كاتب الموضوع :
Hya ssin
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: قلبك منفاي
الفصل الثالث
سددت نورين نظرها لسمية وهي تضع المرهم فوق بشرة يديها الجافة المحمرة وفيها بعض من التقشير ثم تلفه بالضماد الأبيض فحاولت التطوع بود
((هل ألُفها عنكِ يا سمية؟))
هزت سمية رأسها برفض ثم ابتسمت ببشاشة وابتسامتها تشمل وجهها كله
((لا تقلقي لقد انتهيت))
عاد الشعور بالذنب يتجلى على وجه نورين معتذرة للمرة الألف
((أنا حقًا آسفة لأني سكبته عليكِ بغير قصد، قصدت أن أطيح به أرضًا، لم يكن عليّ التهور بهذا الشكل الطفولي))
عادت سمية تطمئنها بلطف
((لا تقلقي يا حبيبتي، لا أشعر بأي ألم، هو التهاب واحمرار طفيف.. ما زلت أستطيع القيام بكل النشاطات اليومية طالما أداوم على وضع المرهم))
أخذت نورين نفسًا عميقًا مشبعًا بالراحة.. كم تحب مجالسة سمية ذات الوجه البشوش المشرق وروحها النقية.. وكم هي ممتنة لأنها كانت في حياتها منذ زواجها وانتقالها لهذا المنزل..
تطلعت حولها في المنزل ثم تساءلت
((هل تحبين أن اقضي بعض الوقت مع يزيد قليلًا؟))
((لا داعي لا أريد إتعابك))
((لا على العكس.. أنا أعشق الأطفال جدًّا.. رتيل لا تقبل أن ألعب مع أولادها، وكذا الحال مع هدى التي تظل طويلًا في غرفة أمها.. فلا أجد غير يزيد))
أخبرتها سمية بصوتٍ رقيق
((أنه يحبك كثيرًا، ويحب نجوم، يستمتع برفقتكما أكثر مني))
أطلقت نورين ضحكات خافتة مرحة على كلام سمية ثم عادت تسألها بفضول
((إذن أين هو الآن؟ هل يلعب مع نجوم؟))
تقلصت ابتسامة سمية وأطرقت بوجهها قليلًا وهي تقول بشيء من الحرج
((لا.. مَالك تبرع بأخذه قليلًا.. إنه يحب أن يذهب معه لمباريات كرة القدم مع أصدقائه))
حاولت نورين ألا تظهر الاستغراب أو العجب وهي تقول
((لاحظت بأن مَالك يحبه كثيرًا ويحب أن يقضي الوقت معه))
ترددت أنفاس سمية داخل صدرها بشكل موجه لذكر نورين تعلق مَالك بيزيد.. إلا أنها حاولت أن تداري الأمر وهي تقول بارتباك
((صحيح.. معكِ حق.. إنه بالمجمل يحب الأطفال مثلك))
رفعت نورين حاجبيها بغير اقتناع.. فمَالك ليس هكذا مع أبناء إخوته.. هو هكذا مع يزيد فقط..
لكنها فضلت الاحتفاظ برأيها هذا لنفسها..
=============================
في غرفة مَالك..
كان متمددًا فوق سريره وخضرة عينيه شاردتين بنظراتٍ حزينة شاعرًا بالأسى على ما حدث لسمية.. ينقم على نفسه لعدم استطاعته طوال الأيام السابقة الاطمئنان عليها كما يجب..
وهي من جهة أخرى لا تخرج من بيتها الصغير إلا ما ندر بسب.. فقط لو توافق على طلبه وتعطيه حق حمايتها والدفاع لما كان سيحدث كل هذا.. إلا أنها عنيدة إلى حد اليأس.. أو أنها لا تحبه ولا ترى فيه رجلًا كافيًا لها بسبب ذلك الفرق اللعين بينهما..
أخفض عينيه ناظرًا للرسائل التي أرسلها لها دون ردٍ واحد منها.. هي في الأساس لا تجيب على رسائله أو اتصالاته أبدًا إلا عندما يتعلق الأمر بيزيد بإجابات رسمية ومتحفظة..
اعتدل جالسا على السرير يبدأ في تسجيل رسالة صوتيه بنبرةٍ عميقة جادة لها يهدر فيها
((مرحبًا سمية، أنا أريد فقط الاطمئنان من أنكِ لا تواجهين أي مشاكل ولا تحتاجين أي مساعدة، أرجوكِ أجيبِ أو سأضطر مرغمًا لإرسال نجوم أو أمها لكِ ليتفقدوا حالك.. وحينها لا تلومي أفعال وتدعي بأن أتعمد جلب الأقاويل لك))
كان صوته عبارة عن دوامة من الانفعالات الظاهرة من قلق وغضب وعتاب على جفائها بدون أن تطمئنه أو تخمد نيران قلقه عليها.. وكانت دقائق حتى وصله ردها كتابيًا ببرود مستشعر من بين حروفها
"أنا بألف خير.. نورين ونجوم يتفقدنني من وقت لآخر.. لو سمحت اترك يزيد ينام بجواري اليوم فإصابتي ستشفى قريبًا وسأعود للعمل في حديقة المنزل قريبا"
رغم كل شيء كلامها أثلج صدره وأراحه فكتب لها
"الحمدالله.. إذا ما شعرتي بأي ألم أرجوكِ لا تترددي في إخباري.. لكن دعي يزيد يضل معي طوال الفترة القادمة ولا تقلقي عليه فأنا أذاكر دروسه واعتني به أفضل منكِ بشهادته هو"
ترك الهاتف وهو موقن بأنها لن ترد عليه.. لكن حمدًا لله أن إصابة يدها لم يكن خطيرًا.. فبشرتها الصافية الملائكية الحساسة هي أكثر ما تثير المشاكل لها.. وهو كان أكثر من شاهد على ما تتعرض له من ألم وأوجاع والتغييرات عند تعرضها لشيء يهيّج حساسيتها..
وهنا حلقت ذاكرته إلى قبل سنوات طويلة.. إلى ما يقارب العِقد.. عندما كان هو في الثامنة عشر من عمره.. في حين كانت هي الخامسة والعشرين..
كان بعض من رجال القرية ووجهائها مجتمعون في مجلس أبيه الضخم الواسع.. وكانت سمية تقوم بانهماك بتنظيف الزاوية خارج باب المجلس الذي انسكب فيه نوع من الطعام صعب الإزالة..
لم يكن عملها ولم تكن ملزمة في التنظيف لكن كانت مدبرة المنزل نعمة ومنال يتسلطن عليها ويأمرنها بالمساعدة في تنظيف المنزل فقط لكونها ابنة بستانيين يعملان في مزارع عائلته ويسكُنّون في بيت صغير ملحق بحديقة منزلهم!
خرج هو من المجلس يقف أمام الباب يحدق بها وهي منهمكة في فرك الزاوية دون أن تشعر باقترابه أو وجوده..
فتطلع بها بهدوء ثم أخفض نظره ليدها ليلاحظ أنها لا ترتدي السوار الذي جلبه له..
إذ أنها سبق وأن اشترت له من دون أي مناسبة ساعة جعلته يطير من الفرح لقائها كطفل صغير وهو في المقابل جلب لها سوار بسيط حرص ألا يكون غالي الثمن حتى لا يكون سبب في رفضها.. فقبلتها على مضض ولم تقدر على الرفض كونها من بادرت بإهدائه..
اقترب مَالك منها يسألها بشيء من الانزعاج الممزوج بالعتاب
((لماذا لا ترتدين السوار الذي جلبته لكِ يا سمية؟ أنا لم أخلع ساعتك منذ أن أهديتها لي))
انتشلها صوته من شرودها مجفلة على وجوده وأخذ الأمر منها لحظات طويلة حتى تستوعب كلامه وتخفض نظرها إلى حيث ساعدها ثم تعاود النظر له مبتسمة ببعض الاعتذار
((لقد أحببت سوارك يا مَالك للغاية، لكن الحساسية تهاجم يدي هذه الأيام بسبب استخدام المنظفات.. والطبيب أخبرني أن أُحِدَّ من ارتداء الحلي))
كانت تتحدث ببعض الأسف فلفّ الحزن ملامحه الوسيمة وأومأ يتمتم بخفوت ((سلامتك..))
عادت تنهمك في عملها فظهر عليه الانزعاج والحنق من أجلها.. لا يصدق بأنها فعلًا وحتى هذه اللحظة تستمر في القيام بما هو ليس من واجبها خاصةً في استخدام المنظفات الكيميائية.. فقال بخشونة يداري بها ملامحه القلقة عليها
((عليكِ أن تستخدمي كلمة "لا" أكثر أمام نعمة.. فتلك العجوز المتعجرفة تظن نفسها مسؤولة عن كل من يدخل بيتنا ولا كبير لها))
رغم أن عينا سمية المطفأتان لمعتا ببريق عند كلامه إلا أنها حافظت على ابتسامتها وهي ترد
((لا بأس يا مَالك.. هي لا تجبرني على شيء وأنا أقوم بكل هذا عن طيب خاطر.. بل هو واجبي لقاء أفضال الحاج يعقوب على والديّ بعد الله))
أمرها بتسلط وحنق
((ارتدي إذن قفازات على الأقل))
دمدمت وهي تناظر يديها الحمراوان
((لن أستطيع فهما يحكاني))
عقد حاجبيه وهو ينتبه إلى أنها تسببت بجروح دامية في بشرة يدها التي هي في الأصل ناعمة وملائكية.. وشعر بثقل في قلبه وهو يفكر كم أن الأمر مؤلم بالنسبة لها..
انتبه لشيء من الارتباك يظهر عليها وهي تخبره بينما تعود لوضع الفرشاة في دلو الماء
((الآن أرجوكَ عد لداخل المجلس قبل أن يلحظ أحد طول فترة وقوفك هنا.. وقفتك هذه ستثير الأقاويل فأنتَ لم تعد صغيرًا.. بل تبارك الله لا أكاد أصل بطولي هذا إلى كتفك حتى))
لم يجبها ولم يبتعد بل ظل متخشبًا مكانه يناظر يديها وبدون أن يشعر أو يعي على نفسه وبغريزة ذكورية بحتة اقتربت كفه ببطء من إحدى يديها تبغي الطبطبة فوقها..
وما إن همّ بملامستها حتى جفلت شاهقة بصوت ونظرت له جاحظة العينين وبحركة تلقائية كانت ترفع يدها فوق وجهه بصفعة مدوية..
لم تصدق ما فعلته فتراجعت للخلف بينما تزايدت وتيرة أنفاسها..
حينما هلع الرجال في المجلس للخارج عنده ووقفوا أمامه ليستفهموا ما حدث ظل متجمدًا مكانه ينكس وجهه ذنبًا..
وزع والده الحاج يعقوب أنظاره تارة عليه وتارة على سمية التي كانت تناظره بفزع وحدقتين مرتعشتين مما فعلته بابنه..
ثم صرخ بسمية بصرامة
((كيف تجرأتِ على صفع ابني بهذا الشكل؟ كيف تجرأتِ!))
ارتعشت مكانها وفغرت شفتيها إلا أنها عجزت عن النطق بشيء تدافع فيه عن نفسها أمام نظراته الساخطة.. وكان والده يهم بطردها عندما سأل أحد الرجال مَالك الذي لا زال منكسًا وجهه للأسفل
((لماذا قامت بصفعك يا مَالك؟ ماذا فعلت لها؟))
احتقر مَالك نفسه في هذه اللحظة لما ورطها به أمامهم جميعًا.. لقد أساء لها.. إلا أنه حافظ على جمود وجهه وهو يقول بصوتٍ ثابت
((لقد أمسكت يدها فقامت بصفعي))
اتسعت عينا الحاج يعقوب وشعر بالخزي من أنظار الرجال من حوله المستنكرين فعلة ابنه وأحدهم سأله عن السبب ليجيب مالك بنفس هيئه
((لقد كانت هناك جروح على يدها))
سارع الحاج يعقوب يصرخ عليه موبخًا
((كيف تمسك امرأة لا تحل لك يا مَالك؟ هل تظن نفسك لا زلت صغيرًا؟ صفعها لك أقل ما تستحقه.. بل أنا من عليّ أن اكسر يدك))
همهم الرجال باتفاق مع كلام الحاج يعقوب.. أما سمية فهدأت دقات قلبها وخف ارتعاش جسدها واستطاعت كبح عبراتها المتجمعة في عينيها لاعترافه بما حدث وقد ارتعبت من غضب وسخط الحاج عليها وما قد يترتب عليه من عواقب لوالديها الذي يتنعمون ويمكثون في خيرات مزارعه! لكنها شعرت بالشفقة على مَالك وما يتلقاه من نظرات وكلام الرجال من حوله استنكارًا لِما فعله..
ناظر أحد الرجال الحاج يعقوب قائلًا
((أليست هذه الفتاة مخطوبة لذلك الحرفي الذي قام بدّهن وطلاء ديوانية القرية.. ما هو اسمه؟))
رد رجل آخر بتلقائية
((اسمه كامل))
فعاد الرجل الأول يتابع
((نعم اسمه كامل.. أليس مخطوبًا منها؟ لقد طالت خطبتهم لسنين طويلة بسبب انتظارها له حتى يُكوِّن نفسه.. العمر يجرب بها.. فلماذا لا تساعد خطيبها ماديًّا يا حاج وتكمل على نفقتك الشخصية تكاليف زواجهما وتبعياته؟))
وعلى الفور رد يعقوب وهو يمد يده على صدره معطيًّا كلمته ووعده
((وهذا ما سيحدث.. زواجها من ذاك الحِرَفي المحترم سأحرص على أن يتم قبل نهاية الشهر الجاري))
=============================
بينما كانت رتيل تعد الشاي لزوجها بشرود امتلأ الكأس وخرج الماء الساخن منه على الرخام.. وعندما شعرت بقطراته تلسع يدها أجفلت شاهقة بألم طفيف، وسارعت تجفف الرخام سريعًا ثم أنقصت من الكأس..
وقبل أن تحمل الصينية تخشبت مكانها وهي تذكر حادثة سكب الشاي المغلي على يد سمية والتي حدثت فعليًا بسببها هي..
هل هي حقًا امرأة جافة المشاعر وباردة القلب تحاول مداواة آلامها بأذية غيرها؟
ظهر الندم والحزن جليًا على وجهها مما فعلته بها.. خاصةً وسمية غائبة عن العمل في الحديقة ولا تدخل من وقتها المطبخ..
أرادت رتيل الذهاب لبيت سمية الصغير الملحق والقابع بجانب منزلهم لكن كبرياءها منعها..
التفتت بعد دقائق تسأل منال التي كانت تحرك الطعام فوق الموقد
((أين هي ابنتك نجوم؟ ألا تزال عند سمية؟))
تطلعت منال لها بتعابير ممتعضة
((مقصوفة الرقبة بمجرد أن تأتي من بيت سمية سأريها.. الحاجة زاهية لا تدفع لها راتب شهري وتسكنها في الدور الأرضي مقابل الاهتمام بتلك البستانية سمية!))
اضطربت ملامح رتيل إلا أنها قالت بلامبالاة ظاهرية
((دعيها هناك تهتم بها، تكسب أجر فيها))
تمتمت منال متذمرة
((ألا يكفي سمية هانم أن نورين تظل عندها منذ ساعات))
لف الذهول وجه رتيل ثم سرعان ما قالت مستنكرة
((لحظة.. لحظة.. منذ ساعات عندها؟ ماذا تفعل هناك؟ هل تستغل انشغالي في فعل ما يحلو لها؟ كم أكره المتمردات أمثالها))
قالت نعمة المرأة الكبيرة التي كانت تتواجد في المطبخ
((لقد أخبرتنا الحاجة زاهية ألا نطلب منها القيام بأي شيء هنا))
أتعست عينا رتيل واستنكرت
((عمتي قالت هذا؟ ولكن لماذا؟))
أجابتها نعمة بهدوء
((بناءً على أوامر السيد مُصعب))
شعرت رتيل بقلبها ينازع في صدرها غلًّا.. فقالت ببرود وتعابير متجهمة
((حسنًا جيد.. فهي لا تنفع في شيء أساسًا))
ثم غادرت المطبخ كله وهي تحمل صينية الشاي وتفكر بأن تلك الخرقاء التي تم تزويجها لمُصعب كفصيلة استطاعت في ظرف أشهر أن تجعله خاتمًا في إصبعها.. في حين هي عاجزة عن كسب أو استمالة زوجها الذي تزوجته من سبع سنوات.. مهما فعلت وبذلت جهدها لا تنجح.. فهو لا يسمح لها في الاقتراب منه بأي وسيلة أو طريقة.. حتى ملّت منه وكرهته..
=============================
في منزل وليد الكانز..
أقام وليد دعوة لعمه يعقوب وأولاده.. وكما سبق وتوقع تعذّر كل واحد وتحجج بشيء حتى لا يلبي الدعوة ولم يأت إلا الحاج يعقوب ومُؤيد.. فلا هو يطيق أحدًا منهم وكذا الأمر من جهتهم..
جهزت جُمان زوجة وليد لعمه العديد من الأصناف والأطباق الشهية والأكلات الشعبية التي تستمد مكوناتها من بيئتهم الزراعية.. وقد حرصت في إعداد وترتيب الطاولة ما يعبر عن ذوقها الراقي في العطاء وما يميزها عن سواها..
بمجرد أن أنهى الحاج يعقوب طبقه حتى غمغم يحمد الله على نعمه ثم قال داعيًا لوليد بصدق
((أسال الله العظيم أن يرزقك الذرية الصالحة، أنا احلم يا بني أن أحمل أولادك اليوم قبل الغد))
حاول وليد أن يرسم ابتسامة مجاملة وهو يقول لعمه الوحيد على قيد الحياة
((الأمر كله بيد الله.. وأنا راضي بحالنا كيفما كان والحمد الله))
قوّس الحاج يعقوب حاجبيه هادرًا بصوته الوقور
((الحمدالله دائمًا وأبدًا لكن لِم التشاؤم يا وليد؟ زوجتك تتعالج وبإذن الله سيجبر الله خاطركم))
تدخلت جُمان على الفور وهي تقول مزينة ثغرها بابتسامة صغيرة
((لقد توقفت عن العلاج يا عمي))
طالعها يعقوب بملامح غير مقروءة ثم تساءل بتروي
((لماذا؟ هل توقفك أمر مؤقت؟))
أومأت نافية ثم قالت دون أن تنحسر ابتسامتها الهادئة
((لا بل توقفت بشكل نهائي عن العلاج وقررت أن أرضى بنصيبي وقدري))
سكت الحاج يعقوب لحظات يستوعب ما تقوله جُمان ثم هتف بدهشة غاضبة
((وما علاقة رضاكِ بالقدر في الأخذ بالأسباب؟ لم توقفتِ عن أخذ العلاج؟))
أجابته جُمان بصوتٍ أجش
((الأعراض الجانبية والتغيرات التي تحدث في جسدي بسبب العلاج الذي أخوضه من أجل الحمل أكبر من طاقتي على التحمل))
تغضن جبين يعقوب وهو يستمع مدهوشًا غير راضي عن عذرها.. ثم قال بصوت مقتضب
((وهل هذه الأعراض خطيرة إلى حد توقفك عن العلاج؟))
ارتبكت قليلًا لكنها أجابت بوضوح
((ليست خطيرة فقط ولكن مرهقة بالنسبة لي.. لم تبقَ أي خلية في جسدي قادرة على تحمل الآثار الجانبية للعلاج، ولا الألم والأرق والتغيرات في الحالة المزاجية من الضغط العصبي والاكتئاب))
اضطربت ملامح الحاج يعقوب مما قالته وتجلّى شيء من التأثر بكلامها في داخله.. لكن ظل يرى في كلامها مبالغة نسائية ودلال أنثوي.. فتساءل بخفوت وهو يطالع بتجهم وليد
((إذن زوجتك لن تكمل المضي في رحلة علاجها؟ وماذا بعد؟))
هز وليد كتفيه وهو يقول ببساطة
((خيار إكمال العلاج من التوقف يعود لها، فلست أنا من أمر بكل هذا الألم والإنهاك في سبيل الحصول على طفل.. ثم يا عمي صدقني الحياة بدون أطفال ليست مظلمة كما تظن))
استنكر يعقوب سلبيته ولامبالاته باستياء ثم تساءل
((إذن هل تخطط زوجتك لأن تكمل حياتك هكذا؟))
اندثرت الابتسامة المجاملة التي كانت ترسمها جُمان لترد
((نعم أخطط لذلك))
نظر يعقوب بوجهه الوقور المتجهم لجُمان مستنكرا فكرة أن يظل ابن أخيه بلا ذرية أو سند
((هل نسيتِ أنه في بلادنا نعتبر الأولاد عزوة وعائلة للرجل؟ أتريدين أن تحرمي زوجك من هذه الأمور؟ زوجك سبق وكان وحيد والديه فهل تريدينه الآن بلا ذرية أو نسل من بعده؟))
تساءلت جُمان ببرود يكتنف صوتها
((وهل أنا أحرمه بإرادتي؟ هل أنا سعيدة بعدم قدرتي على الإنجاب وتجربة شعور الأمومة؟))
قال الحاج يعقوب بضيق
((ولكنكِ لا تبذلين جهدًا كافيًا للعلاج بل توقفتِ واستسلمتِ ببساطة عنه))
فهمت جُمان بأن عم زوجها لا يرى كل ما قالته قبل قليل سببًا حتى تتوقف عن تعذيب نفسها في رحلة العلاج.. فزمت شفتيها والعبوس يداعب حاجبيها قبل أن تخبره بضيق
((في آخر زيارة لي.. أكد عليّ الطبيب بأني لو أكملت العلاج وحملت سأتعرض لمضاعفات خطيرة قد تودي بحياتي.. وأخبرني أن الخيارات المتاحة لي هي أن أنجب طفلًا يتيمًا في هذه الدنيا.. أو أن أرضى بنصيبي))
انتبه وليد على ملامح زوجته الضائعة بالألم فربت على كتفها قائلًا بدعم
((لا بأس حبيبتي.. صحتك بالدنيا كلها، لا تحزني))
تطلعت جُمان تنظر له شامخة بذقنها
((لم أحزن يومًا على عدم إنجابي فالنعم كثيرة من حولي.. والله خلق الخلق وقسم لهم أرزاق كل شيء بما فيها رزق الذرية.. كنت أحاول جاهدة في السنين الماضية الإنجاب فقط من أجلك أنتَ، لكن خرج الأمر عن يدي الآن وبات فوق طاقتي))
والسبب الآخر الذي لم تعلن عنه جُمان هو بأنها تأمل أن تنجب فقط عندما يكون بمقدور رحمها أن يحتوي نطفة رجل تحبه ويحبها.. وهذا ما لن يحدث..
لم يجد الحاج يعقوب إلا أن يزرع فمه ابتسامة على مضض ويقول
((ليكتب الله لكما الخير))
اعتدلت جُمان واقفة من مكانها تقول برزانة
((استسمحوني عذرًا لدقائق))
غادرت المكان في حين أغمض وليد عينيه يعيد رأسه ويستند إلى ظهر كرسيه.. فجسده يريد أن يغنم بعض النوم لعله يريحه من بعض مشقة أيامه السابقة.. مشقة قلبه الملتاع.. وروحه التائهة.. ولم ينتشله من عالمه الآخر إلا هدير ابن عمه مُؤيد الذي قال بنبرة ذات مغزى
((هناك بعض الإشاعات يا ابن عمي.. فقط مجرد إشاعات مفادها أن العيب منك لا من زوجتك والا لكنت تزوجت على الفور.. فأنتَ رفضت الزواج من عروس الثأر ابنة الهنادل حتى لو ترتب أن تغرق العشيرتين ببحر من الدماء))
التفت وليد لمُؤيد وأظلمت عيناه بسوادٍ عميق بل وتحرك حلقه يدرك بمحاولة ابن عمه أن يجرحٍ رجولته وكرامته خاصةً وهو يتحدث بتلك النبرة الشامتة التي لا يخطأ فيها..
لكن ليس هو من سيسمح لأحد أن ينال منه أو ينال من المرأة التي هي على اسمه.. فرد عليه بصوتٍ حيادي
((لن أنكر ولن أؤكد هذه الإشاعة، فهذا الأمر يخصني أنا وزوجتي.. ثم أن إجابتي لن تفيدك في شيء وإنما سترضي فضولك وأنا أحب أن تقتل نفسك بهذا الفضول وعادة التلصص على أسرار الآخرين))
سكت وليد وعم التوتر في الأجواء فشعر الحاج يعقوب بأن عليه التدخل لأنه لو استمرت هذه الردود في التقاذف بينهما فلن ينتهي الأمر قبل أن تندلع مشاجرة كبيرة فسارع يهدئ وليد
((لم يقصد مُؤيد شيء، فلا تأخذ على خاطرك))
أمعن وليد النظر في عمه المهيب والوقور إلى درجة أنه لا يتخيله إلا ثابتًا بتلك الرزانة على اختلاف ابنه مُؤيد.. ثم رفع إحدى حاجبيه يقول بتلك النبرة اللاذعة التي يبرع فيها
((العفو عماه.. ولكن ابنك الغارق حد الثمالة في فتنة الأولاد أنا متأكد بأنه لا يفقه شيء في تربيتهم، ولكنه يمشي على مبدأ العجائز "العدد في الليمون".. ربي أولادك يا مُؤيد ودعك مني فأنا سعيد بوضعي..))
كاد مؤيد فعلا أن يقوم من مكانه ويشرع في شجار معه إلا أنه والده وضع يده فوق كفه من تحت الطاولة يرجوه بصمت أن يلجم غضبه ويمنع انفلاته.. قبل أن يعقب قائلًا
((تبالغ يا وليد.. مُؤيد لم يقصد هذا، ما قاله كان بحسن نية))
قام وليد من مكانه يقول بوجه شديد الجدية حد التجهم
((أنا اقبل يا عماه تعاطف الناس بشكل لائق ومُحب بل ويسعدني ذلك.. على عكس من يوزعون رحمات باردة وشفيقات كاوية))
وجّه وليد كلامه لمُؤيد الذي كان يصر على أسنانه بغيظ من كلامه في نهاية حديثه وهو يضع عينيه في عيني الأخر.. ثم غادر المكان كله تاركًا ضيوفه بعدم تهذيب في إشارة أن وجودهم لم يعد مرحبًا به..
فتنهد الحاج يعقوب عدة أنفاس كانت تجيش في صدره إلا أنه لم يغضب من تصرف وليد فهو الأعلم بطباعه من البشر ولم يكن أمر كهذا جديد عليه.. بل وعذره لأن ابنه مُؤيد من حاول خدش رجولته..
.
.
مساءً..
دلفت جُمان لغرفة نومها.. وضعت مرطبها الليلي وشددت من إغلاق مئزرها ثم رفعت الغطاء ونظرت جانبها لزوجها المتمدد بجانبها شارد العينين والذهن.. قبل أن يلتفت منتبها لها فتعرف بأنها أطالت السرحان فيه.. فأشاحت بوجهها جانبًا تقول ببرود
((سبق وأخبرتك بأني أريد فقط بعض الوقت حتى أُهيئ لوالدي مسألة طلاقي منك وأنظم أموري لكن لم دافعت عني أمام عمك؟ تعرف أن الحياة باتت مستحيلة بيننا بشكل قاطع.. وحجة عقمي كانت لتكون أفضل سبب عندك لتتحرر مني وتتزوج ممن تريد))
أظلمت ملامح وليد للحظة لكنه قال بصوتٍ صارم
((عندما أريد التحرر منكِ والزواج بمن أريد فآخر ما قد أتحجج به مسألة عقمك!))
نظرت إليه بصمتٍ فاقترب منها يحيط كتفيها بذراعه متسائلًا بهدوء قاتم
((لماذا لم تخبريني بالمال الذي تعطيه لوالدك من حين لآخر؟ أكان عليّ أن اعرف مصادفة بأمر كهذا تفعلينه منذ زواجنا؟))
أجابته بخفوت وبطء وعينيها بعينيه
((لم أحبذ أن تعرف بأني أساعد أبي من راتبي الخاص بعملي حتى لا تستنقص أو تتعالى عليه، رغم أني اشهد بأنك كنت طيبًا ومتعاونًا معي.. ولكن والدي هو ما تبقى لي في هذه الدنيا ولا أقبل أن يمسه أذى نفسي من أحد ولو بمقدار ضئيل))
تمعن وليد النظر في زوجته التي تظهر أمامه أنثى مغرورة مرفوعة الهامة عالية الكبرياء كما هي منذ بداية زواجهما..
فهز رأسه ببطء.. ثم أشاح بعينيه جانبًا يعود ليتمدد مكانه..
يفكر بأمره الآخر.. فعلاقته مع جُمان مسألة وقت قبل أن تنتهي.. ويتزوج من شيرين.. لكن بالتأكيد لن يخبر شيرين أنه بحكم المطلق ولن يتنازل عن تعذيبها قبل أن يسمح لها بالراحة..
زفر نفسًا بطيئًا من بين شفتيه وكأنه يتنفس الصعداء ثم وضع رأسه فوق الوسادة يغمض عينيه..
=============================
قالت تمارا بوجه ممتعض بعد أن أنهت تصفيف شعر ابنتها الفاتح بخصله الذهبية
((حسنًا سأدلف للداخل، وأنتِ أيضًا اظهري النزق أثناء جلوسك مع خطيبك لعله يُعجِّل بمسألة الزفاف والتجهيزات التي طلبتها للحفل أو الفيلا.. لقد أخطأت عندما وافقت على عقد قرانكم قبل أن يجهز كل هذا!))
آخر جملة غمغمتها بصوتٍ خافت كمن تحدث نفسها.. أما سهر فارتدت سهر فوق كتفها معطف خفيف من الفرو.. ثم أمسكت حقيبتها الجلدية الباهظة وهي تقول لوالدتها بتعجل
((سأقترح عليه ذلك يا أمي.. وداعًا الآن))
وقفت تمارا عند البوابة الخارجة لمنزلهم تطالع قصي يركن سيارته على جانب الطريق، ويخرج من مقعده في سيارته الفارهة السوداء.. يستقبل يد سهر الرقيقة في سلام لهف ثم يتقدم منها يلقي سلامًا سريعًا بابتسامته الخلابة كعادته.. إذ أنه كَيّس وخلوق للغاية مع من يكبره..
قام قصي بشد المقعد لابنتها وفتح الباب وظل ممسكًا به حتى ولجت.. إنه يعاملها كما تستحق وترغب أن تعامل..
جلست سهر على المقعد الجلدي المريح وهي تسأله بلهفة كأنها لم تراه أو تتحدث معه منذ شهور لا فقط منذ ساعتين
((كيف حالك يا قصي؟))
جلس خلف مقود السيارة وشغّل المحرك وبدأ القيادة بينما يجيبها ناظرًا لها بانشداه
((أنا بخير.. وهل أنتِ يا باربي بخير؟))
أومأت له ببسمتها الساحرة.. ثم بدأت تتأمله يضع يده على المقود بأناقة ويقود سيارته مرتاحًا ويمر بسلاسة وسط زحمة السير الخانقة.. قبل أن تنظر من حولها داخل السيارة تسأله بعفوية
((هل هذه سيارة جديدة؟))
أجابها بينما يضع يده على مؤشر تغيير السرعات
((لا في الحقيقة إنها لعمي، لقد اشترى لنفسه سيارة جديدة وأعطاني هذه))
رفعت سهر حاجبيها بذهول تقول له
((إذن فقد أصبحت ملكك.. هنيئًا لكَ.. لم أرى أحد يحب شراء السيارات بقدرك.. لو كان متاح لكَ لكنت غيرتهم كل يوم كما تغير بدلاتك))
قهقه على كلامها ثم تمتم موافقًا
((معكِ حق))
سألته باهتمام وتلقائية
((كأن صوتك فيه بحة قوية.. هل أنتَ مريض؟))
لفّه شيء من الارتباك إلا أنه قال بينما يرفع يده الأخرى ويمسد مؤخرة رقبته
((لا يا باربي، كنت أتحدث كثيرًا في عملي لفترات طويلة دون راحة وحسب.. ربما هناك احتقان أو التهاب في أحبالي الصوتية لكني لست مريض))
شابت نظرات عينيها القلق وهي تخبره
((عليكَ مراجعة للطبيب))
أخذ قصي نفسًا عميقًا ثم قال بصوتٍ أجش
((الصوت ليس المشكلة.. المشكلة الحقيقية هي فقرات رقبتي والخشونة في عضلات ظهري..))
كانت عضلات قصي حقا تئن ألما وأحباله الصوتية تكزه عند التحدث فهذا ما يحدث لمن يعمل في شركة القاني في وظيفة بموقعه لساعات طويلة!
أما سهر فرغم قلقها مِمَّا تسمعه إلا إنها شعرت بالامتنان له فهو على الرغم من إرهاقه في العمل إلا أنه يجد لها وقتًا بالساعات يوميًا ليقضيه معها.. ولا يتوقف عن إشعارها بأنها محور حياته وكل ما يهمه في هذا العالم وليس له حياة خاصة لا تضمن وجودها هي..
فزمّت شفتيها المكتنزتين ثم قالت بحزن عليه وهي ترفع يديها لكتفه
((حبيبي المسكين.. كل هذا بسبب الجلوس فترات طويلة.. أخبرني قليلًا عن عملك في شركة عائلتك؟))
تطلع قصي لها لوهلة قبل أن ينظر في الطريق أمامه متسائلًا
((ماذا لم أفهم!))
سألته باهتمام وهي تمعن النظر في ملامحه
((أقصد ما هو طبيعة عملك كمدير في شركة عائلتك؟ قالت لي صديقتي بأنه لا يصح أن يكون محور حديثنا طوال الوقت عن اللهو والاستمتاع وبأنه يجب عليّ أن اصغي لكلامك عن العمل ومشاكلك))
شد قصي على يديه الممسكتان بالمقوض يمنع اضطرابهما ثم سألها بصوتٍ محايد
((هل هي شيرين من قالت لكِ هذا؟))
أومأت سهر برأسها تقول ببساطة
((نعم شيرين، أعرف بأنكَ لم تراها إلا بحفل عقد قراننا قبل سنتين ولكن..))
قاطعها وهو يعود للابتسام مداريًا التوتر الذي يجتاحه عند ذكر سيرة شيرين
((لا على العكس أنا اذكر شكلها جيدًا.. أنا جيد في حفظ الوجوه.. لكن دعكِ يا سهر من كلامها رجاءً.. ولا داعي لنغير محور أحاديثنا أو طريقة تقضيتنا للوقت.. لتبقي كما أنتِ))
لاحظت ذكره اسمها "سهر" الذي ينطقه فقط عندما يكون تكتنفه الجدية فقط! لكنها لم تقف عند الأمر طويلا بل تغيرت تعابيرها إلى الدلال والغنج اللطيف وهي تسأله باهتمام
((إذن قصي هل حقًا أنتَ لا تعتقد بأني امرأة تافهة لا تفكر سوى في الاستمتاع بوقتها أكثر مِمَّا ينبغي؟))
تطلع قصي جانبًا لها كيف تسأله بدلال يليق بجمالها الذي يشبه حرفيًا لعبه "الباربي".. ثم أجابها بمرح
((لا طبعًا، على العكس مرحة.. تزوجتك وأنا متأكد بأني لن أشعر يومًا بعد زواجنا بالملل))
بمجرد أن وصلا الاثنين إلى إحدى المطاعم الفخمة حتى جلسا متقابلان حول طاولة صغيرة..
كان قصي يُطلعها على صور الفِلل ويتناقش معها عن شكل منزلهما الزوجي في المستقبل وكانت سهر مندمجة معه إلا أنها في لحظة ما ظهر الضيق عليه فقالت تخبره
((علينا أن نفكر أولًا في حفل الزفاف متى سيكون قبل التفكير بشكل منزلنا بعد الزواج يا قصي!))
وكعادته عندما يبدأ أحد في التحدث معه عن الزفاف أظهر التوتر وهو يقول
((لقد شعرت بالسعادة أن أمك لن تخرج معنا الآن حتى لا تذكر سيرة تحديد موعد زفافنا.. فلا تبادري أنتِ الخوض بهذا الموضوع))
ظهر الاستياء واضحًا على سهر وهي تقول بجدية
((قصي الموضوع لا دخل له بأمي.. لكن ألا ترى بأنه تم تأجيل إقامة حفل زواجنا بما فيه الكفاية؟ ألا تكفي سنتين خطبة وعقد قران؟))
فتح زرين من أعلى قميصه متنهدًا رغمًا عنه ثم قال
((سهر أرجوكِ لا تضغطي عليّ في موضوع تحديد يوم الزفاف.. متى ما صرت جاهزًا سأقيم حفل زواج أسطوري ضخم وفيلا فارهة لا تتوقف صديقات أمك الراقيات عن التحدث عنه لسنوات قادمة))
أنهى قصي حديثه تزامنًا مع إبعاده طبق الطعام أمامه بضيق يعلن عن انتهاء رغبته في الأكل.. فسألته سهر متغضنة الملامح
((ما بك؟))
أجابها باقتضاب
((لقد شبعت))
وضعت الشوكة والسكين من يديها على الطاولة ثم قالت
((قصي بدأت أصدق كلام أمي عنكَ.. انظر كيف تغضب وتنفعل كلما جلب لكَ أحدًا سيرة تعجيل الزفاف!))
رفع إحدى حاجبيه متسائلًا
((إلى ماذا تلمحين يا سهر؟))
غمغمت له عابسة
((فجأة أشعر بأنك يا قصي رجل كتوم رغم أني أمضى معكَ مجمل وقتي، هناك غموض يحيط بك يجعلني غير قادرة على فهمك أحيانًا))
أحنى رأسه ومد كفيه يحيط بيديها فوق الطاولة ثم قال ضارعًا
((سهر أنا آسف لحنقي الغير مقصود، لكن أنا قلت لكِ سابقًا بأني المسؤول عن شركة العائلة.. صدقيني سأحاول قدر استطاعتي أن أرتب أموري لنتزوج ونقيم زفافا ونشتري فيلا تناسب معايير أمك))
قاطعته سهر تقول بصوتٍ غريب
((وما لكَ بأمي! أنا مستعدة للزواج منكَ بدون إقامة حفل حتى بل ومستعدة أن أعيش معكَ في كوخ صغير فأرجوكَ لا تؤجله بغية جمع مالًا أكثر من أجل زفافنا والمنزل.. فالنقود لن تجلب لنا السعادة))
صمت قصي وهو يمعن النظر بوجهها بحيرة ويتشرب ملامحها ثم سألها بخفوت أقرب للشك
((حقًا يا سهر؟))
ردت عليه بتلقائية وعلى الفور
((نعم.. النقود وحدها لا تجلب السعادة.. هذه حقيقة))
صحح لها قصده
((أقصد حقا هل كنتِ لتقبلي الزواج بي مهما كان وضعي ومهما كنت أملك رصيد في حسابي البنكي؟))
أخفضت عينيها إلى كفه الممسكة بيدها بقوة ثم طالعته تقول بحيرة
((قصي.. وهل تشك بذلك؟ هل تظن بأنك لو كنت فقيرًا لا تملك شيئًا لم أكن لأقبل فيك؟))
زارت ابتسامة شفتيه الحزينة ورد بغموض
((نعم هذا ما أعتقده))
سألته باقتضاب وغضب طفولي
((قصي هل حقًا تسئ الظن بي بهذا الشكل الفظيع؟))
رد عليها ببساطة وكأن الأمر مسلم به
((أنا أتحدث بواقعية يا سهر.. حتى أن أمك لا..))
قاطعته تقول بملامح تلفها الجدية
((دعك من أمي.. صدقني حتى لو كنت تملك كل أموال الدنيا.. لم أكن لأقبل بكَ إن لم تعجبني.. لأنه لا يهمني بالشخص الذي سأتزوجه إلا شخصيته وكيف سيعاملني.. أنتَ تعرف بأني أنهيت علاقتي مع خطيبي الأول فقط لأنه كان رجلًا سِكّير رغم أن عائلته ذات صيت.. وفررت هاربة من خطيبي الثاني ابن شريك والدي في تجارته لأن أسلوب حياته لا يناسبني.. ولم أكن لأقبل خطبتك لو لم تكن تعجني))
لم يتحدث بكلمة بل حرر يديه لتعقد حاجبيها بشك متسائلة
((لماذا أشعر بأنك لا تصدقني؟))
نظر في عينيها يقول بصراحة
((حتى لو قبلتِ فأمك سبق وقالت بأنها من المستحيل أن تقبل يومًا بتزويج ابنتها من رجل مستواه المادي أقل من مستوى والدك.. لذا..))
قاطعته باستياء واضح
((هذا لأن أمي متعصبة ومتزمتة من الناس الأقل وضعًا اجتماعيًا أو اقتصاديًا منّا، أنتَ تعرفها..))
قال ببسمةٍ رزينة
((لستِ بحاجة لقول هذا.. فهذا واضع عن أمك))
الحقيقة هي لم تقلق يومًا عليه وعلى الطريقة التي يتعامل بها مع أمها فهو يتصرف دائمًا بطريقة رجولية معها فلا تضطر لتوجيهه طوال الوقت.. لكنها الآن شعرت بكمية الضغط التي تطاله بسب أمها.. فحاولت أن تكون محايدة وهي تقول
((لكن هي نوعًا ما محقة.. هي لا تقصد أن تبحث مليونير ليتزوجني.. لكن على الأقل يجب أن يكون هناك تكافؤ لمن سأتزوجه))
تمتم بكلمات خافتة مفادها بأنها محقة فعادت تسترسل سهر
((لذلك يا قصي صدقني لن يقل أو يزيد حبي لكَ لو صرت أكثر ثراءً.. فتوقف عن إرهاق نفسك في العمل وجمع المال الذي يؤخر من ارتباطنا.. ما كانت أمي لتحلم بصهر بثرائك طوال حياتها صدقني.. دعنا نقم الزفاف سريعًا ونشتري أي فيلا ونعش بقية حياتنا في سعادة))
رفع منديلًا يمسح فيه العرق الذي نضح على جبهته هامسًا بابتسامة متوترة
((لا تقلقي.. أنا أحاول فعل ذلك))
ثم اخرج من جيب قميصه تذكرتان يضعهما أمام سهر مبتسمًا.. فتطلعت له بحيرة ثم رفعت التذاكر تناظرهم قبل أن تتسع عينيها بدهشة وهي تقول
((إنها تذكرتي مروحية لتجوب بنا فضاء مدينة!))
لهفتها وذهولها بما قدمه لها جعل أساريرها تنفرج ليكمل بصوته الأجش
((وصدقيني أحاول أن أدبر إجازة من عملي لنذهب لجولة بحرية إلى إحدى الجزر المعروفة.. طبعًا هناك تذكار لوالديكِ أيضًا.. أتمنى أن تعجب أمك هذه الهدية))
تهلل الفرح في عينيها وهي تقول له ببهجة
((هل أنتَ مجنون؟ ولم قد لا تعجبها مثل هذه المفاجأة المذهلة؟))
ثم أخفضت نظرها للتذاكر تستطرد كلامها بصوتٍ متأثر
((هل تعرف لماذا أحبك يا قصي؟ لأن حياتي صارت رائعة ومميزة من اليوم الذي دخلتها.. صارت مليئة بالانطلاق والانشراح.. معكَ فقط أشعر بأني حية أُرزق))
رفع حاجبيه مستمتعًا بردة فعله لتكمل له بحماس مبتهج
((حبنا للسفر شيء متبادل بيننا الإثنين، إنه الجرعة التي تجلب السعادة))
نبض قلبه بجمالها الذي يشبه لعبة "الباربي" والذي قريبًا سيصير له هو عندما يتزوجها.. ثم قال لها بصدق مشاعره
((أنا لا أذكر بأني كنت أظل في مكان أكثر من ثلاث أشهر من كثرة أسفاري في الماضي.. لكن فترة الوحدة والركود المعنوي التي حدثت لي في نهاية العشرينات لم أخرج منها إلا بعد أن تعرفت عليك وخطبتك.. لطالما حلمت طوال حياتي أن ارتبط بامرأة مميزة مثلك محاطة بالحياة من كل الجهات وتتشارك معي هوايتي في السفر والتنزه واكتشاف ملذات الحياة))
توردت وجنتيها وهي ترخي أجفانها بينما قلبها ينبض خجلًا فازدادت ابتسامته هو الآخر حتى صارت ضحكة خافتة فتحشرجت الكلمات وهو ينقل بصره بين عينيها المظللة وشفتيها الوردية المكتنزة
((أنا صادق يا سهر، لطالما حلمت بامرأة مثلك أعيش معها حياة مختلفة عن حياة والديّ مع بعضهما))
=============================
أنهت سمية ري خط المزروعات.. ثم جلست تحت ظلال إحدى الأشجار المتواجدة في الحديقة الخلفية لمنزل الحاج يعقوب الكانز..
أغمضت عينيها ووجدت شعاع الشمس يداعب وجنتيها بدلال ورائحة النسيم الطبيعي تنعش رئتيها..
نظرت لابنها الجالس بجانبها بينما يمعن النظر في ورقة امتحانه المصححة لتأمره بمرح
((اترك الورقة ستجعدها))
نظر يزيد لها بحماس وبراءة
((أريد أن أُري علامتي في الرياضيات لعمي مَالك.. أنا الوحيد الذي حصلت على علامة كاملة في الفصل))
شابت نظرات سمية الحزن فيزيد حقا بانتظار موعد عودة مالك الذي يعمل في مدرسة ثانوية مقابلة لمدرسة يزيد.. فقالت دون أن تنحسر ابتسامتها الأموية
((مَالك سيكون متعبًا بعد عودته من عمله.. لذا عد الآن للبيت وبدِّل ملابسك وتناول الطعام الذي جهزته على الطاولة وفي وقت لاحق ستريه علامتك))
أظهر يزيد ملامح الطاعة ثم أغلق حقيبته وحملها قبل أن يسير متهدل الكتفين إلى حيث يقع منزلهم.. إلا أنه فجأة غير مسار طريقه وركض نحو الباب الخارجي لمطبخ منزل الحاج يعقوب..
اتسعت عينا سمية بصدمة وفزّت من مكانها فورًا تلحقه.. إذ أنها منذ أسابيع تحاول الالتزام بشكل تام في عدم دخول المطبخ هناك لعلمها بأن كل من أصحاب المنزل والعاملين فيه لا يطيقون وجودها أبدًا.. لكن أحيانا يغفلها يزيد ويذهب كاللص دون أن يراه أحد للمكوث في غرفة مالك!
أسرعت سمية الخطى نحو المطبخ تلحق ابنها الذي دخل المطبخ بالفعل.. وعند العتبة وقفت بتوتر ورفعت يدها تطرق الباب النصف مفتوح بتردد..
سمحت لها مدبرة المنزل نعمة التي كانت تجلس على الكرسي حول المنضدة قائلة بامتعاض
((تعالي وخذي ابنك الشقي يا سمية))
قال الصغير بلهجة مهذبة ممزوجة برجاء يذيب القلب
((أرجوكِ يا عمة اسمحي لي بانتظار عمي مَالك ريثما يعود من المدرسة.. أريد أن أريه شيئًا بسرعة))
إلا أن المرأة التي كانت في الستين من عمرها حدجته قائلة بصرامة
((السيد مَالك ليس متفرغًا لكَ، لم تعد صغيرًا وعليكَ أن تتوقف عن عادة طلب رؤيته وقضاء الوقت معه كثيرًا.. فهو ليس أبيك الذي أنجبكَ ونسيكَ))
اختلجت شفتا يزيد وكأنها أصابته في موضع حساس لكن نعمة سددت نظراتها لسمية تسترسل
((وأنتِ يا سمية.. علِّمي ابنك أن يتوقف عن التدلل على السيد مَالك فهو له حد في مجاملة أمثاله))
ردت سمية عليها بصوت جامد يواري ألم الكلمات الأخيرة التي سمعتها منها
((حسنًا يا سيدة نعمة، سآخذه واذهب، ولن يدخل هنا مجددًا))
عبس يزيد شاعرًا بالذنب لأنه جعل أمه تمر بوقت عصيب..
فخطى باتجاهها يطيعها قبل أن يصدح صوت مَالك باسمه عاليًا..
تيقظ يزيد لصوت مالك ثم استدار للخلف يهرول خارج المطبخ نحو صالة المنزل هاتفًا
((عمي مَالك.. هل كنت تنادي عليّ؟ هل تعرف كم حصلت في امتحان الرياضيات؟ أنا..))
بتر يزيد سيل أسئلته الحماسية وهو يرى مَالك يقف أمامه وصدره يتحرك بقوة.. فقال بصوته الطفولي الحائر
((هل حدث شيء؟))
كانت سمية ونعمة تقفان كلتاهما عند باب المطبخ المفتوح على الصالة تناظران مَالك الذي سأل يزيد بملامح في غاية الجدية حد التجهم
((هل عبثت بشيء من ملفاتي يا يزيد في الأمس؟))
تمتم الصغير بغير فهم
((أي ملفات؟))
في حين تدخلت نعمة تقول بانزعاج
((ماذا أضاع يزيد لكَ ذاك الصغير الشقي؟))
فغرت سمية شفتيها لتقول بتوجس
((ماذا فقدت يا مَالك؟))
لكن مَالك انخفض إلى طول يزيد يسأله وهو يمسك بكتفيه
((هل أخذت أو غيّرت مكان الملفات التي أعدتها معي من المدرسة بالأمس؟ كان عليّ أن أخذها اليوم صباحًا ولكن لم أجدها!))
شيء من الخوف بدا يأخذ مكانًا في نفس يزيد وبالكاد استطاع أن يومئ نافيًا على سؤاله.. حتى أن جسده الصغير بدأ يرتعش خوفًا لاحظته سمية في حين كان كل فكر مَالك مشغول في ملفاته الضائعة.. فعاد يسأله وهو يصف ما ضاع منه
((هناك من ضمنهم ملف أسود ذا عرض سميك.. ألم تراه في الأمس أيضًا؟))
أجاب الصغير بخفوت
((لا، لا أذكر بأني رأيت ملف كهذا))
تغضن جبين مَالك الذي قال بنبرة عالية لم يعي عليها
((ولكن يا يزيد لم يدخل أحد غرفتي في المساء سواك))
ثم استقام واقفًا وأمسك بيده الصغيرة وسار للأمام قائلًا
((تعال معي لغرفتي حتى تذكر أين وضعته))
خرجت زاهية من غرفتها في الدور الأول القريبة من غرفة مَالك بعد أن أحسّت على عودة ابنها.. لكن أثار استغرابها رؤية سمية ونعمة تقفان أمام غرفته بترقب.. فتقدمت بخطوات متمهلة ثم دلفت لداخل الغرفة تسأله باستغراب
((هل حدث شيء يا مَالك؟ لماذا عدت باكرًا من عملك؟))
أجابها مَالك المنهمك في التفتيش مجددًا بين ملفاته
((عدت اليوم مبكرا لأنه اتضح بأني لا أملك في حاسوب المدرسة أي نسخة من ملفات لي، أنا الآن أبحث عنها ولا أستطيع إيجادها))
حدجت زاهية سمية بنظارتها ففهمت نعمة مضمونها وقالت له
((لم يدخل أحد غرفة مَالك باستثناء ابن سمية.. هو من أضاعها.. ربما أخذها وألقاها بإهمال في مكان أخر))
تهدج صوت يزيد وهو يقول بنبرة دفاعية ونظراته ترتجف للأرض بخجل
((أنا أدخل غرفة عمي مَالك دائمًا ولم يسبق وأن لمست أي من ملفاته.. فهو دائمًا ما ينبهنا أنا وباسم وفهد ألا نقترب منها.. وأنا أكثر من أطيعه.. ربما دخلا غرفته في الأمس وأخذا الملف))
صدح صوت شهقة شعبية من رتيل التي ما كانت لتُفوِّت حدوث جلبة كهذه وجاءت مسرعة لتعرف القصة.. ثم قالت بصوتٍ أرعب يزيد ودب الخوف فيه
((لا.. هذا كثير.. هل تتهم ولديَّ بأخذ ملفات عمهم الآن لتنقذ نفسك مِمَّا اقترفته! تذكر أين وضعت الملفات ولا ترمي بخطئك على ولديَّ المسكينين))
قالت سمية بصوتٍ خافت متذبذب
((سيدة رتيل لا تصرخي عليه هكذا، ما زال صغيرًا))
توحشت عينا رتيل وقالت من بين أسنانها المطبقة
((حسنًا سأذهب لأنادي فهد وباسم لتتأكدي من أنهما لم يعبثا بشيء من ملفات عمهم))
وبكل عجرفة ذهبت رتيل لنورين التي كانت تلهو مع ولديها وطلبت منها جلبهما.. في حين وقف مَالك مشتت الذهن في منتصف غرفته ثم قال لنعمة
((هل يمكن لو سمحتي يا نعمة أن تسألي منال إذا ما كانت أرسلت إحدى العاملات لغرفتي لتنظيفها وغيّرت مكان الملفات؟))
جاءت رتيل ومن خلفها نورين وأبنيها لتقول بغرور
((سألتهما وقالا لي بأنهما لم يلمسا شيء من ملفاتك))
دخل فهد الصغير إلى مَالك يتشبث بطرف قميصه ويشده هادرًا بخفوت ((عمي مَالك))
أخفض مَالك نظره له للأسفل يقول بانزعاج
((ليس الآن يا فهد أنا مشغول))
تقوست شفتا الصغير إلا أنه قال بإلحاح وهو يشد طرف قميصه
((أريد أن أخبرك سرًا لا يعلمه أحد))
مد مَالك يده فوق يد فهد يبعدها عن قميصه برفق ثم قال
((فهد أنا مشغول سألعب معكَ فيما بعد))
ثم اندفع للخارج وهو يقول
((سأذهب لأتفقد نعمة إذا ما كانت قد سألت أحد))
نظرت رتيل للحاجة زاهية تقول
((انظري يا عمتي كيف خرج من الغرفة يكظم غيظه بدلًا من أن يوبخ ابن سمية الشقي على ما فعله))
حدجتها زاهية بغضب نظراتها وقالت بنبرة باترة
((يكفي يا رتيل))
عوجت رتيل فاهها يمينًا وشمالًا.. تعرف أن الحاجة زاهية لا تحب أن ينتقد أحد مَالك بالذات..
حاولت سمية أن تجلي حنجرتها وخرج صوتها خافتًا ضعيفًا وهي تقول
((سأحاول الآن أن أفتش عن ملفات السيد مَالك هنا.. ربما لم يبحث عنها بشكل جيد))
صوت سمية كان ما جعل زاهية تنظر لها بغل وتفرغ فيها كل ما يكمن داخلها من انفعالات قديمة وجديدة هاتفة
((كم مرة أخبرتك يا سمية ألا تجلبي ابنك الشقي مفرط الحركة للمنزل هنا؟ لا نريد منكِ أن تعملي هنا إذا كان يترتب على وجودك اصطحاب ابنك الذي لا يفعل شيئًا إلا إثارة المتاعب مع الكبار قبل الصغار))
ثم حسمت كلامها وهي تسترسل بصلابة وعينيها في عيني سمية المضطربتين
((سمية لا أريد منكِ من الآن وصاعدًا بأن تعملي في الحديقة الخلفية للقصر.. وراتبك الذي تأخذينه ستحصلين عليه بدون أي نقصان شهريًا))
دمعت عينا يزيد وكسا الاحمرار وجهه.. فتدخلت نورين قائلة وهي تعانق يزيد بينما تمرر يدها فوق ظهره
((عمتي على رسلكم عليها، إنه يبكي من كلامك))
حدجت زاهية نورين بنظرات مقتضبة.. ورغم أن منظر يزيد كان يفتت قلب سمية عليه إلا أن مقلتيها الغائمتين أبتا تحرير دمعهما ترفضان الانهيار أمام ابنها.. بل تنهدت لتلقن ذاتها القوة ثم ضمت قبضتها تمنع ارتجافهما وهي تقول بصوتٍ جاهدت على خروجه ثابتًا
((أشكرك يا حاجة زاهية.. وفضلكم على رأسي من فوق لا أنساه أو أنكره.. ولكنني آخذ راتبي مقابل عملي في الحديقة.. إذا شعرتي بأني مقصرة فيه أو لا أحسنه أخبريني وسأتوقف عن العمل وارحل من هنا.. فأنا لستُ أحد المتسولين لأقبل نقودًا لا أستحقها))
ساد الصمت الثقيل ثم ضيّقت زاهية عينيها وهي ترمقها بنظراتها الرافضة، ثم قالت أخيرًا بنبرة حادة وصارمة
((إذن اعملي في الحديقة واحرصي ألا يتعامل ابنك مع مَالك أو أولاد مُؤيد))
امتقع وجه سمية حرجًا وخزيًا من هذا الموقف إلا أنها قالت بصوتٍ مختنق
((لا تقلقي سأفعل، وسأكون أكثر حذرًا مستقبلًا ألا يتكرر أمر كهذا))
خرجت همسة مقتضبة من الحاجة زاهية قبل أن تغادر الغرفة
((جيد))
تبعتها رتيل وولديها ولم يبقَ في غرفة مَالك إلا سمية ونورين التي كانت لا تزال تحتضن جسد يزيد المرتعش جراء بكاءه المكتوم..
رغم أن سمية شعرت بأنها على حافة الانهيار إلا أنها حاولت أن تظل متحلية بالثبات والصلابة.. فمسحت على صفحة وجهها تحاول دفع الإجهاد عنها ثم اقتربت من ابنها ترفع وجهه الباكي عن نورين وتأمره برفق
((يزيد حبيبي اذهب للمنزل الآن وأنا سأتبعك بعد أن ابحث عن ملفات مَالك))
قالت نورين متغضنة الجبين
((لستِ مضطرة أن تبحثي له عن الملف))
أصرت عليها سمية
((لا تقلقي فمَالك ليس فوضوي إلا أنه كعادة الرجال يُضيِّع أشياءه كثيرًا وأنا معتادة على البحث له عنها))
ثم أخذت سمية تحملق في أطراف الغرفة قبل أن تمتد يدها إلى أحد الأدراج تبدأ بالبحث من هنا..
رفعت نورين حاجبيها باستغراب مِمَّا تراه.. ولم تشعر بأن تفتيش سمية غرفة رجل غريب عنها صائبة.. خاصة وأنها لا تعمل في داخل هذا القصر.. لكنها ظلت جالسة بجانب يزيد بينما تراقبها تقوم بنفض غرفة مَالك كليًا.. حتى جفلت بعد أكثر من ثلث ساعة على صوت مَالك العائد وهو يسألها
((من فعل هذا بغرفتي يا زوجة أخي؟))
اتسعت عينا نورين وفغرت شفتيها وهي تجد نفسها بمواجهة مَالك.. فتمتمت بصوتٍ خافت
((إنها سمية تبحث عن ملفك))
تأمل غرفته مذهولًا.. فلا شيء بها على مكانه بل كلها مقلوبة رأسًا على عقب بفوضى هائلة.. الجرارات شبه مفككة والخزانات مفتوحة.. وبعض من ملابسه أرضًا.. وكل ما فيها منثور..
ظل الصمت المذهول سائدًا حتى انتبه مَالك لسمية تخرج من خلف الخزانة وهي تقول له بأنفاس لاهثة
((مَالك هل يمكن أن تنزل لي الحقائب فوق الخزانة؟))
لوهلة نسي ملفاته الهامة الضائعة وانتبه بأنها في غرفته.. تبحث عن أغراضه وخصوصياته كما الماضي..
هتفت له بوجوم مكررة
((مَالك هل يمكنك أن تنزلها أو أفعلها أنا؟))
وكأنه انتبه لصوتها فسارع يقول بارتباك
((أنا في الأمس.. أقصد كنت قد أنزلت الحقائب هذه وأخرجت منهم بعض الثياب ولكن ليس منطقي أن أضع الملفات هناك وأنسى))
بدا أنها تبذل جهدًا جبارًا في الحفاظ على هدوئها وهي تخبره من بين أسنانها بغيظ
((انزلها وحسب، هل المكان الوحيد الذي لم أفتشه!))
أومأ برأسه لها ووقف على مشط قدميه يمسك الحقائب ويحملها ثم يضعهم بجهد على الأرض..
على الفور جلست سمية أرضًا أمام الحقائب تبدأ بفتح بكل واحدة وإخراج ما فيها وتفتيش الجيوب الضيقة جيدًا..
لم تكن قد مرت دقيقتين حتى فتحت إحدى الجيوب وأخرجت عدة ملفات منها ثم رفعت إحداهم أمام وجه مَالك تسأله عاقدة الحاجبين
((هذا الملف لونه أسود.. هل هو ما تبحث عنه؟))
اتسعت عينا مَالك لحظات سائلًا بذهول
((نعم هو.. مستحيل.. من وضعه في هذه الحقيبة!))
لم يلمح أي استجابة من وجهها الجامد مرتجف الأوصال وهي تقول بصوتٍ يتقد غيظا
((ومن غيرك وضعه! لكن لا بأس المهم أنّنا وجدناه))
تناول مَالك على الفور الملف منها يبدأ بتصفحه بشكل سريع ويقول مبتسمًا براحة
((أنتِ رائعة يا سمية.. في هذا الملف كل علامات طلابي وطلاب معلمين أخرين.. لم أكن قد أفرغت علامتهم على الحاسوب ولم تكن عندي نسخة أخرى منه.. لو ضاع كانت لتكون كارثة))
اعتدلت من مكانها تقول ببرود
((لو سمحت أخرج من الغرفة لأعيد ترتيب كل شيء مكانه))
ظهر عليه الارتباك إلا أنه قال معترضًا بصيغة تحمل الاعتذار
((لا بأس أنا من سأرتب كل شيء.. ألا يكفي أني أتعبتك بشيء لا علاقة لكِ به))
تلجّمت ملامح سمية بشدة فشعرت بعدم القدرة على تحمل هدوء نظراته وهو لا يدرك بماذا تسبب لها توًا! فقالت له بجفاء
((أنا من قلّبت الغرفة رأسا على عقب وأنا من سأعيد تنظيمها))
تحدث لها بخفوت وهو بالكاد يمنع نفسه ألا يقول أكثر لتواجد نورين
((إذن على الأقل دعيني أساعدك))
لم ترد عليه وهي تلتزم صمت قاتم بانتظاره أن يغادر.. ففعل ذلك على مضض وهو يشعر بأنه ليس من اللائق أن يتواجد في نفس المكان المغلق مع سمية!
بمجرد أن غادر حتى توجهت فورًا عند نورين.. تمسك كتف ابنها تديرها ناحيتها وهي تخبره بصرامة بينما تشير بسبابتها
((أول وآخر مرة يا يزيد تدخل هذا القصر وخاصة غرفة مَالك.. هل فهمت؟))
قال يزيد بصوتٍ متهدج من البكاء
((أنا آسف يا أمي))
ردت عليه بشيء من الحدة خرجت رغما عنها
((وبماذا سيفيدني أسفك هذا؟ مَالك بالذات لا أريد منك حتى أن تلقي السلام عليه في هذا المكان.. إذا أراد رؤيتك أو التحدث معك دعه هو من يلاقيك خارجه.. هل فهمت؟))
لم تنل منه جواب وشعرت بارتعاش شفتيه وهو يترجاها بنظراته ألا تطلب منه شيئًا كهذا.. فأخذت نفسًا عميقًا موجعًا ثم قالت بجدية حازمة
((بسبب ترددك المستمر إلى غرفته كانت أصابع اتهام الجميع تؤشر عليكَ.. حتى مَالك نفسه كان أول من اتهامك في الملف الذي أضاعه بنفسه))
عقّبت نورين على كلامها
((لا تبالغي يا سمية.. مَالك كان متخبطًا في البحث عن ملفه فآنى له أن يتحلى بالصبر؟ بل على العكس.. لقد تحدث مع يزيد بهدوء أكثر من غيره))
إلا أن سمية ردت بإصرار وهي تشمل ابنها بنظرات عتاب حان
((يزيد اسمع الكلمة وكن مطيعًا فقد رأيت بنفسك أن وجودك هنا غير مرحب به.. اليوم تم توبيخي من قبل الجميع بسبب شقاوتك.. هل ترضى الإهانة لأمك مجددًا يا يزيد؟))
لم يرد يزيد على الفور بل طال صمته وأنفاس بكاءه تتحشرج.. حتى أنه جعد الورقة التي كان يمسكها طوال الوقت ثم كورها ورماها أرضًا، ليقول بخفوت وهو يمسح عينيه بكفه الغض
((لا.. لا أرضى))
لانت ورقّت نظرات سمية وكادت أن تمطر دموعها بضعف الأمومة المقهورة، فما واجهه قبل قليل كان أقسى عليها من كل ما مرت به.. وتاه صوتها وهي تشعر به يكتم شهقاته لكنها قالت بنبرة مجروحة مثله وهي تأخذه من نورين
((ولد مطيع))
تنهدت سمية بتعب فقد كادت حرفيًا أن تترك عملها في الحديقة ومنزلها لتسكن في أي مكان آخر بعيدًا عن نظرات احتقارهم لها.. لكنها تمَالكت أعصابها في اللحظة الأخيرة ومنعتها من الانفلات.. لأن عملها هنا هو صمام أمان حياتها واكتفاءها المادي..
.
.
غمغمت زاهية الجالسة أمام منضدة الطعام بينما الطبق أمامها لم تمسه
((لا حول ولا قوة إلا بالله.. ولا واحد من أحوال أبنائي يسرني حاله غير زوجك يا رتيل))
رفعت رتيل وجهها بإباء وغرور وهي تقول
((هذا لأن عنده زوجة مثلي))
قالت الحاجة زاهية ((ولأنكِ يا رتيل اختياري أنا، وهل كنت لأقبل لأحد أولادي زوجة بمواصفات أقل من المواصفات الموجود فيكِ.. انظري لمَازن الذي تزوج..))
قالت دارين التي كانت تشاركهم الجلوس لجدتها بنبرة ذات مغزى وهي تناظر زوجة عمها بنظرات خطيرة
((لو تعرفي ما أعرفه يا جدتي عن زوجة عمي رتيل لغيرتي رأيكِ))
لف الغضب وجه الحاجة زاهية توبخ دارين
((ما هذا الكلام يا دارين، ماذا تقصدين بكلامك عن زوجة عمك؟))
نفخت دارين وجنتيها باقتضاب وغمغمت بتجهم
((لا شيء على وجه الخصوص))
تطلعت زاهية عليها بعينين شاخصتين وقالت بحزم
((دارين عيب عليّكِ يا حفيدتي أن تتحدثي مع زوجك عمك التي بمقام أمك بهذا الشكل!))
دمدمت دارين والسخط يلف ملامحها
((عندما تعرفين ما أعرفه عنها ستعذرينني بالتأكيد))
زجرتها زاهية بتأنيب ((داريــــن))
انتصبت دارين واقفة من مكانها تقول بتكدر
((سأذهب من هنا لقد شبعت))
ثم انصرفت تتقد بالغضب وانكمش قلب رتيل لما خرج من دارين رغم يقينها أنها لا تقصد ذاك الأمر الذي تخفيه هي عن الجميع! ولكن مجرد سماعها في كل مرة تهددها بشيء ما يجعلها تخال بأنه عن السر بلا محال!
نفضت رتيل عنها تلك الخواطر السلبية التي تنهش روحها بمجرد أن تفكر بأنها قد تُكشف يومًا ما ثم ادعت العطف وهي تقول
((لا داعي للغضب يا عمتي عليها، إنها صغيرة))
ردت الحاجة زاهية بوقار صوتها
((منذ زواجك من مُؤيد يا رتيل وأنتِ من تتولين رعاية دارين كأمها لذا أنا لا أقبل أن تعاملك بهذا الأسلوب لمجرد قسوتك عليها أحيانًا لمصلحتها))
تدبرت رتيل ابتسامة عريضة وهي تقول بفضول متأصل فيها
((دعكِ منها يا عمتي.. وأكملي لي ما كنتِ ستقولينه عن مَازن؟ هل حدث معه شيء هناك في بلاد الغرب؟))
ردت الحاجة زاهية ((لا هو بألف خير، لكني لست راضية عن زوجته أبدًا.. ألا يكفي أنها تظل بغرفتها طوال اليوم حتى أكاد أحيانًا أن أنسى شكل وجهها! لقد تزوجها مَازن بنفس السنة التي تزوجتِ أنتِ من مُؤيد لكن اشعر بأني لا أعرفها أبدًا))
زمّت رتيل شفتيها وقالت ببراءة
((يفترض يا عمتي أنكِ أعتدتي على طباعها وانزوائها، إنها معقدة وغير اجتماعية))
هتفت زاهية بغل
((وخائبة أيضًا.. لا تملك من دهاء ومكر الأنثى شيء لتشد زوجها للرجوع لبلاده))
أيدتها رتيل وهي تومئ برأسها
((أتفهم غضبك من بُعد مَازن!))
أخرجت زاهية آهة حسرة وشعرت بألم يقبض على قلبها ويمزق صميمها وهي تسرد
((عندما تزوج مَازن منها وكأنها خطيفة ولم يعلم أحد فينا بزواجه منها إلا والده ومُعاذ لم اعترض لا على الطريقة ولا على صغر سنه، قلت أهم شيء أن يسعد معها ويجلب لي الكثير من الأحفاد، لكن ما حدث أنه وبعد عدة أشهر قليلة من زواجه بها سافر للخارج ولم يزرنا إلا مرتين لفترة قصيرة))
ثم استرسلت مغمغة بكلمات جافية قاسية
((لو كان فيها خيرًا لم استطاع ابني أن يبتعد عنها أكثر من عدة أشهر لا فقط ست سنوات بعمر ابنتهما هدى))
قاطع جلستها صوت مَالك وهو يدخل للغرفة المتواجدين فيها
((هل طعام الغداء جاهز؟))
قالت زاهية وهي تنظر لما يمسكه مَالك بدهشة مشوبة بالسعادة
((ما هذا الذي تمسكه يا مَالك؟ هل وجدت الملف؟))
أوما برأسه وهو يضع الملف الأسود على الطاولة ثم سحب كرسيًّا للجلوس عليه.. فقالت رتيل بذهول
((أين وجدته؟ أوه..))
بترت رتيل كلامها عند شعورها بابنها الأكبر الذي يجلس بجانبه ينفجر في البكاء وهو يغطي وجهه بعينيه لتسارع سؤاله بلهفة قلقة
((لماذا تبكي يا فهد؟ ماذا حدث!))
قال فهد من بين بكائه
((لقد وضعت الملف في حقيبة عمي مَالك في الأمس))
انتفض مَالك بغضب لم يعي عليه وهو يسأله
((هل أنتَ من وضعت الملف في الحقيبة؟ لماذا لم تقل وتركتنا طوال هذا الوقت نبحث عنه؟))
قال الصغير فهد من بين دموعه
((حاولت أن أخبرك ولكنك رفضت الاستماع إليّ))
انحسر اللون عن وجه رتيل لما سمعته فعاد مَالك يكرر وهو يتمسك بزمام صبره
((كان عليكَ أن تُصِر يا فهد على إخباري، فلاي سبب يجعلك تضع الملف في حقيبة السفر التي أنزلتها في الأمس؟))
أبعد فهد يديه عن وجهه الشاحب وهو يستشعر غضبهم جميعًا عليه ثم أجاب بوهن
((خفت أن نوقع شيئًا من الملفات على الطاولة فخبأتهم في حقيبتك الموضوعة على الأرض ونسيت إخبارك))
كان مَالك غاضبًا من نفسه قبل أي أحد آخر فأمسك ملفه واعتدل واقفًا يقول
((بالعافية.. لستُ جائعًا))
تطلعت زاهية لرتيل تقول ومعالم السخط مرتسمة على وجهها
((رتيل لا أريد من أولادك أن يدخلوا غرفة مَالك لو سمحتي))
عبست رتيل وعاد لسانها لصب سهامه نحو مَالك مغمغمه
((حسنًا مع أن مالك لا يهتم إلا بابن سمية ويتجاهل ولديّ الاثنين.. وكأن يزيد هو من لحمه ودمه لا هما))
=============================
استلقت نورين على ظهرها فوق السرير تلاعب خصلة من شعرها الأشقر بأناملها وهي تتحدث لأول مرة مع ابنة عمتها رفاء على هاتف مُصعب الذي كان مشغولًا بأخذ حمام بعد عمله..
((ألا يسيئون لكِ حقًا؟))
قطّبت نورين حاجبيها فجأة عند سؤال ابنة عمتها واستهجنت سؤالها بعض الشيء فهي سبق وتواصلت مع عائلتها وأخبرتهم بأنها تعيش جيدًا هنا.. فأجابتها بنبرة عادية
((لا أبدًا، إنهم جيدون معي، وخاصة مُصعب أنه يعاملني باحترام شديد))
تمتمت رفاء بتعجب
((غريب وضعه))
سألتها نورين رغم أنها لم تكن تنكر عليها استغرابها في واقع الأمر
((ما هو الغريب؟))
ردت رفاء بصراحة
((أمي لا تصدق كلامك وتظن بأنهم يجعلونكِ خادمة ويعتبرونكِ شيئًا بلا حقوق عندهم!))
تنهدت نورين قبل أن تسرد شيء من واقع الأمر
((حسنًا يعني هم ليسوا ملائكة ولكنني حقًا أعيش في وضع جيد هنا.. المهم لا أريد أن أوصيكِ على الدوام زيارة والديَّ والاطمئنان عليهما.. خاصة أمي فهي لا تتحدث كثيرًا عن أخبارهم))
طمأنتها رفاء مودعة
((لا توصي حريص، سلام..))
وقبل أن تغلق الخط شهقت كمن تذكر شيئًا وهي تتساءل
((لحظة يا نورين.. لدي سؤال.. هل أنتِ حامل؟))
لف الضيق ملامح نورين، فأي حمل سيأتي والعلاقة لم تحدث بينهما أكثر من مرة! ثم أجابتها بخفوت
((لا لستُ كذلك!))
عبّرت رفاء عن استغرابها وشكها
((غريب يا نورين مضى أشهر على زواجك))
ازدردت نورين ريقها وهي تعتدل جالسة.. ثم ألقت نظرة على باب الحمام المرفق بينما يتناهى إلى سمعها صوت الماء المتدفق في إشارة إلى عدم اقترابه من الانتهاء..
أخفضت صوتها وهي تقول باضطراب
((هل أسألك عن شيء يا رفاء بشرط أن تعديني بألا تقولي لأحد؟))
بدا الفضول جليًا على صوت ابنة عمتها وهي تؤكد بلهفة
((نعم.. نعم أعدك نورين، هيا قولي وافرغي ما بجعبتك))
عادت نورين تحذرها
((ولا لأمك يا رفاء، أرجوكِ، لا تخبريها أني سألتك))
أكدت لها رفاء ووعدتها بإلحاح فقالت نورين بصوتٍ يقطر حزنًا من كل كلمة منه
((أحيانًا أشعر بأنه ينفر مني ولا يحبني))
استغرق الأمر من رفاء لحظات قبل أن تجيبها بحيادية
((عدم حبه لكِ هو أمر مفروغ منه.. لكن كيف ينفر منكِ؟ اشرحيها لي؟))
صمتت نورين وعينيها تشردان بالبعيد قبل أن تتساءل بشتات
((رفاء بشكل عام.. هل من الطبيعي أن ينفر الرجل من امرأة ولا يتقبل معاشرتها بل يتحول لرجل حديدي عند قربها منه؟))
أجابتها رفاء من واقع ما تسمع عنه
((لا أظن أن ذلك طبيعي، الرجل يسهل عليه معاشرة المرأة والاستمتاع بكل لحظة يعيشها معها بدون أيّ عائقٍ مرتبط بالمشاعر، حتى لو كان يكرهها ويحتقرها.. إلا لو كانت المرأة أمامه ليست جميلة ولا تهتم بمظهرها!))
ازدردت نورين ريقها ثم عادت تسألها بحذر وبطء
((وماذا لو كانت غير مهملة بنفسها ومع ذلك لا يطالبها بحقوقه المشروعة حتى لو كان فقط من أجل العلاقة البحتة؟))
لم يبدُ على رفاء أنها قد فهمت إذا ما كانت نورين تقصد نفسها أو لا وهي تجيبها
((معناه بأنه يعاني من مشكلة بدنية تجبره على العزوف عنها!))
ردت نورين بإحباط
((ولكنه لا يعاني من أي مشكله))
انعقد حاجبا رفاء وهي تسألها بحذر
((وكيف تعرف بأنه لا يعاني من شيء وسليم بدنيًّا وهو لا يطلب حقه المشروع ولا يبادر من تلقاء نفسه؟))
أجابتها نورين بحزن باهت
((لأنه سبق وحدث بينهما شيء يدل بأنه لا يعاني من أي خطب.. لكن العزوف عنها حصل لاحقًا))
همهمت رفاء بعد تفكير طويل
((بصراحة لا أدري..))
عبست نورين وقد شعرت بالذنب لأنها تستخدم هاتف مُصعب ورصيده في النميمة مع ابنة عمتها عليه بشيء حميمي وخاص كهذا! فقالت تنهي المحادثة لتسارع في شحن هاتفه قبل أن ينهي الاستحمام
((حسنًا سنتحدث لاحقًا..))
.
.
كان مُصعب مضطجع فوق سرير نومه يتصفح هاتفه بعد أن تم حمامه.. وبمجرد أن أحس عليها تقترب منه حتى رمقها بطارف عينه ثانية باقتضاب وعاد ينظر لهاتفه يقول بغير رضا
((مجددًا استخدمتِ هاتفي))
ابتسمت نورين تلك الابتسامة الشقية الدافئة التي لا تحمل شيئًا من الأسف على استخدامها هاتفه رغم نهيه لها.. وهي تقترب منه قائلة
((فقط احتجت حقًا أن أتواصل مع والدتي.. وأنت تعرف أني لا أمتلك هاتفًا))
جلست فوق السرير تتمدد بجانبه مما جعله بتلقائية يبتعد قليلًا عنها قبل أن يسألها بجلافة شديدة
((من هي رفاء هذه التي اتصلت عليها وسجلتي رقمها بقائمة اتصالاتي؟))
قرّبت وجهها منه تناظر الهاتف بشكل تسبب في ضيقه رادّة بعفوية
((إنها ابنة عمتي، سجلت عندك فقط أرقام والديَّ وأخويَّ وابنة عمتي))
مد يده يبعدها عنه بنزق وقال بأنفة
((فقط؟ هل ظل أحد من أقاربك لم تسجليه؟))
ضحكت بخفوت على دعابته التي لم تحمل ظاهرية شيئا من المرح، لتقول بعدها مقترحة
((هل اشحن هاتفك لك؟))
بدا متردد إلا أنه ناولها إياه وأخبرها بجدية اكتنفت صوته رغم برودة وصلافة نبرته
((يمكنك أن تتحدثي معهم إذا أردت.. أبقيه معكِ))
تزايدت دقات قلبها الهادرة قوة عند هذه البادرة منه إلا أنها ردت وهي تشير نافية بكلتا يديها
((لا بأس أنا بخير الآن... إنهما بخير.. أيضًا..))
غمر صوتها بعض الارتباك إلا أنها أكملت قولها وهي تضع عينيها بعينيه
((لم تتجرأ أمي على قولها لكن أتوقع بأنها كانت تريد أن أوصل سلامها لكَ))
سألها مُصعب بنبرة حملت عطفًا طفيفًا
((هل تشتاقين لهم؟))
ظلت نورين صامتة للحظات طويلة على غير عادتها ثم منحته ابتسامة من القلب وهي تجيب
((بالتأكيد فهم عائلتي، أحبهم ولا أغلى عندي منهم))
أومأ مُصعب مخفضًا بصره.. فطالعته مفكرة بأنه وبكل صراحة يشعرها بأمان وراحة واحتواء دافئ يجعلانها ترغب في كثير من الأحيان أن تشكو وتفرغ بعض ما مرت به في الماضي خاصة قبل ما سبق زواجهما له وكيف تخلى والديها عنها ببساطة وقرارهم في التضحية بها لإنقاذ باقي العشيرة.. ليعوضها به ويحتويها بدفئه الذي غمرها به سابقًا.. إلا أنها قررت أن تصرف النظر عن ذلك وعدم التحدث بشكل سيء عنهما.. بل أن تمتدحهم وتمتدح علاقتها معهم!
عقدت يديها خلف ظهرها وهي تراقبه يفتح خزانة الملابس ويخرج شيئًا منها ثم سألته بتسلية
((هل أنتَ متعب من العمل؟))
أبعد عنه مئزره ليظلّ جذعه عاريًا بينما يخرج قميص منامته وهو يجيبها
((أظل واقفًا طوال فترة عملي بالتأكيد سأكون متعب))
توقف لثوانٍ عما يقوم به ليلاحظ كيف تتأمل جذعه بتدقيق جريء وقح.. تغضن جبينه وهو يراها تتقدم منه سائلة
((هل تحب أن أساعدك في تغير ملابسك؟))
نأى عنها وهو يرتدي أي منامة حطت في يده بينما يقول وقد شاب نظراته الاشمئزاز
((لا أريد شكرًا لكِ))
إلا أنها أصرت وحاولت بقوة أن تحرره من قميص المنامة وهي تلح
((إذن هل أمسد عضلاتك المتعبة؟ اخلع قميصك وسلمني نفسك وصدقني ستشعر بالاسترخاء..))
بتر كلماتها عندما نفض عنه يديها اللتان كانتا تمسكان بقميصه بغية نزعه عنه ثم ثار بها بغضب متقد بينما يبعد
((توقفي عما تفعلينه..))
توسعت عيناها رهبة ووجف قلبها فجأة وقد كانت هذه أول مرة تشهد غضبه منذ زواجهما! فهمست ذاهلة بخفوت مغلف بالخوف
((ما بكَ يا مُصعب؟))
جاهد بصعوبة أن يتحكم بأعصابه كي لا يندلع غضبه كله دفعة واحة! ثم اكتفى أن رشقها بنظرة مضطرمة بنار ضيقه مما فعلته صارخا
((بل أنتِ ما بكِ! لا ينقص إلا أن تمزقي قميصي))
بصوت خافت أجابته بينما تحاول التحكّم بنبرتها المرتاعة
((لم أقصد، كنت أحاول فعل شيء يزيل تعب عملك..))
عاد يصرخ بها بما جعلها تتراجع خطوات للخلف
((ابتعدي عني ولن تجدي طريقة أفضل لذلك إذن!))
مرت دقائق عليهما وكل واحد منهما متسمر مكانه لا يُسمع إلا أصوات أنفاسهما الثقيلة.. ثم دمعت عيناها ذهولًا متصاعد مما حدث وتزايدت وتيرة أنفاسها المرتعشة من بين شفتيها وهي تقول
((أنتَ تشك بعفتي على خلاف ما قلته؟ صحيح؟))
ظل ينظر لها للحظات طويلة حتى أدرك عما تتحدث عنه فهمس متعجبًا
((ما هذه الترهات التي تخرج منكِ!))
أسدلت جفنيها تمنع دموعها من الانزلاق.. ساقاها مرتعشتان وأنفاسها كانت مضطربة للغاية.. لكنها استطاعت أن تقول بصوتها المتذبذب
((لماذا لم تقتادني للطبيبة في ذاك اليوم حتى تتأكد من عذريتي؟ لماذا لم تفعل بدلًا من العيش حتى الآن في حالة شك ونفور مني))
أطلق نفسًا غير مسموع ثم قال بصوتٍ مثقل
((أنا لا أنفر منكِ، إذا كان هناك أية نفور فسببه عائلتك وعشيرتك التي تنتمين لها فقط لا ما حدث في تلك الليلة))
فتحت نورين عينيها المغرقتين بالدموع وهي تقول بصوتها المرتعش
((والدتك تضل تسألني عن الحمل، وحتى أمي، وانا لا أستطيع أن أخبرهم عن ابتعادك عني..))
قاطعها صارخًا باستهجان
((هل أعجبك ما فعلته بكِ في ذلك اليوم إلى حد أنكِ ترغبين بتكراره؟))
تأملته بغير وضوح كيف تلوح في عينيه الجميلتين آثار الغبن والقهر والغضب.. من نفسه.. فطال الألم ثنايا قلبها وهي تسمع ما ينطقه باشمئزاز.. ولأول مرة تسبب بإشعارها بأنها حقًا فصيلة.. سلعة قابلة للاستبدال والتعويض فداءً لحل آخر نزاع قد نشب بين عشيرتها وعشيرة الكانز!
تشتت نظر مُصعب وهو يتجول به في أرجاء المكان وشعر بأنفاسه تكاد تنطبق في صدره! ما يفعله كان أقل من طبيعي كردة فعله.. لكن ما يعجر عن فهمه هو كيف تكيفت على وجوده بسهولة دون أن تهابه! إنه حرفيًا لا يكاد يصدق قدرتها على الحديث والمزاح والضحك معه وكأنما زوجان طبيعيان! ولا يستوعب كيف يمكنها بعد التقارب الأول والوحيد الذي حدث بينهما أن ترغب في تكراره بل والإلحاح عليه بكل فجاجة وانعدام حياء أ خجل فطري في أي أنثى أمام رجل لا يظهر لها إلا الصد والتباعد والنفور.. حتى لو كان زوجها!
هم يُخرج حقيبة صغيرة ووضع فيها بعضًا من ملابسه وأغراضه وهو يقول من بين أنفاسه القوية
((سأنام بعيدًا عن هنا لعدة أيام))
أغلق سحاب الحقيبة وخطا نحو الباب فأجلت حلقها مردد بتهدج ومتردد في التشبث به
((إلى أين ستذهب؟ أرجوك لا تغادر))
إلا إنه كان بحاجة للمغادرة بل يتوق للابتعاد عنها.. بحاجة للتفكير واستعادة توازنه والسيطرة على زمام حياته وما حدث مؤخرًا بها!
وسرعان ما سمعت صوت فتح الباب قبل أن يصفقه خلفه فتهالكت جالسة على طرف السرير وهي تجهش في البكاء!
=============================
في شركة القاني..
خرجت شيرين من دورة المياه المخصصة للنساء في العمل وهي تتفقد حاجيات حقيبتها قبل أن تتسمر مكانها وهي تتذكر بأنها نسيت سوارها هناك.. بتلقائية عادت لدورة المياه تسير بخفة قبل أن يرهف سمعها لحديث متبادل بين اثنتين من زميلاتها في البهو الأخر تتحدثان
((لماذا أخبرتِ شيرين أنكِ حامل؟ فأل سيء أن تقول الحامل بأنها كذلك قبل الشهر التاسع.. لا تنزعجي مني ولكن أنا أقول ذلك لمصلحتك))
((وكيف كنتِ تريدين أن أطلب منها إجازة وأقدم لها مراجعاتي الطبية بدون أن تعلم أني حامل! لكن هل تظنين حقًا بأنها ستحسدني؟))
((ربما، فبالإضافة لكونها عازبة حتى الآن، فأنا سمعت إشاعات بأنه سبق وتركها خطيبها في نفس يوم الزفاف المفترض بعد أن اتهمها في أخلاقها.. أوه لا.. نحن لا نعرف الحقيقة ولا نريد أن نظلمها لمجرد إشاعات قد تكون غير حقيقية.. لنغير الموضوع))
((معكِ حق.. فنحن لا ندري صحة هذه الإشاعات من عدمها، كما أن شيرين زميلة لطيفة ومراعية))
دارت شيرين على جانبها تنكس رأسها متظاهرة بأنها تعدل وشاحها أمام المرآة عندما سمعت اقتراب وقع أقدامهن من الباب حتى خرجن دون أن ينتبهن لعودتها.. وحينها فقط استطاعت أن ترفع وجهها الشاحب وتنظر لانعكاسه في المرأة الضخمة اللامعة أمامها..
تكورت غصة حادة في حنجرتها فوقفت عاجزة عن بلعها وهي ترفع أناملها تمسح عَبرة فارة من عينيها..
هي ليست غافلة عن خشية زميلاتها وصديقاتها الحديث عن سعادتهن الزوجية والأمومة أمامها.. لكن يظل الأمر صعبًا قليلًا أن تسمعه بأذنها مباشرة..
حاولت أن تقلل من تشنج ملامحها ثم رفعت ذقنها شامخة لتخرج من دورة المياه باتجاه مكتبها وجلست خلف طاولتها..
بمجرد أن دخلت عندها زميلتها الحامل حتى جاهدت نفسها أن تدبر ابتسامة أمامها دون أن تشعرها بأنها سمعت كلماتها بينما تسألها الأخرى بتهذيب
((إلى أين يجب أن أذهب لأكمل إجراءات إجازتي يا شيرين؟))
أجابتها شيرين بلطف آسر
((لا داعي لأي إجراءات أخرى، لقد أتممت الأمر من عندي.. إجازة سعيدة وعودي لنا بعد الولادة بكل صحة وعافية))
اتسعت عينا زميلتها وهي تخبرها بامتنان
((أنا أكثر من شاكرة لكِ على تعاونك معي))
أومأت شيرين برأسها هادرة
((لا بأس، هذا واجبي))
بمجرد أن خرجت زميلتها حتى تنهدت شيرين تدخل الهواء الى صدرها المختنق ثم تزفره علها ترتاح قليلًا من الثقل الذي يجثم فوق أنفاسها! عادت تنظر في حاسوبها تكمل عملها وتضغط فوق أزرار الحروف رغم ارتجاف أناملها.. بينما تأمل نفسها بأن هذا البؤس كله سينتهي.. وقريبًا ستتزوج.. وليس من أي رجل.. بل من رائدٌ جذّاب.. شديد الوسامة.. ويُشهد له بالحكمة ودماثة الخلق..
انتشل شيرين من شرودها تصاعد رنين وصول رسالة لهاتفها.. فأمسكته ليتضح لها أنه من محاميها.. فقد كان اليوم هو موعد لقاءه مع وليد.. وهي ارتأت أن تحضر اجتماعهما حتى تتحدث مع وليد بشكل فردي.. لكن لن تخسر شيء لو حاولت مع وليد.. فقط محاولة من خلالها تتحدث معه كإنسانين ناضجين وتوعي ضميره لعله ينسحب كمحامي من طرف موكليه!
.
.
وكان هذا ما حدث عندما حضرت هي ومحاميها مكتب وليد..
ظلت تلتزم الصمت وهي تصغي لهما يتحدثان ويتناقشان.. وكان هدف هذا الاجتماع أن يصل الطرفين إلى حل مُرضي وتعويض معقول بعيدًا عن جلسات المحكمة.. لكن انتهى الأمر كما بدأ دون أي نتائج تُذكر..
طالع وليد محامي شيرين كبير السن ذو الشخصية الرزينة يحادثها بصوتٍ غير مسموع قبل أن يقول له منهي هذه الزيارة
((على ما يبدو يا سيد وليد الكانز فلا مناص لنا من لقاء تالي في المحكمة.. هيا بنا يا أنسة شيرين))
إلا أنها ظلت جالسة مكانها لا تحيد عينيها عن عيني وليد بينما ترد على محاميها
((سأتحدث مع السيد وليد قليلًا ثم أغادر))
لن يكذب وليد إن قال بأنه شعر بنيران مستعرة لقربها من هذا المحامي وحديثها معه.. ولولا كبر سنه ووقار حديثه في الحديث إلا أنه لم يكن ليمسك نفسه عن الفتك به.. فتجلت على وجهه ابتسامة جانبية وهو يقول بحذاقة
((أهلًا وسهلًا بكِ يا أنسة شيرين في أي وقت))
قال المحامي لموكلته بهدوء
((تحدثي أمامي يا أنسة شيرين إذا كان حديثك يخص القضية المرفوعة))
رفعت شيرين نظرها له قائلة بصوت سلس
((سأجلس معه قليلًا لأتحدث بموضوع آخر.. لا تقلق.. يمكنك المغادرة))
استسلم محامي شيرين لرغبتها وألقى التحية قبل مغادرته.. فرد وليد بفخر تلألأ في ملامحه الحادة
((أنا فعلًا سعيد لبقائك هنا يا كحيلة العينين! هل تريدين أن يحضروا لك شيئا معين؟))
قالت شيرين له بوجهها الجامد الجاف متجاهلة أي كلام أو حديث جانبي آخر يحاول إثارته
((ألست أنتَ نفسك يا وليد من قلت في أيام كلية المحاماة بأنكَ لا تنصح أحد أن يدخل هذا المجال إلا لمن وثق من نفسه بأنه سيتحرى الحق وينصر المظلوم ولا يعين الظالم! إذن ما الذي تغير لتجعل نفسك تميل إلى إعانة موكليك على الظلم والعدوان وأخذ حق الناس بالباطل؟))
رفع وليد حاجبيه بتهكم! إذن هي هنا لمحاولة جعله ينسحب من قضية موكليه!
ظهرت علامات التسلية على وجهه وهو يقول مستخفًا
((لم يوكلوني يا شيرين بل أنا من قمت من تلقاء نفسي في العمل عندهم))
ردت عليه وصوتها يخرج متكسرًا ضائعا
((وهذا ما يجعل الأمر أفظع.. فالمحامي المحترم يتحرى الحق ويطلب الحق ويحرص على إيصال الحق إلى مستحقه، لا ما تفعله أنتَ))
زم وليد شفتيه في محاولة كبح ضحكته ليقول
((هل هذه محاولة استعطاف يا كحيلة العينين؟))
رسمت ابتسامة قاسية وقالت
((بل محاولة إيقاظ ضميرك إذا كنت لا تزال تملك واحدًا))
تلوى فاهه بابتسامة عنجهية بينما يرد
((ضميري لا أفقده إلا عندما يتعلق الأمر بكِ.. على عكس حال قلبي))
ارتجف صوتها بغضب وعيناها تبرقان هادرة
((متى تنوي أن تعتقني يا وليد؟ ألم تكتفي من كل ما فعلته بي؟))
بتشوش عاد يتسم قائلًا بصوتٍ مبحوح
((لقد توقفت منذ زمن عن الانتقام.. أريدك أن تتوقفي أنتِ الآن))
ضيّقت عينيها المكحلتين تسأله بتيقظ
((لم أفهم.. ما هو الأمر الذي عليّ التوقف عنه؟))
شبّك أنامل يديه وأمال جذعه يخبرها بصوتٍ متحشرج خافت
((كبريائك وعنادك، فقد تخليت عنهما رغم تأصلهما بي وحان الآن لتتخلي أنتِ.. فلا جريمة أكبر فداحة من هذه تجاه حبنا))
اضطربت حدقتيها وهي تخبره باستهجان
((الحب؟ وهل تعرف أنتَ معنى الحب؟ هل تظن بأني سأصدق بأنك أحببتني يومًا بعد كل ما فعلته بي ولا زلت تفعله!))
حافظ على تقاسيم وجهه وهو يردد بصدق نابع من أعماقه
((أنا لم أحبك وحسب.. الأمر تخطى الحب فأنتِ جزء مني.. وأريد استعادته بأسرع وقت أقدر عليه))
رمقته بخواء وكأنها جثة ثم غمغمت
((تستعيده؟ هل حقًا تظن بأن بعد كل ما فعلته بي سيكون هناك أملًا لعودتنا؟ وماذا بشأن زوجتك؟ أنتَ لست أعزبًا))
نظراتها الخاوية قبضت على قلبه واعتصرته لكنه ابتسم متهكمًا وهو يخبرها
((زوجتي أمرها عائد لها في البقاء أو لا.. ولا حق لكِ في التدخل في هذا الموضوع))
شعرت شيرين بالدموع الحارقة تخز عينيها ولكنها قاومت إخراجها لتغتصب ابتسامة ناعمة وهي تسأله بتهكم مرير
((وماذا كان رأيها في زواجك مني؟ أوه أعني هي بالطبع لن تقدر على الاعتراض فهي لم تنجب لكَ.. ومن حقك أن تحظى بأولاد ومن هناك أفضل مني حتى تكون وعاء لأطفالك؟))
نظر لها يقول بنبرة تجمد الجحيم بصقيعها
((ظريفة جدًا.. لكن لا.. فلو كان سبب رجوعي لكِ الإنجاب لكنت تزوجت قبل سنوات طويلة.. سواء كان لي من جُمان أولاد أو لا فمرجوعي في النهاية لكِ أنتِ))
همست له بصوت أجوف
((فقط في أحلامك أيها الوضيع))
انعكف فاه وليد وتحداها بمقلتين ضيقتين
((بل هذا ما سيحدث يا كحيلة العينين، واعتبريه وعدًا وقسمًا بالله بأنكِ ستكونين زوجة لي برضاكِ أو لا))
نطق لسانها على الفور قبل أن تسمح للهمجية التي تحتوي عقل هذا الكائن أمامها بإخراجها عن طورها
((هل تعرف ماذا يا وليد! لو اكتفيت بهجري في يوم زفافنا فقط لكان الأمر أهون عليّ بدرجات مضاعفة.. أما في زواجك من أخرى غيري تشاركها حياتك وروحك وجسدك بنفس اليوم الذي كان من المقرر أن يتم زواجنا به هو ما حطمني لشظايا وجعلني أعاهد نفسي ألا أعود لك مهما فعلت، فزواجك قطع أي خيط يمكنه أن يربطنا يومًا من جديد..))
شعرت بتقرح روحها من ألم ذكريات وأحداث ماضيهما لكن استطرت بصوتٍ يشع انتقام
((أتمنى أن تشعر عند زواجي من رجل غيرك ما شعرت به بالضبط عند زواجك))
كان يعرف وليد بأنها تقول ما تقوله بقصد إيذاء قلبه وبأنها لن تقدر أن تتزوج غيره ومع ذل قرر أن ينتقم منها بالمثل فأعطاها نظرة مصممة كالأسد في عرينه وهو يخبرها متوعدًا وعيناه تلمعان بتحدٍ سافر
((ما رأيك آن قلت لكِ بأني سأبقى مرتبطًا بزوجتي تلك التي تمقتيها وستتقبلين وجودها رغمًا عنكِ عندما أتزوجك!))
تكذب لو قالت بأنها في هذه اللحظة لا تتمنى أن تضرم بغرور وجبروته نارًا لا قِبَل لها.. تكذب إن قالت بأنها لا تتمنى لو تنتشل قلبه من بين أضلعه لتلتهمه علّها تحقق شيئًا من ثأرها.. فوجدت نفسها تقول بمقت شديد وهي تنظر في عينيه ورغبة الانتقام منه تقطر من كل حرف
((أنا لن أكون لكَ أبد الدهر، واقبل هذا التحدي وأراهنك بذلك يا وليد))
رمت آخر ما عندها ثم استقامت من مكانها نحو الخارج فوجودها معه في نفس المكان يشعرها بشيء خانق يطبق على أنفاسها.. في حين ظل هو مكانه جالسًا وضيق شديد يتسلل لقلبه.. إنها تخطط لفعل شيء ما وعليه ألا يستهين بها.. فنظراتها تلك هي نفس النظرات التي صوبتها له قبل أن تفعل ما تسبب في إنهاء علاقتهما أول مرة وما جعله يقوم بتركها في يوم الزفاف!
.
.
اتكأت شيرين التي خرجت من المطعم بظهرها على سيارتها ورفعت هاتفها تطلب رقمًا بشكلٍ سريع قبل أن تضعه على أذنها هادرة بدون مقدمات
((سهر الليالي أين أنتِ؟ أريد التحدث معكِ بموضوع مهم))
وصلها صوت سهر المتلكئ
((ألا يمكن تأجيله قليلًا؟))
قوست شيرين فمها بابتسامة جانبية ماكرة ثم قالت بصوتٍ خطير
((إنه فقط بخصوص زواجي القريب، يمكننا الحديث لاحقا إذا لم تكوني متفرغة))
شهقة مصدومة كانت ردة فعل سهر قبل أن تقول بلا تصديق
((لحظة.. لحظة.. لحظة.. أي زواج هذا يا شيري؟))
اكتسحتها نشوة وهي تجيب ((زواجي أنا))
ثوان كانت قبل أن تطلق سهر وابل من الأسئلة عليها
((زواجك؟ أنتِ؟ من هو؟ متى؟ كيف؟))
كانت عيناها شاردتان تفكر في ردة فعل وليد عنما يعلم بخبر زواجها.. مدركة أن صدمة سهر هي نقطة في بحر الصدمة التي سيعيشها هو..
ظلت عينا شيرين شاخصتان في الفراغ أمامها وهي تقول ((سأخبرك كل شيء بالتفصيل.. فقط حددي مكان للقاء))
قالت سهر من بين أنفاسها اللاهثة
((دقائق بسيطة وسأكون حاضرة عند مقهانا المعتاد))
=============================
انتهى الفصل.
|