قال بيري:" لا بد أنك مغرمة!".
-ماذا؟.
نظرت إليه ريانون بذهول وقد نسيت الكتاب الذي تحمله بين يديها.
-أنت تقفين هنا من دون حراك منذ نحو خمس دقائق كما لم تسمعي كلمة واحدة مما قلته.
احمرت وجنتاها:" عذرا بيري, كنت أفكر".
-إنه ملاكك غابرييل, وأنا لا أعني لوحة الموزاييك. كيف تجري الأمور؟.
-سأعمل على الجهة العليا من اللوحة في الأسبوع المقبل.
لقد أنهت نصف اللوحة, والعمل على الجزء السفلي أسهل. يثير فيها إنهاء المشروع مشاعر متناقضة, فهي تتوق إلى الانتهاء منه ورؤية ثمرة عملها, لكنها تخشى في الوقت عينه أن يطرأ تغيير على علاقتها بغابرييل جراء ذلك.
كانت ريانون تشعر بالضياع والإثارة كلما فكرت بغابرييل. وقد تساءلت في بعض الأحيان عما إذا قرر عدم إضاعة وقته معها نظرا لأنها عاجزة عن منحه ما يريد. يفترض بها أن ترتاح لأنه لم يعد يريدها, إلا أنها شعرت بألم يعتصر فؤادها ويمزقه.
اكتشافها أنها مغرمة به أثار الكثير من المسائل والتعقيدات, وباتت تشعر بالسعادة والخوف في الوقت عينه.
عندما بدأت ريانون بملء الفراغات بين قطع البلاط, عرض غابرييل عليها مساعدته لإنهاء الزاوية العليا, فراحت تراقبه عن كثب.
بعد أن عملت لبعض الوقت, خلعت قفازيها ومسحت جبينها, ثم حركت يدها اليمنى المتصلبة.
قال لها غابرييل:" هذا يكفي. أنت أقوى مما تبدين عليه, لكن هذا العمل مرهق, وأنا جائع, هل تناولت الطعام قبل أن تحضري إلى هنا؟".
-تناولت صحن سلطة.
بدا مشمئزا:" سلطة! أنت تحتاجين إلى شيء مفيد أكثر من السلطة. لما لا نخرج لتناول وجبة طعام حقيقية؟".
أشارت ريانون إلى قميصها وسروالها الملطخين, ونظرت إلى حذائها, فإذا به ملطخ أيضا.
-هل تمزح معي؟
-سأطلب طعاما جاهزا. ماذا تفضلين؟ طعاما هنديا؟ صينيا؟ سمكا؟ نقانق؟
كانت أفكاره ممتازة, جعلتها تشعر بالجوع, وقالت:" طعاما صينيا!".
وفيما راحت ترتب معداتها خرج لإحضار الطعام, ثم عاد وهو يحمل في يده كيسا كبيرا تفوح منها رائحة زكية, كما حمل تحت إبطه جريدة.
مد الجريدة على طاولة القهوة ثم وضع الكيس الورقي عليها. وعندما خرجت من الحمام بعد أن غسلت يديها, كان قد أعد المائدة, وأخرج قنينة مرطبات من الكيس, فشعرت أنها مدعوة إلى وليمة.
بعد أن انتهيا من تناول الطعام, جلست ريانون على الأريكة, وفي يدها كوب مليء.
أراد أن يضيف إلى كوبها المزيد, فرفضت:
-إن أردت أن تنتهي لوحتك, فكف عن إطعامي لأتمكن من الوقوف والعمل.
-لن تعملي الليلة!
-أريد إنهاء النصف العلوي.
ونظرت إلى ساعتها..
-حسنا, ما رأيك ببعض التفاح؟
رددت ريانون, من دون أن تفهم:" تفاح؟".
-أنا أمزح. لا تقلقي!
أنهت ريانون العصير فانحنت لتضع الكوب على الطاولة. لفتت الجريدة المطوية نظرها إذ أظهرت جزءا من صورة. إنها صورة رجل وسيم في منتصف العمر يدير ظهره للكاميرا, وقد امتدت يد لتمنع المصور من التقاط الصورة.
اقتربت ريانون أكثر, فيما راح قلبها يخفق بقوة. لا يعقل, هذا مستحيل!
بلى, لقد تعرفت إلى وجهه, بالرغم من مرور أعوام على المرة الأخيرة التي رأته فيها.
مدت يدها بسرعة وسوت الجريدة فرأت الصورة كاملة وقرأت العنوان:" طبيب نفسي متهم".
وانتقل نظرها إلى المقالة:" الطبيب النفسي جيرالد دود متهم من قبل مريضتين سابقتين لديه بالتحرش الجنسي. وقد رفض التحدث إلى مراسلنا بعد أن استدعي إلى المحكمة نهار الجمعة. . . ".
و غامت الكلمات أمام ناظريها. أخذت يدها ترتجف, فأمسكت الجريدة بسرعة, ووضعتها في حضنها.
جيرالد دود. وراح الاسم يتردد في رأسها. نظرت مجددا إلى الصورة, وهي تتمنى لو تستطيع الانقضاض عليه.
بدا صوت غابرييل ملحا:" ريانون؟ ما الخطب؟".
حدقت إليه من دون أن تراه جيدا. تذكرت تلك الغرفة بأنوارها الخافتة, و جيرالد دود الذي جلس وهو يضع يده على ركبتها ويحدق إليها بنظرة غامضة وحادة.
((يمكن شفاء البرودة الجنسية, يمكنني أن أساعدك)).
-ريانون؟ هل أنت مريضة؟.
لا بد أنها بدت مريضة. كان رأسها يدور وشعرت بالبرد في جسمها كله, كما ظهر العرق على جبينها.
همست:" أنا أعرفه!".
نظر غابرييل إلى الجريدة ثم حملها بين يديه, وقد اسودت عيناه:
-هل مات أحدهم؟
نظر إلى العناوين ثم استدار ناحيتها:" أتعرفين هذا الرجل؟".
عجزت عن الكلام من تأثير الصدمة, لذا اكتفت بأن تهز رأسها إيجابا.
أخفض غابرييل نظره وراح يقرأ المقالة بسرعة, ثم فتح على الملحق ليرى نهاية المقال.
نظر إلى الأعلى, وقد ظهرت علامات الحزن على وجهه, ثم سألها:
-إنه الطبيب النفسي الذي كان يعالجك؟ هو من قال لك إنك باردة؟
ومجددا, أومأت برأسها إيجابا.
شتم بصمت, وسألها بسرعة:" هل فعل بك هذا أيضا؟".
بدت الأوراق التي يحملها بين يديه ضبابية, وقالت:" لم أقرأ المقال كله".
قال بقوة والقرف باد في صوته:" تحرش جنسي!".
وضع الجريدة جانبا وأردف:" السافل استغل مرضاه, لكنه يقول إنهن وافقن على أساليبه في العلاج".
ردت:" نعم, سيقول هذا. فقد استمع إلى أسرارهن الحميمة. وعرض عليهن المساعدة والدعم, واقترب منهن أكثر من والدتهن حتى. لقد جعلهن يعتمدن عليه, ووعد بمساعدتهن على الشفاء, وبالوصول إلى حالة جسدية ونفسية طبيعية إن وثقن به. فهذه هي الطريقة التي. . . يعمل بها".
لكنها أدركت أن ما يقوله خاطئ. صحيح أنها كانت ضعيفة ومشوشة, لكنها حافظت على بعض المنطق فرفضت ادعاءات جيرالد دود, وعرفت ما يحاول فعله.
اسودت عينا غابرييل, وتصلب وجهه فبدا وكأنه منحوت من الصخر.
-هل بلغت الشرطة عنه؟
هزت ريانون رأسها نفيا:" ما كان أحد ليصدقني, هذا ما قاله لي. فهو طبيب مشهور. . . وأنا مجرد شابة مضطربة نفسيا".
للحظة, فقد غابرييل رباطة جأشه المعهودة, وبدا غاضبا جدا. أخذت نفسا عميقا ووضعت يديها في حضنها.
ومن دون تفكير, اقتربت منه وانساب دفء أصابعه إلى أصابعها صعودا إلى يديها,إلى أن عانقها فغمرها بالدفء مجددا.
-قال. . . إن النساء المرضى يتوهمن ويتخيلن أمورا لم تحصل. كنت أعلم أنني لا أتخيل, لكنه كاد يقنعني. وقد أيقنت أنه لن يواجه صعوبة في إقناع أي لجنة تحقيق.
تمتم غابرييل:" السافل!".
كانت ترتجف, وشعرت كأنها غزال يركض في الغابات هربا من شيء ما, وقد وجد ملاذا آمنا.
لم تستطع رفع نظرها إلى الأعلى. حدقت إلى ذقن غابرييل وأدركت أن عضلاته مشدودة جدا.
قربها منه إلى أن استندت إلى صدره. كان يضمها بحنان, وقال:
"هذا الرجل مجرم. إنه حيوان ينقض على فريسته. يا له من حيوان, يختار أضعف النساء ضحايا له. آمل أن يتعفن في السجن لبقية أيام حياته".
همست ريانون:" شكرا لك".
ابتعد عنها قليلا ونظر إليها:" علام تشكرينني؟".
-لأنك صدقتني... لأنك غضبت مما حدث معي... لأنك واسيتني, بالرغم من أنك لم تحضر لي التفاح.
حاولت أن تبتسم ورفعت رأسها لتنظر إليه.
لم يبتسم غابرييل لكن الغضب تلاشى من عينيه:" إذا, أنت تعرفين ما يقال عن التفاح".
تردد صدى هذه الجملة في رأسها. لعلها سمعتها في زفاف صديق! فرددت:" ناولني إبريقا و أغرني بالتفاح . . .".
قال غابرييل بصوت عميق ودافئ:" إنه قول مأخوذ من نشيد الأناشيد".
وبالرغم من أنها تعرف تتمة الأبيات إلا أنه أضاف:". . . فأنا سقيم من الحب".
نظر إلى عينيها المنخفضتين ووجنتيها المحمرتين. سألها: " ريانون؟".
أدرك الجهد الذي بذلته لترفع نظرها وتحدق إلى عينيه, وقالت متنهدة:" نعم؟".
ولم تبتعد بالرغم من نظرة القلق البادية في عينيها.
قال مجددا بصوت أشبه بالهمس:" ريانون؟".
كان يشعر بقلبها ينبض قرب صدره. قالت مجددا وهي تجيب عن السؤال الذي ارتسم في عينيه:" نعم".
أغمض عينيه للحظات. ثم قلص المسافة التي تفصل بينهما وعانقها عناقا طويلا, حارا ملؤه المشاعر و الأحاسيس العذبة.
عانقها لوقت طويل, فضاع كل معنى للوقت والمكان, وشعر بسعادة لم يعرف لها مثيلا يوما.
☻☺☻☺☻☺