الفصل التاسع والأخير:
-قصة ملاك
تركت سكرتيرة غابرييل رسالة لريانون تعلمها بأنه يسعها معاودة العمل وبأن السقالة أزيلت.
فسألت ريانون بيري:" هلا ساعدتني على إنهاء المشروع! سأدفع لك ثمن أتعابك طبعا".
-طبعا, أنا لست خبيرا بالموزاييك, لكنني شاهدتك تعملين مرارا, و أظنني قادر على مساعدتك.
حين رأى غابرييل بيري واقفا إلى جوارها يساعدها في الجزء السفلي من اللوحة, رماها بنظرة ثاقبة, ورفع حاجبيه.
قالت بعد أن رمقته بنظرة تحد:" سيساعدني بيري على إنجاز بقية اللوحة".
-فهمت.
علم أنها تستخدم بيري كدرع واق إذ قررت التصرف بجبن. وهذا أفضل من الاستسلام لمشاعر قد تؤدي إلى هلاكها, أليس كذلك؟.
ساعدها بيري على أكثر من صعيد. فبوجوده لم تحتج إلى أحد لنقل البلاط والعدة كما فهم تقنية العمل بسرعة. سار العمل بسرعة كبيرة, وحين كان غابرييل يحضر لمراقبة تقدم العمل, يبقى صامتا لفترة ثم يغادر.
بعد أن أنهت الشبكة, قالت:" سأنهي الباقي بنفسي, شكرا لك على مساعدتك بيري".
-أنت على الرحب والسعة. ما قصتك مع الملاك, غابرييل؟
-لا شيء, يحب الاطلاع على تقدم العمل في مشروعه وحسب.
-ليس هذا فحسب, بل كان يراقبك كالصقر. هل يخيفك؟
-طبعا لا!.
-إذا لما لا تنظرين إليه إن كنت لا تخشينه؟ أنت لا تخرجين برفقته, صحيح؟
-حضرنا عرضا واحدا سوية, وهذا لا يعني أننا نخرج معا أما باقي لقاءاتنا فكانت بغرض العمل ليس إلا!.
-أنت تهربين من شيء يخيفك. إن كنت تخشينه فيسعني تدبر أمره.
-لا, فهو لم يفعل شيئا سيئا.
طبعا لم يفعل. إنها تهرب خوفا من نفسها, ومن ردات فعلها ومشاعرها. وقد حان الوقت لتحل المسألة. آن الأوان لتخطو خطوة في الظلام.
عادت إلى آنجل إير مستعدة لمواجهة غابرييل, فلم تجد إلا ميك الذي عرض عليها المساعدة. قال:" طلب مني السيد هادسون الاعتناء بك في غيابه".
-غابرييل غير موجود؟
-اضطر إلى السفر إلى استراليا على عجل, ألم يخبرك؟
-لا.
-تعرض أخوه لحادث. إنه يدير فرع سيدني كما تعلمين.
وعاودتها ذكرى حادث والديها, ورهبة سماع الخبر والشعور بالضياع الذي تملكها حين علمت بوفاة والدتها, والخوف عندما قالوا لها إن والدها على قيد الحياة لكن حالته خطرة, والأمل المستمر الذي تشعر به كلما رأت والدها على هذا الحال.
-هل الحادث خطر؟.
-لا أعلم, ولكن السيد هادسون بدا قلقا للغاية.
لم يتحدث غابرييل كثيرا عن عائلته, لكن نبرة صوته كانت عاطفية عندما ذكر أخاه. تمنت لو تستطيع أن تعبر له عن أساها وتعاطفها. لكن رأسه منشغل حتما بأخيه, ولا يحق لها أن تتوقع منه اتصالا.
حمل ميك سلما ووضعه قرب اللوحة بناء على طلبها, وبقي بجوارها فيما تحققت من الموزاييك لترى ما إذا كان ثابتا. وفي مساء اليوم التالي, بدأت بوضع الطلاء الفضي ليظهر وكأنه جناحا ملاك.
عندما انتهت و أزاح ميك السلم, وقفت تتأمل تحفتها. قال ميك:" اللوحة رائعة, عليك أن تفخري بنفسك".
ابتسمت ريانون. كانت اللوحة تماما كما تخيلتها, ولكن ثمة خطأ ما. مهما نظرت إلى رسوماتها ودققت فيها, عجزت عن معرفة الخطأ.
*******
وجدها بيري تحدق إلى الأيقونة الروسية التي استلهمت منها, وتقارنها بتصميمها.
قالت له:" ثمة خطأ ما, ولكنني عاجزة عن تحديده".
-هذه لوحة كبيرة, أأنت واثقة من أنك لا تغالين بطلب الكمال؟.
هزت ريانون رأسها:" تبدو اللوحة غير منتهية, كما لو أن شيئا ما ينقصها".
جال بنظره من ورقة إلى أخرى بتركيز. وأخيرا, أشار إلى صورة الملاك وقال بتردد:
-راي. . . العنصر الوحيد الذي ينقص هو الوردة التي يحملها في يده.
حدقت ريانون إلى الوردة في يد الملاك, وقالت بصوت مرتفع:
-لا, إنها لوحة تجريدية, وليست نسخة.
تنهد بيري بانزعاج:" نعم, طبعا. . . القرار قرارك".
في مساء اليوم التالي دخلت ريانون مبنى آنجل إير. كان الطقس غائما طيلة اليوم كما هطلت بعض الأمطار.
نقل ميك السلم, وقال وهو يتأكد من متانته:" سأبقى هنا فيما تصعدين السلم وتنزلين تفضلي إنه متين".
كانت تمسك صورة الأيقونة بيدها, وقد ظهرت الجدية على وجهها, ورسمت بحذر الخطوط على البلاط ونقلت الزهرة بدقة متناهية ولكن بشكل أكبر. وبشكل تدريجي, تلاشت جديتها وهي تنهي الرسم.
قال ميك متفاجئا:" يسعني معرفة هذه الرسمة".
ابتسمت:" هلا ناولتني الطلاء؟".
لونت الوردة وأوراقها وفيما كانت تضع فرشاتها في وعاء الطلاء, سمعا صوتا على السلالم الجانبية. وبعد لحظات, ظهر غابرييل.
كان شعره رطبا, كما سالت بعض نقاط الماء على وجهه. قال:" سأتولى الأمر عنك ميك!".
نظر الرجل العجوز إلى ريانون قبل أن يبتعد, وسأل:" كيف حال أخيك سيد هادسون؟".
كان غابرييل يحدق إلى ريانون من دون أن يتحرك. وبعد لحظات, حول نظره إلى ميك وقال:" لم تلتئم جراحه تماما لكن حاله مستقرة. لما لا تأخذ بقية النهار عطلة؟ لدي الكثير من الأعمال لذا سأبقى هنا طيلة اليوم".
-طبعا سيدي, فأنا لا أمانع في الخروج لرؤية أصدقائي القدامى.
وبعد أن غادر ميك, اتجه غابرييل نحوها. بدا مرهقا وقد ضعف وجهه قال:
-لم أعلم إن كنت سأجدك هنا, ظننتك أنهيت العمل.
-آسفة جدا لما حدث لأخيك, أخبرني ميك عن الحادث.
-اصطدم سائق ثمل بسيارة أخي. اضطر الأطباء إلى استئصال طحاله وتقطيبه في أكثر من مكان. كما تكسرت بعض عظامه, لكننا نأمل أن يتعافى تدريجيا, زوجته معه وأمي أيضا, لا يحتاجونني قربهم.
أنا أحتاجك, أحتاجك بقربي, قالت ريانون هذا في سرها. وقد تسمرت في مكانها لهذه الفكرة.
حول نظره ليرى ماذا تفعل:" لا تدعيني أزعجك, فرؤيتك تعملين. . . نريح أعصابي".
-أوشكت على الانتهاء.
حملت الفرشاة, ولونت بحذر عنق الوردة. وبعد بضع لمسات انتهى العمل. أغلقت وعاء الطلاء, ووضعت الفرشاة عليه, ثم ناولتهما لغابرييل.
-هلا أخذت هذا من فضلك؟
وضع الأغراض على الأرض, وفيما كانت تنزل السلم, أمسك به بقوة. وحين استدارت وجدت نفسها بين ذراعيه المفتوحتين.
انتفض قلبها, لكنها نظرت إليه من دون خوف وقابلت نظراته المتسائلة. وبهدوء, رفعت يدها ووضعتها على صدره.
اقترب ببطء, مانحا إياها الوقت لتبتعد, لكنها لم تفعل.
ضمها إلى صدره بقوة, فأغمضت عينيها واستسلمت لعناقه, وبعد لحظات ابتعد عنها.
-احتجت كثيرا إلى هذا العناق.
-وأنا أيضا.
التمعت عيناه لكلامها, فاقتربت منه تعانقه من جديد.
عانقها بقوة, ثم تنبه لما فعله فأرخى يديه قليلا, كان يعاملها بحذر ولطف شديدين, وذاب قلبها كالحديد على النار.
شعرت بأنها تحلق في الفضاء, فقال وهو يعانقها مجددا:" شكرا لك!".
تغيرت ملامح وجهه عندما نظر إلى الرسم الصغير, وسأل:" لم تكن هذه الوردة في التصميم الذي رأيته؟".
-لا, هل لديك مانع؟.
هز رأسه, ونظر مجددا إليها بنوع من الفضول والاستغراب.
-أحبها, لما رسمتها؟.
-بدت ملائمة, لا أعلم لما رسمتها؟
قال وهو ينظر إلى اللوحة:" أنت محقة. هل وقعت اللوحة؟".
-لا.
لم توقع اللوحة قبل أن تسوي ما كان ينقص. انحنت ووضعت حرفي اسمها على طرف اللوحة, ثم وافته إلى الدرج. قال:" تهاني, إنها ثروة للمبنى. سيتحدث الناس عنها حتما".
-إنها أفضل عمل قمت به, والأكبر أيضا, أشكرك لأنك منحتني هذه الفرصة.
نظرت إلى الفرشاة التي لا تزال تحملها بيدها, وقالت:" يفترض بنا ترتيب المكان, كما علي تنظيف فراشي التلوين".
لو قال لها إلا تفعل شيئا الآن, لأطاعته من دون تردد. لكنه بالكاد أومأ وبدأ يوضب المعدات. تذكرت أنه قال إن عليه إنجاز الكثير من الأعمال المكدسة جراء غيابه.
قال:"علي أن أنهي بعض الأعمال الضرورية, هل يمكنني أن أطلب منك الصعود إلى المكتب وانتظاري؟ أريد التحدث إليك والتواجد بقربك".
-يسرني لك.
تمهل عندما وصلا إلى المصعد, وقال:" فلنصعد السلالم. . ".
-لا, لا بأس.
عندما فتح باب المصعد, ترددت للحظة قبل أن تدخل الغرفة الصغيرة, وضغط غابرييل على رقم طابق مكتبه.
بدأ المصعد بالصعود, فغاب كل صوت من الخارج كانت تقف على بعد أقدام منه وهي تتكئ إلى الجدار, وتذكر المرة الأولى التي رآها فيها, حيث وقفت في زاوية المصعد تماما كما تفعل الآن. وفجأة, سمع دوي قوي من الخارج وتوقف المصعد, وانقطعت الكهرباء.
شتم غابرييل, وضغط زر الإغاثة ولم يجبه أحد.
لم تحدث ريانون أي صوت, ولم يستطع رؤية شيء في الظلام الحالك.
-ريانون, هل أنت بخير؟.
-نعم.
كان بوسعه سماع الخوف باديا في نبرة صوتها.
-لا تخافي, انقطعت الكهرباء فحسب, ما من شيء خطير.
حاول فتح البابين ولكن من دون جدوى:" تبا!!".
سألت ريانون:" ما بك؟".
حاول أن يطمئنها:" نحن لسنا في خطر لكن هاتف الطوارئ لا يعمل, يبدو أن أحدهم قطع التيار الكهربائي والهاتف".
-ماذا عن هاتفك الخلوي؟ أنا لا أحمل هاتفي معي.
-لن يعمل هنا!.
لعن الظلام, وابتدأ بالتقدم منها بهدوء.
-نحن عالقان, ولكن لن يطول الوقت قبل أن يتم إصلاح العطل.
غادر ميك المبنى منذ بعض الوقت, وقد تمر ساعات قبل أن يعود, كما قد لا يلاحظ وجودهما في المصعد.
لمست يده يدها, فتنهدت وابتعدت عنه.
قال بغباء:" هذا أنا".
بدا صوتها مخنوقا وباردا:" أعلم هذا! لا تلمسني, أرجوك".
صدم غابرييل لقولها هذا, واجتاحته موجة من السخط. شعر بأنه مسجون وما بيده حيلة. مسجون مع امرأة تموت خوفا, وهو عاجز عن رؤية أي شيء.
وها هي ريانون تتصرف كما لو أنه يوشك على الاعتداء عليها, فصرخ:
-بحق السماء, ومتى منحتك عذرا لتخافي مني؟ ما الذي جرى معك بحق الله؟.
فكر: يا للطريقة الملائمة لنيل ثقتها! إلا أن صبره عيل, وفقد أعصابه.
لم تجب فضرب الحائط بيده, وشتم بصوت مرتفع, وهو غير مهتم بمداراة مشاعرها بعد الآن.
سمع صوتها ورائه:" أنا آسفة".
-علام تعتذرين؟.
لم يرضه الاعتذار, ولم يخفف من روعه. إن كان على أحدهم أن يعتذر فهو وليس هي.
-أنا لست خائفة منك غابرييل.
سمع حركة خفيفة وراءه لكنه لم يستطع رؤية شيء.
تابعت:" خشيت أن أصبح هستيرية وأفاجئك لو لمستني, وهذا ليس بمفيد لكلينا".
يا إلهي! إنها تحاول السيطرة على نفسها, هذا هو معنى حديثها. إنها تحارب خوفها, وهي مصممة على عدم الاستسلام. تحارب هذا الخوف بمفردها وعلى طريقتها, فصرخ في وجهها:" تصرفي بحرية. تصرفي بقدر ما تريدين من الهستيرية, فجري مكنونات صدرك ومكنونات صدري أيضا".
ارتاح لسماع ضحكتها, وسألته:" هل أنت خائف؟".
-لست خائفا, بل منزعجا, وأعجز عن الخروج من هذا المأزق. ألا تكرهين هذا الشعور؟.
-ليس بقدر ما كنت سأكرهه لو أنني بمفردي.
هذا خبر سار. قال بحذر:" قد يمر وقت قبل خروجنا من هنا, لذا يستحسن بنا أن نرتاح قدر الإمكان. هل تشعرين بالبرد؟".
-لا فالجو حار قليلا.
-أعلميني إن احتجت لسترتي.
-حسنا.
بدأت عيناه تتأقلمان مع الظلام, واستطاع رؤية انعكاس وجهها على باب المصعد.
جلس غابرييل أرضا ومد رجليه الطويلتين أمامه فيما أسند رأسه إلى الحائط خلفه. تمنى لو تدعه يقترب منها. كان يتوق إلى ضمها إلى صدره وحمايتها, ومواساتها. لكنها لا تريده أن يفعل هذا, وعليه احترام رغبتها.منتديات ليلاس