كاتب الموضوع :
خطوات ورده
المنتدى :
الارشيف
(( الفصل الأول))
عاد من صلاة الفجر بقامته المديدة ووقاره المنحوت في ملامحه الصخرية عبر ذلك الطريق الذي حفظه عن ظهر قلب منذ أكثر من سبعين عاما ، يعرف فيه كل ركن وكل زاوية وكل حجر وقصة كل بيت ، هذه هي الحارة العتيقة التي احتضنت عبث طفولته وثورة شبابه وصراعات رجولته وهم شيخوخته ، لقد عرف هذه المنطقة يوم كانت قرية مهملة حتى أصبحت الآن جزءا من مدينة الشمس (الرياض) ، لطالما لامه الكثيرون " ليش ما تنتقل ؟ هذي الحارة قديمة ؟ ما تناسب مستواك ؟ أنت الله منعم عليك ؟ ليش ترضى بهالحارة المنعزلة ؟ ... الخ " ، لكنه كان يعلم بأنه سمكة لو خرجت من بحرها ماتت ، ربما يستطيع غيره ان ينكر ارتباط الإنسان بالأرض ، بالمكان ، بالوجوه التي ترحل يوما ولا تعود ، لكنه هو فلاح لا يستطيع ولن يستطيع ، وكيف ؟ أينسى هذا البيت القديم الذي كان من الطين ، البيت الذي هزته صرخات ولادته ومن بعده اخوته ، البيت الذي كان مملكة امه التي عشقتها ، البيت الذي وإن تغير بفعل ترميمه وتحديثه لا زالت جدرانه تحتفظ بأحلامهم وآمالهم التي طار غبارها بعد كل هذه السنوات ، البيت الذي لا زال يسمع فيه صوت والده الهادئ وضحكات امه الرنانة ، ولا زال طيف فواز يحوم في أرجائه .
دخل مجلسه الذي ينطق بالفخامة والترف المسرف ، كل ما فيه يدل على وقار اسم صاحبه ومكانته الاجتماعية ، وجده جاهزا وموضوعا كما يحب على الأرض ، جلس وبدأ يتناول فطوره الشهي فقد جلب البارحة معه حليبا من تلك الشياه التي يربيها في مخيمه الصحراوي :
_ صبحك الله بالخير يبه ... (وقبل رأس والده وانضم لسفرته) ...
_ هلا يا أبوي صبحك الله بالنور ...
وظل يراقبه ، يراقب قرة العين والقلب والأمل الذي لم يخب ، لقد أحب من قبل ، أحب والده أحب امه وأحب اخوته ، لكنه لا يحب نايف كما يحبهم ، بل لا يمكنه ان يحبهم بقدر ما يحبه ، لقد تمنى دائما ان يرزقه الله بذرية صالحة ولكن هذا الابن بالذات جاء ليهدم التوقعات ويقفز فوق قمم الأماني التي تمناها ، فأصبح منذ نعومة أظافره الابن والأخ والأب واليد التي يضرب بها فلا تخطئ ، هرب من هذه المشاعر التي تزرع في قلبه الخوف والحذر من الضعف حتى امام أغلى الخلق إلى نفسه :
_ سمعت باللي صار لبنت عمك ؟
عقد حاجبيه وهو يسترجع ذكرى حرمته النوم طيلة ليل البارحة :
_ ايه سمعت ... (وابتلع لقمته بغصة عنيفة) ...
_ وش السواة الحين ؟
_ سواة الله أبرك يبه ... حنا نصحنا عمي وهو الله يهداه ما سمع منا ... والحين خلاص طاحت الفاس بالراس ...
_ السلام عليكم ...
_ وعليكم السلام ...
قبل مبارك رأس والده وجلس بجسده اليافع ووجهه الذي يحمل ملامح طفل صغير يتناول فطوره بهدوء كعادته :
_ وينك عن الصلاة ... ما شفتك بالمسجد ؟
_ هاه ... (وارتبك بشدة كما يفعل كلما سمع صوت والده) ... يبه ... كنت ...
_ لا تخاف يبه ... طلع معاي صلى ورجع بسرعة ... عنده امتحان ويبي يذاكر ...
ابتلع مبارك ريقه بارتياح وابتسم لنايف الذي انقذه مما لا تحمد عقباه فهو يعلم جيدا بأن (العقال) الذي يرتكز على رأس والده أداة لا مزح فيها ، لكنه لمح نظرات تهديد في عيني شقيقه الاكبر " يا ويلك إن فكرت تطوف الصلاة مرة ثانية " .
_ السلام عليكم ...
_ وعليكم السلام ...
وانضم إليهم فارس بحقيبته المدرسية الثقيلة ، قبل رأس والده وجلس ، أما فلاح الصغير فكان يتبعه باكيا حتى وصل فاستلقى على فخذ والده بإنهاك واضح :
_ وراك أنت وهالخشة ... تنعس ؟!
_ يبه ... (ويبكي) ... ما أبي أروح المدرسة ... أنعس ...
مبارك بنصحه الهادئ :
_ أنا أول مرة أشوف واحد عمره 6 سنوات ويسهر للفجر !... نايف ترى مو زين عليه شيل عنه البلاي ستيشن ... وبالعطلة خله يلعب فيها ...
فرد فارس بغضب :
_ لا والله وحنا بشنو نلعب ؟!... خل يشيل عنك اللاب توب أحسن ...
وسكت مبارك وهو يهز رأسه لانه يعلم بأنه سيخسر أمام هذا اللسان السليط :
_ يبه !... ودنا المدرسة ...
_ وقص يقص لسانك ... تتأمر على أبوي أنت ووجهك !... (يقلده) ... يبه ودنا المدرسة ... وليش ما تروح مع السواق ؟
_ شفيك عليه يا نايف ؟!
وتشجع فارس بعد ذلك الهجوم الذي أخرسه :
_ إيه شفيك علي ؟!... ترى هو أبوي ... مو أبوك لحالك ...
وحدق فيه نايف حتى تراعدت فرائصه ، وبعد أن أنهى ارتشاف باقي حليبه :
_ وليش تبي أبوي يوديك ؟
_ ما أبي أروح مع جمعة ... فشلة وش كبري وراكب مع السواق ... حرمة أنا ؟!... إذا ما تبي أبوي يوديني خلني أروح بالفورد الصغيرة ... أعرف أسوقها ...
_ هذا اللي إنت تبيه ؟... شوف أنا منبه الحارس ما يخليك تطلع فيها ... وإن سمعت إنك أخذت المفاتيح نفس هذيك المرة ... (وأخفض فارس رأسه) ... ما تلوم إلا نفسك .. فاهم ؟... (وهز رأسه بالايجاب) ... خلاص روحوا مع مبارك ...(والتفت نحوه) ... مبارك وصلهم بطريقك ...
_ أنا أروح مع ماجد ... وهو ما يرضى البزران يركبون بسيارته ...
_ أجل انطم وخل جمهة يوديكم مع البنات ... قم أنت ... (وقذف بطفله بعيدا وهو يقف يعدل من وضع غترته) ...
يصرخ فارس بيأس :
_ نايف ... تكفى ...
الوالد بقلة حيلة :
_ خلاص يا فارس أنا أوديكم ... صجيت روسنا على هالصبح ...
نايف وهو يلمح نظرة الانتصار المغموسة بالفرح في عيون هذا الصغير :
_ نشبة ... أعوذ بالله منك ...
ويسمعون بوق سيارة مزعج قادما من باب المجلس المطل على الشارع ، فيغص مبارك بكوب الشاي :
_ هذا ماجد ... (وينطلق حاملا كتبه كالصاروخ) ...
وياتي صوت (غسان) الحارس من جهاز الارسال :
_ أستاز مبارك ... الاستاز ماجد وصل ...
فارس باستعلاء :
_ الحمد الله والشكر ... (ويقبل يده شكرا لله) ... هذولا المطافيق بصراحة يفشلون ... عيال الحارة يقولون حتى حريمهم حافظين هرن سيارة ماجد ... الله يخسه هو وهالسيارة اللي كاشخ فيها تقول بزر ... مو رجال عمره ألف وميتين ...
نايف وهو يمط شفتيه يأسا من كلام هذا العجوز الصغير :
_ تبي شي يبه ؟
_ سلامتك يا أبوك ...
_ وأنت يا جدي ...
فارس وهو يستوعب استهزاء أخيه :
_ والله يا وليدي ... يا ليت لو تجيب معك شريط لهالماخوذة اللي ألعب فيها ...
_ ههههههههههههه ... الله يخسك من ولد ... يالله فأمان الله ... (وينصرف) ...
_ فأمان الكريم ... (وينهض) ... يالله يا عيال ... (ويفتش في جيوبه وهو يقف) ... فارس يبه مفتاح سيارتي على الطاولة ...
_ إن شاء الله يبه ... (وذهب حيث أشار والده ، سلمه المفتاح ووضع الحقيبة على كتفه) ... قوم يا أبو نومة ... (وهزه بقدمه وهو لا زال يبكي) ... يبه أنا بقول حق جمعة أنك بتودينا ... (وانصرف) ...
_ يبه ... (ويفرك عينيه بكاءا) ... أنا ... ما أبي أروح المدرسة ... (كانت دموعه تقطع صوته) ... أنعس ...
_ قم ... قم وأنا أبوك ... النوم للكلاب .. (ويسحبه من يده) ... شوي ويروح عنك النعاس ... يالله قم ..
وعلى طاولة فطور فارهة في غرفة طعام فخمة كان جالسا يقرأ صحفه الصباحية كعادته :
_ صباح الخير يا حلو ... (وتقبله وهي تحتضن رأسه بيديها) ...
_ هلا والله ... صباح النور ...
ابتسم بفرح لهذه المخلوقة التي تتدفق رقة وعذوبة " يا سواد الدنيا ... بدونك يا ريم " :
_ عفيه خلودي ... قاعد مبكر !... (وتقرص خد شقيقها الصغير الذي يبتسم ببراءة حلوة وهو يشرب حليبه ) ... جولي قولي لسعد ينزل بسرعة وقولي له ريم تقول لك يا ويلك ...
_ يس مدام ... (وتنصرف جولي لتصعد الدرج) ...
_ والله ولدك هذا يبه مدري على منو طالع ... كسول حده ... ويرفع الضغط ...
_ على امك ... اللي بحياتي ما صحيت من النوم لقيتها قايمة قبلي ...
تضحك بدلع وعتاب لأنها تعلم بتقصير أمها لكنها تعتمد على صبر أبيها الذي لا ينتهي :
_ يبـــــــــــــــــــه ... (ثم تتذكر فجأة ويكسو وجهها الحزن) ... إلا يبه دريت ... بدريه بنت خالي تطلقت ...
_ آآآفا ... لا حول ولا قوة إلا بالله ... من قال لك ؟
_ أمس كلمت حصة وقالت لي ...
وبعد تفكير عميق :
_ الله يعينك يا أبو بدر ... (وفكر) ... عز الله إنهم بياكلونك بالشماتة ... (وعاد لجريدته) ...
_ مدام ... عصير فرش ...
_ ثانك يو ديبي ... روحي خلي قاسم يشغل السيارة ...
_ أوكي ... (وتنصرف) ...
_ إلا أخوك وينه ؟
_ ماجد !... أكيد طلع من الصبح وراح المدرسة ...
_ بس أنا قاعد من الصبح ما شفته ينزل ... ولا تفطر ...
_ يعني يبه ما تعرف ماجد ما ينام ويروح للمدرسة مواصل ... وهو ما يحب يتفطر ياكل من المطعم ...
_ هالولد مدري ليه حياته مخربطة ؟... (وانتبه) ... وإنتي ليش ما تاكلين ؟... يا يبه ترى هالعصاير ما تغني عن الأكل ...
_ أحسن يبه ... أخف ...
واستسلم لأنه يعلم بأن من ممنوعات ابنته الفاتنة ألا يناقشها أحد في أمور رشاقتها :
_ يالله خلودي ... (ويتبع الصغير شقيقته بطاعة عمياء) ... باي يبه ...
_ دير بالكم على الطريق ... خل قاسم يسوق شوي شوي ...
_ تأمر يبه .. سعد ... سعــــــــــد ... سعــــــــــــــــــــــــــد ... سعيدان وصمخ ... تأخرنا ...
|