كاتب الموضوع :
شذى وردة
المنتدى :
القصص المكتمله
وقفت أمام باب مكتبه عدة مرات، كلما همت أصابعها بأن تخدش خشبه أو تخدش وجهه!!! عادت لتضم يدها إلى جانبها من جديد...
وأخيراً، بعد عشر دقائق استجمعت شجاعتها وهي تردد كل الآيات التي حفظتها منذُ طفولتها، طرقته بخفوت فربما لا يسمعها وتعود إلى مكتبها، لكن صوته الجاف وأد أحلامها الخائبة.
- تفضل.
"أعوذُ بالله".دخلت وبيدها الملف الذي أعطاها إياه بالأمس، لم يرفع نظرهُ إليها بعد، كان منهمكاً في توقيعِ أوراق..تنحنحت لعل صوتها يخرج من احتباسه الأزلي كلما رأته.- لقد راجعتُ الحسابات أستاذ.- والنتيجة؟! سألها دون أن يرفع رأسه بعد.- جميعها صحيحة.
حينها فقط رفع رأسه وأشار لها بأن هاتيه، مدتهُ إليه من بعيد، لكن يدها لم تصل إليه.
- اقتربي، لم أنتِ واقفة هكذا؟!
"أحقاً لا تعرف!!!"
تقدمت فتناولهُ منها، أخذ يتصفحه وهو يغمغم:- إذن كل العمليات الإحصائية صحيحة؟!- أجل.
وفجأة، ألقى الملف الذي بيده بقوة فأجفلت، وبقيت تنظر له بتعجب من نزوات غضبه الغريبة.صاح في وجهها:- صحيحة؟!! يا آنسة، هذا الملف قد تم مراجعته عدة مرات من قبلي وقِبل بعض الموظفين، واشتمل على 6 جداول إحصائية خاطئة، وتقولين جميعها صحيحة؟!!!
فتحت عينيها بدهشة على وسعهما ورددت دون تصديق، ودون أن تبالي بصياحه:- لقد راجعته من قبل، وجعلتني أُعيد مراجعة ملايين الحسابات التي تحويه؟!
- كنتُ أريد أن أتأكد، ما إذا كان هناك شئ في العالم اسمه ضمير، دقة، أمانة.
العينان تكادان تخرجان من محجريهما واللسان ينطلق دون قيود، أخذت تهتف وهي تشير لوجهها:- انظر..انظر لعيناي، كيف أصبحتا حمراوين، لم أنم البارحة إطلاقاً وأنا أراجع هذه الحسابات المطبوعة بآلة من العصر الحجري.
نظر إليها دهشاً من جرأتها وعفويتها في الكلام:- وما شأني أنا إن نمتِ أم لا؟!
صاحت بتقطع وصدرها يعلو ويهبط بإضطراب:- أنت..أنت..- أنا ماذا؟ تكلمي.. سألها ببرود.
"أنت حقير، نذل، جبان، أنت مزبلة التاريخ، بودي أن أخلع حذائي وأحطم جمجمتك".
عادت لتعض على نواجذها بقوة لبضع دقائق، ثم أفلتت شفتيها وهي تزفر بحقد:- لاشئ يا.. يا أستاذ..
حدجها بنظرة هازئة وكأنه علم بأنها لن تقدر أن تنطق حرفاً.
فتح درج مكتبه، وأخذ يعبث فيه دون أن يحول عينيه عنها.- أيمكن أن أنصرف الآن؟- لحظة..انتظري.
وأخرج شيئاً ما:- خذي هذه حسابات أخرى تخص بنك "......" راجعيها و افتحي هاتين العينين المكحلتين جيداً..- هذا ليس كحلاً، هذه هالات سوداء من أوراق البارحة. قالتها ودموعها توشك أن تطفر من الغيظ.لم يبالي بما قالته، تأمل بإهتمام تغير ألوان وجهها بالتدريج.
كانت تتطلع إلى الملف الذي لو تُرك له المجال لينطق، لأنًّ من ثقله!!
- هذا كثير!! هذا الأسبوع زواج إحدى قريباتي و.....
"يا رب تكثر عليك العقارب والأفاعي".
قاطعها وهو يعنفها:- وهل نحنُ نلعب؟! هذا عمل، ما دمتِ لستِ نداً لهذا النوع من الأشغال لم أخذتِ تخصص محاسبة.وأردف:- أنا لا أحب التلكأ أو التبريرات الواهية للتهرب من العمل..ولا تُدخلي شؤونك الخاصة في العمل، مفهوم؟!- ...................
- لم أسمع جوابك، أم أن كلامي لا يعجبك؟!
"لا يعجبني!! يا أخي أنت بأكملك لا تعجبني".
- مفهوم يا أستاذ. أجابت بذّل.واستدارت لتعود من حيثُ أتت، تسبقها آلالاف الدعوات عليه طبعاً!!!- يا آنسة..- نعم؟!- وجهكِ منتفخ...تنفسي ببطء، ليس جيداً لصحتك هذا الاحتقان.
وكادت أن تتعثر بالسجادة المبسوطة في مكتبه:- انتبهي أثناء سيرك أو ارتدي نظارات ما دمتِ لا ترين جيداً...
وما أن خرجت من مكتبه حتى أخرجت الصرخة التي كانت قد كتمتها طويلاً,,,
ولكنها، لم تجد إلا الجدران وحدها لتتلقفها!!!
- ماذا سترتدن في الحفلة؟ سألت "شيماء"- أنا عن نفسي لا أملك ثوباً، سأطلب من والدي نقوداً لأشتري شيئاً جديداً.
- وماذا عنكِ "غدير"؟!- أنا؟!- أجل..- أنا لن أذهب، لا أعرف أحداً، ماذا سيقولون عني؟! "أطرش في الزفة".- يا عزيزتي، لقد بتِّ فرداً منا، يا حرم أخونا المصون.
حدجتها "غدير" بنظرة نارية، وعادت لتكتب شيئاً في دفترها..لا أفهمه، لا أعرفه!!من؟!!قالوا عنهُ زوجي...وأغلقت الدفتر بشرود...
- ماذا قلتِ؟! عادت "شيماء" لتسألها.- امممم، لا أدري.- ستأتين رغماً عن أنفك. ردت "ندى".- لاأملك مالاً.- والدي لن يبخل أبداً على ابنة أخته..قاطعتها "شيماء" وهي تغمز عينيها:- ولم عمي؟! الآن أصبحت في ذمة رجل آخر مسؤول عنها.
وضحكت الفتاتان و"غدير" تنظر لهما بحنق، ودثرت نفسها بغطاءها لعلها تهجع وتسلم من لسانهما.
"يا ليت!!"
- ندى قومي، قومي..- آ..آآه ماذا تريدين؟- أريدُ أن أشرب كوب ماء.- اذهبي واشربي.
وعادت لتتدثر في فراشها من جديد.- ندى، أنا أخاف من الظلام، قومي معي.
من الظلام أو من ذاك الذي يترصدُ بك في الظلام!!
- أريد أن أنام..المدير الحقير...- أيُّ مديرٍ تتحدثين عنه؟!
لكن الأخيرة لم تجبها، فرأسها مثقل من حسابات الأمس واليوم، والمعادلات وعلامات الجمع والطرح تطنُ بجنون أمام عينيها كأزيز نحلة!!
تطلعت إلى النائمة بيأس....
أأنبأكم إحساسكم يوماً أن شيئاً سيئاً سيحدث إن فعلتم هذا الشئ، ومع ذلك تفعلونه؟!!
ارتدت "غدير" حجابها بيدٍ ترتجف، ها هي تفتح باب غرفتها ببطء كلصة تتسلل بين الأزقة....
صوبت بصرها إلى الغرفة المجاورة، كان الهدوء والظلام سيدا المكان بلا نزاع..
مشت على أطراف أصابعها....
اللهيب يتراقص والفراشة تهوي إليه رغماً عنها، تتراقص بخفة حوله، تفرد جناحيها الجميلين، وفي لحظةٍ ما، تسقط!!!!
أجل تسقط...
فأنى لجناحيها أن يتحملا قسوة تلك النار...
احذري يا غدير، احذري...
وصلت إلى هناك، كان مصباح المطبخ مولعاً، توجهت إلى الثلاجة وسكبت لها كأساً.
لم تنتبه إلى الظل الذي بقى واقفاً يتأملها وهي تزدرد الماء.
وحين همّت بإرجاع الكأس لمكانه، هتف بسرعة:- انتظري.
والتفتت إلى مصدر الصوت، كان واقفاً بمحاذاة الباب وعيناه الخضراوان ترصدان تحركاتها...على شفتيه ابتسامة، ماذا عنها هي؟!!
استندت بضعف بجانب الثلاجة، تنفسها بات سريعاً، متلاحقاً، ونبضات قلبها تدق بجنون...لسانها يتثاقل، والصوت يخرج بخفوت، بتقطع:
- أنت..أنت ماذا تريد؟رفع يديه إلى أعلى ببراءة موضحاً:- أريدُ فقط كوب ماء.- أنت تكذب، تعتقد أن خدعتك ستنطلي عليّ...- كم أنتِ واهمة كثيراً بنفسك..هيا اعطني كوب ماء.- لن أُعطك شيئاً.- إذن سآخذهُ بنفسي..
صرخت مهددةً وهي تنكمش على نفسها:- لا تقترب.- اخفضي صوتك أيتها المجنونة.
الكأس يكاد يتحطم، يتلاشى بين أصابعها، الضغطُ على الكأس وفي الهواء يزداد، وإن كان الكأس من زجاج فما بين الضلوع أرق من أكسير..
عادت لتنكمش، لتنزوي بعيداً عنه، الصدرُ يعلو ويهبط بقوة، والامتقاع يلون وجهها بألوان شفافة، خالية من أي لون!!!
صاحت فيه بيأس:- قل لي ماذا تُريد وخلصني.- أريدُ كأس ما، لم لا تصدقين، ماذا في رأسكِ هذا؟!
رددت بشرود:- تريدُ ماء؟!- أجل ماء..ماء فقط، ليس في نيتي أي شئ آخر!!
تطلعت بداخل الكأس لثواني، ثم عادت لتنظر إليه، على وجهه علامات تساؤل، تعجب، تفكير!!!
حاجباه التصقا معاً بصرامة، وشئ ارتسم في عينيه، عادت لتسأله بصوتٍ شارد:- تريدُ ماء؟!- أجل ماء. أجابها متفحصاً.
فتحت باب الثلاجة من جديد، سكبت الماء في الكأس، ها هو يطفو ويلامس حافته.
مدتهُ إليه بيدٍ ترتعش، الماء قد بدأ ينسكب شيئاً فشيئاً على الأرض واليد لا تتوقف عن الاهتزاز...
تقدم منها ببطء، العينان الخضراوان تعكسان شيئاً غريباً، تكادان تنطقان:
لماذا؟!
مدّ يدهُ هو الآخر، تابعت هذه اليد الممدودة وهي تقترب ببطء، أنامله كادت تصل ولم يتبقى من الكأس إلا ثلثه!!!
وما أن مسّت أصابعه حافته حتى أسقطته، وانتثر زجاجه على البلاط..
شهقت وهي تلطمُ وجهها، أخذت تنظر بهلع إليه وإلى الزجاج، هزت رأسها بجنون نافيةً وهي تصيح بصوتٍ مبحوح:
- لم أقصد أنا..لم أقصد..- لا بأس..لايـهم.
واقترب منها محاولةً تهدئتها، صرخت بجزع وهي تحمي نفسها بيديها:- لا تضربني..- لن أضربك..
لكنها لم تكن تسمع، لازالت تتراجع ويديها تغطيان وجهها برعب.
وأحاطها بذراعيه بقوة، رغم احتاجها، رغم ممانعتها، رغم الخدوش التي خدشتهُ بها!!!!
لازالت تقاوم، كلبؤة هي...
كلبؤة أم طيرٍ جريح؟!!!
هزها من ذراعيها بقوة لعلها توقف صراعها المحموم معه...
أجنحة الفراشة تتكسر، تذوي واللهب لازال مشتعلاً، لازال يتراقص بخفوت فوق ذُبالته...
عادت لتسأله بوهن من بين دموعها:- ماذا تريد؟!- قلتُ لكِ لا أريدُ شيئاً..عاد ليضمها بقوة ليطفأ مقاومتها الأخيرة، فالجسد بات واهناً، أضعف من أن يقف صامداً أمام اللهب!!
بكت كثيراً على صدره، يدها لاتزال تهوي على كتفيه بهون، والشهقات لا تتوقف..
أيُّ زمنٍ توقف لتلك الصورة الفريدة....
أتراها ستتكرر؟!
صوت بكائها يخفت، يذوي كذُبالة الأمس، واليد تتوقف...
وهناك، في سمرة الليل، عينان تسمرتا:- "عمر"..."غدير"!!!نزعت "غدير" نفسها وهي تشهق من صوت الأب المستنكر....أخذت تجول بصرها بين الأثنين بذهول، بتعجب، دهشةً هي من نفسها...
وحين أفاقت، ركضت إلى غرفتها وهي تتخطى صوت الأب المستنكر...
الريح تصفر في الخارج....
وقد بدت نجوم السماء قلوباً واهنة تنبضُ من بعيد....
وهناك في غرفةٍ ليست ببعيدة، انساب نشيج يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر!!!
ويبقى صوتُ الأب هو الفاصل...
تُرى ماذا تحمل الأيام القادمة لـــ:غدير، عمر، ندى؟!!!انتظروني....لاأنااام....
أبعدتُ عنك سيدي فؤادي
فارجع إلى طبائعِ الاستبدادِاغضب وصح فلن يضجّ مسمعي
لأنني أسمعُ في حيادِالحبُّ مات بيننا لأنهُ
لا حُبّ بين العبدِ والأسيادِ!!
(8)
أناملها تلامس شفتيها المرتجفتين وقد ارتكزت بإحدى يديها على سطح الأرض بضعف...
هي لا تصدق ما حدث للتو!!
كيف حدث ذلك؟!
هو السبب، ذلك الغشاش المخادع يخالني لا أعرفه، لا أفهمه، لكن لا...
لا وألفُ لا، سأحاربه....سأٌقاومه حتى آخر رمقٍ لي..
لأنني...لأنني أكرهه!!
أكرهه وكفى!!
امتدت أصابعها لخدها وهي تهزُّ رأسها، الدموع تملأ الوجه المعذب، تحفر في حناياه شيئاً، والخطوط تتضح لتكون معلَماً,,
السطور تُرسم، والوجه صفحة، يحتاج لمن يفهمه ويقرأه....
عادت لتهز رأسها غير مصدقة....
الحروف تتبعثر، والكلمات تتلاشى وتبتعد هناك، حيثُ لا قلم، لا حبر، لا سطور!!
همست لنفسها بخوف:- و خالي، ماذا سيقول عني الآن؟!!- ماذا سيفعل؟!- رحماك يا رب رحماك....
نجوم السماء تتراءى من خلف زجاج النافذة، ها هي تنبض بقوة ووضوح، في نورها أمل وألم!!!
اتجهت لفراشها وهي تحيطُ نفسها بدثارها، لعلها تشعر بالأمان قليلاً، قلبها لم يتوقف عن الدق بعنف، بجنون...
أخذت تطمأن نفسها:
ما حدث كان كذبة، كذبة سقيمة من تخيلاتي...
لا بد أنني كنتُ أحلم، أتوهم...
ولكن....
كيف حدث ذلك أخبروني، كيف؟؟!!
الجبين لازال يتصفد عرقاً رغم الجو المكيف، وباب الغرفة المجاورة لم يُوصد بعد!!!
- "غدير" انهضي..- ............- غدير!!ردت دون أن تفتح عينيها، الصوتُ كان متعباً، راحلاً منذُ الأمس:- ماذا تريدين؟!- هيا افطري.- لا أريد.
"لا أريدُ شيئاً، لا أريد أن أراهم، لا أريدُ أن أرى خالي".- أيتها الكسولة!!- أريدُ أن أنام.
"لم يصافحني الكرى منذُ الأمس، هو السبب، هو الغشاش، المخادع".
وعادت لتتدثر من جديد...
الهجوع نعمة، لا يقدرها إلا المحرومون!!
- هذا الأسبوع يحمل لكِ الرضا والسعادة. تتمتعين بلباقة الحديث وتستفيدين من قوة إقناع مميزة تجعلك محط أنظار العديد من الأشخاص.رفعت "ندى" رأسها عن الجريدة بزهو وهي تبتسم لصُحيباتها، ثم أردفت بخيلاء وهي تضم خصلة نشزت سهواً من حجابها للداخل:
- كم أحب "الأبراج" تشعرني بالتفاؤل.
- أنا لا أصدقها. ردت "جميلة".
"أكيد لن تصدقيها لأنكِ حقودة وحسودة، ولو كان طالعي اليوم سيئاً لقلتِ آميين!!".- ندى، أقرأي برج المدير.. خاطبتها "أشجان".- من أي برجٍ هو؟!
- من برج الحمل..
فتحت "ندى" عينيها دهشة في بادئ الأمر، ثم ما لبثت أن ضحكت بإستهزاء:
- الحمل؟!!! ظننته من برج "الثور"، برج "أم دويس"، برج "الله وأكبر عليك يا الظالم"...
ثم أكملت وهي ترفع الجريدة لأعلى:
- اسمعن "برج الوحش" ماذا يقول اليوم: تتجه إلى إقامة علاقات فوضوية. كن صادقاً مع نفسك واعطِ قلبك فرصة ليدق دقاته الحقيقية..
ولم تكمل، إذ غرقت في نوبة هستيرية من الطراز الأول:
- قلبه يدق؟! أشك..أشك إن كان لدى هذا الرجل قلبٌ أصلاً..
وألقت الجريدة ووجهها يتضرج احمراراً من شدة الضحك:
- مسكينــ .....لكنها توقفت فجأة ما أن رأت وجه "أشجان" الذي تغير فجأة والتي راحت تدفن رأسها في الأوراق الموضوعة أمامها، ولم تفتها تلك الابتسامة الخبيثة التي لاحت على شفتي "جميلة"..
وبلا شعور صدت للباب، ورأتهُ واقفاً وقد ضمّ قبضته لجانبه وانحرف فمه بزاوية حادة...
وضعت يدها على فمها وهي تشهق وتسب نفسها في سرها ومن أخترع الأبراج ووضعها في الجرائد!!!
- أ..أ...أ.. هذا كان..كان برجي أنا. وابتسمت ببلاهة وهي تشير لصحيباتها كي يؤيدنها لكن أحداً منهن لم تنطق بكلمة.
ملامح وجهه الجامدة جعلتها تزدرد ريقها وتبتلع ابتسامتها البلهاء.
- تعالي إلى المكتب فوراً. قالها بصوتٍ آمر مليء بالوعيد.
وانصرف إلى الداخل..
- ماذا أفعل، أشيروا علي، ثم لماذا لم تخبروني، أشهد ألا إله إلا الله، منذُ زمن والنحس مكتوب على جبينك يا "ندى".
وأخذت تندب حظها العاثر و"أشجان" تحاول تهدئتها:
- لقد جاء على حين غرة، ثم لقد أشرتُ عليكِ بأن تتوقفي لكن صفحة الجريدة كانت تغطي وجهك بأكمله.
- ماذا يقول برجكِ اليوم: هذا الأسبوع يحمل لكِ الرضا والسعادة. قالتها "جميلة" بإستهزاء وتشفٍ، ثم أردفت:
- صدق من قال: كذب المنجمون ولو صدقوا
لم ترد عليها "ندى" بل أخذت تحدجها بنظرة نارية وهي تود لو تنقض عليها وتملأ وجهها بعلامات خضراء وزرقاء بدلاً من ألوان المكياج التي تصبغ بها وجهها كل يوم.
التفتت لأشجان وهي تسألها:- ماذا أفعل الآن؟!- أذهبي له الآن..- ماذا؟!
وكأن أفعى لدغتها، أحنت جذعها لتحكم إرتداء لحذائها، قالت دون أن ترفع رأسها:
- أذهب إليه وهو في هذه الحالة؟!! مستحيل.
وسحبت حقيبتها والجريدة بعد أن جعدتها بغيظ:
- أنا سأعود إلى البيت الآن، بعد يومين لدي حفلة إحدى قريباتي و أريد أن أذهب هناك وأنا سليمة، مع السلامة.
- انتظري...
- قولي له معدتها آلمتها، أخاها عاد من السفر، دهستها سيارة، أي شئ...وانصرفت عنهم وهي تهرول حامدةً نجاتها، تاركةً بركان الغضب ينتظرها هناك لوحده!!!
سمعت طرقاً على الباب، عادت لتتدثر وتصمّ آذانها وتتظاهر بالنوم من جديد:
- "غدير" هذا أنا خالك افتحي الباب.
فزّت من فراشها وقد بدأت تقضم أظافرها دون شعور:- غدير!!- لحظة، لحظة، سأفتح الآن..
تلكأت كثيراً قبل أن تمسك إكرة الباب، طأطأت رأسها وهي تتحاشى النظر إليه....
جلس على الكرسي المقابل للمنضدة أما هي فاحتارت...
أتقف أم تجلس على حافة السرير، أم ترمي بنفسها من النافذة وترتاح من الموقف برمته!!!!
كان يتأملها، ويتأمل علامات الشعور بالذنب الذي أنطبعت على وجهها حمراء قانية...الصمت بينهما طال، كلاهما سارحٌ بفكره، ولكن ما أصعب الانتظار..
الكلمات لا بد أن تُراق بسرعة، بسرعة، حتى يكون أثرها قاضياً مميتاً، ربما بعدها يلتأم الجرح دفعة واحدة!!
والنزف، النزف فلتكن حذراً منه، إياك أن تقترب منه، فغبار الأيام كفيلة بأن تثيره، وتجدد ثوب حزنه من جديد...
لكن المشكلة تكمن في نوع الجرح، أليس كذلك؟!
أهي جروح الجسد أم جروح الذاكرة؟!!
طال الصمت وآن لهُ أن يقطع، والمجرم لا بد له أن يتكلم، أثمه يخنقه، يضيق عليه الخناق...
دعه يتحدث لعل مطرقة الضمير تتنحى عنه، فلقد أعياها وأثقل همها..
الحروف تخرج مترددة، مبعثرة، خجلة هي من نفسها:
- خالي، أنا..أنا...
لكنها لم تستطع أن تكمل، ماذا تريدونها أن تقول؟!تنهد وهو يربت على ركبته:- بعد الذي حدث البارحة لا بُد أن يتمم هذا الزواج.
- لا أرييييييد.
وانكبت على قدميه وهي تنتحب:- لن أخرج من هنا حتى، سأحبس نفسي، ولكن لا، لا توافق يا خالي.- لماذا يا ابنتي كل هذا؟! لماذا تتعبين نفسك وتتعبيني؟!
- أنا قلتُ لك، نحنُ..نحنُ مختلفان.- لكنكما تزوجتما وانتهى الأمر، ليس من المعقول أن تبقيا هكذا للأبد.- ..................- ثم لا بد أن تتابعا حياتكما، كلٌّ له حق بأن يعيش..- فليكمل هو حياته، أنا مرتاحة هكذا، فليطلقني، أجل يطلقني ويذهب كلٌّ في حال سبيله.
- ماذا تقولين؟! لم يمر أسبوع واحد على قرانك وتريدين الطلاق؟! وبهذا السن الصغيرة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.
"ليتني لم أوافق منذ الأساس، ليتني"..
- أنا أقبل بأي شئ إلا هذا، أتوسل إليك يا خالي، أتوسل إليك.
ودفنت رأسها بين قدميه، وهي تتشبث به بإستعطاف...
جثا للأرض وهو يمسحُ على شعرها، رفع وجهها المبلل بالدموع:- لا تتوسلي يا ابنتي، وسيكونُ لكِ ما تريدين، ولكن اعلمي ستكون هذه آخر فرصة لكما، إن تكرر ما حدث بالأمس، سأبتُ في الأمر.
- حـــ....حسناً..
ربت على ظهرها لكي تقف على قدميها من جديد...
كان يتنهد كل حين وكأن شيئاً يضايقه، وكأن الأمر برمته لا يعجبه....- هيا قومي لتتناولي إفطارك.
- لا أريد...ليس الآن."ربما لحين أن يذهب ذاك إلى عمله".
- طيب سأترككِ، ولا حاجة لأن تحبسي نفسكِ هنا.
هزت رأسها بإيجاب دون أن تؤمن فعلاً بإماءتها...
وما أن خرج وابتعدت خطواته حتى أوصدت باب غرفتها من جديد...
تنهدت هي الأخرى وهي تلهج بالحمد، لقد نجت بأعجوبة!!!
لكن تنهيدتها لم تكتمل، إذ سرعان ما سمعت صوت "عمر" يرتفع شيئاً فشيئاً، وكان يقول شيئاً عنها...أخذت تدور في الغرفة بتوتر وهي تقضم أظافرها من جديد، وما هي إلا ثواني حتى سمعت طرقاً عنيفاً على الباب..
توقفت في مكانها وقد أخذ منها الخوف مأخذاً كبيراً...- من؟!- لا تتظاهري بالغباء.- ماذا.. ماذا تريد؟- أحقاً لا تعرفين!! صاح فيها بشراسة.- قلتُ لك لا تتعب نفسك معي.- أنتِ مجنونة.- أجل مجنونة، أتريدُ الزواج بمجنونة؟!- بودي ذلك كي أعالجك.- أليس لديك كرامة، أقولُ لك لا أريدك، لا أريدك، أتريدني أن أصرخ عالياً علك تفهم.- اسمعيني هذا الزواج سيكتمل شأتِ أم أبيتِ، وتوجد طرق كثيرة لإجبارك على ذلك..- أنت شخص لا تُطاق.
- لديكِ 4 جدران في غرفتك، أليس كذلك؟!
لم تفهم مغزى سؤاله لكن أجابته بنعم.- وباب أيضاً؟!- نــ..عم..- اضربي رأسكِ بأياً منهم.وانصرف تاركاً إياها في حالة فوضى...
مستحيل، هذا الرجل مستحيل!!وقطع صوت ندى خيالاتها...- لحظة، لحظة.ولجت إلى الداخل وهي تتنفس بسرعة:- أعوذُ بالله..نظرت إليا "غدير" بتساؤل:
- بعلك العزيز كان سيقطع رأسي منذُ قليل.
تجاهلت "غدير" كلمة "بعلك" وعادت لتستفسر:- لماذا؟!- لأنني سألتهُ كيف حالك!!
ثم أردفت وهي تلقي بنفسها على السرير:- الإجرام تفشى في كل مكان، في البيت، وفي المكتب..
أخذت "ندى" تثرثر عما حدث لها اليوم، والأخيرة لا تسمع، كان ذهنها منصرف للذاهب منذُ قليل، في حديثه، في تهديده المبطن...
أتراها ستنجو فعلاً؟!أتمنى ذلك.....
- لكنك وعدتني.- لقد اتفقنا بعد شهر وليس بعد مرور أسبوع!!!
- أنت لا تفهم، لم لا تحس بي، لم تستصغر هذا الأمر، أينما التقيتُ إحدى صديقاتي يسألنني: ألم تحملي بعد؟! وأمي تسألني وأقاربي كذلك، أكادُ أجن..
- .........................
- وأنت ليس لديك إلا اصبري واصبري، لم أنت خائف هكذا؟!
وانتفض "ناصر" في مكانه وكأن أفعى لدغته:- ماذا تعنين بحديثكِ هذا؟!
صمتت وكأنها أحست بفداحة ما قالته، لكنهُ لم يمهلها لتعتذر:- لا تظنيني من هؤلاء الرجال الذين يقيسون الرجولة بهذا الشئ، لو كان بي عيباً لكنتُ أول من أخبرتك..
- "ناصر" أنا...- يكفي، لقد أفضتِ أم لديكِ المزيد؟!
طأطأت "شيماء" رأسها خجلة من نفسها:- على العموم سيكونُ لكِ ما تريدين، واليوم إذا شأتِ حتى لا تظني أني أتهرب..
- أ..أ.. اليوم سنشتري فساتين لحفلة الغد.
- ..........................- ألن تذهب بي إلى السوق؟
- ...............- ناصر؟!- نعم. رد بضيق.- هل أنت غاضب مني؟- كلا.
- ناصر، لا تكن قاسياً علي هكذا.
واقتربت منه وهي تذرف "دموع التماسيح"، قالت بإستكانة:
- إذا لم تسامحني فلن أذهب لحفلة الغد.
ولأنهُ يعرفها، أخذ يجاريها وهو يخفي ابتسامته:- لا تذهبي..- هذا يعني أنك لم تسامحني.- بل سامحتك، ولكن لا تذهبي.- ولكن، ولكن، "ندى" ستذهب، حتى "غدير" ستذهب هي الأخرى، ماذا سيقول عني الناس؟!- قولي هذا من البداية..- ناصر!!- آه منكن!!!
- هيا يا غدير لقد تأخرنا.- لا أريد..لا أدري.- تريدين أن تبقي لوحدك في البيت مساء الغد.- لا.- إذن؟!- من سيوصلكم؟!
- قلتُ لكِ ألف مرة "ناصر" و "عمر".- ولم لا يوصلنا "ناصر" فقط؟- وهل سيبقى "ناصر" لوحده في المجمع ونحنُ ندور في المحلات!!
سحبت "غدير" خمارها وهي تدمدم، إنها خائفة من مقابلته وجهاً لوجه بعد آخر حوار دار بينهما، لكنهم ليسوا لوحدهم، سيكون الجميع معهم....
سارت وهي تطمأن نفسها، ألقت السلام بصوتٍ لا يكاد يبين وهي تلج داخل السيارة...
كانوا يتسامرون ويتضاحكون حتى هو، وكأن شيئاً لم يكن!!
بقيت صامتة وهي تنصت لأحاديثهم وعينها على المرآة والسائق!!!"حتى لم ينظر إلي، غريبٌ أمره"..
ووصلوا إلى مجمع "..."، تقدمت النسوة أماماً والرجال يتبعنهم، لم يتركوا ركناً إلا دخلوه...
كانت "غدير" تتابع بملل الملابس المعروضة بعكس "شيماء" و "ندى" اللتان أخذتا تبحثان بحماس عما يليق وفي أيديهم عشرات القطع!!!
ولفت انتباهها فستاناً ما، اقتربت لتتفحصه...
لونه أسود بغموض الليل، ملمسه أثيري ينزلق بسرعة عند لمسه...
كان بسيطاً في تصميمه، حتى التطريز لم يكن ملفتاً للنظر...
أخذت تقلبه وقد بدأ يروقها، لكن شيئاً ما فيه استوقفها وجعل يدها تتوقف فجأة!!
"لا يوجد شئ كامل، لا يوجد، حتى الفساتين!!"..
- ماذا؟! هل أعجبكِ هذا الفستان؟! سألتها "ندى" وهي تتفحصه هي الأخرى.- إنه جميل، لكن....- لكن ماذا؟! لا تتعللي، لقد حل المغرب الآن، والحفلة غداً وليس بعد أسبوع.- لو كان مقفلاً من الخلف لأخذته..- وماذا في ذلك؟!
- أنا لا أحب هذا النوع من الملابس.- أيتها الغبية، تلك كانت ملابس جدتي، ثم كل الفتيات يرتدين هكذا، ألم تشهدي أعراساً من قبل.
"بلى، بلى شهدتُ واحداً، وكان عرسي!!"...- كلا، سأبحث لي عن شئ آخر..- انتظري لا تتركيه، إن ابتعدتِ عنه الآن، لن تجديه، سيتخطفهُ غيرك...
"هذا فستان أم قطعة لحمة؟!"...
- اسمعي، بوسعك أن ترتدي عليه وشاحاً بمثل لونه، لدي واحد في خزانتي..- ألم تنتهين بعد، لقد أصابني الدوار من السير وراءكن.
أتاهم صوت "عمر" مزمجراً من الخلف، فغضت "غدير" بصرها بإرتباك، ردت "ندى" مدافعةً عن نفسها:- أنا قد انتهيت و "شيماء" منذُ قليل، زوجتك هي من أخرتنا..
لكزتها هذه الأخيرة بمرفقها، فصاحت متوجعة، أما "عمر" فلانت ملامحه الغاضبة وقال بهدوء:- ألم يعجبكِ شئ؟!
تطلعت "غدير" إلى "ندى" لكأن تنتظر منها أن ترد.
- إنهُ يسألكِ أنتِ وليس أنا.تطلعت للأرض وهي تهمهم بصوت غير مسموع...
خاطبت "ندى" أخيها بعد أن امتنعت تلك عن الكلام:
- لقد أعجبها هذا الفستان لكنها تقول...ولم تكمل، إذ سرعان ما وضعت "غدير" كفها بسرعة على فم "ندى" مانعةً إياها من أن تنطق المزيد..
تطلعت إليه لأول مرة منذُ الأمس ووجهها يتضرج إحمراراً:- سآخذه، لقد انتهيت من الشراء، أليس كذلك؟!
هزت "ندى" رأسها بالإيجاب وهي تكاد تختنق...
أما "عمر" فقد بقي ينظر إليهما بدهشة وهما تبتعدان وكلٌّ منهما تدفع الأخرى...وجالت عبارة "أصحاب العقول في راحة!!!" في ذهنه طويلاً....
تُرى من قالها؟!!
وضعت "ندى" العذر الطبي الذي أخذته بالأمس من الطبيب في حقيبتها كي لا تنساهُ في الغد....
لقد غابت يومين كاملين عن العمل بحجة المرض ، وأغلقت هاتفها كي لا تتصل لها تلك "العقربة" أو "أشجان" ويخبرنها بردة فعل المدير فتفسدان عليها فرحتها...
فلتهنأ براحة البال ولو مؤقتاً، فالليلة حفلة ولا بد أن تكون هي النجمة بلا منازع!!!
أخذت تتطلع إلى نفسها في المرآة، تستوثق من ملابسها و مكياجها، تضيف وتمسح، وهكذا دواليك!!
وفي الجانب الآخر، كانت "غدير" حابسةً نفسها في الحمام، لا تفتأ أن تثبت الوشاح حولها بضيق، فوجوده أو عدم وجوده سيان!!!
ماذا تفعل الآن؟!
إنها لا تتبع إحساسها، لا تتبع حدس الأنثى أبداً!!
كيف ستخرج، مستحيل أن تذهب هكذا، هذا من رابع المستحيلات!!ودت أن تلقيه في القمامة، لكنها استدركت نفسها، فهو ليس ملكها...
فتحت إكرة الباب وهي تنادي:- "ندى"...- نعم، ماذا تريدين؟- وشاحك هذا لا ينفع؟!ردت عليها وهي تعقص رموشها:- إذن لا تلبسيه.- ماذا؟!- لم تعطين المسألة أكبر من حجمها الحقيقي، يا ماما هذه حفلة نسائية..
- أنتِ لا تفهمين..- أفهم ماذا؟!
- لا شئ...
- - لم أتوقعكِ هكذا من العصر الحجري مثل مديرنا.. قالتها بصوت هامس، ثم هزت رأسها لكأنها تريد أن تنفض ذكراه من ذهنها.
- والحل؟! سألتها بنفاذ صبر.- أخرجي وسأجد لكِ حلاً بإذن الله..
ترددت "غدير" كثيراً في الخروج، لكن ما باليد حيلة، لفت الوشاح عليها من جديد وهي تمسكه من الخلف كل حين...
وما أن خرجت حتى صفرت "ندى" تصفيرة إعجاب "فاشلة":- تبدين رائعة.- شكراً. ردت "غدير" بتواضع، ثم أردفت:- وأنتِ أيضاً.تطلعت "ندى" لنفسها بزهو في المرآة وهي تقول وابتسامة كبيرة على وجهها:- بالتأكيد هذا أمر لا نقاش فيه!!!!!!!- والآن جدي لي حلاً يا "أبو العريف"..- استديري لأرى..
- اعطني وشاحاً آخر أكبر من هذا فقط..- ما بك؟ سأتأكد أولاً أي الأحجام تناسبك..
عادت "غدير" لتثبت الوشاح جيداً بيدها اليمنى بإرتباك، ونظرات "ندى" المستغربة لم تساعدها...- أ..أ..ستــ..ستعطيني وشاحاً آخر أم..أم لا؟
هزت "ندى" كتفيها وهي تتنهد من غريبة الأطوار هذه:- لحظة واحدة...فتشت في ملابسها المبعثرة إلى أن وجدت شيئاً مناسباً..- خذي هذا..تناولته منها بسرعة، وعادت للحمام مرة أخرى ونظرات ندى التي كادت أن تقع تلاحقها...
وأخيراً خرجت وفي وجهها شئ من الرضا وكثير من الإحراج...
لكن "ندى" لم تعلق وعادت ترتب خصلات شعرها المتناثرة بتمعن مصطنع..
جثت "غدير" لتبحث عن حذائها الأسود المخبئ أسفل سريرها، وبينما هي منشغلة في البحث، غافلتها "ندى" بحركة مفاجئة وسحبت وشاحها، وهي تضحك بلؤم:- ألديك وشــم أم...
لكن ضحكتها لم تكتمل، إذ سرعان ما شهقت بقوة وهي تسقط الوشاح من يدها...
وضعت يدها على فمها وهي تتراجع إلى الخلف حتى اصطدمت بالباب:- آنا آسفة، لم...لم أقصد، يا إلهــي...
وفرّت من الغرفة وهي تحبس دمعة خانتها على حين غرة...
أما تلك القابعة ليس ببعيد، بقيت هكذا ردحاً من الزمن جامدة في مكانها وهي تمسك ذلك الوشاح المتطاير...الأيام لا تخبئ أحداً، أليس كذلك؟!!
كانت يدها اليسرى ممتدة على حافة السرير، و الأخرى قابضة على عنقها المطرق إلى الأرض بوهن.
نظرت بذبول إلى القدمين اللتين اقتربتا منها بوجل، رفعت رأسها فجأة فاصطدمت بتلك العينين الخضراوين، في مرآتهما تساؤل وشفقة و......!!!!
ابتعدت لاشعورياً عن السرير وجسدها يرجف من الهلع، دنا منها فصاحت بصوتٍ مبحوح:
- ماذا تريد أنت الآخر؟!
- لم آتِ لشيء، اطمأني..
- أ..أخرج، أخرج من هنا.
- أريني ما بظهرك أولاً.
- ليس بي شئ أتسمع.
- لا تخافي لن أفعل شيئاً، لن أقترب حتى، أريني من بعيد.
تراجعت إلى الوراء وهي تضم يديها خلفها، لصقت نفسها بالجدار وصدرها يعلو ويهبط بقوة واحتقان...
- لا تقترب مني ولن أريك شيئاً، أخرج من هنا، أرجوك أخرج....
- لن أخرج قبل أن أطمأن عليكِ..- قلتُ لك ليس بي شيء.- إذن أريني...
جالت ببصرها حول الغرفة بيأس، ثم نظرت إليه وهي تقول له بإستعطاف:
- أرجوك أخرج قبل أن يأتي خالي، أتوسل إليك.
لم تنتبه إلى وشاحها الحريري الذي انحسر فجأة عن كتفيها، ملس بسهولة، انزلق حتى وصل لأصابع قدمها ثم تدحرج بعيداً عنها......
حاولت أن تثني جذعها لتلتقطه، لتلفه عليها من جديد، لكنه سيراها، سيرى ما بها، تطلعت إلى الوشاح بعجز ثم هزت رأسها بألم.ركع للأرض وانتشله، نظر إليه مطولاً ثم مده إليها، يداها لاتزالان مضمومتان إلى الخلف، تحيطان بظهرها، نزعت إحداها وهي تشعر بالثقل، مدتها وما أن لامست أصابعه حتى شدها إليه وبقوة......
ارتطمت به بفعل القصور الذاتي، مسكها من كتفيها كي لا تسقط، حاولت أن تبعده، أن تدفعه، لكن يداه كانتا كالصخر...
ضربته بما تبقى لها من قوةٍ متلاشية، ضربته بجنون وهي تحاول التملص منه....صرَّ على أسنانه وهو يهزها:
- اهدأي ...
- دعني، خاليييييييييييي.
لم ينصت لها، أدارها ليرى ما كانت تخفيه، مرّت ثانية و لم تشعر إلا بوقع أصابعه تنغرز بقوة على كتفيها...
الجسد يرجف، ينوءُ بما يحمل، سكنت عن المقاومة، اهتز جسدها بقوة ويداه لازالتا مثبتتين تمنعها من السقوط أو الهرب....
بكت بصمت وإن أفلت منها صوتٌ متقطع...
أحست بالعار، بالمهانة، ها هم اكتشفوا أحد أسرارها الخاصة بها وبأوراق دفترها، ماذا سيبقى لها بعد إذن؟!!
أتاها صوتهُ أجشاً كابتاً إنفعاله:- من فعل بكِ هذا؟غطت وجهها بكفيها، أتاه صوتها متقطعاً، راحلاً، غائباً في زمن لا يملك إلا الغبار!!!
- لا...لا أحد..- كفي عن الكذب.
حاولت أن تبتعد عنه.
ردّ بإصرار:
- ليس قبل أن تخبريني، حميد، أليس كذلك؟
سكنت حركتها وكأن اسمه كان كفيلاً بإيقاف أي شئ، أي شئ...
- متى وكيف ولماذا؟ أجيبي...
الأسئلة تتوالى، تتدافع بقوة زخات المطر، وسيلان السم!!!
الجروحُ تنكأ، والماضي يُنبش، ولم يتبقى من الورق الشئ الكثير!!!
أمسكت عنقها وهي تشعر بالإختناق، أدارها لتنظر إليه....
أبعد يدها عن جيدها:
- أخبريني بما حدث..- ليس لدي شئ لأخبرك إياه.
عاد ليهزها من جديد، لكنها كانت تصرُّ على شفتيها من جديد:- لن أدعكِ إلا بعد أن تخبريني بما حدث.
- ماذا أقولُ لك. صاحت في وجهه وقد عادت إليها نوبة الشراسة.
- أبي قد يأتي في أي لحظة!!! قالها بتهديد.
عادت لتحاول سحب يدها وهي تنادي بندى وشيماء لكن أحداً منهن لم يكن ليسمعها...
تطلعت إلى العينين الصارمتين بيأس وهي تتلفت كل حين خشية أن يأتي خالها، صرخت بألم:- تريد أن تعرف؟!- أجل. رد بهدوء.تنفست بتقطع وهي تطالع البعيد:- هو طلب مني أن أكوي له ثوبه، صدقني لم أكن أقصد أن أحرقه، لا بل قصدت، لا بل لم أكن أقصد، كنتُ أتمنى حرقه في خاطري ولا أدري كيف أحترق..
أرخى ذراعيه شيئاً فشيئاً فهامت روحها، ارتحلت لبضع سنين إلى الوراء، حين كانت تملك جديلتين، جديلتين فقط!!!
الصوت يبتعد، يخبو، والعينين تدكنان وتعكسان صفحة ألم:
- ضربني ووضع المكواة على ظهري و....ورفعت رأسها إليه وهي تردد ببطء، ثم ما لبثت أن هزت رأسها بعصبية:- حرقني، حرقني، طبع على ظهري العلامة الكريهة، بتُ أكره نفسي، أكره أن أراها في المرآة...
شدته من ياقة قميصه بعنف، الصور تتضح، تومض وتنطفئ، ولم يتبق من الألوان إلا الأبيض والأسود!!
- وهي، هي، لم تفعل شيئاً، لم تقل له شيئاً، فقط وضعت لي مرهماً، حتى المستشفى لم يرضى أن تأخذني إليها، وتقول لي إنها أمك، وهي مسكينة!!!!
وحينها فقط أفلت يدها....
وانزوت بجانب سريرها تبكي بصمت...
بقيا هكذا زمناً ليس بطويلاً...
جثا بجانبها وبيده وشاحها، خاطبها بحنان:
- خذي، ارتدي هذه وامسحي دموعك.
لكنها لم تستجب، فألقاه في حجرها وهي تزداد انكماشاً..- هيا قومي، لقد بدأ الحفل..- لن أذهب.- بل ستذهبين.
رفعت رأسها، وقد بانت ابتسامة على محياه بين غلالة دموعها..- ألا تريدين أن ينبهر الجميع بجمالك كما تقول "ندى"..
أشاحت بوجهها كي لا ترى عيناه، كي لا تؤثرانِ بها!!!
مدّ لها منديلاً ورقياً، فأخذت تمسح وجهها، لكن ما أن رأت ما علق به حتى شهقت:- مكياجي؟!
رفع كتفيه بإستسلام، أن لا حيلة لي...
وأنهضت نفسها بسرعة وهي تنظر لنفسها في المرآة، لكن صوت استنكارها احتبس في حلقها، بعد أن رأت صورته بجانبها....
كسا اللون الزهري وجهها، فعادت لتتلعثم:- لو سمحت...- ماذا؟
- أخرج من هنا..- لماذا؟!!!- لأسباب كثيرة..- مثلُ ماذا؟!
تطلعت إليه بحنق من أسئلته السخيفة، ثم عادت لتصرخ:- هيا أخرج...
وابتسم لها بإغاظة وهو يشير لها بعينيه الأثنتين..
تابعته إلى أن وصل الباب، لكنهُ تلكأ وعاد ليقول:- لقد نسيتُ شيئاً..- ماذا؟!
- أن أقول أنكِ تبدين جميلة جداً هذا المساء....
وانصرف!!!
وأُسقط في يدها...."صدقني يا عمر، أنا لا أستحقك!!!!!"....
علا كثيراً بيننا الغبارُ
وضيّع اليقين الاستكبارُ
فأنت لم تنجح أمامي مرةً
وكل يومٍ بيننا اختبارُما عدتُ أدري هل أقول: يا أخي
بالحبّ أم أقول: يا جبّارُ!!!
|