كاتب الموضوع :
شذى وردة
المنتدى :
القصص المكتمله
وضعت يدها أمام وجهها لتحجب عنها نور الشمس الساطع في قلب السماء...
وجدت الباب مفتوحاً على غير العادة و ولجت إلى الداخل...
انتابتها رعدة، ليس من الجو، فهو أقيظ من أن يرسل رعدةً إلى جسدها النحيل، ولكن من تلك الرياح التي تصدرُ صوتاً كالعواء كل حين!!
أمسكت بالعلبة بتؤدة و هي تتفقد المكان بشجاعة..
ماذا سأخسر بعد؟!!
لاشيء!!
و تنهدت بعمق و هي تطرق الأماكن، كل الأماكن و كان آخرها غرفتها...
الغرفة خاوية، ليس منها فقط، بل خاوية من عروشها، من كل شيء!!!
أتراهم رحلوا!! تركوا المكان!!
كلا، كلا، مستحيل، كانت ستخبرني، أمي لن تتركني، لن تتركني هي الأخرى...
وأرادت أن تفتح فمها لتنادي عليها، لتزلزل أركان هذا البيت المتهدم، لكن صوتها اختنق، احتبس في حنجرتها، هي لم تعتد يوماً أن ترفع صوتها في هذا المكان...
و سقطت العلبة من يدها، تدحرجت على الأرض و تبعثر ما فيها و هي تسير كالخيال....
تراخت ركبتاها و استمرت في السير على الرمال حافية القدمين دون أن تشعر بلسعتها...
بدت غائبة عن الوجود و هي تتلفت حولها بضياع...
و تنفست الصعداء و هي تلمحها تنشر الغسيل على الحبل في الجانب الخلفي...
هناك حيثُ رأته يدخن سيجارته...
هناك حيثُ ابتدأت الشرارة الأولى و انقلبت حياتها!!
هرعت إليها و هي تطوقها من الخلف بلهفة، وأحست برعدتها تسري في جسدها كالتيار...
مدت الأم يدها ووضعتها على يدها الصغيرة دون أن تلتفت، لربما لتتأكد من هويتها، أو كي لا تفيق من حلم نسجهُ خيالها المتعب..
- أمي..نادتها بصوتٍ متهدج.
واستدارت لها دون أن تفلت يدها من قبضتها و هي تنظر لها دون تصديق..
مررت أنامل يدها الأخرى على وجهها النحيل لتتحسسه...
أهذه أنتِ فعلاً؟!!
و ضمتها إلى صدرها و قلبها يخفق بإضطراب، كأنفاسها اللامنتظمة، المنفلتة من حنجرة الزمن...
- سامحيني يا ابنتي، سامحيني.. قالت بغصة.
- لم يكن هذا ذنبك.
أبعدتها عنها و هي تقول بعزم الأمومة:
- سأذهب إليه وأخبره.
- لا فائدة يا أمي، إنهُ لن يسمع..
- سيسمعني أنا، رغماً عنه سيسمع، ما كان عليكِ أبداً أن تسكتي، كان عليكِ أن تخبريني و تخبريه..
- أقولُ لكِ لا فائدة، لقد سافر و لن يعود..
- لا يهم، سأنتظره ولو بعد مائة عام..
- لا جدوى يا أمي، لقد طلقني..
ودفنت رأسها في صدرها من جديد و هي تبكي بصمت...
- طلقكِ!! رددت بذهول.
- قلتُ له لم أفعل شيئاً لكنهُ لم يصدقني..
- طلقكِ!! كررت و هي تطالع وجه ابنتها بألم.
- أأنا قذرة يا أمي؟! سألتها بصوتٍ مبحوح.
صاحت بإرتياع و الغصات في جوفها تتلاحق:
- إياكِ أن تقولي هذا، أنتِ ابنتي، أنا من ربيتك بيدي هاتين، أنتِ أطهر مخلوقة على الأرض..
- إذن لم يعاقبني هكذا؟! أنا أحبه يا أمي..
و خنقتها الغصة و هي تعضُّ على شفتيها لتمنع شهقتها..
ثم أردفت بنشيج:
- أنا لا حظ لي، لا حظ لي..
ارتفع صدر الأم بإجهاد و هي تشعر بوخزات قوية في قلبها، في سويدائه...
ابعدتها عنها مرةً أخرى لعلها تلتقط أنفاسها..
صاحت بإختناق:
- أنا من أفسدتُ حياتك، أنا السبب...
- كلا، أنتِ لا ذنب لكِ.
- أنا أمك و كان علي أن أعرف..
ولطمت وجهها بعنف و هي تتراجع للوراء:
- أيُّ أمٍ أنا!! أنا لا أستحق..
- كلا أمي، لا تجعليني أندم بأني أخبرتك..
وأبعدت يديها عن وجهها و كادت تتهاوى لكنها أمسكتها في اللحظة الأخيرة..
- ادخلي لترتاحي، أنتِ متعبة..
- لا بد أن أنشر الثياب. ردت بأنفاس متهدجة.
- أنا سأنشرها بدلاً عنكِ..
ابتسمت في وجهها بوهن فأضاء، علقت بصوتٍ حالم:
- لا تتعبي نفسك، إنها ثياب لا يرتديها أحد..
رفعت "غدير" بصرها نحو قطع الملابس، كلها ملابسه!!
- "مجيد" أُلقي في السجن..
وعاد وجهها ليتقلص ببطء و هي تضع كفها ناحية قلبها بألم:
- لقد حطم زجاجة على أحدهم، و الصبي في حالة خطر..
و سمعتا صوت صفيرٍ عالٍ يقترب منهما قطع عليهما الحوار، التفتت "غدير" بسرعة ناحيته..
- أهلاً، أهلاً، كيف حالُ عروستنا الصغيرة!!
- ...................
- اممممم لا بأس بك وإن نحفتِ قليلاً!! ألا يطعمونكِ هناك؟!
- ..............
- إن شئتِ أن تعودي هنا فلا مانع، أمك الآن تشعر بالوحدة، كثيرٌ أن تفقد ابنها وابنتها في نفس الوقت، ألا ترين ذلك؟!
- ......................
ثم تقدم منها و هو يحني رأسه بخبث:
- وكيف حال زوجك؟!
رمقته بنظرة احتقار، كرهٍ عميق، بعمق جوف الأرض:
- لا تذكر زوجي على لسانك أيها القذر..
تقلص وجهه فجأة منصدماً من جرأتها، ثم ما لبث أن لانت ملامحه و هو ينطق بتشدقٍ ساخر:
- أين كان لسانُ القطةِ مختبأ طوال الوقت؟!
- لو تعلم كم تثير رؤيتك في نفسي الغثيان أيها الحقير..شددت على الكلمة الأخيرة.
و رأته يهم برفع يده فابتعدت و هي تصيح بتهديد:
- إن مددت يدك ستندم، لا حق لك علي الآن فأنا...متزوجة!!
تطلع إليها بحقد و هو يردف بصوتٍ مصرور:
- أنتِ محقة، لكن ماذا عن هذه؟!
وصفع الأم الذاهلة عن الجميع صفعةً قوية أطاحتها على الأرض...
و دلف!!
تراخت ركبتاها فركعت على الأرض بجوارها...
- أمي، أمي.. هزتها من كتفيها وهي تناديها بصوتٍ مبحوح.
- ...............
- قومي معي، انهضي...
فتحت عينيها بضعف و هي تتمتم:
- لا... أقدر يا ابنتي..
- أتؤلمك كثيراً؟! سألتها بلهفة و هي تمرر أناملها على خدها المتغضن .
- كلا يا ابنتي. وابتسمت بوهن.
- سامحيني، سامحيني. خاطبتها بغصة.
و سكتت...
رفعت أصبعها إلى فمها و هي تخاطبها بعتابٍ قديم، بعمر السنواتِ الخوالي...
- أماه، لا يجدي السكوت، ألم تقولي ذلك؟!
اهتزّ جسدها بعنف و هي تردف بتقطع:
- أمي أتذكرين بدلة والدي، بدلته الرمادية، لا شك تذكرينها..
- ...................
- أراد "حميد" أن يرتديها، سمعته يسألكِ عنها..
ومسحت ما بين أنفها وهي تكمل:
- وسكتِ كعادتك، لكنني لم أرضى، لم أكن لأقبل بأن يرتدي ذاك الحقير شيئاً به رائحة والدي، مثله يلوثها أليس كذلك؟!
- ........................
- أنا من سرقتها، أنا من أخذتها من خزانة غرفتك..
- ....................
- لقد ضربك حينها، كنتِ تعلمين أني من أخذتها و سكتِ...
- ......................
- من منا من يسكت ها؟! صاحت فيها بعتاب.
وأجهشت بالبكاء وهي تنشيج بصوتٍ متقطع كنشيج الميازيب في مواسم المطر...
وبقيت هكذا على صدرها وهي تغرقها بدموعها....
رفعت عينيها الذاويتين وهي تتطلع لها بألم، خاطبتها بهمس:
- لا تذهبي أرجوكِ، لا تتركني..
- .....................
- لا تذهبي قبل أن تسامحيني، لا تذهبي.
- ....................
وأفاقت من يأسها وصاحت وهي تهزها من جديد بقوة..
- من سيبقى لي من بعدك، أأتيتم مرة أخرى، ألا تخشين الله؟!!
ثم قالت فجأة وكأنها تذكرت شيئاً:
- لقد جلبتُ لكِ وشاحاً، لقد صنعتهُ بنفسي، تعرفيني لطالما تفوقت في حصة "الكروشيه"..
- .................
- أتريدين أن تريه؟! لحظة، لحظة انتظريني..
و هرعت من مكانها على عجل و هي تجري حيثُ ألقت العلبة، أخذت تفتش عنها بعينين لا تريان حتى وجدتها....
و تعثرت في جريها فسقطت على الأرض، لكنها تحاملت على نفسها حتى وصلت إليها:
- انظري إليه يا أماه، أليس جميلاً، لونه أخضر كلون عينيه!!
- .........................
- لا تنظري إلي هكذا بعينكِ المفتوحتين، أعلم بأني كاذبة، أنا لا أستطيع نسيانه، لا أحتمل البعد عنه...
- ........................
- اصبري سأضعهُ عليكِ، ستصغرين عشرة أعوام كما كان أبي يقول لكِ ذلك...
و رفعت رأسها و هي تحاول تثبيته بإصرار رغم اهتزاز يدها...
- أرأيتِ كم تبدين جميلة..
- ...................
ثم أحاطت وجهها بيديها المرتجفتين وهي تخاطبها بصوتٍ خافت:
- أقلتِ لكِ من قبل أني أحبك، أنا أحبك يا أمي، أحبكِ كثيراً...
- .........................
- أعلم بأنكِ غاضبة مني، أنا أعلم بأني ابنة عاقة، لكنني سأتغير أقسمُ لكِ بذلك...
- ........................
- سأعمل وأُعيلك بنفسي و سنعيش سوياً، قدر الابنة كقدر أمها، كلانا ليس له حظ في هذه الدنيا، لذا لا بد أن نكون معاً...
- ......................
- ألا يعجبك كلامي، ما بالكِ تسكتين؟!
وضمتها إلى صدرها بقوة وهي تنتحب بصمت...
- غداً ستستيقظين أليس كذلك؟!
- .....................
عادت لتهزها بقوة وهي تصيح فيها:
- لا تموتي الآن، امسحي على شعري أولاً...
- ...................
ثم اقتربت منها و صرخت بهستيرية:
- امسحي عليه، هكذا يفعلون باليتامى أولاً..
- .........................
- أمااااااااااااااااااااه..
وشهقت شهقةً قوية كادت أن تخرج معها روحها....
الرياح في الخارج لازالت تعوي ربما لتصمّ الآذان عن صرختها.....
انتظروني في الجزء ما قبل الأخير....
تحياااتي لكم...
لاأناام...
انظرُ للوراء رغم أنفي
و كيف أنكرُ الهوى و أنفي!!
جربتُ أن أنساكِ يا حبيبتي
و صبًّت لي الأيامُ كلّ صنفِ
فلم يُطع قلبي فهل أسحقهُ
بكلّ ما في قبضتي من عُنفِ!!
=========
(23)
" ما قبل الأخيـــــر "
- "ندى" انظري، شهاب!!
ابتسمت تلك الأخيرة ابتسامةً باهتة و هي تتابع ذلك الامتداد الطويل الذي ينثر ذراته البيضاء في السماء...
- ماذا ستتمنين؟! سألتها بحماس.
- ما عادت تجدي الأماني. ردت بغصة و هي تضع رأسها على كتفها..
- كلا، لا تفقدي الأمل، أنتِ من قال لي ذلك..
- لقد مرّ شهران، شهران يا "غدير".. ردت بمرارة.
- أعرفُ ذلك. ردت بخفوت و قد فارقتها الابتسامة.
عادت "ندى" لترفع رأسها لأعلى و كأنها تخاطب السماء:
- لقد نلتُ تقديراً مرتفعاً لديه، تصوري كتب لي توصية!!
- أليس هذا ما كنتِ تريدينه؟!
صاحت بألم:
- أنا لم أعد أبالي بذلك، أنا أريد...
و سكتت دون أن تنبس ببنت شفه...
احترمت "غدير" صمتها و شردت في خواطرها هي الأخرى...
و انتبهت لشيءٍ ما على الأرض فاحنت جذعها لتلتقطه و هي تقول لندى بخفة:
- ما رأيك أن نغير هذا الجو الكئيب، فالنتسوق اليوم أو نذهب للبحر أو...أو نزور متحف البحرين، أتصدقين لم أرى آثار بلادي قط!!
وضحكت بأريحية و هي تردف:
- أتعلمين سأتعلم السياقة، أجل لا بد لي من ذلك، وسأعود لمقاعد الدراسة، سأذهب للجامعة..
- ....................
ثم أردفت بغموض و كأنها تكلم نفسها:
- سأفعل كل شيء، كل شيء أريده، كل شيء حُرمت منه..
ثم هزت رأسها لتبعد خواطرها و سحبت "ندى" من يدها و هي تخاطبها بمرح:
- حتى السينما إذا شئتِ سأذهبُ معكِ!!
- لقد تغيرتِ كثيراً يا "غدير".. طالعتها بإهتمام.
- أليس هذا أفضل؟!
و عبثت بشعرها الذي باتت أطرافه لا تتجاوز العُنق...
- لم أقصد شعرك القصير، لقد بتّ تشبهين الأولاد..
- و ماذا في ذلك، ليتني ولدتُ صبياً!
- لماذا؟!
- هكذا فقط!! ردت بفتور.
- ..................
- أتعلمين شيئاً سأصبغه أيضاً، أتخالين اللون النحاسي يناسبني؟!
- أجل لكن....
- لكن ماذا؟!
- ................
- لكن أمي لم تُكمل الأربعين، أهذا ما تودين قوله!!
- ......................
أشاحت بوجهها نحو قرص الشمس مُردفةً بخفوت:
- حين ذهبت ماتت "غدير" هي الأخرى، ، لم يعد لها وجود، وأنا لا أريد أن أذكرها، لا أريد...
- أنتِ تهربين من واقعك!!
- سمّه ما شئتِ، أنا لا أبالي.. ردت بإنفعال.
تأملتها "ندى"...
إنها لم ترتد حتى ثوب حداد على والدتها، فقط تكتفي بزيارتها في المقبرة بين الحين و الآخر....
لم تعد تسمع صوت بكاءها في الليل، بل تبقى معم الوقت صامتة، شاردة و قد تنتابها لحظات مرح مفاجأة كاليوم!!
إنها تبالي مهما أنكرت، مهما حاولت أن تصطنع الضحكة على شفتيها....
إنها تحاول أن تهرب فقط، و لكن إلى متى سيطولُ هروبها؟!!
سألتها "ندى" بلين مغيرةً وجهة الحديث:
- لم تقرري أين تريدين أن نذهب؟!
- نزور متحف البحرين. جارتها بإبتسامة صغيرة.
- و ماذا بعد؟!
غرزت أصبعها في خدها مفكرةً، ثم قالت بحماس:
- نذهب إلى الحديقة المائية...
- ثم ماذا؟!
- ثم، ثم نشتري اسكريماً كبيراً، بهذا الحجم، نلتهمه أنا و إياكِ و نحنُ نسير على البحر!!
- ثم ماذا؟! كررت بحماس هي الأخرى.
- بعد ذلك نعود للمنزل..
وضحكت الفتاتان معاً...
- صه، هذا صوتُ والدي يُنادي..
- حسناً سأذهب إليه.
- ناداني أنا و لم يقل "غدير"!! و مدت لها لسانها لتغيظها.
- أعرفك تغارين مني لأن خالي يحبني أكثر منكِ..
- هذا في أحلامك فقط..
و تسابقت الفتاتان و هما تنزلان من على السلم و كل واحدة تحاول شد الأخرى كي تمنعها من الوصل..
- لقد أفسدتِ تسريحة شعري. صاحت "ندى" بإستنكار و هي تُعيد تصفيف شعرها.
- انظري أيضاً ماذا حدث لقميصك!!
- ماذا حدث له؟! سألتها بخوف.
- لقد تمزق من الخلف!!
شهقت "ندى" وهي تستدير و تسحب ذيل القميص لترى..
فاغتنمت "غدير" الفرصة و تجاوزتها و هي تضحك بأنفاس متقطعة...
- أيتها الكاذبة، سأُريكِ...
قاطعتها و هي تستدير لها قليلاً:
- تعالي إن استطعتِ شيئاً...
و اصطدمت بشيء فكادت أن تسقط على الأرض بفعل القصور الذاتي لولا أن أمسكها ذاك الشيء...
أخذت تطالعه مصعوقة و كأن على رأسها....
انتبهت لنفسها فتراجعت للخلف بإرتياع ثم عادت لترتقي السلم من جديد بإضطراب ..
و التقت بندى في منتصف الطريق، خاطبتها بإستغراب:
- لماذا عدتِ؟!
هزّت رأسها ببطء:
- لا شيء، لا شيء...
و أوصدت خلفها الباب، لعل وجيبها يهدأ قليلاً أو يعود لغفوته من جديد!!!
==========
- مبروك يا سيدتي أنتِ حامل!!
و تهاوت على الكرسي بذهول..
ابتسمت لها الطبيبة في وجهها مُعلقةً:
- كم أنا سعيدة من أجلك، أو بالأحرى من أجلكما، سيسعد زوجك كثيراً....
- ........................
- اسمعي منذُ اليوم جميع الأدوية المهدئة التي وصفتها لكِ تمتنعين عنها كلياً، و لا تتناولي أي شيء إلا بعد استشارة الطبيب...
- ......................
- ما بالك صامتة، هل ألجمتك المفاجأة!!
رفعت "شيماء" رأسها بتعب و هي تسألها بصوتٍ منخفض:
- في أيّ شهر؟!
- في الشهر الثاني..
فتحت فمها المرتعش لتصرخ، لكنها أمسكت نفسها بشدة...
أطرقت للأرض و أنفاسها تضيق شيئاً فشيئاً، خاطبتها بإختناق:
- أأنتِ متأكدة؟!
- بالطبع!!
- ربما كنتُ في الشهر الثالث أو الرابع، أو أي شيء، أي شيء!!!
تطلعت لها الطبيبة بإستنكار و قد عقدت حاجبيها:
- يا عزيزتي أنتِ لازلتِ في البداية، أنا متأكدة، كنتِ ستلاحظين ذلك بنفسك...
"ألاحظ!! أنا لم ألاحظ شيئاً، و لم أشرب شيئاً، صدقوني!!"...
عاد صدرها لينقبض من جديد و هي تردف بتقطع:
- أنا لا..لا أريده.
- لا تريدين ماذا؟!
- لا أريد ط..فلاً، أنا لستُ حاملاً، لستُ حاملاً، لا أريد هذا الطفل..
- يبدو أنكِ متعبة، سأنادي "ناصر" من الخارج..
- انتظري!!
صاحت و كأن ذكر اسم زوجها كان كفيلاً بإعادتها إلى صوابها.....
وقفت على قدميها و هي تتلمس وجهها بإرهاق:
- أنا أعتذر، أنا بالفعل متعبة هذه الأيام، لا تخبريه أرجوكِ، سأقول له في البيت، أرجوكِ...
تطلعت لها الطبيبة بشك ثم ما لبثت أن تنهدت:
- لا بأس.
- ..................
- اسمعي يا "شيماء" أنتِ لستِ كأي مريضة تفد إلى هنا، فزوجك قريبٌ لي، لذا إن كان لديكِ أي شيء و تودين إخباري به فكلي آذانٌ صاغية.
- كــ..كلا، ليس لدي شيء أخفيه..
عادت الطبيبة لتتنهد ثم رسمت على وجهها ابتسامة:
- على العموم يمكنك أن تنصرفي الآن، و مبروك مرةً أخرى...
و خرجت من غرفة الكشف دون أن ترد و كأنها تفر من الجحيم....
التفتت على صوتٍ يناديها مقترباً....
- أنا هنا..
- ............
- ماذا قالت لكِ الطبيبة؟!
- لا شيء جديد!!! ردت بعصبية.
- قلتُ لكِ دعينا نسافر لكنكِ لم تقبلي..
- أرجوك أريد أن أعود للبيت، أنا مجهدة..
- حسناً حسناً، اهدأي...
==========
- إلى متى ستبقين هكذا، الشمس حارة جداً..
- ألازال هنا؟!
- إنه مع أبي في غرفة الجلوس..
- أينوي البقاء؟!
- لا أعتقد ذلك، أبي لن يسمح بذلك أبداً..
- أنا لا أريد أن أسبب مشاكل لأحد، و هذا بيته، أنا من ينبغي عليها أن ترحل..
- أجننتي!! ما هذا الكلام، ثم أين ستذهبين، لقد توفيت والدتك رحمها الله، ثم أنا لم أرى معه حقائب، لا بد أنه وضعها في الشقة..
- الشقة!!
و نهضت "غدير" من على الأرض و هي ترمق "ندى" بنظرة ساهمة...
- ماذا بك؟!
- لا شيء..
و سحبت وشاحها لتغطي به شعرها و هي تهم بالنزول...
- أين ستذهبين؟!
- إلى غرفتي!!
وأكملت طريقها بشرود...
==========
أحسبيها جيداً، أحسبيها يا شيماء..
وضغطت بيديها على رأسها بقوة..
شهران، قالت شهران!!!
لقد رحل منذُ شهران...
رحل الشيطان، أليس كذلك؟!!
لم تنظرون لي هكذا؟!
كلا، كلا، ليس كما تظنون!!
هذا طفلي و طفل "ناصر" أتسمعون!!
طفلي أنا!!
سأصبح أماً، سأسمع كلمة "ماما" أخيراً....
إذا كان صبياً سأسميه "خالد"، خالد ناصر!!
أليس جميلاً!!
لا بد أن يلاءم اسم الطفل اسمَ والده!!
و والده ناصر....
ما لكم تحدجوني بهذه النظرة!!
ابتعدوا عني، لا أريد أن أراكم، لا أريد أن أسمع ما تقولونه...
ما تقولونه كذب، زيف، خداع...
أنا لم أشرب شيئاً ولم أذهب لأحد...
وهذا الطفل طفلي، و طفل..ناصر!!!
دعوني أفكر جيداً، آه ماذا كنتُ أقول...
و مررت أناملها المرتجفة لتمسح دموعها الحارة التي بللت وجهها....
أجل، وإذا كانت فتاة سأسميها، سأسميها "نور"، نور ناصر!!
و شهقت و هي تصيح بمرارة:
أنا لا أريده، لا أريدُ أطفالاً...
هذا ليس ابني...
هذا ابن الشيطان!!
========
|