لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

قصص من وحي قلم الاعضاء قصص من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-06-23, 05:37 PM   المشاركة رقم: 6
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2008
العضوية: 99255
المشاركات: 11
الجنس أنثى
معدل التقييم: ماكينو عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ماكينو غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ماكينو المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: رواية في أروقة القلب إلى أين تسيرين للكاتبة أغاني الشتاء

 


[..الجـــزء الثـالث..]

,, حينما نخسر صديق ~
تطول بيننا قسوة المسافات و برودتها .. و نبقى وحدنا على رصيف العهد فاقِدين ..
أحاديث الروح انتهت ..!
صدى الصوت ضاع في مدى الريح ..!
انطفأت ليالي الألفة .. و اللقاء ..!
حتى ننام لاننتظر غداً .. لا نمد يداً ..و نهلك بُعداً ..
فأنّى للقلب من عزاء ؟ سوى برجاء .. ملامحٍ تمتد من ملامحه ..!




أفاقت بعدما سمعت أذان الفجر .. رغم أنها في الحقيقة لم تكد تغفو .. كانت كعادتها تدّعي النوم كي تقنع صغيرتها التي اشتعلت حماساً ليوم العيد تنام قليلاً .. و كم كانت المهمة صعبة هذه الليلة .. و هي بين كل لحظة و أخرى تظن أنها أخيراً قد غفت ..
لتفاجأها بسؤالها عن الوقت؟ و كم تبقى ليأتي الصباح ؟ و متى سترتدي ثوبها الجديد ؟ و متى سوف يذهبون لصلاة العيد ؟
و سلسلة أسئلة طويلة .. تجعلها في كل مرة تبدأ رحلة بث النعاس في عينيها من جديد ..
انسلت من جانبها بهدؤ .. حتى لا توقظها .. و هي تقف .. تزفر نفساً خرج ثقيلاً بضيقها ..
ثقلُ اعتادته بدأ يجثم على مشاعرها .. و السكون و الخمول يغطي حركتها .. وهي ترى نفسها دوماً خارج إيطار يوم العيد و فرحته ..
نسيت كيف هو الشعور بالفرح الصافي .. بالحماس .. و الحياة ..
حتى أيقنت اليوم في قرارة ذاتها أنها لن تعرفه يوماً .. و أدركت أنها ماعادت تهتم ..

حينما أنهت فرضها .. التفتت لملامح الفرحة الوحيدة التي تتوهج هذا اليوم بروحها ..
و هي ترى ذاك الفستان الأصفر المعلق ببهجته .. و بجانبه كامل تجهيزاته ..
فملأت نفسها ببهجة كاذبة تعلمت أن تصنعها داخل روحها .. لتجاري بها فرحة ابنتها .. و حماسها .. و ذهبت لتيقضها ..

قضت نصف ساعة بتجهيزها .. للعيد .. و فرحة العيد ..
متسللة لروحها ومضات فرح دافئة رغم ضآلتها .. من حماسها .. و ضحكتها ..
هي وحدها كيان سعادتها .. و هي الروح التي تحيا بها .. و من أجلها فقط ..
بدت ضحكاتها .. برقتها .. و لطفاتها .. كأعظم لطف قد يجبر تهشم الروح .. تجبر بها تكسراتها الأليمة لتسايرها دروب طفولتها و حياتها ..
كم تشكر الله على وجود هذه الصغيرة في حياتها .. و إلا لغرقت في ظلام وجعها السرمدي ..
و ما كانت لتمد يدها لأي نور قد يضيئه غيرها بقلبها المنطفئ .. المعتم .. المعدم ..
كانت هي تذكرتها للحياة ..للعفو .. لتنهي رحلة الفقد .. و الأسى الممتدة بروحها أعوام ..

:
:

و خرجتا معاً ..لتنزلا الدرج و حالما وصلتا للأسفل .. سبقت خطواتها الثقيلة .. صرخة وتين الفرحة ..
حين رأت الصالة تغرق بالبالونات البيضاء .. و الفضية .. و تنسيقات تلك الطاولة .. التي امتلأت بالحلوى .. و الهدايا .. لتركض لهم ..
تنهدت هي بإرتياح .. و هي تقف تراقب فرحتها .. و غرقها في محبتهم ..
لتبتسم بإطمئنان غشى قلبها .. و تغطي بيديها عينيها التي سرعان ما بدأت بذرف دمع الإمتنان .. و التقدير لهم ..

كعادتهم في السنتين الماضيتين .. منذ انتقلت هي و ابنتها للعيش معهم .. بعد وفاة والدها ..
أصبحوا لا يذهبون يوم العيد إلى بيت جدهم إلا بعد صلاة العيد .. فهم لا يذهبون حتى يملأوا روحها و صغيرتها بفرحة عيد ..
لولاهم كانت ترى أنها لا تستحقها ..
فقط تقبلها لأنها منهم .. تقبلها إكراماً لمحبتهم ..
و تقبلها تعويضاً للحياة الناقصة التي تعطيها تلك الصغيرة .. وهم يحاولون رسم ملامح كاملة لها ..

تقدمت منها سحاب لتحتضنها .. و هي تعاتبها ضاحكة ..
: يالله يا يمنى! يعني بتقولين إنك متفاجئة...ترى كل سنة نسويها
شددت من إحتضانها للحظات طويلة لعلها تتمالك تلك الأحزان .. التي تحاول دائماً دفنها بأقاصي الروح .. كي لا تخدش فرحتهم بها ..
و أخيراً ابتعدت عنها و هي تقبل خدها .. بمحبة كبيرة .. تملأها ناحيتهم .. لتتصنع المرح ..
: أدري بس أحب اعيش فرحة المفاجأة..الله يخليكم لي
تقدمت منها مزن لتحتضنها أيضاً .. و هي ترد عليها ساخرة ..
: ههههه المشكله إنك تصيحين ما تضحكين

ابتسمت برقة و هي تمحو دمعة أخيرة .. هطلت من عينها .. لتغرق معهم بتفاصيل فرحهم ..
ينساب لروحها ضياء ضحكهم .. و مزاحهم ..
تعلم أنهم اعتادوا على إعطاءها من فرحهم الكثير .. لكنها تخشى كل سنة أن يتناسوها .. أن يغرقوا بفرحة بعيدة عنها ..
و تترك على رفٍ بعيد من إهتمامهم ..
تخشى أن تبقى هي و طفلتها من بعدهم وحيدتان ..
و هم الملاذ الأخير لروحها .. و بعدهم لمن ستعيش ؟؟ و بمن ستحتمي ؟؟

~*~*~*~

خرجت إلى صالة شقتهم .. لتجد والدها و والدتها للآن لم ينزلا ..فوقفت تستعرض نفسها بزهو .. بعدما ارتدت فستان أخذته من ديمه ..
: يمـه وش رايك؟ أغير فستاني و ألبس هذا ؟
لتجيبها والدتها كالعادة بدون مجاملة ..
: مب حلو عليك..رجعيه لأختك أنتي خلقه سويده..تلبسين أسود بعد

كانت صبا سمراء كوالدها .. بشعر متموج بحدة كوالدتها.. بعكس أختيها اللتان .. ورثتا بشرة والدتهم البيضاء .. و شعر والدهم الذي كان حريري ..
هي فقط من التقطت الجينات الأسوأ من كليهما .. و كأنه لا يكفيها ذلك لتأخذ قصر قامتها من جدتها ..
: يمـــــــــــــــه !_التفتت إلى والدها_يبـــــه..شوف أمي تقول إني مب حلوة
أجابها والدها .. ليغيض والدتها كالعادة فقط ..
: قولي لها حلوة أو مب حلوة تراي طالعه عليك
التفتت والدتها إليه بإستنكار .. و كأنه ألقى عليها شتيمة ..
: لا والله ما طلعت علي..و لا تشبهني!! من صغرها كل من شافها قال أشين بناتك شكلها طالعه على أبوها
أجابها بلا مبالاة .. وهو ينظر إلى ملامحها بنظرة هازئة ..
: ايه لأنهم يشوفونك بالمكياج..و الشعر المضبط..خليهم يشوفونك اللحين يقولون تشبهين لها
ردت عليه بغرور .. و ثقة .. لا تهمها كلماته الساخرة منها ..
: والله المكياج ما يضبط إلا على الحلوة و إلا بنتك حطت و إلا ما حطت..خشّتها كنها أنت و أنت صغير..على بالك ما شفت صورك عند خالتي

بدأوا كعادتهما يتجادلان .. و كأنهما قد نسيا وجودها هنا .. حتى شعرت والدتها بالغيض .. للحد الذي جعلها تغادرهما ..
فانسحبت هي أيضاً لتعود إلى غرفة أختيها .. لتخبرهما ضاحكة ..
: طلعت و شعللتها بين أمي و أبوي ههههه مادري أنا الشرانية أو فستانك شراني
لتجيبها ديمه بلا إهتمام ..
: أنتي بكيفك عارفين إنك شرانية من زمان...بس فستاني لا تظلمينه معك
تدخلت بنان .. و هي تخرج من غرفة الملابس ..
: أصلاً متى أمي و أبوي سولفوا مع بعض بدون نغزات أو هوشات...ماشاءالله عليهم الردود كل واحد أقوى من الثاني
ضحكت صبا موافقة ..
: ايه عشان كذا أنا طالعة عليهم عندي فصاحة بالرد
لتسخر منها ديمه ..
: اللعانة صارت فصاحة اللحين!
لتؤكد صبا بفخر ..
: ايه كل عايلتنا لسانها سابقها...بس أنتم غندور و فينقر..مهجنات..أثرت عليكم عشرة رتيل و فقدتم السيطرة
هزت رأسها ديمة بإستخفاف ..
: طيب يا مسيطرة...يلا اجهزي عشان ننزل نسلم عليهم تعرفينا نضيع لحالنا
هدأتهما بغرور و عزة ..
: يلا...يلا اللحين أقود الهجن

~*~*~*~

كانت تسند ظهرها على وسائدها الوثيرة .. و أغاني العيد تصدح عالياً من مكبر الصوت في غرفتها ..
تتنقل بغرور .. و كثير من الرضا .. بين تلك الصور التي التقطتها قبل قليل ..
أناقتها اليوم مترفة .. بدت كنجمة سينمائية .. بقصة شعرها القصير .. و ألوانه الجريئة .. بهذا الفستان الذهبي .. و جاذبية ملامحها بهذا المكياج المتقن ..

كانت منذ ساعات الفجر الأولى وحدها .. تغرق في أناقتها .. تأخذ وقتاً طويلاً في الإختيار بين تلك الملابس الفاخرة .. التي كدستها لأن مزاجها قد يمل من شيء فتجد آخر يحل محله .. تدعي جاهدة أمام نفسها أن هناك ملامح عيد فيما حولها .. و أن شعور الفرحة لن يتخلى عنها هذا الصباح .. ولو كانت وحيدة ..

لكن حين أرسلت صورها الرائعة بفخر .. و ثقة .. أن لا أحد قد يفوقها أناقة .. و جمال ..
بدأت تقلب بين يديها .. تلك الفديوهات التي تكدست من صديقاتها .. و قريباتها .. لفعاليات العيد ..
فأدركت سخافة ما تفعله .. قدد تتفوق عليهم بالأناقة .. و الجمال .. و الترف الواضح فيما ترتديه ..
لكن هذه تفاصيل بدت تافهة .. و مهملة .. لعينيها قبل أعينهم .. أمام كل ماراح يمتلأ به يومهم .. من و أحداث .. و إجتماع .. و ضحك ..

فتحت حساب صبا .. و وجدت قصة طويلة من الفرح ..بدأت أحداثها من ليلة العيد التي كانت تجبر نفسها فيها على النوم لتبدو أجمل صباحه .. و هم على ما يبدو لم يغفوا لساعة .. ارتدوا مع رتيل ذات البيجامات الليلكية .. لتطول سهرتهن بتلك التفاصيل السعيدة .. زاخرة بالضحك .. و المفاجأت .. و الهدايا و المقالب التي لم تغفل عن توثيقها ..

حتى سحاب .. في تلك العائلة .. البسيطة .. الصغيرة .. هناك إحتفال .. مفاجآت ..و لمة أهل .. لا أحد صباح العيد وحده .. سواها !!

رفرفت أهدابها لتمحو تلك الدمعات التي كادت أن تتجمع في عينيها .. لتأخذ نفساً عميقاً .. تبتلع ضيقاً اجتاح صدرها ..
و أغلقت هاتفها لترميه على السرير .. و تذهب إلى منضدة الزينة تلتقط عطرها بعصبية .. و تغرق نفسها فيه ..

خرجت من غرفتها أخيراً لتنزل .. فضيوفهم على وصول .. لتجبر نفسها على الإنخراط بهذا العيد المتكلف .. و الحضور الرسمي .. الثقيل .. لمعارف و أصدقاء أبيها ..
هي ساعات فقط حتى ينتهي هذا الحفل المتكلف .. لتذهب إلى بيت جدها ..
تعيش شعوراً أبسط .. و أجمل .. يوماً عن يوم تصبح بعيدة بمشاعرها عنه .. لكنها مازالت تتوق إليه ..

:
:

كانت تمشي في الممر بملل .. قبل أن تبتسم حين عبق الجو بعطره الآسر .. بلمحة غموضه الشرقية ..
التفتت لتجده كما توقعت .. يخرج من غرفته .. لتسدير و تذهب للسلام عليه ..

اقتربت منه .. بالكاد تصل إلى خده لتقبله .. بعد أن ارتدت كعبها العالي جداً ..
تكاد تختفي حين احتضنها بين صدره العريض و تلك الذراعين الضخمتين ..
:كل عام و أنت بخير
ليجيبها و عيناه العميقتين لا تغادر ملامحها الحزينة ..
: و أنتي بخير و سلامة...ليه هالتكشيرة ؟
أمالت جانب فمها بملل .. لتعترف بصدقٍ لا يظهر أحياناً .. إلا له ..
: من يوم صار أبوي لازم يسوي العيد في بيتنا و العيد خنقة و ماله طعم..يالله يوم كنا من ليلة العيد نروح لبيت أبوي حماد كان صدق اسمه عيد
سألها ببرود ..
: ليه ما رحتي عندهم قبلنا؟
ضحكت بسخرية ..
: أبوي مرسل قبل دقايق يوصيني أهتم بمين و أركز على مين من الضيوف...هههه حتى ماقال لي كل عام و أنتي بخير! و تبيه يرضى يخليني أروح؟

ملأ ملامحه الوجوم وهو ينظر إليها .. يخشى عليها أن تصل إلى مرحلة الإستسلام .. و الإنهزام الذي وصلها هو ..
مازالت صغيرة حتى تتخلى عن حياتها .. و فرحها من أجل مصالح والدهما .. زفر بضيق وهو يسألها ..
: كلمتي غالب..بيجي للبيت؟
هزت رأسها بعتب ..
: كلمته بس ما رد... و كلمت دانية قالت لا بيروحون لبيت أبوي حماد...ماشاء الله عليه غالب مو بس ارتاح من الشغل مع أبوي..لا تزوج دانية عشان يقرب من عماني أكثر و يبعد عننا و يدري إن أبوي ماراح يقدر يعترض على هالشي بالذات!

كانت الحقيقة واضحة حتى لعيني هذه الصغيرة .. نعم فغالب تعلم الدرس سريعاً ..
و من أول خسارة .. نفذ بما تبقى من قلبه و حياته .. بعيداً عن براثن والده .. وحدهما مازالا عالقين ..
و لا يعلم لأي مدى سيتم إستنزاف حياتهما .. من أجله ..!!

~*~*~*~

خرج من غرفته إلى الصالة.. وحيداً .. في منزله الذي كان .. و ما زال .. حافظاً عهده مع أبدية الصمت .. و الوحدة .. و السكون ..
و خطواته الأنيقة تتجه للخارج .. بعيداً عن أناقة عيدهم .. بأناقته الخاصة ..
و تفاصيل بدلته الرسمية الأنيقة .. تكسي جسده الرياضي ببعد آخر .. يصل به إلى قمة الكمال ..
لونها الكحلي زاده تأثيراً و سحراً .. و تلك الشرطات الأربع تعقبها تلك النجمة الذهبية ..
التمعت خطوطها الذهبية تحت أشعة الشمس .. تبرق بمجهوده في حصوله على ترقيته الأخيرة .. ليكون كابتن طيار ..

حالما تعدى مدخل منزله ليعبر الباحة .. اتجهت عيناه غريزياً إلى السماء .. حقاً لقد ولد بأجنحة كما كانت تقول والدته دوماً ..
فقد أمضى طوال عمره هائماً على الدوام بين تلك الغيوم .. كان دوماً طائراً مهاجراً بأجنحة والديه اللذان عشقا السفر ..
ليمتهن هو أيضاً الترحال .. فيمضي عمره الباقي بعدهما .. وهو لا يزال على ذات السفر ..

يعشق تلك السماء التي تمتد به .. تلك التي احتضنته أكثر من حضن والدته ..
في الأعلى فقط يجد حياةً ما عرف غيرها .. فوق الغمام تبدأ حياته التي يعشقها .. حين يكون قادراً .. مسيطراً .. على كل دقيقة منها ..
فـقمرة القيادة .. ملاذه الآمن .. هناك يتنفس الحياة و الإثارة .. هناك يعرف نفسه و يصل بثقته إلى عنان السماء ...

أما في أيامه القليلة على الأرض .. و التي حرص أن تكون أقل .. تأكل الرتابة أيامه .. تلفه الوحدة .. و الإنعزال ..
حتى بدأ يشعر بالغرابة أكثر فأكثر .. وهو يعيش بينهم حياة لا يعرفها .. أصبح لا يتذكرها .. و يتمثل علاقات لا تشبهه .. و لم تكن له يوماً ..

لقد اعتاد منذ سنوات أن يكتفي بنفسه .. يعبر أيامه غريباً .. يقضيها بترحال ممتد ..
ليعيش حياته وفق قوانينه الخاصة .. متجاهلاً كل تلك القواعد التي تفرضها العادات و التقاليد عليهم ..
ألف العيش حراً .. طليقاً ..لا يحتمل الواجهات الإجتماعية .. العلاقات المطولة .. و المشاعر المعقدة ..
أصبح رجل لا يحمل من وطنه إلا إسمه .. فأيامه و لياليه تتوه بين الخرائط .. و المدن .. راحلة و مغتربة في كل حين ..
في ذكرياته .. آلاف من البشر من ألوان .. و أعراق .. و أديان مختلفة ..
و لا يعرف من العائلة .. إلا وهماً ضبابياً .. أصبح يجيد تمثيل أمانه معهم من حين لحين ..
يحبهم حقاً .. لكنه يجد نفسه بعيداً عنهم .. غريباً عن إحتوائهم الذي مازالوا يحيطونه به ..

.
.

قبل لحظات .. أنهى السلام على جده و أعمامه .. و إن كان تحاشى بنجاح تلك النظرات العاتبة في عيني جده .. على إبتعاده الدائم ..
لن تعتقه أبداً هذه التي مازالت تحنو عليه .. و تشتاق له .. تفتقده و تعاتبه كطفلٍ صغير ..
إنها الرمز الحقيقي لمعنى الأم في حياته .. أكثر من والدته الحقيقية حتى ..

كانت تنظر إليه بمحبة .. و تحسّر .. و هي مازالت تمسك كفه القوية .. بين كفيها الواهنتين .. لا تتركها ..
: يمه موب معقول ما تقدر تعدل وقت شغلك! لك سنين ما عيدت معنا..كن هالمطار ما فيه غيرك!!
رغم لباقته .. معرفته كيف يدير الحديث عن نفسه في أي مجال .. و في كل وقت .. إلا أن الكلمات كانت تتكسر داخله أمام عظيم حنانها .. لا يجرؤ على تنميق كذباته ليواجه بها صدقها الهائل .. و افتقادها له رغم وجود الكل حولها ..
لذا كان ممتن حين أُعفي من الرد .. و مروان يعلّق كعادته .. تعليقاته التي قد يكون ظاهرها المرح .. لكنه يعلم أنّها تأتي مثقلة بإفتقاده هو أيضاً له .. و عتبه على إبتعاده الدائم عنهم إن كان بغير قصد .. أو بقصد كما بدأ يعتاد ..
: يمه خليه يروح يشوف بنته اللي في لندن تلقينها مشتاقه له
رحّب بسخريته هذه لإغلاق موضوع فقدٍ .. لا يقوى على إنهائه ..و التفت إليه ليعقد إحدى حاجبيه بإستنكار .. و يسأله و على شفتيه يلوح شبح إبتسامة هازئة ..
: مو كان عندي ولد في واشنطن! وش صار عليه؟
ليجيبه مروان هازئاً بعدم إكتراث ..
: والله مادري من كثر عيالك اللي مطلقهم بكل ديرة نسيت..افتر راسي معكم و أنت تفتر عليهم من ديرة لديرة
و إن كانا يجدان الموضوع مضحكاً .. لكن قلبها العطوف لم يجده أبداً كذلك .. لذا انهت جدته تلك المشادات الساخرة بينهما .. و هي تتحدث بضيق على حاله ..
: تكفى اسكت يا مروان...أدري إنك تمزح بس توجع قلبي إذا قلتها
التفت عليه مروان يهز رأسه بأسف .. وهو يهمس له ..
: ما فيه ثقة فيك قلبها يقول إنك بتسويها_ليمط شفتيه بشك_إن كنت للحين ما سويتها

.
.

إنه ليس يوم العيد فقط .. إنه يوم حظها العالمي ..
تقدمت تطير حماس و فرحة .. و هي ترى عزام بزيّه الأنيق يجلس مع جدتها .. و مروان ..
كانت تتجول في البيت بهاتفها .. تكمل تصوير توثيقات يوم عيدهم .. لتبتسم بمكر ..
و هي تقترب منهم تدعي تصوير أناقة جدتها .. و إستعداداتها ليوم العيد .. كانت تصور بحماس .. و هي تتخيل ردات فعل صديقاتها .. و بنات خالتها .. حين يرون تلك الوسامة الآسرة .. و أناقته المبهرة ..
كانت تركز عليه مدعية أنها تصورهما من أجل جدتها و هي تتحدث معها ..
قبل أن ترتبك بخجل و هي تلمح نظرة عزام التي تحذرها .. أن تقطع ذاك التصوير .. شعرت بالحرج ظناً منها أنه أدرك أنه هو سبب هذا التصوير .. و ليته كان هذا السبب !!

فبلحظة .. أحست باليد القوية .. التي انتزعت هاتفها منها بعنف .. حين لكزها من كتفها بقبضته بقسوة .. و زمجرة الصوت الغاضب من خلفها جعلها ترتجف خوف .. و إحراج وهو يصرخ بها أمامهم ..
: وش تصورين أنتي!! أكسره على راسك عشان تعرفين الأدب .. ترسلين صورنا لكل من هب و دب
جف حلقها برعب .. و هي تقف بجانب عمها رياض .. ترتعب من تلك اللحظة التي قد يمد فيها يده ليضربها ..
: أأ..نـ...وو ..والله..

كادت أن تفقد أنفاسها خوفاً منه .. فقاطعهما مروان ليتحدث ببرود و مزاح .. يريد تبسيط الموضوع علّه لا يتمادى بغضبه ..
: قطعت حظ البنات ما شافن هالمزيون .. و إلا اللولو اللي بغيت تذبح البنت عشانها محد يمها
التفتت عليه جدته .. لتؤنبه مازحة .. غير مكترثين بذاك المرجل المتوقد بجانبهم .. فالكل بات يعرف أن أفضل طريقة لإخماد غضبه .. هي عدم الوقوف في وجهه أو مناقشته .. حين يثور .. و ما أكثرها ساعات ثوارنه التي لا تكاد تهدأ ..
: أفا يا مروان هذي علومك!
ليعرض حتى عزام عن الحديث معه .. وهو يحتضن أكتاف جدته .. يقبل رأسها وهو يتأملها بغزل ..
: جعلنا فدوة للولو و ثوبها الأحمر
لكنه صرخ بهم حتى شعر عزام بجدته تفز بين يديه ..
: إلا والله جعل ما من عقل يالـ .......! و أنتم مرتزين لها تصوركم لخلق الله_أزاح ديمة بقوة من طريقه حتى كادت تقع_اذلفي أنتي بعد

لحظة سكون عقبت .. رحيله العاصف .. و تلك الأعين تراقبه بكدر و ضيق .. لتتناسى ديمه إحراجها منهم حين أدركت المصيبة الأكبر .. لتصرخ بقهر ..
: يمممممه جواااالي أخذذذذذذه !!!
رد عليها مروان ساخراً ..
: حنا ياله فكينا راسك منه ما اقطعه! تبين نطالب بجوالك بعد...البقاء براسك معوضة خير
لترحل عنهم تضرب الأرض بقدميها بغضب طفولي ..
: أووووف والله صباحية عيد سوداء ... وووين رتيل؟؟
تنهدت جدته من حالهم ..
: الله يهديك يا رياض و يعين رتيل عليكم!
ابتسم عزام .. وهو يراها كما كانت .. لا تزال حجر أساس في زوايا حياتهم .. ليعترف بصدق ..
: رتيل تستاهل نعطيها وسام سفيرة النوايا الحسنة
أكمل مروان ضاحكاً ..
: و هيئة الإغاثة و الطواريء و 911 بتاع كله رتيل من وين نلحق على أوسمتها

~*~*~*~

عاد من صلاة العيد متأخراً .. متعمداً ليستفز هدؤاً و صمتاً لا يليق بها معه..
اتصلت به منذ ساعة لتستأذنه بالذهاب مع السائق إلى بيت جده إن كان سيتأخر .. لكنه أخبرها كاذباً أنه لحظات و سيعود ليذهبا معاً .. ليتأخر كل هذا الوقت ..

كان يُذيب عناد قلبه و غروره .. حديثها .. و غرامها له.. و إلحاحها على الكلام معه .. و القرب منه ..
و الآن .. بدأ يستنزف صبره .. صمتها .. و تجاهلها له .. منذ عودتها من بيت أهلها منذ أول الشهر ..
كيف أخذت معنى كلامه أن تتوقف عن حبه ؟؟
و الإهتمام به !!
و اللهفة عليه !!

دخل إلى الغرفة ليقف عند الباب يتأملها بإرتياح .. يراقب حركة يديها الغاضبة و هي تلتقط شنطتها الصغيرة ..
تأخذ هاتفها لتتصل به .. لتزفر بغيض .. و هي لا تجد رداً من هاتفه الذي جعله على الوضع الصامت ..
رفعت رأسها فجأة لتجده عند الباب .. رفرفة أهدابها الكثيفة و هي تنظر إليه .. بتلك النظرة اللائمة.. جعلت تلك المشاعر إتجاهها .. تختلج وسط قلبه من جديد ..
و رغماً عنه بدأت ملامحها الرقيقة تجد لها مسكناً أخذ يألفها في قلبه ..
بدت لعيناه كحورية البحر بفستانها الأزرق الضبابي .. و شعرها الذي تتهافت خصلاته لتعبر حرير خدها المتورد .. بلون الزهر ..
تلك البساطة التي أدانها فيها .. باتت تصبح له كالعقوبة .. و هي تبدأ بالتأثير عليه شيئاً فشيئاً ..
لسبب يعجز عن تفسيره .. أو التصدي له .. حتى بدأ يفتقد مع الأيام كل ما كان ينتقده فيها ..
: وووووينك غالب! تأخرت!!..راحت حلاة العيد كلها........

تلك الفيديوات التي كانت تتابعها منذ لحظات .. لفرحة العيد عند أهلها و التي اعتادت أن تكون جزءً منها .. لتفتقدتها بلا مقابل يستحق معه ..
جعلتها تشتكي بلا إنتباه ..لشدة ما سئمت من إنتظاره .. فكانت بعيدة كل البعد عن الشعور بذاك الهيام الذي راح يسكن نظراته .. اللتان تبرقان للمرة الأولى بتميزها في عينه ..

نسيت مع أيامه التي خذلتها .. كيف كانت تتبع ملامح المشاعر بوجهه ..
حتى باتت اليوم لكثرة تلك الإحباطات التي طالما أصابها بها ما عادت تهتم ..
خطأ التوقيت مزمن بينهما .. ففي الوقت الذي بدأت أسوار غروره تتصدع ..
بنت هي حول قلبها المخذول سوراً من التعامي و اللا مبالاة في كل ما يخصه .. و الذي كان حسب طلبه .. حينذاك !

اقترب منها يجيبها و عيناه تعبر ملامحها بتمعن .. ليأسرها بين ذراعيه .. و يهمس قريبا من أذنها .. قبل أن يغرقها بقبلاته ..
: حلاة العيد كلها بين يديني اللحين

هكذا الحال معها .. ستتسبب بإفساد عقله قريباً .. أصبح ينقاد لها بسهولة و لكنه مازال يخشى سيطرتها عليه ..
ليجد نفسه كثيراً ما تجفل من إستسلام مشاعره السريع لها .. فيتمسك ببقايا عناده ليبتعد .. رافضاً خضوعه الكامل لها..
ليبعدها أحياناً بلا سبب .. فقط وهماً في عقله يحذره .. أنه لا يجب أن يغرق بها أكثر .. فمن الخطر أن تمتلك قلبه بالكامل هذه المدللة ..

ارتخت يداه عنها .. حين انتبه لجمودها الغريب بين يديه .. ليبتعد قليلاً عنها .. حتى يرى ملامحها ..
: وش فيك ؟
كانت ملامحها منعقدة بإستنكار ..
: وش فيني؟! عجزت ألقى داخلي أكثر من روح .. عشان كل يوم اطلع لك بوحدة حسب حالتك اللي محتاجها بهاللحظة!

كانت تنتظر منه جواباً .. اعتذاراً .. تبريراً .. حين لمحت بنظرة عينيه .. أنه فهم ما تقصد ..
فهي كانت تنتظر منه مشاعر مميزة .. لأول صباح عيد يجمعهما .. لكنه كعادته خذل هذا الإنتظار ..
ليصحو متأخراً بمزاج لا يحتمل الحديث ..غير آبه بوجودها حوله ..
فيتخطى قلبها صباحاً .. ببرود لا يشبه هذه اللهفة التي يشعر بها الآن نحوها .. و التي أتت متأخرة على تلك المشاعر التي ذبلت في عينيها ..

لكنه تركها و غادرها بصمت .. بكبريائه اللعين .. منتظراً أن تلحق به ..
هه بالطبع .. سينكر عليها حقها في مواجهة كذبه .. و تمثيله .. حقها أن يفضي بقليل من روحه لها ..
حقاً ..أرهقها العيش معه .. إن ابتعدت عنه كما يرغب تحرش بها حتى تقترب ..
و إن اقتربت .. و رفعت سقف آمالها به من جديد .. تجده يتحاشى إقترابها أكثر .. ليصدها فجأة .. و يضع حدوده العنيدة بينهما من جديد ..
أحياناً تجده كالمهووس بها ..
و أحياناً يصبح متباعد ..
حتى أصبحت لا تأمن قلبه .. و لا تصدق مشاعره التي تفيض في قربها ..

لقد خذل حلمها الأبيض به .. مزق صفحات ملأتها به .. لتبقى دفاترها معه فارغة .. مبهمة ..
تنازل بكبرياء عن مكانه بقلبها .. جاحداً بغروره ذاك الحب الذي احتوته به ..
و الآن ماذا؟؟ يريدها أن تتشكل فقط حسب مزاجه ! أن ترضى مرغمة مثله بحياة يعلم أنها لا تستطيع إنهاءها ..

نعم أدركت أنه يحبها فقط لأنها موجودة لديه .. أو لأنه مجبور أن يتعايش معها ..
و أن كل مشاعره التي يصرفها عليها أحياناً هي محاولات للتأقلم معها .. تُصيب حيناً.. و كثيراً ما تخطئ معه ..
لكنها و إن استسلمت حالياً للعيش معه !! مازالت ترفض أن تمشي على أهوائه .. أن يشكلها حسب رغبة إستخدامه ..
فهي لا تقوى على تزييف مشاعرها كما تراه يفعل معها .. و ينتظر منها أن تفعل مثله ..

~*~*~*~

غادرها عمها قبل لحظات إلى غرفته .. و هي انشغلت بإكمال حجزهم .. لتتنهد مبتسمة بإرتياح بعدما أتمت كل شيء ..
أخيراً كانت قادرة على ترك همها مركوناً في زاوية بعيدة من الروح.. فقط من أجلهم .. لتقوى على إجبار نفسها الإنخراط بحياة انتبهت مؤخراً أنها بدأت تفسدها عليهم .. و هم يخفضون فيها درجات فرحهم من أجلها .. يحرمون نفسهم الكثير من أجلها ..
يتناسون من حقوقهم الكثير حين لا يوافق أساها .. و حرمانها ..
لذا أخبرت عمها قبل قليل بمفاجأتها لهم .. و حين وافق أخيراً .. أتمت حجوزات رحلتهم و التي دفعتها كاملة رغم إعتراضات عمها ..
لكنها تشعر إتجاههم بإمتنان يفوق قدرة روحها على إحتماله .. لذا بدأت تبحث عن كل الطرق التي ترد بها شيئاً قليلاً من تلك الحياة التي تسري بروحها بسببهم فقط ..
في الغد سيسافرون .. في رحلتهم العائلية الأولى معاً .. تنشر في أراضيهم الخصبة سعادة حين تلوح بملامحهم .. فيصل شذاها روحها الجافة .. لعلها تسعد معهم ..

وصل إلى سمعها صوت تلك الخطوات الصغيرة .. التي تضرب الأرض بملل ..
: ماما سوسو و ميمو راحوا ؟
أفاقت من شواردها لتجيبها .. حين جلست بجانبها ..
: اي يا ماما راحوا
اسندت وجهها الصغير على كتفها .. و هي تشكو بضيق ..
: أووف وحنا نجلس لحالنا حتى بالعيد
رفعت يدها تمسح على خصلاتها الحريرية .. لتملأها غصة اللوم إتجاهها ..
: لا حبيبتي بنروح نتغدى عند جارتنا أم خالد و تلعبين مع صديقتك ندو و ترجعين تنامين لك ساعتين و بعدين ياخذنا عمو يمشينا...وين ما تبين بنروح
رفعت رأسها و ابتسمت بسعادة و حماس...و هذا ما يقتلها .. إنها ترضى بأقل القليل .. لتبتهج .. غير مدركة للكثير الذي تستحقه و الذي حرمتها منه ..
: ياليت ندوو تروح معنا؟ ماما قولي لخالتو توافق ناخذها..عشان العب معها
ابتلعت مراراً يسكن دوماً في صدرها إتجاهها.. لتهمس بصوت ذابل ..
: خلاص حبيبتي أقولها
قفزت من جانبها بحماس .. و هي تتذكر ..
: بأروح اجمع عيديتي..تشوفين كم صار معي ؟

ابتسمت و هي تهز رأسها موافقة .. لكن أي من معاني تلك الإبتسامة لم ينعكس داخلها بشيء ..
قد تبتسم من الحزن .. من الضيق .. من القهر .. لكنها لم تبتسم يوماً فرحاً صافياً .. بيوم عيد ..
هي لا تهتم .. حقاً لم تعد تهتم بفرحة الأعياد و غيرها .. منذ وقت طويل ..
تلاشى كل ما يسعدها .. رويداً رويداً .. حتى أعدم الفرح من قلبها .. فما عادت تذكر بساطة هذا الشعور ..
و رحلت آخر ضحكة حقيقية مع رحيل والدها .. فقط تبقى داخلها نزر يسير تجامل به الحياة .. من أجل هذه الطفلة ..
تلك الصغيرة .. هي ما تعصر قلبها بكل حين .. هي التي أنقذتهما من الألم .. و هي التي تغرقها فيه طوال الوقت ..

~*~*~*~

هدأ هذا البيت الكبير أخيراً ..و الذي كان يعج منذ الصباح بجيرانهم .. و بعض معارفهم .. المهنئين بالعيد .. و الذين طالما تشاركوا معهم الأفراح .. و الأحزان ..
لتبدأ شمس العيد بعد يوم سعيد .. تلملم أشعتها بخجل لتستعد للغروب .. بعد ما ملئت ذاكرتهم بتفاصيل الفرح .. و اللقاء ..
ليبدأ الآن إجتماعهم العائلي الخاص الأثيري .. تختلط فيه رائحة قهوة المساء بعبق أصيل مليء بذكريات طفولتهم .. يفوح شذاه من بخور جدته ..
لم تتغير هذه اللحظة منذ سنوات طفولته .. ذات فرحتها .. و حميميتها .. باقية رغم تغير ملامحهم .. مشاعرهم.. و مضي السنوات بهم ..

الجميع حاضر هذه اللحظة سوى عمه أبوغالب و عزام كعادتهما السيئة في الإبتعاد دائماً ..
إنها لحظة عيدهم الختامية .. قبل أن يتفرقون من جديد .. كان جده و أعمامه و أولاد عمه .. يجلسون يمين المجلس .. و بجانب جده تجلس كالعادة جدته .. ليصطفون من بعدها عمته و والدته و خالته و بقية الفتيات ..
لا يكسر قاعدة هذا الإنقسام .. إلا رتيل .. التي جلست بين جدها و عمه رياض .. فهذا مكانها دائماً في أي إجتماع .. فلا يذكر أنه قد رآها تجلس مع جدها أو رياض في مجلس واحد .. و تكون قادرة على الإبتعاد عنهما ..

أفاق من شوارده .. حين رأى فارس صاحب السنوات الإحدى عشر.. يتولى مهمة التقديم ..اقترب منه يحمل تلك السلة الأنيقة .. المترفة .. ليقدم له ..
: هذي حلاوة عيد غزلان
ليلتقط قطعة من تلك السلة .. وهو يرفع حاجبيه بإعجاب .. و يديه تتفحص ذاك التغليف المتكلف ..
: أووف على بنت أبوها كفوو والله...حاطه لنا مع الحلا فلوس! ما أحد عطاني عيدية غيرك يا غزلان..خلاص بعد الإمبراطورة لحد يعيد
ردت عليه والدته ساخرة ..
: لو أدري إن الخمسين بتفرحك كذا كل يوم بأعطيك فلوس بس تنفعني
: لا لا هذي عيدية غير! لو عطيتيني إياها الصبح كان كتبت فيك قصيدة

انشغل بمجادلة والدته .. و غزلان تراقبه بإبتسامة غرور .. أبهتها الفرح الكبير الذي زرعته كلماته في قلبها المتكبر ..
قبل أن تحس بيد صبا التي قرصتها من كتفها ..
: ليه ما علمتيني إن السالفة فيها فلوس..هههه كان كمشت لي كمشة محترمة
لتهمس بدلال ..
: و ليه أقولك! كذا مفاجأة أحلى

و عادت بأنظارها .. لمروان .. لكن هذه المرة لم تكن قادرة على نسيان حياتها و الغرق بضحكته .. وهي تراه يجلس بجانب عمار ..
أصابها بمقتل الفرق الشاسع بينهما .. لتتأمل أخاها بضيق .. لما لا يتحدث كثيراً! لما لا يشاركهم المزاح! لم تراه يوماً يضحك بصخب!
و لما تلك النظرة التي تتعدى كل هذه الفرحة من حوله و تسحبه لشروده الآسر العميق!
التفتت ناحية غالب .. الذي كان في حديث مطول مع رفيق روحه .. عمها رياض .. لقد بدأت تعبره الحياة حينما آثر نفسه و عمها و ابتعد عنهم .. سعيدة هي من أجله بقدر ما تعتب عليه ..
و تتمنى لو يفعل عمار بالأخص ذلك .. أن يكسر قيود خيبته .. يفك أسر روحه .. ليبدأ يبحث عن الحياة من جديد ..
و لكنها حقاً بقدر ما تتمناه أن يفعل ذلك .. بقدر ما تخشى تلك اللحظة التي سيحده والده هو أيضاً على الإبتعاد بها .. تخشى إنتهاء صبره و تجلده ..
فتبقى هي وحدها .. هدفاً سهلاً .. لأي إصابة ينوي والدها تسديدها .. و الفوز فيها ..

:
:

بقربها كانت تجلس سحاب .. و عن يمينها و يسارها جلستا توأم الفتيات .. بعد جدال طويل احرجتاها فيه .. و كل واحدة منهما تصر على الجلوس هي بجانبها ..
كانت أثناء الجدال تحاول إبقاء عينيها بعيداً عنه .. لأنها أكيدة .. أن نظراته يجب أن تكون مرتكزة عليها .. لمراقبة الجلبة التي تفتعلها صغيرتيه .. تأكدت من هذا حين سمعت صوته مؤنباً طفلتيه بلطف .. أن لا يزعجاها أكثر .. و لكن لم يجد أذاني مهتمة منهما ..
و حين خانها قلبها .. ليمتلكها الفضول أكثر فترفع نظراتها له للحظة .. انتفض قلبها .. حين واجهت نظرتها نظرته .. ليشكو لها عجزه عنهما بنظرة يائسة .. مستنجدة .. كادت تخطف أنفاسها .. وهو يرفع كتفيه بإستسلام .. معتذراً .. فتهرب بنظراتها الخجلى منه بعجل ..
حتى حلت صبا تلك المشكلة .. و ابتعدت قليلاً مفسحة لإحداهما مكاناً آخراً بجانبها ..
لذا ارتاحت حين جلستا بهدؤ .. و إستكنان بجانبها .. سعيدتين .. راضيتين .. و بين كل حين و حين يستعرضان لها .. من شنطتهيما شيئاً من تلك الحلوى و الهدايا التي تملأها ..
لكنها مازالت تشعر بإرتباك أنفاسها .. و هي بين لحظة و أخرى تصادف نظراته .. التي لا تكاد تغادرهم للحظة .. حتى تعود إليهم من جديد ..

حتى عضت على شفتها السفلى بترقب .. حين رأته أخيراً انشغل عنهم .. و يقلب بين يديه حلوى العيد التي جهزتها هي ..
بتلك التغليفة اللطفية .. و فكرتها الظريفة .. و هي تعقد يديها في حضنها بتوتر .. حين رأت تلك الإبتسامة تملأ ملامحه الدافئة .. وهو يقرأ تلك العبارات السخيفة .. المضحكة التي كتبتها ..

رفرفت أهدابها .. لتبعد نظراتها بتوتر عنه .. حين سمعت مروان يوجه الحديث لها .. وهو يضحك بشدة .. ممسكاً بذاك الصندوق الملون .. الذي تحمله عروسة من صنعها .. كانت بملامح مضحكة ..
: والله بأحلم فيها هالمزيونة المهبولة_يقرأ تلك الورقة التي كتبتها_لا و تقولي بأقابلك العيد الجاي
أجابه ليث ساخراً ..
: هذا اللي يسمونه الحب من أول نظرة..من يلومها فيك!
ليمط شفته بإعتراض ساخر ..
: ايه بس الله يهديك سحاب لو مرتبتها شوي!_رفع تلك العروس بشعرها المتبعثر بجانب وجهه ليصيح بإعتراض_ يمممممه اللولو..شوفي سحاب مزوجتني وحده ما امشطت حتى شعرها
ضحكت جدته و البقية .. لتجيبه ..
: يا زين سحاب و اللي يجي من سحاب...حتى لو مهبولتك هذي

:
:

كانت عيناه تراقب الفرح على وجوههم .. لتضاء بهم طرقات الروح الهرمة ..
أصواتهم نشيداً يترنم به القلب .. و ضحكاتهم طيور تحلق في سماء صدره ..
يباهي بهم سنين عمره الكهلة .. بمحبتهم .. و قربهم ..
فهم فرحة دفع من العمر كثيراً .. كي يجمعها و لا تتلاشى في دروب الحياة المخيفة ..
تلك الدروب التي سرقت منه غفلةً .. روحين عزيزتين .. كان يتوق ليفديهما بروحه عن روحهما ..
آه كم يفتقدهما بكل فرحة !
آه كم يرهقه تتبع ملامحهما في وجوه أبنائهما!

تنهد براحة يشعرها بينهم .. يأخذ أنفاسه بسعة السماء .. و هم يضيئون قلبه كنجوم متلألأة تسكن صدره ..
تختفي بنهار .. و لكنها دوماً تعاود الرجوع لمكان ألفته .. في ظلال محبته التي تسع الجميع ..

سحقاً لمال .. أو عمل .. أو خلاف .. قد يحرم أحداً منهم هذه السعادة الصرفة التي تملأ الجو بوجودهم ..
ما فائدة هذه الحياة ؟
ما فائدة كل ما يسعون خلفه ؟
إن خسروا لمة قلوبهم الصادقة .. و هذه الضحكات الصافية ..

كم يخشى أن تتناقص هذه الوجوه من حوله شيئاً .. فشيئاً ..
و يفتقد ذاك الذي غيبته المصالح .. و الآخر الذي غيبه الطموح ..
يكره أن يقف في طريق حياتهم .. لكنه لازال يشعر بحزن كبير لغياب أحدهم ..

سيحمد الله كل حين فيما تبقى من هذا العمر .. على هذه اللحظات الثمينة معهم ..
و يرجوه إذا حان موعد الرحيل .. أن تبقى لهم .. و لا يفترقوا من بعده ..

~*~*~*~

مر عامٌ كاملٌ على وفاته .. في مثل هذا اليوم .. منذ سنة مضت .. فقـده ..!!
في فرحة العيد .. فقده ..!! و مازال جرح فقده ندياً ..
(سلمان) ..عديل القلب و الروح .. رفيق سنوات دراسة الطب .. و الكفاح في الغربة ..
منذ سنوات صباهما الأولى تعارفا .. فمضيا في درب العمر سوياً ..
نقيضه هو في كل أمر .. في كل طبع .. لهما شخصيات مختلفة .. إعتقادات متناقضة ..
رغم كل ذاك كانا على الدوام معاً .. لا يكتملان إلا معاً ..
حتى رحل في ذاك اليوم .. و ها هو بعده لازال يحاول ردم الفراغ الهائل الذي خلّفه في روحه ..

لم يتبقى له من بعده سوى شرخ أحدثه بأيامه .. و ذكريات تهاجم سعادته كل حين لتخمدها ..
و أهلــه .. الذين بلا وصية منه .. اتخذهم وصيته .. فقد كان له الأخ .. و الآن صار لهم الإبن ..

وصل إلى الحي مساءً .. و روحه مثقلة .. بالحنين .. بالذكرى ..
ها هو كما كان .. تضيق به الأنفاس دوماً حين يقف أمام هذا الباب ..
اطفأ المحرك .. و لكنه لم يتحرك .. اسند رأسه إلى مقعده و فتح أزرة ثوبه العلوية .. ليفتح نافذته ..
هل غادر الهواء أيضاً هذا الحي .. مع رحيله .. !

بقدر ما يصعب عليه المرور بهذا الحي دوماً .. إلا أنه يعيد تجرع الألم .. من أجلهم ..
فقد تركهم سلمان له .. لم يقيده بأي وصية لكي يتكفل بهم .. لكنه لا يحتاج لكلمات .. لم يسعفه الوقت ليكبله بها ..
هم أهله .. تركهم خلفه .. بلا أي راعيٍ أو مسئول يهتم .. غيره ..

تلك المرأه .. الأرملة بوفاة زوجها .. المكلومة بفقد ابنها أيضاً .. في آن واحد ..
و تلك الفتاة .. التي وقفت لائها بوجهه .. ليكون إبناً حقيقياً لهذه العائلة ..
رفضته مرتين!!
الأولى .. حين خطبها رغبة في مصاهرة صديق العمر ..
و الأخرى .. منذ بضعة أشهر .. بعد وفاة شقيقها و والدها في ذات الحادث .. ليكون أقرب منهم و هم بحاجة إليه ..
لكن عنادها .. و رفضها .. لم يجد في طلبه بكلا المرتين أي سبب لتوافق عليه ..
ترفضه بحده .. و لا يعلم السبب .. !

ابتلع غصة بمرارة الذكريات .. وهو ينزل من سيارته .. تتنقل عيناه بالأرجاء من حوله .. فتتقاذفه ذكرياته .. و أيامه .. و أحاديثه مع سلمان .. على عتبة هذا الباب..
وقف أمامها طويلاً كما يفعل بكل زيارة له .. حتى تحرك أخيراً و وضع يده على الجرس ..
لحظــات ..حتى وصله صوتها الجاف .. المتكدر دوماً ..
: ميـن ؟
: السلام عليكم
: و عليكم السلام
: أنا ليث_تسآئل بداخله لو أنها أصبحت تميز صوته لكثرة مروره بهم_خالتي أم سلمان موجودة ؟
و بصوتٍ يكتمه شيء ما ..
: لحظة
و كما اعتاد .. رأى الباب يفتح قليلاً .. ليذهب يخرج الصناديق من سيارته .. و يدخلها .. ليقف ينتظرها في باحة المنزل ..
و ما إن رآها تقبل لتقف على بعدٍ قريب منه .. حتى تنحنح ليخرج صوته قوياً .. بعيداً عن أي ضيق قد تلمحه به .. ليذكرها بمن لا تنساه ..

: هلا خالتي...كل عام و أنتي بخير
: هلا والله هلابك ياولدي...و أنت بخير و صحة و سلامة...وش أخبارك؟ وش أخبار أهلك ؟
: بخير الله يسلمك..كلنا بخير...أنتم وش أخباركم؟
: الحمدلله بخير
: محتاجين شي؟
: لا يمه الله يسلمك ما قصرت علينا بشي...و دايم مكلف حالك بنا
: ما فيه كلافه بين الأهل ..إلا لو ماعديتيني مثل ولدك
تنهدت بحزن .. و أجابته بصدق ..
: الله يشهد إنك بغلاة من راح .. الله يرحمه
تكدست الغصات في حلقه .. حتى أجابها بصوت أجش ..
: الله يرحمه ويغفر له .. حلفتك بالله ياخاله إذا محتاجين أي شي لو بسيط تكلميني على طول؟
أجابته بشفقة على حزنه .. و فقده .. و بإمتنان عظيم لتك الصداقة التي لم ترحل من قلبه مع من رحل ..
:لا يمه لو بغينا شيء ما عندنا غيرك...الله لا يخلينا منك

تريد أن تخبره أن لا يرهق نفسه بالمرور بهم كل أسبوع تقريباً .. فحين تحتاج شيء ستهاتفه .. لا تريد أن تثقل عليه بهذه المشاوير التي قد يعوضها بإتصاله .. و توفر حرجها بالقبول بكل تلك الأغراض التي يجب أن يحضرها معه ..
لكن حين تراه .. ترى حرصه و إهتمامه و بالأخص حزنه .. حين ترى الفقد الموجع في نظرة عينيه ..لا تقوى أن ترد كل ذلك بوجهه ..
لتزفر بضيق من فتاتها الحمقاء .. التي ترفضه .. و هل شاب مثل ليث يرفض !
لا تفهم تفكير تلك الفتاة المعوّج منذ صغرها .. و لا تملك أي سبيلاً لإقناعها ..
و بعد وفاة والدها و شقيقها تمادت بتمسكها العنيف بأفكارها .. و إنعزالها .. و لا تعلم من قد يرغمها على شيء !

.
.

بعد لحظات كانت تقف مع الخادمة التي أخذت تدخل كل ما جلبه معه .. و هي تأمرها أن تسرع .. لكن على عكس ما كانت تريد ..
فابنتها نزلت سريعاً من غرفتها التي صعدت إليها للتو.. و كأنها تبحث لها عن ما تنفجر بسببه.. لتشتعل غضباً بلحظة ..
: يمممه ليه تدخلين هالكراتين! كم مرة أقولك خليها على حالها و أنا بأتصرف فيها..مابيها تدخل البيت
عاتبتها بضيق ..
: اللحين كل ما جاء ليث لازم نتهاوش على هالسالفة ؟
ارتفع صوتها بحدة .. و نرفزة تلزمها بأي موضوع يخصه .. لتتحدث بملل ..
: يمه لا يجي من الأساس يكفي يتصل..والله إنه نشبة صدق..ليه ما يفهم لو احتجنا شي بنتصل حنا..و ليه يجي يتصدق علينا بكل هذا كأننا مساكين...وش يقولون الجيران إذا شافوه كل يومين منزل هالأغراض..؟ فيه طيب...يبي يتصدق يروح لناس محتاجين حنا مو مساكين فلوسنا تكفينا و زياده
ملأ ملامحها الحزن .. على مشاعره الصادقة التي لا تجد أي صدى في قلب هذه الفتاة المتحجر ..
: أدري وهو داري إننا مو محتاجين ..بس والله مالي قلب أزعله
لتقدم لها الحل سريعاً .. و عينيها تتسعان بمكر ..
: خلاص لا تكلمينه .. أنا أكلمه
لتنتفض بجزع .. و تلتفت إليها مهددة ..
: والله لو سويتيها يا سماح إني ما اسامحك لين موتي و هذاي حلفت
كتمت غيضها .. مع أنها كانت تريد أن تصرخ بأعلى صوتها .. لتنفث بعض قهرها منه ..
: لا حول و لا قوة إلا بالله خلاص سكتنا و انطمينا مثل ما طول عمرنا منطمين..بس لا تزعلين مني يمه عشانه..لا تقهريني
تنهدت والدتها بيأس ..
: و أنا قلتلك خليك بحالك وهو بحاله...حتى الطاري لا تطرينه قدامي دامك ما أنتي طاريته بالزين
همست للخادمة ما إن أعطتها والدتها ظهرها لتخرج ..
: خلاص أسبه من وراك...كوكو الساعة اللي كل دقيقة ينط علينا...حشى والله لو متزوجته ماراح أشوفه كثر ما اشوفه اللحين!!
كانت الخادمة تنظر لها بوجل .. بعد الجدال الذي أقامته .. و لا تفهم شيئاً مما تهمس لها به .. لتربت على كتفها و هي تحذرها ساخرة ..
: كملي شغلك لا تزعل أمي...ثم أطير رقبتك أنتي و إياه

سارعت لإكمال عملها و الإبتعاد عنها .. بينما خرجت هي تسحب رجليها بنكد و ملل واضح ..

~*~*~*~

كانت تجلس في صالة بيت جدتها مع أختيها و بنات عمتها التي لم يتبقى سواها لم ترحل بعد .. لكن حالما لمحتها تخرج .. مودعة لهم .. تركت الفتيات لتلحق بها بلهفة .. فتلحق بها أختها الأصغر أيضاً ..
و تداركوها عند عتبات المدخل .. التقطت منها حقيبتها التي تجرها .. لتتسع عيناها و هي تهتف بضيق ..
: رتيل ثقيلة شنطتك! ليه كم ناوية تجلسين في بيت خالك؟
كانت بنان قد تعلقت بذراعها .. و هي تمشي معهما بصمت .. لتراقبها رتيل مدعية الإنزعاج ..
قبل أن تلتفت على ديمه لتجيبها ..
: أحد قال لكم إني أمكم!
لتستعطفها ديمه برجاء ..
: رتيل لا تطولين تكفييين
ابتسمت و هي تطمأنها ..
: لا تخافين...ثلاث أيام العيد بس
أكملت بضيق ..
: و جوالي رتيل! ما قلتي لعمي يرجعه..تبين انتحر لا أنتي و لا الجوال معي !
وعدتها بثقة ..
: لا تخافين ما نسيتك بأقول له
لتهتف بعدم تصديق ..
: متى؟!
ابتسمت رتيل مما كانت متأكدة منه .. و هي ترى رياض يخرج من ذاك الملحق الخارجي البعيد .. متقدم إليهم ..
: شوفيه جاء...اللحين أقول له يرجعه لك
انتفضت ديمه برعب ..
:بأروح أخاف يهزأني مره ثانية
لتمسك رتيل بيدها ..
: لا وقفي..ماراح يقول لك شي

اقترب منهم .. لتلقيان عليه التحية بوجل .. و هما تكادات تلتصقان برتيل ..
: مساء الخير عمي
أجاب بنبرته الجافة .. المعتادة .. وهو يلتقط حقيبة رحيل من ديمة .. وهو يعقد حاجبيه الكثيفين كعادته ..
: مساء النور_يلتفت إلى رتيل لتلين ملامحه قليلاً_ليه شنطتك ثقيلة!
ضحكت رتيل و هي تجيبه ..
: هههه يا ذا الشنطة اللي تنقون عليها..فيها هدايا لخوالي..لا تخافون مو عفشي
عادت ملامحه تنعقد وهو يأمرهما ..
: وش جايبكم هنا يله ارجعوا لا يجون رجال و أنتم واقفين لي كذا
لتستنجد نظرات ديمة .. برتيل برجاء و حذر .. لتلتفت رتيل ترجوه بلطف ..
: رياض..تكفى رجع لديمه جوالها..ماراح اطلع لحد ماتوعدني
ليجيبها ببرود .. و نظرته الحادة تطرف للحظة لتلك التي انكمشت و رآها مختبئة عنه ..
: أجل خوذي شنطتك واجلسي أحب على قلبي
لتنغزها ديمة بإعتراض .. موافقة لما قاله ..
: رتيل هذا شي تراهنين عليه! ايه اجلسي و ما أبي جوالي

في وضعٍ آخر كانت لن تحلم أن يرجع لها ذاك الهاتف بسرعة .. لكن كلمتها التي ملأت رتيل سعادة .. لتحتضنها بحب .. و مودة .. جعلته يلين قليلاً على خطأها ..
: خلاص رياض رجعه لها...و الله قلبي ما يقوى على زعلها..و بعدين لا يهمك ترى كلمتها و فهمت و ماراح تعيدها
التفت لها مهدداً بنظرة نسر.. ليخاطبها محذراً ..
: مافيها عقل لو فكرت تعيدها...خلاص روحي خوذيه تلقينه في الصالة على الكنب

ابتعدتا ما إن اقترب و أحاط أكتاف رتيل بذراعه .. و هما يخرجان معاً ..
لتذهبا هي و أختها إلى منزل عمها رياض .. الذي أصبح يسكن فيه لوحده بعد وفاة عمهما والد رتيل .. و إنتقالها هي إلى غرفته قريباً من جديها ..

لتمط بنان شفتيها بإستنكار ..
: ماشاءالله هذا عمنا الأسود !!
تذكرت ديمة تلك الإبتسامة التي لا تعبر ملامحه .. إلا حين يتحدث مع رتيل ..
: أظن اليوم أخذت أنا حكاكة السواد كلها عنكم..بعدين تعرفينه عمي رياض مع رتيل يقلب طيف الألوان_لتصمت للحظة ثم تمسك ذراع بنان لتهذر بحماس_بنووو تتوقعين عمي رياض مسح الفيديو؟ أو لا؟ أكيد ما يعرف! ليته تقفل الجوال على طول أول ما أخذه و ألقاه..والله كان الفيديو شييي خطير و عزام طالع يجنن
هزت رأسها ساخرة ..
: يوم رجع الجوال بديتي تتحلمين بعزام ! اليوم الصبح تدعين بس ما يكون كسره

~*~*~*~

 
 

 

عرض البوم صور ماكينو   رد مع اقتباس
قديم 04-06-23, 05:39 PM   المشاركة رقم: 7
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2008
العضوية: 99255
المشاركات: 11
الجنس أنثى
معدل التقييم: ماكينو عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ماكينو غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ماكينو المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: رواية في أروقة القلب إلى أين تسيرين للكاتبة أغاني الشتاء

 

[..الجـــزء الرابــع..]

,, حينـمـا ننـدم ~
.
تأتي مواسم الندم .. شاحبة .. مصفّرة .. متأخرة ..
بعد أن نضجت أرواحنا من الخيبات .. و الألم ..
ذاب عظم الرجاءات .. فلا نجد أصابعاً .. لتعضّ عليها حسرتنا على ما فات!!
تُخالفنا عجلة الزمن .. نعلق في خريفٍ نتساقطه أسفاً ..
فلا يتبقى فيه للربيع .. أمـلاً ..

♥♥

كانت تجاهد طوال البارحة .. في محاولة طويلة .. متعبة .. لجلب النوم لأجفانها المرهقة .. لكنها لم تغفو للحظة .. لم يتركها القلق للحظة ..
و مع مرور الوقت تتزايد داخل روحها الهواجس .. و الخيالات ..
إنه صباح مختلفٌ جداً عن كل ما سبقه .. إنها مرحلة جديدة تخطوانها اليوم .. ليعبر صغيرتها ألم الحرمان من جديد ..

:: ::

كانتا قد ذهبتا للتسوق البارحة مع عمها ليحضر لها الكثير ما تحتاجه و مالا تحتاجه .. و حين عادت وجدت حتى سحاب و مزن أغرقتاها بكل تلك الأغراض .. اللطيفة .. الزاهية .. ليثقل الإمتنان بقلبها أكثر و أكثر .. و زوجة عمها أيضاً لم تنساها و تحضر لها كل ما تحتاجه حين خرجت مع فارس ..
كل ذاك الإهتمام كان قادراً على رسمة ابتسامتها بحنان و هي تتذكر الفرحة التي ملأت وتين ليلة البارحة .. حين جلست بحماس تقلّب أغراضها المدرسية الكثيرة .. المتناثرة بين يديها .. تحتار أيهم تأخذه في يومها الأول ..

: ماما...متى اروح المدرسة؟
: خلاص بكرة حبيبتي بتروحين ؟
حاولت أن تحسب الوقت المتبقي في ذهنها .. لكن رفرفة عينيها .. و إنعقاد حاجبيها الرقيقين .. أنبأتها بسؤالها التالي ..
: يعني كم باقي و يجي بكره ؟
ابتسمت وهي تشرح لها ببساطة كما اعتادت ..
: يعني اللحين تتعشين و ننام ونصحى..و يصير بكره
اتسعت إبتسامتها .. و هي تصفق بيديها ..
: ياااااي قريييب !
كانت تبتسم معها سعيدة بفرحتها .. لكنها للمرة الأولى لم تكن تشاركها حماستها ..
رهبة كبيرة تأسر قلبها و هي تتخيلها تُمضي كل تلك الساعات بعيدة عن هذا البيت و حمايتهم لها ..

:: ::

و هاهي الآن منذ الفجر و نبض قلبها يأبى أن يهدأ .. تروح و تجيء في الغرفة بوجوم .. و هي تجهز أغراضها بحرص شديد كي لا ينسى عقلها الشارد شيئاً..
و يداها اللتان كانتا كقطعتا ثلج .. بدأتا ترتجفان بشدة .. حين بدأت تجهز حقيبتها المدرسية .. و كل شيء يغدو حقيقياً أكثر فأكثر ..
منذ اليوم .. تعيش تجربة تخشاها بـ قدر ما تترقبها ..!
منذ اليوم .. ستخطو صغيرتها خطواتها الأولى في درب الحياة الحقيقية ..
سيتسع عالمها الصغير الذي احتوتها ست سنوات فيه .. حيث لا تغيب عن عينيها .. تحاوطها الروح كل وقت ..
لكن اليوم تغادر أسوار محبتها .. و خوفها .. لتعرف عالماً أكبر .. يذكرها بـ حرمانها أكثر ..
ستكبر .. ليكبر إدراكها .. و تكثر أسئلتها التي لن تظل تصدق تلك الإجابات الساذجة .. التي كانت تطبطب بها لطفاً على حرمانها ..

كم تخشى من ذاك الرابط الواهي بينهما .. أن يأتي يوماً و تراه حقيقة .. لا تعرف كيف ستعيشها من جديد !!
لا تتخيل لحظة قد تصادف فيها عيني صغيرتها .. حين تعرف حقيقة النكران الذي تعيشه طوال تلك السنوات ..
تتمنى فقط لو أن الحال يظل بها .. إلى هذا الحد من الوجع .. فلا طاقة لقلبها الراكد ألماً بين أضلعها .. بوجع آخر ..

لكن هواجسها المرعبة نحوه لا تنفك تعصف بها منذ الأمس ..
و ذاك الإسم يتسرب من تلك الأوراق ..
يعبر ذعر قلبها ..
و يشتت طمأنينته ..
لتتكثف بروحها تلك الذكريات المرعبة ..
فتخنق أنفاسها .. و يتلاشى نسيانها و ثباتها معها ..

زفرت بوجع حارق الخسائر الهائلة .. التي مضت بحياتها و لم تمضي يوماً من روحها ..
و هي تحدق طويلاً بإسمها الكامل .. حتى تساقطت دمعاتها الثقيلة .. و هي ترى نفسها تضطر أن تعترف به من جديد ..

(((( وتين رياض حمّاد الـ ......))))

يدك قلبها الوجع .. و هي تتحسس بأناملها ذاك الإسم .. لتأن روحها وجعاً .. و كأنها تنكأ جرحاً ملتهباً بنزفه ..
فتنساب دماء أيامها معه .. لتذكرها بالمرار الذي زرعه جذوراً راسخة في حياتها ..

~*~*~*~

كانت للتو قد وصلت إلى مكان عملها .. لتقطع ممرات الطواريء .. ترد التحية على جميع من تقابله ..
أطباء .. أو زملائها من ممرضين و ممرضات .. و العاملين أيضاً .. الكل يعرفها هنا ..
إنها صمام الأمان للجميع حتى في عملها .. تفرض لنفسها شخصية تسكن القلب .. و تحصل على تقديره ..
الجميع يحبها .. الجميع يحترمها .. الجميع يحتاجها ..
قريبة من الجميع .. لكنها رغم ذلك وضعت حدوداً للتعامل معها لا أحد يجرؤ أن يخطو عليها ..

دخلت إلى غرفة الممرضات ..و حالما ارتدت معطفها الأبيض .. رأت تلك المتدربتين التي تشرف عليهما .. تدخلان ..
: صباح الخير رتيل
أجابتهما بإمتنان ..
: صباح الورد...ماشاءالله عليكم اليوم جايين قبلي حتى
لترد إحداهما بمحبة ..
: كلش و لا زعلك يا قلبي...و مدلعينك و جايبين لك أمريكانو عشان تروقين علينا
مدت يدها لتلتقط كوب القهوة الذي قدمته لها .. شاكرة .. و هي تبتسم حين تذكرت تلك المحاضرة التي ألقتها عليهما في الأمس بسبب تأخرهما الدائم .. الحمدلله هذه المرة يبدو أن المتدربات يملكن شخصيات ألطف .. من سابقاتهن .. و اللاتي كانت تتتجادل معهم يومياً .. حين يرفضن حتى أي ملاحظة تقدمها لهن ..

رشفة واحدة دافئة هي ما حصلت عليه من تلك القهوة .. قبل أن يصل إلى مسامعهم نداء فريق الإصابات .. معلناً قدوم الكثير من الحالات الحرجة .. التي أصيبت في حادث تصادم بين سيارتين ..
ألقت بالكوب على مكتبها .. و هي تلتفت لترى أعينهم يملأها الذعر ..
: لا حول و لا قوة إلا بالله..يله بنات
و ترك الكل ما كان يشغله و هم يتوجهون جميعاً إلى ردهة الطواريء ..وصلن جميعهن ليقفن صفاً واحداً ..
زفرت نفساً قوياً و هي تستمع بتركيز و إنتباه لتعليمات الدكتور المشرف على الطواريء .. وهو يؤكد عليهم فرز الحالات و التعامل معها بحسب درجة خطورتها .. ليبدأوا بسرعة في علاجها ..

بدأت تلك الممرات .. تستنفر بالأطباء و الممرضين .. و الحالات تصلهم مع المسعفين تباعاً ..
و بعد لحظات امتلأت المقاعد .. و الممرات بالوجوه المفزوعة .. نظرات تحمل شك الفقد الموجع .. و بعضهم أجسادهم تحمل بعضاً من دماء أهلهم و أحبائهم ..

كان اسمها يتردد كثيراً على ألسنة الكل .. و هي تنتقل سريعاً للمساعدة في كل ما يحتاجونها به ..
نظراتهم تتعلق بها في كل حالة .. فهي معروفة لديهم بصلابتها .. و إحكام عقلها و إنفعالاتها في هذه الظروف الصعبة ..

لا ترعبها تلك الدماء الدافئة التي تعبر أصابعها كل يوم ..
لكنها مازالت لم تتخلص من رعب تلك الدماء الباردة التي أريقت بعيداً عنها !!
للآن تغرق بذاك الذعر .. و هي تتخيل لحظاته الأخيرة ؟؟
تكاد تشعر برفرفة قلبه حين توقفت .. و كأنها للآن تضمه في صدرها ..
يرعبها شعور تتخيله لنبضاته و هي تتوقف فجأة .. فيعتصر الوجع أضلعها التي عجزت أن تحميه ..
لتتصلب مشاعرها بقسوة .. تتضخم فلا يسعها حزن أو ألم ..

عقلها الغارق بمرار الذكرى التقط تلك الأصوات التي علت بجانبها .. لترفع عيناها الشاردتان للحظة .. تتابع بإهتمام تلك المتدربتين الفزعتين .. اللتين بدأتا تائهتين في أول حالات حرجة تصادفهما .. و لسؤ حظهما كانت الحالات كثيرة ..
اقتربت منهما حين كان أحد الدكاترة يصرخ بإحداهما .. و التي بدى أنها لا تعي ما يقول حتى ..
و بدأت ترشدهما لما يجب أن تفعلانه بصوت هاديء حازم ..نظراتها الواثقة بهما بثت الطمأنينة في فزعهما .. مجرد وجودها قريبة منهما .. جعلهما تهدآن قليلاً .. و تبدأن بإستيعاب ما يجب عليهما فعله ..

:
:

مرت على الحالتين .. التي وصلتا قبل الحادث .. لتتأكد من علاماتهما الحيوية .. و إستقرارهما .. و حين كانت ستخرج من الحالة الثانية .. اعترض طريقها هذا الرجل ..

: هيه أنتي...وين رايحة؟ بنتي ماجاها الدكتور للحين بس هالممرضات يدورون عليها
ردت عليه بهدؤ .. رغم إرتفاع صوته و حديثه معها بوقاحة ..
: تطمن حالتها مستقرة..و إن شاء الله الدكتور بيجي اللحين يشوفها بس....
كانت تحاول طمأنته .. حين انتفضت و رجعت خطوة للوراء .. وهو يقترب منها بغضب يصرخ بها ..
: و أنتي مين عشان تشخصين حالتها!! تراك قطعة ممرضة لا رحتي و لاجيتي..يله روحي نادي الدكتور أو ارفع فيك شكوى

كانت سترد عليه .. تعلم جيداً كيف توقف هذه الشخصيات المتطاولة .. الوقحة عند حدها ..
لكنها رغم ثقتها لم تحتاج يوماً أن تقف وحيدة تدافع عن نفسها ..
فمكانتها عند الجميع .. جعلتها بعيدة عن التعامل مع هذه المواقف بنفسها .. لذا قبل أن تتمكن من الرد .. و جدت اثنين من زملائها قد هبا بلحظة ليقفا بينه و بينها .. ليلتفت عليها أحدهما بذات نظراته المهتمة التي لم تخيب بها .. رغم رفضها له ..

: رتيل حنا بنتفاهم معه...روحي كملي شغلك

:
:

بعد هدؤ الأوضاع حولها نسبياً .. قررت الذهاب هذه المرة هي لإحضار قهوة لهما .. بدل تلك التي لم يتسنى لهن شربها .. و حين مرت من أمام زميليها .. توقفت لتسأل بإهتمام ..
: وش صار مع الرجل؟ عسى ما سوى لكم مشكلة؟
و رغم أنهما قضيا وقتاً طويلاً بمجادلته .. و وقتاً أطول في تلك الشكوى التي رفعها فيهما مدعياً أنهما تهجما عليه .. إلا أن اسمها لم يعبر تلك الشكوى .. كما لم يخبرها بذلك الآن .. كي لا تضيق .. و لا تقلق ..
: ماصار شي لا تهتمين...الله هداه و هجد
تنهدت براحة ..
: زين الحمدلله
تركتهما و عينا أحدهما مازالت تتبعها بشرود .. قبل أن يقاطعه صوت زميله الساخر ..
: إلى متى مسلسل هالنظرات يعني!
رد عليه بيأس ..
: وش تبي اسوي يعني؟ خطبتها و رفضت...و مع رتيل ما فيه مجال تسمح لي اقترب و أوضح أكثر من كذ!

~*~*~*~

ها هي أصبحت في سنتها الجامعية الأخيرة .. طالبة تدريب في قسم رياض الأطفال .. و بقدر ما ستشتاق لزميلاتها .. و ذكرياتهن في أروقة هذه الجامعة .. بقدر ما تشعر بالحماس و الترقب .. لأيام التدريب .. و التفاعل مع الأطفال .. و تعليمهم ..

خرجت باكراً قبل صديقتيها من محاضرتهن الأولى .. لتجلس في إنتظارهما .. قبل أن يأخذها الشرود و هي تتأمل صوره المحفوظة في هاتفها ..
أحست بإقتراب إحداهما .. لترفع رأسها لها .. تسأل عن صديقتهما الأخرى ..
: وين لوتا ؟
جلست بجانبها و هي تجيبها ..
: راحت تشوف مين من البنات في قسمنا بيكون معها في التدريب الميداني
مطت شفتيها بضيق ..
: خسارة ليتها معنا في نفس الروضة! ما اتخيل ثلاث أيام في الأسبوع ما نشوفها
ضحكت و هي تجيبها ..
: ههه اسكتي لا تذكرينها..من حالها الدموع تملأ عيونها كل ما اطريت قدامها التطبيق و تذكرت إننا بنكون سوا و هي لحالها!
ردت عليها سحاب بجدية .. مصطنعة ..
: يوم أقولها تتزوج أخوك بس هالسنة عشان تكون نفس حيّنا و تسجل بروضتنا هي معاندة
اعترضت صديقتها ..
: والله خليتوا أخوي تذكرة كل وحدة تبغى تجي عندي طقته وجات
ابتسمت لها ببلاهة ..
: هههه آخر سنة خلينا نستغله على الآخر
لكنها لم ترد على مزاحها .. و هي تركز نظرها عليها بإهتمام .. لتسألها ..
: ما قلتي وش أخبارك أنتي؟ وش إنجازاتك في الإجازة ؟
ابتسمت بسذاجة كبيرة .. لكن بفرحة صادقة .. و هي ترفع هاتفها في وجه صديقتها ..
: صارت عندي له صورتين
نظرت لذاك الرجل .. الذي يبدو أنها التقطت صورته المشوشة هذه .. من إحدى الفيديوات المرسلة لها ..
: تدرين بوحا أنا دايم كنت أظن إنك خبلة و على نياتك..بس طلعتي غبية و ما تدرين وين ربي حاطك!
نظرت لها سحاب بغيض .. و هي تغلق هاتفها .. لكنها أكملت بجدية و لم تأبه لها ..
: معليش بوحا بس ماني قادرة اشوف هالحب منطقي!!...و لا ظنيت أهلك بيقتنعون فيه و لا أحس هو بكبره بيفكر فيك
تقوست شفتاها للأسفل بحزن ..
: ياساتر على التحطيمات! حشى دخلتي قلوبنا كلنا و عرفتي وش نفكر فيه!!
أجابتها بجدية معتذرة ..
: سحاب أنا مابي السالفة تكبر بقلبك عشان ما تتحطمين
تنهدت ضائقة .. و هي تدافع عن نفسها .. رغم أنهاتناقض أفكارها .. و مشاعرها ..
: أحد قال لك إني واقفة على الباب انتظره يخطبني؟!
ارتفع صوت صديقتها بحدة قليلاً ..
: أجل أحلام اليقظة اللي أنتي فيها لك سنة؟ ليه؟ هدر مشاعر و السلام!
أجابتها بإستسلام ..
: مشاعر! هذا أنتي قلتي...يعني مو بكيفي أوجهها هي تجي كذا
أكدت لها ساخرة ..
: ايه بس أنتي يوم عن يوم صرتي تتعلقين فيه بزيادة! و معطيه قلبك العبيط جوه على الآخر!
رفعت كتفيها متسائلة ..
: وش المفروض اسوي يعني؟
تحدثت بجدية لعلها تقنعها ..
: تمسحين هالصور..و لا تفكرين فيه..و تتذكرين انه مطلق و عنده بنتين و لا راح تكونين خيار قدامه أبداً..و إن بينكم 15 سنة!! و إذا كانت شخصيته مثل اللي تتكلمين عنه صدق...أكيد ماراح يفكر فيك أبداً
وقفت لتتركها بعد أن ملأت قلبها ضيقاً .. تتحاشى التفكير به ..
: يا كرهي لك يا نينو! بأروح اجيبلك ماء أكيد نشف ريقك بعد هالمحاضرة الطويلة

تركتها ضائقة .. يؤلمها أن كل حديثها .. أقرب للحقيقة من كل تلك الخيالات البعيدة التي تجمع هي نفسها به ..
معها حق .. لا أحد سيرى هذا الحب .. كما تراه هي .. حتى هو .. بالذات هو !!
لكنها لا تهتم .. سعيدة هي فقط بمشاعرها .. و لا تريد أن تفكر بالنتائج .. لذا لا تفكر أبداً في التخلي عنه .. أو اليأس من أحلامها به ..
فهو كان و مازال ذكرى هامة جداً في حياتها .. شخص عزيز عليها .. لا يخلو عمرها من أي ذكرى جميلة لها معه ..
كان و مازال .. أسطورتها البطولية .. مواقفها معه منذ الطفولة .. تعلو به في سماء روحها .. حتى تبعده عن أي واقع أو حقيقة ..

:: ::

كانت تبكي وحدها في مدخل بيت جدها .. بعد أن تركتاها غزلان و صبا خلفهما .. و ذهبتاإلى بقالة الحي مع مروان .. الذي رفض أخذها معهما .. بحجة أنها مازالت طفلة .. كانت قد صرخت به تخبره أنها بنفس عمر غزلان و صبا .. و لها من العمر اثنتا عشر سنة مثلهما .. و لكنه بالحكم على قصرها .. و ملامحها الطفولية جداً لم يكن يصدقها .. و يعاملها كالكل .. كطفلة مازالت لم تتعدى الثامنة بعد !!
حين وقف حاتم بالقرب منها .. يحني قامته المديدة .. كي يتأمل ملامح وجهها .. و عيناها الباكية .. بعينيه العذبتين .. المهتمتين دوماً ..
: وش فيها حلوتنا سوسو تصيح ؟
غطت عينيها بيديها بإحكام .. فكم كانت تكره بكائها السريع .. الذي يثبت إتهام الطفولة الذي يدينونها دوماً به .. لتصرخ به ..
: مالك دخل روح عني
كانت غاضبة و لا تريد أن تتحدث معه هو بالذات .. لأنه يعاملها دائماً كطفلة .. ليصلها صوته الحاني متسائلاً ..
: أروح أنادي لك أختك التوأم؟
كان قادراً على جذب إنتباهها .. لتبعد يدها .. ترمقه بإستغراب .. قبل أن تكشر بملامحها ..
: كذاب ما عندي أخت توأم
رفع حاجبيه بصدمة ..
: كيف ما عندك أخت!! .. فيه وحده تشبه لك عند الباب تعالي شوفيها

كان يتكلم بجدية .. و بسذاجة الأطفال صدقته و خرجت معه ..
و هي تمحو على عجل دمعاتها المنسابة على خديها المتكورتين .. لترى تلك الأخت التي يدعي أنها تشبهها ..
لتقف في الخارج بجانبه .. تدور عيناها المتسعتين بأهدابهما المبتلة .. في المكان الفارغ .. لتعبس بغضب تلتفت إليه نظراتها تتسائل عن كذبته ..
: ووووينهاااا ؟
لتراه يشير إلى زهرة صفراء متفتحة بلون فستانها الذي ترتديه .. فترتسم الإبتسامة على شفتيها الرقيقتين .. و هي تراه ينحني ليقطف لها تلك الزهرة .. و يمدها لها بإبتسامته الدافئة ..
: خوذيها معك لا تخلينها لحالها

:: ::

كانت تقف في الحي .. بالكاد تحشر نفسها بين شحود الأطفال .. الذين يفوقونها طولاً .. و قد تجمعوا بحماس لمشاهدة .. تلك الألعاب النارية .. التي يطلقها خوالها في ليلة العيد .. لكنها وسط هذا الزحام كانت لا ترى سوى .. أنوارها البعيدة البسيطة .. التي كانت ألوانها تخفت سريعاً .. حين ترتفع عالياً بالسماء ..
كشرت بضيق .. و عيناها كعادتها تجمع الدموع لآليء تلتمع بهما .. لتبتعد عنهم .. تريد العودة إلى بيت جدها .. حين صادفها حاتم ..
اعترض طريقها .. ليقف أمامها .. ينحني كعادته ليتأمل ملامحها .. و عينيها التي ما إن رأته حتى تدحرج دمعها كالبلورات على خديها ..
: وين رايحة الحلوة سوسو...لا يكون خفتي!
صرخت به و كأنه السبب .. في قصر قامتها .. و هي تتعداه غاضبة ..
: مااااا أشوووف شي! كلهم طوال .. غفصوووني
بالكاد تعدته بخطوات بسيطة .. قبل أن تشهق .. و قدميها تطيران عن الأرض .. لترى نفسها تجلس فوق أكتافه .. و يعود بها إلى ذاك الجمع .. الذي أصبحت تفوقهم بالإرتفاع .. لتصرخ بفرح و حماس .. تهذر له بكل تلك الألوان التي تراها .. بفضله ..

:: ::

ابتسمت لتلك الذكريات البعيدة .. و لكل ذكرى عبرتها معه .. ملأ بها قلبها إحساساً دافئاً بإهتمامه .. و حديثه .. و نظراته ..
إعجابها به قديم جداً .. بدأ منذ سنوات طفولتها .. حيث كان دائماً شخصها المثالي .. بطلها في كل لحظة ضعف تمر بها ..
لطالما كان شعورها نحوه أبيضاً .. لا تلونه أي خصوصية بها .. أو بقلبها ..
كان مجرد ترجمة واقعية أمامها لكل ما قد تحبه في رجل .. تحب أن تسمع عنه .. تحب مراقبة ذاك الود الذي يفيض من صوته .. و نظراته ..

لكن بعد طلاقه .. بعد أن شهدت إنكسار شيء غالي عليها ..انحرفت كل طرقات القلب إليه .. و كأنها أخذت على عاتقها حمايته من ألم جديد ..
كانت تتمنى لو تفتح بقلبه نافذة إطمئنان صغيرة .. إمتناناً لتلك النوافذ الزرقاء التي طالما فتحها بروحها .. بعطفه .. و محبته .. و إهتمامه ..
و شيئاً فشيئاً بدأت ترتبك مشاعرها إتجاهه أكثر .. بدأ قلبها يقلص تلك السنوات الطوال بينهما .. لتراه القالب الأمثل الذي سكبت به جميع مشاعرها .. و أحلامها .. و خيالاتها ..

~*~*~*~

نزلت تتمطى بملل ..لتدخل إلى الصالة التي اكتملت حلتها الجديدة .. و التي لم يمضي على سابقتها سوى عام واحد .. لتبتسم بتثاقل تجامل إبتسامة والدتها المتسعة .. الفخورة بما حولها ..
: وش رايك في ذوق أمك؟
أجابتها ببرود ..
: أكيد حلو
جلست بسكون شاردة .. و عيناها تتابع والدتها التي تروح و تجيء أمامها .. و هي تأمر تلك الخادمة أن تنقل قطعة ديكور لتبدلها مكان الأخرى في محاولة لإيجاد التنسيق المثالي الذي تحلم به ..
عاماً بعد عام .. يتقدم أبيها في عمله أكثر .. ليرتقي مستواهم الإجتماعي أكثر .. فتخسر أوقاتها مع والدها .. والدتها أكثر فأكثر ..
تحس بتفكك عائلتهم .. إنفراط إهتمامهم ببعض .. و كل واحد منهم يبني له عالماً لا يمت للآخر بصلة ..

كانت حبيسة أفكارها لوقت طويل .. حتى رأت والدتها تجلس أخيراً لتنظر إليها .. لتتحدث بلا شعور .. ذاك الحديث الذي كانت تكتمه لوقت طويل ..
: ممداك تغيرين ديزاين الصالة! ليه لك أسبوعين من محل لمحل مستعجلة!
أجابتها بحماس ..
: عشان بأسوي عشاء لأم سلطان
عقدت حاجبيها بإستنكار ..
: و مين أم سلطان هذي!!
أجابتها بإهتمام بالغ كعادتها في كل ما يخص والدها و عمله ..
: زوجة واحد يهم أبوك في شغله و اليوم متصل يوصيني عليها
ضحكت ساخرة ..
: ماشاء الله لنا شهر ما شفناه مسافر و متصل يوصيك تقلبين البيت عشان خاطر أم سلطان!!
حذرتها والدتها مؤنبة ..
: غزلان!! وش هالكلام عن أبوك؟
اعترفت بصدق ..
:والله أبوي قربت أنسى ملامحه من كثر سفراته! ودي أفهم وش هالشغل اللي يستدعي هالسفر كله!
أجابتها مصححة .. توجد له من الأسباب ما تستطيع .. و تسخر له مالا تستطيعه ..
: قولي الله يعطيه الصحة و العافية و يخليه لنا..احمدي ربك إنه يتعب عشانكم و طالعة عينه عشان تعيشين أنتي بهالمستوى
ردت عليها بصدق .. ساخر ..
: والله محد طالعة عينه في هالبيت و مهتم فينا غيرعمار.. لا أبوي اللي مانشوفه غير بالشهر مرة و لا غالب اللي مايشوف إلا نفسه و ناسينا
تنهدت والدتها بضيق ..
: عمار مو مطلع عينه و متعبه غير هالنادي اللي ماله داعي...آخذ وقته وجهده...لو يفك عمره منه و يهتم في شغله مع أبوك أحسن
انتفضت بقهر من رأي والدتها ..
: يمه حرام عليك النادي هو المتنفس الوحيد لعمار..وجهه وهو راجع منه أحسن مية مرة من وجهه وهو راجع من الشغل..خلوا أحد في هالبيت يسوي شي يحبه بدون ما نفكر هو بينفع أبوي و يرضيه أو لا...لا تطفشينه عشان خاطر ابوي لا يهج عنا مثل ما هج غالب
حذرتها بغضب منهية الحديث .. و هي تنهض هاربة كعادتها ..
: غزلان لسانك هذا لو يطول مرة ثانية على أبوك بجد أو مزح ترى بأقصه لك

و صمتت مجبرة .. و هي تلوم نفسها على حديث.. من المفترض أنها أيقنت منذ زمن أنه لن يصل إلى أي معنى مع والدتها ..
فوالدتها على إستعداد لتقديم أي قُربان لرضى زوجها .. و الحصول على حبه .. و إهتمامه .. حتى لو كانت تقدمهم هم أبنائها ثمناً لهذا الرضا ..
و هي لا تعرف لماذا مازالت تهتم .. و على ماذا تنوح ؟؟
الكل يحسدها على هذا القصر !
على تلك الأموال التي تصرفها بلا حساب ! على تلك الملابس و الشنط الباهضة الثمن !
الكل يراها تعيش بترف .. لا يحق معه أي شكوى !
و هي تحاول جاهدة حشر نفسها بهذا الإيطار الفاخر الذي سجنوها به .. و يجب أن تحس من خلاله.. و تتصرف حسب قواعده ..

~*~*~*~

فتح الباب ليخرج .. لكنه وقف بحرج .. و صدمة .. وهو يراها تقف قريباً جداً منه .. على آخر عتبات الدرج ..
مطرقة برأسها .. تتأفف .. و هي تعبث بيدها بشنطتها المفتوحة على إتساعها .. يبدو أنها تبحث فيها عن مفتاحها ..
أي شرود يأخذ عقلها .. حتى لا تنتبه لوقوفه قريباً منها .. حتى لم تسمع تكة الباب حين فتحه !!

ارتعش نبض غادر بقلبه .. و عيناه بلا وعي تتابع حركات يديها الحانقة ..
كم تملك سطوة قوية على إحساسه بحضورها .. لتتركه متهيباً .. مترقباً .. لأدنى ردة فعل قد تصدر منها ..
ليحفظ عقله تلك المشاهد .. القصيرة .. البسيطة .. لتتردد بفكره طويلاً .. بلا سبب .. أو معنى ..

يقف قلبه طويلاً .. على لمحات طيف لا يعرف له سوى إسم .. و نبرة جافة .. و نظرات سائمة .. عدائية ..
تجعله دوماً منفي .. غير مرحب بأي قول أو فعل منه !
لكن رغم كل هذا .. لا أحد قادر على أن يصل إلى عمق إحساسه الراكد .. كما تفعل هي ..

رفعت رأسها أخيراً .. لتقابل نظرته الدافئة .. المعتذرة .. نظرة شرسة .. عدائية ..
تجعله يتخيل كل تلك الكلمات التي تتمنى لو تطلقها رصاصاً يفرغ غضبها عليه .. و الذي لا يعلم سببه ..
بلحظة قصيرة .. بعثت بدقات قلبه إلى أقصاها .. تراجع ليبتعد .. مفسحاً لها الطريق للدخول .. وهو يشرح لها سبب وجوده الذي تكرهه .. و ينبهها ..
: فيه عمال في المدخل .. بانتظرهم يغيرون أسلاك الكهرباء......

و كعادتها غادرته بلا إهتمام قبل أن يكمل حديثه ..فهو بالطبع لا يستحق منها نظرة عرفان أو شكر .. أو حتى إيماءة تدل أن هناك شخصاً يحادثها ..
زفر بقوة ..و تذكر أنه كان ينوي الاتصال بوالدتها ليبلغها .. عن سبب مشكلة الماس الكهربائي .. الذي شكت له منه ..
و اتصل بها ..ليتحدث معها للحظة .. قبل أن يسمع صوتها العالي حين دخلت عليها ..
: يمــــــه...قلت لك أنا بأجيب أحد يصلحهم..ليه تدقين على هذا؟؟

تعذرت والدتها بسرعة منهية الإتصال .. أملاً شحيحاً أن لا يكون قد سمع ما سمعه ..
ليتنهد بمرار .. يؤلمه أن يكرهه أحد إلى هذا الحد .. أن يكون مجرد وجوده قريباً منها .. إدانة تجرّده حتى من حقه أن يكون له إسم يعبر صوتها !!

خرج ليقف أمام سيارتها بفضول .. عيناه تتأمل داخلها بشرود .. تلك الكتب و الملفات المتكدسة في الكرسي بجانبها .. و تعلق على مرآتها .. دمية عاقدةً حاجبيها .. ترتدي تيشيرتاً أسوداً .. كُتب عليه كلمة (طز) .. يالهذا المزاج العكر الذي تملكه !!
ليزفر بضيق وهو يعود إلى باحة منزلهم ينتظر إنتهاء العمال .. و هي ماتزال تغزو أفكاره كما تفعل دائماً بلا حق ..

هل هي معقدة هكذا دوماً مع الجميع ؟؟ أم معه فقط؟
هل نبرتها الحادة .. الجافة .. الخالية من أي رقة أنثوية هي صوتها الإعتيادي .. أم أنها تعلن رفضها لتطفله حتى في نبرات صوتها ؟؟
هل يصادف دوماً وجوده أزمة مزاجية تمر بها ؟ أم هي متعكرة المزاج على كل حال؟ أم هو من يستفز ذاك المزاج المشتعل ؟؟
و لما تكرهه إلى هذا الحد ؟؟
لما يغضبها مجرد وجوده قريباً منهم؟؟
لما تستثقله لهذا الحد ؟؟

و سؤال لا يزال يعلق بعقله .. ليستفز قلبه و مشاعره نحوها !
لماذا لم توافق عليه ؟ لماذا لم تعطيه حتى أسباباً يستند عليها أو قد يكون قادراً على تغييرها ؟

أحقاً ! كان على إستعداد أن يتغير من أجلها ؟
لماذا ؟؟
مالذي يعلقه بفتاة قلبها قُدّ من صخر ؟؟
لما يجد شيئاً يسحبه لعمق تلك النظرات المتكدرة ؟؟
هل يفتقد صديقه .. ويرجو أن يجد إمتداداً لعشرته في قربها ؟؟
هل هو الوفاء له .. الذي يجعله يحس بوحدتها من بعده ؟؟
أم أصبح الأمر مجرد هوس يعلقه بتلك الأنثى الغامضة .. الصعبة .. التي ترفضه !!

~*~*~*~

دخلت إلى الصالة لتجد والدتها تجلس وحدها .. تعمل كعادتها على (اللابتوب) الذي بات لا يفارقها كثيراً منذ بدء عملها كرئيسة قسم .. في الإشراف التعليمي العام الماضي .. جلست بجانبها تسأل مستفسرة بعد السلام عليها ..
: ليه البيت هادي ؟ وين أمي اللولو؟ وين البنات؟
أجابتها تهز رأسها هازئة .. فلا إهتمام بالنسبة لها .. سوى في عملها .. و دراستهم ..
: البنات فاضين طالعين مع جدك_لتكمل بإستخفاف_لأن أبوك مستورد له نعام و انجنوا يوم دروا قالوا بيروحون يتقهوون بمزرعته و يشوفونها

أتاها إتصال لتنشغل به .. و هي صمتت تراقب ملامح والدتها التي ظلت لسنوات .. غير مقتنعة .. بعمل والدها في تجارة المواشي .. غير مقتنعة منذ البدء بمؤهله العلمي .. الثانوي ..
هي من تفوقه علماً .. و مركزاً .. لكن يُتمها أجبرها على الإرتباط به .. لتعظم خيبتها به أكثر .. حين رأته بعد كل هذا .. لا يكتفي بها .. و يفضل عليها امرأة لم تكمل تعليمها مثله .. فابتعدت .. لتغرق في حياتها العملية .. و تركنهما على هامش حياتها .. عادت لتسألها حين أغلقت هاتفها ..
: شكلها حتى رتيل رايحة معهم !
أكملت سيل اعتراضاتها ..
: ايه البنت توها جايه من دوامها ماخلوها ترتاح نشبوا لها و راحت معهم...ليه ما قلتي لهم إنك بتجين كان رحتي معهم بعد
أجابتها موضحة ..
: لا أنا جايه عشان حاتم .. بأروح معه ننتقضى أغراض البنات للروضة
سألت بإستغراب ..
: ليه ما قال لي اروح أنا معه!
ابتسمت بحنان و شفقة ..
: رفيف و وريف طالبيني بالإسم
تنهدت والدتها بضيق على حاله .. و حال فتياته ..
: الله يعوضه بأحسن من اللي شافه...لو الله يهديه يرضى يتزوج مو أحسن لحال هالبنيات!
وافقتها الرأي ..
: ربي يرزقه بوحدة تستاهل قلبه الطيب

كانت قد انشغلت قليلاً بما تكتبه .. قبل أن تعود تنظر إليها بتفحص ..
: و أنتي وش أخبارك مع غالب؟
زفرت بأسى .. و ملامحها تغشاها ذات الخيبة التي توجع قلبها معه ..
: لا تسأليني يمه لأنك عارفة إني ما أقدر أكذب عليك..و لا أبي أضيق و أضيقك معي
ارتفع صوتها بعتب .. و هي ترى الملامح اليائسة .. تغيم على رقة ملامحها ..
: دانية لا تخربين حياتك بيدك...اتركي عنك كلام المسلسلات و هالروايات اللي تقرينها...يحبك أو ما يحبك...أبيه يشتاقلي...أبيه يدلعني...أنا متأكدة إن غالب مافيه أي عيب يخليك كل ما جيتيني هنا تتحلطمين كل هالحلطمة! و ينقلب وجهك إذا اطريتيه
تندتا عينيها بالدمع .. و هي تستنكر حديث والدتها الذي يشبه تصرفاته معها .. و حديثه ..
: يعني عادي اعيش معه كأني قطعة أثاث في البيت...يستخدمني حسب احتياجه بس! عشاني موجودة بس!
اتسعت عيناها بغضب ..
: لاحول و لا قوة إلا بالله! أنا مادري هالأفكار كيف تطلع من عقلك! دانية اكبري عاد و يكفي دلع..يعني وش تبينه يسوي أكثر من اللي يسويه!!

قبل أن ترد .. قاطعها دخول زوجة أبيها .. لتقترب منهما .. و ما إن رأت ملامحها الحزينة و قبل أن تسلم عليها .. عاتبت والدتها ..
: وش فيك معصبة؟عسى كل هالصوت العالي لدانية! ليه مضايقتها؟
والدتها تجيب بجدية .. و حدة .. فوضعها و مشكلتها في نظرها باتت سخيفة .. و طالت عن الحد المعقول .. الذي باتت تتوقع منه رد فعل سيء من غالب ..
: خلاص دانية صارت راعية بيت و تعرف تهتم بنفسها...و أنتم للحين إذا شفتوا بعينها طرف دمعة ركضتوا فيها بكل مكان تراضونها..و هاللحين غالب مو عاجبها عشانه بس ما يسوي مثلكم
أجابتها بإقتناع تام ..
: ايه وش حاجته ولد فاهد مايدلعها و يحطها بعيونه!
تهز رأسها بأسف ..
: مو أقولك أكلتم عقلها بهالدلع! -التفتت تؤكد لدانية-كل واحد يهتم و يحب بطريقته..مو ضروري يسوي لك فلم عشان ترضين عليه......

قاطعها إتصال من عملها .. لتتركهم و هي تنغمس سريعاً في تلك الأنظمة و اللوائح التي تشغل فكرها ..
لتلتفت إليها زوجة أبيها ما إن غابت والدتها عنهما ..

: دانية لا تمشين ورى كلام أمك أو بتخسرين حياتك..أمك طيعيها في كل شيء..إلا الرجل لأن من شاف حالها مع أبوك عرف إنها ما يوخذ منها حق و لا باطل بأمور الزواج
اتسعت عيناها بإهتمام .. و هي تسألها ..
: يعني أنتي شايفه إن معي حق..و غالب صدق ما يحبني!
رفعت حاجبها بمكر .. و حماس ..
: و الله إذا ما يحبك...بيدك تخلينه يحبك غصب
ضحكت ساخرة .. لتبتسم بعدها بضيق ..
: أنا! و كيف بأغصبه بس يا خالتي..إذا كل الحب اللي عطيته إياه و الاهتمام ما بان في عينه
: لا تعطينه زود...و تعلمي كيد النساء ترى لا طيبتك و لا صراحة أمك تنفع مع الرجال..

كانت تستمع بعجز لكل ما تسرده زوجة أبيها على مسامعها .. و تدرك جيداً أنها لن تفعل أياً منه ..
أي كيد هذا تحدثها عنه .. تريدها أن تملكه به! لن تستطيعه أبداً !!
هي تلقائية .. تتصرف كما تشعر .. و تعبر عن مشاعرها بوضوح .. و شفافية صرفة ..
لا تستطيع و لا تعرف كيف تزيف خارجها .. بخلاف ما تشعر بداخلها ..
لا تعرف أن تلبس وجوهاً .. غير وجههاَ ..
لا تعرف أن تتصرف إلا بعفويتها .. و طبيعتها ..
و كل هذا لم يجد حماساً و لا قبولاً من جهته ! كل هذا عجز أن يخلق في قلبه أهمية لها!

إن لم يحبها من تلقاء نفسه .. لن تخوض حروب النساء من أجله ..
إن أبى أن يراعيها و يحنو عليها و على وحدتها و شتاتها معه ..
يجب عليها أن تصنع لها درعاً حامياً لقلبها .. الذي رده عليها خائباً .. مليئاً بالتكسرات .. و الخذلان ..

~*~*~*~

عند منتصف الليل .. في سكون المكان من حوله .. راح ينفث أنفاسه المختنقة .. لعلها تخرج من ذاك الصدر القوي .. القاسي .. تصحب معها بعضاً من أدخنة الروح التي تشتعل في جوفه .. لعلّه يرتاح .. ليقوى على الإستمرار بإكتساء ملامح الغموض .. التي لا تشي .. بتلك الأعاصير التي تحوم بعقله في كل حين ..

لزمه عمراً طويلاً .. حتى طوّع روحه .. و أنهى صلاحية مشاعره .. و إنفعالاته ..
و عاماً بعد عام .. بدأت تتصلب هذه الروح أكثر فأكثر ..
فيثقل رداء الصمت .. و الغموض الذي يلتحف به .. حتى يصبح بمعزلٍ عن كل ما حوله ..
لم يبقى بداخله نهارُ و لا ربيع .. لا مطرُ و لا زرع ..
منذ أولى صفعات الخيبة .. تعلم صمت الإنكسار .. فقط ليحمي من خلفه ..
أخذ يستهلك جذور صبره ليقف بثبات ..ليصد تلك الإنتكاسات التي تهدد أمناً يصدقون العيش على كذبته ..
وها هو يرأب بأيادي مستميتة تلك الصدوع التي تتهالك كل يوم بين يديه ..

:
:

انتهت مع إحدى الخادمات التي بقيت معها .. لتجهزا تلك الفطائر .. التي ستأخذها بنان معها إلى المدرسة .. في النشاط الترحيبي الذي سيقيمونه في الغد ..
كانت ستغلق أنوار المطبخ الخارجي .. حين سمعت رنات هاتف تتعالى من مكان قريب في الخارج .. لتخرج من الباب الخلفي للمطبخ .. وتقف على عتبة الباب .. تراه يجلس شارداً ..
منذ ثلاث ساعات غادر جدته .. هل كان طوال هذا الوقت يجلس هنا لوحده ؟؟

و لم تكن المرة الأولى التي تراه فيها يجلس هنا وحيداً .. واجماً .. ساكناً لساعات ..
فهذه البقعة المظلمة الوحيدة في باحة منزلهم .. قلما يمرها أحد .. و يقبع خلفها باب يؤدي للشارع ..
يجعله يخرج دون أن يراه أحد .. بعد أن يقضي إعتكاف صمتٍ طويل .. لا تدري مالذي يصل به إلى هذا الحد !!

كانت ستعود أدراجها .. حتى لا تتطفل على صمته الغريب .. لكن الأوان قد فات .. حين شعر بوجودها .. و رفع رأسه فجأة .. لتتكلم معه بعفوية .. و كأنها لم تكن تسترق النظر إليه ..
:عمار
سأل ليتأكد .. فهو ما عاد ينتبه إلى الفوارق في أصوات بنات عمه .. فهو دائماً غارق في ملكوت بعيد عن الكل ..
: رتيل!
أجابته..لتسأله مستفسرة رغم يقينها بعدم إجابته ..
: ايه..للحين ما رحت! ليه ما رجعت تتعشى معنا
أجابها ببرود ..
: ما كنت مشتهي
دعته برجاء ..
:دامك هنا تبغى اسويلك شيء خفيف
أجاب بصوته العميق ممتناً ..
: لا يعطيك العافية..أنا شوي و بأطلع
سألته بمزاح .. فلم يروق لطبعها المهتم أن يجلس كل هذا الوقت بلا طعام ..
: طيب عصير على الأقل..ترى أعرف أسوي عصيرك اللي تقول غزلان إنه ما ينشرب
لا تدري إن كانت راقت له الفكرة .. أم وافق ليتخلص من إلحاحها ..
: ورينا إبداعك..مشكورة رتيل
أجابت بود لطالما عاملت جميع أبناء عمها به ..
: العفو ما في شي يسوى

حين عادت إلى المطبخ .. كادت تفز .. حين رأت مروان يقف خلفها ..
: بسم الله من وين طلعت؟
أجابها بغرور مصطنع ..
: من علبة الحلويات
لترد عليه ساخرة ..
: ههههه تكفى يا بيتي فور
سأل بجبين مقطب ..
: عمار اللي برا ؟
أجابته ..
: ايه
ليسأل بذات إستغرابها ..
: ليه للحين ماراح؟!
تنهدت بأسى على حاله ..
: مادري..أحس شكله ضايق و يبي يجلس لحاله
لكنه كالعادة مزح بلا إهتمام ..
: اطلع أنكد عليه زود
أطلقت ضحكة قصيرة .. و هي تعاتبه ..
: حرام عليك لا تستلمه
لكنه أكمل هزله ..
: لا يكون قاتل أحد و جاي يتخبى عندنا
لتشاركه هزله و هي تحذره ..
: والله شكلك أنت اللي بيوم بتموت على ايده
بدت للحظة ملامحه جدية بشكل لا يناسبه .. وهو يهمس بضيق ..
: يا خوفي!
قطبت جبينها بإستغراب .. لكنها ضحكت ساخرة ..
: هههه شكلك خفت من جد !
لم يجب .. و ملامح الضيق تتلاشى من وجهه .. الذي تغضّن بإستنكار ..
: وش المطرسة اللي تسوينها لا يكون ماسك!
أجابت مبتسمة .. و هي تضع قطع المانجو و ملعقة من جوزالهند على الحليب في الخلاط .. وسط صيحات إستهجانة ..
: لا هذا سموث بروتين عمار يشربه إذا ما تعشى
أجاب ساخراً .. و عيناه اللتين كانتا تتابعان ما تفعل .. ترتفعان للنافذة لتراقبا ذاك الجالس بوجوم ..
: و أنتي كل شيء تعرفينه عننا؟ لا يكون تعرفين وزني بعد!
التفتت إليه ترد عليه بتحدي .. و ثقة ..
: ايه وزنك سبعين و طولك مية و ثمان و سبعين و فصيلة دمك أو موجب
ضحكت حين رأت التعبير المذهول في عينيه .. قبل أن تفتر شفتيه بإبتسامة غريبة .. و تراه يتحدث بحديث لم يصل إليه أيٌ من معانيه .. حين عج المكان بينهما صوت الخلاط المرتفع .. لحظات و أغلقته .. لتسكب العصير الثقيل في كأس و تمده له ..
:يلا خذ له العصير و الله يعينه عليك و عليه

~*~*~*~

منذ عودته متأخراً .. و هي تجلس على تلك الكنبة .. مستغرقة في قرائة تلك الرواية بين يديها .. و لم تهتم لعودته .. سوى بسؤاله إن كان قد تناول عشائه ..
ليجيبها بنعم .. فلا تهتم لشيء عنه بعد ذلك ..

حين انتهى من إستحمامه .. عاد ليجلس قريباً منها .. و حين لم ترفع عيناها عما تقرأه .. علم أنها تدعي إنشغالها حتى لا تتحدث معه ..
: وش فيك؟
تنهدت بكآبة .. لتجيبه و عيناها لا تمسه ..
: وش فيني! ما فيني شي؟
أطلق ضحكة مستخفة ..
: دام ما تبين تشوفين حتى وجهي...لا واضح إن فيه شي..قولي وش تفكرين فيه؟

هزت رأسها بحيرة .. حقاً لا تفهمه .. لو كانت قد بدأت بالحديث معه .. لكان تهرب منها .. و أشغل نفسه بأي شيء بعيداً عنه .. إذن لما حين تفعل ما يرغب به .. و تبتعد من نفسها .. لا يتركها في حالها .. لذا بادرته بالإتهام ..
: و ليه مهتم تعرف؟ فاضي لهالدرجة!
عقد حاجبيه وهو يسألها ..
: وش قصدك؟
أجابت بعتاب ..
:حتى كلامي صار اللحين صعب عليك تفهمه؟
ليجيبها و عيناه ترتكزان على وجهها ..
: تبين الصراحة ايه..غريب أن تصرفاتك أوضح من كلامك
أجابت بسخرية مريرة ..
: كل شيء واضح يا غالب..بس أنت تتنقى اللي تبي تعرفه
رد عليها بثقته المعتادة ..
: لا يا حلوة أنتي اللي جالسة تتهاوشين معي في مخك! و تجين تحاسبيني عن خلافات أنا مو داري عنها
طبعاً حين يتحدث .. يجب أن تكون هي المخطأة حسب وجهة نظره .. لذا ردت بإستفزاز ..
: ليه على بالك ما عندي غيرك! ترى الكون ما يدور حولك
ليجيبها بغرور ..
: عارف إن الكون ما يدور حولي مو مغرور لهالدرجة...بس أفكارك أكيد تدور حولي...يله قولي وش المشكلة اللي المفروض أكون مسويها بمخك !
تعلم أنه لن يتركها حتى تعترف .. لذا أجابت بصراحة كعادتها ..
:أفكر بكلام أمي و خالتي
هز رأسه ساخراً ..
: يا سلام توسعت دائرة النقاش! تعدينا رتيل و صرت سوالف العمات الكبار بعد!
تأملته بحزن ..
: مو ذنبي إني شايلتك بملامح وجهي
أمال جانب فمه بحيرة ..
: ماراح أخلص من كلامك اللي ما أفهم منه شيء!
لتجيبه بغيض ..
: أنت اللي سألت!
و أكد لها ..
: و للحين اسأل...وش قالوا لك يخليك مكتمة كذا!
و كعادتها أجابت ببساطة .. كل ما حدث معها .. بدون تفكير ..
: أمي تقول إنك رجال ما فيه مثلك و كل شيء فيك كامل و إني اتدلع إذا طنشت كل هذا بس عشانك ما تحبني و لا تهتم فيني و وجودي و عدمه واحد بحياتك!
رد عليها موافقاً .. يعرض لها الحل ببساطة .. و برود ..
: أنتي لو بس تتركين عنك هالفلسفة و لا تطبقين علي الأفلام و الروايات اللي أنتي غرقانة فيها..يمكن أقدر أعجب حضرتك
ردت بدفاعية ..
: الحب يكتسب ما يطلب! و لا تطالبني اعطيك شيء أنت مو قادر تعطيني إياه...و الطريق المسدود اللي وصلنا له مشيناه كلنا مو بس أنا
هز رأسه بعدم إقتناع .. و يأس أنه تقتنع بما يخبرها به .. بتلك الحياة الباردة التي تناسبه .. و يريدها أن تقتنع أنها الحياة الأنسب لهما ..
: و دامك مو مقتنعة بكلام أمك ممكن أعرف كلام خالتك وين وصل معك ؟
نظرت له بتحدي ..
: خالتي تقول إذا ما حبك من خاطره خليه يحبك غصب
استفزتها ضحكته العالية .. و كأن إمتلاكها لقلبه .. شيء مستبعد لدرجة أن حدوثه سيكون أمراً لا يصدق ..
:هههههه ما تلعب أم مروان...و على إفتراضات عقلك الغريب إني ما أحبك..كيف قالت لك بتخليني أحبك؟!
أجابت و عيناها لا تغادر وجهه .. تبحث عن مشاعر حقيقية قد تظهر يوماً على ملامحه المتباعدة ..
: كيد النساء...أشد و أرخي...أزيف مشاعري...أمثل..أكذب..أجامل..عشان أفوز بقلبك
أجاب و عيناه تنظر لها بإمعان .. ليجيب بتساؤل ..
: وليه ما تسوين مثل ما قالت لك..مو واعدتك بالفوز
أجابت بملل .. و صدق .. كان قادراً لأول مرة على رسم الصدمة على ملامح وجهه المتكبرة..
: تبي الصراحة؟ بديت أفكر هل أنا مهتمة أفوز أو لا!!

~*~*~*~

عاد في وقت متأخر جداً من الليل كعادته .. ليكونوا أهله قد ناموا .. فيعفو أرواحم من لهب مزاجه المحترق دوماً ..
ليبتعد كما كان يفعل على الدوام عن أرواحهم الطليقة .. التي لا يستطيع أن يجاريها بقيود ماضيه الأسود ..
بدل من أن يقتله الناس .. أصبح هو قاتلاً لنفسه .. حتى يستطيع أن يحيى بينهم .. بوجه يشبه الأموات ..

دخل إلى المنزل الذي أصبح يسكن فيه وحده .. ليبتعد عن أهله بقدر مايستطيع .. ليبتعد عن الحياة .. و عن أي ذكرى قد يلمحها بأوجههم ..
فلا يقابله في ليله .. سوى وجهه العابس على الدوام .. في ظلام روحه .. في قتامة همه .. في وحدته الممتدة لأعوام ..

تجاوز الصالة الجانبية .. التي تغرق دوماً بالظلام .. كحال ذاك الممر الذي ما عاد يتذكر حتى عدد الغرف .. أو شكلها فيه .. وهو لم يعد يشغل من هذا المنزل سوى قسمه الأيسر فقط .. غرفته .. و مكتبه .. و ذاك المطبخ الذي لا يدخله إلا ليشرب الماء .. لأنه لا يكاد يبقى في هذا المنزل سوى لساعات متأخرة من الليل .. ليهرب نهاراً .. إلى عمله .. إلى الشوارع .. يغرق يومه بالنظر إلى آلاف الوجوه .. لعل روحه تيأس من خلق ملامح لها في كل لحظة ..

دخل إلى غرفته .. و رمى بثقل جسده على السرير ..ليزفر نفساً هالك .. خرج هارباً من ضلوع صدره الصلفة ..
و تلك الذكريات المريرة بقدر ما يهرب منها .. يجدها تتكثف .. و تتكاتف .. لتهاجمه كل حين ..

ست سنوات مضت!! كان يخطو أيامهاً جمراً يلهب عمره ..
ست سنوات و طفولتها المبكرة تتساقط من قلبه .. بلا ذكرى .. بلا ملامح ..
يرصف لها في أراضي روحه .. أحجار قسوته .. على كل تلك القبور التي تملأه بفقدها ..
و يواري ملامحاً لا يعرفها لها .. تحت تراب النسيان . يجثو عليها كل يوم من لومه .. و ندمه ..
لكن تلك القبور أبت أن تطمر .. لتبدو أعمق و أظلم كل مرة ..
تستنزفه كل الوجع .. و الصبر .. و القهر .. و لا تدفن و لا تنسى .. و تأبى الغفران ..

فلا تمره الأيام من بعدها بعدل .. بل تتهاوى من حياته قسراً بلا حق و لا فرح .. و لا معنى ..
لا ينام لحاجة جسده للنوم .. هو منذ زمن طويل نسي أن يشعر بحاجات جسده التي تخلى عن حقه فيها ..
لا ينام حتى يهلك لا وعيه من المشي خلف تلك الخيالات السرمدية .. المفقودة ..
لا ينام إلا بعد تلك الرجاءات بالعفو .. التي يهلوس فيها بينه و بين نفسه ..
حتى يذوب صوته في إتساع مدى مساحات السكون الفارغة من حوله .. وهو يتلو ليلة الفجيعة في كل مرقد ..
فترتجع في صدره نار حسرته اللاهبة .. ليحترق كل ليلة بلا إنتهاء ..

غادرت الحياة روحه منذ وقت طويل .. حتى بات لايعرف كيف مازال للآن يعيش ..
لم يقوى على أن يعود إلى نفسه يوماً .. ليبحث عنها .. أو عن بقاياها ؟؟
لأنه يرتعب من العودة إلى تلك الليلة التي فقدها فيها !!

يحتاج جسداً غير جسده المليء بالثقوب .. ليعرف طعماً للحياة ..
يحتاج ذاكرة غير هذه المحترقة بسقم الذكريات .. لتكون قادرة على إختلاق النسيان له ..
يحتاج نفساً لا يجر معه ذنباً مازال عالقاً بضلوع قهره .. و ندمه ..
يحتاج أن يعود إلى الوراء ..
يحتاج أن يعود إلى الوراء !!
يحتاج أن يعود إلى الوراء؟؟

~*~*~*~

 
 

 

عرض البوم صور ماكينو   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)
facebook




جديد مواضيع قسم قصص من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 12:57 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية