المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
زمن المسخ ......رواية
زمن المسخ
رواية
تأليف
ربيع عقب الباب
منتدى ليلاس الثقافي كانت تفترش الأرض شاردة ، وبأصابعها المدببة ترص الحجارة .. .. حجرًا حجرًا ، وتبني منها شيئاً كان أقرب شبهاً بقلعة حصينة ، ثم تعود وتهدم كل ما أقامت ، وشفتاها ترتعشان بشكل هستيري ، وبيد أكثر تشنجاً تعود لتقيم قلعتها على نفس الأشلاء .. .. وبنفس الأشلاء وهي أشد إصراراً ، وحين تستوي البناية تماماً تمتد سبابتها ، وتقتحم القلعة ، وتعود بنفس السكينة وبنفس الإرتعاشة لتقوض ما بنت ، وقد اجتاز فكرها حدود الزمان والمكان ، وسرح عبر أزمنة منفلتة ، تتذوق مرها وحلوها ، وتتنشق رائحتها الغامضة . هاهى تطارد "عبد العزيز" - زوجها -الفاني ، وهو منتصب أمامها كقدر عنيد ، ثم يعبرها بنظرة جانبية قاسية ، ويتقدم مبتعداً دون كلمة ، فتفزع مهرولة ممسكة بتلابيبه ، ليعود يخطر أمامها ، ينتقل في بهائه وعنتريته تماماً كما رأته أول مرة ، مفتوح الصدر عن غابة سوداء مدببة كمدينة غامضة من مدن شهر زاد ، مفتوح الساعدين ، ترتجف الأرض تحت وقع قدميه ، وتحاصره تنهدات الصبايا الملاح 0
ما وقعت عليه عيناها حتى فاضت ، هامسة مسلوبة الإرادة والكيان ، متهالكة تمضي ، وقد شعرت بشيء ينحدر داخلها إلى أسفل ، وقلبها يرفرف كأنه يتوقف الآن !!
تراجعت معتصمة بالجدار ، وفوراً كانت تسد عليه الطريق . أحجم عن السير كأن صاعقة خطفت منه البصر والقلب . كان مشهداً يثير الرعب والفزع :" إيه اللى موقفك كده يابت ؟ " .
ردت مختلجة دون تردد : " بنت تبتك .. وتأكل راقبتك .. اعدل كلامك ياروح أمك " .
في لمح البصر كان يحملها ، كم كان قاسياً حين ألقى بها جانباً على الأرض ، ومن ثم زحفت معاندة تسد عليه الطريق مرة أخرى ، وفي أقل من ثانية قررت ، أن يكون لها ، وهو يسخر منها . أوقعت به ، وضحكت كثيراً . عرقلها فأصبحت أنفاسها في صدره ، كأنهما في مدينة ليس بها غيرهما .. .. تعانقا ،اعتصرها ، ومن فوره كان ينهك نفسه بحثاً عن أبيها ، الذي كان كعهده بعيداً عن الديار 0
لكم ضربها .. .. نقش لياليها وشماً على جسدها الفتي لا تنمحي آثاره ، وظلت تعانده زمناً ، كان يريدها زينة ، يفخر بها ، فيحملها إلى الحمام بنفسه ، ويزيح بيديه كل التراب والوسخ ، يستخرج العطب الذي دب في قدميها الحافيتين ، ثم يرغمها على ملازمة البيت والتعود على الاغتسال ، ولم يفلح معها إلا بعد أن هجرها ، وهددها بالطلاق .
علت وجهها بسمة مريرة ، فاندفعت برغمها تبني قلاعها المنهارة ، وعادت لتهدم ما تبني ، ثم راحت بيقظة تامة تتابع قرص الشمس المستدير ، وهو ينحدر هناك ، بعيداً .. .. بعيداً ، تتابعه في حزن وألم ، ثم أحست باختناق حاد ، كأن قبضة الليل الزاحف تطوق عنقها ، وتضغط .. تضغط ، شهقت والدموع تنهمر على وجنتيها حارة شاكية . قرص الشمس يبتعد .. يبتعد طرياً .. لا سبيل إلى إيقافه ، ومنعه عن المضي ، يرتمي في بحر السماء الممتد خلف الشجر ، يختفي تاركاً الفضاء نهباً لليل راح يجثم رويداً ..رويداً .
كانت عينا " صابحة " قد ازدادتا جحوظاً ، وهي تدور برأسها كأنها تطالع السماء لأول مرة ، تبني قلاعها ، وتهدم ما تبنى ، وفؤادها هائم في فراغ أحشائها ، تهفو إليه ..إلى نجمها السيار الزائغ " مسعد "، ولدها الوحيد ، المنفلت من عنقود الموتى الذين حملت بهم ، وعاش بلا سند يقيله من عثراته ، ويحمي ظهره : " أيكون قصير العمر مثل أبيه ؟ " قال السحرة وأهل الفراسة عكس ذلك ، نعم قالوا عكس ذلك ، مازالت كلماتهم ترن في أحشائها ، وتدوي كطبل : " عمره طويل يا صابحة يا بنت سعدية .. بيديه يزقك للتراب و الدود .. ويكون له ذرية ، لها هيلمان وشنة ورنة " .
ما صدقت ما قيل ، ولو ودت عكس ذلك ، فكل شيء كان يسير إلى عكس ما قيل : لا ذرية .. لا حياة ؛ فمنذ شهر مضى دخل ببدرية ، تلك الجميلة المرغوبة ، وإلى الآن لم يقربها ، هي تعرف ، تعرف من عينيه ، وطريقة عبوره أمامها ، امرأته التي يعشقها ، وتتغلغل عميقاً في نفسه ، هزمته ، بدرية هزمته ، خاصم أمه لأجلها ، خاصم الدنيا ، تحدى كل من حاول عرقلة زواجه بها ، لكنها هزمته ، بدرية هزمته ، كامرأة بلا قلب ، حمل نفسه بالعداوات لأجلها ، وتأبت عليه ، تأبت عليه ، حولته لشبح هزيل ، واستعصت عليه قلاعها ، هي التي هامت به ، وسحرته ، وانسحرت به ، أخيراً دمرته ، كأنها ما أحبته ، ما حلمت به ، ما عيب شربات يا مسعد ؟ ما عيب ابنة خالتك ، امرأة تهتز لها صدور الرجال وحبالهم ، لها جمال طاغ ، وطازج يا مسعد ، هل عدمت الفهم والنظر ؟ ما عدت ترى جيداً ؟ نظرة واحدة من عينيها تذيب قلب مدينة بأسرها ، وتنهار تحت كعوبها العالية ، هزة من ردفها ، تجعل النشوة تطيح قتلاً في جوانح الرجال ، شربات لها رائحة أنثى الفراش ، لحمك ودمك الغجري يجري في شرايينها ، يا مسعد .. يا ولدي ، افهمني ، لا أقصد إلا صالحك ، وصالحنا نحن 0 زعق بأعلى صوت ، وأنا اخترت بدرية يا أمي ، بدرية هي كيت وكيت وكيت 0 وبدرية تأبت عليك ، قتلتك ، وهزمت فيك فتوتك ورجولتك ، أنت اخترت العذاب والموت ، وكذب السحرة يا مسعد ، كذبوا ، وصدق الزغبي مع خالتك القادرة ، نعم ، انتهى كل ما حلمت به ، هم الذين ضللوها ، سحرة الشؤم ضللوني : " عمر طويل يا مسعد ، وذرية تهتز لها الأرض طرباً وعجباً ".
تمتمت صابحة : " أنت وجع مبتلى ، يا نور العين الذي يرى ، ورب السكينة والهواجس "0
أقبلت من خلفها بدرية ، في جمال سوسنة ناعسة ، رشيقة ذابلة الجفون ، حزينة ، ترتدي الأسود ، دنت من حماتها ، قرفصت إلى جوارها ، ربتت على كتفها : " قومي يا أمي .. حرام عليك اللى تعمليه ده ، ارحمي نفسك وارحميني "0
حدجتها صابحة بعينين زائغتين ، وخامرتها مشاعر متناقضة ، هل تحب هذه البنية التي كانت سبباً حاسماً في مأساة ولدها أم .. .. .. .. ؟ لولاها ما كان هذا حاله ، نعم ، لقد نالت منها ومن ولدها في آن ، أطارت عقل مسعد ، وجعلته يرفس كبغل ، وفي النهاية يقتل ، يقتل ، لو أنه سمع كلامها ، وتزوج شربات ، ما وصل إلى هذه الحال ، وترك كل شيء ، وفر هارباً إلى مكان لا تعرفه ، ويبدو أنها لن تعرفه .
بدرية حين هاجمتها عينا حماتها انزوت كهرة ، انخسف وجهها تماماً ، وبكت شاعرة بمدى كراهية صابحة لها ، وبكت بصوت حار ، وشعور بالظلم يبتليها .
ترفقت بها ، جذبتها إلى أحضانها كصبية غريرة ، وربتت عليها ، تهدهدها ، وتوغل في الهدهدة ، حتى غفت بدرية ، وسرقت عقلها ووجدانها رؤى الحلم الخطير ، صابحة توغل في الندب والعديد ، وتعود أصابعها تقيم قلاعها ، وسرعان ما تطيح بها ، ودموعها تنثال بلا توقف .
دون إرادة قبلت بدرية بحنو ، وبرفق هزتها ، دفعتها إلى حظيرة الدواجن ، لتغير الماء ، وتضع الحب ، فما ذنب هذه الطيور؟
انسحبت تجرجر قدميها ، حملت الماء والحب ، وصعدت إلى السطح بنفس مكلومة ، ودموعها تنفرط حبات من الندى الدافئ ، تسحق برودة عيدان القش المتناثرة .
بالأمس كانت وسط اللصوص والقتلة ، في تخشيبة القسم ، تنتظر بين وقت وآخر ، أن يخلوا سبيلها ، باتت في التخشيبة ، عانت الكثير ، وهي في وجع قاتل ، تبكي رجلها ، من قتله الحب ، وأودى به ، ودون أن يكبح نفسه يقتل كلباً ، يقتل كلباً هكذا في عرض الشارع ، أمام شهود عديدين : " يا ترى يا مسعد فى أى أرض أنت ؟ حيا أم ميتا ؟جائعا أم .... ؟ أجبنى لو كنت قريبا .. رد لأمك عقلها الذاهب ؟ ".
لم تستطع بدرية السيطرة على انفعالاتها ، فلملمت وجهها بين راحتيها ، واندفعت مبتعدة ، تهبط الدرج ، وتنشج متهالكة ، تنسحق مع كل درجة حتى احتوتها أخيراً الشقة ، فانزوت فى حجرتها ، لتعود نفس الأنفاس لحصارها الدامي ، نفاذة تمتد في جسدها ، تتوه كأنها رهينة كابوس مريع ، وجسدها المشدود يعارك وحشاً ما ، حلم ، كان مجرد حلم تسلط عليها منذ قتل مسعد الزغبي ، لا تعرف له تفسيراً يريح رأسها ، تستيقظ ، وتتخلص من جلبابها ، وتحط على سريرها ، سرعان ما تلتهمها الأوجاع ، والوساوس ، ثم يهاجمها الحلم ، الكابوس ، الأنفاس قوية نفاذة ، وهي ضعيفة مشلولة الإرادة ، تحاول ، تتملص منه ، يلتهمها ثانية ، تهرع هاربة ، يجذبها ، يحط فوقها ، يضغط ، تعاركه ، يتكتم أنفاسها بقوة ، تغيب ، تخوض في بئر سحيقة ، مخلفة صرخة احتجاج موءودة ، والشبح يجردها من ثيابها قطعة قطعة ، وهي أنفاس بلا روح ، تطالع ولا ترى ، تشم ولا ترى ، تُلتهم ، ولا تشعر بشيء !
كان خلف الحظيرة ما يزال ، يغرق في سيل من عرق دافئ ، خافت الأنفاس ، يرهف حواسه تماماً ، ويرقب بعينين مرعوبتين الأم ، وثقل فضيحة مدوية يضغط على صدره بقوة ، فتخونه قدماه تارة ، ويتحرك هنا وهناك في حذر ، لم يبرز من مكمنه حتى غادرت الأم السطح ، يتنفس عميقاً ، مصعداً أنفاسه الحارة المختنقة ، تسترخي أعصابه ، عضلات وجهه ، يبص هنا وهناك ، يحدق في ليل هذه المدينة الغامضة ، ثم يرخي جفنيه ، يريحهما ، يحس بها تحمل كيساً من الرمل ، يدور بهواجسه في المكان ، والسماء بحر من الأسرار ، تدنو منه ، تكاد تضع سرها الأكبر في روحه ، نظراته لها حزن مدينة عمياء ، تنتابه رجفة ، تهز جسده بأكمله ، ويضيء سؤال وحيد في رأسه ، لماذا ؟ ثم يندفع إلى داخل الحظيرة مع الدجاج والبط !!
يتبع
التعديل الأخير تم بواسطة بياض الصبح ; 26-05-11 الساعة 08:22 AM
سبب آخر: تعديل العنوان " المدات مخالفة
|