممه. بدا وكأنه بقي لئلا تغير رأيها وتخلع هذه الملابس لتعود وترتدي ثيابها التقليدية.
قالت ريانون:" أشعر و كأنني سندريلا, أنا لا أبدو على طبيعتي".
-تبدين جذابة جدا, لطالما أخفيت أنوثتك وقد حان الوقت لإظهارها من جديد.
وقف خلفها وسوى بضع خصلات من شعرها. وبعد قليل, سمع أحدهم يدق الباب فعرف أنه غابرييل, سألها وهو يتراجع إلى الخلف:" هل أدعه يدخل؟".
-نعم, شكرا.
انهمكت في إحضار حقيبة اليد المصنوعة من الساتان التي أصر بيري على شرائها, إلى حد أنها لم تلحظ النظرة التي وجهها غابرييل إلى بيري عندما دخل صالة العرض.
عندما استدارت, قال لها بيري:" سأتركك الآن, استمتعي بوقتك".
لاحظت ريانون النظرة التي ظهرت في عيني غابرييل عندما رآها, نظرة ملؤها الاستحسان والسرور, وسأل:" هل أنت جاهزة؟".
أومأت وتساءلت إن كانت ستجهز يوما لملاقاة هذا الرجل. كان يرتدي بذلة رسمية, وقد بدا وسيما, وسيما للغاية.
سأل:" هل يدعوك عدد كبير من الناس باسم راي؟".
-بعض الأصدقاء المقربين فحسب, هل يناديك أحدهم غاب؟.
-عائلتي فقط, ولكن يمكنك أن تناديني غاب إن شئت.
-أنا لست فردا من عائلتك.
نظر إليها مفكرا للحظة ثم سأل:" هل أستدعي سيارة أجرة؟".
-لا, يمكننا السير إلى المسرح.
-وأنت تنتعلين حذائك هذا؟.
ونظر إلى حذائها الرسمي العالي الكعبين.
إنه محق في كلامه. فهي لم تعتد انتعال حذاء مماثل, وقد لاحظ هذا الأمر بسهولة. لعله خبير في الأمور النسائية, وقد ذكرها هذا بمدى افتقارها للخبرة مع الرجال.
-سأكون بخير.
أكدت له هذا وهي تتجه إلى الباب وتحضر المفتاح.
تمتم وهو يخرج من الباب:" لا تفهميني بشكل خاطئ, يعجبني حذاءك كثيرا".
-لقد تأنقت لـ... لهذه المناسبة.
أوشك أن يزل لسانها وتقول "لك"
لعله عرف ما يجول في خلدها, فقال:" استحق الأمر العناء, فأنت تبدين خلابة".
-وأنت أيضا تبدو رائعا.
حين وصلا إلى المسرح ودخلا الردهة سرت ريانون لأنها أخذت بنصيحة بيري. كان البعض يرتدي ثيابا غير رسمية إنما باهظة الثمن وأنيقة, فيما البعض الآخر متأنق حتى أنها رأت نساء يرتدين الحرير والجواهر أيضا.
عند دخولهما المسرح لفتت وغابرييل بعض الأنظار, فافترضت أن السبب في ذلك شهرته, أو سحره ووسامته. مشت إلى جانب هذا الرجل الطويل القامة الذي طوق كتفيها بذراعه بثقة واتجها إلى المطعم الصغير, حيث جلسا إلى طاولة وطلب غابرييل بعض العصير و المقبلات.
بعد انتهاء العرض, والموسيقى الصاخبة والرقص, شعرت أن رأسها مليء بشتى الصور الغريبة الملونة, من ملابس مزركشة, وأشخاص فرحين لا يرقصون على أنغام الموسيقى فحسب بل يعيشونها أيضا. خرجت من صالة المسرح وهي تشعر بأنها قضت ساعتين من الزمن في عالم آخر.
حيا أحدهم غابرييل, فقدمها إلى رجل وامرأة بالكاد سمعت اسمهما, ثم أصغت إلى حديث لم يدم إلا بضع دقائق, قادها غابرييل بعده إلى مطعم قريب من المسرح.
سوت ريانون كرسيها ووضعت حقيبة يدها على الطاولة. وحين رفعت نظرها إلى غابرييل, وجدته يحدق إليها متأملا, ثم قال:" بعض الرقصات كانت جريئة والملابس أيضا... ألم تنزعجي من هذا؟".
هزت ريانون رأسها:" طبعا لا, كان العرض رائعا".
-أظن أن الفنانين لا يتصرفون بحياء.
ووصل النادل, فسأل غابرييل ريانون ماذا تريد أن تشرب.
-عصير طماطم من فضلك, فهو يمنحني النشاط, إ سأقود إلى المنزل.
حين رحل النادل, قال غابرييل:" كنت آمل أن تدعيني أقلك إلى منزلك".
-سيارتي في المرآب, ولا أريد إبقاءها هناك.
ظهرت نظرة شك في عينيه, إلا أنها ما لبثت أن اختفت, فتحدثا عن العرض إلى أن حضر الطعام, ثم راحا يتحدثان عن مختلف أشكال الفنون.
حين غادرا المطعم, كان الشارع أكثر هدوءا بالرغم من وجود عدد لا بأس به من الناس والسيارات.
وفيما كانا يسيران على الرصيف, علق كعب حذائها بين بلاطتين وتعثرت. وحدها ردة فعل غابرييل السريعة أنقذتها من السقوط أرضا, فتمسكت بذراعه بسرعة.
بقيت نحو نصف دقيقة قريبة جدا منه إلى حد أنها استطاعت أن تشتم رائحة عطره الزكية. كانت راحة يدها على صدره الدافئ فشعرت بنبضات قلبه, إلا أنها سرعان ما أبعدت يدها.
خفف غابرييل من قبضته التي تمسك بها, إلا أنه لم يرخها تماما:" هل أنت بخير؟".
-نعم, شكرا لك.
كل شيء بخير, ما عدى قلبها, فهو ينبض بسرعة كبيرة.
-صحيح أن هذا الحذاء مثير للغاية لكنه خطر أيضا.
-مثير؟.
جاء رد فعلها عفويا ونظرت بسرعة إلى الحذاء.
-هذه الأزرار الصغيرة على جانبي الحذاء... مثيرة.منتديات ليلاس