أعتذر من المتابعين الأعزّاء بسبب الوقت الطّويل الّذي استغرقته من أجل تنزيل هذا الفصل
سأحاول قدر الإمكان أن أجعل المدّة بين الفصول أقصر بالمرّات القادمة
أرجو أن ينال الفصل إعجابكم...تحيّاتي
{الفصل لثّالث} ... ذئاب ...
الثّلاثاء 03 جوان
ظــلام
مجرّد ظلام يحيط بها...يحاول ابتلاعها وضمّها إليه
تجول بعينيها باحثة عن شيء يدلّ على هويّة هذا المكان...لكنّها كالعادة تفشل
فجأة سيطرت البرودة على هواء المكان لتجعل أطراف جسدها يرتعش
أغلقت عيناها فجأة لتعيد فتحهما بصعوبة ناتجة عن ذاك الضّوء المشعّ الّذي ظهر فجأة من العدم
أصبحت الرّؤية واضحة ... وهذا جعلها تتراجع للخلف بخوف بينما هي ترا سيّارة سريعة تتقدّم ناحيتها
حاولت الهرب والابتعاد عن طريق تلك المسرعة لكنّها لم تفلح بهذا
وكأنّ شللا أصاب جسدها
حتّى عضلة لسانها لم تستجب لها من أجل الصّراخ وطلب النّجدة
ظلّت متسمّرة مكانها منتظرة مصيرها المجهول لكنّها سرعان ما تفاجأت بتلك السيّارة تعبر من خلال جسدها دون إصابتها بأيّ ضرر
استدارت باحثة عنها لكنّها انصدمت من مشهد آخر
كانت النّيران تأكل كلّ من السيّارة و...
ابتلعت ريقها وهي تتقدّم من تلك الجثّة الصّامدة وسط اللّهب....بينما اسمه يتردّد على لسانها بهمس
تقدّمت لداخل النّيران دون أن تشعر بألم ألسنتها الحارقة... وكأنّها شبح...مدّت يدها لتدير جسده الّذي تأكله النّيران و ركّزت بملامح وجهه
ما هذا ؟
قالتها بعدم استيعاب...الكثير من الوجوه المألوفة لديها تتداول من أجل أخذ دورها في التموضع مكان الوجه الأصلي
وجهي والديها...وجوه أشقّائها وشقيقاتها...وجهها
أبعدت الجثّة عنها سريعا بينما أخذت تصرخ وملامحهم المرعبة تعاد بذاكرتها
ضغطت بكلتى يديها على أذنيها ومجموعة من الأصوات تهاجمها
...بكاء...نواح...صراخ...
جثت أرضا وسلسلة ذكرياتها تظهر أمامها
همست برعب , بخوف , بشجون وحزن جعل دموعها تجتمع بعينيها
ــ آسفة سعود,آسفة
؛
07:09 صباحا
فتحت عيناها فجأة وصدرها يهبط ويعلوا بسبب تنفّسها السّريع والغير منظّم
قالت العنود بقلق وهي تمسح براحة يدها على شعرها
ــ بسم الله الرّحمن الرّحيم , ما بك يا فتاة هل أنت بخير؟
حرّكت عدسة عيناها المفتوحتان على أقصى درجة ناحية وجه العنود القلق بدون التّفوّه بأيّ كلمة
تألّم قلبها فجأة وهي ترى ملامح "رجاء" , لابدّ من كونها رأت كابوسا مريعا, اقتربت منها لتساعدها على الجلوس وثمّ ملأت كوب الماء الموجود على المنضدة الصّغيرة القريبة من سرير النّوم ومددته ناحيتها
ــ لقد طلبت منّي والدتي ايقاظك من أجل الإفطار لكنّك في حالة سيّئة , سوف أقوم بإحضاره لك إلى هنا.
أكملت كلامها باستغراب بسبب "رجاء" الّتي ظلّت مطأطأة الرّأس دون أخذ كأس الماء
ــ ما بك عزيزتي؟ فل تشربي القليل من الماء لعلّ آثار الكابوس تذهب من ذهنك.
لم تصدر منها أيّة ردّة فعل ما عدى بعض من الأنين
أعادت العنود كأس الماء لمكانه على المنضدة واقتربت أكثر من تلك الجالسة بقلق برغبة في التّخفيف عنها لكنّها تفاجأت بـتلك الصبيّة تضمّها بكلّ قوّتها ودموعها تسيل كسيلان الشلّالات
انقبض قلب العنود وصوت شهقات تلك البائسة يعلو ليملئ أنحاء الغرفة
لم تعلم ما تفعله سوى المسح على رأسها بحنان وسماع شهقاتها وأنينها الّذي جعل قلبها يتمزّق حزنا بدون إرادتها
.
.
.
كانت تتربّع على الأرض الخشنة وهي تلتهم الأكل الّذي وضعته العنود لها على الطّاولة الصّغيرة
خبز...جبن...عصير برتقال...بعض من قطع الشّوكلاطة
كلّ هذا جعلها تنسى الموقف الّذي حصل قبل نصف ساعة
أمّا العنود فكانت جالسة بالقرب منها وهي تتأمّلها بابتسامة لطيفة
إنّها كالأطفال تماما...سريعة البكاء وسريعة الرّضا
توقّفت عن الأكل ورفعت رأسها بعد سماعها لسؤال العنود
ــ ما الّذي رأيته بكابوسك حتّى جعلك تبكين بتلك الطّريقة ؟
رمقتها لثوان معدودات ثمّ أجابتها بعفويّة
ــ لا شيء مهم, إنّها مجرّد ذكريات سيّئة يجعلني الكابوس أعاود تجربة عيشها, لقد اعتدت على هذا الأمر
عقدت حاجبيها بصدمة ناتجة من تصريحها العفويّ البسيط
ــ هذا يعني أنّه سبق و زارك هذا الكابوس؟ هل كانت نوبة البكاء تزركِ أيضا؟
أمالت رأسها باستغراب
ــ نعم ,وماذا في الأمر؟ أنا لست أوّل شخص يعاني من كوابيس شبه دائمة
قالت كلمتها الأخيرة ثمّ عادت لاستكمال طعامها بابتسامة سرعان ما اختفت بعد سؤال العنود
ــ وماذا كان يفعل والديك ؟ ألم يأخذاك لطبيب نفسيّ ؟ لابدّ من أنّك تعانين من خطب ما ؟ من المحتمل أن تكوني مصابة بإحدى الأمراض النّفسيّة , إنّ حالتك غير طبيعيّة
علت ملامح العبوس وجه تلك الصّغيرة بعدما لاحظت نبرة الاستنكار الواضحة بكلامها,ليتها لم تجبها عن أسئلتها السّابقة بصدق,إنّها الآن تتّهمها بالجنون كما فعلت عائلتها وصديقاتها
مدّدت يديها للأعلى لتساعد دورتها الدّمويّة على المسير بطريقة سهلة (كما اعتادت أن تخبرها به صديقتها) وقالت في محاولة لتغيير الموضوع
ــ كيف استطعتِ الحصول على الشّكولاطة والعصير؟,أعلم أنّ الوحش ياسر بخيل ولن يتبرّع بشراء مثل هذه الأشياء حتّى لوالدته
علمت أنّها تحاول تغيير الموضوع,ولكن رغم رغبتها في معرفة حقيقة الذّكريات البائسة الّتي جعلت طفلة لم تتعدّى الرّابعة عشر من عمرها تعتاد على نوبة البكاء المؤلمة إلّا أنّها تجاهلت رغبتها وأجابتها بهدوء
ــ لقد أقنعته بطريقتي الخاصّة.
أكملت كلامها وهي تقوم متوجّهة ناحية المطبخ
ــ فل تسرعي بإنهاء طعامك , فالكثير من الأعمال تنتظرنا من أجل إنهائها
************
07:20 صباحا
بإحدى طوابق قصر عائلة ذياب
وضع مشط شعره على المنضدة و أخذ قارورة المسك ليضع القليل على عنقه
ظلّ واقفا مقابل المرآة ينظر لانعكاس صورته بتدقيق
شعره البنيّ الطّويل المسرّح , عينيه الواسعتين المزيّنتين بالكحل , ربطة عنقه السّوداء المصحوبة بملابس عمله الرّسميّة
عقد حاجبيه بانزعاج وهو يرى انعكاس ثوبه المعلّق بباب خزانة الملابس...كان ينوي ارتداءه كالعادة لكنّه أجبر على ارتداء هذا الهندام الغير مريح بسبب اجتماع العمل الّذي سيذهب إليه
أخذ يسير إلى خارج الغرفة بعدما حمل حقيبته السّوداء الّتي كانت موضوعة بجانب المنضدة
لكنّه توقّف فور دخولها إلى الغرفة
ظلّت واقفة عند مدخل الباب وقالت بانزعاج بدى في نبرة صوتها ونظراتها
ــ أستذهب الآن ؟ أنت لم تتناول الإفطار حتّى؟ألا يمكنك أن تنتظر لبعض الدّقائق وتتناول البعض من ما حضّرته؟ أنت لا تعلم كم تعبت في تحضير هذه الحلوى لك
عقد حتجبيه بانزعاج من ثرثرتها الّتي طالما أزعجته وقال بغضب
ــ كاميليا,كم من مرّة عليّ أن أطلب منك عدم الثّرثرة أمامي في الصّباح المبكّر؟ تعلمين أنّ مزاجي المعكّر لا يتحسّن إلّا بعد السّاعة العاشرة والسّاعة الآن تشير إلى السّابعة والنّصف,كم من مرّة عليّ إعادة كلامي هذا يا كاميليا؟ إنّك تعلمين بانشغالاتي الكثيرة فلما كلّ هذا الانزعاج؟
ضمّت شفاهها السّفليّة والعلويّة بغضب تحاول كبته لكنّ الكلمات أبت أن تبقى حبيسة قلبها فقالت بتذمّر وهي تبتعد عن أمامه وتتّجه لوضع الصّينيّة على المنضدة وتجلس على السّرير
ــ ثرثارة؟ لا أظنّ أنّي الثّرثارة الوحيدة هنا فكلامك قد استغرق وقتا أطول من كلامي,يالكم من عائلة غريبة غبيّة,لا تعرفون شيئا يدعى جلسة عائليّة هادئة على طاولة الفطور,كلّ ما تجيدونه هو التّعاسة,لا يمكن ليوم أن يمرّ دون أن تحدث مشكلة أو دون أن نسمع صوت شتائم تهنّئنا بحلول يوم جديد مليء بالبؤس
ــ رفع يده ليمسح على وجهه في ضيق وهو يلقي نظرة على ساعته اليدويّة...لقد مرّ ما يقارب خمس دقائق منذ دخولها وبدئها في سلسلة التّذمّر هذه
ليس من عادتها فعل هذا لكنّ أمر انتقالهم إلى هذا المكان الكئيب جعل التوتّر والفوضى يحلّان في عقل كلّ أفراد الأسرة لمدّة هذا الأسبوع كاملا
اتّجه ناحيتها ليجلس بجانبها وقام بإحاطة كتفيها بذراعه اليمنى ليجعل رأسها على صدره وقال بحنان
ــ كاميليا عزيزتي أعذريني على ما سبق وقلته,تعلمين أننّي أتفوّه بالتّفاهات حينما أكون منزعجا دون أن أقصد ما أقوله,وأمّا ما يتعلّق بالعمل فأنت تدركين جيّدا أنّ انتقالنا إلى الشّركة الجديدة يحتّم علينا الانشغال بأقصى مجهود لدينا حتى نضمن بقاءنا في القمّة وهزيمة أعدائنا من الشّركات الأخرى
قالت بتذمّر مرّة أخرى وهي تبتعد عنه
ــ أنا لم أطلب منك عدم الذّهاب إلى العمل إنّما طلبت منك التخلّي عن بضع دقائق يا راكان من أجل تناول الإفطار والبقاء قليلا مع الأطفال,(أكملت والعبرات تتجمّع بعيناها بينما نبرة الألم ضمّت كلماتها بكلّ قسوة)إنّ ياسمين ويوسف أزعجاني فعلا بطلباتهم الكثيرة,وفوق عدم اهتمامك بهم يجب عليهم عدم الخروج من هذا الطّابق,إنّهم يختنقون يا راكان إنّهم يختنقون,إضافة إلى الشّجارات الّتي لا تنتهي بين إخوتك والّتي تجعلهم في حالة من الخوف,إذا كان أمر بقائنا في هذا المكان يعني استمرارنا بهذه الحالة فأنا أرفض هذا وأفضل الرّجوع إلى بيتنا القديم
استرسلت كلامها بينما دموعها بدأت بالنّزول وشهقاتها بالارتفاع
ــ راكان, أنت فعلا قاسي,لقد أصبحت أسوء من توأمك الغبيّ سعد
رمقها بحيرة متجاهلا كلماتها الكثيرة...ما الّذي عليه فعله الآن من أجل تهدئتها...
مدّ كلتا يديه ليضمّ وجهها ويرفعه للأعلى...التقت عيناها الدّامعتان وعينيه اللّائمتان
كلاهما يشكوان أوجاعا تقف الكلمات عاجزة عن ترجمتها
فهي تشكوا حالة العيش الّتي آلت إليها أسرتهم
وهو يشكوا عجزه عن تغيير الواقع
ظلّا يتأمّلان بعضهما لثوان حتّى قاطع هذه الأجواء صراخ كاميليا وهي تبتعد عنه
كاميليا بألم وهي تتحسّس وجنتيها الحمراوتين
ــ هل جننت؟ لما قمت بسحبهما بهذا الشّكل الموجع يا أيّها المتوحّش ؟ إنّ هذا فعلا مؤلم
علت ابتسامة واسعة وجهه وهو يتأمّل انفعالاتها الغاضبة...إنّ هذا أفضل من رؤيتها تذرف الدّموع
قام من جلوسه ليستقيم في وقفته ويتّجه إلى المنضدة حاملا قطعة من الكعك الّتي سارع في إدخالها إلى فمه تحت أنظار كاميليا
وبعدها اتّجه ليحمل حقيبته متوجّها إلى باب الغرفة مودّعا إيّاها قائلا بمزاح
ــ أرجوا أن يستريح قلب زوجتي العزيزة لأنّني تناولت بعضا من نتائج وصفاتها الغريبة,أرجوا فقط ألّا تشكوا معدتي من الأذيّة الّتي قدّمتها لها بتناولي لقطعة الصّخر هذه
قالت بغيظ بادٍ في صوتها المرتفع وهي تراه يخرج من الغرفة
ــ إنّ هذا يدعى بالكعك إذ لم تكن تعلم أيّها الذّكيّ
لم تسمع منه سوا ضحكته المستمتعة بإغاظتها وبعدها اختفت مع اختفائه من أمام ناظريها
أنزلت نظراتها ليديها الموضوعة في حجرها بسكون وبعض الألم يقسوا على قلبها
ما كان عليها القيام بهذه المهزلة في هذا الوقت بالذّات...إنّها تعلم بأنّ راكان لا يستطيع فعل شيء ومجبر هو الآخر على البقاء بهذا المكان الكئيب
لكنّ صبرها قد نفذ بالفعل ورؤية الحالة السيّئة الّتي تزيد يوما بعد يوم بين أحضان هذه الأسرة يجعلها لا تفرّق بين الصّواب والخطأ
قامت من جلوسها بهدوء وهي تستعيذ من الشّيطان وتتّجه خارج الغرفة بعدما أعادت تعديل خمار رأسها الأسود وعباءتها...فإخوان زوجها يعيشون في نفس الطّابق الّذي هم فيه
؛
في الجهة المقابلة من هذا الطّابق تحديدا بغرفة المعيشة
يجلس بملل يبحث في التّلفاز على شيء يستحقّ المشاهدة
رمى أداة التّحكّم بجانبه على الأريكة بانزعاج ولا شيء قد نال اهتمامه
يا للإزعاج كلّ ما يعرض هو المسلسلات الدّراميّة والأفلام المخلّة بالأدب
يا للإزعاج
استدار ناحية مدخل الباب وهو يسمع تحمّد كاميليا له بالسّلامة
سألها عن راكان فأخبرته بأنّه قد غادر المنزل قبل دقائق من أجل حضور اجتماع عمل هام , وأكملت سيرها ناحية المطبخ تاركة إيّاه يتمتم ببعض الكلمات المنزعجة
لا شيء ممتع هنا...إنّ الملل يعمّ الأرجاء...وحتّى الذّهاب إلى الخارج ممنوع بسبب إصابته الّتي لم تشفى بعد
لفت نظره ظهور شقيقته الصّغرى الّتي دخلت إلى غرفة المعيشة وتوجّهت للجلوس على الأريكة المنفردة بغضب بادٍ على كلّ من ملامحها وانفعالاتها
..."رند" ذات شعر بنيّ يصل لأعلى أذنيها تمتلك عينان بنيّتان تخفيهما خلف نظّارتها الطبيّة,تبلغ من العمر واحدا وعشرين سنة...
ظلّ يتأمّلها بتقزّز من مظهرها الشّبيه بمظهر الصّبيان
حتّى ملابسها وطريقة جلوسها لا تصل بالأنوثة بأيّ صلة
أشاح بنظره بعيدا عنها فور أن رأى نظراتها الموجّهة نحوه...يبدوا أنّ حربا جديدة ستبدأ بالفعل
رمقته ببرود ولمعان الحياة شبه مختف من عيناها
ــ لم أنت هنا؟ ألم يكن من المفروض أن تكون في المطار من أجل الذّهاب إلى فرنسا؟
فارس يجيبها بسخرية بينما هو يستلقي على ظهره ببطء
ــ و لما تسألين؟ هل أزعجك أمر بقائي هنا؟ لا أذكر أنّني طلبت منك تحمّلي أو القيام بأعمالي
تغيّر تعبير وجهها للإنعاج
ــ لما كلّ هذا الهجوم؟ لقد طرحت سؤالا بسيطا إذا لم ترد الإجابة عنه أخبرني بهذا وحسب,لا داعي للبدء في استعمال اسلوب الحيوانات هذا
ــ فتح عينيه بصدمة من كلامها الأخير ليعتدل في الجلوس بسرعة ورغبته في إمساكها وتلقينها درس في الأدب تسيطر عليه,لكنّه سرعان ما صرخ بألم وهو يضغط على مكان العمليّة الّتي تأثّرت سلبيّا بانفعالاته
قامت رند من جلوسها وتوجّهت ناحية المخرج وهي تقول بأسلوب ساخر
ــ إنّ هذا مجرّد عقاب صغير على أفكارك الغبيّة تلك,يبدوا أنّي سأقوم بشكر نرجس على ما فعلته
ــ رفع نظراته لها وسط ألمه ليقول بصعوبة
ــ من نرجس؟
رند بابتسامة ساخرة
ــ المجنونة الّتي طعنتك,أنسيتها بهذه السّرعة؟
لم تنتظر إجابته بل خرجت من غرفة المعيشة تاركة إيّاه يشتمها على ما فعلته به...لولا لسانها الطّويل ذاك لما تألّم هو الآن
إنّها فعلا مجرّد شيطانة على شكل إنسان...أهناك فتاة عاقلة تفعل هذا بشقيقها...سحقا
سكن جسمه عن الحراك وتوقّف عن التذمّر فجأة بينما صوت مذيع الأخبار يصل آذانه {وقد قامت شركة آل ذياب بفوز ساحق على منافستها في الصّفقة الأخيرة}
أمسك بعلبة التحكّم ليرفع صوت التّلفاز باهتمام ناسيا كلّ ما حدث قبل قليل
**************
08:30 صباحا
تنهّدت بملل بينما هي تسير خلف العنود حاملة بعض أكياس القماش الثّقيلة
على تمام السّاعة الثّامنة توجّهتا إلى إحدى النّساء اللّواتي تعرفهنّ الجدّة جيّدا من أجل الاتّفاق على موعد بداية عملهنّ
ركّزت جيّدا على نون النّسوة...نعم...سوف تشارك بالعمل هي أيضا رغما عنها...فقد أصبحت جزءا من البيت وكلّ الأفراد يجب أن يكونوا يدا واحدة حسب كلام العجوز المتسلّطة
تنهّدت بتعب من السّير وانزعاج من أشعّة الشّمس الحارقة الّتي أبت أن ترحمهما قليلا وقالت بتذمّر
ــ يا فتاة متى سنصل إلى المنزل لقد تعبت؟
لم تجبها العنود فهي لم تكن في حالة أفضل من حالتها...صداع حادّ أصابها بسبب الحرارة المرتفعة إضافة لعدم قدرتها على تذكّر طريق العودة للمنزل
لاحظت رجاء صمتها فتقدّمت ناحيتها وهي تحدّثها باستغراب
ــ ما بك؟ هل أنت بخير؟
مدّت يدها لترفع غطاء وجه العنود (النّقاب) وتلمس جبينها المحمرّ , سرعان ما فتحت عيناها بجزع وقالت
ــ إنّ حرارتك مرتفعة يا فتاة , وكأنّ دماء رأسك تغلي كماء البطاطس المسلوقة ، عليك الجلوس من أجل الرّاحة
أبعدت العنود يد الصبيّة بعصبيّة لتعيد إنزال غطاء وجهها
ــ هل جننت؟ أتريدين منّي أن أذبحك؟ لما رفعت غطاء وجهي بتلك الطّريقة؟ ماذا لو رآني أحدهم
قالت رجاء بعدم مبالاة وهي تلتفت يمنة ويسرى
ــ لا تقلقِ إنّ المكان خال تماما من أيّ كائن حيّ ما عدى بعض الحشرات الصّغيرة
أمالت ملامح وجهها بعبوس لتعاود النّظر إلى الورقة الّتي بين يديها والمدوّنة عليها خريطة المنطقة متجاهلة ألم رأسها
يبدو أنّها مصابة فعلا بالحّمى...لو وُضِعَ الماء فوق جسمها لسارع في التّبخّر من شدّة حرارتها
في هذه اللّحظة هبّت ريح مفاجأة جعلت قطعة الورق تهرب من يدها سريعا لتسبح مع الرّياح الحارّة
فتحت عيناها بصدمة ... إنّها وسيلتهما الوحيدة من أجل الوصول إلى المنزل ... لكن ها هي تطير بعيدا عنها
بدأت في السّير بخطوات سريعة بعض الشّيء محاولة إمساكها لكنّ الرّياح جعلت المسافة بينهما تزداد
مدّت يدها لترفع أسفل ثوبها "جلبابها" وأخذت تركض بسرعة متجاهلة كلّ من ألم رأسها وصراخ الصبيّة
أخذت رجاء تركض وراءها بصعوبة بسبب أكياس القماش وهي تنادي باسمها دون أن تعلم سبب ركضها المفاجئ
لكنّ قدميها سرعان ما أصابهما الشّلل ومنظر العنود جعل عيناها تُفتح على أقصى درجة
...يا للهول...
*************
07:15 صباحا
في موقع الحدث بالقرب من شركة آل ذياب كانت الصّحافة تملئ المكان محيطة برئيس الشّركة
والّذي كان السّبب الرّئيسيّ في النّجاح والسّمعة الّتي تحظى بها مجموعته الكبيرة من الشّركات المنتشرة في أنحاء العالم
يجيب على أسئلة الصّحافة بطريقته المعهودة الّتي لم يغيّرها رغم مرور كلّ هذه السّنوات
أسلوبه البارد الأقرب إلى التّجريح...ملامح حادّة تدلّ على قسوته...صوت متجمّد وأنفاس كالعاصفة الثّلجيّة
طالما لقّبته الصّحف وغيرها من وسائل التّواصل بالعديد من الألقاب
...الزّعيم...التنّين...العاصفة...وغيرها الكثير,لكنّ اللّقب الرّائج هو العاصفة
كان يتّكئ على الجدار وهو يخرج سيجارة من علبة السّجائر الثّمينة بينما عينيه الباردتين تراقب المهزلة الّتي تحدث بالقرب منه
متى تنتهي كلّ هذه الأسئلة وتنصرف الصّحافة من هنا ليستطيع العودة للمنزل والابتعاد عن الإزعاج
رفع السّيجارة المشتعلة ليضعها بين شفتيه مستنشقا عبيرها السّام غير مهتمّ للأعين الّتي تتأمّله منذ دقائق دون انقطاع
لم يغيّر وضعيّة وقوفه إنّما رمقه ببرود وحسب عندما شعر به يتوجّه إليه راغبا في فتح حديث فاشل آخر عن أحوال الحياة على ما يبدوا
لكنّه خالف توقّعاته هذه المرّة وقال ممازحا يحاول إبعاد الجوّ المتوتّر الّذي عمّ الأرجاء
ــ إذن يا "الرعد",ما هو شعورك لكونك ستغادر الحريّة بعد أشهر معدودات ؟ لابدّ من كونه شعورا سيّئا أليس كذلك؟
أخرج المدعوّ " الرعد " السّيجارة من فمه ليسمح لسحابة الدخّان بالتّحرّر و مخالطة الهواء و هو يجيبه بطريقته المعتادة
ــ ما الّذي تعنيه بكلامك؟
قال "متعب" محاولا إظهار جانبه الظّريف
ــ لا داعي للخجل يا ابن أخي العزيز,سوف تعتاد على هذا السّجن الجميل خاصّة كون رؤى هي سجّانتك,إنّها جدّ لطيفة ولحسن حظّك أنّها ستكون ملكك,يا لك من محظوظ يا رجل
ختم كلامه بلكمة خفيفة على كتف الرعد مداعبا إيّاه لكنّ ملامحه المبتسمة سرعان ما تغيّرت واحتلت حمرة طفيفة وجهه بخجل من تصرّفه الأبله فالأخير لم يلقي له بالا بل غيّر جهة نظره للجهة المقابلة مسترسلا في التّحديق بمنظر الصّحفيّين الّذين لا يملّون عن طرح الأسئلة على جدّه "محمّد ذياب"
.
.
.
بـعـد مـدّة
بداخل السيّارة السّوداء الفاخرة والفريدة من نوعها
كان يمسك "متعب" المقود بهدوء بينما "الرعد" يجلس خلفه باسترخاء يغطّ في نوم عميق ويغطّي وجهه بقبّعته الرّماديّة
يركّز على الطّريق بعبوس وهو يتذكّر كلام عمّه "محمّد" (فلتحرص على أن لا تزعجه وإلّا ستنال عقابا قاسي)
إنّه شابّ بالغ تعدّى السّابع والعشرين من عمره فكيف يعقل أن يهدّد من أجل فتى سخيف كهذا
ما هذا الذّل...كلّ هذا من أجل مدلّل العائلة رعد
همس باسمه في سخرية ليرمق الشّاب النّائم المتواجد في الخلف بغيض ويعود في التّركيز على الطّريق
إنّه لا يكرهه إنّما أصبح ينزعج منه ومن تصرّفاته المتعجرفة والّتي تصبح أسوء مع مرور السّنين
لفت انتباهه اهتزاز هاتفه المحمول ليسارع في حمله والردّ عليه
ــ مرحبا "مصعب" ما الّذي تريده
أتاه صوت "مصعب" الّذي كان يحاول الخروج من حنجرته بصعوبة
ــ متعب,أين جدّي أحمد؟ هل عاد إلى القصر أم لا؟
استغرب من نبرته الغريبة إلّا أنّه لم يهتمّ للأمر كثيرا,أجابه بملل
ــ بصراحة,لا أعلم إذ عاد أو لا, بسبب كوني طيلة اليوم أتلقّى دروسا في فنّ إدارة الشّركات على يد عمّي " محمّد "
قال باستغراب
ــ دروس إدارة؟ منذ متى وأنت تهتمّ لمثل هذه الأعمال
هزّ كتفيه بعدم مبالاة ليجيبه
ــ مجرّد إبعاد للملل وحسب,تعلم أنّ إجازتي ستستغرق أكثر من شهرين طلبا من رئيس أعمالي لأجل العمل على الأغنية القادمة
قال مصعب متسائلا وكلّ من عقله وقلبه قد نسيا الضّيق الّذي كان يحتلّهما
ــ وما رأي المعجبين في هذا القرار , أقصد أنّ شهرين كاملين من الغياب كافية لإصابتهم بالجنون , لا بدّ من أنّ هاتفك سينفجر من كثرة الرّسائل
ابتسم بحماس من وهو يجيبه عن تساؤلاته
ــ لا تقلق من هذه النّاحية فقد أغلقت هاتفي الخاصّ بالعمل من أجل أن أضمن جوّا مريحا أفضل حسب رأي رئيس العمل, وأمّا موضوع المعجبين فقد طلبت من "أكاي" أن يهتمّ بهم, فهو على وشك إنهاء ألبومه الجديد والّذي سيشغل أذهانهم بعض الوقت
"مصعب"..رغم عدم تقابله الكبير معه إلّا أنّه يشعر بشعور رائع عندما يفتح معه موضوعا للحديث
فعند التقائهما لا يستطيع أحد إسكاتهما عن الكلام
فالموضوع المشترك بينهما هو الفن...أحدهما رسّام والثّاني مغنّي...يتشاركان الأحاسيس والمشاعر
يكفي أمر كونه الفرد الوحيد من العائلة الّذي يلقي بالا لهذا المجال بعكس البقيّة الأغبياء, والّذين يعتبر همّهم الوحيد هو جمع النّقود والتّمتّع بها
لا يعلمون أنّ المشاعر أهمّ من النّقود بكثير...مهمّة كثيرا
قاطع حديثه الدّاخليّ كلام مصعب الّذي صدم متعب
ــ أتمازحني أم ماذا؟ ألم يصلك خبر أنّ "أكاي" قد اغتال بالأمس
اختفت ابتسامته فجأة لتحتلّ ملامح الصّدمة وعدم التّصديق وجهه
ــ ما الّذي قلته؟ لابدّ أنّك تمزح, صحيح؟
رفع حاجبه باستغراب من كون الأخبار لم تصله
ــ ألا تتابع الأخبار يا صاح؟ إنّ خبر اغتياله على يد أحد أعضاء "عصابة الأوركيد" يحتل عناوين الصّحف الأولى
تردّد ذاك الاسم برأسه كالذّبذبات الصّوتيّة غير منتبها لـ "مصعب " المسترسل بالكلام عن العصابة
وبعدها قام بإبعاد الهاتف عن أذنه ليضغط على زرّ إنهاء المكالمة بوعي شبه غائب
ظلّ ينظر للطّريق المليئة بالسيّارات...يبدوا أنّ زحمة سير تنتظره بالطّريق السّريع...يجب عليه إيجاد حلّ قبل أن يهاجمه صداع الرّأس الّذي يرافق زحمات السّير المليئة بأصوات أبواق السيّارات المزعجة
حرّك المقود مغيّرا مسار سير سيّارته نحو شارع فرعيّ شبه معروف...سبق وأراه إيّاه أحد حرّاسه من أجل الهرب من الصّحفيّين الّذين اعتادوا اللّحاق به وإزعاجه...لكنّهم لم يقوموا بفعل هذا منذ عودته إلى ولاية النّيزك بسبب كذبته في كونه سيسافر إلى إيطاليا تحديدا إلى البندقيّة من أجل التّحضير لألبومه الجديد...والّذي كان من المفترض أن يكون "أكاي" هو أوّل مستمع إليه
ضغط بقوّة على شفته السّفلية وشعور بالغيظ يحرق قلبه
لقد كان "أكاي" رغم غروره وتكبّره صديقا عزيزا مفضّلا طالما تشارك معه النّجاح الفنّي
لكن ها هو الآن يسقط قتيلا دون أن يصل الخبر إليه...أيّ صديق هو...ياله من أحمق
ضرب على بوق السيّارة وهو يزيد من سرعتها وشعور مؤلم يعتريه....وكأنّ النّار تلتهم قلبه بدون أيّة رحمة
يا ليته لم يستمع لكلام "أكاي"... يا ليته بلّغ الشّرطة عن ذاك التّهديد
اجتمعت الدّموع بعينيه وذكرى ذاك اليوم تعود إليه
قبل أسبوعين بالضّبط ... عندما كان مشغولا بالعمل على آخر تفاصيل أغنيتهما الجديدة المشتركة
والّتي كان مضمونها حول إحدى ضحايا عصابة الأوركيد ... ابنة إحدى سياسيّي الأرجنتين الّذين قدموا في رحلة عمل إلى فرنسا
اُختطفت لمدّة يومين ثمّ وُجٍدت مقتولة بإحدى الشّوارع بعدما سُلّمت الفدية للعصابة
وقد تركت خلفها حبيبا حزينا أقدم على الانتحار فور سماع هذا الخبر البائس بشأن حبيبته
وسرعان ما نالت أغنيتهما المشتركة فيما بعد نجاحا كبيرا كونها ذات طابع رومنسي حزين باستعمال كلّ من الموسيقى الهادئة والرّاب
كان يجلس بسلام وحيدا بغرفة الإستيديو إلى أن حضر أكاي بسرعة نحوه بينما هو يحمل ورقة أشبه بالظّرف
لم تكن سوى رسالة تهديد مُرسلة من طرف العصابة إليهم...يطالبون فيها بالتّراجع عن فكرة نشر الألبوم
لقد كاد يتّصل بالشّرطة لولا أكاي الّذي طلب منه عدم الخوف من تهديداتهم
أقنعه بحجّة أنّ الشّرطة لن تقصّر في عملها وستقوم بحمايتهم
يا له من أحمق...ها قد قتل أمام الشّرطة الّتي لم تستطع القيام بأيّ شيء غير المشاهدة
ضغط بقوّة على المقود محاولا التّركيز في الطّريق...لكن من دون جدوى...مشاعره ترفض التوقّف عن ازعاجه وتذكيره بذنبه
أمال جسده للأمام بعض الشيء ومدّ يده لسجلّ الموسيقى من أجل تشغيله والتّرويح عن نفسه تاركا السيّارة تسير دون تحكّمه
فهذا لن يضرّ بما أنّ الطّريق فارغة من أيّ كائن حي
... من المجنون الّذي سيسير خارجا بهذا الحر الحارق ...
علت ابتسامة صغيرة وجهه وكلمات أغنيته المفضّلة ملأت المكان,ليعاود الجلوس بمكانه باعتدال
لكنّه سرعان ما فوجئ بشخص يركض ليعبر أمامه بسرعة جاعلا السيّارة تصطدم به
أوقف السيّارة بسرعة وهلع,وفتح الباب ليخرج بسرعة لتفحّص الوضع متمنّيا بداخله أن يكون ذاك الّذي رآه مجرّد شبح ووهم
لكنّه سرعان ما وقف بدون حراك ومنظر الدّماء الّتي تلطّخ كلّ من رأس الفتاة وسيّارته والأرض جعل قلبه يوشك على التوقّف
**************
لم تمض أكثر من نصف ساعة وهاهو يتربّع فوق الكنبة مستغرقا في عمله
يراجع مخطّطات الأبنية الهندسيّة محاولا في التّخفيف عن نفسه والتّهدئة من مزاجه المتغيّر
فالّذي جعله يشتعل غضبا هو تلك السّموم الّتي نشرتها شقيقته رند وشبكة الأخبار التّلفزيونيّة
كلّما يراها يتذكّر الماضي...رغما من كون كلّ أشقّائه يذكّرونه بأمر من الحياة الأليمة إلّا أنّ رند حالّة خاصّة بالنّسبة له...كيف لا وهي من كانت أقربهم إلى قلبه
رفع القلم ليضعه بين صفّي أسنانه وهو يقضمه بغيض
نرجس...رغم أنّه اسم جميل إلّا أنّ صاحبته بدون شكّ نسخة من أفراد العائلة...
استند على الوسادة الّتي خلفه وهو يضع يده على مكان الجرح الّذي مازال يؤلمه
يا لها من متوحّشة...كيف كان بإمكانها إيذاء شخص مسالم مثله
عبست ملامح وجهه وذكرى ذاك اليوم تعود لذهنه لتجعل مزاجه يتعكّر مجدّدا بوحل قذارتهم
(...الأحد 27 ماي...)
كان المكان يعمّ بمختلف الأشخاص الّذين لم يستطع التّعرّف على معظمهم
أتوا من أجل الحفلة الّتي أقيمت بمناسبة عودة الابن "عزّام ذياب" وأسرته إلى وسط العائلة بعد خلاف دام سنوات مع الجد "محمّد ذياب" بسبب مجهول لأغلبيّة أفراد العائلة
لا شكّ في كون الكثير منهم أتى من أجل معرفة وجه العمّ الّذي تدور حوله الإشاعات,كونه الوحيد الّذي تجرّأ من بين إخوته على مخالفة أوامر والدهم واعتراضه
كان يتأمّلهم ونزاع داخليّ يكاد يفجّره
كلّ فرد من هؤلاء يعتبرون سببا في عذابه وعذاب أسرته الصّغيرة
لن يسامحهم أبدا... فهم مجرّد ذئاب بشريّة لا غير
أخذ يحرّك عدستى عينيه بأرجاء المكان بحثا عن شيء أكثر حماسا من تأمّل هذه الوجوه الكريهة
لا شيء ممتع...مجرّد حديقة ضخمة مليئة بالزّينة وطاولات الطّعام الفخمة والكراسي...ووجوه ذئاب بشريّة طبعا
أخذ يتأمّل القصر الّذي يبعد عنه عشرات الأمتار
بناية ضخمة مكوّنة من أربعة طوابق إضافة للطّابق السّفلي...طولها حوالي..
لا يستطيع حسابه لكنّه طويل دون أدنى شك
لو قفز "سعود" من سطح هذا المنزل لكان هذا كافيا من أجل فقدان حياته
ابتسم بحسرة على ذكرى شقيقه...لقد كان شخصا جيّدا مشكلته الوحيدة هو كونه تواجد بظروف لا تناسبه
وأحيط بعائلة لا تناسبه
علت نظرة كراهيّة وجهه ليملئ الحقد قلبه من جديد...لن يملّ من هذا...سيستمرّ بتحميلهم ذنب تعاستهم
شدّ انتباهه شكل أزهار الزّنبق الّتي تزيّن جانبا من الحديقة الكبيرة
رغم ظلمة اللّيل إلّا أنّ أضواء الحديقة سمحت له بملاحظتها
ابتسم بألم وذكرى جميلة تزور ذهنه
"إنّ هذه الأزهار مثلك, نقيّة بيضاء تمتزج بحمرة الخجل عندما تستقبلها الشّمس كلّ صباح"
إنّها الجملة الوحيدة الّتي استطاعت مشاعره حياكة كلماتها بكلّ صدق ليهديها إلى حبيبته السّابقة
حبيبته الّتي طالما حاول التمسّك بها لكن بد...
علا صوت ريان ليصل لمسمعي فارس مقاطعا مشاعره القديمة من العودة
ــ فارس!!!
استدار إليه بضجر وانزعاج لكنّه سرعان ما تفاجئ بذاك الفتى يسارع في إمساكه وإعادته لوضعيّة جلوسه السّابقة
قال فارس باستنكار لفعله بعدما أوشك على السّقوط
ــ ريان هل جننت؟ أتريد منّي قتلك؟ لما فعلت هذا؟
همس ريان بخفوت بعدما لاحظ نظرات بعض الرّجال مسلّطة عليهما
ــ أ هذا جزائي بعدما جلبت لك شيئا أكثر متعة من تأمّل وجوه هؤلاء المغرورين؟
أكمل كلامه مشيرا بعدستى عينيه إلى إحدى نوافذ الطّابق الرّابع
ــ أنظر هناك
رفع فارس عينيه هو الآخر باستغراب إلى تلك النّافذة ليلاحظ فتاة تقف هناك لا يتّضح منها سوا ظلّها وبعضا من جسمها
ــ فتاة؟ وما الممتع في فتاة؟ يا لك من سخيف
كان سيعود لتأمّل وجوه الحاضرين لولا كلمات ريان الّذي جعلته ينظر إليه بعدم تصديق
ــ هل تمازحني؟ يبدوا أنّك لم تنم جيّدا اليوم,سوف أقوم بإخبار "أوركيد" بجنونك هذا
رمقه ريان بحدّة
ــ أنّني لا أمازحك, لقد لمحتها تحمل سكّينا بالفعل,يبدو أنّها تريد قتل أحد ما,لقد لمحت ظلّ شخص آخر معها
عاد فارس ينظر لناحية تلك النّافذة بشكّ سرعان ما اختفى فور ما لمحت عيناه المشهد بوضوح
شابّة تحمل سكّينا توجّهه ناحية امرأة ترتدي زيّ الخدم في رغبة لطعنها
فتح عينيه بصدمة ليقفز من مكانه مسرعا لمدخل القصر
عليه إيقافها,لا يعلم لما لكنّ عقله يأمره بهذا
أخذ يصعد السّلالم الخاصّة بالنّصف الأيسر للقصر متجاهلا نظرات بعض النّساء المستنكرة لتواجده بالدّاخل
فكما هو متعارف في حفلات العائلات المرموقة,النّساء تحتفلن بالدّاخل والرّجال بالحديقة أمّا الخدم فيقومون بخدمتهم
يصعد السلّم تلوى الآخر ورغبته في توقّف الزّمن تزداد
ليست المرّة الأولى الّتي يرى فيها محاولة قتل,لكنّها الأولى الّتي يشهد على محاولة كهذه في وسط وجود أفراد عائلته
أخواته لن يحتملن خبر تواجد سفّاح هنا طبعا,يكفي ما شاهدنه في منزلهم السّابق
وصل للطّابق الرّابع ولحسن حظّه لم يبذل الجهد الكبير من أجل إيجاد الغرفة المطلوبة...فالفوضى تعمّ مدخل غرف واحدة وحسب
توجّه ناحيتها مسرعا إلى الشّرفة...فتحها بسرعة ليجد الخادمة تمسك كتفها الدّامي متألّمة وتلك الفتاة لاتزال تمسك تلك السكّينة
لكنّها توجّهها ناحية نفسها هذه المرّة
لم يفكّر كثيرا قبل أن يسرع ناحيتها في محاولة لردعها عن محاولة قتل نفسها
حاول و استمرّ في المحاولة متجاهلا ألم السكّين الّذي طعنته بها
و أخذ يسحبها لداخل الغرفة واضعا يده على فمها من أجل عدم جعل المتواجدين في الحديقة ينتبهون لهم
رمى السكّين بعيدا على الأرضيّة وظلّ متمسّكا بها
تحاول الإفلات منه...تحاول الابتعاد...لكن بدون جدوى..فرغم جرحه النّازف إلّا أنّ جسمه لم يستجب إلى تعبه ورغبته بتركها والرّاحة
ظلّ يقاوم تعبه وحركاتها الكثيرة إلى دخل بعض الأشخاص إلى الغرفة وقاموا بأخذ حقنة مهدّئة وحقنوها
ابتعد عنها تاركا أولائك الأشخاص يهتمّون بها...لقد اتّضح فيما بعد أنّهم كانوا مجرّد أفراد من العائلة قد قام ريان بإخبارهم عن كلّ ما رآه
وبعد دقائق أتى شقيقاه وقاما بأخذه إلى المستشفى
(...فقط...)
رفع نظره للسّقف وكلام راكان الّذي أخبره به بعد زيارته بالمستشفى جعله يعقد حاجبيه باستغراب
"لا داعي للغضب فارس,إنّها مجرّد مجنونة تعاني من إضطرابات نفسيّة تجعلها غير مدركة للّذي هي فيه"
لا يستغرب وجود حالة كهذه وجد عائلة الذّئاب هذه... لكنّ الشّيء الّذي أثار فضوله هو سبب جنونها...أو اضطراباتها النّفسيّة أيّا كانت
**************
بمركز الشّرطة تحديدا
على السّاعة الـ 14:36 من الظّهيرة
كانت تجلس بكرسيّ الانتظار وهي تتأمّل أرضيّة المكان بينما ذهنها المشتّت يفكّر في كيفيّة الخروج من هذا المأزق
لقد أخرجها ذاك الشّخص المدعوّ بـ "زياد" من قصر الأمراء ذاك بعدما أوهمته بكونها صاحبته
إضافة لكونه أوصلها لهذا المكان بسيّارته دون أيّ مقابل...فقد لعبت بمشاعره بكلماتها الّتي تجعل أيّ شخص يخضع لطلباتها
رفعت عينيها للرّجل المتّجه لها لتقف بسرعة بينما هي تضع يدها على صدرها في محاولة لإيقاف دقّات قلبها المتسارعة
رمقها لبضعة ثوان ثم أشار إليها
ــ فل تتبعيني أيّتها الآنسة
استدار بعدها متوجّها لإحدى الغرف بينما هي تتبعه بقلق
ماذا عليها فعله...أتثق بهم وتخبرهم بكلّ ما تفعله العصابة أم لا...لحظة واحدة...لما هي مترّددة...الأمر في غاية البساطة...ستبلغ عنهم وعن خطفهم لها وبعدها سيعمل رجال الشّرطة المخلصين على إعادتها لعائلتها بدون أيّ ضرر
استنشقت كميّة كبيرة من الهواء في محاولة لتهدئة نفسها...لا داعي للقلق ستكون بخير
توقّفت عن السّير فور ما رأت رجل الشّرطة يقف مقابل باب ليدقّ عليه قبل دخوله
فتح الباب ودخل بهدوء بعدما ألقى التحيّة , أمّا هي فكانت تتبع خطواته الواحدة تلوى الأخرى
توقّفت مجدّدا من أجل الجلوس على الكرسيّ خضوعا لأمره الّذي ألقاه عليها قبل خروجه تاركا إيّاها وحيدة مع الضّابط الجالس خلف مكتبه
رفعت عيناها له منزعجة من نظراته المتفحّصة لها...ينظر إليها بشيء من الكره ليقول
ــ إذن أنت الفتاة الّتي قدّمت البلاغ عن عصابة الأوركيد,أوليس كذلك؟
هزّت رأسها بالإيجاب ليسترسل الكلام:ما الّذي حدث معك بالضّبط؟ أعني بكلامي ما الشّيء الّذي جعلك تأتين من أجل هذا البلاغ؟ هل قاموا بإيذائك أو إيذاء قريب لك؟
قالت بهدوء وبعض من الانزعاج قد سيطر عليها مجدّدا...هذا الرجل غير مريح أبدا
ــ في الواقع سيّدي الضّابط أنا لست من مواطني فرنسا بل مجرّد فرد من عائلة عربيّة,لا أدري ما القضيّة بالضّبط لكن كلّ ما أعرفه هو أنّ العصابة قد قامت بخطفي سابقا والآن هي تلاحقني بعد هربي منها,لذا اودّ من حضرتكم إرجاعي لبلدي في أسرع وقت
ظلّ ينظر إليها لثواني دون أن يتفوّه بشيء,إلى أن قال بحذر
ــ أمتأكّدة من كون العصابة الّتي تتحدّثين عنها هي عصابة الأوركيد
هزّت رأسها بالإيجاب ليقوم من كرسيّه ويتّجه خارج الغرفة ليقول لها قبل خروجه
:فلتبقي هنا أيّتها الفتاة,سوف أعود على الفور
ارتسمت ملامح الانزعاج على وجهها وبعض من الرّيبة تدبّ بقلبها...لسبب ما شعرت بشعور سيّء وهي تحدّث هذا الرّجل...أيعقل أنّه يكذب ولن يساعدها
هزّت رأسها يمنة ويسرى طاردة هذه الفكرة من رأسها,فالشّرطة كما يعلم الجميع جدّ مخلصين لعملهم
************
في الطّريق السّريع تحديدا على السّاعة الــ 14:40 من الظّهيرة
يجلس على المقعد الأمامي من سيّارته السّوداء وهو يحاول إفراغ غضبه بالضّغط بقوّة على مقود القيادة
في صبيحة هذا اليوم توجّه إلى ذاك القصر حاملا معه بعضا من الطّعام والثّياب من أجلها
يعلم أنّه أخطأ في تركها وحيدة في ذاك المكان لأكثر من أربع وعشرين ساعة لكنّ الظّروف أجبرته على ذالك
فالتّواري عن أعين العصابة والذّهاب إلى مكان ما دون علمهم يقتضي الكثير من العناء
توجّه إلى ذاك المكان الّذي تركها به في تلك الغرفة السريّة لكنّه لم يجدها...بحث عنها في كلّ أنحاء القصر لكنّ أثر وجودها محي...وكأنّها لم تكن هناك
رفع يده ليضعها على شعره وقام بشدّ بعضا من خصلاته السّوداء بغضب
لو وجدها الآن فسيقوم بقتلها بدون أيّ شك,أو ربّما سيعيدها إلى ماكس متجاهلا رغبته في مساعدتها
كم يتمنّا أن يراها الآن ويشفي غليله منها
حرّك ذراع القيادة ليزيد من سرعة السيّارة
لقد خالف أوامر العصابة...عرّض حياته للخطر...وكاد يفقد عمله
كلّ هذا بسببها...لكن في الأخير حضرتها لم تستطع الالتزام بأمر واحد من أوامر
مسح براحة يده على وجهه المحمرّ غضبا براحة يده اليمنى وهو يقول بيأس
أين سأجدها الآن
أين يمكن أن تكون يا ترى
سبق وطلبت من بعض أتباعي البحث عنها في العديد من المناطق المجاورة للقصر أو حتّى أنحاء باريس إضافة إلى رجال السفّاح
إلّا انّ هذا لم يكن كافيا من أجل العثور عليها
أكمل همسه ببعض الكلمات في محاولة لتهدئة نفسه بينما أصابع يده اليمنى تشدّ على البعض من خصلات شعره الأسود مجدّدا
تاركا يده اليسرى تتحكّم بحركة عجلة القيادة
مرّت الدّقائق حتّى وصله صوت هاتفه منذرا عن مكالمة هاتفيّة
حمله باستغراب وهو يرى اسم المتّصل....مركز الشّرطة؟....همس بتساؤل بعدها ضغط على زرّ الإيجاب ووضعه على أذنه اليمنى
جوزيف باستغراب
ــ مرحبا يا رجل,ما المشكلة
أتاه صوت الضّابط الهامس
ــ سيّد جوزيف لديّ خبر مهمّ أرجوا منك سماعه
جوزيف
ــ لما هذا الهمس يا رجل؟ أهناك من يلاحقك؟
قال الضّابط على نفس همسه
ــ في الواقع لقد أتت شابّة قبل دقائق إلى المركز مقدّمة بلاغا قائلة أنّ عصابتكم قد خطفتها لهذا قرّرت إعلامك
عقد جوزيف حاجبيه باستنكار من هذا الكلام لّذي سمعه
ــ ما الّذي تعنيه؟ هل أنت متأكّد من هذا؟ أخبرني بسرعة عن مواصفات الشّابة الّتي تتحدّث عنها
أجابه الضّابط بسرعة
إنّها شابّة تبدوا في العشرينات من عمرها,ذات بشرة بيضاء وعينين كبيرتين عسليّتين , ترتدي وشاحا حول رأسها يخفي كلّا من شعرها وعنقها كما أنّها ترتدي معطفا رجاليّا يغطّي أغلب جسدها يصل طوله لأسفل ساقيها
جوزيف قاطعه بأمر
ــ حسنا,فلتكف عن الثّرثرة واحرص على أن تبقى تلك الشّابة أمامك وألّا تبتعد عن ناظريك,أنا حاليّا في الطّريق السّريع لن أستغرق أكثر من نصف ساعة حتّى أصل إليكم
أجابه الضّابط بانعاج بادٍ على ملامح وجهه
ــ حسنا مثلما تريد سيّد جوزيف
أبعد الهاتف عن أذنه مرجعا إيّاه لمكانه السّابق بينما العديد من التّساؤلات تهاجم ذهنه
أغلب المواصفات المتعلّقة بالملامح تتطابق معها ما عدى الملابس فهو لا يذكر أنّها كانت ترتدي زيّا غريبا كالّذي وصفه الضّابط
أيعقل أنّها أحضرته من مكان ما؟ كيف يعقل أن يكون هذا صحيحا؟ فهي لا تملك أيّة قطعة نقديّة واحدة حتّى
عقد حاجبيه فجأة وكلام الضّابط يتردّد عليه...معطف رجوليّ؟ أيعقل أنّها التقتقت بأحد ما...لابدّ من أن يكون استنتاجه صحيحا فالهرب من ذاك القصر شبه مستحيل بمفردها
زاد من سرعة سير السيّارة متّجها ناحية مركز الشّرطة الّذي لم يعد يفصله عنه سوا مسافة قد يستطيع قطعها في أقلّ من خمس دقائق
**************
بالمستشفى
كان يسير يمنة ويسرة بتوتّر ومشهد الدّماء الّتي تنزف من رأس الفتاة يعود لذهنه
يرغب بالبكاء فقد تراكمت عليه الأوجاع... موت أكاي وصدمه للمدعوّة بالعنود
لم يسبق له وعايش مثل هذا الشّعور,فهذه هي المرّة الأولى الّتي يقوم فيها بحادث مرور بحياته
أعاده للواقع صوت حارسه الشّخصيّ الّذي قام بالاتّصال به قبل قليل من أجل المجيء ومساعدته في الخروج من هذه المصيبة
اقترب منه بخطوات سريعة وهو يقول بتوتّر
ــ هل وجدت رقم هاتف أحد أفراد عائلتها؟
انحنى إليه ذاك الشّاب ذو الملابس الرّسميّة والملامح الباردة
ــ لم أستطع إيجاد رقم هاتف أيّ أحد أقاربها لكنّي قمت بالذّهاب لمنزل الفتاة و...
قاطعه متعب وهو يبحث يجول بنظراته على الرّواق باحث عن أحدهم
ــ وأين هم الآن؟ ألم يأت أحد معك؟ عليهم الإسراع من أجل أن استلام مسؤوليّتها وإراحتي من هذا العناء
أجابه حارسه الشّخصيّ
ــ لقد طلبت من الحارس الّذي كلّفته بمهمّة البحث عن عنوان البيت إيصال شقيق الفتاة إلى المستشفى,لن يستغرقا أكثر من ربع ساعة للوصول وإراحتك سيّدي
هزّ "متعب" رأسه بالإيجاب وعاد ينظر ناحية باب العمليّات المغلقة بقلق وتوتّر
يرجو أن تكون بخير
لا بدّ من تأليف أغنية عن موقف كهذا
تنقص بعض الرّومنسيّة فقط لتلائم ذوقه وذوق معجبيه
لا شكّ من أنّه سيكون عمل جميل
تجلس بكرسيّ الانتظار وهي تتأمّل الأرض
كانت تشعر بالرّعب منذ مجيئها مع هذا الغريب
إلّا أنّ كلام حارسه جعلها تشعر ببعض الرّاحة...يا للهول...ظنّت أنّها ستبقى بمفردها مع غريب الأطوار
رفعت نظرها ناحيته لتجده يعقد حاجبيه ويبتسم بطريقة غريبة وهو يتأمّل باب غرفة العمليّات
لا بدّ من أنّه قد جنّ...الحمد لله على نعمة العقل
عادت لتأمّل بلاط المستشفى لكن سرعان ما جرت رعشة بأنحاء جسدها فور سماعها لصوت "ياسر" يملئ المكان
متأكّدة بنسبة 25 بالمئة أنّه سيقتلها هنا والآن
وبنسبة 44 بالمئة أنّه سيأجّل قتلها إلى ما بعد العودة إلى البيت
وبنسبة 20 بالمئة أنّه سيرميها بأقرب ملجئ أيتام ويدّعي أمر موتها أمام والدها
وبنسبة10 بالمئة أنّه سيعيدها إلى والدها دون أيّ إصابات
ونسبة 1 بالمئة أنّه سينسى أمر معاقبتها أو يتجاهله
لما يعاقبها؟...نعم يجب عليها سؤال نفسها مرارا لتحفظ إجابته الموجعة
فللأسف...لا..بل...فلغبائها قامت بدخول سيّارة شخص غريب لا تربطه بها أيّة صلة قرابة
كان بمقدوره سرقتها أو قتلها وبيع أعضائها بالسّوق السّوداء
لكنّها لم تفكّر بهذا الموضوع بل سارعت في القفز بداخل السيّارة فور رؤيته يحمل العنود المصابة بعدما قامت سيّارته السّريعة بصدمها
رفعت عيناها ببطئ لتراه يكلّم صاحب السيّارة في محاولة لفهم الموضوع
رغم أنّه يكلّمه بهدوء وبدون صراخ إلّا أنّ لون بشرته المحمرّ وعروقه البارزة كافية لجعل غضبه واضح للملئ
أنزلت نظراتها للمرّة الثّالثة فور ما رأته يرمقها بنظرات تكاد تحرقها
من المأكّد أنّ الاحتمال الثّاني يفوز...سيأجّل قتلها إلى ما بعد العودة إلى البيت
**************
بمركز الشّرطة مجدّدا
ظلّت تراقب السّاعة بملل من الّذي هي فيه
لم يمر الوقت الطّويل منذ خروج الضّابط المخيف وها هي تتمنّا عودته
رغم كونه من رجال الشّرطة إلّا أنّها تحسّ بشعور سيّء اتّجاهه...بسبب ما لا تشعر بالارتياح معه
لكنّها مجبرة على الثّقة به...فهو شرطيّ قبل كلّ شيء
قامت من مقعدها لتتّجه ناحية الباب من أجل الخروج من الغرفة والبحث عنه... كم تكره الانتظار
أخذت تسير بالرّواق وعدستى عينيها تتجوّل بأنحاء المكان بحثا عنه
عليها إيجاده وسؤاله عن كيفيّة مساعدتها...يجب أن تعود إلى ديارها قبل أنّ تصل أيدي العصابة لها مجدّدا
لأنّها ببساطة لن تضمن بقاءها سالمة
أخذت تسرع بخطاها وهي تتجوّل بأنحاء الطّابق باحثة عنه إلى أن لمحته بإحدى الزّوايا المنعزلة
سارعت التقدّم ناحيته لكنّها توقّفت فجأة وكلّ كلمة قالها في هذه اللّحظة وصلت إلى مسامعها
ما هذا؟...ما الّذي يحدث؟...هل يعقل أنّ ما سمعته صحيح؟
تراجعت للخلف بضع خطوات غير مصدّقة لما سمعته توّا...أوليس من المفروض أن تكون الشّرطة أكثر الأشخاص وفاءا لعملهم ووطنهم...أوليس من المفروض أن يكونوا مستعدّين للتّضحية بأرواحهم من أجل سلامة المواطنين..
لما ما يحدث الآن يثبت عكس اعتقاداتها؟
رفعت يدها لتشدّ على موضع قلبها بيأس وخوف يكاد يمزّق شرايينها
ماذا عليها فعله الآن؟...كيف ستستطيع العودة لديارها؟...لقد أغلقت كلّ أبواب النّجاة بوجهها
تراجعت للخلف فورما رأته يعود أدراجه بعدما أنها مكالمته مع "جوزيف"
استدارت وسارعت في الابتعاد عنه لأجل ألّا يكتشف أمر تجسسّها على مكالمته
لابدّ من أنّه سيعود إلى المكتب من أجل حراستها
أخذت تسير بعيدا عنه وعقلها منشغل في البحث عن حلّ يخرجها عن هذه المصيبة الجديدة
متأكّدة من كونها ستفشل...كلّ الطّرق تؤدّي إلى عودتها لتلك العصابة...لن تستطيع الإفلات من أيدي "ماكس" و "السفّاح" و "جوزيف"
تجمّعت الدّموع بعينيها...كم تتمنّى الارتماء بحضن خالها وخالتها...تريد العودة إلى عائلتها...تريد هذا بشدّة
قبل أن تموت على الأقل
جذب انتباهها لافتة حمّام النّساء حيث سارعت في دخوله وإغلاق الباب خلفها
رغم دقّات قلبها السّريعة...رغم فوضى المشاعر المبعثرة...رغم تمنّياتها البائسة
إلّا أنّها لا تستطيع الاستسلام..كيف تفعل ومصير عائلتها بين يديها..لن تسمح لألئك الحثالة بالقضاء على آخر ما بقي من عائلتها
أخذت تتأمّل المكان
ككلّ الحمّامات العامّة...الكثير من المراحيض المصطفة أمام بعض بشكل مستقيم , يقابلها مرايا وأحواض غسل الأيدي...إضافة إلى أجهزة تجفيف الأيدي والمناديل الورقيّة المعلّقة على الجدران
جذب انتباهها النافذة الّتي تتوسّط الجدار المقابل لها
وسرعان ما علت ابتسامة واسعة وجهها وهي تسرع ناحيتها
يا للرّوعة...إنّ هذه النّافذة الكبيرة طريقها في النّجاة...يجب عليها شكر مخترع النّوافذ على روعة ما ابتكره
كادت تضحك على تفكيرها الغبيّ لولا المنظر الّذي شاهدته فور القائها نظرة عبر النّافذة المفتوحة
لقد نسيت تماما أنّها في الطّابق الثّاني
يا للمسافة الكبيرة الّتي تفصلها عن الأرض...لا شكّ في كونها ستنكسر إذا قفزت من هنا
حلّت ملامح القلق على وجهها
إنّ النّافذة تطلّ على الجانب الخلفي للمركز
و رغم كونها تستطيع رؤية العديد من المتاجر والمنازل
إلّا أنّ رجال الشرطة يملؤون المكان
من الطّبيعيّ أن يلاحظها أحدهم ويشكّ في أمرها إذا قامت بالقفز
قد يعتقد أنّها مجرمة تحاول الفرار...خاصة مع زيّها الغريب الّذي ترتديه
إنّها أشبه بالمتسوّل أكثر من كونها مجرم
تراجعت للخلف بضعة خطوات لتقول باستياء
ــ وكأنّني سأقفز من هنا, من المجنون الّذي قد يقوم بهذا الفعل الغبـ...
ارتعشت أطراف جسمها وهي تستمع للفوضى الّتي حدثت فجأة بالجانب الآخر من الباب
لحظة واحدة...أهذا صوت جوزيف؟...كيف يعقل أن يصل بهذه السّرعة
أنزلت رأسها لتضغط عليه بيدها وهي تدور حور نفسها في رعب
ماذا عليها فعله؟ إنّه قادم من أجلها...سوف يعيدها إلى ذاك الجحيم وسيقضي عليها من دون أيّ شك...ماذا عليها فعله
كيف ستهرب الآن؟...لا سبيل للهرب غير هذه النّافذة عديمة الجدوى...
أبعدت يديها عن رأسها لترفعه مجدّدا وتأخذ نفسا عميقا علّه يهدّئ وينعش أعصابها
لا يجب عليها افتعال كلّ هذه الضجّة
إنّ الأمر واضح كوضوح الشّمس...لا داعي للخوف إطلاقا
إنّ جوزيف يقترب منها فما عليها إلّا الهروب منه
ووسيلتها الوحيدة هي هذه النّافذة
والّتي تبعد عن الأرض سوا بضعة أمتار كافية لتكسير عظامها إذا حدث وقفزت من هنا
اقتربت من النّافذة مجدّدا لتلقي نظرة على الخارج بحثا عن شيء مفيد تستطيع استعماله من أجل القفز دون أن تتأذّى
ربّما قد يوجد حبل أو سلّم ما
توقّفت عن البحث وهي تتأمّل الشّجرة المقابلة لها
لم تلاحظ وجودها قبلا...إنّها ضخمة نوعا ما وقريبة قليلا إلى البناء
ربّما لو قفزت ناحيتها قد تستطيع التعلّق بأحد فروعها..إنّها وسيلتها الوحيدة..
ضغطت بيديها على جانبي إطار النّافذة لتقوم بالصّعود عليها و الجلوس على حافتها على شكل القرفصاء
أخذت كميّة كبيرة من الهواء لتنعش رئتيها بينما دقات قلبها زادت سرعة فور سماعها صوت الضجّة الّتي أصبحت أكثر وضوحا وقربا منها
لن يستغرقوا الكثير من الوقت من أجل إيجادها
ابتلعت ريقها بصعوبة للمرّة الألف وهي تهيّئ جسدها وعقلها من أجل القفز
..1..2..3..
دفعت بجسدها للأمام لتقوم بالقفز أخيرا لكنّها فشلت في الوصول إلى كامل الشّجرة...
إنّها الآن معلّقة في الهواء...لا شيء يمنعها عن السّقوط سوى الغصن الّذي استطاعت يدها التمسّك به
حاولت التّشبّث به بكامل قواها لكن من دون جدوى
إنّه جدّ ضعيف...لماذا لم يقُم العلماء باختراع شيء يقوّي الشّجر أكثر...إنّهم أغبياء
افلتت صرخة مرتعبة من فمها فور انكسار الغصن
وسرعان ما أغلقت عيناها بضعف وهي تتهاوى للأرض
تمنّت توديع عائلتها قبل موتها...لكنّها سوف تموت...نعم سوف تموت الآن
**************
نهاية الفصل
1/ما رأيكم في هذا الفصل وما هو تقييمكم له؟
2/ما هي انتقاداتكم والأمور الّتي نالت استحسانكم؟
3/ما هي أرائكم بالأحداث والشّخصيّات؟
4/ما هي توقّعاتكم من أجل الفصل القادم؟
همست محب
الأم
وجــودهــا: حـيـاة
دعــواتـهـا: نـجـاة
أقــدامـهــا: جـنّـة
(جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ، من أحقُّ الناسِ بحُسنِ صَحابتي؟ قال: أُمُّك. قال: ثم من؟ قال: ثم أُمُّك. قال: ثم من؟ قال: ثم أُمُّك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك)
احفظ هذه الزّهرة ولا تتعبها,فهي دنياك وآخرتك
منقول