لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > المنتدى العام للقصص والروايات > القصص المكتمله
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله خاص بالقصص المنقوله المكتمله


أشعلتُ لقلبك شمعة ، للكاتبة : لا أنام ..

~~~~ أشعلتُ لقــــــــــلبك شمعـــــة ً ~~~

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-03-07, 05:09 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس ماسي

ه

البيانات
التسجيل: Jul 2006
العضوية: 7873
المشاركات: 2,789
الجنس أنثى
معدل التقييم: شذى وردة عضو على طريق الابداعشذى وردة عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 184

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
شذى وردة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي أشعلتُ لقلبك شمعة ، للكاتبة : لا أنام ..

 

~~~~ أشعلتُ لقــــــــــلبك شمعـــــة ً ~~~

للكــاتبة المبدعة : لاأنام

مستوى القصة العام: ممـــيز للغاية **

عدد الأجزاء : 15 جزء





"أشعلتُ لقلبك شمعة"


(1)


اليوم عطلة والنهار طويل، طويل لا نهاية له...
البيت هادئ على غير العادة، لاعجب فأمها وزوج هذه الأخيرة خرجا لا تدري إلى أين، ومنذُ متى أخبراها بشئ، هي تسمع فتُطيع ثم تسمع فتُطيع ثم تُضرب وتطيع أيضاً!!!
سارت الهوينى من على الدرج، تتأمل جدران البيت، ترى تشققاته، طلاءه الذي تكاد لا تميز لونه، أصبح قديماً مثلها ربما!!
وصلت للصالة، كان التلفاز مفتوحاً على قناة الجزيرة الرياضية، من غيره يشاهدها، تُراه أين ذهب؟!
دلفت إلى المطبخ لم تجده، سارت إلى الممر الخارجي، الميزة الوحيدة في هذا البيت أنهُ لم يكن مسقفاً!!
ركلت حصى اعترضت طريقها بأصابع قدمها الحافية إلاّ من دثار الأيام ومرارة الزمن، الترابُ ساخن قد كوتهُ الشمس، تشعرُ بحرارته تتماوج مع باطن قدميها، ومع ذلك تستعذبُ ذراته ورائحته خصوصاً حين يتحدُ مع المطر!!
المطر........
حلمٌ آخر دونتهُ في دفترها!!!!
حدقت في شمس الظهيرة وهي تستند على شجرة اللوز الضخمة، اتحدت مع جذعها الأجعف، فرقٌ شاسع بينها وبين هذه الشجرة، تلك لها جذور راسخة لا تُنتزع أما هي فلا تعرف لنفسها قرار أو مرسى، يا تُرى ماذا سيؤول إليه أمرها؟!
ضاقت عيناها الآن، كم من مرة حاولت أن تُطيل فترة تحديقها في الشمس، لكن بصرها لا يلبث أن ينقلب خاسئاً وهو حسير، ستدون هذه المحاولة الخامسة ربما في دفترها أيضاً....
التفتت لأفواجٍ من النمل الأسود تتسلق الجذع برتابة جندي، إحداها دغدغت ذراعها، انتابتها قشعريرة هزت جسدها فابتعدت لا شعورياً عن الجذع...
عن الجذع أم الجذور؟!
سمعت صوت سعلة مكتومة، مدسوسة بين الأزقة كلصوص الظلام...
التفتت لمصدر الصوت، وبخطوات لا تكاد تُسمع دارت إلى الجهة الأخرى، لقتهُ يُحني ظهره وهو يكح..
السجارة بيده قد احترقت إلى المنتصف ورائحتها الكريهة قد أغرقت المكان...
- "مجيد" ماذا تفعل؟ زمجرت فيه بغضب.
التفت مذعوراً إلى الخلف، ألقى السجارة من يده وكأن أفعى لسعته، لم يجب فوراً كانت المفاجأة قد ألجمته.
- تُدخن سجائر، ألا تخجل من نفسك، لازلت في الإعدادية وتُدخن.
استعاد رباطة جأشه بعد أن أطمأنّ من هويتها، نظر لها بإشمئزاز:
- وما دخلكِ أنتِ؟
- أنا أختك الكبيرة.
الإحساس بالقرف يتصاعد، يتراكم بحجم الثرى وبطول الثريا!!! في حنايا الوجه يرتسم نفور، بغض، كراهية، حقدٌ أسود...
- أنتِ لستِ سوى خادمة في هذا المنزل، حشرة، بعوضة، كلما أراكِ أشعر بالقرف، كم ألعن اللحظة التي أصبحتُ فيها أخاكِ.
كلماته تنطلق بقوة، بسرعة، مغلفة بالطين، بالوحل، بكل شئٍ أسود!! كيف لا وهذا الشبل من ذاك الأسد!!
هوت بصفعة قوية على وجهه، ذهل في مكانه، هي أيضاً ذهلت من نفسها لكن ذهولها لم يستمر، إذ سُرعان ما سمعت صوت الباب الخارجي يفتح، دارت على عقبيها وهي تهرول إلى غرفتها، لا بد أنهم وصلوا، لا تريد أن تراه...
أغلقت باب غرفتها وهي تستند عليه، الدماء التي تجري في عروقها تكاد تُسمع من وقع ضخاتها، لا تدري أيهما طغى صوته على آذانها: دقات الباب أم دقات قلبها!!
أم تراها تتخيل ما تسمع؟!
تعالت الطرقات وهي ترتجف في مكانها.....
لماذا فعلتِ ذلك، لماذا صفعته، ألا تعرفين ابنُ من هو؟!
إنهُ ابنه، ابنُ الوحش، لكنها أخته أيضاً، أليس لها حقٌ عليه؟! أليس الدم الذي يسري بجسده جزءٌ منها..
خطأ، أنتِ مخطئة، فلقد أختلط بدمٍ آخر، دمٍ غريب، دمٍ منحط، دمٍ....
- افتحي الباب يا بنت الـ......."يشتمني أنا نعم، لكن لم يشتم مذهبي"....
شرعت بفتح الباب بإرتجاف وهل لديها خيار آخر؟!
لقد اكتشفت من تجاربها أنهُ كلما طال انتظاره في دق الباب زادت سياط ضرباته على جسدها، ستفتحه الآن ربما تهدأ ثائرته على لحمها وترتاح منه.
فتحته ببطء، ببطءٍ شديد، دفعهُ هو بقوة في وجهها، ترنحت للخلف، صرخ:
- لِمَ ضربته؟
عيناها زائغتان، تلتفت يميناً وشمالاً، أيحاول أن يكون ديمقراطياً!!
"لم تسألني في كلتا الحالتين سأُضرب، سأُضرب حتى لو لم أفعل شيئاً"..
أرجوك أفرغ شحنة غضبك على جسدي، ولكن بسرعة، بسرعة شديدة، لا أطيق أن أرى وجهك الكريه، يقتلني ألف مرة....
- ألا تُجيبين؟
اختنق صوتها في حنجرتها، كثيراً ما يخونها حين تراه، أنفاسها تجثو بهدوء، وكيف لا والجاثوم يقفُ أمامها!!
وبصوتٍ لا يكاد يسمع أجابته:
- س..سجائر، رأيته يدخن سجائر..
هل رأيت الأوداج يوماً حين تنتفخ من حدة الغضب، انظر لرقبته وستعرف، حانت اللحظة الموعودة..
شدها من حجابها...
"أكرهه أكرهه أكرهه كم انتهك حرمتي في هذا المكان"....
حاولت أن تعيد شده لأسفل، لكنه ضربها على فمها بقوة...
سائلٌ حار يتدفق ويبلل الشفتين، يجري بسرعة بقوة زخات المطر، يتغلغل إلى اللسان وتستطعمه..
طعمه كريه لكنهُ دافئ يُشعرك بالخدر...
لم تصرخ كعادتها، بل عضت على نواجذها المتورمة كي تمنعها من الخروج، من زلزلة أركان هذا البيت المتهالك...
"صرختي هي تسليته الوحيدة في هذا البيت..أجل الوحيدة"!!
- وما شأنك إذا شرب سجائر أم لا، ألم أقل لكِ ألا تتدخلي فيما لا يعنيكِ، كم مرة قلتُ لكِ ذلك.
دفعها على الأرض فسقطت على صدرها، كانت السقطة مؤلمة، أحست بعظامها تتهشم...
يا لهذا الوجع..
لم تقوى على الحراك ولا على الصراخ، لم تشفِ غليله بعد...
يا لهُ سادي، يلتذ بتعذيب الآخرين وسماع صراخهم، تباً له من رجل، بل تباً للرجال كلهم، كلهم دون استثناء!!
تقدم منها، أغمضت عينيها بقوة ووجهها لازال يقبّل الأرض، لا تريد أن تراه أو ترى ما سيفعله..
أفعل أي شئ وخلصني، أتُراه سيدوس على ظهري أم رأسي؟!
أرجوك أفعل أي شئ وأغرب، أغرب من هنا..
لم تشعر إلا بوقع حذائه الثقيل على أصابعها، يدعكها دعكاً ببطء وقوة، زاد من ضغطه، أصابعها تكاد تُسحق..أتراها لازالت باقية..أصابعي!!
مؤلم مؤلم مؤلم...
وصرخت بقوة، بأقصى طاقتها، بأقصى ما تصل إليه حنجرتها، وابتعد أخيراً، رفع حذائه عن أصابعها، الخدر يدبُّ في أطرافها بهون، ليس بها حاجة لتفتح عينيها، لا بد أنهُ يبتسم الآن، لقد أرضى ساديته...
- إذا لمسته مرةً أخرى سأكسر لكِ يدك الأخرى، أسمعتي؟
ثم خرج....
لم تقوى على رفع جسدها، أصابعها لا تتحرك، وخزاتٌ كنصل السكين تنبض عند قمم أصابعها والخدرُ يسري في الجسد كالتيار، يمنع أجهزة الجسم المعذب من العمل..
ليتني أبقى هكذا للأبد!!
حركت جفنيها بإضطراب، نظرت إلى اليد المدعوكة، انسحق الجلد، أصبح لونهُ داكناً، سال الدم وردياً يلمع بين طياته، حزّ في نفسها منظرها...
لقد تشوهت يدي...
وددتُ لو أصرخ، أن أبكي، ولكن طاقتي كانت قد استنفذت، لم يتبق إلا الأنين.....
أنّت بصوتٍ متقطع وكبدها تتلظى، جسدها يهتز، يهتزُ بعمق، بقوة، نكأته الجروح وأعياهُ السهاد..
لحظة!!! جروح الجسد أم جروح الذاكرة؟!!
ثم جاءت، طالما أتت بعد أن ينتهي هو، تأتي بدمعتها دوماً، تحاول أن تعتذر...
أتيتِ تعتذري عمّاذا وماذا؟!
جثت بجانبي، تمسح على ظهري، لكني لا أشعر بشئ..
ألم أقل لكم أنّ جسدي مخدر!!
كم أكرهها، أكرهها أكثر منه، صدقوني، هي أمي أعرف، لكنها زوجته، زوجته التي لا تقدر أن تنطق بكلمة أمامه، لا تقدر أن تفعل شئ، فقط تبكي، يا لدموعك!! يا لضعفك، أنتِ عارٌ على الأمهات، عارٌ على الأمومة..
أكرهك أنتِ السبب، لم تزوجتِ هذا الشيطان؟؟ ألكي تعذبيني، لتشقيني، لتدفنيني حية؟!!
أرتفع أنينها....
لا أطيقُ قربها مني....
نظرت إلى اليد المسحوقة وهي تشهق بالبكاء، رفعتها فندت من الفم صرخة:
- إنها تؤلمني، دعيها...
تركتها وهي تزدادُ نحيباً، انصرفت لتعود بثلج وكمادات تضمدها...
تركتها تفعل ما تشاء وعيناي تكادات تقفزان من محجريهما حين تحركها، الألم أشد من شفرة السكين يقطعني تقطيعاً، كأنهُ جمرة تكويني، تحرقني، تلسعني بسياطها...
أمسكتها من خصرها، كانت لاتزال تلامس الأرض، تستمد الأمان منه، تطفئ لهيب قلبها، تُثلج صدرها قليلاً، فالصور ستتكرر قريباً ، لاتلبث أن تُعاد ولكن بيدٍ أخرى ألظى!!!
أجل...قريباً!!
رفعتها وهي تشعر بالتهالك، الإجهاد حطمها، بدت كقطعة لحمٍ عاجزة تتقلب على فحم، سرعان ما يتحول إلى رماد، أترى أسفله أي شئ؟!!
مررت اللحاف على جسدي، أشعر بدماغي يكاد ينفجر، بزغ الألم، لقد زال الخدر..
لمَ زال، كنتُ أفضل منذُ قليل..
قبلتني على جبهتي ووجهها مغرقٌ بالدموع.....
منظرها يمزقني أكثر من آلالام جسدي، يغيظني، يفتتني، أرجوكِ ابتعدي، لا أريد أن أرى وجهك، أنتِ مثله، بل أقسى منه، أنتِ السبب، لمَ تزوجته، لمَ؟!
أغلقت عيني لعلّها تفهم الإشارة وتنصرف، لكنها بقيت بجانبي، تنظر إلي وتبكي بصمت....
نامت "غدير"، لم تكن تدري أكانت نائمة أم تهذي!!
أكانت تحلم..أكان كابوساً؟!
يا ليت....


(2)


لا أدري كم مرّ عليّ من الوقت وأنا نائمة.....
كان جسدي يشتعل بالحرارة، طنين في أذني وفي يدي، نظرتُ إليها، إذن لم أكن أحلم، فللتُ الرباط قليلاً.....
لونها قد أصبح غامقاً، أختلط لون الجلد الأبيض بثنايا زرقاء داكنة، حاولت تحريكها فعاد الألم قوياً قوياً..
نظرتُ حولي فلم أرها، ذهبت، أجل ذهبت، ربما منعها وهي أطاعت، اختارتهُ هو بجسده الذي يشبه الثور وتركتني أنا بأضلعي المتكسرة..
سمعت صرير الباب، التفتت نحوه، الإكرة تتحرك ببطء، لكأن من يمسكها يودُّ أن يفاجأ من بالداخل، يقبض عليه متلبساً!!
أخذ يحدق بها وهي على الفراش، تقدم منها وهو لايزال يتفحصها، ألقى عليها شيئاً، كانت 3 دنانير...
قال بصوتٍ باردٍ مثله:
- يقولُ لكِ أبي خذي هذه النقود واذهبي للبقالة لتشتري زجاجتي حليب وبيض وماء لقاح.
نظرت له مبهوتة، كلماته ألجمت لسانها، أنستها الألم بأم عينه..
- يقول لكِ اذهبي بسرعة قبل أن يحل المغرب، وتعالي فوراً.
الأخوة تتلاشى والروابط تنعدم، تنفلت، كقشة، كريشة، ها هي تطير، تطير، ولكن أين هي وأين الجاذبية!!
لاتلبث أن تهوي، تهوي رغم أنفها، تهوي لأن الحياة هكذا، والقوانين تقودك، تحطمك لا يمكنك الفكاك منها، أين أنت يا "نيوتن" أين أنت؟!!
- أتمنى أن تكوني قد استفدتِ من درس اليوم وتعلمتي ألا تتدخلي فيما لا يعنيكِ..
لم تجب عليه، لسانها ثقيل ينوءُ بحمله، يرزء بتلال الألم والحسرة...
وقبل أن يغادر، التفت إليها وهو يبتسم ابتسامةً كريهة كأبيه:
- اشتري بالباقي علبة سجائر لي..
"بأس ما أنجبتي يا أمي"..
حدقت في تلك الأوراق الحمراء التي التفّت حول نفسها، تأملتها طويلاً وهي تزفر، حركت أصابع يدها اليسرى بتعب لتلامسها، قبضت عليها، جعدتها وأبقتها هكذا في كفها الصغير..
أطبقت جفنيها باستسلام، ولقد أنزوى في جانب المقلة شيءٌ كابدته، حاربته، قاومته طويلاً، لكنهُ انتصر و ها هو يعلق بأهدابها ندياً وهي صاغرة....
جرجرت نفسها من السرير جراً، كانت يدها اليمنى بجانبها، تحاول عدم تحريكها ولكن هيهات..
جسدها يهتز وهي تهتز وشعر جسدها يهتز أيضاً من شدة الألم..
ذهبت إلى الحمام لتغتسل، لتبرد اللهيب المستعر بداخلها، لتمرر الماء على صدرها لعلهُ يخترق الجلد وينفذ إلى القلب، يطفئه ويثلج خواطره المجنونة..ظلم، هذا ظلم ظلم ظلم...
سالت الدموع مع الماء، اتحدت معه في صورة متماهية، شفافة لكن مخدوشة!!
أجل ومن منا لديه صورة كاملة؟!!
أحست بالراحة قليلاً، بالإرتخاء، البخار يتصاعد، يُثير فيها النعاس، ترنحت في خطاها، ارتدت ملابسها وعباءتها بوهن، فتحت درجها الصغير، تناولت حبتي بندول، وأعادت ربط الضماد بخفة وهي تمسح عليها بحنو أقرب إلى هدهدة القطط..
خرجت من غرفتها، لقتهم في الصالة، هي وزوجها وابنهم يشاهدون التلفاز وكأنَّ شيئاً لم يكن، كأنها ليست منهم، بل مجرد قطعة ناشزة!!
لم يدعوني يوماً للجلوس معهم، لم يحسسوني بإنتمائي لهم..
خاطبها دون أن يحول عينيه عن التلفاز:
- اشتري بسرعة ولا تتأخري.
"اخرس أيها الظالم، يا عديم الرجولة، ترسلني للبقالات وأنا فتاة وأنت في البيت، وأنتِ أيضاً لا تنظري إليّ هكذا بوجهك ودموعكِ البلهاء، أنتِ لا تستحقين لقب أم، الأمومة تتبرأ منكِ، أكرهكِ وأكرهكم جميعاً، متى أرتاح منكم، متى؟!!"
سارت ببطء، لم يكن المكان بعيداً، تشاهد المارة والسيارات وتتصفح الوجوه لعلها تجد كتاباً مثلها، صفحة ألم تشبهها، تواسيها، تقرأ فيها حروف الظلم والقهر واليتم..
لو كان أبي موجوداً، لو كان لي أب يحميني، يواسيني، يدفع عني جرعات الظلم، لو...
أستغفر الله، لو تعمل عمل الشيطان...
وصلت إلى البقالة، لتنفذ أمراً آخر....
حملت السلة الصغيرة بيدها اليسرى بصعوبة، نقلت بصرها حول المكان، تبحث عن زجاجات الحليب والبيض وماء اللقاح!!
وضعت السلة على الأرض ثم أمسكت البيض ووضعته، ذهبت إلى الثلاجة ووضعت علبتي الحليب أفقياً بجانب البيض كي لا ينكسر، حملت سلتها لتبحث عن زجاجة ماء اللقاح الذي يعشقه زوج أمها وتكره طعمه هي..
- وأخيراً وجدته.
لم تشأ أن تنزل السلة من ذراعها اليسرى مرة أخرى، رفعت يدها المضمدة ببطء نحو الزجاجة، أمسكتها من زندها وحاولت أن تضغط عليها بقوة لتلامس جذعها، لكن مظهر الزجاجة المصقول لم يكن خادعاً، أخذت تنزلقُ بنعومة شيئاً فشيئاً وهي تزيد من الضغط عليها..
ودون مقدمات.....
ودون رحمة....
سقطت، وتناثرت قطع الزجاج في أرجاء المكان..
سال الماء ليبلل القطع، يزيدها لمعاناً ويزيدُ قلبها حرقة، رددت بهمس:
- انكسرت..انكسرت، ماذا أفعل يا ربي، سيقتلني، لا أملك نقوداً أخرى، سيذبحني، رحماك يا رب رحماك..
جثت على الأرض، تراقب الزجاج المتناثر بعينين زائغتين.
- ماذا أقول له؟! أقول الحقيقة، لكن لا لا، لن يصدقني.
هزت رأسها وهي تخاطب نفسها:
- غبية، غبية، غبية.
وانحدرت الدموع من عينيها بصمت.....
أتعرف إلى أي مدى يقودك اليأس والخوف؟!!
كان بريق الزجاج مغرياً، يجذبك لتلامسه، لتتحسسه، لتتأكد من حدة شفرته، أيقطع بسرعة كلمح البصر دون ألم؟!
نظرت إليه من بين دموعها، لازال يناديها، يدعوها بإغراء، مدت يدها اليسرى وهي ترتجف، لا تدري يدها التي ترتجف أم القطعة كانت ترتجف؟!!
مجرد ضغطة قوية نحو العروق وينتهي كل شئ، ينتهي الألم، ينتهي العذاب وكل أيام الشقاء، ترتاح من وجوههم، من ظلمهم، من هذه الحياة..
سيسيل الدم عبيطاً بلذعة وستتألم في البداية ربما، لكنها عروق، والعروق نبض الحياة، سيكون الأثر قاضياً إذن..
لكن ماذا لو أنقذها أحدهم في اللحظة الأخيرة؟!
هزت رأسها بقوة، أسقطت القطعة من يدها، رنت على البلاط، تتراقص بخفة حول هودج الموت، ها هي تستقر أخيراً على الأرض حيثُ مكانها الحقيقي..
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..
أنهضت نفسها بصعوبة، دفعت ثمن زجاجة اللقاح المكسورة وباقي الأشياء، تمشي دون أن ترى الطريق بعينيها، عاد ألم يدها بقوة والوخز لا يكف عن جنونه..
- ماذا أفعل الآن، أأعود للمنزل ليكسر ضلعاً آخر من جسدي، أأعود لذلك السادي وأترجاه أن يسامحني وأن يقتص من مصروفي حتى أسدد ثمن الزجاجة وأشتري أخرى، ماذا أفعل؟أغمضت عينيها وهي تسير، كانت شمس المغيب قد ألقت بظلالها على الجميع والطيور قد سارت لتختبئ في أعشاشها فقد حان وقت المبيت، خفت حركة البشر، والطريق إلى المنزل يبدو طويلاً طويلاً لا نهاية له، أتلقى حتفها اليوم؟! ربما...
سمعت صوت بوق سيارة خلفها، نظرت وراءها، كان شاباً يلاحقها بسيارته، يسير ببطء بجانبها، تكلم كثيراً وفي أشياء كثيرة، لم تكن تسمع أي شئ، لم تكن تقوى على استيعاب أي شئ آخر سوى الزوبعة التي تنتظرها في المنزل...
عادت إلى واقعها ونظرت إلى الشاب...
من هذا وماذا يقول هذا المجنون؟!!
غيرت مسارها وسارت بسرعة في طريقٍ آخر لا يؤدي إلى المنزل، كانت تمسكُ الكيس بيدها السليمة، لا تدري أسيبقى لها عظمٌ سليم هذا اليوم!!!
عاد الشاب ليلاحقها، خافت فأوقفت سيارة أجرة..
"أين أذهب يا ربي..ليس لدي مكان أختبئُ فيه، أين أذهب، كل الطرق مسدودة..."
بلى، يوجد، هو هو، أجل سأذهب إليه...
أعطت السائق العنوان، ثم أغمضت عينيها بقوة وهي تتنهد...لطالما كان يزورهم على أيام حياة والدها، تسترق من وجهه نظرات الحنان والشفقة، يحضر لها دمى وقطع الشوكلاته بعد أن يمط وجنتيها المكتنزتين بقوة، غاب الآن وغارت وجنتاها فقد منعه "حميد" من أن يلامس عتبة بيتهم حتى!! وكان ذلك منذُ خمس سنوات، آخر عهدهم به وبأبيها....
نقدت السائق 500 فلس ثمن السجائر التي أوصاها "مجيد" بها...
"لو قُطعت يدي الأخرى ما اشتريتُ له هذا السم"..
سارت تترنح في مشيتها، وقفت أمام سورهم، فقد عاشت هناك لمدة عام قبل أن تتزوج أمها مرةً أخرى، كانت أياماً جميلة حقاً..
أُعيد ترميم البيت وأعيد طلاءه، بدى كبيراً وجميلاً، أشياء كثيرة تتغير في لمح البصر..
دقت الجرس، انتظرت كثيراً حتى فُتح، ظهرت خادمة أندونيسية في وجهها، خاطبتها بتعب:
- بابا "محمد" موجود؟
هزت الخادمة رأسها بإيجاب ولكن دون أن تسمح لها بالدخول.
- بابا "محمد" في المزرعة هناك. وأشارت بيدها للقطعة الخضراء الملاصقة للبيت.
شكرتها وهي تجرُّ نفسها وتجرُّ الكيس معها، مضى وقتٌ طويل، لا بد أن الثور الموجود في بيتهم قد أظهر قرنيه!!
سارت الخادمة أمامها، كانوا قد أقتربوا...
تناهى إلى مسمعها ضحكات تخرج من القلب صافية، من القلب إلى القلب..
"أيوجد في هذا العالم شئ يُضحك؟!!"..
أحست بالغيرة، بالحسد ربما، هؤلاء يتجرعون من الحياة حلوها، عذوبتها، أما هي فتتجرع العلقم، العلقم فقط..
رائحة الشواء تملأ المكان، لم تتناول شيئاً منذُ الصباح، معدتها تصارع الجوع، تتلوى، لا بد أن الغشاء المخاطي المبطن لمعدتها قد انقلب على عقبيه!!!
- إلى متى سأظل انتظر لبس الفستان، أريد أن ينبهر الجميع بجمالي.
ضحك الجميع على تعليقها، لكنها أكملت:
- حراام، ناصر أصغر منك وتزوج، عمرك 28 عاماً ولا زلت عازباً...
ابتسم "عمر" في وجه شقيقته الصغيرة، لقد أخذت دور الأم مبكراً بعد وفاة والدتهم.
- يا حبيبتي، ما لي والزواج؟! يكفيني صداعك، أنتن تجلبن الهم للرجل مبكراً، لا يوجد شئ أحلى من العزوبية..
التفت "ناصر" لزوجته وهو يغمز:
- صدقت في هذا، ليتني سمعتُ نصيحتك هذه من قبل.
ضربته زوجته على كتفه وهي تضحك والجميع يضحك معهم.
- اشتقت للعزوبية؟! لولاي ما عرفت أن تربط خيط حذائك.
وتظاهرت بالغضب فذهب ليراضيها.
- انظروا "أشار عمر" انظروا كيف يذل الرجل نفسه هكذا بعد الزواج.
وضعت "ندى" يدها على خصرها وهي تهزُّ نفسها:
- نحنُ ملح الحياة بدوننا لا تساوون شيئاً.
صفر الجميع لكلامها فشعرت بالخجل، أحاطها والدها بذراعيه وهو يثني على كلامها:
- صدقتِ..
وشرد قليلاً يتذكر ملح حياته التي ذهبت، حياته بدونها أصبحت لا طعم لها..
أحسّ الجميع به، فحاولوا أن يغيروا الموضوع، لا زال يذكرها، لم ينسها بعد رغم مرور عامين....
- بل قولي نحنُ شرٌّ لا بد منه. ردّ ناصر.
ضحك الجميع وندى تنظر لهم بغيظ.جاءت الخادمة الأندونيسية لتخبره عن الزائرة، كانت واقفة على مسافة بعيدة، لم يلاحظوها.
- من هذه؟
أشار لها بيده كي تقترب، ترددت في خطاها، لقد جنَّ الليل والثور في البيت لا شك يُعربد وقد شحذ قرنيه..
صمت الجميع يرقبون الزائرة الغريبة، زاد ترددها، أرادت أن تعود إلى حيثُ كانت، لا تريد أن تتطفل على الآخرين....
بانت ملامحها، شهق الأب وقد اتسعت عيناه:
- غــ..غ..غدير، معقول؟!
ابتسمت، ازدادت ابتسامتها اتساعاً، لقد عرفها...
هرعت إليه تحضنه، تتعلق برقبته كما أيام الطفولة وهي تبكي والجميع ذاهل..أسقطت الكيس الذي بيدها، لايهم، ينكسر البيض، يتسرب الحليب، المهم أنها وجدته، وجدت ذلك الحضن الدافئ، صدرٌ تستند عليه، يحسسها بالأمان ولو بشكلٍ مؤقت!!!
- خاااالي ..... خااالي.كان جسدها يهتز مع شهقاتها، خمسُ سنواتٍ لم ترهُ فيها، خمسُ سنواتٍ عمرٌ طويل أليس كذلك؟!
زادت من تطويقها لرقبته، بالرغم من شعورها بالألم في يدها، لا تريد أن تفلته، لا تريد أن تترك هذا الصدر حتى لو قطعت يدها!!!
قربت شفتها المتورمة من أذنيه لتهمس بإرتجاف:
- سيـ ...ذ..ب..ح..ني.
أبعدها عن صدره، مسكها من كتفيها وهو يقول والدموع تملأ عينيه:
- ماذا تقولين يا ابنتي؟
لكنها أنقضت عليه مرةً أخرى، تمسكت بصدره...
أرجوك حسسني بالأمان...
عادت لتهمس، لم تكن تقوى على الكلام، تخاف أن يسمعها ذلك الثور، تتخيل أطياف شكله المجنونة.
- سيـ ...ذ..ب..ح..ني.
- ماذا تقولين يا ابنتي، لا أفهم؟!
صرخت، لم تتمالك أن تكتم أكثر، صرخت بقوة، بأقصى ما تستطيع، إنها لا تلبث إلا أن تُشبع ساديته، ربما سيهدأ في منزله الآن!!
- سيذبحنيييييييييييييييييييي.
الليلُ يزدادُ حلكة، تشعر بنفسها خفيفة، تُحلق في ثناياه، تدورُ مع نسيمه، تشتمه، انزلقت ببطء من ذلك الجسد، ببطءٍ شديد وصورة ذلك الثورُ المعربد تطوفُ أمام عينيها...


(3)


فتحت عينيها بتثاقل، زادت من رمشها لعلَّ الصورة تتضح أمامها، رائحة المستشفى تملأ رئتيها، لها رائحة مميزة لا يخأطأها أي أنفٌ أبداً..تطلعت إلى أزواج العيون الثلاثة المحدقة بها، كان خالها و"ندى" جالسين بجانبها، أما "عمر" فقد بقي واقفاً عند الباب مكتفاً ذراعيه، شعرت بالخجل من الجميع....
التفتت إلى خالها وهي تسأله بغباء كما في الأفلام:
- أين أنا؟!!
ردت "ندى" بدلاً عنه:
- أنتِ في المستشفى الآن ياااا ابنة عمتي.
وابتسمت، إنها تشبه أباها، بل تكادُ تكون نسخة مصغرة منه.
ردت لها "غدير" ابتسامة واهنة وهي تحاول أن تُسند نفسها..
ارتكزت بيديها على السرير لترفع جسدها، أفلتت من فمها صرخة قصيرة، وسرعان ما أرخت يدها، كانت مُجبرة...
هرعت "ندى" لتسندها على ظهرها، كادت دموعها تنزل لكنها حبستها إلى وقتٍ آخر، لم تنظر إلى أيٍ منهم، أطرقت فقط للأرض..
- غدير.
رفعت وجهها ببطء، كان ينظر لها بحنان، بحنان الأبوة، أيُّ قلبٍ تحمل، ليتك كنت معي...
- من فعل بكِ هذا؟! حميد؟؟
أطرقت مرةً أخرى ولم تُجب.- لا تخافي يا ابنتي، أخبريني..
لازالت مطرقة، خرجت الكلمات من فمها متكسرة:
- لا....لا أحد.
تنهد الخال وهو يستعيذ من الشيطان:
- كيف لا أحد!! إذن من ورّم لكِ فمك وكسر لكِ يدك، الطبيب يقول أن يدك تحتاج لشهرٍ كامل كي يلتأم الكسر.وبشكلٍ لا شعوري، رفعت بصرها نحو الباب، كان واقفاً يرمقها بتأمل و بريق اهتمام يلمع في عينيه الخضراروين!!!!
حتى الآن لم ينبس ببنت شفه، تغير منذُ آخرِ مرةٍ رأتهُ فيها...
- غدير!!
عادت لتتصفح وجه خالها، عيناه تطالبها بالإجابة لكنها تمتنع...
"إذا أخبرتك، من سيبقى معها في البيت؟! مجيد!! إنه لا يكاد يكون موجوداً هناك، دائماً مع أصدقائه...هم أولاً ونحنُ...أخيراً..".تنهد الخال يائساً منها..
تمتمت في نفسها:
- ما كان عليّ أن آتي، ماذا بمقدوره أن يفعل؟! لو عدتُ للبيت مباشرة لأخذتُ جزائي وانتهى الأمر...يا تُرى كم الساعة الآن؟!
دقّ على ركبتيه ثم أضاف:
- على العموم لقد اتصلتُ بوالدتك لأطمئنها، مسكينة كانت قلقة..
"ولماذا قلت لها، لماذا أخبرتها؟!!"..
- متى سأخرج من هنا؟ سألتهُ بخوف.
- يومان هذا ما قالهُ الطبيب، تحتاجين للتغذية والراحة.
"لن يستطيع أن يؤذيني هنا في المستشفى وأمام الآخرين..هذا مؤكد!!".
ابتعد "عمر" عن الباب بعد أن سمع طرقاً خافتاً، غاص قلبها في أوديةٍ سحيقة، إلى القاع....أتت معه، هذه المرة أنقلبت الآية، تقدمت هي أولاً ثمَّ هو..ألسنا في مستشفى؟!!
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام والرحمة.
"أيُّ سلامٍ يأتي منكما..".
كانت تنظر لها وهي تبكي، دائماً تبكي، يا إلهي ألا تنتهي دموعها أبداً؟!
دلفت لتسلم على "عمر"، صافحها ببرود فلم يكن يعرفها جيداً، يا للعلاقات الأسرية المترابطة!!
أخيراً سمعنا صوته:
- كيف حالك عمتي؟
- بخير يا ابني..
"كم تُثيرين الشفقة" رددت "غدير" في نفسها..
تقدمت من السرير، سلمت على أخيها طويلاً، ثم قبلت "ندى" التي فرحت بعمتها....
كانت تنظرُ لي، أعرفُ ذلك، لكني أشحتُ ببصري للجهة الأخرى، فالتقت عيناي به، بذلك الوحش.
- كيف حالك؟! سألها بصوتٍ خافت كفحيح الأفعى.
"بأفضل حالٍ عندما لا أرى وجهك"..
لم ترد، نظرت إلى خالها وهي تزدرد ريقها، تتوسل إليه بعينيها لعلهُ يفهمها...
"أرجوكم أبعدوه، انظر له كيف يبتسم كالشيطان، سيذبحني..."
- كيف حالك؟خاطبها مرةً أخرى وقد تغيرت نبرة صوته، يبدو أن سكوتها لم يعجبه.
شدّت اللحاف حتى ذقنها، تقدم هو الآخر ليسلم على خالها، ألسنا في مستشفى!!
كان يتقدم وهو ينظر لها لكأنهُ يتوعدها، اقترب أكثر فمسّ حافة السرير، انخلع قلبها....خافت أن ينقض عليها، يضربها، يخلع ذراعها من جديد، الظلال تسقط والعينان تتقدان، تكادان تفلتان من محجريهما، فزّ قلبها، صرخت:- كلااااااااااااااااااا، أبعدوه، خاااااالي...وغرقت في نوبة من الصراخ الهستيري، عيناهُ مخيفتان، وجههُ أسود، كريه كريه كريه..لا بد أنّ الجميع سمع صرختها، أتت الممرضات، لم تنتبه لأحد، كان همها ذلك الواقف أمامها....لاح لها "عمر" يمسكه من يده ويسحبه للخارج، والأخير يسب ويلعن.....لحق الخال بهما، لم تشعر إلا بوخز إبرة في ذراعها وصوت "ندى" يتلو آية "الكرسي" وأمها لا زالت تبكي!!!!





- اسمع يا هذا إن اقتربت من ابنة أختي ستندم..أقسمُ بذلك.نظر لهُ ببرود وبكل جرأة وقال:- ماذا ستفعل؟!هذه المرة تقدم منه "عمر":- سنوصل تقرير الطبيب إلى الشرطة، أتفهم، لقد كشف التقرير عن رضوض في الجسد وكسرٍ في اليد، ويكفي نظرة إلى وجهها ليعرف الجميع أنها كانت تُضرب، أو تعرف ما هي عقوبة ضرب قاصر؟!تغير وجه "حميد" وأطلّ الخوفُ من عينيه، قال بعد تردد:- ومن قال إني ضربتها؟!
- هي..- أنت تكذب، هي لا تجرؤ.
- بلى وجميعنا شهود. قالها بثقة ثم أضاف:- وبإتصالٍ واحد مني ستُلقى في السجن لتتعفن مع الحثالة التي تنتمي إليهم.عادت أوداجه لتنتفخ من جديد، صدره يعلو ويهبط والغضب يحتد بداخله، تنفس بعمق ثم زفر وهو يبتسم بإذلال:- والمطلوب؟!هنا تكلم الخال:- سآخذها معي إلى المنزل لترتاح نفسيتها قليلاً.قاطعه بسرعة: - ولكن أمها...- عمتي يمكنها أن تزورها في البيت متى شاءت..أهلاً وسهلاً بها..نظر إلى "عمر" بكل الحقد والكراهية، ابتسم مرةً أخرى ابتسامةً صفراء وهو يصد للأب:- إنها في بيت خالها..في أيدٍ أمينة..لو سمحت أخبر زوجتي بأن تأتي هنا، لقد تأخرنا...تركاه دون أن يردا عليه، تمتم "عمر":- يا لهُ من حيوان..
- بنت ال...... لن أجعلها ترتاح. ردد "حميد" في نفسه.



انتقلت إلى بيت خالها، رحب بها الجميع، شاطرت "ندى" غرفتها التي تُجاور غرفة أخيها، أما "أبو عمر" فقد كانت غرفته في الصالة، و الطابق العلوي قد أحتله ناصر وزوجته بإعتبار أنّ "وليد" مسافر ليدرس طب ولن يعود الآن.
إذن لم يتغير ترتيب الغرف حتى بعد مرور كل تلك السنين..
- كم أنا سعيدة، بل أكادُ أطير من الفرح، أخيراً وجدتُ من أحادثها في هذا المنزل..يا ربّ سأطير..ضحكت "غدير" من منظر "ندى"، بدت كطفلة وجدت دميتها الضائعة، كانت جميلة، بشرتها صافية بلون القمح، عينيها صغيرتين لكن فاتحتان كالشهد بعكس أخيها ذي العينين الخضراوين...من أين اكتسب هذا اللون!!!
كانت في الثانية والعشرين من عمرها، تكبرها ب4 أعوام ومع ذلك بدت وكأنها أصغر منها، أصغر بكثير، ليس وهي تتحدث وتفكر هكذا كالصغار...لم يطحنك الزمن بعد مثلي يا "ندى"، لم يطحنك بعد....أكملت وهي لا تزال تتحرك كطائر في الغرفة:- صحيح أنّ "شيماء" زوجة ناصر تعيش معنا، لكنها عروس، وأخجل أن أجلس معها..ماتت ضحكة غدير على شفتيها قبل أن تكتمل، لم تصل إلى القلب بعد...قالت لتغير الموضوع:- أين القِبلة، عليَّ أن أقضي صلوات اليومين الماضيين..ابتسمت "ندى" في وجهها وهي تُشير للقِبلة، أحضرت سجادة الصلاة ووشاح..دخلت "غدير" للحمام لتتوضأ، مسحت على جبيرتها وهي تفكر بتردد:أأسألها إذا كان عندهم "تربة".....غبية، بالطبع لا يوجد شئ من هذا القبيل في هذا المنزل، إنهم من المذهب السني مثل أمها، وإلا لما سمّوا ابنهم "عمر"!!!!نظرت غدير إليها بإرتباك:- أيمكن أن تعطيني منديلاً..
- بالطبع.أخرجت "ندى" من حقيبتها واحداً، ثنتهُ "غدير" وشرعت بالصلاة و هي تشعر بنظرات "ندى" الحائرة تخترقها، لكنها ما لبثت أن استغرقت في صلاتها، فعليها الكثير لتقضيه...
دلفت "ندى" إلى حجرة أخيها، كانت لاتزال مصدومة، فتح لها الباب، دخلت على الفور، نظر بإستغراب لمرآها:- ماذا بكِ؟ ماذا تُريدين؟!
- أتُصدق أنّ ابنة عمتي شيعية!!سكت برهة وهو عاقدٌ حاجبيه حتى تلاصقا، لانت ملامحه ثمّ عاد ليكمل ربط حذائه:- وإذن؟!!تطلعت إليه وهي لم تستوعب بعد:- أقول لك أنها شيعية.. ألا يعني لك هذا شئ..أمها سنية من مذهبنا، كيف هي مختلفة؟!!قاطعها وهو يتنهد، كأنهُ ضاق من كثرة الكلام:- والدي أخبرني أنّ والدها كان بحرانياً من المذهب الشيعي لذلك رفضوا زواجها منه في البداية، ويبدو أنها بقيت على مذهبه...أكمل ربط حذائه واستعدَّ للإنصراف، نادته، التفت لها وهو يتأفف:- ماذا أفعل الآن؟!
- تفعلين بماذا؟!!هزت كتفيها وكأنها لا تعرف عمّا تريد أن تسأل.ضمّ ذراعيه إلى صدره وهو يبتسم بسخرية:- يا أختي العزيزة، إنها من مذهب آخر ولكنها مسلمة مثلك، يوجد بيننا وبينهم نقاط اختلاف لكنها لا تضر....تركها، هزت رأسها وهي تتمتم:- ولم أنا قلقة هكذا؟! إنها تبدو طيبة..طيبة جداً، يكفي ما لاقته!!!



أكان من الحكمة أن آتي إلى هنا، أحتمي بجدران هذا المنزل، إلى متى سأهرب منه، سيأتي اليوم الذي أعود فيه إلى هناك، وسينتظرني هذا أمرٌ لا شك فيه.....
شهرٌ كامل مدة بقائي هنا وهي مدة تكفي لأن تزيدهُ سُعاراً، ولكن لمَ أُوجع رأسي، دع الخلق للخالق، لا أدري ربما تحدث أشياء!!
كأن يموت مثلاً!!! دعوني استمتع بالبقاء هنا، إنها نعمة ما بعدها نعمة...جلست على السرير وهي تفكر بأغراضها، ملابسها، وخصوصاً دفترها الأسود، كيف تجلبهم إلى هنا...سمعت دقاً على الباب، اعتدلت في جلستها، كانت "ندى" وكانت تبتسم...ما أجمل ابتسامتها....- لقد وضعوا الغذاء، هيّا..جميعنا بإنتظارك.
- لستُ جائعة.قطبت حاجبيها:- كيف!! الطبيب أوصى بأن تتناولي الوجبات الثلاث بإنتظام.- أيمكن أن أتناول طعامي هنا؟ حقيقةً أنا أخجل من الظهور أمام أخوتك بذراعٍ مُجبّرة.- كلا، والدي أوصاني بأن أسحبكِ معي إلى غرفة الطعام، ثم أخوتي هم أبناء خالك أي بمثابة أخوتك، ليسوا بغرباء..."ما الغريب إلا أنا"..لم تملك أن ترفض، في بيتهم وترفض، هذه قلة ذوق!!!- طيب، ساعديني في إرتداء وشاح الصلاة.دلفتا، كان الجميع متجمع على الطاولة، ألقت السلام عليهم وهي مخفضةً رأسها، لازال الحياء يعقلُ لسانها..
أشارت لها "ندى" لتجلس بجانب والدها، ربما لتؤكد قرابتها منهم، أو لتحسسها بالأمان...بالأمان؟!!نظرت إليه "غدير" كان يتحدث إليهم وهو يضحك، جميعهم يضحكون...اللهم احفظ لهم سعادتهم...لم تشاركهم في الحديث إلا قليلاً، لم تعتد على هذا الجو بعد، اكتفت بتناول بضع لقيمات وهي تعبث بملعقتها بيدها اليسرى، خاصة أنّ "عمر" كان جالساً قُبالتها وكانت عيناها تسقطان عليه سهواً!!!- خالي. نادتهُ بصوتٍ أقرب للهمس.
- نعم يا عيوون خالك.أحمرَّ وجهها، تلعثمت وهي تكمل، فهي لم تعتد على هذا الإطراء والتدليل.- أريدُ أن أجلب بعض حاجياتي من المنزل.- لا بأس، في الغد، في مثل هذا الوقت يناسبني، ما رأيك؟!- كلا "قاطعتهُ فوراً" أقصد لا أستطيع أن أذهب في مثل هذا الوقت لأن..لأن...."لأنه يكون متواجداً في المنزل، لا أريد أن أراه..".- يمكنني أن آخذها في الصباح.كان "عمر" من تكلم، صوبت نظرها تجاهه، أومئ رأسه لها بخفة لكأنهُ فهمها، علم بمخاوفها...
لكن الأدوار ستتغير، أجل لن تلبث إلا أن تتغير!!!!أليس كذلك؟!انتشلها خالها من خواطرها:- وعملك؟
- سأستأذن من المدير، لن يمانع.أكمل الخال تناول طعامه وكأنه أعلن موافقته، أما هي فلم تعلم بما شعرت...فرح، خوف، غموض، يلزمني وقت لأحلل خواطري المجنونة..رددت في نفسها.



جلست هي و"ندى" و "شيماء" يثرثرن في أمورٍ شتى، مضى الوقتُ سريعاً، لا أدري لم ساعات السعادة تبدو دوماً قصيرة لا تكاد تحسُ بها!!تناول الجميع العشاء، لم يكن "عمر" موجوداً....ذهبت غدير وندى لغرفتهما المشتركة، تحدثتا قليلاً وسرعان ما غطت "ندى" في النوم، إذ تنامُ مبكراً استعداداً للذهاب إلى الجامعة، فصل صيفي، فلم يتبق عليها إلا القليل وتتخرج.
سمعت "غدير" باب الغرفة المجاور يُغلق، لا بد أنهُ أتى...فكرت.تقلبت على وسادتها ربما للمرة الخمسين، لم تعتد عليها بعد، بل لم تعتد على المكان برمته، يدها اليمنى تعوقها عن التقلب بحرية على الفراش...
أينما تتلفت تحاصرها القيود، تطوقها وتكبّل حريتها....تطلعت للساعة، كانت الثانية عشر بعد منتصف الليل.- سأذهب لأشاهد التلفاز!!لكنها ترددت:- أألبس وشاح الصلاة؟ من الصعب أن ألفه على جسدي بيدٍ واحدة، ثم من سيخرج في هذا الوقت، الكل نائم والسكون مخيم على المكان..
سحبت خمارها، وأغلقت الباب خلفها بخفوت، توجهت للصالة، قلبت في القنوات، ضغطت على قناة space toon، شاهدت رسوم الكارتون توم & جيري...كم أحبها!!!أندمجت وهي تضحك، يغيظها توم دائماً ينتصر على القط المسكين..
- ألم تنامي بعد؟!التفتت إلى مصدر الصوت، كان هناك واقفاً بفانيلة بيضاء وإزار، وهي جالسة بخمارها وبجامتها فقط!!!تمتمت بكلمات غير مفهومة، لم تعرف بم ترد، ركزت بصرها على شاشة التلفاز و وجهها يحترق، بدا توم و جيري ضبابيين!!
- في أي صفٍ أنتِ؟ أتاها صوته قوياً ورخيماً خرق سكون الليل.
"يا إلهي، لماذا لا زلت واقفاً، أرجوك اذهب، أريد أن أعود لغرفتي..".- لقد أنهيت المدرسة هذا العام.
- ألن تذهبي للجامعة؟- لا أدري.
- ربما نسبتك لا تسمح لكِ بذلك.التفتت له بكبرياء وأنفة:- تخرجتُ بنسبة 92.9 % . قالتها بإنفعال.رفع حاجبيه مستغرباً ردة فعلها الهجومية، سكت برهة يتأملها ثم أردف:- إذن....
- أعتقد أن هذا أمرٌ يخصني.- لم تتكلمين هكذا من طرف أنفك. قالها ببرود.
- لم أطلب منك أن تكلمني.حاولت أن تنهض، لكنها تذكرت أنها تلبس خماراً فقط لا يكاد يستر.فهم حركتها المبتورة لكنهُ لم يتحرك، تنهدت بتأفف:- لا إله إلا الله..
- سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله.- سيدنا محمد صلى الله عليه وآله "وهنا ضغطت على مخارج حروفها" وسلم رسول الله.
ابتسم بتهكم وهو يقطب حاجبيه العريضين، يتلاصقان سريعاً عند المنتصف، غاظتها ابتسامته، ردت بحدة:- إمامكم الشافعي يقول:يا آل بيت رسول الله حبكم فرضٌ من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الفخرِ أنهُ من لم يصلِ عليكم لا صلاة له...كشّر في وجهها:- أنا لستُ شافعياً.- لا يهمني ما تكونُ عليه.- أتعرفين أنتِ وقحة. قالها بشراسة.- وأنت قليلُ الأدب.
ارتفع فكه قليلاً ثم أطبقه، كان يريد أن يتكلم أو يتحرك، لا تدري، خافت من منظره..."ما كان عليي أن أشتمه، لكنه هو من شتمني أولاً، لحظة أنا في بيته وليس في منزلنا وهذه نقطة تُحسب له..".كيف اختلفنا هكذا، كان في الصباح لطيفاً....لكنها الأدوار، ألم أقل لكم أنها لا تلبث أن تتغير؟!!!
- تستحقين الضرب فعلاً. قالها من بين أسنانه المطبقة من الغيظ.
حزت في نفسها كلماته، أخترقتها، وصلت إلى القلب فوراً، لم للكلمات أثرٌ مدوي في نفسك، تشطرك شطراً، يظل صداها ممتزجاً مع دمك، لا تنساها أبداً...تظاهرت بأنها لم تسمع، أصبح لون الشاشة أزرق، توقف إرسال قناة "سبيس توون"، غيرت القناة لعلهُ يفهم الإشارة ويذهب...وذهب فعلاً، أما هي فانتظرت دقائق، انتشلت نفسها بصعوبة إلى الغرفة، بكت بصمت ونامت من شدة التعب...


............................................................ ............................................................

 
 

 

عرض البوم صور شذى وردة   رد مع اقتباس

قديم 06-03-07, 01:46 AM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو قمة


البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 12480
المشاركات: 3,036
الجنس أنثى
معدل التقييم: roudy عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 44

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
roudy غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : شذى وردة المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

اه جنان هالقصه
انا شفتها بمنتدى غير
لكن هدا لايمنع اعادة قرائتها
الله معك

 
 

 

عرض البوم صور roudy   رد مع اقتباس
قديم 06-03-07, 05:36 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:

البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 13281
المشاركات: 6,276
الجنس أنثى
معدل التقييم: بدارة عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
بدارة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : شذى وردة المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

القصة رووووووووووووعة
بليز ما تطولي علينا كتير
ومشكورة شذى وردة

 
 

 

عرض البوم صور بدارة   رد مع اقتباس
قديم 08-03-07, 02:05 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس ماسي

ه

البيانات
التسجيل: Jul 2006
العضوية: 7873
المشاركات: 2,789
الجنس أنثى
معدل التقييم: شذى وردة عضو على طريق الابداعشذى وردة عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 184

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
شذى وردة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : شذى وردة المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

أعتر منكم أعزائي لعدم الأسراع في التنزيل والسبب الله يهدية الدي اس ال انفصل ومارجع لا اليوم

ولعيونكم بنزل كل الأجزاء .......

 
 

 

عرض البوم صور شذى وردة   رد مع اقتباس
قديم 08-03-07, 02:08 PM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس ماسي

ه

البيانات
التسجيل: Jul 2006
العضوية: 7873
المشاركات: 2,789
الجنس أنثى
معدل التقييم: شذى وردة عضو على طريق الابداعشذى وردة عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 184

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
شذى وردة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : شذى وردة المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

4)
استيقظت من النوم بصعوبة على هزات "ندى"...- هاا، ماذا تريدين؟
- انهضي أيتها الكسولة، "عمر" يستعجلك.قفزت مذعورة من اسمه، لا تريد أن تذكر ما حدث البارحة..- لماذا؟ضحكت "ندى" من منظرها ثم عادت للمرآة لتضبط حجابها:- أيُّ ذاكرةٍ تمتلكين!! ألم تتفقا على أن يوصلك إلى منزلك اليوم لتجلبي أغراضك.
"في الحقيقة أعتقدتُ بأنهُ سيلغي ما اتفقنا عليه بعد ما قلتهُ له البارحة".- حسناً، سأجهز بسرعة.
نهضت إلى الحمام بتثاقل، ففكرة العودة إلى المنزل مرةً أخرى تُثير فيها الرهبة والخوف، ومع من؟! معه!!
كانوا يتناولون الإفطار، الأب وندى وعمر، ألقت التحية عليهم، تجنبت النظر في وجه هذا الأخير، قضمت شطيرتها دون شهية، قرب خالها طبق البيض المقلي بجانبها فأبعدته وهي تشكره...رائحته تثير فيّ الغثيان في الصباح الباكر!!!نظرتُ إلى خالي بشعره الذي غزاه الشيب، لم يتغير كثيراً...بلى تغير، باتت ملامح وجهه أكثر ليناً وضعفاً، بعض الرجال حين يكبرون يصبحون شفافين جداً لدرجة الكسر، أقول البعض وليس الكل!!انطلقنا في سيارته، جلستُ في المقعد الخلفي، و "ندى" في الأمام بجانبه...- عمر اضغط على موجة "إمارات FM".
-
- أصبحنا وأصبح الملك لله، أرحمي أذناكِ، سنستمع للقرآن الكريم أفضل.صمتت "ندى" ومن يقدر أن يحتج؟!انسابت آيات الذكر الحكيم عذبة كعذوبة قطرات المطر، شفافة كإشراقة الشمس قُبيل الفجر....نظرت غدير إلى الطريق من خلال النافذة، تتأمل المارة وتنصت لسورة "يوسف"...لا أملُّ سماعها...
أوقف "عمر" سيارته عند صرح الجامعة بمنطقة "الصخير"، صرحٌ كبير، أتراني سأدخله يوماً...هل سيقبل "حميد" بذلك؟! لاأعتقد، هو بالكاد سمح لي بإكمال الثانوية، فما بالك بالجامعة ومصاريفها التي سيتحجج بها....همهُ الوحيد أن يحرمني من الأشياء التي أحبها..ترجلت "ندى" من السيارة وهي تلوّح لكلانا، لتنضم إلى هذا الصرح..- مع السلامة..
- مع السلامة. همست.عدتُ لأراقبها من خلال النافذة وهي تلتحق بمجموعة من الفتيات اللاتي يضممن كتبهن إلى صدورهن بشدة...
ليتني كنتُ معكم...لم نتحرك، نظرتُ إلى الأمام، التقت عيناي بعيناه في المرآة...هل قلتُ لكم أنها خضراء بلون الزبرجد؟!!كانت المرة الأولى منذُ البارحة، رفعتُ حاجباي بتعجب أما هو فظل ينظر لي بثبات:- ماذا تنتظر؟! سألتهُ ببرود.
- اركبي في المقعد الأمامي.فتحتُ فمي وأنا مصدومة:- لماذا؟!
- لا أريد أن يظن الناس أني أعمل سائقاً..- وبماذا سيضرك هذا الظن، أتحسب نفسك عنتر بن شداد أو قيس بن الملوح.. قلتها بسخرية.- أنتِ لا مذهب لكِ.
- وهل مذهبك يقول أن تجلس فتاة أجنبية بجوارك؟!- مذهبي لا يقول هذا، بل أنا أقولُ هذا...- إذن أنت لا مذهب لك أيضاً..
- متساويان أليس كذلك؟! قالها بقسوة.- الثرى لا يتساوى مع الثريا أبداً...قلتُ هذا وأنا أشير بإبهامي الأيسر إلى صدري...زمّ شفتيه، وعيناه تتقدان شرراً، دار بجذعه تجاهي، أما أنا فالتفتُّ إلى النافذة بسرعة، أخفي عيني الخائفتين...- اشكري جنسك، لو لم تكوني أنثى لحطمتك...
كانت يدي اليسرى ترتجف، لساني ينزلق بي في مواقف سخيفة حقاً..وضعتها في حجري كي لا يلاحظ ارتجافها...صاح بقوة أجفلتني وجعلت قلبي يهوي بعيداً، بعيداً إلى أدنى بقعة....- ترجلي هيا إلى الأمام، وإلا قسماً لن أتحرك من هنا...
ثم عاد إلى موضعه، أما أنا فبقيتُ صامتة...
أوقف محرك السيارة ورغم أن الجو حار إلا أنه لم يفتح نافذتي!!!!
مرت 10 دقائق ربما ونحنُ على هذا الحال...
أخيراً فتحتُ الباب بصعوبة واستسلام، كان بودي أن أصفقه بقوة لكن يدي اليسرى لم تكن بجودة الأولى...ركبتُ بجانبه، شغل محرك السيارة ولم ينبس ببنت شفه، لم يعلق ويسخر مني، لديه أخلاق عالية هذا الأخ!!!المسافة التي تفصل بيننا صغيرة جداً، لا تتعدى الشبران....لم أرتح في جلستي، هو أيضاً يبدو غير مرتاح، يداهُ اليمنى تتحرك كثيراً!!!نظرتُ إلى النافذة لألهي نفسي، لم يسألني حتى عن الطريق إلى منزلي...أتراهُ يعرفه؟! ربما وصفهُ خالي له...أجل ربما!!!!

أودُّ لو أفتح باب سرك
لأستطيع فهم سرّ شركفأنت لا تضرُّ من يسعى إلى
أذاك يا راعي الندى وضُركلكل من سقاك كل شهدهِ
في كأسه تصبُّ كل مرك (الرائع مانع سعيد العتيبة)
===========
لم تنم "شيماء" البارحة جيداً، تقلبت في فراشها وهي تتذكر ما قالته لها أمها:- دعينا نذهب إلى الطبيب لنتأكد.- لقد أجريت اختبار الحمل في المنزل والنتيجة كانت لا شيء.- لقد مرّ على زواجكم ثلاثة أشهر وهو وقتٌ كافٍ، ابنة عمك "ليلى" حملت منذُ الشهر الأول.امتقع وجه "شيماء" وهي تردد بصوتٍ متباكٍ:- لم يمضِ على زواجنا الكثير يا أمي، إنها 3 أشهر فقط...أحياناً يحدث الحمل بعد مرور سنة على الزواج.شهقت الأم وهي تضرب بيدها على صدرها:- أجننتِ يا "شيووم"، ستنتظرين سنة كاملة؟!! أتريدين أن يتزوج "ناصر" بأخرى!!- أنا لم أقل هذا، أنا قلتُ لازال الوقتُ مبكراً على الحمل و كل شئ بيد الله..مطت الأم شفتيها المجعدتين وهي تتمتم:- ونعم بالله، ولكن اعلمي أن ما يربط الرجل بالمرأة هو الولد، هو من يقوي شوكتها ويصونُ بيتها...
تنهدت "شيماء" بحرقة، سالت الدموعُ بحرارة على وجنتيها، شدت اللحاف وهي تبكي:- لم تريدين أن تفسدي فرحتي يا أمي....
===========
- هذا هو بيتكم.- أجل.أوقف مكابح سيارته.....شيء يشدني إلى مقعدي، يمنعني من التحرك، قدماي ثقيلتان كأنهما خُدرتا....- إلى متى سأنتظر؟!!لم أرد عليه، جررتُ نفسي وهو يتفحصني وكأنني وكأنني....
لا شيء!!!
يا لقلبك الأسود، حدجتهُ بنظرة وتركتُ سيارته دون أن أغلق بابها حتى...
فلينفجر في مكانه..لايهم..
دخلتُ المنزل دون أن أدق الجرس، لم يدخل معي، الحمد لله...
في الحقيقة خجلتُ أن يشاهد المكان الذي أعيشُ فيه..
البيتُ هادئ، لا توجد حركة إنسية في هذا المكان، التلفاز مغلق على غير العادة، أين ذهبوا؟!!
ولجت إلى المطبخ بخفة، كانت تمسك بالملعقة الكبيرة وتديرُ ما بالوعاء...رائحة الطهو لذيذة، مميزة، بيتية من الدرجة الأولى، تقفُ ساهمة، شاردة، يا تُرى فيمَ تفكر؟!!تنحنحتُ في بادئ الأمر كي لا تجفل:- احم، احم... السلامُ عليكم.التفتت نحوي وقد ألقت ما بيدها، مسحت يديها بثوبها بعجل، وهي تنظر لي بتلك النظرة التي تُثير الشفقة، أراهن بأنها ستسكب دموعاً جديدة الآن...لم يخب ظني، هرعت إلي تحتضنني، تمسك بيدي المجبرة وتبكي، تركتُ لها المجال لتعبر عن مشاعرها دون أن أتحرك أو أنبس ببنت شفه...
أخذت تتلمس قسمات وجهي غير مصدقةٍ وجودي، هالتني الهالات السوداء التي أحاطت بعينيها الغائرتين في أفول، لكني لم أعلق....
- كيف حالكِ يا ابنتي، هل أنتي مرتاحة هناك؟ هل يعاملونكِ جيداً، لقد اشتقتُ لكِ كثيراً، البيت لا طعم له من دونك..
"الآن، الآن يا أمي؟!"...- أنا بخير والحمد لله. قلتها بجمود، وأنا أنزع نفسي منها. ثم أردفت:- سآخذ بعض حاجياتي..سألتني بتلهف والحسرة ترتسم في عينيها الذاويتين:- أستذهبين؟ ألن تبقي هنا؟!!- وهل أصبتُ بالجنون لأفعل ذلك..تريدين منه أن يُجهز علي، لا ترتاحين إلا بعد أن يشبعني ضرباً، أليس كذلك؟!
شهقت وهي تضع يدها على فمي بسرعة مانعةً فمي من إطلاق سيل كلماتي الحاقدة:- سامحكِ الله يا ابنتي، أنا لا أتمنى لكِ إلا الخير، لكني..لكني ، لا حول لي ولا قوة.."لو حاولتِ ردعه يوماً لما استمرّ في تعذيبي"...
أبعدتُ يدها عن فمي، أدرتُ لها ظهري وأنا أقول بصوتٍ خافت:
- لقد تأخرت، سأجمع أغراضي.... وداعاً ياا أمــ......
دلفتُ دون أن أكمل، انتابتني غصة، أعلم أني قاسية في معاملتي لها، لكنها هي السبب، هي السبب في كل شئ....
هي السبب وكفى، ثم قلبي لم يعد به مجالاً لأن يحب، الحقد ملأه، أعماه وأدماه، صيرهُ شوكاً يجرح فقط، لأنهُ لم يعرف في حياته إلا الجرح...
انطلقت "غدير" إلى غرفتها والغصة تخنقها، تلسع صدرها، فتحت غرفتها، وتوقفت فجأة....لقد رتبتها، وضعت كل شئ في مكانه كالسابق...تنفست بعمق...ولكن هل سيبقى شئ كالسابق؟!!
جثت على الأرض، رفعت حافة سجادتها الحمراء وأخرجت مفتاحاً صغيراً، توجهت لخزانة ملابسها، فتحت درجها السري أولاً، مدت يدها لتتناول دفترها...ذاك الذي رافقها طوال سنين عمرها الثامنة عشر، في كل ورقة وكل سطر جزء من حياتها...جزء من سرها، جزءٌ منها، هي وهو سيان، إن فُتح هو اختفت هي!!ضمتهُ إلى صدرها بيدها اليسرى بقوة بأصابع مرتجفة، أغمضت عينيها والصور تتلاحق، تومض وتنطفئ كبروق سماوية...حين تولد النجوم وتموت....ويغيبُ القمر....لا يبقى إلا السراب، والحقيقة أين محلها؟!!إنها لا تعرف ولا تدري أفي يومٍ ما ستعرف!!!!
ضغطت بأظافرها على جلده الأسود لعلها توقف الاهتزاز الذي يعتريها كلما أمسكته..قلبها يغوص، يتماوج مع الرمال المتحركة، ها هو يوشك على أن يُدفن، نتوءٌ يطفو، يعلو وينخفض، تعبث به الرياح، تقلبهُ كيفما تشاء رغماً عنها....- ماذا تفعلين؟!قفزت من مكانها مذعورة، التفتت لصاحب الصوت المستنكر، الواقف بجانب الباب بغطرسة...ذكرت الرحمن في سرها لعلها تهدأ الإنقلاب في نبضاتها...قالت بعد دقيقتن، بعد أن تمالكت نفسها..- أنت، لقد أجفلتني، ألا تعرف أن تتحدث بصوتٍ هادئ كباقي البشر..
رمقها بإبتسامة هازئة بات لا يفتأ أن يصوبها تجاهها....- عذراً إن قطعتُ عليكِ أحلامك الوردية...نظرت إليه بشزر ثم قالت:- من سمح لك أن تدخل غرفتي؟!- أهذا كل ما تعرفينه من آداب الضيافة؟"ربما كان يقصد أنني لم أدعوه لدخول منزل عمته!!"...عادت لتخرج باقي حاجياتها من درجها دون أن تهتم لمغزى كلماته:- أريد فقط أن أرتب ملابسي، لو سمحت.- أمكِ تبكي.
- أعرف.- أقول لكِ تبكي، وتقولين أعرف!!
- ماذا تريد مني أن أفعل؟! قالت ببرود.تطلع إليها بإستنكار، لكنهُ ردّ بهدوء:- المرء لا يجد لديه بين الفين والأخرى أماً، انتبهي فلا يحس الإنسان بقيمة الشئ إلا بعد أن يفقده.
تركت ما بيدها فجأة لكأنها تفجأت ما قاله، في عينيه بريقٌ حزين سرعان ما أخفاه، وغلّف تعابيره بقناعٍ جامد:- إذا انتهيتِ من جمع ما يلزم، ناديني لأحمل الحقائب ولكن بسرعة، ليس لدي وقتٌ لأضيعهُ أكثر.
وانصرف تاركاً إياها في حالة فوضى...فوضى مشاعر...عادت لتضم دفترها إلى صدرها، أبحرت بها الخيالات بعيداً، بعيداً...تنهدت ثم أكملت جمع أغراضها...لم تأخذ معها الكثير، فقط ما يكفي لمدة شهرٍ واحد!!!
تناول منها حقيبتها الصغيرة، كان حينها واقفاً مع أمها، التفتت لها الأخيرة، وقد بانت الهالات أكثر سواداً والعينان أكثر ضيقاً....تهدج صوتها وهي تقترب منها لتصافحها:- انتبهي لنفسك..الصوت يختنق بحنجرتها، يجاهد ليلامس الهواء وينطلق...كعصفورٍ كسيرٍ هو، ها هو يبزغ بخفوت، بصوتٍ أقرب للهمس:- مع السلامة.كان ينظر لها، يشير إليها بشئ، لكنها لم تفهم...لكن الأم فهمت ما يعنيه، بادرت هي بعناقها، وغدير تشعر بالضياع، بالفوضى...لملمت نفسها بصعوبة...وفي الحياة دوماً....لقاء ووداع....ويخسر فقط من يفقد الأمل!!!!


- قلتُ لك يا "ناصر" لا تقف أمام هذه النافذة.ابتسم في وجهها وهو يهمس:- تخافين علي؟!تورد وجهها، لكنها سرعان ما قطبت جبينها بعبوس وهي تردف:- هذة النافذة خطيرة، انظر ليس بها قضبان، الحمد لله لا يوجد في هذا المنزل أطفال..- لكن قريباً سيفدون مثنى وثلاث ورباع...قالها وهو يفرد أصابعه للعد، ثم أردف متسائلاً بابتسامة:- أم نكتفي باثنين، أعتقد أن هذا الزمن تصعب فيه تربية أطفال كثيرون

- لكن لو كانوا يشبهونك فلا مانع أن يكونوا 10، حتى إن رأيتُ أحداً منهم في الشارع تذكرتك...أخذ ناصر يضحك بأريحية و "شيماء" تحاول أن تخفي امتقاع وجهها، وصوت أمها يتردد صداه في أذنيها:أتريدين أن يتزوج أخرى...لا يربط الرجل بالمرأة إلا الولد...إلا الولد...
هي تحبه، بل تعشق ذرات الهواء التي يتنسمها...صحيح أن زواجهم تم بطريقة تقليدية، ولكن من قال أن الحب قبل الزواج هو الأساس، بل كثيراً ما يولّد الزواج حباً أقوى وأسمى من الحب الذي يتفوه به أخونا روميو وأختنا جولييت!!!
نظرت إلى زوجها بكثير من الحب، وإن شابته حسرة وألم، صحيح أنهُ لا يذكر الأطفال إلا مازحاً، ولم يحادثها قط بالموضوع بجدية أو بشكل مباشر، لكن توقه للأطفال يلوح دوماً في عينيه حين يرى أحداً منهم، فيردد لها هامساً بود:
- سننجب طفلاً مثله، لا بل أحلى منه، أريده مثلك..
- وإن كانت طفلة؟!- سيكون هذا أروع، سأسميها شيماء2 ، واحدة في قلبي والأخرى في سويداءه...عضت على شفتيها بقسوة حتى كادت تدميها لعلها توقف هذه الانفعالات المحتدة بجنون داخل أعماقها...
"لماذا يا أمي، لماذا؟..."أخذت نفساً، ثم مست كتفه ليلتفت لها:- ناصر، فلنبتعد عن هذه النافذة...التفت لها بحنو، أمسك يديها حين فاجئتهم دمدمة "ندى"...
- أنا منحوسة، أعرف ذلك، مكتوب على جبيني "ندى" المنحوسة..أطلت عليهم بوجهها المنتفخ من الغيظ، ألقت الكتب التي بيدها وهما يرمقانها بتعجب.- ماذا بك؟! ماذا حدث؟ سألتها ندى.
- لم يجدوا غيري لأتدرب في شركته.- عمن تتكلمين؟- ما من أحد يتدرب معه إلا و أعاد فصل التدريب مرة أخرى..
- من هذا؟ سألها ناصر هذه المرة.تطلعت إليهما بنفاذ صبر، زمت يديها معاً عدة مرات ثم تركتهما وعلامات الاستفهام على وجهيهما وانصرفت...فتحت باب غرفتها بقوة، كانت "غدير" مستلقية على الفراش وبيدها دفترها تنظر إليه بشرود...
- أرأيتِ أين سيلقوني؟!التفتت إليها "غدير"، وقد علق بأهدابها شئٌ من الندى، مسحته بسرعة قبل أن ينتثر...- ماذا هناك، لم تصرخين؟! حاولت أن تسأل بصوتٍ طبيعي.خلعت "ندى" خمارها وهي تجلس على السرير الآخر.- سأتدرب..
- وماذا في ذلك؟
- سأتدرب في شركة ".......".رفعت غدير كتفيها وكأنها لم تفهم بعد.- كثير من صديقاتي تدربن هناك، من تحمّلن منهن للنهاية أعدن الفصل من جديد، أما الأغلبية فتركوا العمل هناك...- ولم كل هذا؟- من مديرها، يقولون أنهُ قاسٍ في عمله و مصابٌ بمسٍ في عقله..رفعت غدير حاجبيها بإستنكار، ثم ما لبثت أن ابتسمت:- مدير ومجنون ولديه شركة؟!! كيف هذا....
- هذا ما يقولونه..- لا عليكِ منهن، إنها إشاعات...
- أقولُ لكِ صديقاتي أكدن لي ذلك..- حتى وإن كان كذلك، اعتبريها مغامرة أن تتعاملي مع هذه الفئة...
- تضحكين علي..ووقفت وهي تكادُ تنفجر....- على العموم أنا سأرى الوضع هناك ليومِ واحد، وإن كان مثل ما قالوا سأنسحب من هذا الفصل..- لن تتخرجي إذن، اسمحي لي أنتِ المجنونة إن فعلتِ ذلك...
سكتت "ندى" وقد أعتلتها حيرة وخوف....
.
.
.القادم يزحف ببطء....في يديه زهرة وكومة حشائش....ونقطة في السماء تضيُ من بعيد...تمنح للسائلين أماني....فهل تتحقق؟!!

(5)
عيناك للبعيدِ تنظران
لذا فأنت لم ولن ترانيأنا القريبُ منك تلك محنتي
ومحنتي أساسها أمرانفأولاً أرى خطايا سيدي
وثانياً أمنحها غفراني(العتيبة)

واقفة هي وخمارها يتطاير، تواجه الريح وتحدق في ذلك القرص كعادتها، لعلها تنجح مرة واحدة وتطول فترة تحديقها!! ولم لا؟! سرت في جسدها رعدة بفعل نسيم الهواء، التفتت لندى التي كانت تقفز، ضحكت في سرها من منظرها، أحياناً تخالها فتاة خارج هذا الزمن....- انظري يا "غدير"، شهاب، شهاب...- هذا شهاب؟! خلتهُ دخان طائرة!! تساءلت بتعجب.- كلا، كلا أنا أعرفهُ، هيا تمني.. صاحت بإنفعال.- أتمنى ماذا؟!- تمني أي شئ، ولكن بسرعة قبل أن يختفي...
تطلعت حينها إلى ندى، كانت قد أغمضت عينيها و مسّت بأناملها شفتيها كأنها تهمهم بشئٍ ما..صدت "غدير" للشهاب، تتبّع خياله الذي يذوي بخفوت وتتلاشى ذراته كلما ابتعد..تتمنى أمنية؟!
أيُّ أمنية!! إنها لا تعرف أيها تختار، أن ترتاح من "حميد" أو تعود لمقاعد الدراسة من جديد، أو.....
الوقتُ ضيق والشهاب يأفل مودعاً، يمنحُ الناظرين أماني، منهم من لحق ومنهم لا بد أن يقطع تذكرة القطار الثانية، إنها مسألة وقت فقط...الوقت؟!!
عادت لتتطلع لصاحبتها، إنها تكاد تحزر ما تمنتهُ منذُ لحظات..أن ينقلوها إلى شركة أخرى، أو يقيلوا مديرها الذي لا تفتأ أن تذكر اسمه بكره...
تناهى إلى مسمعهما صوتٌ رجالي ينادي...- ندى، والدي يريدك أسفل...
استدارت هذه الأخيرة لأخيها، مطت شفتيها وهي تسأله:- لماذا؟!- اذهبي وانظري ما الأمر..هزت كتفيها بإستسلام، ثم خاطبت "غدير":- أستنزلين معي؟هزت هذه الأخيرة رأسها نفياً، وبقيت تتابع ذلك الخيط الأبيض الرفيع.....
أين سيصل؟!!
تقدم بمحاذاتها، قطع وجوده حالة السكينة التي كانت تعيشها منذُ لحظات...
ما تراه الآن يبدو هلامياً، سراباً!!!
نظر إلى حيثُ تتطلع، وقال بصوتٍ ساهم:- أتؤمنين مثلها بهذه الترهات؟!لم تجب فوراً، بقيت صامتة ثم قالت بهدوء:- أن تؤمن بشيءٍ ما ليس بترهات..- أنتن الفتياتِ هكذا دوماً رؤوسكن فارغة.- قد أقولُ الشئ نفسه عنكم..
التفت إليها فاشتبكت بتلك العينين الخضراوين، في عينيه بريق وفي عينيها تحدي أشم..بقيا هكذا لبضع دقائق، لكن سرعان ما أشاحت "غدير" وجهها بإرتباك وقد علا وجنتيها حمرةً خفيفة...
ابتسم مغيراً الموضوع:- كيف هي يدك الآن؟!تطلعت إلى ذراعها الذي فُكت جبيرتها منذُ يومين...- بخير..- غداً تكملين شهراً هنا..- وغداً أذهب هناك.. قالتها بهمس.- أخائفة أنتِ؟ سألها بحنان.هربت من عينيه وهي تطأطأ رأسها للأرض...خائفة؟!!!إنها تكادُ تموتُ رعباً، لياليها الأخيرة كانت كابوساً، صورته المخيفة سلبت عينيها الكرى، وبات الليلُ طويلاً طويلاً، و أينما قلبت رأسها على وسادتها الخالية ، لاح لها طيفه مهدداً...
يا رب لطفك، لطفك فقط....النسيم يهوي يرتع بحرية مع تقلبات الجو، ولم يتبقى من الشهاب شئ، ها هو نقطة صغيرة تجثو بهدوء، وتتماهى مع السحاب...
لم تشعر إلا بوقع أصابعٍ ثقيلة تمسكُ يدها، تطلعت إلى كفها المرتجف الذي احتواهُ بين كفه الكبير...بدت ذاهلة وهي تنقل بصرها بين يده و سحنته التي كانت هادئة...سكنت هي لبرهة وإن كان الذهول لازال عالقاً بمحياها الذي شحب فجأة....وما أن ضغط على يدها مهدئاً حتى انتبهت لنفسها، وعادت تنظر إلى يده...وكأنها فاقت من ذهولها، فنزعت يدها من يده بحدة وتراجعت إلى الوراء وهي تحدجهُ بنظرةٍ ما...
قالت بصوت بعيد، تعدى حنجرتها ومرّ خاطفاً على أوتار أحبالها الصوتية، ولكن هذا الخطف كان كافياً ليهزه، ليبعثره، ليجعل هذه الخيوط متشابكة فتتكوم بشكلِ عقدة....
أيمكن الفكاك منها؟!!
صدى الصوت يتردد، رغم بعده، رغم لحنه المتكسر، رغم تشابك أوتاره!!!
- تظنني سهلة، تستطيعُ خداعي..رفع حاجبيه متسائلاً ثم أجاب بجفاف:- عقلك يقفز بكِ إلى البعيد جداً..- كلكم متساوون، كلكم...
قاطعها وهو يجيبها بخشونة ساخرة:- عزيزتي لا تتوهمي بنفسك الشئ الكثير..نظرت إليه بحقد، وقد تداعت النظرة الخجولة التي كست عينيها منذُ قليل...- أتعلم، أنا أكرهك أكرهك، أكرهكم جميعاً..
تطلع إليها من رأسها إلى أخمص قدميها وكأنه يحدج ذبابة، ثم قال ببرود:
- أنتِ لا تستحقين الشفقة أبداً..- لم أطلب شفقتك.. صرخت بوجهه بغضب.- انتظري.. صاح وهو يقف أمامها معترضاً.- ابتعد عن وجهي. - خاطبيني باحترام، لا تنسي أنتِ ضيفة في بيتي. وأشار بأصبعه إلى الأرض مهدداً.- حسناً، سأترك لك بيتك، ليس غداً بل اليوم والآن..- أيُّ لسانٍ تملكين؟!- قلتُ لك ألف مرة، لا تحادثني...
- اسمعي، لم يولد بعد من يملي علي طريقة حديثي، وإن كنتُ متساهلاً معك في أشياء فهذا لأني لا أريد أن أضع عقلي بعقل طفلة لم تتعدى الثامنة عشر، معقدة وحمقاء....
- أتقيس العقل بالعمر؟! أنا لستُ بطفلة أتفهم...أنت لم تعش مثلي، لم ترى ما رأيتهُ أنا، أنا لستُ بطفلة لأني لم أعش الطفولة حتى...لست من تكسر ألعابك، لست أنت من يقول لك أخوك الصغير: أنت حشرة أنت لا شئ.. لست أنت من يضرب في اليوم عشرات المرات، لست أنت عندما حرقت ثــ....
وتوقفت عن الحديث فجأة وكأنها انتبهت لسيل كلماتها، وضعت أناملها المرتجفة على شفتيها، وعيناها تزدادُ اتساعاً، والرعب يغطي القسمات، يسري في حنايا الوجه كالتيار...الصور تتزاحم، تومض وتنطفئ، وذيل الشريط قد بدأ يتزحلق، يفلت من رباطه الذي ربط فيه يوماً ما بإحكام..اقترب منها وهو يسألها متلهفاً:- أنتِ ماذا؟! اكملي...هزت رأسها نفياً وهي تبتعد للوراء ببطء..- لا، لا، لم يحدث شئ، لم يحدث شئ، صح؟!!كررتها بذهول وهي تضم يديها لصدرها لعلها توقف خفقانها المجنون...
- غدير، ماذا بكِ؟! سألها بقلق.عادت لتهز رأسها من جديد وقد بدأت الدموع تطفو في عينيها السوداوين...- أريد أن أعود..أعود لغرفتي..أرجوك.
تأملها للحظات وهي تطأطأ رأسها محاولةً أن تخفي الندى...الريح، لازالت تعبث، تجولُ المكان بخفة، ولم يبقى من الشهاب إلا ذرة، حاملةً آخر الأماني...
ابتعد عن الباب الذي كان حاجباً إياه بقامته الطويلة...مرت بسرعة بجانبه، وأخذت تعدو من على السلم...راقبها إلى أن اختفى طيفها تماماً...
تنهد "عمر" وعاد يتصفح وجه السماء، كتف ذراعيه وبقى هكذا زمناً مفكراً....
ثم انصرف............الحزنُ لا يزالُ لي مُعلّماً
تسمعهُ أذناي إن تكلمتراهُ في سود الليالي أذني
إن ضحك الحبيبُ أو تألمالحزنُ أعطاني حبيبي أحرفي
وأحرفي كانت إليك سلم


(6)
حنت "ندى" جذعها، وإحدى يديها مرتكزة على طاولة العمل..- أين هذه الفردة اللعينة؟!
مالت أكثر وهي تتلمس الأرضية بيديها كلما أمكن، اصطادت يدها شيئاً، كانت إحداها...سمعت دقاً مزعجاً على طاولتها، فأخذت تتأفف بين انهماكها:- لو سمحتِ ....- لحظة، لحظة، لن أهرب من هنا، سأرى أين ذهبت فردتي أولاً!!
وفجأة أطلقت تنهيدة ارتياح طويلة وهي ترفع رأسها وعلى وجهها ابتسامة كبيرة، ويدها اليمنى حاملةً كعبها العالي بظفر..- أخيـــ ....و وأدت جملتها قبل أن تكتمل، غابت الابتسامة من على الشفتين، تطلعت إلى حذائها ذو الكعب العالي المرفوع وإلى الواقف أمامها عاقداً حاجبيه بإستهجان...
ألقت ما بيدها بخوف وهي تقف بسرعة، تلعثمت:- أ..أعتذر، لم أكن أعلم أنه..أنهُ أنت أستاذ.
وضع كفيه على طاولتها وهو يحدجها بغضب:- أهكذا تعاملون من يفد إليكم لحاجة؟!! تستصغرون خلق الله، وحين يأتي المدير ينقلب وجهكم ولسانكم وكأن على رؤوسكم الطير، أليس كذلك يا آنسة..
صمتت "ندى" وهي تسبُ نفسها ونعالها وذاك الواقف أمامها يزأر كوحش.
- ماذا بك؟! لم لا تردين، أتخالينني لا أعلم ما يدور في هذه الغرفة، أو بما تقولينه أنتِ وزميلاتك الموظفات عني..- أنا أنا..- أصمتي..
أطرقت "ندى" للأرض وهي تود لو أن الأرض تُشق فجأة وتبلعها، لا بد أنها "جميلة"، أجل و من غيرها تلك الجاسوسة الفتانة، انتظري علي و سأُريكِ؟!ضرب على طاولته فأجفلت وتبعثرت خواطرها المحمومة:- والآن خذي هذه الحسابات وراجعيها...وألقى الملف، تبعثرت بعض أوراقه على الطاولة، نظرت إليها بنقمة، وصوبت إليه نظرة تماثلها وفمها مقفل بشدة مانعةً إياه أن ينفتح وتنطلق كل أنواع الشتائم التي سمعتها في حياتها...
رفع حاجبيه وكأنهُ يقول بتحدٍ:- نعم؟!! ردي إن استطعتِ..
وتركها وبركان من الغضب يحتدُ بداخلها...جلست على كرسيها وهي تحاول أن ترتدي حذائها بلا شعور....
لكنها لم تجده، فعادت تبحث عنهُ من جديد!!!


جالسة هي في الصالة والتلفاز مفتوح، كانت ترى ولا ترى، تسمع ولا تسمع، وجهها شاحب وقد علتهُ صفرة...
ضمت الوسادة الصغيرة إلى حجرها، ثم قربتها إلى صدرها، ثم تركتها على الأريكة....
زفرت، وهي تضع يدها على جبينها، حرارة تشتعل بجسدها منذُ الأمس، وهمدان يلفها، يمنحها الخمول والتعب، كل شئ معطل إلا الخافقين، ينبض بجنون كطبول غجرية حارماً إياها من الراحة أو التنفس بحرية...
ساعة الصفر أقتربت، وحتفها بات قريباً ومؤكداً!!!
الانتظار متعب، مرهق للأعصاب، بل هو سفرٌ طويل هائم في تراتيل الزمن،،،
آلالامٌ قوية اجتاحت معدتها، قطعت أمعاءها، لا تدري كم مرة تقيأت هذا الصباح...
أغمضت عينيها بعجز فانحدرت دموعها سخية دون خجل، دون قيود، دون عيون متطفلة...
تركت لها العنان، لعلها ترتاح، تأخذ نفساً، فالساعات القادمة تبدو مخيفة، كئيبة...
آه، ما أصعب الانتظار!!!
ها هي تجلس هنا وكأنها على أهبة الاستعداد لتلاقيه، لتلاقي حتفها...
لا تريد أن تبدو أكثر ضعفاً، أكثر خوفاً، على الأقل ليس أمامهم، ليس أمامهُ هو خصوصاً!!!
وسمعت جرس الباب، لا بد أنهم قدموا، أمها اتصلت لخالها وقالوا سيأتون بعد قليل...
لم يحددوا الساعة بالضبط؟! يا له من بارع في تحطيم الأعصاب...
دق الجرس، وقريباً سيُفتح الباب وينخلع قلبها للأبد...
أحنت رأسها والدموع لا زالت تنزل بإستسلام، بضعف، جسدها لا تشعر به، فقط روحها التي تتعذّب، تتقلب بين شفا حفرة من الجحيم الأسود...
النبض بات خافتاً، ضعيفاً، والدماء في رأسها تضخ بقوة، بسرعة، تكادُ تسمعها، والعِرق، العِرق كأن أصابهُ مس، يضغط على بقاياها، يخنقها، يطوق رقبتها...لاح لها خالها وبجانبه "عمر"، لم تستطع أن تنظر لأياً منهما، دفنت وجهها في تلك الوسادة التي ألقتها منذُ قليل، وأجهشت بالبكاء بصوتٍ مرتفع...
شعرت بيدين على كتفيها، تربتان عليها، أتاها صوته مطمئناً أبوياً ذكرها بالغائب منذُ زمن، بيتمها الأول:
- لا تخافي يا ابنتي، ثقي برحمة الله...
لم ترفع رأسها لكنها قبضت على يده، ضغطت عليها بقوة دون أن تفلتها.- عمر، افتح الباب يا ابني..
اليدُ تزيد من ضغطها، والروحُ تفلت، تهيم على وجهها، تكادُ تلفظ آخر أنفاسها...
لطفك يا ربُّ لطفك...
الريحُ تحمل السلام والتحايا، والهودج، هودج الموت يفتح ذراعيه لها، يدعوها لتستقله وتلحق بالركاب...
ندّت من فمها صرخة ملتاعة بترتها فوراً...
اليد الآن ترتجف، خفت من قبضتها، ترى أين وصلت الروح الآن؟!!
هبت إليها والدتها تعانقها، لكنها لا تقبل، لا زالت تعانق وسادتها، ترفض أن تراه...
الصمت خيم حول المكان ما خلا الشجن الذي ينبعث من ذلك الرأس...
- أكلُّ هذا البكاء شوقاً لوالدتك؟! ما كان عليكِ إذن أن تفاريقها منذُ البداية.. ردد "حميد" ساخراً.
حدجه "عمر" بنظرة غاضبة، لكن ذلك لم يمنعه من يبتسم ابتسامتهُ الصفراء القبيحة:- هيا لا بد أن نذهب الآن، فلنترك هذه المشاعر الجياشة بعد العودة للمنزل.- انتظر "غدير" لن تذهب إلى أي مكان. - ماذا تعني؟!- أعني أنها ستبقى هنا..- هه، وبأي حقٍ تبقيها هنا؟!- هذا بيتُ خالها..- وذاك منزل والدتها.. ألا تخافون ربكم، تريدون أن تحرموا هذه اليتيمة من أمها..لا حول ولا قوة إلا بالله...- وهي ترفض الذهاب إليه ما دمت أيها الحقير موجوداً هناك..عادت أوداجه لتنتفخ من جديد، وقد انمحى القناع المتزلف الذي كان يرتديه:- مالحقيرُ إلا أنت..
تقدم منهُ "عمر" لكن الأب أوقفه:- عمر، توقف، لا تنسى أنهُ ضيفٌ في بيتي، وزوج عمتك أولاً وأخيراً.
ثم التفت إلى هذا الأخير وهو يخاطبه:- لكن هذا لا يمنع أن ما يقولهُ ابني هو الذي سيحدث بالفعل...- يبدو أنك جننت أنت وابنك..- احترم نفسك أيها الدنيء.- اسمع، بل اسمعا كلاكما، ستأتي رغماً عنها وعن أنفيكما، وإن لم تدَعوها تأتي بهدوء معنا، فسنضطر أن نأخذها بالقوة، وتحملوا أنتم الشرطة والفضائح..
- بل اسمعني أنت، غدير لن تخرج من هنا، وافعل ما تريد، وبابُ بيتنا مفتوحٌ دوماً للشرطة وغيرها، لذا تهديدك هذا أكتبهُ في ورقة وألقه في ماء البحر...هيا تفضل، أخرج من هنا.
والتفت لأخته:- اعذريني يا أختي، أنتِ محشومة عن كل ما يحدث..سكتت الأم ولم تحر جواباً، وبقيت تتطلع لابنتها التي لا تفتأ أن تشهق بين الفينة والأخرى دون أن تفلت زمام وسادتها..
- هيا، هيا فلنخرج من هنا، بأس العائلة التي ناسبتها، ولكنكم لن تفرحوا كثيراً، بيننا وبينكم المحاكم، وسنرى كلام من الذي سيُلقى في البحر..
و دفع زوجته وهو يسب ويلعن، التقت بهم "ندى" في الطريق....ابتسمت لعمتها:- عمتي هنا؟! مرحباً كيف...- لا بارك اللهُ فيك ولا في والدك ولا في عمتك..سيري بسرعة أنتِ الأخرى، هيا...
تطلعت "ندى" إليه دهشة وقد عقد لسانها، وما أن ولجت بالداخل ورأت "غدير" بهذه الحالة، حتى هرولت إليها مسرعة وهي تتساءل:
- ماذا حدث؟! بالله عليكم أخبروني..التفت الأب لابنه دون أن يجيبها:- عمر، تعال معي المكتب..
وانطلق الرجلان معاً...- غدير....
أحاطتها بذراعيها، كان جسدها يرتجف، يدها متشنجتان، كلما حاولت أن تبعدها عن الوسادة المتشبثة بها، كانت تلهث والأصابع تنثني وتعود لتقبض عليها من جديد...
أخذت "ندى" تقرأ عليها ما تيسر من آية "الكرسي" والمعوذتين، حتى هدأت أنفاسها المتقطعة شيئاً فشيئاً....تراخت اليدين...- هيا، ارفعي رأسك..
الجسد يرتفع، ينوء بحمله، بدت عيناها صغيرتان حمراوان، أمسكتها "ندى" لتستند على الأريكة، لكن صوت الأب المنادي قطع عليها ذلك.- غدير يا ابنتي، تعالي هنا ، أريدك قليلاً..- أتستطيعين النهوض؟ سألتها ندى.
هزت "غدير" رأسها بإيجاب وهي تنهض بتعب، ساعدتها "ندى"، لكنها عادت لتأخذ الوسادة من جديد...
لا تدري، حسستها بالأمان!!!
- ادخلي يا ابنتي..دخلت "غدير" تسبقها "ندى".- أنا قلتُ غدير فقط وليس أنتِ.ابتسمت "ندى" ببلاهة لأبيها وهي ترد:- ربما تحتاجون لشيء.
صدّ الأب لغدير، كانت مطأطأةً رأسها وهي تمسح عينيها اللتان لا تتوقفان عن الذرف.
- ارفعي رأسكِ يا ابنتي، ما دمتِ معنا فأنتِ بأمان...
رفعت رأسها ببطء فاشتبكت بتلك العينين الخضراوين...
كان مكتفاً ذراعيه وقد استند على طاولة المكتب....
لكنهُ سرعان ما أشاح بوجهه لكأنهُ يتهرب من نظراتها!!!!
نقل الأب بصره بين الاثنين، تقدم منها فالتفتت إليه:- اسمعي يا ابنتي بعد الذي حدث اليوم لا بد أن نجد حلاً.
ردت عليه بتقطع وشهقاتها تخنقها:- كيف؟! سيأخذني معه، لن يقبل بأن أبقى هنا.- بل سيقبل رغماً عنه إذا نفذتِ ما قلته أو بالأحرى نفذتما ما سأقوله الآن..
تطلعت لخالها بخوف وقد بدا الشك يدبُّ في أعماقها خصوصاً بعد نظرات ذاك الواقف ليس ببعيد.أخذ نفساً طويلاً ثم أردف بهدوء:- تتزوجان أنتِ وعمر، وبالتالي تخرجين من وصاية الكل إلا زوجك.
الأصابع لا ترحم الوسادة القطنية، والمفاجأة أكبر من أن تُحتمل، أمسكت بتلابيب صاحبتها لعلها توقف رجفتها، تمنع نفسها من أن تهوي، من السقوط!!!
الضخ، الضخ يعود بقوة وهناك في الحنجرة، حشرجة، الصوت يودُ لو يغادر الجسد...هزت رأسها نفياً وهي تردد بصوت مبحوح :
- لا لا... لا لا أريد أن أتزوج...سأعود... سأعود إلى هناك من جديد.
تطلع لها بدهشة متسائلاً:- لماذا يا ابنتي، في زواجك نجاتك!!- لا أريد لأن.. لأن...واشتبكت بتلك العينين من جديد، فيهما قسوة وغضبٌ مفاجئ انعكس على لونهما فبات أخضراً قاتماً...
أخذت تتطلعُ إلى الأرضِ بحيرة، ماذا تقول بالضبط!!!
- لأن ماذا؟! سألها الخال بلين.
عادت لتنظر إليه، عيناهُ معلقتان على شفتيها تنتظران الإجابة...
ارتبكت أكثر، قربت الوسادة من صدرها كأنها في حالة دفاع عن النفس:- لأن لأن كلانا من مذهب مختلف...- وماذا في ذلك؟! سألها "عمر" بتصلب.
- أجل يا ابنتي، ماذا في ذلك، كلنا أولاد آدم وحواء، أبناء دين واحد..
- أأأ.. تعرف.. تعرف أنت يا خالي، نحنُ.. أنا، لدينا طواف النساء، أما أنتم فلا، فإذا لم يطف الزوج أكون..أقصد تكون محرمةً عليه..
أخذت شهيقاً طويلاً متقطعاً، ثم أردفت دون أن تنظر لأحدهم:- ثم الزواج ليس... ليس شيئاً بين اثنين فقط، سيكون هناك أطـ..أطفال، والأطفال دائماً يتبعون مذهب الأب عادةً، مثلما أنا تبعتُ مذهب والدي، وتبع أخي "مجيد" مذهب والده..
تطلع إليها "عمر" بدهشة وعلى وجهه علامات الاستفهام:
- والداك كانا أيضاً من مذهبين مختلفين، أفهميني إذن كيف تزوجا بالرغم من ذلك وأنجباكِ. وأكمل:- أما بالنسبة لمذهب الأطفال فأعتقد أن هذا الأمر سابق لأوانه..
صمتت دون أن تحر جواباً، وعادت أصابعها لتتشنج من جديد، تطلعت إلى "ندى" بحيرة كأنها تستعطفها، أن تفهمها، أن تساعدها وتقول شئ أي شئ، ولكن أنّى لها أن تفهم هي الأخرى..
لكنها لا بد أن ترفض أليس كذلك، لا بد لها أن تصمد وألا تضعف، لابد!!!
- أنا لا أريد أن أتزوج، لا أريد...أرجوكم.و تركت وسادتها لتهوي كي لا تهوي!! وغطت وجهها وهي تجهش بالبكاء.
- قلتُ لك يا أبي مثلها لا يستحق، لا فائدة منها أبداً..ثم وجه خطابه لها:- ليكن في معلومك أنني لم أرغب بالزواج منك لشخصكِ أنتِ، ولكن احتراماً لطلب والدي، لخالك الذي لم أشأ أن أراه يستعطفني لأتزوج فتاةً حمقاء مثلك.
- عمر!!!تنهد "عمر" وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم.
- أنا لدي فكرة.
نظر الجميع إلى "ندى" التي ارتبكت من تسلط العيون عليها وقالت بخفة لتلطف الجو:- يتزوج عمر وغدير على الورق كما في الأفلام..كل ما يهمنا هو ورقة الإثبات الذي سنواجه بها زوج أمها..أليس كذلك؟!!
صمت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير، حتى "غدير" أوقفت بكاءها.- فكرة لا بأس بها.. ردد الأب مفكراً وإن شابه ضيق.لكزت ندى صاحبتها وهي تخاطبها:- اقبلي، إنهُ على الورق فقط...
على الورق!!!كان ينظر لها تلك اللحظة، في عينيه حديثٌ طويل، فيه عتاب، برود، ظلمة!!!
عيناهُ تقولان الكثير، لكنهُ لم يتح لها الفرصة لأن تقرأ أكثر!!!
غلف وجهه بتعبيرٍ جامد، ولم يبدِ حماسه أو رفضه للموضوع، بل همهم موافقاً وكأن الأمر لا يعنيه...وافقت هي الأخرى...وهل لديها خيارٌ آخر!!! وشئ أفضل من لا شئ....
على الورق!!!!
لا تدري لم قلبها منقبضٌ هكذا...ربما وجهه الذي قسى فجأة...ربما عيناه!!!أجل..أجل عيناه هي السبب...
- أجهزا بسرعة كي نذهب للمحكمة بعد قليل، لا بد أن نغتنم كل دقيقة متاحة لنا قبل أن يتحرك ذلك المعتوه...ثم أردف الأب:- سأتصل بناصر ليكون شاهداً على العقد، والآن سأترككما لتتفاهمان..ندى تعالي معي.- لكن يا أبي... قالتها بإستعطاف.- هيا..
خلا المكان إلا منهما وبدا الصمتُ السيد الآمر في هذا الجو المشحون بالتوتر....
أحست بنظراته مصوبة عليها، أرادت أن تلحق بخالها و "ندى" وتهرب من أمامه...لا تدري ما الذي تشعر به الآن..ليتني لم ألقي الوسادة!! رددت في نفسها.
- هل أنتِ سعيدة الآن؟! أتاها صوته ساخراً بارداً.- ...................- هيا، أطلقي رصاصاتك، أبي ليس هنا..أخلعي رداء البراءة وقولي ما بجعبتك...- ...............- ما بك، لم لا تتكلمين؟! ألا تريدين أن تضيفي شيئاً آخر غير المذهب والأطفال أم أن جميع حججك قد نفذت!!!- ..................تحرك من مكانه فرفعت رأسها بخوف، مرّ بجانبها وما أن وصل للباب حتى قال شيئاً جعلها تلتفت إليه وهي تشهق!!!!!!

- أتعتقد أن زواجهما سينجح؟!غمغم "ناصر" بعبوس وهو مندمجٌ في القراءة:- اممم، ما فهمته من والدي أنهُ زواج صوري ليس إلا.- أعلم ذلك، ولكن الابتسامة لم تفارق وجه أخيك طيلة اليوم...
ابتسم "ناصر" وهو يذكر شكل أخيه الأكبر، ووجه "غدير" المرعوب التي ما فتأت أن أوقفت الإجراءات عدة مرات لولا إلحاح والده و"ندى".
- لا أدري، الله وحده يعلم ما إذا كان هذا الزواج سيستمر أم لا...- ونعم بالله.
وعاد ليكمل قراءته، أما هي فأخذت تتطلع لخيطِ نشز من فستانها، محاولةً قطعه..
لكنهُ كان أملساً والخيط قصير أصعب من أن يُقطع هكذا!!!ارتجفت أناماها لخاطرٍ مر عليها، خاطراً بات هاجساً بالنسبةِ لها..
تركت الخيط كما هو ونادت زوجها بصوتٍ هامس:- ناصر...
- نعم..تشجعت من ابتسامته الهادئة، اقتربت منه بإرتباك دون أن تنظر إليه مباشرةً:- ما رأيك، أن..أن نذهب للمستشفى. ترك ناصر الكتاب الذي بيده وهو يتطلع لها بتعجب:- لماذا؟- لـ..لإجراء فحص.
الدهشة تتسع في عينيه، لكنهُ سرعان ما فهمها، هو قد بدأ يلاحظ تلميحاتها لهذا الموضوع في الآونة الأخيرة.- لا داعي لذلك..لازلنا في البداية.- أعلم..لكن "ليلى" ابنة عـ...- أعرف، قلتها لي من قبل، ولكن ما شأننا والآخرين، هذا الأمر بيد الله، وخوفك هذا لا مبرر له، حتى الطبيب سيقول لكِ ذلك.
نكست رأسها بأسى وانكسار.... تنهد من مرآها...اقترب منها وهو يخاطبها بحنان:- لا تبتأسي يا عزيزتي، اسمعي سننتظر شهراً آخر، إذا لم يحدث شئ، سنراجع الطبيب، هل ارتحتي الآن؟!
رفعت رأسها وقد تهلل وجهها وبان الفرحُ في عينيها، تطلعت إليه بحبٍ كبير، حبٍ جارف....
يا رب احفظ لهم سعادتهم!!!


الخروج الآن لوحدها بات خطيراً، في المرة المقبلة ستأخذ معها "ندى" أينما أرادت شيئاً، فالدنيا الآن لا أمان لها، لا أمان لها إطلاقاً!!!!
- لماذا تنظر إليّ هكذا..- وكيف أنظر إليكِ؟!- لاأدري..لكن..المهم نظراتك لا تعجبني.- سأنظر كما يحلو لي، أتفهمين.
قالها بهدوء وهو يقترب منها شيئاً فشيئاً. تراجعت هي إلى الوراء بخوف حاولت أن تخفيه.أجابت بحزم:- لا أريد أن أفهم، وإذا كررتها سأضطر لأن أخبر خالي.
تطلع لها برهة بإستغراب ثم ضحك بقوة، سألها بإستهزاء:- ستخبرينه بماذا؟! أن زوجك ينظر إليكِ!!!!!- أنت لست زوجي...ألا تفهم. صاحت بحدة.
قبض على يدها وقد تلاشت تباشير الضحك من وجهه:- بل زوجك رغماً عنكِ والورقة تؤكد ذلك.
حاولت أن تنزع تلك الأصابع القابضة على ذراعها ولكن دون جدوى.
صاحت بتقطع وقد خُطفت أنفاسها:- قلتها بنفسك "على الورق" الورقة فقط من تجمع بيننا، لا شئ أكثر.
قرب وجهه من وجهها، حتى كادت أن ترى انعكاس صورتها في عينيه، رد بهدوء، بصوتٍ واطئ:- هذا ما تتمنينه أنتِ أليس كذلك؟! لكن الوضع لن يبقى هكذا للأبد.
أنفاسه تحرق خديها، الاحمرار يتصاعد ليعمّ رقبتها، رمشت عينيها مراراً وتكراراً لعلّ الصورة تتضح، وبعد جهد أطلق سراحها فجأة..
ترنحت إلى الخلف وصدرها يعلو ويهبط من حدة الانفعالات التي اجتاحتها تلك اللحظة.
سألته بتقطع وهي تحاول أن تمسك بجمام نفسها:- ماذا..ماذا تقصد؟!!لم يجب واكتفى بالنظر إليها من جديد ولكن ببرود.صاحت في وجهه:- طلقني، أتسمع، طلقني.
قهقهته الجافة ترتفع، تتصاعد ولا تلبث أن تهوي، لكن أين؟!!
في أعماقها هي..هي وحدها...نطق متشدقاً:- وهل تزوجتك يا صغيرتي حتى أطلقك...
وقفت مشدوهة من عبارته للحظات، وكأن الزمن تجمد، كل شئ توقف، إلا صداه.وحين فاقت من بهتانها، واستيقظت من خيالاتها، أخذت تنادي عليه...
لكنه كان قد سار عنها إلى غرفته، خياله تلاشى بين الأزقة، ضربت الأرض بقدميها لعلّ الدق يخفف دقات قلبها المرتاعة.....
القادم يبدو مخيفاً، غامضاً، مليئاً بالشوك، وقد بدأت أزهار الياسمين تبزغ من بين الحشائش!!!!!
ماذا لدينا غير الاستسلام
وغير عزف نغمةِ السلامالحربُ طالت بيننا حبيبتي
وآن أن أنام أو تناميعودي إلى طفولةٍ مُحتاجةٍ
للنوم في الهدوء والظلام


(7)
استندت على الباب مغمضةً عينيها بقوة، الأصوات ترتفع وتعلو، وصوت صراخه يصمُّ الآذان....
عادت لتتحسس إكرة الباب كالعمياء لتستوثق من أنهُ قد قُفل بإحكام..- كيف زوجتهما هكذا؟! هذا الزواج باطل..- أبطله أنت إذا استطعت...
الحروف لا تُسمع الآن بوضوح، همهمة غير مفهومة هي التي طغت حول المكان، حيثُ اجتمع الرجال وأشباه الرجال!!!
أخيراً هدئت الجلبة، ربما خرج، لكن لا، ها هو صوته القبيح يعود من جديد:- إن كنتُ قد قلتُ ذلك فمن خوفي أنا وأمها عليها ليس إلا، مسكينة لقد تركتها في البيت تبكي، ابنتها الوحيدة ولا تحضر عقد قرانها، لذا كان علي أن أتأكد...
ثم التفت إلى "عمر" وهو يبتسم له ابتسامته الصفراء اللزجة:- مباركٌ عليك يا "عمر" عرفت أن تختار، انتبه لها!!!!
أيها الحقير!!!
أرادت أن تصيغ السمع أكثر، أن تعرف ما رد عليه هذا الأخير، لكن صدى صوته لم يصل إليها بعد...
تنهدت وهي تسمعُ الأبواب تُصفق...
لقد انتهى كابوس!!
و بدأ كابوسٌ من نوعٍ آخر، أتراها تتخلصُ منه هو الآخر؟!!
ستحاول وبشتى الطرق، ولن تعدم أي وسيلة لذلك..
سمعت طرقاً خافتاً على الباب فاعتدلت في وقفتها، تساءلت:- من؟- هذا أنا.- ماذا تُريد؟!- أريد أن أحادثك قليلاً.- قل، أنا أسمعك.- افتحي الباب، ليس لائقاً أن أقف هكذا.- ندى ليست هنا، و لن أفتح، أسمعت، لذا قل وخلصني.
صرّ على أسنانه، وهو يردّ عليها بصوتٍ كظيم:- افتحي الباب وإلا كسرته على رأسك الفارغ.- ما الفارغ إلا أنت، وإن كنت تجرؤ اكسره، سيأتي خالي وسيكسر رأسك...
- أخفتيني أنتِ بخالك..أم نسيتي أنهُ أبي أيضاً، ثم يا "حبوبة" أبي خرج هو الآخر..صمتت وهي تسمع صوت تنفسه الغاضب، مرت ثواني قبل أن ترد بخوف:- أنت تكذب، خالي لن يتركني مع...مع مثلك!!صاح بإستنكارٍ أفزعها:- مثلي؟!!
ثم أردف بغضب:- حسابنا ليس الآن يا "غدير" سأجعلك تدفعين ثمن كل كلمة، كل عنادٍ عاندتيني إياه، كل شئ والأيامُ بيننا، أقسم بذلك.
ضربت الباب بقبضتها لعلها توقف الارتجاف الذي سرى في جسدها:- طلقني ... طلقني، لا أريدُ أي شئ يربطني بك، أتسمع..- هذا أبعدُ إليكِ من طيل السحاب...
وصفق هو الآخر باب غرفته المجاورة....
طلقني...أخذت ترددها بهمس، وهي تنزلق لتصل إلى الأرض، إلى أدنى بقعة....وضعت رأسها في حجرها و بكت بصمت....
ولكن من قال أن المصائب لا تأتي فُرادى؟!
غديـــــر..ماذا أقولُ لكِ؟!!
لا تعليق!!!








 
 

 

عرض البوم صور شذى وردة   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)
facebook




جديد مواضيع قسم القصص المكتمله
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 10:11 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية