جاء برايس قبل ظهر اليوم التالي لإصطحابها . فنسيت كل قلقها عندما رأت وجهه الجذاب وأناقته الدائمة وحاولت جهدها أن تظهر مرحها , وكانت ترتدي ثوباً باج له جيوب عريضة وتشد خصرها بحزام رفيع .
نفض غليونه وهو يفتح لها باب السيارة , هذه الحركة يقوم بها كل ما كان على غير طبيعته . وما أن إنطلق بسيارته حتى ساد بينهما التحفظ من جديد ككل مرة يبتعدان فيها عن جو العمل .
" أعتقد أننا سنغيب كل النهار وسنتوقف فى بورتو طالما أن المدينة تقع في طريقنا "
" إنها فكرة ممتازة " أجابته على أمل يتابع الحديث ولكن الأمر توقف عند هذا الحد , وتشاغلت سارا بتأمل المناظر الرائعة الممتدة أمامهما .
وهكذا وصلا إلى بورتو بصمت وتنزها بين الأحياء الهادئة الواقعة قرب النهر . ثم زارا آثار المدينة القديمة قبل إتجاههم نحو كروم دورو الممتدة حتى المرفأ , وتوقفا لشرب المرطبات في أحد المطاعم , وفي الساعة الثالثة قال لها برايس وهو ينظر إلى ساعته" لابد أن إستراحة الغداء إنتهت الآن في الأقبية "
وكانت سارا قد نسيت تماماً موعدهم في فيلا نوفادي غايا ولم تكن متحمسة لهذه الزيارة وتفضل عليها هدوء الأسوداد .
سلكا طريق دورو عبر جسر ( دون لويس ) وكانت أقبية ومصانع المونويل دادورو وبير منستر تقع في بقعة واسعة . وما أن أوقف برايس سيارته حتى ظهر جاسنتو لإستقبالهم وكان يسير نحوهما بخطوات الرجل الواثق من قدرته على النساء .وفكرت سارا بأن المعجبات به كثيرات ومع أنه كان يثبت نظره على المدير وهو يرحب بهما إلا أن سارا كانت تشعر بأنه يحدق بها .
تبعا مضيفهما إلى الداخل ونزلوا درجات خشبية ثم درج حجري يؤدي إلى الأقبية , إرتعشت سارا عند دخولها ولكن هذا ليس فقط بسبب الرطوبة أحست بإنقباض ولم تجد شيئاً مثيراً أخاذاً بين هذه الصفوف اللامتناهية من البراميل , كما أنه لا يجب عليها أن تنسى أن مضيفهما يشرفهما بهذه الزيارة فتظاهرت بالإستماع له بإنتباه .
كان هناك رجال يرتدون قمصان بيضاء يروحون ويجيئون في الممرات الطويلة حاملين في أيديهم صواني مليئة بالكؤوس .
" هؤلاء الذواقة " شرح لهما جاسنتو . " ولكنهم في الواقع لا يتذوقون إلا نادراً , يستعملون ألسنتهم وأحناكهم لا يبلعون أبداً "
ثم مروا أمام عمال يدحرجون أمامهم البراميل .
" نحن متشاركون مع بير منستر ,شريكنا اللندني الحالي والبورتو الخاص بمنويل دورو ليس له أي منافس "
فكرت سارا على الفور بالإمتياز الخاص الذي يتمتع به آل كارفالو في وادي أموريدا .ومن خلال ما رأته من نشاط في مرفأ لاسو محطة تصدير خمورهم للخارج , فهم من أول المصدرين إلى الخارج ولكنها لم ترغب بمجادلة مضيفها إلا أنها إعترضت بلطف " من المؤكد أنه يوجد منتجين لديهم نفس المواصفات أليس كذلك؟ "

وكأنه كان يفكر أيضاً بآل كارفالو فأجابها مضيفها بسخرية " أولئك يزرعون عنبهم في أرض تقل خصوبة وجودة عن أراضينا وهم أغبياء جداً لأنهم يعتقدون أن خمورهم تتفوق على خمور الآخرين , إن خمور عائلة دورو التي منها إسمنا ,هي الأفضل بالنسبة لنا ولبلاد الخارج "
تظاهرت سارا بالإقتناع ولكن موقف مضيفها المتعجرف جعلها تفكر بالموضوع من جديد فمع أنه لم يذكر إسماً معيناً إلا أنه كان يبدو يلمح إلى خمور وادى أموريدا , من المؤكد أنه يوجد بين الشركتين منافسة حادة. وباتت سارا مؤكدة أن الدورو هو العدو الذي كلمها عنه السيد كارفالو وابنه .
وهذا ما يفسر لها حماس جاسنتو لفكرة تشييد المصفاة في لاسو : فهكذا يقع المرفأ بين يدي البيراميدون ويتم إبعاد آل كارفالو عن تجارة البورتو . وهذا ما يترك الساحة خالية أمام طموحات الدورو .
اخفضت سارا عينيها وتظاهرت بالتمتع بطعم الخمر إذا كان آخر إحتمال صحيح فإنها تتعاطف بالطبع مع آل كارفالو , خاصة وأن جاسنتو يبدو متعجرفاً وإستغلالياً .
وصلوا أخيراً إلى أعلى الدرجات المؤدية إلى غرفة منيرة مخصصة للزوار من الذواقة . وصلها برايس أولاً وإستقبله على الفور إحدى مساعدي جاسنتو , وكانت سارا لا تزال في الخلف في ظلام الدرج . فجأة قطعت ذراع طريقها وسمعت صوت مضيفها يهمس بأذنيها " هذه اللوحة المعدنية التي يشير إليها والتي كان الزمن قد جعل من الصعوبة قراءتها وخاصة في هذا النور الخفيف" . وكانت سارا مقتنعة أن مضيفها لا يريها عادة لزواره فحاولت أن تبعد ذراعه عنها.
" إذا كان هذا لا يزعجك " قالت بهدوء . " أنا أرغب بالمرور سيد دورو "
" نادني جاسنتو " أجابها مبتسماً دون أن يبتعد عنها " أحب أن أسمع إسمي من شفاه الجميلات " .
كانت سارا تدرك قدرته على إغراء الفتيات لكنها لا تشعر بأي إنجذاب نحوه بل على العكس كانت تشعر بالإشمئزاز من لمسة يده لكتفيها .
" الكثيرات من البورتغاليات يملكن شعراً أشقر " همس بأذنها " لكن شعرك ... يشبه الشمس ... " .
لاحظ برايس أنهما لم يتبعاه فعاد إلى الأسفل فإغتنمت سارا فرصة ظهوره كي تبعد جاسنتو عن طريقها . لم تكن تدري إذا لاحظ مديرها شيئاً وأحست بإحمرار وجنتيها لكن مضيفها لم يبد عليه أي إنفعال .
إبتلعت سارا كأسها دون أن تتذوقه , كانت ترغب فقط بالعودة إلى الهواء الطلق ولم تشعر بالراحة إلا عندما أصبحا في الخارج وبعد أن حيت مضيفها بإبتسامة قصيرة تركت برايس يشكره ويستأذن منه .

أثناء طريق العودة لم يلمح برايس لشيء وكأنه لم يلاحظ ما جرى بينها وبين جاسنتو وشعرت بالسعادة لعودة الجو الهادىء بينها وبين مديرها .
كانت الشمس قد غابت عندما عادا إلى لاسو , وأعجبت سارا بمنظر الغياب وتمنت لو تعرف أثر هذا المنظر الجميل على برايس ونظرت إليه خلسة وأعجبت بملامحه القاسية التي تبدو رقيقة في الظلام , وأحست بإنفعال قوي ملأ قلبها فأخفضت نظرها وكانت السيارة قد توقفت أمام الأسوداد .
مد برايس يده وساعدها في النزول من السيارة فدق قلبها بسرعة وإرتعشت يدها ولم تستطع سوى أن تقول متلعثمة " شكراً . كان نهاراً رائعاً " .
بدأ الإرتباك على وجه المدير الذي من طبيعته عدم الثرثرة ولم يجد ما يقوله . إحتفظ بيدها للحظات بين يديه ثم حياها تحية المساء وإبتعد بينما أسرعت سارا إلى غرفتها .
في الأيام التالية كانا يغيبان عن الأسوداد كثيراً لزيارة فاعليات المدينة . وكان برايس قد عقد علاقات جيدة مع التجار وكبار الشخصيات . وكان على سارا أن تساعد برايس بتخطي كل العقبات التي تقف في وجه مشروع المصفاة ولذلك كانت تحافظ على أناقتها وتتجول مع مديرها في المدينة ويوطدان معرفتهما مع الأهالي . وكانت الشركة مستعدة لبذل كل شيء في سبيل البلدية العامة , وساهم بمبلغ كبير لترميم بعض الآثار التاريخية , وقدم مساعدات لتوسيع المدرسة الثانوية . وكانت سارا ترافقه في كل هذه المناسبات . وتلقيا الكثير من الدعوات ودخلا إلى منازل كثيرة في لاسو ولم تكن سارا معتادة على المجاملات والثرثرة . وكان من حسن حظها أن بعض مضيفيهم كانوا يجهلون الإنكليزية وبالمقابل كان برايس يتكلم البورتغالية بلسان طلق . وقد علمت سارا أنه تعلمها في البرازيل حيث كان يعمل لبضعة سنوات في أحد فروع البيراميدون .
شيئاً فشيئاً أخذت الفتاة تهوى البورتغال وأهله وطبيعته وأصبحت ترى أن حياتها في سوثمبتون كانت رتيبة ولم تعد تثير فى نفسها أية ذكريات . بينما كلما تأملت منظراً أو سارت مع مديرها في شوارع المدينة تحس بقلبها يمتلأ بفرح غريب إلا أن قوس قزح سمائها تحطم ذات يوم .
كان يجب على برايس أن يمر على مكتبه في المرفأ ليحضر بعض الوثائق الهامة , فرافقته سارا ولم تكن قد زارت مكاتب الشركة الواقعة في المرفأ منذ مدة طويلة فتفاجأت بالتغيرات التي إستحدثت هناك وكانت البيراميدون قد أحرزت في بضعة أسابيع نجاحاً ملموساً . فكل المؤسسات الصغيرة التي كانت أمام المرفأ إختفت الآن وعلى طول الارصفة تشعر بوجود الشركة النفطية .

حاول برايس أن يقضي على مخاوف سارا عندما غادرا المكتب وهو يحمل مجموعة من الأوراق ويهزها بمرح" هذا آخر كسب يبقى أمامنا على المرفأ ! " .
ثم مد يده بشكل دائري وأضاف " كل ما ترينه أمامك أصبح ينتمى للبيراميدون . لم يبق سوى شركة تصدير البورتو في آخر الرصيف ترفض البيع . ولكننا لن نسمح لهم بإعاقتنا " .
أحست سارا بالأرض تمتد تحتها عندما لمحت سفن النقل التابعة للكارفالو . ولاحظ برايس شحوبها المفاجىء لأنه سألها " ما بك ؟ أهذا الخبر لا يسعدك ؟ " .
" اوه بلى أنا سعيدة جداً " أجابته محاولة إظهار حماسها .
ثم أضافت بمرح مصطنع" لم يكن يجب على أن أشرب كثيراً من هذه الخمور المحلية القوية "
لكن برايس نظر إليها بشك ولحسن الحظ تعثرت وهي تركب السيارة وأملت أن يكون مديرها عرف ذلك لإكثارها من الشرب .
لم تتفاجأ سارا عندما أرسل السيد كارفالو يطلبها في اليوم التالى , وإستطاع سائقه أن يجدها بنفس الطريقة عندما كانت تتجول في شوارع لاسو فتبعته إلى سيارته بدون أي إعتراض .
كان السيد كارفالو يروح ويجىء في مكتبه عندما أدخلوها . فاستقبلها بترحيب كعادته لكنه كان يبدو قلقاً بشأن تقدم نشاط البيراميدون . إستجوب الفتاة وعيونه مثبتة على الخريطة , وكان مثلها مذهولاً أمام التقدم الذي أحرزته الشركة النفطية في المرفأ .
صمت للحظات ثم أشار إلى الموقع الذى ستقوم عليه المصفاة وإلى الارض الواسعة التي أشار برايس إليها في الأمس . " في هذه المنطقة سيبذل برايس تايلور جهوده حالياً " .
ثم تأمل الفتاة وأمرها بحزم " من الآن وصاعداً آنسة مارتندال ستقدمين لنا تقارير أسبوعية " .
في طريق العودة كانت سارا تشعر بالإضطراب وهي تفكر بالإتجاه الذي أخذته الأحداث . لم تكن أبداً تعتقد أن برايس سيحرز كل هذا النجاح , كل آماله كانت تبد ضعيفة في البداية ومع ذلك تمكن ببطء مدروس من تخطي حواجز كثيرة . وتذكرت فرحه عندما إشترى الأسوداد وأثاثه الفاخر , كانت تجهل حتى الآن أنه بالنسبة للأعمال أكثر عناداً من السيد كارفالو نفسه . لو كانت تعلم أن برايس سيصل إلى هذا البعد لما قبلت أبداً بالعمل إلى جانب آل كارفالو .
الايام التالية كانت شاقة بالنسبة لسارا , فحاولت جهدها أن تخفي إضطرابها . لكنها كانت دائماً تشعر بنظرات مديرها الذي يراقبها مفكراً . وعندما كانت ترافقه إلى لاسو كانت ترعبها فكرة لقاء سائق كارفالو . كان يجب عليها أن تعلم بأن آل كارفالو حذرون جداً ولم تكن قد إتفقت معهم على موعد محدد لزياراتها لهم . إذا كانت دائماً على أهبة الإستعداد .

بعد ظهر أحد الأيام , وبينما هي تتجول في الشارع أحست بيد تمسك ذراعها وبصوت يهمس بأذنها
" نهارك سعيد آنسة مارتندال أيمكنني أن أوصلك إلى مكان ما ؟ " .
إلتفتت إلى الخلف بسرعة وإلتقت بنظرات جاستنودورو الوقحة فإبتعدت عنه , ولاحظت أنه يقف أمام سيارة سبور فخمة جداً خضراء . وكان جاستنو بأناقته المعتادة , لكن سارا لم تكن لتتأثر أبداً لا بشخصيته ولا بسيارته.
" لا ضرورة لذلك , شكراً لك " أجابته بجفاف " أفضل السير على ركوب سيارتك " .
" إذاً , الزهرة الناعمة لديها أشواك " قال مبتسماً بسخرية " لكننا سنجد وسيلة لإزالتها " .
" دعني , سيد دورو " قالت له بحدة .
ورأت إبتسامته الشاحبة تحت تأثير غضبه . ثم ركب سيارته وإنطلق مسرعاً وكأنه يضمر لها الشر . وأدركت أنها لم تتخلص منه نهائياً .
دعا برايس تايلور بعض الشخصيات المهمة لزيارة موقع المصفاة وأقام على شرفهم حفلة إستقبال في الأسوداد أشرفت سارا على تنظيمها .وحولت تحضيرات المنزل إلى خلية حقيقية . البستانيون كانوا منهمكين حول شتول الأزهار والخدم يقومون بتنظيف المنزل . واستدعى برايس أوركسترا مشهورة جداً لتضيف جواً حيوياً على الإحتفال .
في هذا المساء إجتاح سارا قلق شديد وكان يجب عليها إخفائه . ففي الأيام الأخيرة كان لديها أسباب كثيرة للإحساس بالفرح والمرارة بنفس الوقت , وإرتدت لهذه المناسبة ثوباً أبيض مكشوف الصدر وأحاطت عنقها بعقد ذهبي وجمعت شعرها الذي أصبح الآن طويلاً بشكل مرتفع .
كانت قد نزلت عندما بدأ المدعوون بالوصول . وكان برايس تايلور مميزاً في بدلته السوداء الانيقة وقد خرج لإستقبالهم بينما كانت سارا تنتظر في المدخل .
وصلت مجموعة من الرجال الرفيعي المستوى وكلهم يرتدون بدلات تدل على نجاحهم . سلموا على عليها بحرارة وأبدوا إعجابهم بالديكور الذي يحيط بهم . ثم وبكل بساطة إنضموا إلى بقية المدعوين. في الصالون الواسع المضاء بالثريات الكبيرة . كان الموسيقيون يرتدون بدلات ملونة ويعزفون أجمل الألحان , إقتربت سارا من البوفيه لتتأكد من أن الجميع يأكلون ويشربون , ثم تجولت بين الغرف وهي تشعر بأنها محط أنظار الجميع وأدركت ببعض الفرح أن برايس أيضاً لا يرفع نظره عنها .
ولمحت جاسنتودورو أكثر من مرة . كان هو أيضاً يراقبها بنظراته الوقحة ولم تجد صعوبة في تجنبه لأنها كانت مشغولة ببقية المدعوين , وبالطبع كانت تعطي أكثر إنتباهها لممثلي البيراميدون الذين حضروا لإبداء ملاحظاتهم حول تطور سير العمل في المشروع. وأبدوا رغبتهم بشرب كأس معها فإنضمت إليهم وإبتسمت لمزاحهم ومرحهم.كانوا راضين جداً عن سير العمل ولم يخفوا إعجابهم بسياسة برايس .