كاتب الموضوع :
Hya ssin
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: قلبك منفاي
الفصل التاسع
حضر وليد لمكتبه مبكرًا قبل وصول أحد الموظفين عنده بعد أن أعلم مُعاذ بالمجيء.. كانت عيناه محمرتان قليلًا لأنه قضى ليالٍ طويلة دون نوم تقريبًا.. ليالٍ لا تُنسى وستبقى مختومة في ذاكرته بختم أبدي..
نهض بمجرد سماع طرقات ابن عمه على باب مكتبه حيث كان منتظرًا يتأهب للقائه ويرتب كلماته التحذيرية..
سمح له بالدخول وتقدم خطوة وراء الأخرى منه بينما يغمغم بابتسامة مريبة
((كيف حالك يا ابن عمي العزيز والرائد المحترم))
لم يكن مُعاذ مرتاحًا لوجه وليد أو ما سيقوله إلا أنه أجابه بنبرة هادئة ودودة
((أهلًا بكَ يا وليد، أنتَ عزيز عليّ أيضًا، كيف هو حالك؟))
اشتد وجه وليد الذي وقف أمامه قائلًا بصوت واضح مرتب الأفكار
((أنتَ تعرف بأني لا أحب المقدمات أو تضييع الوقت.. فهل ندخل في الموضوع مباشرة؟))
رد مُعاذ وهو يعقد حاجبيه بشدة محاولًا التخلص من ذلك الشعور المقيت الذي انبعث بداخله للتو ((ادخل به))
صمت وليد للحظات ثم قال ساخرًا وهو يناظر دلوف شخص آخر المكتب
((انظر ها قد جاء مُصعب، جميل جدًّا فهو معني أيضًا بحديثي..))
اقترب مُصعب اللاهث من شقيقه.. فهو وبمجرد أن أنهى مكالمته مع أخيه حتى سارع الوقت في ارتداء ملابسه ثم هبط درجات السلم بخطوات مكتومة الى الطابق الأرضي ومنه الى المَرْأَب ليغادر البيت دون أن يشعر به أحد..
تفاجأ مُعاذ من حضوره.. ثم تساءل متغضن الوجه
((ما دخل مُصعب؟))
قال وليد وهو يرمقه بنظرة ذات مغزى
((كيف ما دخله؟ أليس هو السبب في موت يحيى!))
اهتزت حدقتي مُصعب بنفي وهم بأن يصرخ برفض اختنق في حلقه وتلجم للحظات مصعوقًا قبل أن يقدر على الهمس أخيرًا ((ماذا!))
كان مُعاذ يرفرف بعينيه في محاولة عقيمة ليستجمع ما يتناهى لسمعه قبل أن يثور وقد عرف بأن وليد لا ينوي على خير الآن
((توقف عن هذا الهراء، مُصعب لا دخل له بشيء.. إنه قضاء الله وقدره))
أخفض وليد نظره لحظة ثم أعاده لوجه مُصعب المضطرب قائلًا بنبرته المريبة
((لا اعتراض على قدر الله، ولكن هناك أسباب ولا أحد ينكر بأن مُصعب المسؤول، ألم يطلب من يحيى بنفسه أن يذهب لأرض والده ويعرف سبب العراك الذي حصل هناك؟ لو لم يطلب مُصعب من ابن عمنا أن يذهب هناك لم يكن ليواجه ذاك المصير المؤسف!))
اهتزت حدقتي مُصعب مجددًا عند ذكره سيرة يحيى! وليد يعرف تماما كيف يخترق نقطة ضعفه..
اندفع مُعاذ كإعصار غاضب يمسك كتفيّ وليد بقوة يجبره على إعطائه انتباهه فوضع وليد عينيه في عيني ابن عمه.. وفي احتدام النظرات بدا وكأن قصائد كره بين العيون تلوح.. قبل أن يقول مُعاذ
((وليد اختصر وقل حالًا سبب طلبك لي))
شمخ وليد وهو يمثل الجدية بجدارة ليقول
((كنت أقول في نفسي بأنه حان الوقت لاهتم قليلًا بشؤون القرية وبثأر دم ابن عمي يحيى المهدور، وكنت أفكر بأن أجمع باقي شباب القرية من أجل..))
امتدت يدا معاذ ليمسكه من ياقته وهو يصرخ فيه
((لقد أخذت الجاهـة فدية من عشيرة الهنادل على أن يتم الاتفاق بعدم الاعتداء عليهم أو أحد أفرادهم.. كل واحد من عشيرتنا يا وليد عليه أن يلتزم به.. ما هذا الجنون الذي تتحدث عنه!))
بادله وليد الثورة بمشاعر متأججة وغضب متألق في عينيه هاتفًا
((كل هذا لا يهمني، كل من في القرية لا يهمني، ولن أفكر ولو لثانية قبل أن أخرق هذا الاتفاق سيادة الرائد إذا لم تطلق المرأة التي كانت ملكي ولطالما ستبقى تخصني.. والآن))
صرخ مُصعب به مستنكرًا
((ماذا تهذي؟ أيها المجنون مُعاذ ليس متزوجًا!))
تشدق وليد ساخرا فسأله مُعاذ بغلظة وهو يشد على ياقته
((من تقصد يا وليد؟))
خفتت ابتسامة وليد لتشع عيناه المخيفتان نارها كنوايا كلماته وتهديده
((أقصد شيرين يا حضرة الرائد! أريد منكَ أن تطلقها الآن، لقد تأكدت بنفسي بأن زواجكما لم يتم تثبيته في المحكمة لذا إياكَ أن يعلم أحد به))
احتاج مُعاذ لثوانٍ أُخر حتى استوعب ما يطالب به ابن عمه واسمها يتردد في عقله.. وسرعان ما صرخ به مُعاذ
((ما هذا الجنون الذي تتحدث به!))
لم يكن صوت وليد بل كبرياؤه وهوسه بها من يتحدث في وجهه بنبرة مخيفة وهو يرد عليه
((ليس جنونًا، الجنون ستراه بأم عينكَ يا مُعاذ لو لم تطلقها! إياكَ أن تضع قدمك بعتبة ذاك الفندق مرة أخرى))
كان مُصعب لا زال على صدمته وهو يسأل أخيه
((مُعاذ هل أنتَ متزوج؟ ولكن متى؟))
اخذ مُعاذ نفسًا عميقًا يستعيد رباطة جأشه ثم قال بينما يدفعه وليد ليتخلص من قبضته
((سأخبرك كل شيء لاحقًا يا مُصعب.. اهدأ الآن))
ثم عاد يناظر وليد الذي كان يهندم مقدمة قميصه الذي جعده له صارخًا
((وأنتَ أيها الأحمق.. هل أرواح الناس لعبة بين يديك؟ ألا تعرف كم بذلنا من جهد لتتم المصالحة ونمنع إراقة أي دم لتأتي الآن وبكل فجاجة تعلن بأنكَ ستغمر عقول شباب قريتنا بنيران الانتقام))
ازدادت ملامح وليد عدائية وهو يقول بكل ثباته وقوته
((وهل تظن أن نيران أفراد العشيرة أُخمدت من الأساس؟ أنتَ واهم يا سيادة الرائد، لا شيء يشير بأن صمتهم باقي.. كلهم يحتفظون بأمل أن يأتي ذلك اليوم الذي سيتم فيه خرق الاتفاق لينالوا بثأرهم ممن اعتدوا عليهم ويحافظوا على كرامة دار الكانز وهامتهم عالية بين باقي الرجال))
ثم أردف مغمغمًا من بين أسنانه المطبقة بصوتٍ خطير
((لا تجبرني يا حضرة الرائد على فعل ما لا أريده.. طلق شيرين اليوم.. وأمامي))
اخذ مُصعب عدة أنفاس كانت تجيش في صدره كأنه يستعد للقتال ثم واجه ابن عمه قائلا وهو يقبض هذه المرة على ياقة قميصه
((لا أعرف شيء عن زواج أخي ولكن هل أنتَ في كامل قواك العقلية لتطلب منه أن يطلق زوجته لتتزوجها أنتَ؟ هل تعرف بأن كلامك بسببه قد تقطع أعناق الرجال؟))
لم يبالي وليد بمُصعب بل جمَّد ملامحه بذاك الكبرياء وهو يرد بلا مبالاة
((نعم أعي ذلك وأريد من شقيقك أن يطلقها الآن فهي لم تتزوجه إلا لتنتقم مني))
رفع مُصعب سبابته كقسم صارم محذرًا
((أوقف لسانك عن هذا الهراء أو سأرديك قتيلا))
صرخ وليد به بضراوة وإصرار والألم يضج مع كل حرف
((لن ابتعد قبل أن يطلقها شقيقك))
قال مُصعب وهو مشدوه من كم الفجر الخارج من ابن عمه الذي يقف أمامه باهتياج أنفاسه اللاهثة
((هل تحاول أن تفرق بين المرأة وزوجها أيها الفاسق؟ هل تعرف أيها الخسيس عاقبة التعدي على الحرمات؟))
قال مُعاذ ببلادة وهدوء مريب يكتنف صوته
((وليد علاقتي بشيرين انتهت ولا يوجد شيء بيننا نحن الاثنين))
لم يعد يُرى من عيني وليد إلا ذاك الجنون المشتعل فيهما وهو يتساءل
((إذا كان الأمر كما تدعي فلماذا مررت من الفندق الذي تمكث فيه؟))
أجاب مُعاذ بثبات
((لننهي كل شيء بيننا))
وكان مُعاذ صادقًا فيما يقوله.. فقد أثار استغرابه إمداد شيرين فترة إقامتها في الفندق على حسابها فذهب لجناحها في وقت تتواجد صديقتها يسألها عن السبب قبل أن يودعها في لقاء أخير..
زفر وليد أنفاسه مسيطرًا على غضبه الذي خرج بصوته الأجش ((حسنًا هذا جيد))
سكت مُصعب لحظات يستوعب ثم هتف بدهشة غاضبة
((أقسم بأني لا أدرى كيف أسمح لكَ بالبقاء على قيد الحياة والتفوه بكل هذا! أين دينك وخجلك من نفسك يا وليد مما تطلبه! ألا تعلم قُبح وجُرم طلبك؟))
صرخ به وليد بزمجرة غضب تعادل غضبه
((اتركني أنتَ الأخر))
افلته مُصعب بعنف وخشونة ثم تحركت شفتاه بهتاف مشمئز
((إذا كان قد نُهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه فكيف بمن يسعى بالتفريق بينه وبين امرأته ويعبث بالأعراض والإفساد بين الزوجين، اتقي الله أيها اللعين! أنتَ..))
لم يمنحه وليد الفرصة ليكمل بل قال بتعابير قاسية بشكل غير مسبوق له
((من أين تجلب مُصعب أيها المتناقض كل هذه الجرأة أمامي لتأتي وتحاسبني وأنتَ نفسك من قمت بالنهو على ابنة عمنا رشا شقيقة يحيى.. أنتَ بنفسك من أجبرتها أن تفسخ خطبتها من خطيبها الذي تحبه ويحبها هو! لقد توسل عمي آنذاك لك بل كاد أن يكسر هامته حتى تتراجع في نهوك عنها! هل الدين والشرع ينطبق عليّ فقط أيها المنافق!))
بهت وجه مُصعب.. فإذا كان يظن بأن موت يحيى نقطة ضعفه الوحيدة التي يمسكها وليد عليه فقد أخطأ!
كلمات وليد جعلت الأفكار المتعلقة بيحيى وشقيقته رشا تنساب داخله بمشاعر تزلزل كيانه..
تعلقت عينا مُعاذ بمُصعب وقلق على أخيه.. فأمسكه من كتفه يقول وهو يبعده عن وليد ويغادر المكان ((لنغادر يا مُصعب))
ثم كاد مُعاذ أن يجر أخيه جرًا للخارج قبل أن يبرح الاثنين بعضهما..
بعد أن خرج الإثنين من البناية التي يقبع فيها مكتب وليد حتى استعاد مُصعب رباطة جأشه ونسي كل ما قاله وليد متعلق بموت يحيى وزواجه من شقيقته واستدار لأخيه يغمغم له بغضب مكتوم واستهجان موقفة المتخاذل الذي لا يمثله بشيء
((لقد قال لكَ بكل صراحة أن تطلق زوجتك وأنتَ اكتفيت بأن تخبره بانتهاء علاقتك بها بدلًا من أن تلكمه في منتصف وجهه بلكمة تنهي حياته؟ وماذا لو لم تكن قد أنهيت علاقتك بتلك المدعوة "شيرين" قبل مجيء وليد! هل كنت ستطلقها لأجله؟ هل تخافه يا مُعاذ؟))
بدت عينا مُعاذ في غاية السلبية بينما خفت صوت الثورة فيه وهو يتساءل بهدوء
((ولماذا لا أخاف من أمثال وليد؟ عليكَ أن تخاف يا مُصعب ممن لا يخاف ربه، صدقني لقد كان صادقًا في تهديده بعودة نيران الانتقام بين شباب القريتين فوليد لا يهدد من فراغ))
جحظت عينا مُصعب مستهجنًا مما يسمعه ثم غمغم بصوت أجش رجولي خشن وتفاحة آدم البارزة بحلقه تتحرك بوضوح
((هل أنتَ جاد يا مُعاذ؟ أنا لم أعهدك يا أخي ذليلًا وجبانًا!))
أذاه مُصعب وجرح كبرياءه ورجولته لكنه كان محقًا.. فتحرك جانبي فكه بقوة كتمانه لذلك الجرح.. ثم قال بصوت خافت حتى لا يشي بدواخله
((لو كنت فعلًا متزوجًا منها لم أكن لأسمح له بأن ينطق اسمها على لسانه.. لكن بما أني لست كذلك فلا داعي الآن أن أعاديه وأدفعه أن يفعل ما يهدد به))
تغضن جبين مُصعب وهو يتساءل
((من هي شيرين هذه؟ هل هي الخطيبة السابقة لوليد؟ المرأة التي انفصل عنها في نفس يوم زفافهم؟ لماذا أخترت أن تتزوج منها هي بالذات؟ هل جننت لتدخل نفسك في هذه الدوامة؟))
أغمض مُعاذ عينيه يتحكم فيما سيقوله قبل أن يهدر بانضباط انفعالي
((قصة معقدة يصعب أن اشرحها لكَ الآن يا مُصعب))
عاد مُصعب يقول محقرًا إياه أكثر
((لا أريد أن اسمع المزيد، على كل حال فقد سقطت من نظري كثيرًا يا مُعاذ، ردة فعلك مخزية جدًّا ولا تصدر من رجل يا مُعاذ.. لأنه لا ينبغي الإخلال بها ولا التهوين من شأن ما فعله))
سكت مُصعب قليلًا ثم تابع بنفس الاهتياج والغضب
((لم يكن منطقيًا ما فعلته.. أبدًا.. كان يجب عليكَ أن تجعله يدرك بأنكَ ستترك تلك المرأة وشانها لأنكَ فعليًّا لست متزوجًا بها لا أن تجعله على اعتقاده الخاطئ!)) وسرعان ما غادر مُصعب المكان كله قبل أن تنفلت آخر أعصابه..
.
.
بمجرد أن غادرا مكتبه حتى تهالك جسد وليد على إحدى المقاعد..
ها قد قال مُعاذ له بكل جبن بأن علاقته بشيرين انتهت.. دون أن يكون له هو دخل! ولكن بعد ماذا؟ بعد أن تم الزواج بينهما؟
ازداد وجهه بملامحه القاسية تجهما.. وبدا الألم والغضب في داخله عظيم بشكل يخيفه هو شخصيًا..
لن يسامحها أبدًا.. سيكون عقابه وانتقامه منها مضاعفًا قاسيًا بسبب ما أقدمت! لقد مزقت قلبه لألف قطعة وقطعه بما فعلته الآن وسابقًا!
=============================
اضجع مُصعب فوق سريره شارد العينين ومهموم الذهن.. رغم أن ما سمعه اليوم كان صادمًا لكن ما يغرقه الآن في دوامات الندم هو شعور الذنب الذي جعله وليد يطرق وجدانه..
يدرك تمامًا أن هدف وليد هو زعزعة إيمانه بقضاء الله وقدره إلا أنه ضربه بالصميم..
أشاح مُصعب بنظره نحو الباب وقد تناهى إلى سمعه صوت فتح مقبضه.. ليسمع نورين تقول وهي تلج للداخل ببطء بوجه متغضن تعبًا
((يا إلهي كم يؤلمني ظهري))
اعتدل مُصعب شبه جالسًا على السرير وهو يسألها
((أين كنتِ منذ الصباح؟ عدتُ قبل قليل واستفقدتك))
استلقت بجانبه تتنهد بتعب وأسندت جبهتها فوق صدره مغمضة العينين ثم غمغمت بإرهاق
((كنت مع رتيل ونجوم أعد طعام الفطور للعاملين في المزارع وما أن أنهينا صنعه حتى بدأنا نقوم بصنع وجبة الغداء.. وانتهينا الآن فقط.. ياسمين انسحبت من منتصف العمل وقالت بأنها لن تعمل مرة أخرى معنا وهذا ما صعب الأمر))
ضمها إليه يلف خصرها بذراعه لترتاح رأسها في حنايا عنقه بينما يتساءل باستغراب
((ولماذا تقمن أنتن بذلك؟ أين منال ونعمة وغيرهن؟))
أجابت ((أخاك مَالك قام بطردهن..))
اتسعت عيناه بتلقائية وذهول وتساءل
((ومن يظن مَالك نفسه حتى يقوم بطرد أيًّا كان؟ هل لدى أمي علم بالأمر؟))
اعتدلت لتجلس بجانبه وردت
((نعم وأمرتنا أن نتساعد في أمور المكان ونتدبر أمورنا ريثما يتم تعيين غيرهن))
شعرت بصدمته وعدم توقعه وهو يقول مستهجنًا
((ولكن نعمة بالذات تعمل في هذا المنزل منذ عشرات السنين.. كيف قبلت أمي بذلك!))
أجابته بحزن وهي تهز كتفيها
((أنتَ تعرف بأنها تحب مَالك ولا يهون عليها أن تكسر كلمته))
علامات التعجب والاستفهام كانت لا تزال ترتسم عليه عندما تشدق بنبرة ساخطة
((ليس من المعقول أن يتم طردهن لمجرد أن السيد مَالك طلب ذلك!))
دمدمت له بتردد وخفوت وهي تذكر ما طلبته منها سمية
((إذن أعدهن إذا كنت تستطيع، سمية تشعر بالذنب الجلل لما حدث فهي تعتقد بأن لها يدًا في تسريحهن من عملهن هنا))
مال برأسه متجهما يتساءل
((سمية؟ وما دخلها في الأمر كله..))
بتر كلامه وقد التمعت عيناه بالفطنة ثم تمتم
((أوه حسنًا فهمت لم قام بطردهن إذا كان السبب متعلق بسمية))
كانت نورين تداعب أناملها ببعضها وتشعر بأنها كانت السبب لا سمية.. حتى أنها منذ الصباح حاولت تجنب كثرة الكلام.. فقالت بصوتٍ خافت واهن وبحدقتين مهتزتين
((أنا متأكدة أن لي علاقة بما حدث بسبب ما فعلته لأنهم غفلوا عن مراقبتي))
قال لها مُصعب وهو يهم بالاعتدال واقفًا من السرير
((لا دخل لكِ بكل ما يحدث، أما بالنسبة لمَالك فليس من صلاحياته طرد أحد هنا.. سأتحدث معه على الغذاء.. هيا لنهبط للطابق الأرضي))
كان يمسك يدها يحثها على أن تقف من مكانها إلا إنها أبدت اعتراضات وهي تقول بتلبك
((لقد تناولت الغداء عندما كنت بالمطبخ، اهبط وحدك))
أخفض نظره إلى يدها التي حررتها بقوة منه فسألها بهدوء
((لماذا؟ ألا تقولين بأنكِ لا تحبين الانضمام لهم على وجبات الطعام إلا عندما أكون متواجدًا؟ ها أنا بدأت أشاركهم وجبات الطعام من أجلك))
شعرت بتأنيب الضمير لعدم انضمامها الآن معه.. لكن مُؤيد كان لا يزال بالأسفل وهي بدون حادثة الأمس تخافه وتخاف مِمَّا يضمره من وعيد لها سواء من كلماته أو نظراته المخيفة نحوها.. فرفعت رأسها لمُصعب ترجو تفهمه ومعذرته
((ليس اليوم فأنا حقًا لستُ جائعة، وظهري يؤلمني من العمل))
كان مصعب يريد التراجع عن الخروج من جناحه فلقاؤه بوليد أزال آخر ذرة شهية فيه.. لكنه خرج حتى يتناقش مع مَالك بشأن ما فعله في الأمس!
.
.
حيث تجلس عائلته حول منضدة الطعام دلف مُصعب متسائلًا وهو يلاحظ بأنهم لم يحضروا جميعًا
((أين مَالك يا أمي؟))
رفعت رتيل التي كانت توزع الصحون حول الطاولة وجهها له تقول بغل ونبرة مقتضبة لذكر سيرة مَالك
((وما أدرانا؟ أخاك وظيفته صرف العاملين وبليتنا نحن بعملهم))
تصاعد صوت مُؤيد الذي كان يدلف للداخل أيضًا بينما ينادي زوجته
((أم فهد أين أنتِ.. تعالي.. أين أنتِ؟))
وقف مُؤيد مكانه ما إن رآها لتتساءل باستغراب
((ماذا هناك؟ ألن تتناول غدائك وتتجهز لتعود للمدينة؟))
قال مُؤيد الذي كان يمسك هاتفه في إشارة لإنهائه مكالمته توا
((لن أعود أبدًا هذا الأسبوع وسأرتب مع أحد الموظفين عندي أن يدير أمور العمل في غيابي.. المهم أني قمت بدعوة لعشرات الأصدقاء هنا في الغد.. أريدك من الآن البدء بتجهيز غداء الغد.. أريد شيء يرفع رأسي أمامهم))
جحظت عينيها وهي تقول بصدمة
((ماذا! دعوة لعشرات الأصدقاء! أي دعوة في هذا الوقت جئت بها يا مُؤيد فجأة!))
سرد لها واقع ما حدث باختصار
((كان يفترض أن تقام هذه الدعوة في منزل أحد أصدقائي ولكن طرأ عليه ظرف مفاجئ فأقسمت عليهم جميعًا أن يحضروا عندي..))
وجهت رتيل نظرها له كالرصاصة والاستنكار والرفض يحتل ملامحها ثم هتفت
((ولكن يا مُؤيد أنتَ تعرف بأن كل الخدم قام مَالك بطردهم؟ وأنا مشغولة من الصباح للمساء في إعداد الطعام للمزارعين في أراضي والدك، والآن تريد مني أن انشغل بطعام أصدقائك غدًا؟ ألا ينفع أن تؤجلها عندما يتم تعيين خدم أخرين؟))
هتف مُؤيد رافضا
((لا.. لا ينفع تأجيلها ولا ثانية أخرى))
اقترح مُصعب على أخيه بعفوية
((مُؤيد بما أن الدعوة جاءت بشكل مفاجئ لماذا لا تطلب من أحد المطاعم المعروفة بجودة طعامها! أفضل من الجلبة التي ستقام، ريثما تعود على الأقل نعمة والباقين))
هزت رتيل رأسها بلهفة وعقبت على كلامه
((أخاك يقول درر وجواهر، اسمع كلامه يا مُؤيد، اطلب من أحد المطاعم))
امتقعت ملامح مُؤيد ووجه نظره المقتضب لأخيه قائلًا بلهجة شديد
((لا.. لست رجل ناقص لأسمح بطعام المطاعم أن يوضع أمام أصدقائي وعندي زوجة حية ترزق بكامل صحتها، نظمي وقتك وستجدين وقت كافي لطعام المزارعين وأصدقائي.. وأعجبني في الأساس ما قام به مَالك، لسنا بحاجة لأي خدم وعاملين ما دمنا متزوجين))
شعرت رتيل بالقهر يغزوها فقالت بحدة واختناق
((ولكن ظهري سيتكسر هكذا فلا أحد يساعدني إلا نورين ونجوم))
لم يعلق مُصعب على كلام أخيه بل نظر باتجاه أمه يعلمها
((أمي لا تطلبي من زوجتي أن تقوم بأي شيء، هي ليست خادمة هنا))
شدت رتيل على نواجدها.. فكأن مُصعب يتعمد إغاظتها ويقصد أنها الخادمة الوحيدة هنا!
في حين امتعضت ملامح زاهية بغير رضا لما قاله ابنها وكانت تريد الرد عليه بالرفض وهي تراه يستدير مغادرًا لكن غمغم مُؤيد بصوت خافت متوعدًا
((اتركوه قليلًا حتى يتفرغ بالي له، هل يظن بأني نسيت موضوع زوجته وهربها في الأمس!))
ثم حول نظره لزوجته يستطرد
((المهم يا رتيل ركزي معي.. لست بحاجة لأن أخبرك بأني أريد من المائدة أن تمتلئ بعشرات الأصناف من المعجنات والكبب وورق العنب والمحاشي والمفتول والحلويات والمقبلات.. لا تسودي وجهي أمامهم بحجة أن الدعوة هذه حصلت بشكل مفاجئ))
=============================
في شركة القاني..
في القسم والطابق الذي يعمل به قصي كان جالسًا خلف حاسوبه يقوم بعمله بالرد على اتصالات واستفسارات العملاء وهو يشعر بمفاصله تكاد تتصلب من طول مدة جلوسه!
اهتز هاتفه الذي كان على الوضع الصامت ففتح جزء من حقيبة ظهره ليرى شاشته المضيئة تعلو باسم سهر..
شعر بورطة حقيقية وهو يجد نفسه غير قادرًا على الرد عليها! ففصل المكالمة وبدأ بكتابة رسالة قصيرة يخبرها فيها بأنه سيعاود الاتصال بها لاحقًا لانشغاله في العمل الآن..
تبًا لهذا العمل الذي يضطره للجلوس هنا منذ ثلاث ساعات كاملات يرد على الاتصالات دون أن يغادر من مكانه!
حقا عمله هنا بمثابة السجن.. الأكل والشرب بمواعيد.. بل حتى دخول دورات المياه في مواعيد يجب الالتزام بها..
في لحظة بين الاتصالات نظر قصي للشاب اليافع طه الذي يجلس على يمينه عادة وسرعان ما اتسعت عيناها ونبهه مشيرًا لفمه
((يا هذا! انتظر لفاهك، هناك خط دماء يسيل من زاويته..))
أغمض طه عينيه وقال وهو يخرج منديلًا
((لم انتبه، لكني أضع قطنة فوق الضرس لأمنع نزيفه))
تدلى فك قصي بتعجب ثم قال كمن يحدث أبلها
((لا أفهم كيف تجلس هنا بشكل طبيعي وتستقبل المكالمات، لماذا لم تأخذ إجازة إذا كان ضرسك ينزف بلا توقف!))
قلب طه عينيه بضجر ثم قال بصوتٍ ثقيل وهو يسرد عليه كمن يتحدث في بديهيات
((وهل تظن بأني لو طلبت إجازة بسبب المرض كانوا ليقبلوا؟ قبل شهرين اتصلت على قائد فريقي وأخبرته بأني مريض فأخبرني بأن طبيب الشركة سيكون في منزلي بعد قليل ليتأكد من أني لا أدَّعي المرض، وعندما حضر الطبيب أخبرني أن مرضي لا يستوجب الغياب وأخذ بيدي ليوصلني للشركة.. ويومها أكملت عملي هنا وأنا أبدل الكمادات الباردة من على جبيني كل ربع ساعة))
امتقع وجه قصي بذهول مِمَّا يسمعه.. فمنذ سنتين هي مدة عمله هنا في شركة القاني وكل يوم يمر عليه يزداد استهجانًا من إدارة شركة القاني التي تعامل موظفيها بوحشية دون هوادة أو رحمة! ثم هزّ رأسه إذ أنه يتغيب في عمله كثيرا دون أن يمر في هذه التعقيدات، حتى أنه أنهى إجازاته السنوية والمرضية كلها بل وزيادة عليها.. فانتصب قصي واقفا من مكانها وقال باقتضاب
((سأذهب لأنادي معتز ليسمح لكَ بعيادة طبيب الشركة وأخذ إجازة))
قبض طه على مرفق قصي وأعاده قائلًا بإعياء
((انسَ الأمر، لن يوافق على أي حال))
هز قصي رأسه برفض مدمدمًا بعزم
((لا أظن بأنه من الصحيح أن تستمر في العمل هنا وفمك ينزف..))
ثم عاد يصب كل تركيزه على الشاشة أمامه متابعا عمله فشعر قصي بالبؤس والشفقة على موظفي الشركة.. لا والأنكى بأنه بعد كل هذا التعب الغارقين فيه وحتى لو عملوا هنا لفترة طويلة ستكون احتمال ترقيتهم.. أو كما يقولها عادة.. "مغادرة العمل على السماعة" هو كاحتمال أن تفور إحدى الدول العربية بكأس العالم لكرة القدم!
تمنى لو كانا يملكان شيئًا من حظه الذي يجعله متأكدًا في قرارة ذاته بأن أمامه القليل فقط ليترقى دفعة واحدة لمنصب مرموق وكبير في شركة القاني..
.
.
بمجرد أن حان وقت راحته حتى غادر قصي ليذهب لزاوية فارغة بين الممرات واتصل على سهر التي ما أن ردت عليه حتى سارع الاعتذار
((باربي حبيبتي، عاودت الاتصال عليكِ بمجرد أن سمحت لي الفرصة.. تعرفين كيف هو العمل مرهق هذه الأيام خاصة على رجل أعمالي مثلي))
تناهى إلى سمعه صوتها الناعم المتذمر
((قصي اليوم هو الجمعة.. حتى في هذا اليوم بت تعمل؟))
أغمض عينيه بغيظ شاتمًا الظروف التي يعيشها! كيف يخبرها الآن بأن عمله كموظف في خدمة العملاء والرد على اتصالاتهم يتعين على إجازاته ألا تكون ثابتة.. ويمكنه أن يعمل أيضًا في يوم الجمعة والإجازات الرسمية أيضًا!
وضع يده على سماعة الهاتف وأبعدها عنه يأخذ نفسًا عميقًا متعبًا ثم عاد يتحدث فيه مبررًا بكذبته المعتادة عليها
((أنا لست موظف عادي بل أدير شركة عائلتي وعليّ أن أعمل حتى في أيام العطل الرسمية!))
زمّت سهر شفتيها تقول بإحباط
((كنت في الماضي تتفرغ لي دائمًا يا قصي متى ما أردت لكنك بت مشغولًا كثيرًا في الأشهر الأخيرة))
صوت سهر الحزين اللطيف أذاب قلبه وجعله يريد الآن وعلى الفور غلق الهاتف والتحليق إليها.. لكن صدى صوت معتز المهدد له بتنبهيه الأخير قبل أن يتم فصله منعه! فتنهد وقال
((أنا آسفة يا باربي، لكن لم أعد أملك رفاهية التغيب والمغادرة متى ما أردت.. لكن سأعوضك.. أعدك.. هل تريدين مني أي شيء قبل أن أذهب الآن؟))
قالت سهر بصوتٍ يقطر حزنًا وخيبة أمل
((لا شيء، كنت أتمنى في نهاية الشهر أن نسافر ونعوض عدم سفرك معنا آخر مرة، لكن يبدو أنه لا أمل في ذلك))
شعر قصي بالإحباط أكثر منها لأنه لن يذهب معها.. ولكن ما باليد حيلة فسهر ووالدتها يظنانه رجل أعمال ذو مكانة مرموقة ومنصب كبير يدير بنفسه شركة العائلة.. ولا تعرفان حقيقة وضعه الحالي.. ولا يجب أن يسمح لهن بالمعرفة! ثم أن وضعه في العمل هنا حرج وهم بانتظار أصغر خطأ منه.. خاصة شيرين!
برق من عينيه البنتين شرارة غضب عند ذكر شيرين.. الصارمة.. الحازمة..
صدر صوت رنان انبثق من العدم ليجفل عليه قصي فيجد قائد فريقه معتز يقف أمامه بوجه متجهم وهو يرفع يده ويشير بسبابته على ساعة يده بإشارة إلى اقتراب انتهاء فترة راحته القصيرة.. فقال قصي بصوتٍ خافت لسهر التي لا تزال معه على الخط
((أنا آسفة يا باربي، سأتحدث معكِ بعد انتهاء وقت عملي))
قالت سهر رغم خيبة أملها بما لا يجعله يقلق على حزنها
((لا تتأسف يا قصي.. على كل حال أنا الآن مع أمي في إحدى دور الاهتمام بالبشرة.. إلى اللقاء))
=============================
أغلقت سهر الخط عليه متنهدة بحزن ومقوسة الشفتين.. وتراخت جلستها البائسة في دار التجميل..
هي هنا في روتين شهري تحرص أمها على الدوام عليه للعناية بجمال بشرة وجسد كل منهما وتدليلهما..
كانت العاملة في الصالون قد بدأت باستخدام جهاز تنظيف البشرة وتقشيرها عقب أن وضعت الغسول المخصص على شعيرات الجهاز.. ثم بدأت تمريره على مسامها بانسيابية..
بعدما انتهت غسلت سهر وجهها وأمسكت منشفة نظيفة بيضاء لتجففه بنعومة قبل أن تتجهم ملامحها لمَرْأَى النساء الثلاثة الجالسات أمامها وهم يرمقنها بنظرات مختلسة من أعلاها لأخمص قدميها.. وبدت بدت النساء في بداية الخمسينات من عمرهن رغم أن مظهرن يعطيهن عمرًا أقل لفرط اهتمامهن وعنايتهن بأنفسهن.. لا بد أنهن من نفس طبقة والدتها وعميلات دائمات لأماكن مثل هذه..
عندما انتبهت النساء أن سهر أمسكت بهن متلبسات ينظرن لها حتى أخفضت اثنتين منهن نظرهن في مجلات الموضة التي بين أيديهن إلا واحدة لم تتوقف عن تسديد نظراتها الثاقبة في سهر وكانت هناك هالة راقية محيطة بها.. فعقدت سهر حاجبيها تسألها مباشرة
((عفوًا.. لماذا تنظرين لي؟))
انتبهت المرأة الخمسينية لاقتراب تمارا من سهر بخطوات متروية فتساءلت بتعجب
((هل أنتِ سهر؟ سهر فايد حقًا ابنة تمارا؟))
انتبهت تمارا للمرأة التي تحدث واتضح بأنها تعرفها
((نعم يا مدام روزانا إنها ابنتي))
تغضن وجه روزانا بضيق ولف الامتعاض وجهها هادرة في سهر بصوتها مخملي
((ولكن اذكر بحسب آخر مرة رأيتك فيها بصباكِ أن لكِ شعرًا بنيًا وكذا العينين.. فمن أين تلك العينين الزرقاوين والشعر الأشقر هذا؟))
تحدثت المرأة بجانبها لها بلهجة مقتضبة
((الشعر مقدور على صبغه بلون آخر بسهولة.. لكن ما ماركة عدساتك هذه التي تلبسينها يا سهر؟))
أجابتها تمارا بامتعاض
((ابنتي طبيعية مئة بالمئة، لا تضع لا أصباغ ولا عدسات))
ابتسمت سهر وأجابت بسماحة رغم أن ملامح النساء أمامها لا تشير بأنهن يستلطفنها بعد أن عرفنّ هويتها وهوية أمها
((الحقيقية يا مدام روزانا كنت أكره بصغري شعري الأشقر.. فكنت دائمًا ما اصبغه بلون بني غامق، لكن لو دققتِ آنذاك بمنابت شعري للاحظتي بأنه أشقر اللون))
قالت روزانا بامتعاض وجهها العابس المخملي
((ربما.. لكن لا يهم))
ثم وقفت من مكانها واستدارت تجلس في مكان آخر بترفع تام فتبعتها المرأتين اللتين معها..
غمغمت تمارا وهي تكاد تتميز غيظًا
((امرأة حمقاء، تتجرأ على القول بأنكِ مزيفة، لا يعرفون أن باربي هو لقبك))
صححت لها سهر بمرح
((لا يناديني أحد بـ باربي إلا قصي))
قالت تمارا وهي تنظر بشيء من السخط لملابس ابنتها
((لقد أخجلتني يا سهر أمامهن بسبب الملابس التي ترتدينها فهي بسيطة جدًّا ولا تعكس خلفية عائلتك الثرية والفاخرة التي تواكب آخر صيحات الموضة!))
تذمرت سهر ((أمي ألا يكفي الساعات الطويلة التي أهدرها يوميًا في الاهتمام ببشرتي وشعري وممارسة الرياضة! هدفي من الملابس هو الراحة فقط والموضة لا قيمة لها عندي، ثم من هذه مدام روزانا؟))
استرخت تمارا على مقعدها مجيبة
((يمكنك القول بأنها ترأس إحدى الجمعيات الخيرية التي أنضم لها، السيدة روزانا هي إحدى أغنى نساء المجتمع الراقي))
غمغمت سهر وهي تشعر بأن تلك المرأة لا تزال تسترق النظر لها
((تبدو امرأة متعجرفة))
قالت تمارا بشيء من الغبطة والحسرة
((لكنها زوجة رجل ثري جدًّا وتملك عدة مؤسسات وجمعيات خيرية تستعرض بهن أثناء الاجتماعات من حين لآخر، محظوظات الفتيات اللاتي ستختارهن زوجات لأبنائها الثلاثة، لكن لا بأس فخطيبك قصي رغم غموض مقدار ثروة عائلته إلا أنه غني أيضًا))
قطبت سهر ما بين حاجبيها لكلام أمها التي سارعت تنهرها وهي تلمس ما تحت عينيها بأناملها
((انظري يا سهر لهذه التجاعيد، يجب أن تطبّقي كريم المرطب مرّتين في اليوم لتحصل بشرتكِ على الرطوبة اللازمة وتبقى نضرة ومتوهّجة طيلة الوقت..))
تبرمت لها سهر
((أنا افعل ذلك يا أمي ولكني في الثانية والثلاثين.. من الطبيعي أن يظهر شيء من أثار التقدم في العمر على وجهي))
.
.
على الجهة الأخرى من دار التجميل..
توقفت روزانا عن اختلاس النظر لسهر وقالت
((تخيلي بأني كنت حقًا أفكر بها عروس لابني الكبير لشدة جمالها اللافت، لكن اتضح بأنها سهر ابنة تمارا، سُمعتها تسبقها فقد سبق وهربت مرتين في الماضي بحفل زفافها..))
عقبت إحدى المرأتين على كلامها
((وبعيدًا عن سمعتها المخزية فإياكن أن تنبهرن بشكلها وأنوثتها الظاهرية وتظني بأنها تناسب أن تكون زوجة لاحد أولادك، فعلى حسب ما سمعته منها هي فتاة متمردة ومزعجة وفي غاية السطحية والغباء لا يمكن الاعتماد عليها لأنها لا تفهم شيء في الحياة الزوجية))
أومأت المرأة الأخرى قائلة بتأكيد
((نعم أذكر تلك الحادثة جيدًا.. أمها المسكينة تبحث لها عن عريس ثري ومن عائلة ذات صيت آنذاك بلا فائدة))
قربت المرأة الأولى رأسها من الاثنين تخبرهما بهسيس
((لقد سمعت بأنها خطبت وعقدت القران من رجل غني.. لكنها ترفض الإعلان عنه قبل أن يحددا موعد الزفاف))
قالت المرأة الثانية بنفس الهسيس
((لا أشكك بهذا الكلام صراحة، فهي صارت أجمل مِمَّا كانت عليه بصغرها، لا بد أن تمارا تبذل الكثير من المال والوقت والجهد عليها لتبرز جمالها))
عادت الأولى تعقب وهي تسترق النظر لسهر
((إنها جميلة حقًا، لا بد أنها تثير عاصفة من النظرات المعجبة دون أن تتعمد ذلك، فهي لا تضع الكثير من زينة الوجه ولا تختار ملابس ملفتة أو ألوان صارخة))
ابتعدت روزانا عنهن بضيق تقول وهي تعود لتقلب صفحات المجلة بين يديها
((دعكن من سيرة تمارا وابنتها))
=============================
مددت رتيل جسدها المتعب فوق السرير.. ليس متعب وحسب بل متكسر وكأنها كانت في صالة رياضية تقوم بحمل الأثقال..
رفع هاتفها تتحدث مع صديقتها غنوة وتشكو لها كيف أن مُؤيد جعلها تنهك نفسها في طهو الطعام للوليمة الخاصة بدعوة أصدقائه دون أن توفر أي جهد ثم أعدت الطعام للعاملين في المزرعة فضلًا عن القيام بأعمال القصر الشاقة والمضنية من ترتيبه ونفضه.. ثم أضافت بصوتٍ باهت من بين تأوهاتها المنهكة
((إذا لم يعد الحاج يعقوب العاملين للقصر فلا أعرف كيف سأعيش هنا ولا أحد يساعدني إلا نجوم!))
جاءها تساءل غنوة
((ألم يساعدك الأستاذ مانع بشيء؟))
تشدق رتيل بسخرية لاذعة على كلام غنوة ثم ضغطت فوق أسنانها من شدة الغضب ورغبتها في ضرب زوجها قبل أن تقول وتفرغ ما في داخلها
((يساعدني؟ عندما لمح في عيني بريق شكوى قام على الفور بعرض محاضرة عليّ عن عائلات أصدقائه.. فرغم أنهم جميعًا ميسورين الحال وأغنياء إلا أنهم لا يملكون خادمات.. أخبرني عن صديق له كان يتباهى أمامه كيف أن زوجته نظفت كل سجاد البيت بالمعقمات، وحملته وحدها حتى سطح البيت وأبهرت الجيران بالسرعة والقوة الخارقة التي تملكها.. ويريد مني أن أصبح مثلها))
خرج من صوة غنوة صوت تحسر وشفقة عليها قبل أن تقول
((إنها خطة منه.. يريد أن ينهكك بأعمال المنزل الشاقة ويتلألأ هذا القصر على حساب صحتك حتى ما تعودي قادرة على فعل شيء بسبب أوجاع ظهرك وأقدامك فيأخذها حجة فيما بعد للزواج من امرأة أخرى غيرك جميلة شابة تستطيع أن توفيه كل حقوقه الزوجية!))
أظلمت عينا رتيل عند هذه النقطة فيما أردفت غنوة كلامها ناصحة بواجهة المرأة القلقة على صديقتها
((أنتِ مسكينة يا رتيل.. أنا أنصحك بالطلاق وبشدة.. انظري للأستاذ مانع الذي يمنع السعادة عنكِ كيف يجعلك تعيشين معه في جحيم! هذا فضلًا عن الحصار والضغط الذي يحيط جوانب حياتك به.. والأنكى هو أنه لا يقدر شيء من تضحياتك))
رغم أن رتيل شعرت بصحة كلام غنوة.. ورغم أنها شعرت بأنها تعبت منه وأن حياتها معه لا تحتمل في ظل رضاه صعب المنال بالنسبة لها.. إلا أن وجهها امتقع عند ذكر سيرة الطلاق.. فالحياة عند مُؤيد أرحم من الحياة عند عائلتها.. فغمغمت لها
((أنا متعبة وأريد النوم.. وداعًا يا غنوة))
أغلقت رتيل الهاتف معها ثم بدأت تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن يغتم وجهها وتغلقه.. فكل الإعلانات التي تظهر أمامها هي إعلانات تخص المطاعم.. وكأنهم يتعمدون إغاظتها عن معاناتها في المطبخ ويقترحون عليها ما يمكن أن يريحها لكنها لن تستطيع طلبه!
اعتدلت رتيل جالسة ونظرت لانعكاس وجهها المجهد الذابل في مرآة منضدة الزينة.. رفعت أناملها تتفحص وجهها وهي تشعر بإحباط فبالأيام الأخيرة وبسبب عمل المطبخ المضني لم تعد تجد أي وقت للعناية بنفسها..
=============================
غرفة مَالك..
كان ينهك نفسه في تصليح أوراق الامتحانات بضجر عندما تصاعد رنين هاتفه.. مرر عينيه عليه وما إن لمح اسم سمية يعلو شاشته حتى انتفض يرد قائلًا وقد كان أول اتصال لها به بعد ما حدث
((مرحبًا سمية.. كيف حالك اليوم؟))
شاب صوتها شيء من العدوانية وهي تقول
((لم أملك الجرأة على التحدث معَك بشأن ما سمعته.. لكن أنتَ من قام بصرف للعاملات في المطبخ؟ هل كنت تسترق السمع على محادثتنا الأخيرة؟))
تجهمت ملامحه على الفور وقذف القلم الذي يمسكه أرضًا ثم قال بامتعاض
((نعم.. وهل كنت لأسمع نعمة أو منال أو غيرها يتحدثن عنكِ ويعايرنك بـكونك..))
بتر جملته وهو يغمض عينيه لا يريد إكمال جملته وجرحها لتكمل هي عنه بثبات دون مواربة
((بكوني مطلقة؟ وماذا فيها.. أنا مطلقة مرتين لا مرة فقط ولا يهمني همساتهم عني فأنا لم أفعل شيئًا خاطئًا.. لكن إن كنت قد صرفتهن لهذا السبب فهو..))
قاطعها بلهجة يلفها البرود
((ومن قال لكِ بأني صرفتهم من أجلك! ما دب الغضب في كل خلية من جسدي هو كلام آخر خرج منهن أمام يزيد لم تسمعيه.. وأنتِ تعرفين بأني أملك محظورات شحيحة لا أسمح لأحد أن يتخطاها أولها واهمها هو يزيد))
صمتت قليلًا قبل أن تفضي ما بجعبتها
((لا أدري ما الذي قالوه أمامه ولا أريد أن أعرف، لكني طلبت من نورين فعلا أن تتحدث مع زوجها حتى يحاول إرجاع كل من كان يعمل في المطبخ والقصر.. فانت على ما يبدو يا ابن الكانز لا تعرف معنى قطع الأرزاق))
توجهت خضرة عيني مَالك ببريق خاص متقد بالغضب ثم غمغم متسائلًا بجمود
((هل تتحديني يا سمية؟ لأنه كان بإمكانك طلب الأمر مني أنا لا أخي!))
تكلمت من بين أسنانها تشدد على كل حرف وكأنها تشتمه مع كل كلمة
((لن أطلب شيئا من رجل مثلك يزيد عمره عن السابعة والعشرين ويتصرف بصبيانية بعيدًا عن النضوج!))
لم يبدُ أي تأثر على مَالك من كلامها كعادته كلما جلبت سيرة عدم نضجه! بل كان هادئ الملامح واللامبالاة تلفه.. قبل أن يرسم ابتسامة سخرية مريرة يوقل
((لطالما قيل لي من قبل الجميع بأن عقلي أنضج من سني بكثير.. إلا منك أنتِ دونًا عن الجميع! على كل حالٍ بما أنه وبكل الحالات لن يختلف رأيك بي فأنا سأتصرف بصبيانية كما ترمينني، ولن أسمح لأحد بكسر كلمتي في هذا المكان.. لن يعمل في هذا المنزل أي امرأة أشعر بأنها لا تحمل وِدًا ليزيد..))
اعترضت ((مَالك.. ما هذه الترهات..))
فقاطعها ببرود ((أرسلي يزيد لي، قال لي بأن لديه امتحان رياضيات وطلب مني أن أذاكر له))
تهكمت بنفس رنة السخرية المقيتة
((لماذا؟ أنتَ مدرس لغة إنجليزية لا رياضيات!))
رد وهو لا يحتمل أن يخوض في الحديث معها أكثر
((أرسليه لي الآن بدون نقاش، ألا يكفي بأني أمرر لكِ محاولاتك السابقة في ابتعاده عني وتحريضه ضدي!))
قالت له بجفاء يمقته
((لا داعي لتعبك معه.. صحيح أنا لم أحظَ بتعليم جامعي لكن بالتأكيد لست عاجزة عن تدريس ابن الست سنوات))
حسم نهاية الحديث وهو يقول
((سمية أرسلي لي يزيد وحسب.. أريد إهداءه الألبوم الذي وعدته به أيضًا!))
وضع مَالك الهاتف بجانبه بعدما أغلق الخط عليها ثم أخفض جسده يلتقط القلم ليعود ويركز باقتضاب على الورق أمامه لدقائق قبل أن يقاطعه أحدهم مجددًا بطرق باب غرفته..
سمح للطارق بالدخول ليتضح بأنها أمه ومعها مصعب الذي سأله متجهمًا
((كنت أتناقش مع أمي مجددًا فيما فعلته مؤخرًا.. والآن أريد أن أسألك من أعطاك أي صلاحية لتطرد مدبرة المنزل نعمة والأخريات؟))
ناظر مَالك والدته التي كنت تقف متسمرة مكانها ثم حول نظره لمُصعب يجيبه ببرود
((ولا واحدة منهن تحترمني، ألا أملك حق إبعاد من لا يحترمني عن هذا المنزل؟))
ضيق مُصعب عينيه يسأله بنبرة ذات مغزى
((لا يحترمنك أنتَ أم شخص آخر؟ لأن الشخص الآخر هو نفسه من لا يريد أن يخسر أحد عمله بسببه))
استقرت ابتسامة مريرة على فم مالك وهو يومئ برأسه إيماءة إدراك.. إذن فسمية تحدثت فعلًا مع نورين لتطلب من مُصعب أن يعيدهم!
فقط لو طلبتها منه لنفذ لها ما تريد حتى لو ترتب على الأمر أن يصغر من نفسه أمام الجميع..
قسمت ملامح مالك عازما أن يلقنه درسا حتى لا تلجأ لأحد غيره من البشر!
رد مَالك على أخيه قبل أن يعود ويناظر الورق أمامه متجاهلًا إياه
((لقد قلت ما عندي..))
تدخلت زاهية توجه الحديث لابنها بعد أن شعرت بالشفقة على رتيل التي تقوم بشؤون البيت كاملة دون مساعدة إلا من نجوم
((مُصعب اترك أخاك قليلًا وعرني اهتمامك، زوجة أخيك مُؤيد تجهد نفسها وهي تقوم بشؤون المنزل لوحدها.. لماذا لا تجعل زوجتك تساعدها؟ أنتَ تعرف كيف هو عقل مُؤيد صلب.. يرفض كليًا إحضار بديلات عمن غادروا، أنا لا يعجبني تصرفك بأخذ صفها علينا))
وجّه مُصعب نظره لأمه ثم قال لها بنبرة أشبه بالعتاب قبل أن يغادر غرفة مَالك
((تعجبك تصرفات مَالك الذي طرد كل من كان يعمل في القصر منذ ما يزيد عن عشر سنوات.. وتعجبك تصرفات مُؤيد الذي يرفض جعلك تحضرين بدلاء عنهم.. فلماذا لا تعجبك تصرفاتي الآن؟))
=============================
دلف وليد لغرفة الطعام يسحب كرسيًّا ويجلس عليه بينما يعقد حاجبيه لمرأى ريمة تلك الصبية المراهقة ابنة المرأة التي تعمل في منزله بينما تهسهس في أذن زوجته جُمان بصوتٍ منخفض بشيء ما..
عرف تلقائيًا بأنها تغتابه وتنقل ما سمعته يتحدث به مع شيرين في إحدى مكالماته لجُمان، بتصرف نابع من تلقاء نفسها فمن المستحيل أن تحاول جُمان أن تتبع أخبار أحد..
سكب وليد الماء له من الشاف وقال بحيادية تعقيبًا عما هو متأكد بأن ريمة تتحدث عنه
((اتصلت بشيرين فقط طلبًا للمساعدة في موضوع ما))
ابتعدت ريمة عنه ترشقه باحتقار ووضعت إحدى يديها على خصرها وهي تتشدق بتساؤل مستخف
((وما هو الموضوع يا سيد وليد الذي يستدعيك للاتصال بخطيبتك السابقة التي تركتها في نفس اليوم للتزوج من السيدة جُمان؟))
تصلبت أنامل وليد الممسكة بالملعقة وهو يدرك إلى ماذا تلمح ريمة! وكأنها تلمح للسبب الذي أذيع آنذاك عن سبب تركه لها! لكنه استمر بوضع الأرز فوق طبقه الأبيض ليقول بصوتٍ عادي
((موضوع غير مهم كنت بحاجة لها من أجله، وقدمت لي نصيحة فشكرتها عليها وانتهى الأمر))
جُمان التي كانت تنظر له بثبات أدركت بأنه كان يتصل بها ليداوي جرحًا لا طلبًا للمساندة..
رفعت ريمة حاجبًا متحديًا وهي تحدق به بسخط
((وهل تظن أن السيدة جُمان ستصدق كذبة كتلك؟ ومن يتصل بامرأة رغبة في النصيحة فقط؟))
كان إغماض عيني وليد هو الدرع الذي احتاج إليه كي يتمكن من تحويل هذا الحلم اللعين المصطنع إلى غضب بالغ سامحًا له أن يستعر ببطء.. فاستقام من مكانه واقفًا بصراخ عال
((أم ريمـــة!))
هرعت المرأة الممتلئة كبيرة السن نحو مكان وليد مهرولة لتغمغم من بين لهاثها بقلق من فقدان سيد منزلها اتزانه المعهود
((نعم.. نعم يا سيد وليد.. هل حدث شيء؟))
كانت ريمة تضع يدها على صدرها رعبًا.. فحدق بها وليد بعينين مخيفتين بينما يوجه كلامه الصارم نحو أمها
((تعالي واسمعي ابنتك المراهقة كيف تتحدث بوقاحة مع من يكبرها عمرًا، هل هذه تربيتك أنتِ وزوجك لها!))
ارتجفت ريمة هلعًا وبدأت الدموع تتغرغر في عينيها بينما تمسكها أمها من كتفيها وتهزها بقوة موبخه
((ماذا؟ ما الذي فعلتيه يا ريمة للسيد، هل قللتِ أدبكِ معه!))
غمغم وليد بنبرة مخيفة
((لو كانت ابنتك شابًا لما سكت ولأدبته بالجلد))
جاءت غمغمة وليد لتزيد من سخط وغضب أم ريمة على ابنتها كمن يصب الوقود فوق النار لتصرخ بها بينما تزيد من قوة هزها لها
((ما الذي فعلتيه أيتها الفتاة الرعناء! اعتذري من السيد وليد حالًا.. اعتذري))
اعتذرت ريمة التي بدأت دموعها تنسكب على وجهها لتدمدم بنبرة مفجوعة كإدراك متأخر
((أنا أسفه يا سيد وليد))
رد عليها وليد بترفع وبرود وكأنه يفرغ كل الإجهاد المكتوم الذي تعرض له مؤخرًا بمن لا حول له ولا قوة
((لا أريد أي اعتذار.. لي حديث مع والدها بشأنها))
عبست ملامح جُمان وهي ترى جسد الصغيرة يرتجف مغلفًا بالهلع والخوف بينما تغمغم بكلمات الاعتذار.. وأمها القلقة من أن يقطع رزق عائلتها فتلكز ظهر ابنتها آمرة إياها
((اعتذري بشكل لائق للسيد وليد.. ما الذي فعلتيه ليغضب هكذا؟))
تطلعت جُمان لوليد تخبره بصوتٍ هادئ
((لا بأس يا وليد سامحها فهي كما قلت مجرد مراهقة صغيرة لا تعي ما تقوله))
شيء في جُمان استفز وليد.. فتطلع بأم ريمة يقول بما جعل عينيها تتسعان
((لا أريد عند عودتي رؤية أي أحد منكم هنا))
شهقت ريمة وشعرت بفداحة الخطأ الذي تسببت به بينما توسلت أمها بإلحاح
((لا أرجوك يا سيد وليد سامحنا لما قالته تلك الصغيرة واعدك أن ألا تريك وجهها طوال فترة وجودها هنا))
ازدادت عينا جُمان قتامة! تدرك أن ما فعله وليد كان بمثابة عقاب لها هي.. يعاقبها لأنها تأخرت في طلب الطلاق منه.. والذي هو مُصِر أن تكون هي من تبادر له..
ارتفع صوتها وهي تكرر بحزم بدا ظاهريًا بأنه طلب إلا أنه كان في باطنة أمر له
((وليد تجاوز عن الأمر، فأنا أحب رفقتهما))
استدار وليد دون أن يرد عليها فوجهت جُمان كلامها لأم ريمة وهي تخبرها بتقرير
((لا تقلقي، وليد غاضب وبمجرد أن يهدأ سيتراجع عن كلامه.. لكن هذا البيت لن يستغني عنكم أبدًا..))
لم تكن جُمان قد أنهت كلامها وقد التفت وليد لها يرفع يده صافعًا إياها ليصرخ عقبها
((لقد قلت بأني لا أريدهم هنا فكيف تقللين من شأن كلامي وتشجعيهم على عصياني!))
ورغم غضبه المشتعل والمكتوم من أمور لا دخل لها بها إلا أنها كانت صفعة سطحية، فبالكاد لمس بأطراف أنامله وجهها.. وكأنه تراجع في آخر لحظة..
ساد الصمت المتوتر بينهما طويلًا لفترةٍ لم تقم خلالها جُمان بفتح عينيها لتواجهه بفعلته التي لا تغتفر في قاموسها وهي تكتم أنفاسها.. ليدرك أن هذا الصمت نهايته الحتمية ستكون ما يرجوه قلبها قبل قلبه..
.
.
بعد أقل من ساعة كانت جُمان قد أنهت تعبئة حقيبتها وبعض أغراضها جُهزت سلفًا.. وضعت حقيبتها أرضًا لتبدأ بجرها للخارج.. وقبل أن تهم بمسك مقبض الباب وصلها صوته هادئًا وهو يقف بجانبها معتذرًا
((جُمان أنا آسف.. لم أقصد ما فعلته))
أنهى جملته تزامنًا مع محاولته مسكها من مرفقها فهمست بصوتٍ شديد الخفوت أقرب للارتجاف وهي تنفض كفه
((إياكَ أن تلمس ذراعي))
قال مرتبكا كطفل مذنب
((لقد كنتُ غاضبًا كالجحيم ولم أعِ ما أقوله أو أفعله، كنت أشعر بضغط كبير مؤخرًا.. وأيضًا..))
لم تكن مركزة في كلامه وهي تنظر من حولها.. أعلاها.. ثم عبر درجات السلم نزولًا.. قبل أن تعود بنظرها لعينيه قائلة
((أظن بأنه فعلًا حان وقت الانفصال بيننا.. أتوقع أن ترسل لي هذه الأيام ورقة طلاقي وينتهي كل شيء بيننا))
تغضنت ملامحه بالشعور بالذنب وهو يقول
((جُمان أنا اسف مجددًا، لم أقصد ما فعلته، بكل الأحوال كان سيحدث الطلاق بيننا.. لكن بالتأكيد لن أسمح لكِ أن تتركي البيت بهذا الشكل، بل مرفوعة الهامة.. فأنتِ جوهرة وأنا فقط لم استحقك..))
سألته وهي تناظره بلهجة مغلفة بالبرود
((وعائلة ريمة ماذا بشأنهم؟ أتمنى من سيدة المنزل القادمة ألا تقوم بأي شيء قد يضرهم للخروج فهم مرتبطين هنا))
قال بكل تأكيد كجروٍ مسكين لا يريد إلا رضا صاحبته
((أنتِ سيدة المنزل وأنتِ من تقررين بشأنهم، سأذهب لأقولها أمامهم فأنا لن أخالف رغباتك يا جُمان))
صدح صوت وليد عاليًا وهو ينادي ((أم ريمة.. ريمة))
جاءت الاثنتين تقفان عنده بقلق يتجلى في وجهيهما تظنان بأنهما سبب الاحتدام الذي حدث قبل قليل.. وقالت أم ريمة بنبرة متذللة مكسورة
((هاتف زوجي مغلق الآن فلم نستطع الاتصال به، لكن سننتظره في الخارج وبمجرد أن يعود سنغادر..))
قاطعها وليد يخبرها بثبات
((كما قالت جُمان فأنا لم أقصد ما قلته..))
اتسعت عيناها ونظرت جانبًا لابنتها التي كانت تبادلها النظرات المصدومة.. ثم عادت تنظر لوليد متسائلة
((ولكنك يا سيد وليد قلت..))
غمغم بصوتٍ خفيض نافذ الصبر
((كم عليّ أن أكرر كلامي؟ لا أريد خروج أحد من هنا))
كانت تعرف جُمان بأن ما قاله كان بمثابة امتنان لأنها قررت المغادرة فعلًا.. فتطلعت لأم ريمة تحدثها
((إياكِ يا أم ريمة أن تفعلي أي شيء مع ابنتك.. سأتصل مساءً بها لأتأكد من أن أحد لم يأتي صوبها ولو بكلمة))
أغمضت ريمة تمنع المزيد من دموعها الغزيرة من الجريان على وجهها لتمد جُمان يدها وتمسح فوق ظهرها بحنان..
لتغمغم أم ريمة لها ((لقد استفهمت منها عما حدث بينك وبين السيد وليد بسببها.. سأحزم أغراضنا لنغادر المكان.. لكن لا تغضبي والسيد وليد بسببنا.. أرجوكِ..))
ردت جُمان تخفف من إحساسها بذنب ليس في مكانه
((ليس لريمة أي علاقة بما حصل بيني وبين وليد لا من قريب ولا من بعيد.. لم تخطئ بشيء لتستحق توبيخ وليد بل كان يفجر غضبه الكامن بداخله فيها.. فإياكِ أن تلوميها..))
سارعت ريمة تسألها بلهفة وقهر عليها
((لماذا تخرجين إذًا؟))
أجابتها جُمان بصراحة
((كنا سننفصل في كل الأحوال.. فلا داعي للتأجيل أكثر فلا فائدة منه إلا استنزاف كلينا))
أومأ لها وليد بهدوء مكسو بالحزن مغمغًا
((إلى اللقاء يا جُمان))
صححت له بصلابة وعينيها في عينيه
((بل وداعًا يا وليد))
=============================
أمسكت شيرين الهاتف بحركة مرتبكة بوضوح ما إن رأت اسم مُعاذ يعلو شاشته لترد عليه فيأتيها سؤاله المباشر ((كيف علم وليد بخطط زواجنا السابقة يا شيرين؟))
اهتزت حدقتي شيرين على ذكر سيرته وانحسر اللون من وجهها متسائلة بتعثر
((وليد.. وليد ابن عمك؟))
قال بخشونة وانضباط انفعالي
((نعم وليد يا شيرين كيف علم بذلك؟ بل حتى أنه عرف بشأن زيارتي الأخيرة لكِ في الفندق!))
كان كلامه فيه اتهام واضح بأنها من أخبرته بذلك فتمتمت له بصوتٍ واهن مرتبك
((لقد سبق وأن أخبرته بأني سأتزوج في الماضي.. ولكن لم..))
قاطعها مُعاذ يكيل الاتهامات لها وقد وصلته الإجابة منها دون أن تكمل
((لقد كان اتفاقنا بأن يكون زواجًا صوريًا دون أن يعرف أحد به من عائلتي ولكنكِ نقضتِ الوعد، لم تطيقي الصبر حتى تخبريه))
همست شيرين بلا تصديق
((ماذا تقول!))
غلف الغضب ملامح مُعاذ بخشونة.. فما فعلته شيرين كان بمثابة غرس خنجر منقوع بالسم ليقتل كبريائه كطعنة أخيرة بعد أن سبقتها طعنات من خناجر الاستهانة.. والادعاء.. والإستغفال..
كانت مصرة منذ البداية أن يكون زواجهما صوريًا حتى تنتقم من وليد.. وقد نجحت.. حتى لو لم يتم الزواج بينهما.. فقد أخبرت ابن عمه بأنه تم! لقد استغلته وهو الذي رأى فيها فرصته الأخيرة ليعيش مع امرأة بعد أن فقد المرأة الوحيدة التي أحبها في حياته!
أغمض مُعاذ عينيه يستعيد رباطة جأشه ثم سألها بصوتٍ حرص ألا يشوبه أي شيء
((لا بد أنكِ مطمع للكثيرين من الزملاء في عملك، فهل يمكن أن أسألك لماذا طلبتِ مني أن أتزوجك أنا بالذات؟))
أجابته بصوتها المتذبذب واختلقت لتحافظ على ما تبقى من كبريائها
((لقد سبق وأخبرتك السبب.. أنا لا أثق بأحد غيرك ليحافظ على وعده بالزواج مني زواجًا صوريًا))
لم يتمَالك نفسه وانفلتت أعصابه مستنكرًا
((ولماذا عليه أن يكون زواجًا صوريًّا! لماذا لا تقبلين الزواج من أي رجل صالح يتقدم لكِ زواجًا طبيعيًا!))
بدت على وشك الإغماء من شدة اضطرابها لصراخه عليها لكنها تمَالكت نفسها وهي تكرر تبريرها السابق
((لأني لم أجد رجلًا مناسبًا يتقدم لي))
غمغم لها بصوتٍ سقيم وقد صدقت توقعاته عنها تماما
((ولا يبدو بأنه سيأتي هذا الرجل المناسب طالما عقلك وقلبك مكرس لرجل واحد فقط، حتى بعد ما فعله بكِ في الماضي))
دموع حارقة لذعت حدقتيها ولكنها احتجزتهم خلف أهدافها..
إنه يظنها لا تزال تحب وليد حتى بعد كل ما فعله بها! فسألته وهي لا تعرف كيف وجدت القوة للصمود على نفس الواجهة
((ماذا تقصد يا مُعاذ؟))
ظل على صمته لدقائق يحاول ألا يظهر لها أي انفعال يدل على تأثره مما حدث له.. فلطالما كان له ذلك السحر الرجالي الذي يجعله حتى في غضبه لا تنفلت أعصابه، ثم قال
((لا شيء.. على كل حال لم يعد هناك بيننا أي شيء، وبشأن وليد فأنا لم أجاري كذبتك ولكن في نفس الوقت لم أبح بالحقيقة حتى يظل على ظنه الخاطئ بأني سبق وكنت متزوجًا منكِ، كما كنتِ تخططين، أتمنى أن يرضيكِ ما فعلته))
ازدردت لعابها بصعوبة ثم هدرت وقد تقطعت حروف كلماتها بغصة قاتلة ((شـ.. كـ.. را.. لك))
وجد مُعاذ نفسه يغلق الخط عليها فورًا حتى لا تتكالب كلماتها المستفزة عليه بالمزيد من طعنات الألم التي تشب في رجولته نيران الغضب أكثر وأكثر.. لقد استغلته حرفيًا لتنتقم من وليد وتثير غيرته وسخطه!
أما على الجهة الأخرى، فكانت شيرين تنظر لهاتفها بقلة حيلة.. ابتلعت غصة بكاء مسننة في حلقها ونكَّست رأسها..
بعيدًا عن العاطفة أحيانًا هي تستحق ما يحدث لها، كي تغيّر تفكيرها السقيم وتفيق من غبائها قليلًا.. أما بشأن مُعاذ فقد سبق ويئست من أن يتقبلها أو تطور أي مشاعر بينهما.. لقد انقطع حرفيًّا آخر خيوط الأمل بعد مكالمته هذه التي لم يدَّخر فيها أي مشاعر سلبية ونفور منها ليظهره..
=============================
كانت رتيل في الفناء حيث توجد الشرفة وقسم الزرع والزهر توجه نجوم لتنظيفه قبل أن تدلف للداخل وهي تشعر بضخامة هذا القصر.. فهناك المدخل والدرج والصالون، وغرف المعيشة.. وأكثر من جناح بأكثر من غرفة ملحقة به.. ومجلس النساء ومجلس الرجال.. والمطبخ العلوي والمطبخ الخارجي..
كل هذا العمل الشاق عليها هي ونجوم أن يقمن به، والذي كان يستوجب في الأصل أن تقوم به نساء كثيرات..
تنهدت ببؤس وهي تشعر بأن كل ما كانت تجبر نورين على فعله في الماضي بأمر من مُؤيد ها هو يُرَد عليها.. وأيضًا بأمر من مُؤيد..
وها هي مضطرة أن تقوم بكل هذا العمل المضني لوحدها..
ورغم أنها كانت مرهقة وتكاد الآن أن تسقط تعبًا وجدت نفسها تتوجه نحو جناحها.. إلى حيث مُؤيد يتمدد أمام التلفاز ويتابع إحدى برامجه الرياضية المفضلة باهتمام..
فأوصدت الباب خلفها ووقفت أمام التلفاز متخصرة تقاطع عليه متعته وهي تصوب له نظرها بعينين ثائرتين رغم البأس الظاهر فيهما وقائلة
((متى ستجلب خدمًا بدلًا من الذين صرفهم مَالك؟ هل سيطول الحال هكذا؟ أنا لا يساعدني أحد في البيت إلا نجوم))
لوح مُؤيد بيده لها لتبتعد من أمام التلفاز وهو يخبرها بنزق
((لست بحاجة لأي مساعدة، أساسًا هكذا ستثبتين عظمتك بصنع كل شيء لوحدك))
علا وجهها قناع جامد لا يحمل أي مشاعر تمامًا كنظرة عينيها التي تلبدت ثم تساءلت ((هل جننت يا مُؤيد؟))
ارتفع حاجباه واتسعت عيناه وهو يضرب كفًا على كف..
أطفأ التلفاز وقد فقد اهتمامه بما يشاهده ثم هدر قائلًا بحزم
((لا لم أجن بعد، من الآن وصاعدًا أريد منكِ أن تنفضي هذا المكان كله كاملًا يوميًا، أريد أن تنظفيه بلاطة.. بلاطة حتى يخال الناظر أن أراضي وجدران هذا القصر مرايا يرى الناظر فيها نفسه، أساسًا أنا لم أثق بحياتي بعمل الخدم))
انتظرت حتى انتهى تمامًا من قصيدته المحفوظة ثم قالت له بغل من بين أسنانها المطبقة
((يعني لن توظف أي أحد في المطبخ ولا القصر وتريد مني أن أقوم بكل هذا العمل للنهاية لوحدي؟))
وضع مُؤيد كفًا فوق جبينه يغمغم كمن يحدث نفسه مطرقًا برأسه
((سامحك الله يا أبي لم يكن من المفترض بكَ أن تجلب الخدم من الأساس! بل كان عليكَ أن تترك نساء هذا المنزل يقمن بكل شيء منذ البداية))
صبرت بتبلد كما اعتادت أن تفعل وهي تتلقى منه أسطوانات التقريع اليومية ثم سألته بقنوط وهي تضيق عينيها
((هذا آخر كلام عندك يا مُؤيد؟))
هتف حانقا ((وماذا تريدين بعودة الخدم للمنزل؟ ولماذا أنا تزوجتك إذا كان وجودهم ضروري.. هل هناك أي خادمة تعمل عند والدتك أو أخويك الاثنين؟))
اتسعت عينيها لما تسمعه منه.. واختلجت شفتيها تهم بالاعتراض ولكنه لجمها عن الرد بينما يتابع
((أنا أجيب عنك.. ليس هناك خدم عندكم.. إذن ابلعي أي اعتراض واعملي في هذا القصر لوحدك، ليس من حقك أن تطلبي خدم هنا ولم يكن هناك في بيت والدتك))
بيتهم صغير وليس هناك أي حاجة لصنع وجبات الطعام للمزارعين في مزارعهم.. لذلك لم يكن هناك أي حاجة للخدم عندهم.. لكنها لم تعرف كيف ترد عليه بهذا الكلام.. بل وكأنه ربط لسانها على الكلام.. لكن فجأة
شعرت بطفلها فهد يهز ثوبها وهو يتطوع قائلًا بصوتٍ مشفق عليها
((أمي لا تحزني أنا وباسم سنساعدك، أخبرينا ماذا نفعل؟))
لم تكن قد تأثرت بعد بعطف صغيرها ابن الست سنوات قبل أن تسمع أباه يزجره
((اسكت يا ولد، أعمال المنزل هي للنساء، وأنتَ ستكبر لتصبح رجلًا.. مثلي))
نظرت رتيل له بتأنيب وقالت
((حتى ولدينا فهد وباسم يران تجبرك وتسلطك عليّ ودائمًا ما يظهران إحساسهما معي لما تفعله بي، أصبحت الآن أتمنى ألا تزورنا هنا وتبقى في المدينة))
مال مُؤيد برأسه يستند به إلى إصبعيه يتأملها بنظرةٍ ثاقبة ثم قال
((هذا لأنهما صغيران.. لكن مع دخولهم لسن المراهقة ونمو احتياجاتهما سيتلاشى شعورهما بالشفقة عليكِ ويحل محلها الإدراك لواقع الأمر وسيفهمان الفرق بيني وبينك.. فأنتِ امرأة وأنا رجل.. وليكن بعلمك لن أعود أبدًا للمدينة إلا متى ما شئت فعملي أستطيع إدارته من هنا فإياكِ أن تنكدي عليّ))
غمغمت له بحقد
((ألم تقل لي منذ زواجك بأنك لا تستطيع إدارته إلا من خلال تواجدك هناك؟ ولهذا تستأجر حضرتك منذ زواجنا شقة في المدينة؟))
تجاهل كلامها وأمرها باستعلاء
((اذهبي واعدي الشاي هيا.. انظري لقلة حياءك كيف تتحدثين مع زوجك بهذه الطريقة الغير محترمة))
كظمت غيظها منه متمتمه بينها وبين نفسها بصوتٍ مسموع
((أي شاي في هذا الوقت! لقد فقدت كل طاقتي))
صفقت الباب خلفها بعنف في حين هز هو رأسه بيأس مغمغمًا لنفسه بتوعد لئيم
((هزلت فعلًا.. صار وجود الخدم في المنزل واجب للشخص ميسور الحال! لن أكون مُؤيد ابن يعقوب الكانز لو سمحت لأي من الخدم بأن يعودوا هنا.. حتى أني سأطرد قريبًا نجوم هي الأخرى))
=============================
كان وليد يمج من سيجارته بينما يشرد بعينيه عبر الدخان.. والألم يجعل يده التي تمسك بالسيجارة ترتعش.. كلما خطر على باله بأن مُعاذ تزوج منها بالفعل يشعر بذاك الارتجاف يغزو جسده رغبة في قتل أحد ما.. بسبب استخفافه بها وعدم وضع من يراقبها منذ البداية تزوجت شيرين من غيره سبقه لها!
لم يتعب نفسه بالتفكير عن سبب تساهل مُعاذ بالذات في أمر طلبه للطلاق.. بل عزّ ذلك بأنه لم يرغب في الإكمال معها منذ البداية طالما أنه لم يسجل زواجهما في المحكمة..
بمجرد أن وصل وليد رد شيرين على الهاتف بعدما اتصل بها برقم أخر غريب حتى غمغم لها بجفاء
((هل وصلك الطلاق من مُعاذ؟))
صدرت منها شهقة صادمة ولم تتوقع أن يكون هو المتصل.. ثم سرعان ما انفجرت به صارخة ((وليد! هذا أنتَ أيها ألنذل؟ ماذا قلت لمُعاذ؟ أيها الخسيس أخبرني ماذا فعلت؟ لماذا تدخلت بيننا وكيف جعلته يشمئز حتى من التحدث معي؟))
كان صوتها يضج بالحرقة والغل وهذا ما جعل عيناه الناعستين تشع بشيء من الرضا وسط الحالة الإجرامية التي هو فيها الآن.. فقال أخيرًا
((ليس هناك شيء بينكما إلا الطلاق، فهل أعطاه لكِ؟))
خرجت منها ضحكة لاذعة قبل أن تقول بصوتٍ سقيم
((نعم طلقني.. هل أنتَ سعيد؟ الآن اتركني بحالي وإياكَ أن تتواصل مع مُعاذ بشيء يخصني))
قال لها بجفاء وهو يطفأ سيجارته
((سأعتمد على صدقك بما أنكِ عدتي للسكن عند صديقتك، لكن سأرسل من يراقبك ويتأكد من أنكِ لا تقابلينه))
هددته قائلة ((تجرأ وأرسل أحد لمراقبتي وستجد نفسك في السجن أيها المحامي المحترم))
رد عليها ببرود قاتم
((إذا استطعت إثبات ذلك فلا توفري أي جهد.. لكن عليكِ أن تفقدي الأمل في ذاك الرائد نهائيًا، فقد باعك على الفور بمجرد أن هددته))
سحبت عدة أنفاس تهدئ ثورتها قبل أن تقول
((لم أتأثر فقد سبق وجربت من تخلى عني بطريقة أكثر خزيًا، على كل حال لا أريد أن أكرر عليكَ بأني لا أريد سماع صوتك أو رؤية وجهة مجددًا))
غمغم لها من بين أسنانه بصوتٍ خطير
((لن أترككِ بحالك قبل أن أحصل عليك))
بدأت العبرات بالتجمع كالبحيرة المترقرقة في مقلتيها مدمدمه بغصة
((هل جننت؟ وماذا بقي لتحصل عليه؟ أخبرتك بأني سبق وتزوجت منه!))
أجابها ومقتليه المظلمتين كقبر عميق تزداد ظلمة
((حتى ولو..))
تقلصت ملامحها بازدراء ثم انفجرت به صارخة
((ألا تذكر ما قلته في نفس يوم زفافنا المفترض؟ قلت بأن رجولتك لا تقبل أن تتزوج من فتاة سبق وحملت مشاعر لغيرك ولهذا لن تكمله، فما الذي تغير الآن لتتزوج من امرأة سبق وسلمت جسدها لغيرك عندما تزوجته؟))
لوى وليد فمه بشبه ابتسامة قاسية وهو يقول من بين أسنانه ((ما أريده امتلكه حتى لو كان مستعملا))
لف الذعر شيرين وتشتت تفكيرها.. هل عرف بشأن كذبتها وبأن مُعاذ لم يلمسها أو يتزوج منها ويسايرها وحسب؟ فوليد الذي تعرفه ما كان ليكون مُصِر على الزواج منها بعدما عرف بزواجها الكامل من آخر! ولكن مُعاذ أكَّد عليها بأنه جاراها في كلامها ولم يكشف الحقيقة له! نفخت أوداجها وقالت تفعم في إيلامه
((وليد أنا في عدتي ولا يصح التحدث مع رجل آخر..))
فاحت ذبذبات الانتقام من حول وليد فوجد نفسه يقاطعها غير متمَالك أعصابه وملامحه تهتاج
((كُفِّي عن تذكيري بأنكِ كنتِ متزوجة من غيري.. فقط انتظري حتى تصبحي ملك يدي ووقتها لن يهدأ لي بال قبل أن يكون ثأري في حجري))
أغلقت شيرين الخط على صراخه وسارعت تقوم بحظر رقمه هذا الأخر على الفور..
=============================
انتهى الفصل.
الفصل العاشر
وقفت رتيل في المطبخ تقوم بإعداد ذاك النوع من الحلويات الذي طلب مُؤيد منها صنعه.. هذه الأيام لا يفعل شيء إلا المكوث في البيت وطلب ما لذّ وطاب من الأطعمة التي يشتهيها.. وكأنه امرأة حامل تتوحم..
نجوم تساعدها بقدر ما تستطيع.. هي الوحيدة المتبقية من العاملات اللاتي تم صرفهن! لا بد أن مَالك لم يطردها لأنها الوحيدة التي تعامل يزيد بشكل جيد..
وقفت رتيل أمام الموقد تمسك بيدها ملعقة خشبية تحرك بها ما في القدر.. وباليد الأخر تمسك كتاب فهد تذاكر له..
وعندما شعرت بترنح من التعب والإعياء تهالكت بعذاب على مقعد بجانب فهد الذي كان يكتب الكلمات التي تلقنه إياهم.. صححت له ما كتبه وأثناء ذلك انتبهت لعبوسه الملازم له منذ أن عاد من المدرسة.. فسألته باهتمام وقلق
((هل أنتَ منزعج من شيء يا حبيبي؟))
نكس فهد وجهه يتبرم بغضب طفولي
((اليوم عرفت بأن عمي مَالك قام بإعطاء يزيد ألبوم صور لهما الاثنين سويا.. ولا أذكر أنه قام بأخذ صورة لي معه))
تدلى فك رتيل ذاهلا لما سمعته.. هل جن شقيق زوجها ليصل به الاهتمام بيزيد إلى هذا الحد؟ هل طبيعي ما يقومه به! إنه لا يكف عن إدهاشها يوما بعد يوم فيما يقوم به ليزيد! لكنها تداركت الأمر وقالت لابنها مواسية
((حبيبي فهد لا تقلق.. أنا معي هاتف وسألتقط كل يوم لك صورة وسأصنع ألبوما أجمل منهما..))
رفض فهد كليا وهو يقول بمنطقه الذكوري الذي يتسرب إليه من فكر والده
((لا أريد فأنتِ امرأة.. لن أستطيع أن أعرض الألبوم متباهيا على أصدقائي في المدرسة))
لم تعقب على كلامه بل ابتسمت له بحنو الأمومة مقترحة
((إذن ما رأيك أن التقط صور لك مع أصدقائك أو أخيك باسم؟))
لمعت عينيه بالدموع الخفيفة وهو يقول بإصرار
((أيضًا لا أريد.. أريد رجلا كبيرا أن يلتقط معي الصور..))
لوهلة شعرت بالحيرة والتخبط لكنها تساءلت
((رجل كبير؟ إذن لماذا لا تخبر والدك؟))
هز فهد رأسه برفض مجددا ثم قال
((لا أريد.. سيرفض.. أنا اعرفه.. أخبري عمي مُصعب أو مُعاذ أن يهتما بي كما يفعل عمي مَالك مع يزيد))
تنهدت رتيل بتعب ثم وعدته وهي تطبطب فوق شعره
((حسنا سأفعل))
قاطعهما في هذه الأثناء دخول نورين قائلة
((مرحبا رتيل.. كيف حالك؟))
رفعت رتيل عينين مُخيفتين نحوها ثم قالت بجفاء
((إذا لم تكوني تريدين المساعدة فلا تدخلي المطبخ))
ادعت نورين الاستغراق بالتفكير للحظات وهي تزم شفتيها ثم ابتسمت بتسلية لرتيل وقالت
((بودي حقا مساعدتك، لكن قلبي الحقود يأبى ذلك وعقلي لا ينفك عن جعلي أتذكر تلك الأيام العصيبة الأولى التي عشتها هنا عندما كنت تجبريني على العمل هنا كخادمة وفوق طاقتي يوميا))
ضيقت رتيل عينيها وكاد الشرر يتطاير منهما وهي تقول بغل مهددة ((نورين سأعد للثلاثة إذا لم تغادري من هنا، فلا تلوميني على ما سأفعله الآن بك))
كتفت نورين ذراعيها ثم قالت متحدية بصلابة
((لن أغادر.. ماذا ستفعلين؟))
ضيقت رتيل عينيها أكثر وما أن استقامت واقفة حتى انتفضت نورين من مكانها شاهقة بذعر وهي تفر هاربة من المطبخ..
.
.
أغلقت رتيل باب جناحها ثم وضعت طبق الحلوى الذي أعدته لمُؤيد فوق المنضدة بقوة.. ثم وقفت متخصرة أمام التلفاز الذي كان يتابعه زوجها باهتمام هادرة
((تفضل طبق الحلوى الذي طلبته))
غمغم مُؤيد لها بانزعاج وهو يلوح لها بيديه جانبا كي تبتعد
((ضعيه هنا واغربي عن وجهي أنتِ تعيقين مشاهدتي للتلفاز))
استدارت تغلق التلفاز من الزر المخصص له ببساطة ثم عادت تنظر لزوجها متجهمة بينما تكتف ذراعيها.. فزعق بها باستنكار وهو يعتدل جالسا على السرير..
ازدادت ملامحها تجهما وهي تتحدث بجدية
((اقضي القليل من الوقت مع فهد وباسم، بدلا من الترفيه على بنات أخوتك، اخرج مع ولديك))
استبد الغضب به مما تتحدث به فقال محذرا وهو يلوح أمامها بسبابته
((إياك يا رتيل التدخل بعلاقتي مع أي من بنات إخوتي، هدى أو دارين))
دمدمت له بغيظ يعتريها
((إذا كنت لا تريد مني التدخل فاقضي بعض الوقت مع ولديك وأخرجهم معك للتنزه أيضًا))
برر مُؤيد وجهة نظره باقتضاب
((أحب تدليل الفتيات أما الأولاد فيجب التعامل معهم بحزم بعيدا عن اللين))
حادت بعينيها عن عينيه متخاذلة إلا أنها أصرت أن تفرغ ما بجعبتها فعادت تنظر له هاتفة بانفعال
((لا أقول دلل ولديك، ولكن اقضي معهما بعض الوقت))
ضيق مُؤيد عينيه متسائلا باستهجان
((بماذا سأقضي معهما الوقت؟))
((قم بالأمور التي يحبها كل واحد على طريقته الخاصة، وخاصة فهد.. لأنه كطفل يحز في نفسه عندما يرى عمه يهتم بابن البستانية بدلا منه، ووالده يهمله))
ازدادت عيناه ضيقًا لكن النظرة فيهما تحولت إلى شيء آخر أكثر خطورة.. ثم تمهل قبل أن يهدر ببطء
((كل هذا جراء غيرتك من معاملة مَالك مع ابن البستانية!))
زمّت شفتيها ثم قالت حانقة
((نعم.. لأن كل الأطفال حتى ابن البستانية يجدون من يهتمون بهم إلا أولادك..))
هدأت ملامح مُؤيد واستكانت قليلا لدرجة السكون المزعج والغير معبر عن شيء وهو يمعن النظر في وجهها قبل أن يهدر أمامها بنبرةٍ خفيضة مبهمة
((هل تعرفين لماذا يهتم مَالك بابن البستانية؟ لأنه وببساطة يحب أمه فيعوض استحالة إمكانيه زواجه منها بالاهتمام بابنها، لذلك اتركي مالك جانبا ولا تعقدي مقارنات))
ترقق حاجبي رتيل ثم سألته بشك
((ولم يستحيل أن يتزوج مالك من البستانية؟))
تنهد مُؤيد تنهيدة طويلة فاقد الصبر ليجيبها بشيء من البديهيات
((لأنه لا أمي ولا أبي سيوافقان أن يتزوجها! كيف يقبلا من مدللهم مَالك الراكز أن يتزوج من امرأة تكبره بسنوات ومطلقة مرتين ولديها ابن!))
أطبقت رتيل شفتيها بتفكير ثم نبهته بفطنة
((لا تحكم من الآن فأنتَ لا تعرف ما سيحدث مستقبلا!))
عاد يستلقي على ظهره قائلا بنبرة لا تحتمل التشكيك
((لن يقدر أن يتزوجها ولو أراد.. اسمعي مني أنا..))
ثم عاد يلوح لها بيده
((ابتعدي جانبا عن التلفاز وعودي لعملك فكما قلت لك لن أوظف أحد هنا، انتهى عهد دلالك))
عاد الغل والحقد يرتسم على وجهها من كلامه وابتعدت عن التلفاز تسمح له بتشغيله منصرفة من الغرفة!
=============================
كانت الحاجة زاهية جالسة تلاعب حفيدتها الصغيرة هدى بعرائسها تستمتع بهذه اللحظات معها قبل أن تقول الصغيرة ما يستدعي استغرابها
((جدتي هل أخبرك سرا عن أمي؟))
رفعت زاهية حاجبيها تحثها على المتابعة لتكمل
((كلام أمي غير صحيح، هي لم تعطيني الهاتف في الصباح وأنا لم أتكلم مع أبي كما قالت))
تلك الخطوط الجانبية التي ارتسمت عند عيني زاهية ازدادت عبوسا لترد
((ولكن والدك قال بأنه يتحدث معك بشكل يومي.. فهل الاثنين يكذبان عليّ؟))
نظرت هدى لجدتها بوجه رقيق ملامحه شفافة قلقة وهي تتساءل ببراءة
((هل أخطأت بما قلته؟ هل يُعد هذا إفشاء للأسرار؟))
قالت الحاجة زاهية بحنو وقد أثارت حفيدتها فيها عطفا
((لا تقلقي يا حلوة.. اذهبي لوالدتك لتستعدي للنوم))
أطاعتها هدى وهي تحمل عرائسها ثم تهرول للخارج..
في حين عادت زاهية تجلس بالقرب من النافذة ثم اتكأت للخلف متصلبة الأوصال تناظر الخارج عبر الزجاج تفكر بحال أولادها.. في هذه الأيام أكثر من يشغلها أصغرهم مَازن الذي بدأت تشك في صحة كلامه عندما يؤكد عليها بأنه يتفقد حال هدى دائما على الهاتف.. هل تحرمه ياسمين من التواصل مع ابنته؟ ولكن لماذا؟ هل هذه طريقتها لتضغط عليه حتى يعود للبلاد؟ راقت هذه الفكرة لزاهية وشعرت بأن كنتها أخيرا بدأت تتصرف كما تريد..
دلف الحاج يعقوب للداخل يغمغم بالسلام بعد أن أنهى صلاة المغرب جماعة في مسجد القرية.. ثم سأل زوجته متأملا ملامحها الشاردة ((ما هي أخر الأخبار؟))
خرجت زاهية من حالة تصلبها قليلا وهي تفرد قدميها المطويتان ثم سألته مباشرة دون سابق تفكير
((هل انتهت إجراءاتك لمحاولة استقدام ياسمين عند زوجها؟ فأنا كلما راجعت مَازن بالأمر يخبرني أن أسألك أنتَ))
أشاح يعقوب بعينيه جانبا وأجاب
((هذا ما كنت أريد التحدث معك بشأنه.. فياسمين لن تسافر عند زوجها))
سألته زاهية بتوجس وعينيها تمران على ملامح وجهه
((لماذا؟ هل معنى هذا الكلام بأنه هو من سيعود أخيرا))
حافظ يعقوب على صمته قبل أن يجيبها أخيرا
((لا لن يعود مَازن لهنا حتى بعد تخرجه.. فهو يريد أن يستقر هناك ويبدأ عمله الخاص.. لذا لن يتغير شيء في حياة ياسمين أو مَازن))
هدرت زاهية بغضب
((أي مشروع عمل هذا الذي جاء به؟ لقد ترك جامعته هنا في سنته الأخيرة، وذهب ليدرس نفس تخصصه في إحدى جامعات الغرب ولم نتدخل، والآن يريد أن يستقر هناك ويفتح مشروعا خاصا به؟ لماذا لا يقوم بمشروعه هنا))
غمغم لها يعقوب قاطب الحاجبين
((اهدئي يا زاهية))
زفرت باختناق ثم غمغمت له بحزن مكتوم
((أنا فقط لا افهم حاجته للاغتراب.. والأنكى أنك تدعمه يا يعقوب في ترك زوجته ومنزله والبقاء في الغربة!))
سقط كفه على حجرها وتمتم لها بائسا بمرارة
((وماذا تريدين أن افعل إذن؟))
أغمضت زاهية عينيها بإشارة رفض وعتاب ثم وجهته
((قل لابنك بأنه لا يجوز للرجل أن يتغرب عن زوجته أكثر من أربعة أشهر إلا بإذنها فكيف هو المغترب لست سنوات! أنا لا أجبره على العودة هنا لكن على الأقل فليستقدمها عنده هو وابنته.. لماذا يرفض ذلك؟ ماذا يخبأ هناك؟))
أغمضت عينيها متنهدة للحظات ثم سألت تبغي الحقيقة
((في الظروف الطبيعية ما يمنع الرجال من استقدام نسائهم للخارج ليشاركنهم مرارة الغربة هي عدم تحمل النفقات الإضافية.. لكن في حالة ابنك ما هي حجته؟))
نظر يعقوب إليها بقلة حيلة ودمدم فاتحا راحة يديه
((لا أدري بماذا أجيبك!))
غمغمت زاهية بإجهاد وصدر متألم
((أحيانا أشك أن السبب الكامن وراء انعزالها هو وقوعها تحت ضغوطٍ إضافية من ابتعاد زوجها عنها، وجعلها فريسة لمسؤوليات لا قبل لها بها))
ثم عادت تنظر من خلال النافذة تواصل همسا حائرا
((لكن على كل حال سأبحث في أمره وأتمنى أن يكون ما أظنه ليس صحيحا!))
تغضن جبين يعقوب متسائلا
((إلى ماذا تلمحين؟))
سألته بوضوح مباشرة وحدقتيها تهتزان
((هل هو متزوج هناك يا يعقوب؟))
لفه الارتباك عند سؤالها هذا لكن آثر أن تصدق هذا الأمر حتى تتوقف عن البحث عن مَازن فقال بثبات مفتعل
((وإذا كان متزوج، أليس رجلا ولا يستطيع العيش دون أن يعف نفسه؟ ما المشكلة في ذلك؟))
التفتت إليه بحدة تقول بانفعال مكتوم
((بل مشكلة كبيرة وفيه ظلم لزوجته.. لأن من حقها أن تتمتع بمعاشرة زوجها كما يتمتع هو بمعاشرة غيرها))
غمغم يعقوب بضيق
((زوجته راضية بغيابه ومتنازلة عن حقها في المبيت خلال هذه الفترة الطويلة، ثم هو تركها في مكان آمن لا يخاف عليها فيه، فلا حرج عليه))
ارتجفت شفتاها لا تجد ردًا أمامه في البداية قبل أن تغمغم
((حتى لو كانت زوجته راضية فعليه أن يعدل بين الزوجتين، والتسوية بينهما في النفقة والكسوة والمبيت.. كيف سيحقق العدل بين زوجتيه وإحداهما تقيم معه بشكل دائم.. والأخرى يراها أياما معدودة خلال سنوات!))
عاد يعقوب يلتفت بهيئته الوقورة لها قائلا
((لا داعي للنقاش في أمر لسنا متأكدين منه أساسا))
هزت رأسها له وهي تعود لتشرد في النافذة..
=============================
أطلق مُصعب تأوهاته في أحلامه بينما يهلوس بكلمات غير مفهومة.. منذ لقائه الأخير مع وليد وشقيقه مُعاذ وقد انقلب حاله رأسًا على عقب.. وكلمات وليد القاتلة تطارده في أبشع كوابيسه التي يلوم فيها نفسه بأنه كان السبب في موت يحيى لأنه من أرسلن لفض تلك المشاجرة بدلا منه.. وماضيه مع طليقته رشا وابنة عمه عند زواجه منها..
رغم أن وليد يعرف تماما حقيقية كل شيء.. حتى حقيقته مع رشا يعرفها هو ومعاذ دونا عن الباقي.. يعرف حقيقة أن رشا كانت تعاني من بطش والدها ويئست من أن يوقف أخيها يحيى أو أحد أعمامها والدها عند حده.. فلجأت له لكونه صديقا مقربا من يحيى قبل أن يكون ابن عمها وطلبت منه أن يتزوجها بعُرف النهوة لأن والدها مُصِر على تزويجها من صديقه كبير السن بعد أن أصبح شريكه في تجارته وسيعقد قرانه عليها قريبا رغما عنها.. فما كان منه إلا أن يستجيب لتوسلاتها وإلحاحها وفرض النهوة عليها أمام كل وجهاء وأهل القرية بشكل مفاجئ..
بالطبع اعترض عمه أمام الجميع بحجة أن ابنته مخطوبة لصديقه وتحبه.. لكن ولأن عُرف النهوة الجائر كان أقوى منه لم تلاقِ أيًا من اعتراضاته صدى عند أحد..
ورغم أن رشا تعرضت للكثير من التعنيف الجسدي والمعنوي من والدها بعد أن لامس موافقتها عليه إلا أن الزواج بينهما تم..
لم يبالِ مُصعب أبدًا ولم يهتم بسمعته أمام الناس وهو يظهر أمامهم بواجهة ابن العم الظالم الذي يفرق ابنة عمه عن خطيبها الحبيب ويتزوجها رغما عنها بإحدى تقاليد مجتمعهم البالية.. وهو المعروف عنه أخلاقه الحسنة وسمعته الطيبة..
بعدها بدأ فصل جديد من حياته مع رشا مثقل بالبرود والجفاء.. فمهما حاول أن يبني معها جسور تواصل بينهما ويزرع الود أو القبول في حياتهما يجد صدا منها!
أخيرا.. لم يتوقع أن ترد له معروفه بعد أشهر من زواجهما بأن تطلب الطلاق في يوم وفاة والدها.. تحديدا بعد ثالث يوم من عزاه! لكنه مع ذلك استجاب لطلبها مع وعد صادق لها بأنه لن يبوح لأحد بسر هذا الزواج حتى لو ترتب عليه أن يكمل حياته دون يصحح ظنونهم الخاطئة نحوه حفاظا على سمعتها..
لكن من جهتها لم تبذل أي جهد للحفاظ على هذه السمعة عندما سافرت خلسة للخارج عند والدتها بمجرد أن انتهت عدتها دون علمه أو حتى علم أخيها يحيى..
كان جسد مُصعب يهتز أثناء نومه كأنه يصارع شيء ما حتى أن حالته هالت نورين وهي تراه يتنفس بصعوبة والعرق يتفصد من جبينه.. يهذي بكلمات غير مفهومة.. عن ابن عمه.. وأيضا.. ابنة عمه.. ورغم حنقها اللاإرادي إلا أنها جلست جواره برفق على حافة السرير ثم مدت يدها لتلامس شعره توقظه على مهل
((مُصعب.. مُصعب استيقظ))
لم يستجب لها فبدأت تهزه بشكل اقوى وتناديه ليفتح عينيه أخيرا بتثاقل بتنهيدة حارة ((هل مات حقا؟))
عقدت حاجبيها لا تفهم سؤاله لكنها توقعت أن يكون له علاقة بيحيى ابن عمه.. كما أدركت أن مُصعب لم يستيقظ تماما بل لا زال يهذي فهزته بخفة وصوتها يصطبغ بلهفة واضحة
((مُصعب أنتَ تحلم..))
تطلع لها واجما ثم تجول نظره في غرفة النوم بينما يستوي شبه جالس.. وعى على نفسه أين هو لتقول له متجهمة
((بدوت وكأنك تعايش كابوس في نومك))
أرخى رأسه للخلف عابس الملامح مغمض العينين يتمتم ((نعم.. ربما))
وضعت عدة من الوسائد وراءه ليرتاح أكثر وسكبت له كأس ماء وهي تسأله بينما يُسمع وقع قطرات الأمطار من الخارج
((ماذا كنت ترى في نومك؟))
تجرع من كأس الماء بهدوء فشعر بتحسن والماء يُصب بجوفه ليطفئ ظمأه ثم رد
((فقط كابوس مزعج))
مدت يدها لتحتضن كفه بينما تنظر لوجهه المرهق وتتساءل هامسة
((لا أدري ما بالك مؤخرا! نومك بات خفيفا بعد أن كنت تقضي معظم يومك فيه))
لم يضع عينيه بعينيها بل أغلقهما بشدة وهو يتنفس بعمق ثم هدر ((نعم مؤخرا بدأ الأرق يلازمني ويجعلني استيقظ كثيرًا خلال نومي))
تجمعت الدموع في عينيها وهي تشدد من احتضان يده
((أخبرني ما هو السبب؟))
لم يرد بل زمّ شفتيه وهو يلوم وليد في داخله!
فليس هناك أبرع من ابن عمه في إطلاق سم الكلام اللاذع.. وبعثرة كيانه كرجل وهزّ عرش السلام النفسي الذي ناله بشق الأنفس.. فأشاح مُصعب بعينيه بعيدا عن وجهها العابس هادرا
((فيما بعد نورين.. فيما بعد))
ابتسمت بشحوب لتقول بصوتٍ مرير ونظرات شاردة
((لماذا كُتبت ألا تدوم السعادة بيننا!))
رفعت يدها نحو وجنتها تمسح تلك الدمعة التي سقطت بلا وعي منها فأمسك مُصعب يدها بغتة وشد عليها وهو يقول متجهما بقلق
((ماذا تقصدين بوصلة الكآبة هذه!))
دمدمت له مباشرة
((أنتَ السبب فيها))
تجلت الدهشة على وجهه وهو يردد
((أنا! ماذا فعلت لك؟))
رأى جرحا في عينيها يمزق القلب بينما تحاول انتزاع يدها منه وهي ترد باقتضاب متعمد
((لم يدم تغيرك السحري معي إلا وقتا قصيرا متمثلا في ليلة واحدة))
قطب مُصعب حاجبيه يسألها
((ماذا تقصدين؟))
ابتلعت غصة مسننة بحلقها ثم همست تطرح جل مخاوف أفكارها المتخبطة بين جنبات قلبها
((بعد أن ظننت بأنك تغيرت معي أخيرا، عدت كالسابق بل أسوء.. ما الذي حدث معك! حتى الأرق في الليل لا يتوقف عن مبارحتك! وكأنك ندمت على عرضك في أن يكون الزواج طبيعي!))
تمتم لها بصوتٍ مجهد
((الأمر ليس هكذا..))
تشنجت قليلا وهي تقول بثبات رغم اضطراب صوتها
((مُصعب هل يمكن أن نتحدث بشيء سبق وتجاهلناه سابقا؟))
تساءل هامسا ((ما هو؟))
صمتت فجأة ثم رمشت بعينيها سائلة بتردد
((أظن بأنك لم تصدق عذريتي في تلك الليلة، وسكت عن الأمر لأنك أردت انتهاء النزاع بين القريتين، لهذا كنت تنفر مني، ونادم على تغيرك معي..))
تنهيدة حارة صدرت منه وهو يضع أنامله على شفتيها يقطع استرسالها بالكلام وقد فهم مقصدها من صوتها المختنق ثم تمتم
((أنتِ مخطئة))
دمعة حائرة تعلقت بجفنيها وهي تهمس بتهدج
((لا تنظر لي هكذا.. فرغم أن تفهمك أراحني جدًّا آنذاك إلا أنه في بعض الأحيان تناوبني الشكوك أنك قلت هذا الكلام بغير اقتناع))
تجمدت نظراته بينما اشتدت لمعة نظراتها فقال بصلابة
((لا أشك بعفتك، عدم نزفك أمر فعلا طبيعي))
وهي تظن أيضًا بأنه طبيعي، فرغم كمية الرعب والخوف الذي كانت تعيشه آنذاك إلا أن تعامل مُصعب معها في تلك الليلة هو السبب.. فقد كان لطيفا معها.. متمهلا.. ورفيقا.. ولم يقم ببدء أي شيء إلا عندما شعر بأنها مرتاحة ومسترخية..
سادت لحظات من الصمت.. وكان المطر لا يزال يهطل بغزارة وصوت وقعاته يصل عندها..
تساقطت عبرة.. أو عبرتين من عينيها.. فيما همت بمسحهما على الفور وهي تقول بصوتٍ متحشرج
((لماذا تتصرف معي ببرود إذن؟))
تنهد مُصعب قبل أن يقول
((إن الذي تفسرينه بالبرود يعني بأني مرتاح معك..))
امتقعت ملامحها شاعرة برجفة في جسدها فشدها لتجلس بجانبه وهو يردد باختصار
((إذن هل يمكن أن ننهي هذا الموضوع تماما ولا تجلبيها في كل مرة تشعرين بضيقي الذي قد يكون سببه أمرا ليس متعلقا بك))
تقوست شفتاها للأسفل إلا أنها هزت راسها قائلة
((نعم))
مزق قلبه رؤيتها بهذا الشكل ضائعة.. تائهة.. وجهها شاحب وبريق عينيها خافت.. فشدد من ذراعه التي تحيط كتفها وهو يقول ((ظننت أن كونك متعلمة وفتاة ذات طموح عالي ستعرفين أنه أمر طبيعي ذلك دون الحاجة لذكر الموضوع من حين لأخر))
رفعت رأسها له ولم تقاوم جاذبية الانبهار فيه وهي تناظره ثم ابتسمت له من أعماق قلبها.. بادلها الابتسامة ثم قال لها بنبرة خاصة
((تخلصي من مخاوفك عن أفكاري، ولا يصح أن يظل ذهنك مشغولا فيه لهذه الدرجة رغم حساسيته يا نور))
استدارت نحوه تحيطه بيديها هامسة
((أريد عناقك.. أشعر بحاجة ماسة إلى دفئك))
دفن وجهه في شعرها الأشقر ومرر يده فوق ظهرها متقبلا إياها باحتواء ورغبة دون أي ذرة رفض..
فتمتمت له بحنق كمن تذكرت شيئا
((لا تدعوني بنور لو سمحت))
ضحك بخفوت ثم ناكفها
((لماذا؟ نورا.. نوران.. نورين.. كله مشتقات نور..))
تحركت نورين من رقدتها على السرير معتدلة بجذعها تنوي الابتعاد
((سأذهب من هنا))
مال هو الأخر بجذعه يتشبث برسغها ويعود ليجتذبها عنده قائلا بمرح
((أنا أمزح معك أيتها العفريتة))
استلقي فوق السرير ضاحكا معها.. وهي رغم تجهمها إلا أنها عندما سمعت ضحكته اهتز قلبها بين أضلعها واحمر خداها لتشعر بتخبط متفجر في صدرها بينما يأتيها صوته ببحته الخاصة ساخرا
((منذ متى وأنتِ لا تتحملين المزاح يا نورين!))
تخبطت نبضاتها في اهتياج لذيذ.. وكل حواسها ابتهجت استجابة لاسمها على شفتيه ثم قالت وهي تبتسم رغما عنها ((ألم تلاحظ بأنك لم تشتري لي كتاب أخر سبق وقرأته حتى نتناقش فيه يا مُصعب؟))
ضحكت بخفوت وهي ترى الحنق يبدأ بالتجلي على ملامحه بينما يقول
((اذكري لي موضوع الكتاب مرة وأخرى وسأحطم خلية النحل التي رأيتها حقا على رأسك))
قالت له بدلال متفاخرة
((لن أهون عليك، أنا أعرف..))
قال لها بعاطفة مغيرا الموضوع وهو يداعب خصلات شعرها الأشقر
((أريدك يا نورين من الآن وصاعدا أن تعرفي بأني عندما لا أوليك اهتماما فهذا لا يعني بالضرورة أنني أُهملك، قد أكون حزينًا أو مشغولا ولا أريدك أن تغرقي معي، قد أكون غارقا في عالم أخر لا تعرفين عنهُ شيئًا.. فالتمسي لي عذرًا))
أومأت له موافقة وابتسمت له ابتسامة يشوبها الحزن لأنه لا يُعلمها شيئا عن مكنونات قلبه.. ثم دفنت نفسها أكثر فيه.. إنها تعشقه.. وتعشق نظرته وحنوه..
تسربت طيب رائحة عطرها النفاذ له وهي قابعة بين أحضانه فلم يجد نفسه إلا أنه يريد أن ينال شيئا مما تهفو إليه روحه الليلة! أبعدها قليلا عنه يرفع أنامل يده ليلامس بها وجنتها بنعومةٍ ولمعان عينيه يشع في تعبير عميق.. ثم مال بشفتيه يلتقط ثغرها بقبلة ناعمة.. ليحلق بها إلى عالم أخر..
.
.
بعد ساعات..
وعندما يأس مُصعب من أن يجد النوم له طريقا مثل العفريتة بجانبه استوى واقفا من مكانه.. أزاح الستائر عن الجدران الزجاجية العازلة عن الشرفة ليستمتع بمنظر المطر.. ثم أطرق رأسه يفكر بكلام نورين الذي قالته قبل قليل وضيق عينيه يجتذب الذكرى التي مر بها قبل سنوات.. عندما كان قد مضى على زواج سمية من كامل فقط أيام.. وكان أخيه الأصغر مَالك لا زال غارقا في دوامة من البؤس والكآبة ووجهه ذابل منطفأ وكأنه فقد عزيز له.. جلس هو في غرفة مَالك بجانبه ليحاول بيأس التخفيف عنه وإخراجه من البؤس وهو متأكد بأنه سينسى بل سيضحك على نفسه عندما يكبر ويتذكر حبه لها.. استلقى كل من الاثنين على الأريكة يتابعان برنامج ما على التلفاز بدون تركيز حقيقي.. عندما صدح رنين هاتف مَالك أثناء ذلك لكنه تجاهله كما يتجاهل معظم الاتصالات الواردة له منذ أيام..
انتبه مُصعب بأن الرقم المتصل بهاتف مَالك هو رقم غريب وغير مسجل فلكز كتف شقيقه بخشونة آمرا
((رد على هاتفك أيها الكئيب))
تطلع مَالك بوجوم له وتمتم ببلادة
((إنه رقم غريب وأنا لا أرد على الأرقام الغريبة))
((لماذا؟))
((أخشى ألا تكون أرقاما غريبة))
لكزه مُصعب مجددا بخشونة أكبر مختصرا
((فقط رد أيها المتحذلق الكئيب))
تناول مَالك هاتفه وخرجت تنهيدة مغلفة بطبقة غليظةٍ من البؤس منه قبل أن يجيب ((من معي؟))
وصله صوت أنثوي مرتعش خافت يعرف صاحبته جيدا
((مرحبا.. مَالك))
انتفض مَالك على الفور جالسا وهو يمسك الهاتف بشكل جيد..
في حين اتسعت عينا مُصعب وهو يقرب أذنه من الهاتف يسترق السمع لها بينما يقول مَالك بلا تصديق
((سمية هل هذه أنتِ؟))
وصله همسها منتحبا بصوتٍ مختنق
((نعم مَالك هذه أنا.. سمية))
شعر مَالك بقلبه يرتجف داخل أضلعه من نبرة صوتها الغير مبشرة.. ثم تسائل باستغراب
((سمية هل اشتريت هاتفا؟))
طالع مَالك شقيقه المتجهم بدهشة شديدة لترد هي
((لا إنه هاتف زوجي كامل، وانا أحفظ رقمك))
كان لا زال كل ما في مَالك يرتجف خوفا مما قد يكون حدث معها.. ما الذي يستدعيها أن تتصل به بعد أيام فقط من زواجها بكامل؟
فأخذ نفسًا عميقًا ثم قال متسائلا بصوتٍ جاهد في خروجه ثابتا وهو يتمَالك أعصابه
((أوه حقا؟ ما به صوتك؟ هل أنتِ بخير؟))
تمكنت من النطق بكلماتٍ متداعيةٍ منهارة وكأنها تتكسر
((مَالك أنا سأقتل نفسي الليلة، أموت قبل أن أشهد اللحظة التي سأكون فيها سبب إخفاض وكرامة والديّ))
شحب وجهه وهو يستمع إليها واتسعت عيناه بصدمة يحدد الخوف إطارهما ثم سألها بصوتٍ خفيض خشن
((ماذا تقولين! سمية هل جننت؟ أين أنتِ الآن؟))
في نهاية حديثه انفلتت أعصابه فخرج صوته منفعلا بلهفة قلقة عليها.. فردت عليه بصوتٍ مغلف بالخزي
((كامل يتهمني بعفتي.. وأيضا..))
أظلمت عيناه وقد انحنى حاجباه قليلًا وكأنما لكمه أحدهم فلم يستطع النطق في البداية كما مُصعب الذي جحظت عيناه مما يسمعه.. ثم قال مَالك بانفعال
((مستحيل.. لو رأيتك بأم عيني فلن أصدق))
أخذت سمية تهذي بكلمات مشتتة متلاحقة
((بل صدق، ويتهمني معك، إنه يحبسني في المنزل بانتظار اللحظة التي سيفضحني بها عند والدي، قال بأنه سيفعل ذلك في الغد، وسيسترد كل قرش دفعه لقاء بضاعة معطوبة))
تمتم مَالك بنبرة صلبة
((المنحط الدنيء))
همست له بصوتٍ متعثر بيأس
((توقف عن شتمه.. اشتمني أنا.. هو الضحية وأنا الفاجرة..))
ضرب بيده على الحائط منفعلًا وهو يهتف بشراسة
((اخرســي لا تقولي ذاك عن نفسك..))
بكت أكثر وانتحبت بإصرار وهي تتابع هذيانها
((قطعة القماش لا يمكن أن تكذب، موتي هو خلاصي فأنا لن أتحمل أن ينفذ ما يهدد به في الغد))
كانت كلمتها بصوتها المرتعش تطوف برأسه وتخترق قلبه كالطعنات وهو يشعر بالألم والأذى اللذان أصاباها بما يفوق احتمالها.. فغمغم لها بصوتٍ يكسوه الرجاء
((سمية توقفي.. اهدئي أرجوكِ))
هتفت بانهيار ((عليّ أن أموت، لكن أنا أجبن من أن افعلها وسأرى أبي يدفن وجهه في الوحل بسببي))
كلامها البائس ونبرتها الواهية أقلقت مُصعب أيضًا عليها والذي كان لا يزال يحاول استيعاب ما يسمعه.. فهمس على الفور في أذن مَالك
((أخبرها أن تنتظر.. ستأتي سناء.. لتساعدها))
سمعته يأخذ نفسًا وكأنه يحاول أن يجلي حلقه ثم أخبرها بصرامة
((سمية أرجوكِ اهدئي الآن.. سأذهب لأخبر سناء.. سناء زوجة أخي مُعاذ.. وهي ستأتي لمساعدتك..))
زاد انتحابها وهي تخبره برجاء ممزوج بالخوف
((لا تفعل أرجوكَ.. لا أريدها أن تعلم))
انتصب مَالك واقفا على الفور وقال مهرولا للخارج
((إياكِ أن تتحركي من مكانك.. ستأتيك سناء حالا))
غمغمت له من بين بكائها برجاء مُلّح
((لا تخبرها، لن أتحمل بؤس وهوان أكثر من هذا))
همس لها والبريق الحزين في خضرة عينيه يشاركها أنّاتها قبل أن يغلق الخط
((أعدكِ أن كل شيء سيكون بخير.. ثقي بي))
.
.
فتح كامل باب منزله يضيق عينيه ثم سأل بحذر وهو ينظر لوجوه الثلاثة الواقفين أمام بيته
((ماذا تفعلون هنا يا سيد مُصعب؟ هل حصل شيء))
تطلعت زوجة مُعاذ لوجه كامل ولاحظت بأن وجهه هو الأخر شاحب نحيف والظلال القاتمة تظلل ما تحت عينيه المرهقتين الذابلتين.. فتنهدت قبل أن تقول بصلابة وثبات
((أنا هنا لأزور سمية، لم أراها منذ زواجكما قبل أيام.. هل يمكن أن أدخل عندها والاطمئنان عليها لو سمحت؟))
عقد كامل حاجبيه وقد شك بمعرفتها ما حدث رغم جهله عن الطريقة! فهو لم يسمح لسمية بالحديث مع أحد أو الخروج ريثما يفكر كيف سيكون تصرفه وردة فعله! حتى عائلته وعائلتها لم يسمح لهم بالقدوم.. فرد بصوتٍ أجوف مبحوح على سناء أخيرا وهو يتطلع بوجوم على الشابين خلفها
((ولكن ماذا يفعل السيد مُصعب ومَالك هنا؟))
أجابته ((لقد طلبت منهما أن يحضرا وينتظراني في الخارج معك.. فليس من المعقول أن آتي لهنا وحيدة))
.
.
كانت سناء قد ذهبت مع سمية لتقصد معها عيادة طبيبة معروفة بعد أن طلبت سيارة أجرة لهما.. في حين مُصعب عرض على كامل أن يوصله للمشفى وجاء مَالك معهما رغما عن اعتراضات أخيه العديدة! وهناك قبل أن تدخل سمية غرفة الطبيبة رفع مَالك وجهه يتأمل مظهرها.. تسير بجانب سناء بخطواتٍ ثقيلة مجهدة.. وجهها بدا وكأن آلاف الأعوام قد أضيفت إلى عمرها الأصلي وتركت آثارها فوق تضاريسه.. كتفاها متهدلين بعزمٍ مشتت كتلك النظرة في عينيها الحزينتين المكلومتين.. لم يسبق له أن رآها في كل حياته أكثر بؤسًا وهشاشة من تلك اللحظة!
استغرق الأمر دقائق قبل أن تخرج الطبيبة التي كانت تكشف عليها وتنادي زوجها وسناء للداخل.. ومرت دقائق أخرى أطول قبل أن تخرج الطبيبة ثم تتجاوزهما دون أن تلقي نظرة عليهما أو تطمئنهما بكلمة..
ولم قد تفعل تتحدث بخصوصيتها مع شابين لا تعرف أساسا سبب وجودهما في عيادة نسائية!
ثم خرجت زوجة أخيهما فاندفع مَالك نحوها بلهفة قلقة
((ماذا حدث؟ ماذا قالت الطبيبة؟))
ابتسمت سناء ببهوت وهي تطمئنه وكأن له علاقة بها
((لقد قالت بأنها لاتزال عذراء وغشاء مثل هذا النوع لا يتمزق بسهولة، وقد يستمر إلى الولادة الأولى))
شد مُصعب على أسنانه وهو يقول مغتاظا
((كما توقعت من ذاك المتخلف الذي تزوجته..))
تطلع مَالك لهما بشر قائلا بعزم
((سأجعل تلك الطبيبة تدون تقريرا عن حالتها وتعطيني إياه حتى نقاضي كامل الحقير الذي طعن في عرض زوجته وحبسها لأيام يخفيها عن الجميع ليتسنى له تعذيبها، لقد أذلها وأهانها وعليّ أن أقتص لظلمها))
ثم تسربت شحنات الانفعال له وهو يستطرد قائلا بينما يهم لدخول تلك الغرفة
((ماذا لا زال يفعل في الداخل؟ سأذهب لألقنه درسا))
أمسكه مُصعب من مرفقه بقوة يعيده هامسا بشراسة
((على رسلك أيها الأحمق، إلى أين أنتَ ذاهب؟))
توقف مَالك مكانه واستطاع أن يتطلع من فتحة الباب على من في الداخل.. ليرى سمية جالسة على أريكة ومرتمية على صدر زوجها كامل.. مغمضة العينين.. تبكي كطفلة صغيرة متأذية بينما هو يضمها إليه بذراعه ويريح ذقنه فوق رأسها هامسًا بكلمات يهدهدها ويعتذر لها راجيا مغفرتها.. وهي كأنها تتشبث به رغم جرحها منه.. تختبأ في صدره من ظلمه وشكه.. تشكوه إليه.. تلومه وتلفظ روحها بين يديه...
تمتم مَالك بتخبط ودهشةٍ أفلتت عقال غيرته ونظره لا يزال مصوبا نحوهما
((انظر له كيف يعانقها يا مُصعب، وكأنه لم يكن هو من قام طوال الأيام السابقة بمعاملتها بلا أي إنسانية فضلا عن قذفها بعرضها.. وفي نفس ليلة زفافهما))
هز مُصعب مرفقه الذي يمسكه وتمتم له يعيده لواقعه
((وما شأننا يا مَالك! لا يحق لك أن تفعل أي شيء إذا لم تشتكي هي.. أنتَ تتحدث عن امرأة متزوجة وتتدخل بينها وبين زوجها.. يُقطع رقاب الرجال في أمور كهذه، كيف ستتصرف لو عرف والديّ اللذين يتفاخران دائما بهدوئك ونضج سنك بالنسبة لعمرك بما تفعله!))
كان قلب مَالك يتفتت بالألم لهذا المشهد بل فارت مشاعره بجموح لتنهش صدره.. وشعر مُصعب به فأطبق بيده بقوة مشددا على مرفقه بينما قالت سناء التي اقتربت منهما
((أعرف أن ما قام به غير إنساني لكن الرجل بدا لي في حالة يرثى لها.. وجهه عندما كان يتحدث مع الطبيبة كان مثقلا بالألم والذنب والندم.. لا بد أن همساتها الباكية الآن تنساب مذبوحة في أذنيه))
تطلع مَالك لها يقول بوجه معذب
((هل تمازحيني؟ لا يمكن أن تعود له بعد كل ما فعله بها من امتهان وازدراء! ألم ترِ مظهرها قبل قليل فقد بدت كمن لم تأكل أو تشرب شيئا منذ حينها!))
عقدت سناء حاجبيه تقول بجدية
((لا بد أنها هي الأخرى واقعة في صراع مرير بينها وبين نفسها في أن تسامحه وتكمل حياتها معه أو تتركه فلا تزد الأمور تعقيدا يا مَالك..))
غمغم مَالك بنبرة مستهجنة
((يتوسل لها؟ بعد ماذا؟ بعد أن غرس سكينه في روحها وطعن في شرفها وحبها وثقتها))
ثم عاد يطالعهما داخل الغرفة ليرجعه مُصعب بصرامة وهو يهز مرفقه بقوة
((مَالك لا تتعدى على خصوصيتهما.. إنه زوجها.. لا شرع ولا عادات تبرر ما تفعله الآن))
أيدته سناء وهي تحثه بجدية
((مَالك إياك أن تتدخل فيما لا يعنيك ولا يحق لك.. ولننسى نحن الثلاثة ما حدث الآن))
زم مَالك شفتيه وهو يشعر بصحة ما يقولانه رغم الغضب المستعر الذي يجتاحه في هذه اللحظة ورغبته العارمة لقتل كامل وهو يجد ما فعله بسمية غير مبرر..
بدأت أنفاسه ترتفع وهو يعافر ليتركها في حالها للأبد ويبتعد عنها.. فنفض مرفقه من يد مُصعب بقوة واستدار يهرول مسرعا مغادرا..
وفي خارج المشفى وقف يرفع رأسه للسماء من فوقه ثم أغمض عينيه يستقبل حرقة الشمس بإرادة جادة في أن تحرق كل ما فيه بما فيها من مشاعر وعاطفة ليست في محلها..
عليه أن يعي ويدرك بأنها قد عقدت قرانها وتزوجت من رجل آخر ولم يعد يحل له أن يفكر بها حتى في خيالاته ونومه!
ومنذ آنذاك حاول مَالك قدر الإمكان ألا يفكر فيها أبدًا وكان يسمع أحيانا من زوجة أخيه سناء بأن سمية تعيش سعيدة مع زوجها كامل وعلى خير ما يرام.. وأنه بالفعل يعوضها بصدق لينسيها قسوته وظلمه السابق لها..
=============================
في شركة القاني..
كان قصي جالس على مقعده أمام الحاسوب يستقبل المكالمات من العملاء كما يتطلب عمله منه كموظف هنا.. استقبل مكالمة أخرى يبدأ بالقول
((مساء الخير يا سيدي.. معك قصي من..))
((موقعكم لا يعمل))
((لا تقلق يا سيدي.. هل يمكن أن تزودني برقم..))
((ألا تفهم؟ أخبرك بأن موقعكم لا يعمل بجهازي))
لم تنحسر ابتسامة قصي البشوشة وكأن العميل أمامه وهو يكمل الحديث بلطفه المعتاد والمفروض عليه
((حسنًا هل يمكن أن تعطيني رقم..))
قاطعه العميل صارخا بنفس العصبية التي بدأ فيها المكالمة
((الآن أريد منه أن يعمل.. شغّله من عندك حالا))
أغمض قصي عينيه يحاول ألا تنفلت أعصابه.. فهو كموظف خدمة العملاء عليه أن يتمتع بمهارات اتصال مع العملاء وعليه أن يكون دائما قادرا على المساعدة حتى لو واجهه عميل غير سوى أو حدثه بعصبية.. بل حتى لو تطاول عليه العميل عليه أن يحافظ على هدوءه وصبره وأن يصل لمستوى راقي ومتحضر لإرضائه..
((في البداية أود أن أسألك يا سيدي، ماذا يحدث عندما تحاول الدخول للموقع؟))
أجابه العميل ببساطة
((لا شيء.. إنه فقط لا يعمل))
((نعم أنا أفهمك ولكن ما هو الخطأ..))
قاطعه العميل بفظاظة
((أخبرتك بأنه لا يعمل، ألا تفهم؟))
بشق الأنفس تمَالك قصي نفسه وهو يقول بلطف
((هل يمكن يا سيدي أن تحاول كتابة اسم الموقع الإلكتروني على متصفح الإنترنت وتخبرني ما يظهر عندك؟))
((يظهر لي مستطيل طويل فارغ.. هل اكتبه فيه؟))
((نعم يا سيدي))
((كتبته وظهر لي الموقع))
كان قصي يمارس أقصى أنواع التحمل والصبر وهو يقول بصوتٍ مغتاظ
((هذا يعني بأن الموقع يعمل يا سيدي))
((هل تكذبني؟ أنا أخبرك بأنه لا يعمل))
((اكتب أي شيء واضغط على محرك البحث وستجد بأنه قد بدأ يعمل يا سيدي))
((نعم نعم.. ها هو الموقع بدأ يعمل..))
وقبل أن يسمح لقصي بالرد عليه كان يقفل الخط في وجهه..
.
.
بمجرد أن انتهت نوبة قصي في عمله حتى أزال سماعته من فوق رأسه.. وسجل خروج من الموقع ينهي عمله البغيض وهو يشعر ككل يوم بألم في جميع مفاصله من إثر الجلوس لساعات طويلة على الكرسي وببحة في صوته لعدم مضي دقيقة عليه دون التحدث..
أمسك بتكاسل حقيبة ظهره يجرها بيده لا يمتلك القوة يجرها بينما يغادر.. وقبل أن يخرج من القسم حتى عقد حاجبيه عندما ناداه قائد فريقه معتز
((قصي.. تعال هنا للحظة.. أنا بحاجة لتوقيعك))
اتسعت عينا قصي بصدمة.. توقيع؟ التوقيع يحتاجه قائد الفريق معتز فقط بحالة تم إعطائه تنبيه أو إنذار!
استدار قصي وخطا بغضب نحو معتز يغمغم بانفعال
((لماذا تريد أن تعطيني تنبيها يا معتز؟ ماذا فعلت؟ لم افعل شيء وبالتالي لن أوقع على شيء! وإذا ما فكرت أن توقع عني سأشتكي عليك وأنا لا امزح))
طالع معتز تهديد قصي باستهانة قبل يتشدق متهكما
((هون على نفسك فلن أوقع عنك، بل ستوقع أنتَ ورغما عنك على التنبيه الذي تستحقه، لكن بما أنه قد مضى ثلاث أشهر على احدى إنذاراتك وقد تلاشى من سجلك فلن تطرد بسبب هذا التنبيه.. لا تقلق))
اعترض قصي من بين أسنانه المطبقة
((ولماذا ستعطيني تنبيه من الأصل؟ أنا ملتزم أكثر من أي فترة مضت طوال فترة عملي وأتحامل على نفسي حتى لا انتهك أي قواعد هنا))
تطلع معتز له بتشفي يتلذذ بقهره كما كان يعذبه بعدم التزامه في السابق ثم قال ببساطة
((باختصار سبب تنبهيك هذه المرة هو تقييم العملاء المنخفض لك في نهاية المكالمات))
اهتزت أنفاس قصي وذهوله يبلغ قمته فغمغم
((ماذا! تقييم منخفض؟ وما ذنبي أنا بتقييمهم؟ ألا يكفي أنهم يروني كموظف هنا فرصة لتصفية الحسابات مع الموقع الإلكتروني، بل يتعاملون معي بعصبية وتعالٍ ويحملوني مسؤولية أخطاء باقي الموظفين!))
رسم معتز تلك الابتسامة المستفزة المتشمتة بينما يشده نحو الحاسوب
((أتفهم استيائك لكن هذه هي سياسة شركة القاني، الآن وقع على تنبهيك))
سكنت تعابير قصي ثم أرخى أهدابه وهو يشعر بأنه فعلا لا مناص له من أخذه للتنبيه ولن يفيده الاعتراض أكثر.. فتنهد بحرقة خرجت من جوفه محملة بقهر سنتين من العمل في شركة القاني بينما يمارس على نفسه حدوده القصوى من ضبط النفس للالتزام في العمل هنا وبذل اقصى جهده وهو الذي لم يسبق وأن امتهن وظيفة في حياته! ثم بكل آلية قام بإجراءات توقيعه على التنبيه على الحاسوب..
أخيرا انتصب واقفا وطالع معتز المتشمت به بعينين بليدتين يبصق الكلمات المرصوصة داخله
((تبا لها من سياسة، وتبا لشركة القاني، وتبا لهؤلاء العملاء الأغبياء الذين يظنون أن الاستبيان الذي يحصلون عليه بعد أي مكالمة لهم هو تقييم للموقع الإلكتروني لا تقييم لمدى رضاهم عن الموظف الذي رد على كل الأسئلة!))
وعلى الفور استدار يضع حقيبته على كتفه بعنف ليجد معتز يهتف به بصوتٍ عالي
((لا تنسى أن تأتي غدا على الموعد حتى لا تأخذ تنبيها آخر يا قصي))
إلا أن قصي الذي كان يطحن ضروسه من شدة الغيظ قرر أنه وبكل استهتار لن يحضر غدا.. ولا بعده..
ولا الذي بعده..
سيُعطي لنفسه من تلقاء نفسه إجازة أسبوع ليسافر مع سهر إلى تلك الإجازة التي كان سيفوتها بسبب قراره الأحمق في الالتزام بالعمل هنا.. طالما العمل بجد والتزام يعطي نفس نتيجة غيابه وتسربه فلا داعي لبذل جهد لا طائل منه!
=============================
نزل مَالك خطوات الدرج الذي ينتصف الصالة يستعد للخروج مع أصدقائه للعب كرة القدم.. خرج من باب القصر ومر على حديقة منزله حيث يجلس والديه في العادة ليلقي السلام عليهما قبل مغادرته..
سار نحوهم ولحظات حتى تسرب التوجس لملامحه وهو يلاحظ بأن هناك امرأة تجلس مع والديه ومُؤيد..
اقترب أكثر منهم ليتبين له أن تلك المرأة ما هي إلا.. سمية..
اتسعت عيناه وتسمر مكانه يكاد لا يصدق بأنها هي فعلا وسرعان ما عاد الوعي له ليخطو بسرعة نحوهم.. توقف أمامهم بريبة ثم قال من بين أنفاسه اللاهثة قليلا ينبههم على وجوده
((السلام عليكم..))
انتبه كل من الحاجة زاهية والحاج يعقوب على ابنهم ونكست سمية التي جفلت على صوته وجهها أرضا..
دعاه مُؤيد ليجلس معهم وهو يشير لكرسي فارغ بينهم
((وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. تعال وانضم لنا في جلستنا يا مَالك ريثما تعد أم فهد الشاي))
بدا على زاهية الضيق لوجوده وكأنها لم تتمنى أن يعرف حتى بشأن هذا اللقاء..
قال مَالك بحذر وهو يسحب كرسيا ويجلس عليه
((بماذا تتحدثون مع سمية؟))
غزا الارتباك وجه سمية لتتشابك تلقائيا أصابع يدها بتوتر في حين قال يعقوب بوقار
((لا شيء مهم.. أحد الأشخاص قد سبق وطلب يد سمية مني لأن لا أحد من أقاربها هنا، فطلبت مني أن أمهلها وقتا للتفكير والآن طلبتها أمك لتسمع ما يجول في خاطرها بما أن الرجل يلح على تلقي الرد منها))
تخشب مَالك في جلسته لتتجمد ملامحه كسطحٍ رخامي باهت..
هل حقا ما يسمعه! والديه الاثنين يحاولان السعي في تزويجها ويسردان عليه الأمر بكل بساطة! والأنكى بأن الهانم لم ترفض بل طلبت وقتا للتفكير والسؤال عن العريس المحظوظ الذي تقدم منها! تمَالك نفسه وهو يزدرد ريقه ثم طالع سمية التي كانت رأسها تزداد انخفاضا وكأنه أمسكها متلبسة بخيانته!
ثم قال أخيرا بصوتٍ يبطنه الألم وهو يشمخ بذقنه
((والسيدة هنا ما هو ردها؟))
عقدت زاهية حاجبيها بتوجس ثم قالت بجفاء
((إنها موافقة..))
رفعت سمية وجهها الشاحب تفغر شفتيها تهم بالاعتراض فأكملت بصرامة
((لكن هناك بعض المخاوف الذي تداهمها لذلك نتحدث هنا معها حتى نبددها لها))
بدأت أصابع مُؤيد تطرق على يد الكرسي بترقب وتسلية لردة فعل أخيه!
أما سمية فتجرأت تقول بصوتها الواهن
((أنا لا اعرف ذلك الرجل الذي طلبني بشكل شخصي.. لهذا أظن بأن عليّ التريث قليلا))
طالعتها زاهية تقول بامتعاض
((ولماذا ليس عليك المضي قدما فيه؟ هل يعجبك الحال بأن تظلي هكذا؟ أنتِ تعيشين في مجتمع ذكوري فاسد الفطرة لا يؤمن بصلاح المرأة إلا وهي تحت جناح ذكر.. برأيي عليك أن تقبلي به حتى لو كان الرجل لا يعجبك، مهما كان فيه من صفات لا تروق لك تجاوزيها فهو المتاح الوحيد أمامك))
تعجب يعقوب من حال زوجته.. غضب ملامحها ونبرتها الصلبة المشحونة لم تكن في محلها..
في حين أخذ مَالك يتطلع لسمية بتدقيق مبالغ فيه أشعرها بعدم الارتياح لترد بارتباك جلل
((ولكن أنا حاليا لا أريد التركيز إلا في تربية ابني..))
ضاقت عينا زاهية وهي تقول منفعلة
((وهو لم يطلب منك التخلي عن يزيد للزواج منه!))
تطلع يعقوب بسمية يسألها بصراحة وتروي
((هل تفكرين في الزواج يوما ما يا سمية؟))
أجابت زاهية عنه بانفعال فشلت في خمده
((ولم قد لا تفكر؟ أليس من حقها كإنسانة أن تتزوج وتستقر حتى لو سبق لها الزواج قبلا؟))
شعرت سمية بكل ما حولها يطبق عليها حصارا خانقا لروحها.. فقال يعقوب بوقار ورزانة
((أنا من جهتي يا ابنتي أرى بأنه إذا جاءك ابن الحلال الذي تشعرين بأنه قد يرعاكِ ويرعى ابنك فلا تترددي أبدًا، أعطي نفسك فرصة للتعرف على الرجل الذي طلب يدك))
ضاقت عضلات جسد مَالك بل شعر بصدره ينقبض من شدة الانفعال وكفيه يتكوران بشدة.. ولم يستطع منع نفسه أن يقول بصلابة وقسوة الخضرة في عينيه تتعلقان بنظرها الهارب منه
((أبي ليس من المنطق أن تشجعاها على الزواج ولديها طفل صغير بحاجة لرعايتها!))
نظر يعقوب لابنه وابتسم ببطء ثم عقب
((لماذا؟ ما المانع من زواجها حتى لو كان عندها طفل؟ مطلقها الأول ووالد ابنها سبق وتزوجا وكل واحد منهما صنع له عائلة أخرى.. فلماذا لا تفعل هي نفس الشيء؟ أم لأنها امرأة فحقها مهضوم))
عقد مَالك حاجبيه يقول بثبات وشموخ رغم القهر الذي يتشعشع بروحه
((بل أن ابنها يزيد من حق والده لو تزوجت))
آخر جملة خرجت منه وهو يرفع إحدى حاجبيه بنبرة ذات مغزى أمام وجه سمية المتجهم الذاهل لحديثه.. وبين كبرياء رجولته وعشقه لها كانت هناك صرخة ألم يخفيها بعينيه المتحجرة بترفع..
كتف مَالك ذراعيه ثم قال مؤكدا على كلامه السابق يجيب على النظرات المستفهمة من حوله
((بديهي أن أي امرأة تتزوج تخسر حضانة ابنها لوالده.. فإذا قبلتي يا سمية الزواج حتى لو ترتب الأمر عليك خسارة ابنك الوحيد فأنتِ معدومة الأمومة))
رآها تنكمش على نفسها وأدرك أن كلامه أخافها.. لكن الغيرة في داخله وهو يسمعها تتحدث مع عائلته عن أمر ذاك الخاطب كان أشد وطأة عليه ولا يحتمل!
قال يعقوب معترضًا على كلامه
((لا يحق لك يا مَالك أن تتهم أي امرأة تفضل الزواج مرة أخرى بانعدام الأمومة.. إذا كان قد أحل الزواج لأي امرأة بعد الطلاق لأن فطرتها واحتياجاتها تستدعي ذلك فمن أنتَ لتقول هذا الكلام القاسي عنها؟))
كانت الحيرة تسكن وجه زاهية ويتعسر عليها فهم ابنها.. رغم أن كلامه الحالي يشير بأنه لا يفكر أبدًا في الزواج منها على عكس مخاوفها.. إلا أنها غمغمت تدعم كلام زوجها بغية تشجيع سمية على الزواج وإخماد نيران مخاوفها تماما
((حتى لو أعطت سمية حضانة ابنها لوالده فهذا لا ينقص من أمومتها شيء.. بالتأكيد لو كان بيدها الزواج والاحتفاظ بحضانة ابنها لما توانت عن فعله))
كان كل ما في سمية يرتجف ويثور في نفس الوقت وهي تسمع مَالك يقول صراحة عن نزع ابنها من أحضانها في حالة ما فكرت في الزواج ثانية.. بل فعليا للمرة الثالثة! فقالت بخفوت أمام عينيه الغاضبتين وقوة لا تستحضرها إلا في مواجهته هو
((أنا لن أتزوج أبدًا، وابني من المستحيل أن أتخلى عنه أو أسمح له أن يبتعد عني))
لم يختلج شيء في تقاسيم وجه مَالك بل كان باردا كقطعةٍ من جبلٍ جليدي وهو على حاله..
شعرت زاهية بالغيظ لأن سمية تراجعت، وكانت تريد التحدث إلا أن صوت رتيل التي جلبت صينية فوقها إبريق الشاي قطع حديثهم.. حيث أنها وضعت الصينية فوق الطاولة بقوة وإهمال شاعرة بالحنق وهي ترى نفسها من تقوم بالتخديم هنا.. حتى أن البستانية جالسة معهم تتجاذب الحديث في موضوع ما وهي من تقدم الشاي لها..
استدارت رتيل بهدوء ليصل لها صوت زوجها المستفز
((رتيل أحضري كأسًا لمَالك ليحتسي الشاي معنا))
تجمدت رتيل مكانها وأغمضت عينيها تتميز من الغيظ خاصة ووالدة مُؤيد تضيف على كلام ابنها
((واجلبي دلّة القهوة أيضًا لو سمحتي))
فتحت رتيل عينيها تقول بفتور
((أنا متعبة، اعتذر لك، اطلبي من غيري جلبها وجلب كأس لمَالك))
تدلى فك زاهية وعرفت رتيل أن ردها صدمهم جميعا دون أن تستدير وتراهم! لكنها لم تكن لتتراجع عما قالته أو تندم! فحتى والدة مُؤيد لا ترحمها بطلباتها..
وتطلب منها أن تعمل فوق طاقتها دون أن تهتم بكونها لا تنال أي قسط من الراحة! بل وأحيانا تتذمر وتتأفف إذا ما تأخرت بالاستجابة لطلباتها رغما عنها دون تقدير بأنها زوجة الابن الوحيدة التي تخدم في هذا القصر منذ أن طُرد العاملين فيه!
ماذا استفادت من كونها الكنة المطيعة الوحيدة هنا غير الإجهاد النفسي والجسدي؟ عليها أن تعيد حساباتها من جديد وتتغير معهم جميعا..
استدارت رتيل نحوهم بوجه صلب لتقول
((أنا متعبة وبحاجة أن أعود الآن للراحة، ومن يرد شيئا فليذهب ليجلبه بنفسه))
همس مُؤيد المصدوم
((انظري لوقاحتك وأنتِ تتحدثين أمامنا بفجاجة))
حذرته والدته تحاول تخفيف حدة الموقف
((انتظر يا مُؤيد هي لا تقصد ذلك..))
قاطعتها رتيل قائلة بثبات وتصميم
((بل أقصد كل حرف مما قلته.. فأنا من الصباح للمساء كل ما افعله هو خدمتكم جميعا، أنا متأكدة من أني حتى لو كنت أتجرع المرض أو الموت لم يكن زوجي ليكلف خاطره ويفعل معي ربع هذه الأشياء التي افعلها الآن.. لذلك لن أتجرد من إنسانيتي من اجل عيناه وسأذهب لأريح نفسي..))
اجتاحت جسد مُؤيد فورة غضب لجرأة زوجته الوقحة فانتصب واقفا من مكانه بقوة حتى أن الكرسي الذي كان جالسا عليه اهتز ووقع خلفه.. ثم هتف بصوتٍ خطير وهو يحدجها بنظراته المهددة
((هل تتمردين يا رتيل؟))
أخذ الخوف كل مأخذ منها إلا أنها نجحت بإخفاء شيء من هذا الخوف وهي تردد على نفسها بأنه لن يستطيع أن يفعل شيئا أكثر من إغراقها في جحيم عتابه وجلده وتوبيخه.. فقالت أخيرا بصوتٍ مضطرب
((هذا ما عندي يا مُؤيد، لقد تعبت، لا دخل لي إلا بتنظيف جناحي، نحن بشر من لحم ودم، وقد أمرنا الله بأن لا يكلف الفرد نفسه فوق طاقتها))
ساد صمت قاتم بينهما للحظات اشتعلت فيه حرب تراشق الأعين.. الوعد من جهته.. والتحدي من جهتها.. أما الحاج يعقوب الذي شهد الموقف هذا ذاهلا ظل ثابتا رغم حنقه بمهارة عمره قبل أن يتدخل أخيرا
((ولماذا هي من تقوم بأعمال البيت؟ أين هي نعمة ومنال وغيرهن؟))
ردت رتيل عليه على الفور بتحفز
((ابنك الآخر مَالك قام بطردهم جميعا، ومُؤيد يرفض أن يحضر غيرهن ويريد مني وحيدة أن أقوم بعملهن))
تدخل مُؤيد يقول بخشونة
((لست وحيدة فنجوم تساعدك، لكن سأطردها قريبا لتتعلمي كيف تحترمين نفسك في المرة المقبلة))
كلماته كانت نصالًا حادة يصوبها إلى صدرها مستنزفًا نفسها المرهقة وآملًا في القضاء على الجزء المتبقي من كبريائها! فهتفت والقهر يتجلى على ملامحها
((لماذا تحب أن تهينني وتقلل من شأني أمام الجميع! لماذا تحب أن تحطمني؟ ولا تتواني عن تحقيري؟))
ازدادت ملامح الصدمة على مُؤيد لما قالته فعاد ذاك الخوف يدب في قلبها لكنها حثت نفسها على عدم التراجع.. وإلا ستمضي ما تبقى من عمرها هنا على هذا المنوال.. وستبقى هنا للخدمة والعمل والبذل والعطاء الذي لا تجد مقابلا لهم إلا الجحود والنكران والانتقاد والعتاب القاسي.. والويل لها من مُؤيد وكل الويل لو فكرت أن تعترض ولو مجرد تفكير! فاستطردت معقبة لحماها تثير استعطافه بما مرت به وهي تشكوه مُؤيد غير عابئة به
((لقد رفض العودة لعمله في المدينة حتى يراقبني ويتربص بي طوال فترة وجوده هنا، أشعر بأن عملي لهذا اليوم تسبب لي بأوجاع الظهر واحتكاك في عظام ركبتي وتشنجات في عضلات الرقبة واليدين))
تقارب حاجبا مُؤيد بغضب أشد يستعر في داخله.. وهم يقترب منها حتى أنها تراجعت خطوات للخلف.. لولا أن الحاج يعقوب وقف على الفور هاتفا بابنه بصرامة
((مُؤيد توقف مكانك واحترم وجودي))
تطلع مُؤيد لوالده يقول مستنكرا وهو يشير لزوجته
((ألا تراها كيف تتحدث معي بهذا الشكل؟ لو كان متواجدا أحد غريب هنا للامني أنا على قلة أدب واحترام زوجتي تجاهنا))
قبض الحاج يعقوب على غضبه والتفت لمَالك يتساءل بهدوء قاتم
((من سمح لك أن تطرد أحد هنا؟))
ازدرد مَالك ريقه إلا أنه أجاب بصلابة
((لأنهم لا يحترمونني أبدًا.. كما أن وجودهم وعدمه واحد فقد حولوا المطبخ لمجلس نميمة بدلا من العمل))
تغضن جبين يعقوب لمَالك وتطلع بتلقائية لسمية التي كانت غارقة في توتر رهيب.. ثم تطلع لزوجته بصرامة
((من الآن يا أم مُعاذ تطلبين من جميع من كان يعمل هنا العودة لعملهم، وادفعي لهم أجر الأيام الفائتة كما لو كانوا في عملهم، وسنتحدث فيما بعد بشأن إخفاء هذا الأمر عني، لقد خيبت ظني بك! كيف جعلتِ رتيل تقوم بكل شيء وحيدة هنا؟))
ترققت ملامح رتيل لدفاع حماها عنها في حين تدخل مَالك يقول بشيء من الحدة الغير مقصودة
((أبي لقد سبق وتخلينا عن خدماتهن فلماذا تريد عودتهم!))
غمغم يعقوب بخشونة
((استهدي بالله يا مَالك))
ثم أتبع قوله بما لا يقبل النقاش
((من كانوا يعملون هنا سيعودن وإياك أن تفكر بطرد أحد مجددا))
قست عينا مَالك كشظيتين من الجليد الأخضر المؤذي.. أما وجهه فسكن دون أي تعبير..
طال الصمت بينهما إلى أن قال أخيرا
((ماذا يعني هذا يا أبي؟ أليس لي اعتبار هنا كابن للحاج يعقوب الكانز؟))
رفع يعقوب حاجبيه يقول بحكمة
((بالطبع أنتَ ابني ولك كل الاعتبار هنا.. ولكن بحدود المعقول))
أطبقت شفتا مَالك في خطٍ قاسٍ وكأن ما تناهى لمسامعه لم يكن الجواب الذي ينتظر سماعه منه.. حتى سقط قناع البرود عن وجهه وحل محله تعبير الدهشة والاستنكار وهو يقول بانفعال طفيف
((أي معقول هذا وأنت تنسف الأوامر التي أصدرتها))
قال يعقوب بصرامة وحدة دون أن يتخلى عن وقاره
((اخفض صوتك يا مَالك فأنت تتحدث مع والدك، عندما أموت يمكنك أنت وأخوتك أن تتحكموا بمسألة التوظيف هنا.. لكن طالما أنا على قيد الحياة فأنا من أقرر))
تمهل مَالك قبل أن ينظر إلى عينيه قائلا بصوت يشوبه الذنب
((فليبعد الله عنك أي شر وليحفظك لنا.. أنا سبق وقلت للجميع بأننا سنستغني عن خدماتهم هنا، إذا كنت مصرا على رأيك يا أبتي فأنا من سأغادر المكان))
وكان مَالك يهم أن يستدير مغادرًا إلا أن والده هتف باسمه بحزم يمنعه.. فتسمر مكانه بثبات..
اقترب الحاج يعقوب منه أكثر يقول بغضبٍ مفاجئ
((لا تصغر نفسك أمام من يعمل عندك.. فأنت كبير يا مَالك))
أشاح مَالك بوجهه وهو يزفر بمشاعرٍ محتدمة ثم قال في النهاية ببرودٍ دون أن يرف له جفن
((قلت ما عندي يا أبي.. إذا أصررت على عودة من قمت أنا بصرفهم فسأجد مكانا آخر لأنتقل له))
ما حدث وآخر كلام مَالك جعل قلب سمية ينسحق ببطء مؤلم ودوى صاخب.. وكم تمنت أن تتشبث به وتمنعه من هذا العناد الأحمق دون أن تعرف السبب! ربما لأنها لن تتحمل أن يكون بعيدا عن يزيد؟
كان مَالك قد بدأ يسير مبتعدا عندما هتف والده باسمه مجددا ((مَالك.. انتظر))
اقترب يعقوب منه ثم وقف أمامه دون أن تلين ملامحه أو تتجلى أي من مشاعر تفهم لما فعله.. بل ظل وجهه جامدا كقناع قاسي وهو يقول له بصوتٍ رزين
((لا تستقوى بنفسك على الضعيف ولا تكن سببا في قطع رزق أحد فيتعلق رزقك فيما تحب))
نكس مَالك بوجهه أرضا يتدبر بكلام والده فيما التفت الحاج يعقوب لابنه الأخر آمرا إياه بخشونة
((اتبعني للمجلس لنتحدث بشأنك أنتَ يا مُؤيد))
رمش مُؤيد بعينيه وارتبكت ملامحه للحظة إلا أنه عزم أمره وتبع والده وما إن تجاوز رتيل حتى رماها بنظرة نارية أخيرة محملة بالتهديد والوعيد..
.
.
أغلق مُؤيد باب المجلس خلفه وجلس قريبا من والده على كرسيه الأثير في زاوية الغرفة العطرة ببخورها الدائم.. نكس وجهه قليلا بتخبط وقبل أن يبدأ والده في الحديث قال بتسرع متهور
((أعرف يا والدي بأنك تريد لومي على وقاحة زوجتي قبل قليل في الخارج، وأنا لا أقول بأني لست مخطئ.. على العكس أنا المُلام فلو كنت رجلا صارما معها وشديدا لما تجرأت على قول ما قالته، الخطأ عليّ فأنا من دللتها حتى صارت تريد أن تكون امرأة مهملة ومقصرة في حق عائلتها وغير مقدرة للنعم من حولها، لكن صدقني ودون الحاجة لتوبيخي الآن سأحاسبها على ما قالته ولن تكرره مجددا))
استنكرت ملامح يعقوب كل ما يقوله ابنه بصمت وما إن انتهى حتى أخذ نفسا عميقا يحث نفسه على الصبر في الحديث ثم قال له بروية
((أنا جلبتك هنا للتعقيب على ما تفعله أنتَ لا زوجتك))
اعترض مؤيد ((هل تقصد يا أبي بأنك ستوبخني لأني لم أسمح لأمي أن تحضر عاملات بدلا من اللاتي طردن؟ ولكن يا أبي من البداية لماذا جلبناهم وعندنا نساء في القصر؟ لماذا نتزوج إذا كان واجبا علينا أن نحضر خدم للقصر ولإعداد وجبات طعام المزارعين؟ أبي في الماضي هل جلبت لأمي ولو خادمة واحدة تساعدها؟ نساء هذا الزمان مدللات أما أمي فكانت تقوم بتربيتنا والاعتناء بشؤون البيت في الداخل، وتحطب وتساعدك في المزرعة بلا كلل أو ملل.. حتى في فترات حملها))
نظر يعقوب بذهول غاضب لولده ليهدر
((لست عادلا يا مُؤيد بمقارنتك العشوائية هذه.. فهذا الذي نعيش فيه هو قصر لا منزل صغير كالذي امتلكته مع أمك في الماضي))
ثم بسط يديه المجعدتين أمامه يستطرد بتصميم أكبر
((في شبابي كنت ليل نهار أعمل في الزراعة وأحرث الأراضي واسحب الماء من الآبار وأخصب الثمار، في البرد، وتحت أشعة الشمس الحارقة.. كنا نعاني من شح المعيشة آنذاك وقلة المال))
كانت الدهشة مرتسمة على ملامح مُؤيد رغم أن كلام والده هذا لم يكن أول مرة يسمعه منه! هم بالتحديث لكن والده أكمل بملامح مكفهرة ((إذا كنت تقارن زوجتك بأمك.. فقارن نفسك بي.. هل حياتك مشابهة لحياتي أنا عندما كنت بسنك؟ أنتَ تملك بجانب عملك المكتبي في المدينة شقة مرفهة واسعة، تظل خلف مكتبك جالسا براحة واسترخاء وأمامك على الطاولة كوب قهوة ترتشف منه بينما تتصفح دفتر الحسابات.. هل من المنطقي أن تقضي أنتَ الرجل ذو الجسد الصلب يومك بالترف وتطلب من زوجتك أن تقوم لوحدها بعمل عدة نساء من عمل منزلي شاق ومضني في هذا القصر؟))
تفشى الضيق في وجه مُؤيد لمنطقية كلام أبيه ونكس وجهه أرضا بينما يكرر والده عليه
((أجب يا مُؤيد))
تمتم مؤيد بوهن وضعف حجة
((بالطبع لا يا أبي.. ولكن..))
((لو كنت تعمل يا مُؤيد ممرض كمُصعب أو معلم كمَالك حيث يقف كل واحد منهما في عمله طوال النهار على قدمه.. لما لمتك بشدة.. لكن أنتَ بالذات لا يحق لك الاعتراض فبعد تخرجك مباشرة أعطيتك رأس مال لتبدأ في مشروعك ووفرت لك أكثر من خبير في مجالك ليشور عليك، وعندما كسرت تجارتك في احدى المواسم دعمتك ماليا حتى استطعت في النهاية أن تثبت نفسك في السوق! صحيح يا مُؤيد؟))
ازداد المقت المتجلي على وجهه لما قاله أبيه الذي أتبع سؤاله
((ثم أنا من أدفع أجر كل موظف يعمل في المزارع والقصر يا مُؤيد.. هل سبق وطلبت منك أو أحد إخوتك أي مساعدة في دفع الأجور؟))
اتسعت عينا مُؤيد وهو يرفع رأسه ويدافع عن نفسه
((حاشا أن يكون هذا قصدي يا أبي، أساسا القصة ليست في أجور العاملين..))
قاطعه والده ببطء وروية
((أنا أفهمك يا مُؤيد وعلى كل حال حتى لو قامت زوجتك بالأعمال المنزلية فهي تقوم بها تكرما منها وليس لأنها خادمتك التي أحضرتها لها والدتك))
مسح مُؤيد وجهه بكفه زافرًا بعمق قاتم ليقول أبيه
((لا أنكر أنه على سيدات هذا المنزل الاهتمام بشؤون المنزل، ولكن كما للبيت عليها حق، فأولادك ونفسها عليها حق أيضًا فهي بحاجة إلى جسد معافى لا تهرمه أعمال البيت والمطبخ))
استوي الحاج يعقوب من مكانه فتبعه مُؤيد.. ثم فتح يعقوب الباب ليجد رتيل تستند برأسها على إطار باب مقابل له قبل أن تجفل على خروجهما.. تواصلت عينا يعقوب في عيني رتيل الواقفة بترقب قلق فطمأنها بابتسامة مراعية وغمغم بقرب أذن مُؤيد
((الآن اذهب لزوجتك واعتذر منها بوردة وأخبرها بأن كل شيء سيعود لسابق عهده.. هيا يا مُؤيد))
اشمأزت ملامح مُؤيد إلا أنه قال طائعا على مضض
((سأفعل أبي، لكن لاحقا))
ثم أشاح بوجهه ليسير بسرعة نحو الخارج وكاد أن يصطدم بمُصعب الذي كان يدخل المكان.. وقبل أن يزعق به جاءه سؤال مُصعب
((مُؤيد هل أنتَ من أخذت دراجتي النارية؟))
رفع مُؤيد إحدى حاجبيه باستعلاء ورد
((وما حاجتي لدراجتك وانا أمتلك أفضل وأحدث منها بمراحل))
ظل مُصعب متغضن الجبين وهو يردد بحيرة
((ومَالك أيضًا قال بأنه لم يأخذها، من يا ترى اقتحم أرضنا وأخذها، إنها مفقودة!))
برقت عينا مُؤيد بتوجس قبل أن يقول بريبة وشراسة
((تعال معي لنتأكد من المصف والأرض مجددا، من هذا الذي تجرأ على الدخول لأراضينا وسرقتها!))
ثم لمعت عيناه بشراسة وهو يكمل من بين أسنانه
((لقد بات الجميع يستهين بنا.. ولا ألومهم فنحن من سمحنا لأحد أبناء الهنادل التعدي على أراضينا والغدر بابن عمنا يحيى الذي لم نثأر له بل وقبلنا بالصلح دون أخذ دم محل دمه))
امتعض مُصعب من ذكر مُؤيد الموضوع بهذا الشكل المبتذل! أخيه ومن أتفه سبب يعيد ذكر سيرة الثأر والدم!
تجاهله وهو يعود للأرض يحاول أن يبحث ويسأل عن دراجته مرة أخرى ومُؤيد خلفه ينادي عليه.. أما المنزوية رتيل هناك فقد انسحب الدم من وجهها عندما عرفت بفقدان مصعب لدراجته!
وعلى الفور اندفعت رتيل لجناحها تطلب رقم غنوة وما إن جاءها الرد حتى سألتها بترقب واضطراب
((هل أنتِ من سرقتي دراجة مُصعب يا غنوة؟))
كانت غنوة تثائب قبل أن تسألها مدعية الجهل
((من هو مُصعب؟))
هدرت فيها بغيظ ونفاذ صبر
((مُصعب شقيق زوجي يا غنوة، سبق وسألتني عن مكانها ولمحتي لي بأنك ستأخذينها.. كيف فعلتيها وقمت بسرقتها!))
أقرت غنوة ببرود بالحقيقة
((دفعت لرجل أعرفه حتى يقوم بسرقتها بعد أن أخبرته بالضبط متى وأين يجدها، كانت مرمية في بيت إسمنت بسيط دون حماية أو مراقبة وسط المزرعة الكبيرة.. لا تقلقي ليس هناك أي كاميرات مراقبة أو ما شابه ذلك))
كادت رتيل أن تولول لما سمعته وهي تمسد جبينها بأصابعها بخوف من القادم قبل أن تقول بتخوف
((يا إلهي لم يكن عليّ إعلامك عن مكانها، هكذا أصبحت مشاركة في السرقة معك.. ماذا أفعل يا إلهي!))
حاولت غنوة أن تبسط لها أمر السرقة وتهدئها لكن رتيل ظلت تهمس بقهر وخوف
((لقد جعلتي مني سارقة يا غنوة.. هل يعجبك هذا؟))
اعترضت غنوة ((لست سارقة فالدراجة النارية ملك شقيق زوجك أي ملك زوجك أي ملكك أنتِ))
أطرقت رتيل رأسها تمسح جبينها بصدر مختنق تتأوه بعمق ثم تمتمت بقلة حيلة
((أنتِ تجعليني أكره نفسي هكذا بما فعلتيه))
ردت غنوة بأسلوب مستفز يميل الى سخرية مبطنة
((اعتبريها استعارة لا سرقة يا حبيبتي.. سنستمتع بها أنا وأنتِ لبعض الوقت وسأعلمك ركوبها عندما تزوريني بشقتي ثم سنعيدها له))
ازدردت رتيل ريقها وهي تتمتم بشيء من مخاوفها
((أنا متأكدة بأنه أمر الحارس أن يتيقظ بحراسة بيت الإسمنت، لن تستطيعي إرجاع الدراجة لاحقا دون أن يتم إمساك أحد فينا متلبسا))
قالت غنوة بلامبالاة وبرود
((إذن فلن نعيدها..))
ضربت رتيل راحة كفها فوق ساقها وقالت
((ولكن هكذا صار ما فعلتيه يُسمى "سرقة" لا استعارة))
تلاعبت غنوة بها وهي تزين لها فعلتها
((أوه رتيل أنتِ فعلا تعقدين الأمور! انتظري فقط أن تحضري عندي وسأعلمك قيادتها كما كنت تحلمين))
تنهدت رتيل مستسلمة لها بعجز
((تبا لك يا غنوة.. لن أسامحك على ما فعلتيه.. وأيضا..))
بترت رتيل كلماتها واتسعت عيناها بفزع ما إن شعرت بخطوات قادمة نحوها فسارعت تغلق الهاتف وتخفيه تحت الوسادة..
عادت تجلس مكانها تخفي ارتعاش جسدها اللاإرادي لتتظاهر أمام مُؤيد الذي فتح الباب متجهما بأنها لم تكن تتحدث على الهاتف..
أغلق مُؤيد الباب خلفه وأخذ الأمر منها ثوانٍ وهي تحدق في وجهه الذي يزداد تجهما حتى اتسعت عيناها بسرعة وهي تتذكر ما أنستها محادثة غنوة أنها فعلته..
لقد صرخت عليه وأحرجته قبل قليل أمام والده وباقي عائلته ولا بدّ أنه جاء الآن للانتقام منها فقد توعدها بشده..
اكتسحها الرعب لكنها تداركت نفسها وهي تقفز من مكانها تبتعد عنه مهرولة لتنجو بحياتها.. لكن استطاع مُؤيد اللحاق بها وإيقافها مكانها حينما أمسكت أنامله بشعرها الأسود المنسدل..
أغمضت عينيها بخوف وسمحت له أن يجتذبها نحوه من شعرها برفق ثم يوقفها أمامه..
تنحنح مُؤيد بخشونة قبل أن يرفع الوردة التي يمكسها بيده الحرة ويرميها بخشونة في منتصف وجهها..
والده الحاج يعقوب قال له أن يجلب وردة لها كاعتذار.. وحسب.. ثم تسربت خصلاتها الناعمة من بين أنامل يده الأخرى وهو يحرره مبتعدا بغيظ عنها لأن أمره ورغبته اليوم لم ينفذا كما هو معتاد..
فتحت رتيل عينيها اللتين كانت تشد عليهما تدريجيا ببطء بمجرد أن أحست به يبتعد عنها.. ثم رفرفت بأهدابها مستغربة وهي تنخفض لتلتقط الوردة التي رماها بها..
ترققت ملامحها بتعجب وشعرت بها بادرة لطيفة منه رغم أنه بدا متعمدا في اختيار أذبل وأقبح وردة من حوض الأزهار في حديقة القصر!
=============================
في شركة القاني..
وفي القسم والدور الذي تعمل فيه شيرين.. كانت منهمكة أمام حاسوبها في العمل.. لقد ذهبت سهر مع خطيبها ووالديها وسافروا للاستجمام ورغم إلحاح سهر عليها أن تأتي معهم إلا أنها رفضت بإصرار..
فعدا عن أن الضغط المنصب على قسمهم في هذه الأيام لا يتحمل تغيب أحد.. إلا أنه أيضًا لم يكن من المعقول أن تسافر معهم وتكون دخيلة عليها هي وخطيبها..
ألا يكفي أنهم غادروا وبقيت هي في منزلهم تتصرف فيه وكأنها صاحبته!
تنهدت شيرين في بؤس وهي تردد على نفسها المتعبة والمنهكة بأنها ستكافئها برحلة سفر في الأيام المقبلة إذا أتيح لها أخذ إجازة من العمل! سيكون السفر إلى إحدى الأماكن التي تتحملها ميزانيتها فرغم شغورها هنا في شركة القاني في منصب مرموق إلا أن راتبها لن يتحمل تكاليف أي تذكرة إلى الأماكن الذي تزورها سهر!
ابتسمت شيرين وهي تتمنى حقا من صميم قلبها أن تحظى سهر بوقت ممتع فهي تستحق ذلك فدوما كانت المبادرة للمساعدة والمعطاءة بلا حدود..
عادت شيرين للواقع وهي تنظر باتجاه الباب حيث يطرق معتز الذي يشغر منصب "قائد فريق"..
دلف معتز للداخل بوجه محتقن بالغضب فعرفت شيرين على الفور سر غضبه.. فمعتز لا يأتي إلى مكتبها إلا إذا كانت لديه شكوى ضد أحد الموظفين في فريقه..
وهذا الموظف لن يكون أحدا غير ذاك المدعو بـ "قصي سامح".. قطبت حاجبيها بتوجس ثم تساءلت عابسة
((ماذا فعل قصي سامح هذه المرة يا معتز؟))
أخذ معتز نفسا عميقا مرتجفا من شدة حنقه وغيظه تجاه قصي ثم قال من بين أسنانه المطبقة بغيظ
((لم يحضر في موعد نوبته في العمل هذا اليوم.. وعندما اتصلت به أطلب منه أن يستعجل فهناك ضغط كامن على الجميع ولن يتحمل فريقي غياب أي أحد.. أرسل صورة له أمام البحر يخبرني أنه لن يستطيع القدوم فقد أعطى لنفسه إجازة قد تمتد لأسبوعين.. هل تصدقين ذلك يا شيرين؟))
رفرفت برموشها غير قادرة على استيعاب ما تفوه به معتز! من المستحيل أن يمتلك موظف في هذه الكرة الأرضية هذا الكم الهائل من الاستهتار ليقوم بمثل هذا الأمر! حتى لو قرر أن يستقيل من الشركة فهو ملزم بإعطائهم شهر إنذار قبل أن يقدم الاستقالة!
كانت لا تزال شيرين تستوعب أنه حقا سافر وقرر أن يأخذ إجازة بلا إذن أو حتى بدون أن يعلمهم سابقا بينما يتابع معتز وهو يكاد يتميز غيظا وقهرا
((عندما طلبت منه أن يعود حالا من سفره قال مستهزئا بأنه فات الأوان ووصل فعلا إلى جزر الواق واق! لم يراعِ الوقت الحرج الذي نعيشه وأن غيابه سيحيل ضغط أكبر على باقي زملائه.. أناني جدًّا))
تمتمت شيرين بإصرار وقد انفلتت أخيرا أعصابها
((هل تعرف شيئا يا معتز؟ بدأت أشعر بأنه يتحدانا.. إنه يتعمد أن يستفزنا لأنه متأكد بأننا مراعين أكثر من أن نستطيع طرده! لذا ولأول مرة في تاريخ حياتي المهنية سأكون سببا في فصل موظف وسأرسل الآن رسالة إلكترونية للقسم المعني بمخالفاته وتغيبه الغير مبرر حتى يتم أمر فصله))
كانت شيرين قد بدأت في الكتابة على جهاز الحاسوب شكوى بحقه بينما يشجعها معتز قائلا بامتعاض
((لستِ السبب في فصله بل هو السبب في فصل نفسه بلامبالاته وإهماله وعدم إحساسه بالغير))
كانت شيرين منهمكة في كتابة كل مخالفات قصي وهي تنوي فعلا طرده بلا رحمة أو هوادة..
دائما في تعاملها مع الموظفين في شركة القاني تراعي الله فيهم وتتذكر أن كل واحد منهم يعمل تحت إمرتها خلفه عائلة يطعمها أو مريض متكفل بعلاجه أو أنه سند لأطفال صغار يرجونه بعد الله.. فلم تفكر يوما لو حتى مجرد تفكير أن ترفع شكوى ضد موظف مهما كانت فداحة خطأه.. حتى لا تزيد حياتهم قسوة فكل واحد يحظى بما فيه الكفاية بنصيبه من الحزن والفقد والإنهاك ولا ينقصه المزيد.. فهي سبق وعاشت هذه المآسي ولا يوجد أقبح من أن يعود أحد لبيته بجلباب الحزن والانكسار!
لو كان عند قصي ظرف قاهر وأخبرها لتفهمت وساعدته مهما ترتب الأمر عليها من متاعب!
لكن لا.. هو حقا مهمل بشكل فظيع ويستحق الفصل!
=============================
جلس مُصعب على مقعده خلف المقود.. وما إن مال ليفتح باب السيارة لنورين التي كانت تسير نحوه حتى ضيق عينيه ينتبه إلى وجود ظرف أبيض موضوع على المقعد بجانبه..
رفع عينيه لزجاج النافذة لينتبه بأنه عندما ركن سيارته آخر مرة في مصف سيارات العائلة لم يغلق النافذة كلها فظل هناك مجالا لأحدهم أن يمرر من خلال الفراغ المتبقي هذا الظرف..
بتوجس مد يده يمسك الظرف ويفتحه وسرعان ما ارتفع حاجبيه بريبة لمرآ النقود فانتشلها قبل أن يقرأ الرسالة الموضوعة داخلها..
في هذه الأثناء طرقت نورين بيدها فوق الزجاج بحنق لمُصعب الذي لم يفتح لها باب السيارة بعد! فجفل مُصعب على صوت طرقاتها ثم سارع يفتح مقبض الباب من الداخل لها لتستقل جالسة بجانبه وهي تقول باستغراب
((ما هذا الظرف بيدك؟))
تمتم مجيبا وهو يعدُّ النقود
((ظرف فيه مبلغ تقريبي لثمن دراجتي النارية، مع اعتذار صادق لسرقتها مني، وعدم إظهار أي نية لإرجاعها مستقبلا))
تشدقت بتهكم ممزوج بالاستغراب
((السارق يعرف الحلال والحرام، مذهل))
قال مُصعب شارد العينين بتفكير وهو يلوح بالظرف الأبيض
((السارق اللطيف الذي قام بطباعة هذه الرسالة ووضع المال في الظرف لا بد أنه يعيش في القصر كونه يمتلك صلاحية الدخول إلى مصف سيارات العائلة))
سألته ذاهلة من استنتاجه
((هل تقصد أن السارق من القصر؟))
صحح لها بتلقائية
((لا أقول السارق، بل الذي وضع الظرف هنا هو من القصر))
هز كتفيه في نهاية حديثه لتسأله نورين بتوجس
((ماذا ستفعل بهذا المال؟))
مط شفتيه ثم قال ببساطة
((سأشتري به دراجة أخرى بدل تلك التي سُرقت، لا داعي لأن يعرف أحد بشأن هذا الظرف.. سأتجاوز عن تعرضي للسرقة))
قطبت حاجبيها لا تجد مشتبها به يمكن أن تشك به في هذا القصر.. قبل أن تنتبه لابتسامة مُصعب الجذابة قائلا
((هل ترافقيني الآن لتختاري الدراجة التي سأقتنيها؟))
لمعت عينيها ببريق اللهفة وهي تقول بحماس عارم
((حقا سنشتريها الآن؟ ولكن أنا لا افهم بالدراجات))
قال وهو يشغل محرك السيارة
((ساعديني فقط في اختيار مظهرها الخارجي، وبعدها سنجرب ركوبها سويا في مزرعة البركة البعيدة))
=============================
بعد مرور ستة أشهر..
ارتدت شيرين سترتها تستعد للخروج من البيت مساء لتقوم برياضة المشي التي تدأب على ممارستها في أيام إجازتها.. اقتربت من الباب للخروج وعندما صدح رنين الجرس طالعت العين السحرية فاتسعت عيناها وهي تجد الطارق ما هو إلا.. وليد..
=============================
انتهى الفصل.
|