كاتب الموضوع :
نوسي 2007
المنتدى :
البحوث الأدبية
الدور التربوي لرياض الأطفال:
إن أهدافالتربية في رياض الأطفال لا تنفصل عن أهداف التربية بشكل عام، فإذا كانت التربيةتهدف إلى بناء المواطن الصالح الذي يسهم في بناء وطنه بشخصية متكاملة، فإن الدورالتربوي لرياض الأطفال يتمثل في:
تنمية شخصية الطفل من النواحي الجسمية والعقليةوالحركية واللغوية والانفعالية والاجتماعية.
مساعدة الطفل على التعبير عن نفسهبالرموز الكلامية.
مساعدة الطفل على التعبير عن خيالاته وتطويرها.
تساعدالطفل على الاندماج مع الأقران.
تنمية احترام الحقوق والملكيات الخاصةوالعامة.
تنمية قدرة الطفل على حل المشكلات.
تأهيل الطفل للتعليم النظاميوإكسابه المفاهيم والمهارات الخاصة بالتربية الدينية واللغة العربية والرياضياتوالفنون والموسيقى والتربية الصحية والاجتماعية.
يؤهل الطفل للانتقال الطبيعي منالأسرة إلى المدرسة بعد سن السادسة.
تنمية ثقة الطفل بذاته كإنسان له قدراتهومميزاته.
التعاون مع الأسرة في تربية الأطفال ( رافدة الحريري ، 2002 ، ص85 ) .
يقاس تطور الأمم والمجتمعاتبمدى اهتمامها وتطويرها لنظامها التربوي بما يتلاءم مع مستجدات العصر ومتطلباته،لذا يجب السعي حثيثاً لتحديث مناهج رياض الأطفال بما يتناسب مع حاجات الطلابوالمستجدات التربوية والانفجار المعرفي الهائل المتلاحق (حنان العناني ،2002 ، ص53 ) .
ترسيخ القيم عند الطفل
لكل منهج تربوي قيم يسعى إلى ترسيخها في نفوس المتربين وتكون معياراً بين المربين لتقييم وتقويم السلوك، وغني عن القول إن القيم أوسع وأشمل من البعد الخلقي لأنها تشمل أبعاداً أخرى قد تكون اجتماعية أو نفسية أو علمية أو ثقافية أو غيرها من الأبعاد التي تلوّن سلوك الإنسان.
ويفرد المنهج التربوي الإسلامي مساحة مهمة لتوضيح الآليات التربوية التي يستخدمها في ترسيخ القيم الإسلامية التي يدعو إليها، وحينما نتحدث عن الآليات التي يستخدمها المنهج التربوي الإسلامي في ترسيخ القيم، يجب أن نتذكر دوماً أن تلك الآليات هي آليات متغيرة تتبع حالة الفرد من جهة والمحيط أو البيئة التي تؤثر عليه من جهة أخرى، ومثال ذلك أن آليات تقديم القيم وترسيخها في المجتمع المكي تختلف عن الآليات التي أشار إليها فيما يخص المجتمع المدني، وهذا الاختلاف في الآليات مع ثبات القيم يشير إلى دقة المنهج التربوي الإسلامي في التعامل الواقعي السليم مع كل حالة تربوية على حدة، أضف إلى ذلك أن الآليات التي تستخدم في التعامل مع الطفل المسلم تختلف أيضاً حسب المرحلة العمرية التي يمر بها الطفل كما أشار إلى ذلك الإمام علي عليه السلام في كتاب نهج البلاغة (حنان العناني ،2002 ، ص55 ) .
وتعتبر العاطفة الأسرية من أهم الآليات التي يستخدمها المنهج التربوي الإسلامي في ترسيخ القيم وتثبيتها عند الطفل وتدريبه على استيعابها، بل أنها المدخل الرئيسي لتدريب الطفل على الطاعة والالتزام الخلقي، كما في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم ، وحب أهل بيته ، وقراءة القرآن ) ( علاء الدين الهنـدي، 1993، ص 456 ) .
فالمدخل إلى التربية هو الحب وهو المفتاح الحقيقي لكل أنواع الآداب، وهو مطلب ضروري لعملية التأديب، وشرط أساسي في تربية الطفل المسلم، بل توصل بعض الباحثين في هذا المجال إلى أن أهم العوامل التي تساعد الطفل على الطاعة والالتزام بالقيم هي الحب والحنان الذي يشعر به الطفل من كل أفراد الأسرة، ومنبع هذا الحب هما الوالدين فحب الأطفال للوالدين هو رد فعل لحب الوالدين لهما، بل أن هذا الحب هو ما يعين الطفل على استيعاب القيم وهو يوفر المناخ الملائم للنمو الخلقي في النفس، كما في قول رسول الله ( رحـم الله من أعـان ولده على برّه .. يقبل ميسوره ، ويتجاوز عن معسوره ، ولا يرهقه ولا يخرق به ) ( الكليني ، 1980 ، ص 6 ) .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلّم ( رحم الله عبداً أعان ولده على بره بالإحسان إليه والتآلف له وتعليمه وتأديبه ) ( النوري ، 1966 ، ص626 ) .
والآن لنتساءل عن أهم الطرق التي يستطيع الطفل من خلالها استيعاب تلك القيم ، وتشربها في نفسه بحيث تغدو مظهراً من بنيات سلوكه الحياتي ..
إن أول تلك الطرق هي:
طرق استيعاب الطفل للقيم :
1- الأنموذج أو القدوة
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم (ولكم في رسول الله أسوة حسنة) وهو خطاب شامل للإنسانية جمعاء، أما الوالدين فهما قدوة الطفل وهما منبع القيم لديه بقول رسول الله (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه).
ومن الضروري أن يكون النموذج الذي يقتدي به الطفل نموذجاً صالحاً يعبر عن تلك القيم لا باللسان فقط أو بالدعوة إليها، بل يجب أن تتمثل تلك القيم في سلوك الوالدين أو من يحتذي بهم الطفل ( عبد الرسول عداي ،2004 ، ص72 ) .
فالطفل لا يحتذي بالقول فقط بل يعتبر في النموذج الملاحظ له من خلال السلوك، وقد نبّه المنهج التربوي الإسلامي إلى هذا الفصل بين القول والفعل بالنسبة للنموذج كما في قوله تعالى {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}(البقرة- 44).
فمن يتصدى لأن يكون أنموذجا في المجتمع سواء على مستوى الأنموذج العقيدي أو على مستوى الأنموذج الأسري، فعليه أن يطابق بين قوله وفعله وإلا فسيكون مظهراً من مظاهر النفاق التي تدعو الآخرين إلى نبذه وعدم اتباعه، وفي هذا الصدد أشار الإمام جعفر الصادق عليه السلام (برّوا آباءكم يبركم أبناؤكم) (الحراني، 1962، ص267 ).
فمن استطاع أن يستحضر سلوكاً حسناً في حياته اليومية فإنه يقدم بذلك الأنموذج والقدوة الحسنة لأطفاله، لاستيعاب ذلك السلوك ولامتصاص تلك القيم حتى وأن غفل من الدعوة إليها أو الحث عليها.
فهناك قدر كبير من سلوك الأطفال يكتسب عن هذا الطريق ملاحظة الأنموذج أو القدوة، وما يؤيد ذلك سلسلة التجارب والبحوث التي دارت حول السلوك العدواني لدى الأطفال حيث تبين أن السلوك العدواني يظهر لدى الأطفال الذين يظهر كلا والديهم أو أحدهما سلوكاً عدوانياً أمام الطفل، فيقوم الطفل بتقليد تلك الاستجابات العدوانية مع الآخرين.
وقد يشاهد الطفل نموذجاً لشخصية عدوانية في التلفزيون فيقوم بتقليد ذلك النموذج، وبالعكس إذا شاهد الطفل نموذجاً متسامحاً محبّاً فيقلد سلوك الحب والتسامح، على أن تحظى تلك الشخصية بملاحظة الطفل وعلى تقبلها واستيعابها كأنموذج أو قدوة ( عبد الرسول عداي ،2004 ، ص72 ) .
2- التقليــــد
يكتسب الطفل الكثير من القيم والسلوك المعبر عن تلك القيم من خلال التقليد، والتقليد آلية مهمة في نمو الطفل ونضجه فعن طريق تقليد الحركات الصحيحة يتعلم الطفل المشي ويكتسب المهارات اللغوية والمعارف والسلوكيات الاجتماعية المقبولة، وسلوكيات النمط الجنسي الذي ينتمي إليه، والعادات الصحية السليمة وغيرها.
ويمارس الطفل تقليد أفعال الآخرين منذ الأشهر الأولى، وهو يعتمد في البدء على الملاحظة المباشرة للفعل، ثم يتطور تقليده للفعل من خلال احتفاظه بصورة ذهنية للفعل يسترجعها في وقت لاحق، فنرى الطفل وقد بدأ في محاولات تقليد حركات الآخرين أو وضعيات جلوسهم في أفعال لا تخلو من الطرافة، فالطفل حينما ينجح في تقليد فعل ما فإنه يشعر بمتعة كبيرة لأن هذا الفعل أصبح له، ومن الآن فصاعداً يستطيع استخدامه متى يشاء، ولا شك أن كل مهارة يكتسبها الطفل تمكنه من التكيف السليم مع المحيط وتزيد من شعوره بإمكانية السيطرة على البيئة.
ومن المهم أن نشير إلى أن اكتساب الطفل للمهارات عن طريق تقليد الآخرين، سواء كانت مهارات لغوية أو حركية أو مواقف تجاه قيم لا تتناقض مع نزعته الفطرية إلى تنمية شخصية مستقلة، بل بالعكس فإن الطفل من خلال اكتساب المهارات الجديدة يشعر بأنه أكثر استقلالاً من خلال سيطرته على البيئة المحيطة، ومن خلال تأكيده على ذاتيته التي تستطيع أن تقوم بما يقوم به الآخرون الأكبر منه سنـّاً.
3- الثواب والعقاب
يستخدم الثواب والعقاب كآلية لترسيخ القيم أو إحلال قيم جديدة محل قيم أخرى غير مرغوب بها على نطاق واسع من قبل الآباء والمربين فيكافئ الوالدان طفلهما حينما يقوم بالسلوك المرغوب فيه كأداء الأمانة أو التعاون مع الأصدقاء أو المشاركة في بعض الأعمال المنزلية، وقد يلجأ الآباء إلى معاقبتهم إذا لم يفعلوا ذلك.
وترى نظريات التعلم وعلى الخصوص النظريات السلوكية بأن الثواب والعقاب لا يقتصر أثرهما على الاستجابات المعززة أو المعاقبة عليها فحسب بل أن أثرها يشمل الشخصية ككل، فتتكون السمات العامة والاتجاهات والقيم.
ويؤكد المنهج التربوي الإسلامي على ضرورة التوازن بين الثواب والعقاب في تربية الطفل حيث أكدت الروايات الكثيرة على الاعتدال في التعامل مع الطفل فلا إفراط ولا تفريط.
فعلى الوالدين أن يناسبا بين حجم المكافأة والسلوك المرغوب حتى لا تتحول المكافأة إلى غاية يسعى إليها الطفل من دون الالتفات إلى سلامة السلوك المقبول، وأن يقدر تماماً موضع المكافأة فلا يغرقان الطفل بالمكافآت فلا يستطيع أن يعي أن كان من طبيعة والديه إغراقه بالمكافآت أم أن المكافأة هي نتيجة لسلوكه سلوكاً صحيحاً، مع ضرورة أن يتم شرح معنى ذلك السلوك المرغوب، فالطفل الذي يكافأ على سلوك التعاون مع أصدقائه يجب إفهامه أن ذلك السلوك هو سلوك صحيح، وأن الواجب يحتم عليه عمله ليجازى ليس بمكافأة (مثل قطعة حلوى) بل أن المكافأة الحقيقية لذلك السلوك هي اكتساب محبة الآخرين واحترامهم ودوام رفقتهم، وأن الطفل حينما يقوم بسلوك ما فإنه يكتسب صفته، فالطفل الذي يتعاون مع أصدقائه سوف يسمى متعاوناً والطفل الذي يؤدي الأمانة سوف يعرف بالأمين، والطفل الذي لا يكذب سوف يدعى بالصادق.
ويعتبر المنهج التربوي الإسلامي أن العقوبة العاطفية هي عقوبة مؤثرة وفاعلة ومن الممكن أن تؤدي إلى تغيير السلوك الخاطيء للطفل، فإقناع الطفل بأن سلوكه السلوك الخاطيء سوف يؤدي إلى فقدانه لهذا الحب وإلى إضعاف تلك المحبة والمقبولية التي يحوزها من والديه، ومن ثم يمكن أن يأتي دور التأنيب والزجر، فقد سُـئـِلَ الإمام موسى الكاظم عليه السلام عن كيفيـــة التعامل مع الطفل حين يسلك سلوكاً خاطئاً فأجاب: لا تضربه وأهجره.. ولا تطل. (تاريخ اليعقوبي، د.ت ، ص320).
فالعاطفة الأسرية حينما تكون فاعلة وقوية وحاضرة لدى الطفل تكون في المقابل أداة تربوية مهمة في ترسيخ القيم لدى الطفل.
وتتعدد النظريات النفسية الحديثة في تفسير استيعاب الطفل للقيم والمعايير السلوكية أثناء التنشئة الاجتماعية، إلا إنها لا تخرج عن آليات الثواب والعقاب والأنموذج أو القدرة والتقليد الذي ينقسم إلى قسمين تقليد شعوري؛ وهو ما أشرنا إليه في فقرة التقليد، وتقليد لا شعوري؛ وهو ما يعرف بالتوحد Identification وهو العملية التي تجعل الطفل يفكر ويشعر كما لو كانت له خصائص شخص آخر وقد تكون هذه العملية لا شعورية إلى حد كبير، أي أن الطفل قد يتوحد مع نموذج ما ويقيم على هذا التوحد من غير أن يكون على وعي بذلك، فالتوحد ليست عملية تبدأ بإرادة الفرد مثل تعلمه ركوب الدراجة مثلاً، وإنما هي أقرب إلى اكتساب القدرة على التحدث بالجمل بمعنى أنها عملية دقيقة تحدث في العادة من غير أن يكون لدى الفرد قصد شعوري بها ( جون كونجر وآخرون، 1970، ص335).
ويرى بعض الباحثين في دراسة النمو النفسي والاجتماعي للطفل أن مفهوم التوحد يشير إلى عمليتين، الأولى: تتضمن ملاحظة الطفل أنه يشبه الشخص الذي يتوحد معه، والثانية تتضمن مشاركة الطفـل لهذا الشخص الآخـر في انفعالاته وهذا الشخص في الغالب أحد والدي الطفل ( محمدإسماعيل، 1986، ص277).
وقد أكدت النظريات الاجتماعية إلى أهمية التوحد أو التطابق كمبدأ عام يحكم البعد الاجتماعي في بناء الشخصية، حيث يعرف التطابق على أنه ميكانزم على المستوى اللاشعوري إذ يتقبّل الفرد عادات وأفكار وقيم النموذج الذي سيطابقه، ويتم ذلك غالباً من منطلق الإعجاب بالشخص الأفضل أو الألمع أو الأقوى في أي مجال، فالطفل قد يتوحد أو يتطابق مع الأب وقد يحـدث التطابق حين يتمنى الفرد أن يكتسب سمات الشخـص الآخـر الذي يطابقه ( عزيز داود وناظم العبيدي، 1990، ص 64- 65).
ولعل من أشهر الشخصيات التي تطابقت وتوحدت مع شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم هي الشخصية التي رعى طفولتها وسهر على تغذيتها روحياً وفكرياً ألا وهي شخصية أمير المؤمنين علي عليه السلام، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا التوحد في آية المباهلة في قوله تعالى (وأنفسنا وأنفسكم) ففي تعبيرها عن نفس الرسول بأنها نفس علي بن أبي طالب، فإنها تدل على ذلك التوحد الذي جمع بين الشخصيتين سواء على المستوى الشعوري والمستوى اللاشعوري، فتوحد شخصية أمير المؤمنين مع شخصية الرسول أبرز أتم حالات التطابق بين الشخصيات في التجارب الإنسانية، وتفردت هذه التجربة بأنها كانت على أكثر من مستوى وشملت أكثر من جانب وتعمقت إلى أكثر من بعد، وبذلك فإنها تستحق من الباحثين دراسة واهتمام ليس في المستوى العقيدي فحسب، وإنما في بعدها العلمي كتجربة فريدة في مجال العلوم النفسية والاجتماعية.
فالتوحد والتقليد والثواب والعقاب والقدوة أو الأنموذج تقوم بالدور الرئيسي في ترسيخ القيم، لكنها تفقد فاعليتها عندما لا تتوفر العاطفة الأسرية بصورة كافية أو بشكل صحيح، فقد أثبتت الدراسات بالفعل أن تبني الطفل لقيم ومعايير الوالدين يعتمد على مقدار الدفء والحب اللذان يحيطانه به، وبذلك فإننا نستطيع أن نرى أن نمو الضمير الخلقي يتضمن عملية توحد وأن ذلك التوحد يقوى بين الطفل والوالد كلما كان الوالد أشد رعاية وأكثر حباً، ومعنى ذلك أن الطفل الذي يتوحد بقوة مع الوالد يكون أسرع بالطبع في تبني المعايير السلوكية لذلك الوالد، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الطفل الذي يتمتع بعلاقة عاطفية دافئة مع الوالدين يكون حريصاً على الاحتفاظ بهذه العلاقة، ويخشى دون شك من فقدانها. إن معظم الأطفال يقلقهم بالطبع احتمال فقدان العطف والحب اللذان يتمتعون به مع والديهم، ولذلك فهم يحافظون على معاييرهم السلوكية حتى يقللوا من حدة ذلك القلق.
وهكذا تتضح أهمية الحب والتراحم في ترسيخ القيم والمعايير التي يتبناها الوالدين، فالطفل يحافظ على تلك القيم حتى لا يفقد حب والديه ولكن هذا القلق من فقدان الحب يعتمد أصلاً على وجود مثل هذا الحب، بعبارة أخرى فإن الطفل الذي لا يشعر بحب والديه لا يكون لديه ما يخشى فقدانه، وبالتالي فإنه يصعب أن نتصوّر في هذه الحالة كيف يمكن أن يتمثل الطفل معايير وقيم المجتمع ( محمدإسماعيل، 1986، ص 296).
وبالمقابل فإن الحب والحنان مواد لست ذات كم مادي يمكن أن توزن وبالتالي قد يمكن الحرص على توزيعها بعدالة بين أعضاء الأسرة الواحدة أو بما يتناسب مع حالة كل فرد، لكن الحب والحنان والدفء مظاهر متعددة تتجلى من خلال سلوكيات متنوعة، وهذه السلوكيات هي التي أشار إليها المنهج التربوي الإسلامي إلى ضرورة الحرص في العدالة. والعدالة في توزيع العاطفة الأسرية تشمل ثلاثة جوانب من العلاقات الأسرية:
* العلاقة بين الوالدين.
* العلاقة بين الآباء والأبناء.
* العلاقة بين الأبناء.
ولكـل جانب من هذه الجوانب صور متعددة أخرى يمكن أن يدرس من خلالها، فقد تكون العلاقة العاطفية بين الوالدين سيئة وقد تكون غير متبادلة كأن تحب وتحترم المرأة زوجها وهو لا يبالي بها ويعاملها بصورة منفرة وقاسية وتشعر إنها منبوذة وغير مقبولة.
وقد يحدث العكس فيحب الرجل زوجته ويهتم بها ويلبي طلباتها لكنه يشعر بأنها تهمله ولا تبادله نفس المحبة أو نفس القدر من الاحترام، وقد ينزوي الوالدان بعواطفهما مع بعضهما البعض ولا يباليان بالعلاقة مع الأطفال، فيشعر الأطفال بأنهم غير مرغوب فيهم أو إنهم منبوذين.
ويبدو أن العلاقة بين الأبناء ما هي إلا انعكاس لصورة العلاقة بين الوالدين أو العلاقة بين الوالدين والأبناء أو رد فعل عليها، فكما بينا سابقاً أن الطفل يقلّد والديه وهما منبع الثواب والعقاب في الأسرة، وبالتالي فإن صورة الوالدين واهتماماتهما هي التي تخلق طبيعة العلاقة بين الطفل وبقية أخوته، بل تتعدى لتشمل علاقة الطفل مع أقرانه في الجماعة المحلية أو المدرسة. ويتحمل الوالدان مسؤولية طبيعة العلاقة بينهم وبين أبنائهم من خلال الاهتمام لتحقيق العدالة وفق قاعدتين رئيسيتين:
الأولى: بين الأبناء جميعهم بغض النظر عن ترتيب الطفل في العائلة.
الثانية: بين الذكور والإناث وعدم تفضيل جنس على آخر بالنسبة للأب أو بالنسبة للأم.
فالطفل الأول في الأسرة يكون موضع اهتمام وعناية والديه فيغرقانه بحبهما وعطفهما ويهرعان إلى تلبية جميع احتياجاته، خصوصاً وأن العائلة ما تزل صغيرة، فيشعر بالغيرة من قدوم مولود جديد يخطف منه هذه العاطفة الكبيرة والاهتمام الشديد، بل تتحول هذه الغيرة إلى كراهية حينما لا يلتفت الوالدان إلى موضوع تلك الغيرة وأخذها على محمل الجد، بل نجد أن بعض الآباء يعمد إلى زجر الطفل الأول ومعاقبته على تلك الغيرة فيزداد حسد الطفل الأول على أخيه الثاني، بينما يكمن الحل في إشعار الطفل الأول بالحنان والعطف وتحبيبه للطفل الثاني وعلاج هذه الغيرة من خلال المساواة في المحبة والاهتمام كما أوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم (اعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف) ، وسواء كانت هذه العدالة معنوية كما في قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم (إن الله تعالى يحب أن تعدلوا بين أولادكم حتى في القـُبـَل). ( علاء الدينالهندي، 1993، ص445 ) أو كانت هذه العدالة مادية كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلّم (ساووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضّلت النساء). ( علاء الدين الهندي، 1993، ص 444 ) .
ولكي نفهم إشارة النبي الكريم على تفضيل البنت فلو كان التفضيل جائز فلا بد وأن نلاحظ أن البنت في الثقافة التي نعيش فيها تشعر أنها الأضعف أو الأقل حضورا وهذا قد يثير غيرتها، في حين أن الأولاد تقل غيرتهم وذلك لما يتمتعون به من امتيازات في الرعاية والاهتمام.
ومن ناحية أخرى نلاحظ أن حالات الغيرة من المولود الجديد تزداد في الأسر الصغيرة التي يتركز فيها الاهتمام بالطفل من ناحية الوالدين فقط، في حين قد تقل هذه الحالات في الأسر الكبيرة التي يجد الطفل فيها من يعوّضه عن اهتمام الأبوين من أخوال أو أعمام أو جدود أو حتى أخوة كبار.
كذلك قد تقل مظاهر الغيرة إذا زاد الفارق الزمني بين الوليدين بحيث يمكن أن ينظر الطفل الأكبر إلى نفسه كـواحد من أعضـاء الأسرة الذين يمكن أن يشاركوا في رعاية المولود الجديد ( محمد إسماعيل، 1986، ص 265).
ويمكن اعتبار قصة يوسف عليه السلام وأخوته العبرة والموعظة لما يمكن أن تؤدي إليه الغيرة والتنافس بين الأخوة من أجل الحصول على العاطفة الأسرية، وهي تحذير صريح إلى أن ما يزرع في الطفولة يمكن أن ينمو ويظل فاعلاً في مراحل النمو التالية.
4- الحرمان العاطفي والجنوح
لم يعد اليوم هناك أدنى شك حول العلاقة بين الحرمان العاطفي والانحراف (الابتعاد عن القيم المرغوبة في المجتمع) حيث ثبت من الدراسات العديدة- أشهرها دراسة بولبي عن العلاقة بين الحرمان من حنان الأم والسرقة- مدى تكرار التصرفات غير المتكيفة في مؤسسات رعاية الأطفال المحرومين عاطفياً، كما أن الممارسة العملية تظهر أن معظم الجانحين والمتشردين يعانون من أحد أشكال الحرمان الدائم أو المحدد بفترة زمنية من حياتهم، وأن هذا الحرمان لا زال قوة فاعلة في الآلام المعنوية التي يعانونها التي تساهم في دفعهم إلى الانحراف ( مصطفى حجازي، 1981، ص 267 وما بعدها).
وقد قسمت بولبي حالات الحرمان العاطفي من حيث الشدة إلى ثلاث فئات أساسية:
أ*- الحرمان العاطفي الكلي:
ويقصد به فقدان الطفل لأية علاقة بالأم أو من يحل محلها وذلك منذ الشهور الأولى للحياة، ويترك هذا النوع من الحرمان أثارا سيئة وخطيرة ودائمة على نمو الطفل جسمياً وعقلياً وعاطفياً واجتماعياً، وحينما يكبر هؤلاء الأطفال فإنهم يتصفون بشخصيات قلقة ويعانون من الخوف في مواجهة ضغوط الحياة ويتسمون بسلوك رضوخي انقيادي، وعندما يخرجون من المؤسسة التي ترعاهم إلى المجتمع يبدأ منهم في الأغلب نشاط جانح مثل السرقة لتأمين الطعام أو يسقطون في شرك العصابات والجانحين المحترفين، فيصبحون أدوات طيّعة لتنفيذ مآرب أولئك المجرمين.
ب*- الحرمان العاطفي الجزئي:
وفيه يمر الطفل في مقتبل حياته بعلاقة مع الوالدين ويعقب ذلك الانهيار الجزئي أو الكلي لهذه العلاقة، وغالباً ما يحدث هذا الحرمان في فترة الكمون وقد يتأخر أو يتقدم، وهو يترك آثارا واضحة على توازن وتكيف الشخصية مستقبلاً، وتتوقف هذه الآثار على أمرين اثنين: السن التي حدث فيها الحرمان، فكلما صغرت السن كانت الأضرار اللاحقة بالشخصية أكبر، وعلى نوعية العلاقة السابقة بين الطفل ووالديه قبل الحرمان، فكلما كانت العلاقة سلبية أدت إلى أخطار أكبر من ناحية التوازن العاطفي والتكيف الاجتماعي اللاحق.
ومن أسباب الحرمان العاطفي الجزئي طلاق الوالدين وزواج أحدهما أو كليهما ثانية أو موت أحدهما وزواج الآخر، أو هجر زوجي وسفر إلى أماكن بعيدة، مما يجعل القرين عاجزاً عن تحمّل أعباء الأطفال فيهملهم بدوره جزئياً أو كلياً.
ج - النبذ العاطفي من قبل الأهل:
في النبذ العاطفي يظل الطفل مقيماً مع أهله ويحتفظ بروابط أسرية سقيمة، ولا تنهار العلاقة بين الطفل والأهل إلا بعد أن يجتاز مرحلة الطفولة أو في نهاياتها، وقد تمر بالعلاقة بين الطفل والأهل فترات من الوفاق قد تطول أو قد تقصر لكنها تتضمن فترات حرجة من الانتكاسات المتعددة، وهي ما تؤدي عادةً إلى مزيد من التباعد بين الطفل ووالديه.
أسرة الطفل قد تكون متماسكة ظاهرياً وذات سمعة مقبولة اجتماعياً، وتبدو حالة بقية أطفال الأسرة طبيعية، وهذا ما يجعلنا أمام حالة النبذ النوعي الذي ينصب على أحد الأبناء دون غيره، وينتج هذا النبذ إجمالاً عن دوافع نفسيــة لدى الوالديــن أو أحدهما أو يكون تعبيراً عن صراع زوجي غير ظاهر، ويبدو الأمر عندئذ وكأن الفرد (الطفل المنبوذ) هو المصدر الوحيد لمعاناة الأسرة ومشاكلها.
ويستجيب الحدث للنبذ في مختلف الحالات بأساليب متنوعة تبعاً للسن والتاريخ السابق والشخصية، وهكذا نلاحظ ردود فعل عدوانية اضطهادية أو ردود فعل تتصف بالتوتر والقلق الشديد أو ردود فعل قدرية تدميرية؛ نحو تدمير الذات ولكن نادراً ما يكون رد الفعل صافياً بل هو يتخذ في معظم الحالات مزيجاً من كل هذه المظاهر ( مصطفى حجازي، 1981، ص 274).
وبعد هذا الموجز عن مفهوم الحرمان العاطفي وأنواعه وتأثيرات كل نوع على جنوح الطفل نتساءل ما هي الخطوات التي أشار إليها المنهج التربوي الإسلامي لتجنب الأسرة المسلمة ظاهرة الحرمان العاطفي، التي لا تهدد فقط مصير الطفل وشخصيته بل لها تأثيرات تدميرية على مستوى الأسرة وتخريب البناء والتماسك الاجتماعي؟
في هذا الموضع سنكتفي فقط بالإشارة إلى أهم تلك الخطوات التي تجنب الأسرة المسلمة ظاهرة الحرمان العاطفي:
* إشاعة مبدأ التعاطف والتسامح والأخوة والتكافل والتعاون بين أفراد المجتمع الإسلامي والحث على ما يزيد من هذه الروابط المبدئية بين مكونات المجتمع الإسلامي سواء أكانوا أفراداً جماعات أم مؤسسات وعلى المستويات الدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية كافة، وتكريس جزء مهم من الجانب العبادي لترسيخ وإشاعة هذا المبدأ. وهذا ما يجعل الأسرة الإسلامية وأفرادها ضمن نسيج حي من العاطفة الاجتماعية التي يدعو إليها المنهج التربوي الإسلامي.
* هناك تشريعات اقتصادية تكفل حياة كريمة لليتيم في المجتمع الإسلامي، وهناك تشريعات اجتماعية وتربوية تكفل حياة طبيعية تمكن لليتيم أن ينمو سليماً معافى من أي انحراف نفسي أو اجتماعي.
* وهناك تشريعات قانونية تحمي الطفل وحقوقه في الإسلام بصورة عامة وتحمي حقوق اليتيم بصورة خاصة، وتوفر سوراً من الرعاية والاهتمام به.
* يعتبر المنهج التربوي الإسلامي أن فترة الإعداد النفسي والاجتماعي للزواج في الإسلام لا تبدأ من فترة الخطوبة التي تسبق الزواج بقليل بل تبدأ من فترة الطفولة، ومن أساسيات التربية الإسلامية في كيفية التعامل مع الجنس الآخر ومهمات ووظائف كل جنس ودوره في الحياة والرسالة.
* قدم المنهج التربوي الإسلامي فلسفة خاصة بمفهوم الزواج ورسالته ودوره في بناء المجتمع وتكليف المسلم أو المسلمة إزاءه ودور المجتمع في تكوينه وديمومته، وعلى الرغم من حلية الطلاق في الإسلام واعتباره الحلال البغيض إلا أن تلك الحلية ارتبطت بإعدادات مالية واجتماعية ونفسية يحافظ من خلالها المشرّع الإسلامي على صورة الأسرة وديمومة أثرها بما لا يؤدي إلى تدمير الروابط الاجتماعية وتخريب شخصيات الأطفال.
* ركز المنهج التربوي الإسلامي على أهمية العاطفة الأسرية واعتبرها الأساس الحقيقي للتكوين الاجتماعي من خلال الزواج وإن ضعفها أو انعدامها يؤدي إلى تفكيك وتدمير العلاقات الأسرية.
|