عين الحب عمياء
في الصباح التالي رنّ جرس الهاتف , فتناولت موراغ السماعة وأصغت الى أبن الخادمة ألسي ويتس يقول لها أن أمه مريضة ولا تقدر أن تحضر الى الفندق في ذلك اليوم.
وحين نقلت موراغ الخبر الى أمها , قالت لها أمها :
" هذا يعني أن عليك أن ترتبي غرف النوم , لأن هذا ما كانت تقوم به ألسي كل يوم ثلاثاء".
وراحت موراغ تغني بقلب منشرح وهي تكنس الغرف وتمسح الغبار , كان الطقس لا يزال رائقا وجليديا , وأذا أستمر كذلك طوال الأسبوع , فهذا يعني أن التزلج في نهاية الأسبوع يكون على خير ما يرام ,وفي الليلة الماضية قبلت موراغ دعوة آن الى مرافقتها في رحلة الى مكان يدعى أفيامور , بعد أن شجعتها جين على القبول وتبرّعت بدفع النفقات , كان هذا جزءا من الخطة التي وضعتها آن لتساعد موراغ على الأبتعاد عن ديفيد أجتماعيا , قدر الأمكان".
وبعد أن أنهت موراغ ترتيب غرفة بيتر وتنظيفها , دخلت غرفة ديفيد للغرض نفسه , كانت الغرفة في مواجهة البحر , فرفعت الستارة وراحت تتمتع بمشهد البحر قليلا , ثم أستدارت وأخذت تجوب الغرفة بنظراتها , فوجدت أن ديفيد لم ينم في فراشه , فلا بد أن يكون أشتغل طوال الليل , وسيعود لتناول طعام الفطور وأخذ قسطه من النوم في ذلك النهار , ورأت موراغ أن البزة التي لبسها ديفيد , عند خروجه مع فرجينيا لقضاء السهرة , ملقاة على السرير , فسارعت الى تعليقها في خزانة الثياب , وأمسكت موراغ المكنسة الكهربائية وبدأن تكنس السجادة , وهي عازمة أن تنتهي من ذلك قبل قدوم ديفيد.
وفي هذه الأثناء كانت تستعيد ذكرى الحديث الذي جرى بينها وبين بيتر وجين في الليلة الماضية , فعلمت أنهما سيتزوجان في مطلع السنة الجديدة , وأن الفندق سيباع,وأن جين سترافق بيتر الى حيث يذهب بعد أن يكون أنهى عمله في المحطة , وكان الأثنان حريصين على معرفة ما تنوي موراغ أن تفعله في المستقبل , فسألها بيتر , وهو الرجل العملي , أذا كانت ستتزوج آندي حين يعود , فأجابته بأنها غير متأكدة من ذلك , فهو لم يذكر أي شيء عن ذلك في رسائله , فما عليها ألا أن تنتظر عودته.
وفي ذلك الحديث , قال لها بيتر أيضا:
" أذا لم تتزوجي يا عزيزتي , فبأمكانك أن تأتي معنا الى حيث نقيم , والأرجح الى أميركا الجنوبية".
فقالت موراغ:
" هذا لا يجوز , سأطلب من آندي أن ينتظر سنة أخرى".
قالت هذا وهي تعلم أنها يجب أن تبت الأمر عندما يعود , فلو كانت تحبه لكان الأمر سهلا ,ولكن كان عليها , وعاطفتها نحو ديفيد على ما هي, أن تنتظر ماذا سيكون مصير هذه العاطفة , هل هي عابرة أم لا؟ فلأيام خلت كانت مستعدة أن تذهب معه الى أقاصي الأرض أذا دعاها ,أما الآن فلا.
وفيما موراغ غارقة في هذه الأفكار , وهي في غرفة ديفيد , أحست بيدين تمسكانها بخصرها من الوراء , فألتفتت , وأذا بديفيد يقف خلفها ويقول كلاما لم تفهمه بسبب صوت المكنسة الكهربائية.
فصاحت به قائلة:
" ماذا تقول؟".
فوضع ديفيد قدمه على محرك المكنسة فأنقطع التيار الكهربائي عنه , وقال لها:
" يسرني أنك هنا ,بدل تلك المرأة الشمكاء التي تنظف الغرفة لي , كما جرت العادة".
فقالت له موراغ:
" ألسي ليست شمطاء , وهي لم تقدر على الحضور اليوم لأنها مريضة , فأضطررت أن أنوب عنها في تنظيف الغرف".
قالت هذا تحت وطأة نظراته التي كانت تتأملها بنهم ,من رأسها حتى قدميها , ثم لم يلبث أن أغلق الباب وجذبها اليه وأجلسها بجانبه على السرير .
فقالت موراغ وهي تحاول الأفلات منه:
" ألا تريد أن تتناول طعام الفطور؟".
فأجابها ديفيد:
" أنت دائما تتهربين من الموضوع حينما تشعرين بالخوف مني".
وأخطأت موراغ حين نظرت اليه في محاولة للرد على كلامه , لأنه مال عليها وعيناه تشعان بالضحك , فلما تراجعت قليلا وجدت أن رأسها بين ذراعيه , فقالت له بتضرع:
" دعني ,كفاك مداعبة , فأنا لا أطيق ذلك".
وأغمضت عينيها ,فقال لها:
" ما أجملك يا موراغ , حتى وعيناك مغمضتان!".
فقالت وهي تبذل جهدها للتملص منه :
" هل قضيت , أنت وفرجينييا , سهرة ممتعة ليلة أمس؟".
فأجابها:
" قلت لك مرارا أن لا تتدخلي في شؤوني , هذا لا يليق بك , آه , وجودك بقربي شيء عظيم , ولكنني الآن متعب ولم أنم منذ ليل الأحد".
وأفلت ديفيد يدها , ففتحت عينيها لتراه يقف رافعا ذراعيه فوق رأسه ويتمطى متثائبا , وهو يقول لها:
" أخرجي حالا ودعيني أستسلم للنوم".
فتعجبت من وقاحته , ولم تفهم أنه قال هذا الكلام عن خبرة بمعاشرة النساء , فهو بذلك وضع اللوم عليها فيما حصل.
وفيما هي تملم أدوات التنظيف , قال لها:
" هل أنت ذاهبة الى السهرة الراقصة ليلة الجمعة؟".
فأجابت :
" كلا!".
فقال:
" لماذا ؟ هل عندك بديل أفضل؟".
فأجابت من دون أن تذكر المكان:
" سأذهب الى التزلج !".
فعادت اليه حماسته ومهارته في الأغراء , فقال:
" أتسمحين لي أن أرافقك ؟ فأنا لا أبالي بتلك الحفلات الساهرة !".
ففكرت موراغ في نفسها قائلة : ( أذن , سيحضر حفلة ساهرة مع فرجينيا ,ولكن لماذا يريد أن يذهب الى التزلج؟ ), وعزمت على التصدي له هذه المرة , مهما أستغل دهاءه ومهارته في الأقناع , فرفضت طلبه بحزم.
وسارت صوب باب الغرفة و هي تدفع المكنسة الكهربائية أمامها , فأعترض طريقها بسرعة فائقة وقال لها:
" لماذا ترفضين ؟ ظننت أننا صديقان ...... قضينا وقتا ممتعا يوم الأحد الماضي , فلماذا لا نقضي مثله في الأحد المقبل؟".
فنظرت موراغ أمامها بحيرة وخوف من أن ينهار سور دفاعها , ثم أستجمعت قواها وقالت بأصرار :
" كلا!".
وكان قميص ديفيد مفكوك الأزرار , فبان شعر صدره الأشقر وخصره الأبيض الناصع , مما جعل الدم يجري حارا في عروق موراغ , ولكنها تغلبت على ضعفها وأصرت على الرفض.
وفجأة مال عن طريقها فأندفعت الى الأمام مرتعبة ومغتاظة من قوله لها ضاحكا:
"تعالي الي الساعة الخامسة ,يا صغيرتي".
وفيما كانت تفتح الباب لم تتمالك من النظر اليه , فأذا به ينزع عنه قميصه وهو يدير ظهره اليها , فسارعت الى أغلاق الباب وراءها بشدة , علامة الأستياء.
وفي طريقها نزولا على الدرج قالت في نفسها :
" لماذا حدث ما حدث؟ وكيف تجرأ أن يعاملها كما لو كانت خادمة في منزل ؟".
وشكرت الليه على أنه منحها القوة على رفض طلبه هذه المرة , فقضاء عطلة أخرى برفقته , لا بد أن يؤدي الى ما لا تحمد عقباه.
وأعانها مزاجها الغاضب هذا على تجنبه الى نهاية الأسبوع , وتجاهلت كل من في الفندق ولم تتكلم ألا قليلا مما أقلق أمها.
وجاء يوم الجمعة فذهبت موراغ مع رفاقها الى كيرنغرومز للتزلج , وخلال اليومين اللذين قضتهما هناك تمتعت بجميع أنواع التسلية والرياضة والرقص والغناء , أذ كان الطقس صافيا وباردا , والروابي تنعم ببياض بهيّ , وكلما خطرت ذكرى الأحد الماضي ببالها , صرفتها عنها وأستسلمت للبهجة والمرح.
ولكن حين أفرغت آن ما في جعبتها , ليلة الأحد , من تعليق على أحدث النهار وأطفأت النور في الغرفة التي كانت تنام فيها , أنقلب مزاج موراغ من البهجة الى الكآبة , أذ عودها شوقها الى ديفيد , وعبثا حاولت أن تركز أفرادها على آندي , فكانت , كلما أستجمعت في ذاكرتها صورة وجهه , وجدت أن صورة وجه آخر محتها وأخذت مكانها , كان ذلك وجه ديفيد الذي لم يعد يساورها الشك بأنها تحبه ....... وهذا الحب لم يكن عاطفة عابرة , كما تظن أمها , بل عشق لا يجعلها تريد أحدا سواه.
وفي الصباح الباكر , وهي في طريق العودة الى الفندق , سيطر عليها الغم , وكرهت الوقت الذي أنفقته في تلك العطلة , وأذ كانت تجلس في سيارة داني , أخذت تتطلع من النافذة الى المناظر التي كانت تمر بها وهي تقابل في ذهنها بين أسلوب داني المتسارع الفج في قيادة السيارة وبين أسلوب ديفيد الهادىء المنتظم , ثم سألت نفسها هل ستقضي عمرها في مقارنة ديفيد بكل جل ستتعرف اليه؟
وحين وصلت الى الفندق كان الطقس ماطرا , والمطبخ دافئا , وجين تعد بعض الكعك , فتبادلت معها التحية بأبتسامة باهتة وجلست الى الطاولة.
فقالت لها جين :
" كيف قضيت العطلة ؟ هل كان كما توقعت؟".
فأجابت موراغ:
" لا بأس , الفندق مريح وفخم لمن يفضل الفخامة ,والطعام شهيّ ولكن ليس كما في فندقنا , وهناك أكواخ للمبيت في الجبل , يمكن أستئجار واحدا عندما يعود آندي ".
ولاحظت جين أنها تبذل جهدها لأظهار حماسها وأهتمامها , فقالت لها:
" والتزلج ؟ هل كان على ما يرام؟".
فأجابت :
" رائع جدا , وحين رأيت المدربين السويسريين , والأستراليين , أدركت كم خبرتي بالتزلج ضئيلة!".
فقالت لها جين :
" هل تفضلين ذلك المكان على الذي ذهبت اليه الأسبوع الماضي؟".
فلزمت موراغ الصمت , وهي تساعد أمها في تهيئة صواني الكعك .
ولما طال صمتها قالت لها جين :
" هل تشكين من شيء يا أبنتي ؟ أراك شاحبة الوجه قليلا , أرجو أن لا تكوني أكثرت من التزلج".
فأجابت موراغ:
" أنا في خير يا أماه , كانت الرحلة متعبة , وداني لا يحسن قيادة السيارة , وأنا أفضل هوايت كراكز , مع أن سفوحها لا تضاهي سفوح كيرنغورمز في شيء , ثم أن المهم هو الرفاق".
وتوقعت موراغ تلك النظرة التي رمقتها بها جين , ولكنها سرّت حين أخذت جين تحدثها عن شؤونها الخاصة ,فقالت:
" كانت السهرة الراقصة ناجحة جدا , جلست أنا وبيتر الى طاولة واحدة مع لوندنغز وأبنته , يا له من رجل ساحر وراقص ماهر , ألقى خطابا رائعا في الحفلة , وتمنى لبيتر السعادة في زواجه المقبل.........".
قالت جين ذلك وأخذت تقهقه بهدوء وهي تستعيد ذكرى تلك السهرة , وأستندت موراغ بذراعيها الى الطاولة , ووضعت وجهها بين كفيها بأنتظار المزيد من حديث أمها.
وبعد قليل تنهدت جين وقالت:
" كانت سهرة ممتعة.........لولا عيب واحد".
فقالت موراغ بدعابة :
" معم , كانت الشورباء باردة ,وقطعة اللحم....".
فقاطعتها جين قائلة:
"كلا ......لم يكن هذا هو العيب , فالطعام كان خيرا من المعتاد.....".
وهنا دخل بيتر , قبل أن تكمل كلامها , فقالت له :
" ماذا تعمل هنا في هذا الوقت من النهار؟".
فأجابها بيتر :
" لسبب مؤسف , وهو أن أحد العمال وقع وكسر ظهره , ولكنه لم يفارق الحياة , فجئت لأخبر زوجته".
ثم ألتفت الى موراغ وسألها أذا كانت تمتعت بعطلتها الأسبوعية , فلما أجابت بالأيجاب لم يصدقها لأنه قرأ ما كان باديا على وجهها , فقال لها:
" لا أرى ذلك على وجهك , كان خيرا لك أن تحضري السهرة الراقصة , كانت ناجحة جدا , وقضينا وقتا ممتعا , ألا توافقين يا حبيبتي جين؟".
فأجابت جين :
" نعم , وكنت أقول لموراغ قبل مجيئك أنه كان للحفلة عيب واحد , وهو أن ديفيد لم يقبل بمرافقة فرجينيا , فأستعاضت عنه بشخص آخر يدعى طوني بلاند".
فسألتها موراغ:
" ومن هو طوني بلاند؟".
فأجابتها :
" شاب رائع , وهو يقيم عندنا الآن , لأنه لم يجد مكانا في فندق رويال".
قال بيتر :
" وهو رجل ذكي , وأن لم يظهر ذلك عليه ........ وأعزب أيضا".
وأرادت جين أن تستخبر من بيتر لماذا لم يذهب ديفيد الى السهرة , فأجابه بأنه لم يسأله عن السبب , فما دام الأنسان يقوم بوظيفته خير قيام , لا حق لأحد أن يتدخل في شؤونه الخاصة , ولكن بيتر أشار , بطريقة غير مباشرة , الى أن ديفيد أضطر الى العمل في المحطة حتى ساعة متأخرة من ليلة الجمعة , فلم يتمكن من حضور السهرة ".
وقالت جين :
" مع ذلك , كان عليه أن يخبر فرجينيا أنه لن يحضر ..... كما كان عليه أن يخبرني أنه لن يكون هنا يوم السبت حين جاء لونغدون وأبنته فرجينينيا لأخذه معهما الى قضاء عطلة نهاية الأسبوع في الشمال , وهذا , على ما أعتقد , تصرف غير لائق , وكانت فرجينئا على يقين أنني أعرف أين كان ديفيد , لأنها سألتني عنك , يا موراغ ,ظنا منها أنك ذهبت برفقته الى التزلج , كما في الأسبوع الماضي , وكم شعرت بالأرتياح حين عاد الى الفندق ليلة السبت".
وقال بيتر :
" الآن فهمت لماذا هاجمته صباح الأحد , عندما جاء لتناول طعام الفطور ".
فقالت جين :
" آه , كم كنت أتمنى أن أنتف شعره! وكل ما فعل , ردا على تصرفي نحوه , هو أنه غرق في الضحك قائلا أنني أذكره بأمه , ولكن , لو كانت أمه أدّبته كما يجب , لما تصرف ذلك التصرف مع تلك الفتاة المهذبة".
فهز بيتر رأسه ,وهو يحرك فنجان الشاي ,وقال :
" لا شك لي بهذا الأمر , وكل ما يمكنني قوله هو أن ديفيد أراد أن يري فرجينيا أنه لا يطيق تحكمها به , فهي متكبرة متعجرفة , كما تعلمين , وأعتادت على أدارة شؤون أبيها الأجتماعية والمالية والأدارية ,بعد وفاة والدتها ".
فقالت جين بغضب:
" لو عاملني أي رجل كما يعاملها ديفيد لنقمت عليه الى الأبد".
فنهض بيتر وطوقها بذراعيه قائلا:
" لا أحد يجرؤ على معاملتك هكذا , يا حبيبتي , لأنك فهيمة ولا تتدخلين بشؤون الآخرين , وتوفرين كل ما يتطلبه الرجل : الدفء , والطعام الشهي , والكلمة الحلوة ,والرفاهية ,والأحترام , والسكوت حين ينبغي السكوت , فهذه هي مزايا المرأة الفاضلة".
فسرت جين لهذا المديح وصرحت بأنها لا تستحقه , فقال بيتر:
" علي الآن أن أعود الى المحطة , ليته كان بوسعي أن أبقى معكما ........ وكل ما أرجوه هو أن تكون فرجينيا فهمت الدرس الذي قصد ديفيد أن يعلمها أياه , ففي غضون الأسبوع الماضي كانت تتصل به في المحطة , أعتقادا منها أنها , كونها أبنة رئيس الشركة ,تتمتع بحق طلب فرصة لديفيد كلما عنّ لها ,وهي لذلك تريد أن يكون مركز عمله في لندن , حتى يرافقها الى كل الحفلات الأجتماعية التي تعشق حضورها .....نعم , وأظن أن ديفيد في خطر الآن , ويهمني أن أرى كيف سينجو من هذا الخطر...........".
قال بتر هذا الكلام وودع جين وموراغ وخرج عائدا الى المحطة ,
وساد الصمت قليلا بعد خروج بيتر , وأنصرفت جين الى عملها , بينما أخذت موراغ تشرب فنجانا آخر من الشاي , وهي تحاول أن تحزر أين كان ديفيد مساء السبت.
وقالت جين لموراغ:
" الآن فهمت أي رجل هو ديفيد , فهو لا يفي بوعده ,ويحرج موقف الفتاة التي سيتزوجها".
فلم تجب موراغ على ملاحظة أمها , لأنها لم تشعر بحاجة الى ذلك , فهي تعرف أن ديفيد هكذا , وأن كونه هكذا لا يقدم ولا يؤخر على الأطلاق في عاطفتها نحوه.