المنتدى :
خواطر بقلم الاعضاء
لم تعد لى رغبةٌ فيه
لم تعد لى رغبةٌ فيه !!
----------
طائرا كان مسعد يحلق بنا ، كاشفا الغطاء عن أوعية حبلى بآلاف الحكايات ، يرويها بلا توقف .. يطالعنا بما يخامر الناس واشيا بأسرارهم ، كأنما ينهل من فيض . وكنا نطوقه مبهورين كأن على رؤوسنا الطير .. يجتذبنا نوع من التطلع ، محدقين في صفحة السماء ، نسرح وراء سحبها المتسارعة ، وشمسها المنفلتة في نهر الزوال المفعم بالوجد والضنا .. فنرى أنفسنا بعيدا كطيور محلقة ، مخترقين المدى المثخن ، وهو يمتطى عقولنا كأراجيح ، واشما على نواصيها أحلام الحارة المحققة .. والمنهارة أيضا ، نتنشقها فإذا هي واقع يتنفس أمام أعيننا ، وكأن الأحداث تتشابه علينا ، وهى في الحقيقة ما سبق أن كشف ستره مسعد ذات ليلة .
كان علينا ترقب حدوث مصيبة اليوم كما أنبأنا مسعد .. رحنا نتعجله ليكشف لنا كنهها ، ندت عنه آهة ، وتنهد قائلا :" أنا شايف حاجة مسروقة .. من الناحية دى ".
خطوط وجهه تضيف إلى سنه الصغيرة مئات من السنين ، تتقاطع وقوالب الطوب الأحمر الجامدة ، التي تركتها الشمس تقاسى حزنا فريدا من نوعه . وحين أشار بإصبعه – مسعد – في اتجاه دارنا دوى صراخ جدتي _ الذي نميّزه جيدا _ مزلزلا فرائصنا تغلغل في عنف . على الفور توقعت _ متناسيا نبوءة مسعد _ أن بهيمة ما أصابها مكروه ؛ فما ارتفع صراخ جدتي منذ نفقت جاموستنا " شمعة " في العام الماضي .
ركضنا مدركين الجدة ، وأبداننا ترتعد فرقا . روعتنا حالها . أحطناها بوجوه حزينة بائسة ، ونساء الحارة ملحات رحن يسألنها :" فيه إيه يا خالتي ؟ ". هالني صوتها .. شرعت تقبض على حفنات التراب ، تعفر به وجهها ، ورأسها ، ومن بين دموعها ، تولول :" مهر البنت وشبكتها .. مهر البنت وشبكتها .. ياسنة سودا .. ياسنة سودا ".
لفتني عتمة كريهة ، كانت تضيق .. تضيق وتبتلع كل شيء في صحن الدار ، فلا أرى شيئا ، و لا أسمع إلا دموع المأتم ، وعديد الندابة .
كان الكبار وشيكي الوصول ، يخدمون الغيط البعيد للذرة ، و لا بد لنا من عمل شيء .. وبسرعة ؛ كي لا تتعرض جدتي لموقف لن تحسد عليه ، وتتلاشى كسحابة أمام تهكمات عمى الكبير المؤلمة .
من فورنا زحفنا غازين حجرة الجدة ؛ فالأشياء الضائعة كانت بدولابها المتهالك .. طفقنا نقلب الأشياء ، نفض محتوياته قطعة قطعة ، أصبحت الحجرة فى حالة يرثى لها ؛ كأنها حرثت . أياد كثيرة نبشت أصابعها بحثا عن الكنز الضائع .. كلما انتهينا ، عدنا لسلخ أحشائه مرة أخرى ، وفى كل مرة أكاد أشهد عمى الكبير يقهقه عاليا، مرقصا يده بشماتة :" ألا وانخلي يا أم عامر .. ألا وانخلي .......".
انكمش لائذا بأقرب ركن ، وشك عجيب ينهش قلوبنا فيما نحن صانعوه .. فنعاود الكرة ، يحدونا نفس الأمل الشهي أن نتغلب على الحقيقة التي تصورناها وهما ثقيلا حتى آخر لحظة .
مشاركات الجدة ناحت النساء ؛ فانفطر قلبي ، واختبأت في حجرة المتبن ، أبكى .. حتى اختنقت ، فعدوت مصدورا بينما الجدة ترسل نظرات شزراء ، متابعة حركة زوج عمى الأوسط .. هذه المكتنزة المترهلة المشكوك فى تصرفاتها .غمغمت كاشفة رأسها عن ليل أسود ، ندت عنها آهة ، استطالت آهتها .. بكيت على بكائها ، وغيظ متنام من الولد مسعد يخنق صدري ، فقر علينا ، وأطلق شياطينه سارقة أشياء عمتي .. كان سببا فى حدوث هذه الكارثة . قررت ألا ألعب معه ثانية ، و لا أستمع لكلامه الذي يأتي بالمصائب .
تملكني نوع غريب من الغباء وعدم الفهم ؛ فدولاب الجدة جاء الغجري ، وصنع له مفتاحا خصيصا للأشياء الغالية ، والمفتاح مع عمتي العروس .. التي أقسمت بتوجع أنه ما فارق صدرها ، ولطمت وجهها بقسوة شديدة ، وهى تدبدب كفرس حرون ، ولم تتوقف إلا عندما أغمى عليها ، وانحدرت إلى الأرض يغسلها العرق .
غرقت وسط تيه من الأفكار ، وكلمات مسعد تعود تعبث برأسي ، محلقة بي فى رحابة عالم سحري .. تتناهى إلى ثرثرتهن كأنها آتية من بئر سحيقة ، وأرمق إصرارهن عاويا بالفشل الذريع الذى يلازمهن ، وإذا برائحة ذكية تهاجمني ، ناشلة كياني مما أنا فيه ، تسرى مذيبة جمود ذاكرتي .. أطلت برأسها طاغية تلك الليلة منذ أسبوع ، حين أتى حاملا كيس الموز ..كان الكيس كبيرا منتفخا ، تحيط به نحلات كهالة تواكبه ، ورائحة الموز تتسلل مهيجة كل الحرمان والبؤس ، سارقة لعابي . تمنيت أن يجبر الله عريس عمتى على الرحيل ، ومفارقة الدار ؛ فبرحيله فقط أستطيع الحصول على واحدة ، أما قبل ذلك فلا ، ويكون على حد قول جدتي :" يادى الفضايح .. يقول إيه ؟ محرومين ".
أحسست بقوى خفية تجذبني ، تسوقني تجاه الحجرة .. الراقد فوق سريرها كيس الموز الشهي ، قاومتها بشدة .. كانت أكف الكبار الخشنة تلوح فى وجهي .. تتوعدني قوية فتاكة لا تعرف الرحمة .. نزعت فكرة السباحة فى نهر الظلام ، ونحيت حبي الطاغي للموز جانبا ، متلهيا بمراقبة إخوتى .
ناوشتني الرائحة . دون توقف كانت أسنانى تقرض أظافرى .. شعرت بلحم أصابعى بينها ؛ وقابضا كالعتة كان طعم الدم في فمي .. ضبطت نفسي أحصى الأولاد فى الدار ، وأخفف من ضغط الخوف : " هيا .. من سيعرف ؟ وأنه أنت بالذات ؟ كثيرا ما تضيع أشياء عمى الصغير _ أقلامه وكتبه _ فأتهم بسرقتها ، وأنال علقة طاحنة ، جزاء فعلة لم أرتكبها . رائحة الموز تناديني .. تتشكل أمامي ، تنفذ عبر مسام جلدي ، هفهافة ندية كحلم ، أتذوقها بلعابي السيال .. الرغبة تطيح بكل مخاوفي .. أنساق .. أتوقف حائرا .. وعندما ألفيت الدار ..وقد خفتت بها الأصوات . ولجت الحجرة ، والظلام يشملها .. خطوت مرتبكا خائفا - هذه المرة من الأشباح والعفاريت _ لكن حبي للموز كان أقوى من كل عفاريت العالم .. و لا بد لي من واحدة .. موزة ؛ ولو كان ثمنها علقة من عمى الكبير !!
بجانب السرير العالي شددت قامتي ، وعلى حماره صعدت ، ثم بيد مرتعشة رحت أنقب عن الكيس فى بحره الوسيع .. عامت يدي .. وماطالت شيئا ، والرائحة تفضح وجوده ، لكن الصيد تأبى على .. لم أيأس .. فطنت إلى أنه يتحتم على الخروج من حصار الموز ؛ لأستجمع قواي ثانية ، ويكون حظي من الصيد جديدا .. تقهقرت ، انحرفت قدماى تحت السرير، اصطدمتْ بجسد طرى ، غاصتْ فى لحمه ، عندئذ تبخرتْ رائحةُ الموز ، اختفت تماما ، وزلزلني الخوف فبدوتُ مرتعبا ، وجسدي ينتفض .. زعقت ملتاثا :" حرامي .. حرامي ". و أنا لا أملك سيطرة على نفسي .
اندفع عمى الأوسط نحوى بأقصى سرعة ، فقابلته بوجه ضاحك :" أنا باضحـ.....". و لا أدري لماذا .. ولم كان تصرفي على هذا النحو ؟ هل تراني خفت .. من كشفه حقيقة الأمر ؟ لا أعرف ، وكل ما أذكره .. أنه جرى خلفي مغيظا ، ولما طالتنى رجله .. دفعنى بركلة قوية زاحفا على الأرض ، إلى جانب حصولي على إصبع وحيد من الموز ، عندما قررت جدتي .. ونمت ليلتها وقد حاصرتني أحلامى المفزعة !!
كاشفت جدتي وعمى بما يدور براسي ، لكن عمى خذلني ؛ إذ أنه لم يتذكر شيئا ، فحسبت أننى أخرف ، وأتصور أشياء مثلما يفعل مسعد .. انتهرني عمى ساخرا من خرفي ، فازداد إصرارى ، ورحت أؤكد له ما حدث ، محاولا نبش ذاكرته .. وكان آخر ما قلته عن حمارنا ..الذي نهق ساعتها ، ولم يتوقف حتى قابله عمى بضربات متواصلة على رأسه ، أسكتته فى الحال ؛ومن يومها والحمار لا يرى بعينيه .
شاتما واجهني عمى ، التقط عصا مطاردا إياى ، وهو يردد :" احنا في إيه .. و لا فى إيه يابن الـ......".
انزويت شاعرا بالخيبة .. لكنهم لما لم يجدوا حيلة ، ركنوا إلى حكايتي ..وعدل العم عن رأيه ؛ ليؤيد ما قلت متناسيا إنكاره السابق !!
كان اكتشاف أمر السارق ضروريا ؛ و إلا لن تتزوج عمتي التي أحبها كثيرا ، وتجعلني ألعب مع البنت عواطف عريس وعروس ، وتصبح مثل جارتنا فرحانة صاحبة الوجه المكرمش ، والصوت الشبيه بصوت الضفدعة ، و التي كثيرا ما ألمحها تكلم نفسها ، وحين تكلفني بشراء شيء ، أسير على مضض ، وأعود بطلبها ، فأقذف به داخل دارها من الخارج ، وأرمح هاربا.
تحلقنا "الكانون" منتظرين الجدة التي سحبت عمتي ، وقصدتا الشيخ الدهشان الذى يقرأ الكوتشينة و الكف و الفنجان ، و لابد يدلهم على ملامح اللص ؛ فسره باتع ، ولن يخيب رجاء عائلتنا المنكوبة .
شعرت بحركة غير عادية فى الدار .. يبدو أننى غفوت قليلا ، قمت من مكاني ؛ لأرى أمى تتوضأ لأول مرة فى غير رمضان . سألت زوج عمى الأكبر :" هو رمضان جه ياامرأة عمى ؟ ". ردت بالنفي ، ثم رأيتها تفعل نفس الشيء .
أصابتنى حيرة مما يقع حولي .. ولم تطل حيرتي ؛ فقد رأيت أمى تدلف من حجرة ، ومن خلفها امرأتا عمى .كان عمى الأكبر يمسك بالمصحف في وقار ، وينقله بينهن مرددا فى حسم :" احلفي على المصحف الشريف ما أخذت الفلوس و لا الصيغة ؟".
بانت وجوههم أكبر بكثير من أعمارهم .. كانت أكثر توحشا ، و كنت أرتجف خائفا على أمى .. امتنعت زوج العم الأوسط عن الحلف ، وأصرت على عدم ملامسة المصحف ، فهالهم ما كان منها ، وظلوا غير قادرين على ابتلاع الموقف .. حاولوا المرة بعد الأخرى الضغط عليها ؛ فتفعل مثل سلفتيها ، لكنها أبت وبشدة ، نكلوا بها ، واتهموها بالسرقة .. وحين ضيقوا عليها الخناق هتفت باكية :" حرام يا ناس .. احلف ازاى و أنا عليه الـ ......"بينما عمى _ زوجها _ يرسل إليها نظرات رخوة ؛ لم أفهم لها معنى !
كان معنى تجمعهم ، وانتقال المصحف بينهم ، أن كل من بالدار عرضة للاتهام ، وأن ما قاله الشيخ ليس كافيا .نمت هذه الليلة مؤرقا حزينا ، وشعور حاد بالمرارة و الغيظ ينهش كياني ؛ فأنا الوحيد من بين هؤلاء الذي كان بإمكانه الإيقاع باللص ، و منع المصيبة من الحدوث ، لكنني عندما غرقت فى النوم ، رأيت شيئا مفزعا ، قمت على إثره قاعدا ، والصور تتلاحق أمام عيني :" رأيت عريس عمتي يرتدى لباسا غجريا .. كان بين الغجر ، وهم يعرضون أشياءهم : الأقمشة .. والمفروشات .. أطقم الصيني . هاهو ذا يغافلنا ، يتسلل إلى الحجرة ، يفتح الدولاب _ الذي طاوعه دون مفتاح _ وظل ينبش حتى عثر على المهر و الشبكة ، يعيد محتوياته ، ينسحب خارجا ... كانت زوج العم فى انتظاره .. أعطاها الأشياء .. تخيرت لها موضعا فى حجرتها .. هناك فى ركن قصي تحت السرير ؛ وكنت أرقبها . ما إن خرجت حتى تلصصت داخلا ، خضت فى تراب الحجرة ، أجلى التراب عن الحفرة ؛ وإذا بثعبان ضخم يهاجمني ، يفح فحيحا عاليا ، وقبل تمكني من الهرب أدركنى ملتفا حول عنقي .. يعتصرني أصرخ .. يعتصرني .. أصرخ .. عندئذ قمت من نومي ، وأنا أتحسس عنقي التي كانت تؤلمني بالفعل .
في اليوم التالي عم الصمت الدار ، وسرح الأهل إلى الغيط مطاطئى الرؤوس ..تسبقهم الدواب ، وقد ألانت هذه من عنادها المعتاد ، ومدت أخطامها ملامسة تراب الطريق .. والحلم يغلق على منافذ التفكير ، متشبثا بي ..كالقراض كان ؛ فأتصور أننى سوف أحصل على ما ضاع وأفرح جدتي _ أم الحواديت فى الحارة _ فترضى عنى ، ومعنى رضائها ؛ ألا ترتفع يد لضربي !!
لعبت براسي الفكرة ، فاعتديت على حجرة عمى الأوسط ، منجذبا تقدمت تجاه المكان الذي حدده الحلم ، انتابت أصابعى رجفة .. شعرت بها تنمل ، وتذكرت الثعبان ..أحفر ..أحفر ..لا أجد شيئا .أتوقف .اختلط كل شيء ، ألتبس على الأمر ، أقصد مكانا آخر ؛ فلا أجد إلا الفحيح ، فأغادر الحجرة مهرولا ..وأنا أبرىء زوج العم ، لكن سرعان ما أعود إلى اتهامها ، فإليها يعود السبب في المصائب التي تحل بدارنا ، هي الوحيدة التي لا تسمح لأحد بضربها أو شتمها !!
بعد أسبوع أقبل عريس عمتي ، المطغم بروائح الفواكه الرائعة ، بناء على استدعاء جدتى .. أقبل دون أكياسه ، ونحلاته المضيئات.. وقبل انصرافه هذه الليلة دبت خناقة بينه وبين عمى الذي أصر ، دون تراجع أن يحلف على المصحف ، مثلما فعل مع الجميع .. فرفض ، واتهم عمى الكبير بعدم التمييز ، وأنه إنسان متخلف لا يراعى الذوق ، ومعنى حلفه على المصحف أنهم متشككون فى ذمته ، وليس هناك أغلى من شرفهم الذي يأتمنونه عليه ، وانصرف رافسا مكدودا ، مهددا بفسخ الخطوبة !!
كانت أياما سوداء على الدار ...وعلى من فيها من آدميين و دواب ..
كلهم يحمل فوق ظهره ثقل الكارثة ، ومرارات فى الحلوق ؛ فلا تتخاطب ..
يتحدثون برتابة ، وتشكك ، وكل يحدق فى وجه الآخر متهما إياه :" لم لا تكون أنت ؟".
وكانت أحلامي هي الأخرى حملا ثقيلا ينوء به عمري ، وخوفي على عمتي يتزايد بمرور الأيام ، فقد انقطعت زيارات العريس ، كما انقطعت أخباره .
عشت مثل من بالدار أنتظر مفاجأة ما ، شيئا سحريا يرجع للبيت بهجته ، وللحياة طعمها المعتاد .
الشيء العجيب أنني لم أستطع كراهية عريس عمتي مثلهم ، وعندما يخوض الأهل فى سيرته أشم الأشياء التى أحبها : الموز .. البرتقال .. البرقوق ... والكثير من الأصناف التي كنت دائما أجدها عقب زياراته .
أقص على الأصدقاء ما كان ، يبكى البعض متأثرا ، ويروح الآخرون طارحين أفكارا غاية فى الجرأة ....تشبه أفكار الكبار ؛ فنضحك مستخفين بصاحب الرأي الجسور ، ضاربينه بما فى أيدينا ، فيركب نزقهم مدى بعيدا ، مرتحلين فى سفن السندباد عبر بحر العجائب ، والساحرات تحوطن مركبنا مهللات ... طافيات على سطح الموج الهائج ، يرصدن الكنوز المخبوؤة فى قيعان البحار الممتدة بلا شطآن ... استدعى الأصدقاء حكيم المحطات المتربع تحت شجرة الجميز العجوز ، حكوا له ما كان ، استحثوه يرشدنا إلى مكان الأشياء الضائعة .
رد مسعد بعد صمت طويل ، راسما على وجه سيما الجد والوقار :" المهر و الشبكة ... المهر والشبكة فى مكنة الخياطة ...هاهي أمامي ..هناك في تابوتها تنام نفرتيتي " .
مصعوقا تجمدت من المفاجأة .. هاهو مسعد يملك مازال سحره ..ويمارس هوايته ، يتلاعب بعقولنا ..وكان لعمتي بالفعل مكنة خياطة من طراز نفرتيتي ...إيه يا مسعد ..يا من انطلقت الأشباح من فمك ؛ فسرقت عمتي . تنبهت إلى قسمي ألا أعاود اللعب معه ، وكان يتجنبني غير مصدق .
دنوت منه .. ازداد تباعدا ، شاعرا بالغدر فر من أمامي هاربا ، وأنا أرمح خلفه .لما يئست من اللحاق به توقفت عن مطاردته ...وكلماته ترن فى ظلمة الحارة .
لحق بى الأولاد ، قافزا جريت غير مبال بنداءاتهم المتكررة ، مغافلا جدتي كنت داخل الحجرة ، أسعى فى ظلامها محددا طريقي ، أصطدم بشيء حاد ، آلمتني ركبتي ..لم أتراجع . وإذا بضوء يقتحم على الحجرة ، ضبطتني جدتي ، تفحصتني بعينين ضيقتين حمراوين ، بينما أبحث جادا عن منفذ أزوغ منه .
لما طال سكوتها شعرت بفداحة ما أقدمت عليه ، زعقت فى وجهها :" الفلوس و الشبكة فى المكنة ياستى ".
تأرجحت اللمبة بين أصابعها ، واهتز قلبها بعنف :" وإيه اللى عرفك ياوله ؟ ".
دون جدوى أرهقت الجميع معي ، فبكيت مكتويا ، دافنا جسدي الضئيل خلف الباب ، اقتربت جدتي منى ، والعرق يغسل وجهها ، جذبتني إلى صدرها حانية ، مطيبة خاطري :" همه فى المكنة برضه يا روح ستك ، ماتزعلشى منه لله .. همه فى المكنة ..همه فى المكنة " . واستمر لسانها مجددا يردد :" همه فى المكنة "حتى اختفت !!
لم أنم ، درت ساعيا خلف مسعد ، وبقبضتي حجر ، وكلى إصرار على شج رأسه ؛ فقد جعلهم يضحكون على ، وجعلني أخجل منهم ، وأحس بنظراتهم تلسع وجهي .
عندما أصبحنا وجها لوجه ، أدركت إلى أي حد أحب مسعد ، فقط تعاتبنا ، وتصالحنا فى الحال ، وعاد يحكى نبوءاته الشنيعة ، وعدت أتحين الساعة التي نتسامر فيها ، أترقبها بفارغ الصبر .. بينما الدار تنفض عنها تجهمها شيئا فشيئا ؛ فأرى أمي تعود لـ " لنقارها " مع إحدى " سلفيتها " وأسمع جدتي منتحية بعمى جانبا ، تثقل كاهله بحديث مسهب ، فى كيفية كسر شوكة امرأته العنود ، وعلا صوت مكنة الخياطة بلا توقف ...ليل نهار !!
عندما عادت جدتي من السوق عصر يوم ، ومعها عمتي تحمل آنية كثيرة ، علت زغاريد مدوية فى الحارة ، ظلت تتردد كل أسبوع طيلة سنتين كاملتين ، وفى إحدى الأمسيات كنت عائدا من لهو كل ليلة مع " مسعد " الذي يبدو أنه كان يكبر بسرعة عجيبة ، هاجمتني رائحة الموز ، فواحة هفهافة ، هرولت متابعا مسارها ؛ فإذا حجرة جدتي تتلألأ أنوارها فى فرح ، وعريس عمتي يتوسط المكان باسما ، وقد أضفت الأضواء على وجهه نوعا قاسيا من التورد ، أشاع فى الفزع ؛ فيهىء لي كأنني أرى أقراطا تتدلى من أذنيه ، وأوراقا حمراء متلاصقة تطل من كمه ............. فأحجمت عن دخول المكان .
حاضنا ضلفة الباب حدقت فيه ، فانقشعت هذه الرائحة ، وطغت عليها رائحة الزريبة القريبة ، فانسحبت حزينا ...ولم ألتفت لنداءات جدتي ، وهى تطاردني بموزه ....الذي لم تعد لي رغبة فيه !!
انتهت
ربيع عقب الباب
|