على شفير الحب
كان النهار التالي معتدلا ورطبا , أذ أستنفذت العاصفة قوتها أثناء الليل .
وفيما كانت موراغ تبحث عن بعض الأوراق البرية لتضمها الى باقات الزهور , بدأت الغيوم تنقشع رويدا رويدا لتظهر شمس الخريف الباهتة اللون.
وكانت قطرات المطر تتلألأ على الأوراق كما تتلألأ حبات الفضة , وكان لون البحر , فيما وراء سور الحديقة , يتبدل من الرمادي الى الأزرق الغامق.
وأستندت موراغ الى السور الحجري وحدقت الى الأفق البعيد , وهي غارقة في تأملاتها عبر التاريخ القديم , حين كان ذلك الشاطىء موطئا لأقدام الغزاة الأبطال , ذوي الشعر الذهبي والعيون الزرقاء.
وقطع حبل تأملاتها ضجيج محرك سيارة , فتطلعت من فوق السور , فأذا بسيارة صغيرة حمراء اللون تعبر من أمامها بسرعة وتستدير عند المدخل , وتقف بأزاء الرصيف خارج الباب الأمامي ,وفتح باب لسارة ,فخرجت ساقان طويلتان تلبسان سروالا غامق اللون , ثم تبعهما رأس ديفيد هاكيت وهو ينزل بصعوبة من مقعد السائق , وما أن أغلق باب السيارة حتى عادت موراغ مسرعة الى متابعة بحثها عن الأوراق البرية , آملة أن لا يكون رآها مختبئة بين شجيرات الحديقة , ولكن أملها خاب , ذلك أنه رآها , فحياها وقال لها:
" لمحتك تتطلعين من فوق السور , فلماذا أنت مختبئة؟".
فأجابت موراغ:
" مختبئة ؟ كلا , أنا أجمع بعض الأوراق البرية".
وخرجت من وراء أحدى الشجيرات الى الممر ووقفت قبالته , وهي تحاول أن تضبط أعصابها وتظهر بمظهر اللامبالي , والواقع أن حضوره جعل قلبها يخفق خفقانا سريعا.
وحدقت موراغ الى ديفيد , من دون أن تبتسم , فلاحظت أن أطراف شعره الذهبي حجبت فكّيه وفمه , وأن بشرة وجهه باهتة اللون وبياض عينيه يشوبه الأحمرار , على أن أبتسامته كانت جذابة الى أقصى حد.
وقال لها ديفيد:
" كنت أتمنى أن تكون تحيّتك لي أكثر حرارة وودا , ولكن لا بأس , فأنت رائعة الحسن".
وبذلت موراغ جهدها لتجاهل نظرته المغرية وكلامه المليء بالمديح , لأنها عزمت على التصرّف لا مجال فيه للعاطفة , فقالت:
" أخبرنا بيتر أنك قد تعود الى الفندق متأخرا هذه الليلة , فهل تريد أن تتناول طعام الفطور قبل أن تأوي الى فراشك؟".
فأجابها ديفيد:
" نعم , وخصوصا أذا كنت أنت هي التي ستقدمه اليّ".
وتطلع عبر سور الحديقة وتابع قائلا:
" ما أجمل هذا المنظر , أنت محظوظة بالأقامة في مثل هذا المكان , هل أنت من هواة السفن الشراعية؟".
قال ذلك بنبرة سريعة تنم عن أهتمام صادر من صميم قلبه فأجابت موراغ:
" نعم , في الصيف , والآن , أسمح لي أن أذهب لأخبر أمي بأنك هنا , كي تهيء لك طعامك".
فسارع ديفيد الى القول:
" لا , لا تفعلي , أنت أختبأت عندما رأيتني , ثم تحاولين الآن الهرب مني".
وأم***ا بذراعها وقال:
" لست جائعا الى الحد الذي لا يسمح لي أن أسألك بعض الأسئلة وأتمتع بهذا النسيم العليل ,فأنا أريد أن تخبريني ما هي أسماء تلك الجزر هناك , على مسافة من الشاطىء".
ولكن موراغ أبت أن تلين , فأنتزعت ذراعها من يد ديفيد وأخذت تردد أسماء الجزر بصوت صارم جاف , ولكن ذلك لم يؤثر في موقفه منها , بل زاده حماسة في متابعة الحوار معها , فقال:
" أخبرني بيتر أن المناظر الطبيعية هنا لا مثيل لها , ولكنني لم أصدقه بادىء الأمر , فالبارحة تنزهت بسيارتي في طريق الشاطىء , فما رأيت غير المطر والضباب , أسمحي لي أن أسألك عن تلك الجبال التي يشاهدها المسافر نحو الشمال!".
وكان من المحال أن تتجاهل موراغ أهتمامه الظاهر المخلص بما يتحدث عنه , فأضطرت الى الرد على أسئلته.
ثم قال لها ديفيد:
"لا شك أنك تحبين الأقامة هنا".
فأجابت موراغ:
"لا بأس بالأقامة هنا في الصيف , حين يجيء الزائرون , ولكن في الشتاء يعم الهدوء ولا يحدث شيء يذكر , وذلك يبعث الضجر , فأنت ترى أن الذين في سن الشباب قليلون هنا...... لأن معظمهم يذهبون الى العمل في المدن".
ونظرت اليه موراغ بحياء , ثم مالت بنظرها عنه وسارت نحو الفندق بعصبية ظاهرة , فسار ديفيد بجانبها وقال:
" لا أعتقد , يا موراغ , أن هذا المكان يبعث الضجر , لا هذا المكان ولا سواه ..... فهو يكون كما يصنعه الأنسان , ولعلك من حداثة السن , بحيث لم تتوصلي بعد الى معرفة هذه الحقيقة".
فقالت موراغ بحدة :
" أنت تتكلم كأنك شيخ طاعن في السن!".
ضحك ديفيد أعجابا وقال:
" أظن أنك في حوالي العشرين من العمر , فأنا أذن أكبر منك بعشر سنين ..... وأكثر منك خبرة في الحياة بما لا يقاس ......ولم يبق لي ألا قليل من البراءة!".
قال ذلك مداعبا , ثم تابع كلامه بجد مظهر لها أن دارلينغ لا يمكن أن تكون مكانا مضجرا , ما دامت تقيم فيها.
وهكذا مارس دايفيد براعته المعهودة في أجتذاب النساء اليه ,وكانت هذه البراعة تتخلص في أنه كان يجعل المرأة حائرة بين الشك في صدقه واليقين.
لذلك لم تهتم موراغ أن تجيب , بل فتحت الباب ودخلت الى البهو الخارجي , وتجاهلت وجوده معها , فذهبت الى أناء نحاسي كبير على طاولة التلفون وتناولته لتضع فيه الزهور والأوراق التي جمعتها في الحديقة.
فقال لها ديفيد:
" لا بد أن يكون هناك نشاط ما تساهمين فيه خلال فصل الشتاء!".
فأجابت :
" نعم , خصوصا أذا سقط الثلج , ولكن ليس هنا على الشاطىء , وأنما هناك في الجبال , حيث يمكننا أن نتزلج".
فقال ديفيد :
" نعم , التزلج! فكيف سها عن بالي ؟ أرجو أن تأخذيني معك عندما يسقط الثلج , فأنا أحسن اتزلج , ولكن لا أعدّ نفسي من أبطاله".
وتثاءب ديفيد فجأة وفرك عينيه , كان تعبا جدا , فالأفضل له أن يذهب الى النوم بدل أن يتابع الحوار مع موراغ من دون جدوى.
وهذا ما خطر ببال موراغ , وقد أخذت تشعر نحوه بشيء من التقدير , فقالت له:
" ألا تعتقد أنك يجب أن تأوي الى فراشك يا سيد هاكيت؟".
فهز رأسه موافقا وقال:
" نعم , وسأستغني عن تناول طعام الفطور وأذهب الى النوم , ولكن شرط أن تناديني ديفيد , وأن تأخذيني معك الى التزلج على الثلج عند أول فرصة".
فلم يسع موراغ ألا الأبتسام , وهي تقول :
" يا لك من رجل ملحاج! حسنا , أعدك يا ....... ديفيد , والآن أذهب عني!".
ومر الأسبوع مرورا خاطفا , وكان من عادته أن يتباطأ ويجري على وتيرة واحدة , وذلك بفضل وجود ديفيد .
وكان ديفيد يروح ويجيء الى الفندق على هواه , فيحضر لتناول طعام الفطور في التاسعة أو العاشرة صباحا وهو ناعس العينين , من دون أن يفارقه المرح ,وكانت موراغ تخجل في بادىء الأمر أن تدخل غرفته لتوقظه من قيلولة بعد الظهر , ولكنها أعتادت على ذلك .ووجدت أنها , مهما صرخت ونادته بأسمه , لم يكن ليستيقظ من سباته العمق , فكان عليها أن تهزه بكتفه , حتى أذا فتح عينيه هربت مسرعة من الغرفة قبل أن يبادر الى التحدث اليها.
فما أن ينهض ويلبس ثيابه حتى يندفع الى المطبخ , وعبثا قالت له موراغ بلباقة أن في الفندق غرفة خاصة بالنزلاء , وعليه أن ينتظر فيها الى أن يتم تهيئة الطعام في الغرفة المعدة له , ولكنه لم يقبل بكلامها , بل أصرّ على الحضور الى المطبخ الدافىء حيث كان يتجاذب أطراف الحديث مع جين عن أسفاره ومغاماته , وكان يلمّح ألى أنه طاه ماهر , فيصف بعض الأطعمة الغريبة , وكانت جين. كعادتها في حسن الضيافة , ترضى بجلوسه في المطبخ , على أن موراغ بذلت جهدها لتجاهل وجوده هناك , لا لأنه كان يوجه الكلام اليها كثيرا , بل لأنها كانت , بينها وبين نفسها , تؤخذ بطريقة أقاصيصه وحكاياته , ذلك أنه شاهد كثيرا في أسفاره ولقي عديدا من الناس الذين يثيرون الفضول والأهتمام , وكانت موراغ, في كل يوم , تعزم على مغادرة الغرفة حالما يدخلها ,ولكنها كانت تجد نفسها مسمرة في مكانها , بفعل الأثر الذي كانت تتركه في نفسها أحاديثه الشيقة عن أقطار غريبة كم كانت تود أن تتاح لها فرصة زيارتها , للتعرف اليها عن كثب.
وفي مساء يوم الجمعة ذهبت موراغ لزيارة صديقتها كايتي , في الجانب الآخر من دارليغ ,وكانت النجوم قد بدأت تشع في السماء مع الأنوار التي كانت تنطلق من المحطة عبر الخليج , وكان المنظر ساحرا حقا , فتذكر موراغ كيف أن الأهلين عارضوا أنشاء المحطة خوفا من أن تشوه جمال تلك المنطقة , ولكن معارضتهم هذه لم تنجح , نظرا الى الفوائد التي كانت ستسفر عنها , ومن ذلك ما نعمت به المنطقة من أزدهار نتج عن كثرة المهندسين والخبراء القادمين اليها لبناء المحطة , وعن تشغيل الأيدي المحلية العاملة فكانت أن زالت كل معارضة , خصوصا بعدما تبيّن أن المحطة لم تكن تظهر بأزاء التلال الخضراء وراءها , على أنها في الليل كانت تبدو كقصر سحري تتلألأ أضواؤه فوق مياه البحر الداكنة .
كانت كايتي فتاة سمراء صغيرة القامة طليقة اللسان , فما كادت موراغ وصديقتها الأخرى آن روس تجلسان في غرفة الأستقبال حتى بادرت كايتي الى سؤال موراغ عن رأيها في ديفيد , فتعجبت موراغ كيف علمت كايتي بمجيئه , ولما أستخبرتها أجابت بأن جوني قال لها أن ديفيد جاء بديلا عن مديره الذي أقعده المرض , وأنه رجل قدير جدا , فضلا عن أن الفتيات كلهن يقعن في غرامه.
فقالت آن :
" لا أستغرب ذلك".
وأزاحت جدائل شعرها الأسود الطويل عن وجهها , أجابت موراغ:
"كيف تقولين ذلك؟ هل تلاقيتما؟".
" نعم , كنت في الطريق أنتظر الباص , فنقلني في سيارته وهو عائد من المحطة , ما أسعد حظك يا موراغ , لأنه عندك في الفندق, لو كنت مكانك لترنحت غراما كلما دخل من الباب!".
وقطبت موراغ جبينها وهي منكبة على تطريز ثوب العرس الذي بين يديها ,وفكرت في نفسها أن آن مثال الفتاة التي تقبل بأن ينقلها رجل غريب في سيارته ,وخيّل اليها أن ديفيد المحدث البارع , وآن الجريئة الوقحة , وجدا الكثير مما يجمع بينهما.
وقالت آن :
" هيا يا موراغ! أخبرينا عن ذلك الفتى الرائع الذهبي الشعر".
فأجابت موراغ:
" لا شيء أخبركما به عنه سوى أنه لا يروق لي".
فقهقهت آن ضاحكة وقالت:
" هذه صراحة عرفت عنك ,ولكن , لماذا لا يروق لك؟ هل حاول أن يغازلك؟".
فلمعت عينا موراغ أحتجاجا على طريقة التعبير وأجابت:
" أنا أفضل الرجال الصادقين الذين لا يستخدمون المبالغة في المديح ولا النفاق في الأطراء!".
فقالت آن ساخرة:
"ها ها ! أذن , فهو يحاول معك هذا الأسلوب في الأغراء! وهو أسلوب غير ما تعودته من آندي , فلا عجب أن تضطربي وتستنكري , وأسمحي لي أن أسألك : هل آندي قادر على الكلام؟ فأنا لم أسمع منه سوى الجعير".
وهنا صاحت كايتي في وجه آن قائلة:
"" كفى يا آن , أنت تزعجين موراغ بهذا الكلام".
فقالت آن :
" آسفة , قد أكون محسودة منك يا موراغ , فالفتى الذهبي لم ينطق ألا بالقول بي : ( أين تريدينأن تنزلي؟) هذا مع العلم أنني حاولت الفوز بأعجابه ,ولكن أظن أنه صياد نساء ماهر , فخذي حذرك منه!".
ورأت كايتي أن الحديث عن هذا الموضوع قد طال وحان تغييره , فأقترحت أن تسمع صديقتيها أغنية جديدة صدرت حديثا.
وأنقضى ما تبقى من السهرة على خير ما يرام , فكن يخطن ويصغين الى الموسيقى , وأنضمت اليهن السيدة بار , والدة كايتي , فقدمت اليهن القهوة والفطائر ,وعند الساعة العاشرة والنصف نهضت موراغ مودعة وأسرعت الى الشارع عائدة الى الفندق مشيا على قدميها.
وكان وقع خطواتها يسمع في تلك الطريق الخالية , وهي تستعيد كلام آن الساخر عن آندي , وعبثا تمكنت أن تبعث آندي في ذاكرتها , فبقي طيفا لا شكل له ولا رسم ,ومالت الى الأعتقاد أنه يفتقر الى فن المحادثة والحوار , ولكنها لم تتوقع منه غير ذلك يوما من الأيام , فالكلام يقل بين أثنين تصاحبا منذ أيام الدراسة الأبتدائية , فضلا عن أن الأسكتلنديين قوم طبعوا على الخجل وصعوبة التعبير .
على أن بينها وبين آندي كثيرا مما يجمع ولا يفرق , فكلاهما يحب السير على الأقدام , وركوب الزوارق الشراعية , والسباحة , والتزلج على الثلج , وكانت علاقتهما صميمة ,ولو لم يطلب يدها للزواج منه , غير أنه سيفعل حين يعود في العيد , وستجيبه الى طلبه , وكل شيء سيجري على ما يرام , وسيعيشان في بيتهما الصغير في دارليغ , وحين يسافر للعمل , من وقت الى آخر , تبقى وحدها بأنتظار عودته .
هكذا كانت موراغ تفكر وهي تسير نحو البيت , ولم يقطع عليها حبل تفكيرها غير وقوف سيارة بجانبها وصوت ديفيد يقول لها :
" أصعدي".
فترددت موراغ في القبول , لم تكن تريد صحبته ,ولكنها كانت من جه أخرى ترغب في التخلص من التفكير في آندي ومستقبلها معه , ولم يخف على ديفيد ترددها , فقال لها ساخرا:
" أذا كنت تفضلين السير على قدميك فلا بأس , لن يزعجني رفضك!".
وأدركت موراغ أنها أساءت التصرف معه مرة أخرى , فما كان منها ألا أن أنحنت وصعدت الى السيارة وهي تقول له:
"كيف عرفتني في هذه العتمة؟".
فأجابها ديفيد:
" عرفتك من ساقيك!".
وحين أبدت أستنكارها , قال لها ديفيد :
" ما الخطأ في ذلك؟ فساقاك جميلتان جدا , وهذا نادر في هذه الأيام , وأنا أتمنى أن لا تغطيهما دائما بالسروال".
ولم تكن موراغ معتادة على سماع مثل هذه الملاحظات الخصوصية , فألتزمت الصمت , مما دفع ديفيد الى مزيد من المداعبة ,فقال:
" أرى أنك أضطربت من كلامي , وهذا نادر أيضا..... وأريد أن أسألك: لماذا تكرهينني؟".
وحارت موراغ بماذا تجيب , وكيف تكافح رجلا كهذا.
وتابع ديفيد قائلا:
"كوني صريحة , لا تشفقي عليّ ولا تكذبي , فنظراتك المعادية لي تفضحك , وهي تجعلني أهتز وأرتجف.......فأنا لم أتعود أن أكون مكروها من أحد ........ ما بك لا تتكلمين؟ هل فقدت لسانك؟".
فثارت موراغ لهذا التحدي ,وجاءت الكلمات قاسية جارحة على لسانها , فقالت:
" أنا لا أميل اليك...... لأنك وسيم الطلعة , وأنت تعرف ذلك , ولأنك حلو المعشر وشديد الثقة بنفسك , تكيل المديح للناس , في غفلة منم , كما تفعل مع والدتي , على أمل أن تكسب رضاهم فتنال ما تريد , فأنت مغرور وأناني , ولا شك أن لك عشيقات في كل مكان, وهمك أن تقنع كل واحدة منهن أنها هي المفضلة , ولكن الحقيقة هي أنك لا تحب أحدا ألا نفسك....... فكيف تنتظر مني ,وهذه حالك , أن أميل اليك وأعجب بك؟".
قالت موراغ هذا الكلام الشديد اللهجة وجلست تنتظر ردة فعله بخوف ورعدة.
وساورها الندم على ما أظهرته من عجز عن ضبط نفسها , أما كان من الأفضل أن تكبت عواطفها وتحتفظ برأيها , فلا تعطيه مبررا لمهاجمتها بكلامه اللاذع؟
ولكن , كم كانت دهشتها شديدة حين قال لها , بعد صمت طويل ,وبضحكة زادت في أثارة غيظها وأستنكارها :
" ليتك يا موراغ تعلمين كم أنت طريفة ومنعشة للروح! أما قال المثل : خذوا أخبارهم من صغارهم؟ وه أنت الآن تبدين رأيك فيّ , ولم يمض على معرفتك بي أكثر من أسبوع , ولكنك على صواب , فأنا أعرف أنني رجل وسيم , وأرجو أن أكون أيضا حلو المعشر , وأنا أبذل جهدي لأكون لبقا في تصرفاتي , فأبتسامة هنا وكلمة مهذبة هناك تعين على تخفيف أعباء النهار , أما أن أكون مغرورا , فهذا ما لم أتأكده بعد....... فأنا نشأت في عائلة لها خمسة بنين , وكان عليّ أن أكافح للحصول على ما أريد , أناني أنا؟ ربما , فمعظم الرجال أنانيون ........ هل كان لي عيشقات كثيرات؟ نعم , لماذا لا؟ أنا أنسان من لحم ودم , ولكنني ما أسأت الى أية واحدة منهن".
وشعرت موراغ انها , بعد هذا الكلام , كبالون منفّس , فتحليله الممتع لرأيها فيه أثبت لها أنها لا تزال غتاة مراهقة تعوزها الرهافة وعمق النظر ,وأذا كانت قد قصدت أن تجرحه بكلامها , فأنها لم تنجح هذه المرة أيضا.
وسألت موراغ نفسها:
" أما من طريقة تتغلب بها عليه؟".
وفي الدقائق الأخيرة , قبل وصولهما الى الفندق , شعرت موراغ بأنها تكرهه أكثر من أي وقت مضى , فدهشت لذلك أشد الدهشة , وحين وصلا , أوقف ديفيد السيارة وأطفأ المحرك وفتح لها الباب , فشكرته موراغ بصوت خافت فقال لها:
" لا أنتظر أن أنال منك أكثر من الشكر , نظرا الى رأيك السيء فيّ , وهذا مؤسف ولكن القناعة كنز لا يفنى!".
وأخطأت موراغ حين أدارت وجهها نحوه , لأنها بذلك جعلت وجهها قريبا جدا من وجهه , وحاول ديفيد أن يغتنم الفرصة ,ولكن موراغ تراجعت بسرعة ونزلت من السيارة وأتجهت نحو البيت , فلحق بها وهي تدخل البهو ,وقال لها بلهجة عادية , كأن شيئا لم يكن:
" ما أجمل هذا البيت , هل أقمت فيه دائما؟".
فهدأت هذه اللهجة الحميمة من غضبها , فلم يسعها ألا أن تجيب :
" نعم , هذا البيت لعائلة والدتي , حوّلته الى فندق منذ بضع سنوات......... وحين مات والدي أصبح مورد رزق لنا".
قال ديفيد:
" فكرة رائعة , فأمك طاهية ماهرة".
وحانت منها ألتفاتة فرأته يفتح باب غرفة الأستقبال مما سرّها لأنها تتخلص منه هكذا ,ولكنها ما أن تابعت سيرها نحو المطبخ , حتى ناداها قائلا:
" قفي يا موراغ , أنتظريني".
وفي لمحة بصر كان يمشي الى جانبها مرة ثانية , وهو يقول لها :
" لم أجد بيتر في غرفة الأستقبال , هل تعرفين أين يمكن أن يكون الآن ؟ لا أظنه ذهب الى الفراش".
فأجابت موراغ:
" لعله في المطبخ مع أمي".
فظهرت عليه الدهشة ,ولكنه سرعان ما رفع أحد حاجبيه الذهبيين وقال بخبث:
" ها ها .......هكذا أذن!".
فقال موراغ بأنزعاج:
"ماذا تعني؟ لا أفهم ما تقول".
فأجابها ديفيد مداعبا:
" تمهلي قليلا , هل يتردد بيتر الى المطبخ كثيرا؟".
فقالت موراغ:
" نعم , كل ليلة تقريبا...".
صمت ديفيد قليلا , ثم قال لها بهدوء:
" كان عليّ أن أنتبه الى ذلك حين مدح لي هذا الفندق كثيرا . والآن أنتظري حتى أجتمع به على أنفراد".
فصاحت موراغ وقد هالها ما لاح على وجهه الوسيم من دلائل الخبث:
" لا , لا تفعل , أياك أن تهزأ بهذا الأمر......... أعني صداقة أمي مع بيتر...... أرجوك أن لا تذكره لبيتر أو لأي أنسان".
فقال ديفيد:
" كما تشائين , يا لك من فتاة حساسة !".
وهنا خيّل الى موراغ أن هذا الرجل الغريب الأطوار يعرف بيتر معرفة عميقة , فلعله يخبرها عنه ليخفف من قلقها , وهكذا تناست خشونتها معه وقالت له بجرأة لا تخلو من الحنان:
" ديفيد ............... أريد أن أتحدث اليك بجد هذه المرة , فأسمع , أنت تعرف بيتر منذ سنوات , فهل هو صادق وشريف مع النساء؟".
وتجاوب ديفيد مع هذا التحوّل في عاطفتها نحوه , فأجابها بكثير من الجد:
" لا تقلقي على أمك يا صغيرتي , لأن بيتر من أفضل الرجال , فهو دائما يعمل الشيء المناسب , وأنا أعتقد أنه وأمك جين يكونان زوجين سعيدين!".
فتنهدت موراغ لكلامه ببعض الأرتياح , ولكنها أرادت مزيدا من الأقتناع , فقالت:
" وهل تظن أن ذلك ممكن ؟ أعني وقوعهما في الحب , فلم يمض على وفاة والدي وقت طويل , وأنا لا أقدر أن أفهم كيف تطيق أن يحلّ أحد مكانه!".
فرماها بنظرة عميقة , وتمهّل قبل أن يقول:
" هذا حديث مهم جدا , أقترح أن نتابعه بعيدا عن المكان الذي يوجد فيه بيتر وأمك!".
وجلسا على أحدى درجات السلم الذي يقود الى الطبقة العليا , فيما الموسيقى تنبعث خافتة من غرفة الأستقبال.
فقال ديفيد :
" هل تحدثت مع أمك عن هذا الأمر؟".
فأجابت موراغ :
" كلا , كنت أنتظر أن تقوم هي بالمبادرة هذا مع العلم أنني لم ألاحظ ذلك ألا أخيرا , وكنت غير متأكدة , ولا أظن أنه من السهل أن تسأل البنت أمها عن أمر كهذا , فقد يثير أستنكارها ".
فقال ديفيد :
" ألا تظنين أن أستشارة رجل غريب مثلي تددعو الى التساؤل؟ خصوصا وأنت لا تعجبين بي".
فأحمرت وجنتاها لهذه الملاحظة ,وآثرت أن لا تواجه نظراته الحادة , فقالت له:
" لا تنس أنك الشخص الوحيد الذي لاقيته ويعرف بيتر حق المعرفة!".
فقال ديفيد:
" حسنا , والآن أريد أن أسألك : هل كنت متعلقة بأبيك؟".
فأجابت موراغ:
"نعم , كان رجلا رائعا , وعلمني الكثير , وأنا أفتقده جدا ".
فقال ديفيد:
" حسنا , وأظن أن أمك تفتقده جدا أيضا ,وأذا كانت تحب بيتر , فهذا لا يعني أنها نسيت أباك".
وتوقف قليلا عن الكلام , وهو يحدق في السجادة التي أمامه , ثم تالع قائلا:
" هناك في رأيي عدة أنواع من الحب , فمن الممكن , مثلا , أن يحب الأنسان شخصين في الوقت نفسه , ولعل بيتر ووالدتك جين يمران الآن في تجربة حب من النوع الذي تفضلينه أنت , أي الحب الذي يؤدي دائما الى السعادة الزوجية , فهما على جانب عظيم من النضوج , وكلاهما بحاجة الى المعاشرة...... بيتر تزوج وفقد زوجته من دون أن تلد........وكان زوجا صالحا , وأذا تزوج والدتك جين فيكون خير معين لك , وهو في النهاية أفضل مني , أنا الطارق الغريب!".
وبعد أن نظر اليها مبتسما , تابع قائلا:
" أرجو أن أكون أعنتك بعض الشيء .......فكأنما أنا بنصائحي رجل في السبعين من العمر".
فأجابت موراغ:
" أنت رجل متفهّم وعمليّ ....... وأنا أشكرك على ما فعلت , وأظن أنك على حق في ما قلت , كل ما في الأمر هو أنني أنانية ولا أطيق أن يشاركني أحد في محبتي لأمي".
فقال لها ديفيد:
" ولكنك ستتزوجين قريبا , على ما علمت , فلماذا تنكرين السعادة لغيرك؟".
قال هذا ومدّ ساقيه الطويلتين على درجات السلم , فيما أسند ذراعيه على الدرجة وراءه , وكانت موراغ جالسة بأزائه , فراحت تتأمل وجهه وهو يحدق الى الأمام وبدا لها أن وجهه يشع ذكاء , وأن ملامحه تجمع بين الصفاء والبشاشة.
ثم قالت متعجبة:
" من أخبرك أنني سأتزوج قريبا؟".
فأجابها:
" بيتر أخبرني , وعلمت منه أيضا أن العريس الآن على ناقلة نفط في عرض البحر , وسيعود في العيد المقبل".
فقالت , وهي شاردة الذهن:
" نعم , ويا لينتني أعرف عن الحب قدر ما تعرف!".
وتذكرت موراغ أنها كانت لا تطيقه من قبل , وأما الآن فأنها تشعر وهي الى جانبه بالراحة والطمأنينة , ذلك أنه كان يوحي اليها بالعزم وشدة البأس , بخلاف آندي الذي عرفته منذ سنين , وهكذا عادت اليها المشكلة القديمة , هل تحب آندي حقا؟
وهنا نهض ديفيد وأمسك بيد موراغ لينهضها وهو يقول:
" حان لي الآن أن أرى بيتر".
وكانت لهجته جافة لأن سؤالها لم يرق له , ولأنه أحس أنها تحاول به أن تتعرف الى حياته الخاصة , ولم يكن في ذلك أي حرج , ألا أنه أرادها أن تعرف أنه يعاني مشاكل أهم مما يعنيه سؤالها بكثير, فهي في آخر الأمر لم تكن في نظره سوى فتاة طيبة , صادف أنها في البيت الذي يقيم فيه مؤقتا.
ولاحظت موراغ أنه أنزعج من سؤالها , فأحست بالمذلة , وكادت عيناها تغرورقان بالدموع وهي تتبعه في نزوله في درجات السلم , حتى أذا وصلا الى أرض الغرفة ألتفت اليها فجأة ونظر في عينيها قائلا:
" خفّفي عنك ,لا تأخذي هذا الأمر بكثير من الجد...... فأنا لا أزال أعتقد أن لك ساقين لا مثيل لهما في هذه الأنحاء!".
قال هذا وتركها وسار في الرواق.
ووقفت موراغ على درجة السلم وهي تفكّر هل أن ما بدر منه نحوها من لطف ومودة كان حقيقيا ومخلصا , وشعرت في تلك اللحظة كم كانت حائرة وشاردة الذهن.