انها المرة الاولى تراه و الشعر يكسو وجنتيه , فهو يبدو تماماً كالملاحين بشعره المنسدل على جبينه .
مما يخفف من قسوته المعهودة , و يضفي عليه طراوة خاصة .لكنها ما لبثت ان سمعت صوته و خاب ظنها فهو عندما يخاطبها يتسلح بسطوته و يستعمل صوتاً بارداً جامداً كالحجر .
قال فرايزر باستغراب شديد :
- ماذا تفعلين هنا ؟
ولم تندهش للهجته العدائية , بل اجابت برباطة جأش :
- رأيت المركب في المرفأ .. وجئت لاطمئن عن عودتك سالماً معافى !
فتعجب فرايزر وقال :
- ولماذا هذا القلق المفاجئ ؟
- لان جوني في ضيافتي و هو ينام عندنا منذ ..
فقاطعها فرايزر بحنق :
- بأية مناسبة دعوتِ جوني ليحل ضيفاً عندكم ؟ ولماذا يستحق هذا الشرف لينعم بضيافتكم ؟ آنسة ليزا ..... هل اختطفتِ جوني مرة ثانية ؟
اجابت ليزا و هي تحاول ان تضبط اعصابها :
-اضطرت السيدة ديكسون للغياب , ابنتها مريضة و يلزمها عملية جراحية . فعرضت خدماتي يا سيد فرايزر ريثما تعود من سفرك , لم أجد طريقة أخرى للتصرف في ظرف كهذا . لو كان بمقدوري اللحاق بك لاستأذنتك أمر اعتنائي بجوني .
- انا مدين لكِ بخدمة .... لكن الامر الغريب هو اقتناع خالتكِ باستضافة ابني تحت سقفها ؟
- هي التي اقترحت علىّ دعوة جوني الى بيتها اذ ارادت تجنب مكوثي هنا و لو لليلة واحدة .
- حسناً فعلتَ.... خاصة و انني عدت عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .
- و لم تفتقد جوني في غرفته ؟
- اعتقدت انه في الداخل , لدى مشاهدتي باب غرفته مقفلا , لم اشا ازعاجه , كيف اصبح ؟
- أخافته العاصفة ليلة امس و لم ينم جيداً و حلم حلماً مزعجاً رآك تصارع الامواج لكنه الآن في أحسن حال , هل ترافقني لتسكن روعه ؟
- اكون جاهزاً بعد عشرين دقيقة !
قال فرايزر فجأة بصوت منفعل , وخرج من الغرفة , واتجهت ليزا الى الدار بعد ان اقفلت الباب خلفها .
وما هي الا دقائق معدودة حتى لحق بها فرايزر و انطلقا الى منزل الخالة مود و لاحظت ليزا انه لم يضيع و قته في حلق ذقنه , بل اكتفى بتبديل ثيابه ووافاها مسرعاً . جذبتها من جديد لحيته الناشئة , فقالت له :
- ربما لن يستهويك جوني بلحيتك .
- لا , لن تزعجه لحيتي , اعتاد جوني رؤيتي على هذاا لنحو , اين هو الآن ؟
واقتادته ليزا حتى غرفة جوني في الطابق العلوي وهي تفكر انها تجهل كل شئ عن ماضي هذا الرجل , و شعرت بموجة من الغيرة تجري في دمها , لم تجد لها تفسيراً .... استقبل جوني والده فرح كبير و ارتمى بين ذراعيه , فسحبت ليزا ستائرالنوافذ كي تدخل أشعة الشمس الى الغرفة ,وخرجت , كان فرايزر يحدث ابنه بصوت شجي و يداعبه ,فارتاحت ليزا لانفعال جوني و لعودة البسمة اليه , وخرجت كي تحضر طعام الفطور و هي تحاول ان تضع برنامجاً لنهارها ,فهي مرتبطة بموعد مع عارضة الازياء سارة شيزهولم , ان لم تنس هذه الاخيرة موعد قياسها الاول لجلسة العمل الاولى , وافاها فرايزر الى المطبخ و هي منهمكة في اعداد طعام الفطور .
قالت ليزا بأدب :
- الفطور جاهز .
-اليست هذه طريقة لاجتذاب قلبي المتحجر ؟
- لا على الاطلاق ! اتصرف حسب ادب الضايفة ,في اي حال عن اي قلب تتحدث يا سيد فرايزر ,
يبدو انك رجل من دون قلب او انك تغشنا ,تضع قناعا مزيفاً وخلفه تخفي وجهك الحقيقي .....لكنك فشلت في اخفائه حتى انك تبعث النفور في من يعاشرك , وتحبط عزيمة المتعاملين معك .ادعوك لتناول طعام الفطور : قهوة , بيض , مربى , هذا كل ما في الامر !
اجاب فرايزر ضاحكاً :
- كفى ! قليل من الشاي يكفيني .... فطوركِ شهي يا آنسة , لكنني افضّل كوباً من الشاي .....
اقبل دعوتكِ هذه لانني تأكدت من حسن نيتكِ .
وجلس فرايزر حول المائدة وقال بسخرية :
-انتِ عصبية كخالتك , هل هذا الشبه في الطباع وراثة ام انكِ تطبعتِ خلال اقامتكِ هنا ؟
- وراثة ... لا تفوق ما ورثته انت من مقدرة على الهزء من الناس بصورة دائمة ... هل سيتبعك جوني ؟
قالت ليزا بصوت هادئ لانها فهمت نواياه فهو يحاول اغاظتها واثارة حنقها , فحافظت على رباطة جأشها و افشلت خطته .
اجابها وهو يباشر بتناول طعام الفطور :
- طلبت من جوني العودة الى النوم , فهو بحاجة الى راحة , خاصة انه امضى ليلة مزعجة امس .
- لم يكن سفرك سهلا بالطبع . العاصفة قوية للغاية , و لقد نلنا نصيبنا الكافي منها هنا .
- لقد عرفت اسوأ من ذلك , لكن من حسن حظنا هذه المرة اننا استطعنا الاقتراب من الشاطئ عندما اشتدت العاصفة ,فكنا هكذا في مأمن و بوضع افضل .
- هل كان الطقس في ليشبونة سيئاً ايضاً ؟
- كلا ... لكنني اضطررت الى البقاء في ليشبونة مدة اطول لاصلح المركب , ولان هاري و سارة رغبا في اقامة سهرة مع اصدقائهما , قبل الابحار .
واضاف فرايزر بشئ من الانزعاج :
- تذكرني سارة بهولي .
سألت ليزا باستغراب :
- هولي ؟
- والدة جوني سابقاً , كانت تحب السهرات و الحفلات الراقصة .
انه يتكلم عن زوجته بصيغة الماضي ,اذن ... السيدة هولي توفيت , ولا امجال بعد اليوم لاثارة شكوكها حول هذا الامر , ارادت ليزا ان تطيل جلستها مع فرايزر لانها شعرت انه وللمرة الاولى يتحدث عن نفسه ,
فسالته بلطف بالغ :
- هل يشبه جوني والدته ؟
- اجل .... بطرق مختلفة , الوجه و البشرة متشابهات , ثم هناك الخوف من العاصفة وا لبحر .
وكأن هذه الناحية من شخصية جوني تزعجه , فهو يريده ربما اكثر صلابة , تجرأت ليزا و سالته السؤال الذي طالما انتظرت الفرصة لتطرحه :
- هل كنت تحب السيدة هولي كثيراً ؟
فوجئ فرايزر من سؤالها و لاح على وجهه استياء حاول اخفائه وقال بقساوة و سخرية :
- سؤال تطرحه النساء عامة ... اما جوابي فهو انني لست ادري .
- هذا غير ممكن ! الم تكن السيدة هولي زوجتك ؟ الم تزوجها بدافع الحب كما يفترض ان يكون الزواج عادة ؟
الحّت ليزا و انتظرت الجواب ,فاجاب فرايزر بلهجة مشككة :
- سمعت بهذا القانون : الزواج المبني على العاطفة او الحب . لكن لم يكن لدي الوقت الكافي للتاكد من عاطفتي ..عندما التقيت هولي للمرة الاولى كانت فتاة مرحة , ظريفة , وهي ابنة وحيدة لعائلة ميسورة ,
وكنت انا وحيدا و غريبا ,وهي التي رغبت في الزواج , فوافقت. كانت هذه غلطتي الاولى , اذ رفض اهلها فيما بعد استقبالنا في منزلهما .
- لماذا ؟
- لم يصرّح احد منهما عن رأيه , لكني فسرت موقفهما هذا بانهما لا يعتبرانني زوجا صالحا لابنتهما ,
فلست بالنسبة اليهما سوى مغترب بسيط يحاول شق طريقه في صناعة المراكب في مدينة هوبار
و في هذه الحال , لم اكن اليق بالطبع بابنة وحيدة تنتمي لعائلة غنية .
وعاد فرايزر لتناول طعام الفطور فبدا وجهه لليزا وقد خدرته الهموم نتيجة عزمه المتواصل وسعيه الدائب لتحسين وضعه . ولم تغب عنها هذه المسحة من الفكاهة السوداء المأساوية التي احتلت هي ايضا قسماً من وجهه والتي لا تظهر الا عندما يحاول اخفاء المه . فمهما كانت الاوضاع التي مر بها في تسمانيا او اوضاعه في اردمونت اليوم حيث يسعى جاهدا لانجاح مؤسسته , فهو يبقى هذا لرجل المقدام الشجاع الذي تفتخر به جميع النساء دون استثناء ..
وعادت ليزا الى الكلام مشيرة الى زواجه السابق , فقالت :
- ربما اعتقد اهل زوجتك انك من صنف الرجال الذين يطمعون في مال زوجاتهم .
فرمقها فرايزر بنظرة ملؤها الدهاء واجاب ببساطة موافقاً :
- من المحتمل ان يكون كذلك .
- وماذا جرى فيما بعد ..؟
- موقفهما من زواجنا اثر كثيرا على صحة هولي , وكانت غلطتنا الثانية مولد جوني , فلم تحتمل الآم الولادة و لم يمض شهر حتى توفيت تاركة ثروتها واملاكها لابننا .
- امر محزن للغاية .
قالت ليزا مصعوقة لحفاظه على رباطة جأشه , فلم يظهر عليه اي انفعال على الاطلاق , بل اكمل ببرود :
- نعم .... امر محزن لجوني اكثر مما هو محزن لي ,فجوني لم يعرف معني الأمومة !
اجابت ليزا بنفور :
- تريدني ان اعتقد انك لا تبالي بحضور زوجة الى جانبك ؟
- ماذا تقصدين ؟ بالضبط ؟
- اعبر فقط عن استيائي و رفضي .
- استياؤكِ مني انا ؟ وماذا ترفضين ؟
- استاء من حجبك الدائم لحقيقة مشاعرك , فانت لا تبوح ابداً بأنك احببت زوجتك يوماً .
وارفض تظاهرك بعدم اكتراثك لحاجتك الماسة للزواج من جديد كي يكون لجوني أماً تعتني به , عزة نفسك غير المعقولة تمنعك من الظهور على شكلك الصحيح .انت تخاف ان تثير الشفقة في من حولك .
فاصفر وجه فرايزر فجأة و نظر الى ليزا نظرة ملؤها الحقد .. خيّل اليها في هذه اللحظة انه يتمنى صفعها بقوة , لكنه لم يفعل , بل اكتفى بالاجابة بصوت بارد :
- عليكِ ان تصوني كلامكِ يا آنسة سميث ... والا وجدت نفسي مضطراً للعودة الى رأيي السابق بانكِ تريدين ان تكوني امًاً لجوني ,بالرغم من نكرانكِ لهذا الاتهام .
ذهلت ليزا لردة الفعل التي اثارتها عن غير قصد لدى فرايزر , و شعرت بثقل كبير يملا صدرها فأضاف فرايزر بجفاف :
- شكراً للفطور و لاهتمامك بجوني اثناء سفري , اكون شاكراً لكِ ايضاً صحبته اليوم الى المدرسة ,
فلديّ ما يشغلني طوال النهار على المركب , وعلى جوني ان يوافيني الى ورشة العمل فور انتهاء اليوم الدراسي .
وخرج فرايزر دون ان يفسح لها مجالا للكلام .. لحقت به مسرعة لكنه اقفل الباب بقوة دون ان يلتفت الى الوراء ففتحت الباب و نادته بأعلى صوتها :
- فرايزر ...