كاتب الموضوع :
وطن نورة ،،
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي
أحب قبل لا أبدأ أن أقدم خالص اعتذاري إن كنت أسأت لأي ديانة أو فئة أو كنت ضايقت أحد بحدث أو حوار دون قصد مني، وبالنهاية كل ما يدور في هذه القصة هو من وحي الخيال البحت الغير موجود بالواقع لا يمثل أحد ولا يُقصد به أحد :)
وكالعادة أتمنى لكم يوم سعيد و قراءة ممتعة مقدما ❤..
# الفصل الواحد والعشرون،،
" نَجمٌ أضَاءَ العَتْمة "
.
.
.
الرقعة في داخله تتسع، الفراغ يتسع، الغربة، الوحشة، الظلام. الكثير يهاجمه رغم أن لا شيء في وجهه. وحيدٌ لا أحد معه، لا أحد يتبعه، حتى ظله.
يشعر بالماء البارد يقع على رأسه كوابلٍ من نار، وكأن الجحيم مشتعلٌ في جوفه. يسند جسده بذراعيه التي تلامس الحائط مغمضًا عينيه، يشد على أجفانه بأنفاس قصيرة تكاد أن تتوقف من شدة برودة الماء، روحه تطلب النجدة ولا يلبي النداء.
منهك. متعَب. لا طاقة لديه لمواصلة هذه الحياة، مع ذلك يجد نفسه يحارب كل وسيلة كانت تقّرب له الموت، متمسك بالأيام الفارغة وكأنها ستمتلئُ يومًا.
اعتاد على القسوة، غلبت عليه، لا ذكريات في عقله سوى تلك التي صقلته ليصبح كالآلة تنفّذ دون أن تسأل، تبطش دون أن تكترث. استيقظ يومًا لا يعرف من يكون، ولا لأي حزبٍ ينتمي، يتحدث ثلاث لغاتٍ بطلاقة جعلته يتوه حتى بات يستنكر نفسه التي لا يعرفها. بدأها بقتل، وخدمة مقابل خدمة ثم غرقت أقدامه بالوحل.
اتبّع نهجًا غير مقتنع به، لكنه لم يجد غيره. يحمله اسمًا فقط وشعارًا لكن داخله فارغ. لا يشعر بشيءٍ سوى بظلام بارد يجعل أضلعه ترتعش دون توقف.
يشعر باليد التي قطعت صراخه الموجوع رغم أنه يقف الآن وحيدًا في حوض استحمامه. ترفعه من على الأرض بعد أن وقع عليها خائر القوى ما إن تحرر من قيده، ورغم خشونتها إلا أنها كانت تتفقده بحنو، يعاتب عتاب المهتم رغم الغضب في صوته : كم مره قلت لك اسمع الكلام ولا تعاندهم؟ أنت ماتفهم!!
ابتلع ريقه وهو يتذوق طعم الدم فيه بعد ساعات طويلة من اللكمات التي لا ترحم، يشم رائحة الحديد الصدئ تنبعث من جروحه المفتوحة بعد أن جففت دماؤها الشمس فوق رأسه.
ورغم وهن جسده إلا أنه سحب ذراعه بقوة من قبضته، يشد على أسنانه كي لا يصرخ ما إن شعر بالألم ينهشها : يخسون.
صرخ الآخر بقهر وهو ينفضه بقوة عله يرد إليه صوابه : اصحى ياذيب مو وقت عنادك الحين، شف وش سوو فيك مجنون أنت تبي تموت؟
ذيب بقوة وبأْس : أموت ولا أحني لهم راسي.
ثم أردف يتمتم بفحيحٍ مقهور وهو يشد على أسنانه حتى كاد يكسر مطاحنه : أموت ولا ينحني لهم راسي هالكلاب.
زفر بحرارة وهو يتتبع بعينيه جروح وجهه الدامي بحسرة، يمد يده للشق المتسع في منتصف خده وقبل أن تلمسه رؤوس أصابعه كفّ يده بعيداً عنه : عنادك الفاضي ذا بيوردك المهالك ياذيب، أنا ضحّيت بكل شي عشانك ومستحيل أسمح لك تحسسني بتفاهة تضحيتي ذي وإن اللي خسرته كله راح على الفاضي.
ثم استطرد وهو ينظر لوجهه بصرامة : ذي آخر مر...
تهدجت أنفاس ذيب وارتخى كتفيه المشدودين، ينظر لوجهه بذات الصرامة رغم تورم إحدى عينيه بدائرة داكنة تحيط بها وتضبب رؤيته، يقاطعه : يبوني أذبحك ياساطي.
اشتدت أنفاس ساطي، وانهارت ملامحه وتلاشت القوة المصطنعة فيها وهو ينظر له بشيءٍ من الصدمة وكأنه لم يتوقع شيئًا كهذا، على الأقل ليس باكرًا هكذا.
شد على شفتيه لثانية قبل أن يقول وهو يصرف بصره عنه : وليه تقول لي؟
نظر له ذيب بحيره وتشتت وهو لازال يصرف بصره عنه ولم يعلق، ليردف ساطي بهدوء : أنت هنا عشان تنفذ اللي ينطلب منك مثل ما انطلب منك بالضبط.
تبدلت النظرة في عينيه لحزنٍ واضح، ينطق بتوهان : يبوني اذبحك ساطي. أنا. يبوني. أذبحك. أنت!
زفر ساطي بحدة، وعاد ينظر له بصرامة : اهتمامك معناه إنك تعصي الأوامر وأنت هنا عشان تنفذ وبس، افهم كم مره لازم أفهمك ياثور؟
ذيب بقهر : طول ما أنا حي أنت لازم تبقى حي. أنت الوحيد اللي تعرف من أكون وأنت الوحيد اللي أثق فيه هنا حتى لو كنت تكذب علي.
ضحك ساطي بتهكم : قلت لك كل شي وش تبي تعرف أكثر من اللي عرفته؟
رفع ذيب كفًا مرتعشًا يمرره على خصل شعره الطويلة وقد تيبست بعد أن جفت فيها الدماء، يضغط على مكان الألم في مؤخرة رأسه ليشتد أكثر : ما قلت لي إلا إني ذيب. طيب أنا ذيب مَن ذيب وش؟ أنا ليه هنا أنت ليه هنا؟
ثم رفع بصره له، يتمتم بتشتت : حنا وش نسوي هنا؟
سكت ساطي دقيقة طويلة وهو يعصر ذراع ذيب في قبضته بغضب دون أن يشعر بنفسه، يهتف بنبرة ميته وبوجهٍ لا تعبير فيه : وهذي الحقيقة تكفيك، أنت ذيب، ذيب وبس وهذا اللي تحتاج تعرفه.
ثم وقف وهو يرفعه معه بقوة، يلصقه بالعمود خلفه ويعاود شد وثاقه بقوة دون أي اعتراض من الآخر، يتابع قوله بذات الغضب : بس أنت شكلك تبيهم يفهمونك هالكلام بطريقتهم. خلك لين تسلخ الشمس جلدك يمكن تتربى.
.
زفر لهيبًا من جوفه، وأغلق المياة التي كانت تسقط على رأسه بضربة واحدة قوية على الصنبور، ليختفي صوت ارتطامها بالحوض تحته، يعم الهدوء أرجاء المكان إلا من صوت أنفاسه السريعة من البرودة.
بقى واقفًا على حاله، يسند جسده بامتداد ذراعه على الحائط أمامه مغمضًا عينيه ويمرر يده الأخرى على شعره إلى أن قرر أن يبدأ هذا اليوم ويتحرك خارجًا من دورة المياة. يرتدي ثيابه على أقل من مهلة بثقلٍ ونفسٍ مسدودة. ينظر لإنعكاس صورته في المرآه، يدقق النظر في عينيه الحادتين كالسيف بفراغ وكأنها لا تنتمي له وهو يرفع قلادته ويرتديها لتستريح النجمة السداسية على قميصه الداكن. يمسح على شعره أكثر من مره معيدًا الخصل الرصاصية للخلف قبل أن يخرج من غرفته.
مر بالصالة ليلمح نوعام الجالس على الأريكة مروره الخاطف، يتبعه بابتسامة مستفزة على وجهه ويقف عند الباب وهو يراه يفتح الثلاجة، يسأل : هل ستخرج؟
تجاهله ذيب وهو يشرب من قارورة الماء الباردة في قبضته، دون أن ينظر له.
نوعام بعد ثانية صمت ونبرة باردة : أريد أن أريك شيئًا، الحق بي حالاً.
التفت ذيب بعينيه ناحية الباب حيث كان نوعام يقف، يزفر بغيظ و "هه" كارهه بشكلٍ لا مثيل له خرجت من بين شفتيه.
ألقى بالقارورة على الرف بعدم اكتراث بعد أن شرب مافيها كله. يخرج من المطبخ بخطى بطيئة توقفت ما إن وصل لنوعام الجالس على الأريكة يضع قدمًا على الأخرى، والذي ما إن رآه حتى وبدأ يربت على المكان بجانبه : تعال واجلس بجانبي خبيبي ذيب.
تقدم يخطو خطوته وكم يتمنى أن يطأ على رأسه ليسحق جمجمته تحت قدميه، يتجاهل دعوته ويجلس على الكرسي المفرد دون أن ينطق بحرف ويكتفي بنظرته الحادة التي جعلت ضحكة هازئة تخرج من بين شفتي نوعام.
نوعام وهو ينظر له من الأسفل للأعلى باستصغار : أتوقع من تأنقك هذا أنك ستخرج مع القطة، لذلك لن أطيل عليك.
تقدم بجسده ورفع الصورة التي كانت على الطاولة أمامه، يرميها ناحية ذيب لتتهاوى أرضاً قريبًا من أقدامه.
أخفض ذيب عينه لها بعد أن وقعت قريبًا منه مقلوبةً على وجه صاحبها. يرفع بصره مجددًا لنوعام الذي كان ينظر له بذات الابتسامة، ليسأل ببرود : ماهذا؟
اتسعت ابتسامة نوعام أكثر وهو يشير بيده : اكتشف بنفسك.
زفر ذيب بخفه رغمًا عنه فهو لا يريد أن يشعر نوعام بأنه نجح باستفزازه. يمد ساقه قليلاً قبل أن يقلب الصورة بأصابع رجله بكل قرف مما أضحك نوعام الذي قال بسخرية : تؤ، أظهر بعض الاحترام يافتى!
نظر ذيب للوجه الذي ظهر له، متجاهلاً نوعام وتعليقه لدقيقة كاملة رفع بعدها عيناه له بتساؤل وبنظرة حاده كارهه جعلت نوعام يضحك، يقول بعد ذلك وهو يقف ويتقدم ليجلس على ذراع كرسيه : لطيف أليس كذلك؟
ثم يردف وهو يلف ذراعًا حول كتفه، يشير بسبابته للصورة الملقاه أمامهما أرضاً : فريستك القادمة بعد يومين، لكن خذ الصورة من الآن وعلقها على حائط غرفتك، تأملها وصلّي على ملامحه البريئة لأنك أنت من ستدميها لاحقًا.
ابتلع ذيب ريقه وهو ينظر للصورة، رجل رآه مره أو اثنتين لكن لا يعرف أين. أو حتى اسمه!
نوعام بهدوء وكأنه قرأ أفكاره : كوهين،
ذيب وقد ارتفع طرف فمه بعد أن لمع الاسم في ذاكرته، يومئ ساخرًا : آه كوهين، صحيح...
ثم أمال رأسه لينظر له بتهكم : هل بدأت بقتل جماعتك الآن؟ يبدو أن الأمر لم يعد مقتصرًا على أعدائك فقط.
نوعام بابتسامة : خبيبي الذئب الصغير أنا متفهم جدًا حالة التشتت التي تعيشها فعقلك أصغر من أن يفهم لكن جماعتي -مع تحريك إصبعي السبابة والوسطى إلى الأعلى والأسفل بعلامة تنصيص- في هذا العالم كُثر، نصفهم مثالي أكثر من اللازم ومثالية كوهين مؤذية للنصف الآخر الذي انتمي له أنا،،، وأنت.
احتدت نظرة ذيب كنصل سيف لتمحي البرود الذي كان يغطيها بعد أن نطق نوعام كلمتيه الأخيرتين ببطء وسبابةٍ تحركت بينهما لتؤكد كل كلمة : أنا لا انتمي لأحد.
شد نوعام على كتفه يقربه منه، يهتف ضاحكًا : أنت معي، مما يعني أنك تنتمي لي، تتّبع مساري وتنفذ أوامري دون أن تتفوه بكلمة كالجرو المطيع تمامًا.. أتمنى أن يكون المعنى وصلك بوضوح الآن.
لم يقطع ثواني الصمت التي غشت المكان والنظرات المسمومة بينهما سوى ارتفاع نغمة هاتف ذيب معلنةً عن اتصالٍ وارد، تجاهله ذيب لكنه لم يفت نوعام الذي أفلت كتفيه ووقف لازال الاستفزاز يغطي صوته : لابد من أن القطة قد وصلت أخرج لها قبل أن تصعد لك وتلتصق بقدمك طيلة الليل.
شد ذيب على قبضة يده بغيظ وهو يتوعد نوعام في نفسه، متأكد من أن اليوم الذي سيسحق فيه رأسه بذات القبضة سيأتي. عاجلاً أم آجلاً سيأتي.
وقف خارجًا من المكان بصمتٍ استطاع أن يغيظ به نوعام الذي تابعه بعينيه يطأ على الصورة ويبتعد مغلقًا الباب خلفه بقوة.
استمر هاتفه بالرنين دون توقف إلى أن وقف على الرصيف أمام السيارة السوداء، تلتقي عيناه بالسائق صاحب البنية القوية بعد أن ترك مكانه خلف المقود لصاحبة الشعر المشتعل، والتي ما إن رأت ذيب حتى وضربت له الهرن، تهتف بحماس وهي تنظر له من النافذة المفتوحة : أهلاً ومرحبًا بك لقد تأخرت لكن لا بأس، اركب عزيزي أمامنا طريق طويل وأحاديث مهمة!
رفع رأسه يطلق نفسًا حانقًا لا رغبة لديه بسماع صوتها أو رفقتها حتى، مع ذلك وجد نفسه يفتح باب الراكب ويركب، مجبرًا أخاك لا بطل، مغلقًا الباب خلفه ببطءٍ مميت فرغم كل شيء لكنه متأكد من أنها الوحيدة التي لا تنوي به شرًّا ويهمها أمره حقًا.
ينظر للأمام متجاهلاً صوتها وهي تتحدث مع سائقها بصرامة وحزم : انتظرني هنا حتى أعود، وإن اتصلت على والدي وأخبرته سأتأكد بنفسي من محوك عن هذا الكوكب، مفهوم؟
هز السائق رأسه دون أن يصدر صوتًا، لتنطلق بعد إشارته هذه في طريقها بسرعة جعلت ابتسامة ساخرة تعتلي وجه ذيب على حاله التعيس.
مضت ساعتين وكلاهما صامت، لا صوت سوى صوت انطلاق السيارة تشق الشوارع بسرعة جنونية، إلى أن وقفت على جانب أحد الطرقات. تأخذ نفسًا قبل أن تقول بهدوء : ذئب.
التفت ذيب الذي كان يسند كوعه على حدود النافذة رافعًا حاجبًا باستفسار دون أن يعلق.
انتظرت تعليقًا منه لكن لم يصلها شيء، ولم تستنكر ذلك فقالت بتردد : نوعام كان في منزلنا الليلة الماضية، مع والدي.
رمش مرتين بهدوء، ولم يظهر على وجهه أي تعبير فهو يعلم أن علاقة نوعام بوالدها جيدة حتى وإن حاول الأول ايهامه بعكس ذلك وطلبه أن يتودد لابنته 'شارونيت' ويستغل إعجابها القوي به والذي لم تحاول اخفاءه حتى.
أخفضت بصرها وهي ترى نظرته الباردة وكأنه سيقتلها : سمعت عن طريق الصدفة بأنه سيرسلك إلى أورشليم، هل هذا صحيح ذيب؟
اشتدت عقدة حاجبيه وهو ينظر لها بعدم استيعاب وصَمت رغم تسارع نبض قلبه بغضب.
شارونيت ونظرتها وقعت بعينيه الشاردة : هل ستذهب؟....
ثم أردفت بعد ثانيتين سكوت : لا أريدك أن تذهب،، أرجوك لا ترحل.
استمر ذيب صامتًا لساعة أخرى ولم يفتح فمه بحرف، كان صمته شيئًا اعتادت عليه شارونيت وكان هذا مايجعلها تهوي في حبه بقوة في كل مره.
توقفت أمام العمارة التي يسكنها، لترى سائقها الذي كان جالسًا على عتبات الدرجات الصغيرة يقف بوجهٍ جامد ينطق بالإستياء، تفتح بابها بعد أن فتح ذيب بابه. تلحق به باندفاع ما إن تحرك لتسمك كف يده بقوة : لحظة!
التفت ينظر لها بوجهٍ يتضح عليه الغضب، تشد على كفه ما إن شعرت بمحاولته الإفلات من قبضتها، تشير بعينيها لسائقها الذي فهم مقصدها وابتعد يأخذ مكانه خلف المقود بعد أن رمق ذيب بنظرة شرسة ردها ذيب بأخرى أكثر شراسة.
شارونيت بهدوء : أتمنى أن تتحدث مع نوعام وترفض الرحيل، ليلة سعيدة خياتي ذيب.
اقتربت منه وقبّلت خده بخفه، لينفض ذيب يده منها ويبتعد.
دخل الشقة التي يسكن فيها بوجهٍ سُحب منه الدم، يبحث بعينيه عن نوعام ولم يجده.
ليخطو خطاه مسرعًا بغضب جلي بعد الذي سمِع، يفتح باب غرفة نومه ويقترب من الجسد النائم على ظهره قبل أن يلف يديه حول عنقه بقوة.
فتح نوعام عينيه يشهق بهلع، وما إن التقت عيناه بالجمرتين المشتعلات في وجه ذيب حتى ولف يديه حول معصمه، يحاول تحرير نفسه منه ولكن دون فائدة، وما إن شعر بيدي ذيب قاب قوسين أو أدنى من أن تُخرج روحه من مقلتيه حتى ورفع ساقه، يركله بقدمه بقوة ليتراجع ذيب خطواتٍ للخلف ينحني على نفسه بألمٍ يقسم أنه قَسم جسده لنصفين.
وضع نوعام يده على عنقه يتحسسه، يعتدل جالسًا بسرعة بانفاسٍ فزعه ينظر لذيب بنظرةٍ غاضبة : ماذا دهاك هل جننت؟
شد ذيب على أسنانه بقوة كأن رأس نوعام بين مطاحنه، يرمقه بنظرة حاقدة جعلت الآخر يقول باستنكار : لماذا أنت غاضبٌ هكذا؟ هل هي القطة؟ ها؟
يتابع وهو يلاحظ رجفة جسد ذيب الواضحة : هل عبثت بك وأخذت منك شيئًا رغما عنك؟ لابد أنها قبّلتك..... قبّلتك صحيح؟
ثم أنزل أقدامه ليلامس باطنها الأرض الخشبية على صوت أنفاس ذيب الغاضبة جدًا، يقول متهكمًا : قلت لك لاعب القطة لكنك أحمق بما يكفي لتتجاهلها وهي تتلوى عند قدميك.
همس ذيب ببساطة رغم الكره الذي يشعر به والغيظ الذي يكوي قلبه، بحقد : خنزير.
زفر نوعام ضحكةً مستنكرة : اتشتمني بلغتك كي لا أفهم! اشتمني بلغتي كي أستطيع الرد عليك خبيبي ذيب.
ذيب بنبرة أعلى : صهيوني، ملعون، قذر.
عقد نوعام حاجبيه يمد شفتيه بتساؤل : هل نعتّني بالصهيوني القذر للتو أم اشتبهت عليَّ المعاني؟
ثم تابع وقد ارتفع طرف فمه بابتسامة هازئة : إن كنت أنا صهيونيًا فأنت من أي فئة تكون أيها الخسيس؟ لكن لا بأس.. قل ما شئت لن أخالفك الليلة فأنا أحتاجك بالغد.
انقض ذيب عليه مجددًا، يلف يده حول عنقه يحاول خنقه ليجد ابتسامة نوعام في وجهه وصوته هاتفًا باستهزاء وهو يضحك : والآن تحاول قتلي؟... حسنًا ياذئب افعلها واقتلني.
ضغط ذيب على رقبته أكثر وهو ينظر بحقدٍ لابتسامته الباردة التي لم تتغير. فهو يكره نوعام ويبغضه كما لم يكره أحدًا في حياته الفارغة كلها. بل إنه يكرهه أكثر من أسياده، وممن هم خلفه ويحركونه كيفما يشاؤون وكأنهم في مسرح دمى..
وبالرغم من أنّ ماكان ينوي قوله كثير لا نهاية له، إلا أنه وجد نفسه يصمت متجاهلاً البراكين التي ثارت في جوفه تحرق بحممها كل شيءٍ داخله.
يتجسد ضعفه في أبهى حلّه، لا أصوات ولا حروف تسعفه، لا شيء يقف معه.
اتسعت ابتسامة نوعام بثقة وهو يشعر بتراخي كفّي ذيب حول عنقه : هذا ما ظننته، والآن بعد أن انتهيت من اللعب اذهب وخذ قسطًا من الراحة.
.
.
"متى تفهم ياعزام إن حياتك ما صارت تخصّك لحالك؟ هلكت قلبي حرام عليك".
زفرت شعاع بضيق وهي تتبعه بعينيها بقلق، يرتدي ثوبه، يتحرك في الغرفة كالإعصار، متخبط في كل إتجاه! وكأن هناك شيءٌ يلحق به ويحاول الفرار منه،
سألت مجددًا بأنفاس مرتعشة : عزام صاير شي؟
وقف في منتصف الغرفة، يعطيها ظهره بعضلاتٍ مشدودةٍ بوضوح، يضغط أزراراً ظهرت على شاشة هاتفه بسرعة قبل أن يضعه على أذنه ويقول بزفرة حادة : لأ قلت لك، خلاص ارجعي نامي لا تشغلين بالك.
وقبل أن تفتح فمها لتسأل مجددًا، اتجه ناحية الباب، يفتحه ليخرج من الغرفة : هلا بسام..
هتفت شعاع بيأسٍ مقهور بعد أن سحَب الباب ليغلقه خلفه : طيب انتبه على نفسك ياخي.
تشتم في نفسها بسام الذي لم ترتَح له منذ تلك الزيارة ودخل القائمة السوداء بجدارة.
وضعت يدها على جبينها، تضغط عليه ونظرتها مثبته للسقف. تحاول ألا تقلق، أو تبحر في عالم الخيالات والوساوس الذي تجد نفسها تغرق به رغمًا عنها في أي موضوع يتعلق بعزام حتى ولو كان تافهًا،
تسلي خاطرها بتذكر أحداث الأمس، الفرحة التي استوطنت المنزل وساكنيه بعد معرفة خبر حملها, سعادة عزام على وجه الخصوص ونظرته التي لمحت فيها شيئًا مختلفًا غير الذي تعرفه،
لقد كان عزام مرهقًا طيلة الاسبوعين الفائتين، سارحًا رغم الابتسامات الباردة التي يسكتهم بها من وقتٍ لآخر. ورغم أنّ هذا طبعه منذ أن عرفته ولا يحق لها استنكار كل هذا الآن وكأن شخصًا آخر تلبّسه، إلا أنّ الرجل في الآونة الأخيرة تغيّر، وتغيّر كثيرًا حتى باتت ابتسامة باردة واحدة من تلك القديمات تكفي للفت الانتباه والقلق, لكنه وما إن علم بحملها تلاشت خطوط التعب تمامًا وأنارت البهجة وجهه بشكلٍ لا يمكن التغافل عنه.
بل أنه عندما حل وقت النوم حاصرها بين يديه ما إن خرجت من دورة المياة، يضع كفيه على كتفيها متأملاً وجهها بابتسامة صامتة جعلتها ترتبك، فهي وحتى بعد مرور سنتين برفقته لازالت تخجل من عزام وكأنها تزوجته بالأمس. لازالت نظرات عميقة كهذه توترها وتعبث بإتزانها وثباتها، وابتسامة واسعة كهذه تقلب موازينها رأسًا على عقب..
مع ذلك ضحكت بارتباكٍ جعل الابتسامة تتسع حتى أخذت نصف وجهه : وش عندك؟
قالتها وهي ترمق عينيه بنظرتها، تلمح بريقًا آسرًا تراقص على سطحها، قربها لصدره، هامسًا بنبرة مشاكسه : اشتهيت أضمك، فيها شي؟
ارتجف قلبها بين أضلعها، تضحك بعذوبة ضحكةً مرتعشة : لا مافيها شي, أبدًا مافيها شي.
تغمض عيناها وهي تشعر بدفء أنفاسه قريبًا من أذنها الباردة، يهمس فجأة : شعاع!
ابتلعت ريقها ببطء "قلب شعاع وروحها أنت" : مم؟
ارتفع طرف فمه بابتسامة متأكد من أنها سمعتها في صوته : تدرين إنك انقذتيني... ههه!
حاولت أن تتحرر منه لتنظر له وتفهم مقصده، عينًا بعين ووجهًا لوجه، العينان التي تغرق بها والوجه الذي تعشق.. لكنه شد عليها برقه ليمنعها، يتابع بذات الهمس : كانت روحي مخنوقة لين سمعت صوتك وأنتِ تبشريني وتغيّر كل شي بثانية كأن الدنيا ضحكت بوجهي فجأة..... شعاع أنا مبسوط.. أحس إني فرحان ومبسوط جد..
اشتد نبضها حتى شكت بأن الوداع قد حان، وما كانت هذه إلا النبضات الأخيرة، تشعر بكلماته تصل لقلبها مباشرة هذه المره، تلتصق بجدرانه وهي تلتمس صدق المعنى فيها.
رفعت يدها ومسحت على أطراف شعره، لثانية أو اثنتين بصمت، حتى أرخى من شد ذراعيه. ابتعدت، ليس كثيراً. تنظر لعينيه التي خفّت حدتها بإرهاقٍ واضح، ونظرة ناعسة، تضم وجهه بين كفيها، تميل نحوه بنظرةٍ حانيه قبل أن تقبل عينيه، وبروز عظام وجنتيه، تتمتم بخفوت ونبرة مثقلة بعد أن ابتعدت قليلاً، تتأمل اغماضه لجفنيه وابتسامته الهادئة : وأنا بعد.
.
تأففت وهي تنظر لساعة هاتفها التي تشير للسادسة وخمسة وأربعون دقيقة صباح يوم الخميس، تطلق نفسًا آخر بثقل قبل أن تبعد الغطاء عنها وتتجه لدورة المياة. تنتهي بعد ذلك من استعدادها لبدء يوم عمل طويل وتخرج من غرفتها بعد أن ارتدت عباءتها ولفت طرحتها.
نزلت السلالم وهي تعيد هاتفها لحقيبتها بعد أن اتصلت على السائق كي تتأكد من وصوله بعد أن أوصل خالتها صيتة حيث تعمل في أحد المكاتب التابعة لوزارة التعليم.
ليلفتها الجالسان بالصالة قبل أن تواصل طريقها لباب المنزل، عبدالإله على الأريكة مستعد بثوبة وشماغة ساندًا رأسه براحة يده وعند أقدامه على الأرض تجلس مريم أمامها صينية الفطور.
شعاع بابتسامة ونبرة خفيفة وهي تقترب : صباح الخير على أحلى اتنين فيكي يامنطِئة..
رفع عبدالإله عينيه لها، يبادلها الابتسامة بأخرى ناعسة : صباح الروقان ههه.
نزلت شعاع بجسدها حيث تجلس مريم، ترفع كأس الحليب الأبيض الذي تبقى فيه النصف تقريباً : الحين عرسك بكرة وبتداوم؟ المفروض تاخذ إجازة ترتاح وتزبرق عمرك!
تثاءب عبدالإله قائلاً بعد ذلك بعبوس : كان ودي بس خلص رصيد اجازاتي وبالموت أعطاني أسبوع إجازة زواج.
ضحكت بشماته : خل السودان تنفعك الحين...
عبدالإله متصنعًا الحسرة : اخ خليني ساكت بس، لا عاده الله من قميري نكبني..
عقدت شعاع حاجبيها باستهجان بعد أن شربت مافي الكأس كاملاً : حاطين سكر بحليب السعودية!!
تنهد عبدالإله بضجر : اسكتي وخلينا في ساعة خير هواش هي وصيتة من صبح الله عشان ذا السكر.
شعاع بمرح وعينيها على مريم الصامتة : نملة أنتِ نملة؟
ثم أردفت ما إن تجاهلتها مريم تمامًا، تتأمل ملامح وجه عبدالإله وحركة أجفانه البطيئة : وأنت وش فيك طافي؟ ماهي العادة يعني!
ابتسم بخمول : كنت مشغول أمس بمكالمات مهمة ولا نمت إلا متأخر.
وقفت، تضحك من أعماق قلبها ما إن أعطاها ابتسامة واسعة بعد أن انتهى من قوله : اللهُ أكبر! مكالمات مهمة أجل!
عبدالإله بذات الابتسامة : ومهممة جدًا ماكنت قادر أنام عنها.
لوت شعاع فمها قائلةً بنبرة ممازحة تتصنع الحسرة : الكل كان غرقان وعنده مكالمات مهمة قبل العرس إلا أنا حسرة علي ما سمعت صوته إلا وهو واقف قدامي ببشته وماقال إلا السلام لاا ومن ورى نفسه بعد.
بالرغم من أن ماقالت أحزنه إلا أن عينيه اتسعت بهلع، يفتح كفه في وجهها يهتف بإندفاع : قل أعوذ برب الفلق.
عادت تضحك ومزاجها انقلب مئة وثمانون درجة من مجرد النظر لوجهه : إن صار شي تدل مكاني تعال بتفّل عليك.
ثم ارتدت غطاء وجهها، بتأفف : استغفرالله العظيم أول مره اتثيقل روحة الدوام.
ضحك بدون نفس : ليكون تتوحمين؟
سحبت طرف نقابها من الأعلى وضوقته قائلةً بهدوء : لا والله بس انغثيت نفس الروتين ينعاد كل يوم.
سكت عبدالإله لثانية قبل أن يقول بهدوء : عزام طلع؟
زفرت وهي تشد على حزام حقيبتها المعلقة على كتفها : ايه طلع بدري اليوم يقول عنده شغل.
زفر هو الآخر ، يهمهم بهدوء : الله يعين..
ثم حرك ساقه التي تستند عليها مريم بقوة دافعًا معها جسدها للأمام قليلاً, يقول بنفاذ صبر مستعجلاً إياها : يابنت أنجزي تأخرت على دوامي صار لك نص ساعة مقابلة الأكل!..
تأففت مريم، ترفع خبز التوست أخيرًا، تمسكه بين يديها تنظر له دون أن تُقدم على أي حركة أخرى.. مما جعل شعاع تسأل وهي تلاحظ مزاجها المتعكر : وش فيها؟
عبدالإله متأففًا هو الآخر : نفسية.
شعاع بمودة وحماس : مستعد لبكرة؟
تبدل تجهم ملامحه لإبتسامة واسعة بلمح البصر : ماعمري كنت مستعد بحياتي مثل استعدادي الحين .
ضحكت شعاع وقطعت مريم حدود التوست البنيّة بحركة واحدة قبل أن ترفع يدها وتمدها لوالدها الذي أخذها منها قائلاً وهو يضعها في فمه : يابنتي شلتي نصه!
مريم بعبوس : قلت لك من قبل قصّه بالسكين ما أحبه.
تبسمت شعاع ما إن وقف ورفع ابنته بين يديه، بيدها خبزتها وبفمه ما أعطته : مشينا يا أميرة القصر كمليها بالسيارة...
وقبل أن يتعدى شعاع للباب، فردت ذراعيها واحتضنته.. تعلق مريم بالمنتصف بينهما فقال ضاحكًا : تسجيل دخول مفاجئ لمشاعر الأمومة هلا والله، بدت تطلع من ثاني يوم أشوف!
شعاع وهي تشد عليه متجاهلة مريم وتحركاتها السريعة كي تتحرر : والله إن لولو محظووظة فيك ياعبادي. الله يسعدكم!
ابتسمت مريم أخيرًا، ابتسامة واسعة أضاءت وجهها : خلاص لولو بتسكن معنا؟
ابتعدت شعاع قليلاً بتهكم : ماشاءالله الحين بانت كشرتك وقبل شوي مبرطمة علينا!!
مريم بحماس : الحين خلاص أصير أقعد مع لولو للأبد؟؟
هز عبدالإله رأسه بقوة، مبتسمًا بفوضوية : ايييه اييه..
حركت مريم قبضتها بالهواء بانتصار : يس... أخيرًا.
شعاع متعمدةً إغاضتها : عبادي بس بيسكن مع لولو وأنتِ بتقعدين عندي.
كرمشت ملامحها بسخط وانمحت الابتسامة بسرعة : ليش؟ ما أبي.
نطقت شعاع بصدمة حقيقية : أفا!! ماتبيني؟
انفجر عبدالإله ضاحكًا بسعادة واضحة : وش تبي فيك؟....
ثم أردف محدثًا ابنته بعد أن قبل أنفها : قولي لها صار عندنا لولو الحين خلاص الباقي كلهم يع!
هزت رأسها بقوة وهي تلف يديها حول رأس والدها تحتضنه وتنظر لشعاع تغيظها : الباقي يع..
مشت شعاع معهما للخارج : الجحدة بذا العايلة بريال!
ثم أردفت بغيظٍ فعلاً وهي تقرص ذراعه : دام الدعوة كذا أجل خذها معكم دبي خلها تنشب لك مانبيها.
.
.
: غادة نايمة!.
نطقها هامسًا، بل أنه متأكد من أن صوته لم يتعدى مسمعيه.. متعمدًا.. لا يريد منها أن تستيقظ الآن فالوقت لازال مبكرًا ليستيقظ كلاهما ويستعد لعمله، يحرص على أن يتأكد من ذلك بين ثانية وثانية في كل مره يرفع فيها هاتفه ليرى الساعة.
لكنه كان يشعر برغبة ملحّة بنطق اسمها، يشعر بأن تردد حروفه بين أضلعه إن لم يخرج سيكسر صدره... يتمدد في مكانه، ينظر لها نائمةً بجواره تعطيه ظهرها، وكم يتمنى أن يعاود مناداة اسمها بصوتٍ مرتفع هذه المرة علها تلتفت...
رفع هاتفه مجددًا ليجد الوقت هو نفسه، ولم تتغير إلا الدقائق التي زادت خَمسًا.
تراخى الهاتف من قبضته بخدر، و وقع على وجهه بالمساحة الفارغة بينهما، وهو يعلم بأنه سيعاود رفعه بعد دقائق ربما تقل عن الخمس هذه المره.
يرفع بصره لها، يأخذ أنفاسًا هادئةً.. وعيناه لم تتعدى محيطها رغم أنه لا يرى إلا خصل شعرها الطويلة التي غيرت لونها بالأمس ليصبح مزيجًا مجنونًا من تدرجات اللون الأشقر العسلي والبني.
مد يده يسحب مالم يشمله الغطاء الذي كانت غادة ترفعه ليغطي رأسها، يبتسم على ذكرى البارحة عندما عادت من صالون التجميل تقف في منتصف الصالة أمامه وتنزع الغطاء عن شعرها بحركة واحدة ، تنظر له بحماس : ها وش رايك؟ لاتينو ولا مش لاتينو؟
كان التغيّر واضحًا جدًا، ملفتًا جدًا، صادمًا حقًا وجدًا إذ أنه لم يتوقع هذا اللون عندما أخبرته بأنها ستغير لون شعرها، ساحرًا لا يقاوم أبدًا أبدًا.
ورغم أنه حاول أن يظهر بعض الثبات عندما جلست بجانبه على الأريكة الطويلة تنحني بظهرها للأمام قليلاً بعينين مثبتتين بتركيز على شاشة حاسوبها الموضوع على الطاولة أمامها تتفقد ما أرسلته الطالبات على البلاك بورد الجامعي، إلا أنه رفع راياته البيضاء كلها في النهاية، يمد يده لتتخلل أصابعه خصلات شعرها المنسدلة بطبقات متفاوتة الطول على ظهرها، غير قادر على التوقف فالخصل اللامعة كانت مغرية حدّ الغرق. محاولاً كف يديه بعد أن قالت بضحكة خافتة : محترق ها؟
فهد بابتسامة واسعة وهو يحرك يده بسرعة ليتناثر شعرها بشكلٍ فوضوي : بالعكس يهبل.
رمشت بخمول : فهد يرحم أمك وخر يدك أنا إذا أحد لعب بشعري أخدر.
فهد بدون أي تأنيب ضمير : آسف ماكنت أدري.
ضحكت وهي تشعر بأصابعه : والحين صار عندك خبر، تكفى باقي لي شعبة كاملة.
ليقول بتملل وهو يدلك فروتها ببطء : من رجعتي وأنتِ مقابلته خلاص قومي نامي وارتاحي.
غادة بنبرة مثقلة وعينين بالكاد ترمش : تونا على النوم الساعة مابعد تصير عشر حتى.
اعتدل بجلوسه وهو يسحب جهازها من أمامها على غلفةٍ منها، يغلقه ويلقي به على الأريكة الأخرى : أنا قلت قومي .
رمشت أكثر من مره ولم تستوعب حركته، لازالت يدها معلقه في الهواء حيث كانت تحرك أصابعها على الفأرة اللوحية : فهدد!!
رفع حاجبًا وهو يقف : قدامي أشوف.
رفعت رأسها تنظر له وهي تسند ظهرها على الأريكة خلفها، تقول بعناد رغم الإرهاق الواضح : بخلص شغلي وأقوم.
لكنه رفعها من ذراعيها بتجاهل، يمشي معها دون أن يعلق، لتقول باستسلام بعد أن تثاءبت : طيب أمري لله بس ذكرني بكرة وقفت عند اسايمنت سجى عيد، المطلوب الرابع.
هز رأسه يكرر خلفها متمتمًا : اسايمنت سجى عيد المطلوب الرابع، أوكي.
.
كان يلف الخصلة حول يده بشرود إلى أن تحركت غادة وكأنها شعرت به، وابعدت الغطاء لتستلقي على ظهرها، وقبل أن يبتسم فهد ظنًا منه بأنها استيقظت، وضعت ذراعها تغطي بها عينيها دلالة على أنها لازالت نائمة.
رفع رأسه يسنده براحة يده.. متأملاً بشغف, بمودة.. بذات الشعور الرقيق الذي يسيطر على مشاعره في كل مرةٍ ينظر لها.
يشعر معها بأنه شخصٌ آخر.. شخص سعيد تجرّد من كل مخاوفة ولم يبقى في قلبه ولا عقله إلا الطمأنينة وراحة البال.
يذكر فهد ذلك اليوم جيدًا عندما أغلقت باب الغرفة في وجهه محرجةً من سخافة طرفتها, لتفتح له بابًا آخر للحياة دون أن تدرك.
*
قاطعته غادة، ترفع كفًّا مرتعشًا في وجهه، إن لم تخفف من التوتر سيموت أحدهما لامحاله، تقول بابتسامة وارتباك أكبر : ناديني غادة بدون أستاذ.
في بادئ الأمر لم يستوعب، وبقى لثوانٍ قليلة يحدق بها بعدم فهم جعل الدم ينفجر في وجهها، بل شعرت بأنها ستبكي فقد بدت سخيفة جدًا هي وطرفتها هذه.. تعود خطواتٍ للخلف وتغلق باب الغرفة في وجهه بكل ما أتاها الله من قوة.. ليغرق بعد ذلك بضحكة عميقة وهو يسمع صوت المفتاح يُقفل مرتين، يهمس بذهول وعدم تصديق وفي عينيه تلتمع حياة : مجنونة!
أغلقت غادة الباب محرجة، وكانت جادّة عندما أغلقته.
وهو كان محترمًا مراعيًا بما يكفي لِئلا يقرعه، أو يضغط عليها كي تفتحه.
بل أنه بقى طوال الليل متمددًا على أريكة الصالة الغير مريحة، ينظر للسقف ساندًا ذراعه على جبينه، ولا يتردد في عقله سوى السكون المسيطر على المكان، يحاول جاهدًا ألا يشغل عقله بشيء فلا فائدة من التفكير، في هذا الموضوع بالذات..... تأتيه أحداث من الماضي تلوّح بأصابعها ساخرةً في وجهه، الأيام التي يتمنى أن يمحيها من عقله، يتذكر كل شيءٍ بالتفصيل رغم مرور السنين عليه،
تمدده على السرير الأبيض في المستشفى، لباس العمليات الخفيف، وجه أمه المليء بالدموع، نظرات والده الغارقة بالحزن، وجه حاكم الشاحب.
يتشبث بيدها ما إن طلبت منهم الممرضة الخروج فدقائق معدودة تبقت تفصله عن إنهاء ثمانية عشر سنة من الحياة في جسد فتاة.
إنحناء سارة التي ربتت على رأسه بالشعر القصير جدًا،
يهمس بضياع : يمه.
ابتسمت : استودعتك الله حبيبتي، بتطلعين وبتلاقينا كلنا ننتظرك.
انحناء والده يشد على كتفه : عندي محزمين والحين صاروا ثلاثة، شد حيلك وأنا أبوك العملية بسيطة حبيبي لاتخافين .
وجه حاكم المحتقن بالدموع : الجو..
ثم تلعثمه : تقومي.. تقوم بالسلامة .
صوت الممرضة الهادئ : عليكم أن تخرجوا يارفاق يجيب أن نبدأ بتحضيرها للعملية.
تنحني والدته تقبّل جبينه قبلةً طويلة، ليتشبث بيدها ما إن حاولت أن تبتعد، يستنجد بهلع : يممه تكفين لا تخليني، يمه والله خايفة يمممه.
لكن النحيب الذي خرج حادًا مرتفعًا من بين شفتي سارة عندما سحبها والده للخارج رغمًا عنها أثبت له بأن لا مفر من هذا، لا فرصة للتراجع الآن،
يجد نفسه على سريرٍ آخر، بغرفة بإنارةٍ خافتة تفوح فيها رائحة المعقمات وتصاعد أصوات الأجهزة وأعين كثيرة تقف فوق رأسه تنتظر منه أن يدخل في سباتٍ عميق.
يهرب من كل هذا، يسلط نظرته الغارقة بالدموع على دوائر الإضاءة الصفراء الفاقعة فوقه، صوت الطبيب هادئًا يسأل، يضيع الوقت بينما المخدر يبدأ مفعوله : هل أخترت اسمًا أم لم تقرر بعد؟
تتداخل الأصوات في عقله الذي بدأ يسبح في جمجمته، جلوس حاكم معه قبل الأمس، صمت وتوتر يشعر به وهو يتجنب النظر للإتجاه الذي يجلس فيه حاكم، يسند ذقنه على ركبتيه المشدودتين لصدره،
صوت حاكم المشتت فهو لا يعرف أي صيغة مناسبة للحديث خصوصًا وهو يرى شعره المحلوق على الماكينة وملامح أخته : وش قررت.ي اسم؟
رفعت الجوهرة بصرها تنظر له، وابتلع ريقه وهو يرى النظرة الفارغة ليقول مبتسمًا : يعني مو معقول بيبقى اسمك الجوهرة.
الجوهرة بنبرة ميتة : مافكرت!
اتسعت ابتسامته : تبين أختار لك أنا؟
: كيفك. مايهم!
عبس : وش فيك كذا وش هالكآبة!
ارتعش فكها تصرف بصرها عنه، تتمتم وقلبها ينبض بهلع : خايفة ياحاكم.
عقد حاكم حاجبيه : من وش خايفة؟
لتجيبه ببؤسٍ فضيع : ليه أنت ما تشوف إن حالي يستحق الخوف؟
زفر حاكم الذي كان يجلس على الأريكة الملاصقة للحائط في شقتهم المؤقته، يقول بعد سكوت قصير فهو خائفٌ أكثر منها : أتوقع أبوي يسميك على اسم عمي، علي.
ثم أردف يتصنع البشاشة : بس أنا بصراحة أحب اسم فهد واشوفه أحلى، فخم وكل واحد اسمه فهد يصير هيبة لا إرادي.
لم تجد الجوهرة ردًّا فآثرت السكوت، واستمر الصمت الثقيل لوقتٍ طويل حتى دخلت سارة بوجهٍ شاحبٍ وذابل، جلست على السرير تنظر لها قبل أن توجه سؤالاً بعينيها ناحية حاكم الذي رفع كتفيه بقل حيله بمعنى "وش اسوي!".
سارة بنبرة خفيفة وهي تضحك بهم : بنام هنا اليوم، بصراحة أبوك عليه شخير يصحّي أمي وأبوي وهم بالسعودية!
ليقف حاكم وكأنه لم يصدق : أجل أنا بروح أنام عنده، تصبحون على خير.
يخرج بسرعة وكأنه يهرب من المكان فهذا الكم من الكوارث كثيرٌ عليه وهو لم يدخل عامه العشرين بعد.
تمددت سارة على جنبها، تغلق فمها بعد محاولات فاشلة لقول شيء ولكن لم يخرج معها حرف، تنظر لظهر الجوهرة التي لازالت على وضعها وكأنها بالمكان لوحدها، لا تعرف ماذا تقول، كيف تواسي كيف تخفف كيف؟
اضطربت أنفاسها ما إن أرخت الجوهرة جسدها لتتمدد بجانبها، تنظر للسقف بصمت وكأنها تنتظر الخلاص من الأعلى.
تنهدت سارة وبدأت تمسح بيدٍ مرتعشة على صدرها المسطح, لا شيء بارزٌ فيه إلا العظام وهي تلوم نفسها وتتمنى الموت على إهمالها ابنتها فلا وجود لأي بروز يثبت بأنها كانت أنثى طبيعية.
تغرق بالعبرة كلما مرت بكفها على نبض قلبها المتسارع حتى أمسكت الجوهرة بكفها، تشد عليه هامسه : أنا آسفة.
سارة بأسى وهي تلمح الدموع التي بدأت تتدحرج من طرف عينها : آسفة ليش ياقلبي؟
الجوهرة بنبرة باكية : لأني كذبت.
اختنقت سارة بعبرتها، تشد على أصابع ابنتها التي ستوّدعها غدًا وداعًا أبديًا بعد ثمانية عشر سنة فهي ستدخل المستشفى بالغد لإجراء عملية التعديل بعد الغد، وكل هذا ثقيل وكثير عليها تشعر بأنها ستنهار الآن الآن قبل أن تنتهي هذه اللحظة حتى، تكدست الدموع في عينيها ولم تمنعها هذه المرة ولم تحاول أن تمنع الحزن من أن يظهر واضحًا في صوتها كما كانت تفعل وهي تتصنع القوة أمامها : الغلطة غلطتي أنا، أنا اللي ما انتبهت إلى أن وصلتي العمر ذا.
ثم تردف بحسرة : الغلطة غلطتي أنا، أنا المسؤولة عن كل شي قاعد يصير لك.
في تلك الليلة لم ينم أحد، لا سارة ولا الجوهرة ولا حتى سلمان الذي تفاجأ به حاكم يجلس في الغرفة الأخرى واضعًا كفه على رأسه بوجهٍ يغرق بالقلق والخوف.
شعر بيد الطبيب التي ربتت على كتفه، تمر الأسماء على مسمعه, عزام ناصر حاكم خالد عبدالله عبدالإله ذيب، ليهمس بصوتٍ خدر ولسان ثقيل قبل أن ينطبق جفنيه تمامًا : فهد....
...
فتح فهد عينيه عندما سمع صوت الباب الذي أعاده للواقع،
واقعهُ الذي صار يعيشه الآن حيث يتمدد على الأريكة بعد إحدى عشر عامًا من تلك الذكرى.
رفع رأسه ينظر للتي ظهرت له من خلف الباب، مبتسمًا قبل أن يقول مشاكسًا بهدوء عله يخفف من ربكَة الموقف السابق بينهما : أخيرًا حنيتي علينا وفتحتي الباب أستاذة غادة!
ضحكت بحرج : لا تكفى توقعتك نسيت.
كان فهد قد اعتدل جالسًا ما إن انهت جملتها، يقف على أقدامه تحت نظرتها وقد تحرر من جاكيته الأسود بعد أن كان سيقتلع سحّابة قبل ساعات من توتره، واكتفى ببنطاله الجينز وكنزته الشتوية برقبة مرتفعة بينت عرض كتفيه، يقترب منها ضاحكًا بخفوت : أنسى ميين خلاص ثبتت في الذاكرة!
أعطته غادة ضحكة مرتبكة وتحركت مبتعدةً من أمام الباب بهدوء وخطى موزونة تصرخ ثباتًا وثقة قبل أن يقف أمامها، تأخذ طريق المطبخ قائلة : ترى أذن الفجر صل قبل لا تنام.
لا تعلم كم دقيقة مرت عليها وهي هناك، تقضم أظافرها بتوتر. وتمرر يدها على شعرها بارتباك تعيشه لأول مره منذ أن تزوجته، ولم تخرج إلا بعد أن مر وقت سيطرت فيه على نفسها وتوقعت أنه كافي ليغلب النعاس أجفان فهد وينام.
شدّت خطواتها ناحية الغرفة بعد أن أغلقت جميع الأنوار وشربت القليل من الماء فحلقها جفّ فجأة، فتحت الباب المردوف بهدوء ليستقبلها الظلام، بحلكةٍ أقل بسبب الشمس التي وضح نور شروقها على قماش الستائر الخفيف.
أغلقت الباب بحذر وعيناها على بنطاله وكنزته الموجودين بشكلٍ مرتب على ظهر الكرسي قريبًا من التسريحة، قبل أن تحركها قليلاً لتحط عليه، يتمدد على ظهره، واضعًا ذراعه يغطي بها عينيه.
تقدمت بهدوء حتى رفعت الغطاء جهتها، ترفع بعده ركبتها على السرير وتنظر له بتفحص بعد أن أخذت عيناها على الظلام. ورغم أنه بدا لها نائمًا من أنفاسه المنتظمة وصدره الذي يعلو ويهبط بهدوء، إلا أن قلبها أبى أن يهدأ.
تنفست الصعداء،، وأخذت نفسًا عميقًا أطلقته مرتعشًا متقطعًا بشكلٍ يكسر الخاطر ما إن نجحت وتتمددت مكانها بخفه لم يشعر بها فهد.. مسكت الغطاء ورفعته لمنتصف صدرها قبل أن تضع ذراعيها عليه تثبته.. وكأنها تخشى من أن يتحول لبساط سحري يطير مبتعدًا عنها.
دقيقة اثنتين ثلاث وعشر مرّت في صمتٍ مرعب. مُربك..
الغرفة باردة بشكلٍ جعل كل شعرةٍ في جسدها تقف.. لا يُسمع فيها إلا صوت إندفاع الهواء من المكيف الذي فتحه فهد رغم أن درجة الحرارة أقل من ١٠ْ في الخارج.
وما إن استقرت أنفاسها أخيرًا واغمضت عينيها في محاولة استسلامٍ للنوم ، وصلها صوته هادئًا عميقًا يشق السكون : نمتي؟
لينفض عظامها، ويعيد معه الاضطراب، والأنفاس الغير منتظمة، والخفقان، وكأن قلبها سيكسر أضلعها.
فتحت عينيها بقوة، تقول بسرعة وإندفاع : ايه.
ضحك بخفوت، ولفّ لها، يضع يده على كتفه الآخر ويغرس أصابعه فيه عل رجفة أطرافه تختفي.. يتأملها وهي تنظر للسقف بحركة أجفانٍ قوية تأخذ مايقارب الثانيتين بين الرمشةِ والرمشة.
ابتلعت غادة ريقها وهي تشعر بنظرته تحرق جانب وجهها، تجذب أنفاسًا عميقة لرئتيها وتتنفس بصوتٍ مسموع : اليوم كتمه.. زين شغلت المكيف.
فهد بهدوء: مم.
عادت تبتلع ريقها، لازالت عيناها مثبته على السقف، ترمش بارتباكٍ لم يخفى عليه، فمد يده، وأحسّت بأصابعه الباردة على كفها الأقرب له.. لينتفض جسدها مجددًا بوضوح، وينسّل قلبها من بين أضلعها فلم تعد تشعر بنبضاته هذه المره .
أغمض فهد عينيه قليلاً وهو يشعر برجفتها وارتباكها منه، وكأنه يستمد قوته وثباته منها.. يحاول ضبط أعصابه التي تسحقها عجلة التوتر ذهابًا وإيابًا دون أي رحمة قبل أن يفتحها مجددًا بإرهاق.. فالتفكير أتعبه, والتردد أنهكه.. يرفع يدها ويقربها لصدره حيث أضلعه ترتعد..
لا تفكّر.. كن كما أنت ولا تفكّر.
شد نفسًا عميقًا شعر به صقيعيًا يجمّد رئتيه.. وبقى ساكتًا ينظر لها. فمالت برأسها ناحيته ونظرت له وهي غير قادرة على الصد عنه وكأن عينيه مجال مغناطيسي تجذبها له.. وبقت النظرة بينهما صامتة لثوانٍ قليلة إلى أن قالت بصوتٍ يتضح في نبرته الخوف وهي تسمع أنفاسه القصيرة مما جعل صدره يرتفع وينخفض يدفع يدها معه ويعيدها، تشعر بتسارع نبضات قلبه بشكلٍ غير طبيعي أبدًا.. وكأنه سيخرج من مكانه : وش فيك فهد؟
تهدجت أنفاسه "اللي فيني إني...... متوتر، وخايف، ومتوتر وخايف وقلقان قلقان قلقان وخايف".. مافيهِ كثير، ولن تكفيه ساعات قليلة لسرده.. ريحٌ من الفوضى تعصف به.. ورغم التضارب الرهيب لكل هذا في نفسه، إلا أنه زفر زفرةً مرتعشة خرجت من أعماقه، كانت ستحرق جوفه لو بقت أكثر، يقول هامسًا بكلمة واحدة كفيلة بوصف كل شيء.. بصدق : ما أدري!
واللهِ لا يدري، ولا يدري ماهو الشيء الذي لا يدري عنه..
كل ما يدري به الآن هو أنه مرتبك، وقلِق، يخشى من الخيبة والخذلان وأمور أخرى لم يسأل عنها ولم يبحث ولم يتجرأ.. كل شيء مثالي، نتاج عمل طاقم طبي كامل ومشارط جراحين لا تخطئ وخبرة دكاترة أعصاب وتجميل اتحدوا كي يُظهروا ماكان مخفيًا لثمانية عشر سنة، ورغم أنهم أكدوا له بأنه يستطيع أن يعيش حياته كرجل طبيعي إلا أن هناك الكثير من الأمور بقت فيها نسبة شك لن يؤكدها أو ينكرها إلا فهد نفسه.
حاولت غادة أن تسحب كفها من بين أصابعه، لكنه منعها.. يرفعها حتى لامست شفتيه.. يقول بنبرة خافتة فيها يأس بعد أن شبك أصابعه بأصابعها : بالله شوفيني .
انتفضت ما إن لامست أطراف أصابعها شعر شاربه :..كيف ه.ههه؟
قالتها وابتلعت ريقها، بصوتٍ بالكاد خرج.. تشتد أطراف شفتيها باستنكار، ولم تتحرك بعد قولها هذا أبدًا، ولم ترمش حتى.. بل تشنجت وكأنها خشبة، تنظر له بريبه فقد بدَا وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة.
"فوضى فوضى فوضى، شوفي الفوضى" شعر بتشنجها.. وخاف أن تأتيها نوبة صرع تزيد الطين بلّه.. فهتف مجددًا.. بتنهيدةٍ وهو يشدّ على أصابعها التي تيبست مفتوحةً بين أصابعه.. يشعر ببرودتها وكأنها مكعبات ثلج : بردانة أقفل المكيف؟
هزت رأسها تنفي ولم تكترث إن كان لمح ايماءتها هذه أم لا ، ساد الصمت لثوانٍ قليلة، مرت بمحاولات فاشلة لجمع ثباتها الذي بعثره، تحاول جاهدة أن تهدئ تسارع نبضات قلبها التي شعرت بأن العالم كله قادر على سماعها.
الثانية سحبت أخرى، والأخرى سحبت أخريات حتى تمت دقيقة كاملة طويلة تغرق بالصمت الثقيل جدًا ولا شيء غيره.
حرك فهد عضلات وجهه، عله بذلك يصحّي ثقته النائمة، لكن ما خرج منه كان ابتسامة قلقة اتسعت حتى ملأت وجهه، فبدا كوجه الذي يخفي مصيبةً خلفه : تدرين وش أنا ناوي عليه الحين؟
يراقص لها حاجبيه مشاكسًا ويضحك بارتباك ما إن عقدت حاجبيها. لتبادله الابتسامة مضوقةً عينيها بتهكم مازح عل الجو المتكهرب هذا يتغير قبل أن يقتلها : أحس إيه بس يارب أكون فاهمة غلط.
شدّ فهد على أصابعها بقوة مفرطة كادت تكسرها، دون أن يتعمد ذلك، يقول بضحكةٍ مرتبكة : يعتمد وش اللي فهمتيه بالضبط..
غادة بهلع : مافهمت شي...
ثم أردفت وهي تحاول سحب يدها بقوة : ولد اترك يدي.
ضحك فهد من أعماق قلبه على ملامحها المرعوبة، يشد على أصابعها أكثر، يحاول أخذ شهيقٍ عميقٍ بعد ذلك ما إن هدأ، وشعر بأنه سيختنق من قصر أنفاسه من محاولاته بأن يبدو طبيعيًا ولو قليلا، لينطق : مو مشكلة، افهمك.
احتدت نبرتها بجزع : ما أبي تفهمني شي.
فهد بضحكة مرتعشة : والله كل شي بطيب خاطر منك.. تطمني.
سكنت ضحكته، وساد الصمت المميت مجددًا بعد جملته هذه رغم أنه قالها ليخفف من الارتباك الذي هبط على الغرفة، صمت قاتل حتى باتت قادرة على سماع حدّة أنفاسه المتلاحقة التي تضرب كفها بحرارة، ونبرته المنهكة عندما قال هامسًا مغمضًا عينيه : اهدي،، أنا أبيك تهدين.. لا تتوترين... ولا تخافين.
نظرت له، وللعقدة الصغيرة التي تشكلت بين حاجبيه باستياء، وفمه الذي بات مشدود الأطراف بخطٍ مستقيم، بقلق واستنكار جعل عضلاتها المشدودة تذوب وترتخي، هي متوترة نعم, بل تكاد تموت من فرط توترها لكن حالته كانت أسوأ بكثيرٍ منها " إهدى أنت، باين متوتر أكثر مني!! "، ابتلعت ريقها قائلةً بهمس : طيب....
ثم قالت بقلق : فهد إذا بردان قفل المكيف عادي والله، يدك ثلجت!
تمتم بابتسامة مشاكسة : ثلجت من القمطه والله ههه.
لم يصلها ماقال بوضوح، فسألت : مافهمت!!...
لكنه لم ينطق بحرف ليفسر، بل فتح عينيه، ببطء. يرمقها بلمعانٍ غريبٍ يتراقص على سطح مقلتيه.. عيناه بخطوطها الحانية ما إن ابتسم لها بتعبٍ واضح وخجلٍ بدَا رجوليًا بشكلٍ غريب شقّت قلبها وجعلت منه أرض حربٍ لا تهدأ، تُمطرها القنابل ليلاً ونهارًا دون توقف.
ابتلعت أنفاسها المضطربة. ترخي تصلب أصابعها.. تشد على أصابعه.. تنظر لعينيه التي ابتسمت لها بدفء بعد حركتها هذه وكأنه ممتن، قبل أن تسمع اسمها بنبرته التي أغرقتها وجرفتها بعيدًا بكل رضا..
في ذلك اليوم أشرقت شمسٌ صفراء باردة لأهل الأرض جميعًا، وأخرى مختلفة أشرقت لفهد، في عينيه، بين يديه.. له لوحده دون أن تظلل أحدًا غيره، قادرٌ على احتضان أشعتها دون أن تحرقه، أنارت له أفقًا جديدًا، وأخذته إلى حياةٍ أخرى.. حياةٍ لا يعرفها.
وبغض النظر عن الخوف والتوتر والقلق الذي كان يتسيده، كانت هناك شعله في داخله تدفعه على التقدم، فهو في نهاية المطاف رجل بفطرة سليمة حتى وإن كان اكتشف ذلك متأخرا، ومن تنظر له الآن بعينين تتلامع وجلاً وارتباكا هي امرأة، زوجته... اللمسة منها تلهبه وتأجج رجولته، والنظرة تشعل حواسه كلها.
لا يعرف ماذا حصل، لا يذكر إلا أنه فكّ آخر قيد كان يأسر راحته، وتحرر مما كان يعيقه ويثقل خطوته. فرَد جناحيه وهو يشعر بأن روحه التائهه عادت لموطنها، وتأكد من أنه وجد ظالته وملاذه وهو يتأمل وجهها ما إن نامت بين يديه.
*
خرج فهد من دورة المياة بسرعة كما دخلها بسرعة : غادة قومي تأخر الوقت .
أبعدت الغطاء عن وجهها بعد نبرته التي وصلتها عالية، ترفع رأسها بحاجبين معقودين وعينين شبه مفتوحة والإضاءة البيضاء تكاد أن تسبب لها العمى : ليه كم الساعة؟
فهد على عجل وهو يخلع تيشيرته : شوي وتصير سبع ونص.
شهقت بهلع وقفزت واقفةً بسرعة : ليه ماصحيتني؟
ضحك بروقان لا يتناسب مع الموقف، لا يعرف كيف غفى دون أن يشعر : أنا توني أصحى راحت علي نومه.
غادة : عندي محاضرة بعد ساعة!!
قالتها على عجل، تسحب ملابسها التي جهزتها بالأمس قبل أن تغلق باب دورة المياة عليها، ولم تمضي عشر دقائق إلا وهي خارجة منها، تمسح وجهها المبتل ببجامتها بين يديها قبل أن ترميها جانبًا، تقف أمام التسريحة لتجد أدويتها وبجانبها قارورة ماء مفتوحة لكن لازال الغطاء عليها، الروتين الذي التزم به فهد من تلك المره وأخذه على عاتقه، نفس المكان كل يوم دون أن يفوّت يومًا.
فتحت العقاقير بسرعة ورمتها في فمها بعد أن تكدست على راحة يدها، تشرب الماء بعدها في نفسٍ واحد وعيناها تتابع فهد من انعكاس المرآه، ينحني بوقوفه قليلاً على قدمٍ واحدة ليرتدي جواربه بعد أن ارتدى ثوبه.
صرفت بصرها بسرعة، ولو كان لديها متسع من الوقت لكانت تأملته حتى اشبعت عيناها بوجهه الصباحي اللطيف هذا.
تمْشط شعرها المصبوغ حديثًا بأصابعها حتى هدأ تطاير خصله التي سحبت لونها بالأمس بكل وحشية. تضع روجًا ورديًا بيد وبالأخرى تحرك فرشاةً تلونت بالقليل من البلاشر بشكلٍ عشوائي على خديها قبل أن ترتدي نظارتها السوداء الكبيرة وتغطي بها تورم أجفانها بعد نومة عميقة.
تقدم ناحيتها، بخطى عجلة وهو يرتب شعره ويمسح عليه، وعيناه على المرآة التي صارت خلفها بعد أن استدارت لتواجهه، وما إن وقف أمامها، حتى ورفعت يديها، تغلق أزرار ثوبه التي لم يغلقها بعد.
هبطت عينا فهد من انعكاس وجهه في المرآة لانعكاسه بعدسات نظارتها ، متأملاً حركة شفتيها تتمتم بشيءٍ ما حاول سماعه بتركيز ولم يقطع محاولته إلا صوتها تنفث ثم تتفل بمرح : تف تف تف.
لف كفيه حول عنقها وضغط بخفة، يهزها شادًا على أسنانه بغيظٍ مازح : كم مره قلت لك لا تسوين الحركة ذي؟
ضحكت بعمق وهي تلف أصابعها حول معصميه : أنفث عليك ياخي خايفة من العين..
ابتسم وبقى ينظر لها حتى أحست به وسكنت ضحكتها وأرخت من تشبثها بمعصمه،
أبعد كفيه عن عنقها واعتدلت هيَ بوقفتها ترفع نظارتها التي تراخت لمقدمة أنفها نتيجةً لترنح رأسها..
فهد بمودة : صباح الخير ياشمسي وظلالي وفيّي.
نبض قلبها بقوة من نبرته، ومن عينيه التي كانت تغزو وجهها بدون أي احترام، ليس وكأن الوقت يركض وأمامهما عمل تأخرا عنه.
فقالت ضاحكةً رغم خجلها تأخذ زجاجة عطره من على التسريحة وترشه عليه بسخاء وإفراط دون أن تنظر لوجهه : بعد بعد قول بعد أحتاج طاقة.
ليهتف فهد مبتسمًا بهدوء : طيب شيلي النظارة .
قالها يمد يديه ليرفعها عن وجهها، لكنها أعادت رأسها للخلف بعيدًا عن امتداد يده : تؤ معليش اليوم معتمدة ستايل أم كلثوم.
ضحك، وقال بنبرة متعمدة : ترى مابيمدي نمر نجيب قهوة.
تعالت ضحكته أكثر ما إن انتبه لحاجبها الذي ارتفع وتعدى حدود نظارتها، تقول بتهديد : سم؟
وضع مفاتيحه ومحفظة نقوده في جيبه قبل أن يبتعد، لازال يضحك بروقان بعد أن تخصرت بتحدي وكأنها تنتظر منه أن يسحب كلمته. يبعد غطاء السرير بحثًا عن هاتفه، ويقول ما إن وجده : استعجلي تأخرنا جد.
اعتدلت واقفة بحنق : توبة اعتمد عليك مره ثانية كنت بحط منبه وأنت عييت.
فهد وهو يضع هاتفه في جيبه العلوي ويرمقها بإزدراء : على أساس إن دق تصحين؟ دايم أنا اللي اطفيه.
ثم استطرد قبل أن يخرج : بنتظرك بالسيارة عجلي إن كنتي تبين قهوة.
غادة بحماس وهي تركض لعباءتها المعلقة : والله هوااا.
أوصل هاتفه بشاحن السيارة ما إن ركب فيها وشغلها لتحمى، يقلب في برامجه قليلاً ويضيع الوقت حتى تأتي.
رفع عينيه ما إن سمع صوت باب المنزل الذي تركه مواربًا خلفه، ليبتسم ما إن عرف التي خرجت، يفتح نافذته، ويضرب على هرن السيارة قائلاً بمرح : فيه مجال ياغزال؟
ضحكت سارة واقتربت منه : فيه.
قبّل فهد يدها التي اسندتها على حد النافذة : صبحك الله بالخير، رايحة الدوام؟
سارة بمودة وهي تتأمل وجهه : يصبحك بالنور والرضا ياحبيبي، ايه عندي محاضرة بدري.
فهد : اركبي أوصلك.
: الله يسعدك بروح مع السواق طريقي غير طريقك.
وصلهم صوت إغلاق الباب ونظر كلاهما للقادمة بخطى شبه راكضة،
فهتف فهد بابتسامة هادئة وهو يتأمل خطواتها العجلة ناحيتهم : أنا رايح رايح بوصل غادة.
سلمت سارة على غادة التي صبّحت عليها ببشاشة، قبل أن تقول ممازحة وهي تفتح الباب الخلفي : اييييه الله يالدنيا يافهودي, الحين صرت تاخذ الطريق لجامعتي وأول كنت أمتره رايحه جايه مع السواق .
ضحك محرجاً وهو يدير رأسه للخلف لينظر لها : كنت أحايلك عشان أوصلك بس أنتِ ماترضين.
غادة : اركبي قدام مسّو.
لكن سارة ركبت خلف ابنها، وقالت قبل أن تغلق الباب : ما أحب سواقة فهد تغثني من غير شي كيف عاد لاركبت قدام!
غادة : صادقة والله سواقته تغث.
قهقه فهد يضحك بصدمة، ولم يعلق بعد أن تحالفتا ضده، يرتدي نظارته السوداء وهو يتابع غادة التي رمت كلمتها بنبرة مشاكسة قبل أن تعبر أمام السيارة وتأخذ طريقها لباب الراكب،
وما إن أغلقت بابها وربطت حزامها حتى وتحرك مبتعدًا عن المنزل، ثم عن الحي بأكمله للطريق العام، بأحاديثٍ هادئة.. وبسرعة لم تتجاوز الثمانون جعلت غادة تقول بقل صبر ما إن فتحت الإشارة التي أوقفتهم لدقيقة : فهد تكفى انطلق أسرع شي.
فهد وعينه على الطريق أمامه وينطلق أسرع شي : ترى مافيه إلا وادي القهوة، هو اللي بطريقنا.
غادة بتبرم : لا فهد طعم قهوتهم ماش!
ارتفع طرف فمه بابتسامة : عارف والله بس ما يمدي نروح غيرها ياقلبي ولا الكل بيتأخر.
غادة بعبوس اتضح بنبرتها : يلا العوض ولا الحريمة أمري لله..
وبكرة أشوفك تقول لا تحطين منبه وتسلّك لي بقهوة أبو كلب.
ضحك بخفوت، يمسك كف يدها المستنده على الصندوق بينهما، ويرفعه ليلامس ظهر أصابعها شفتيه بقبله أتت من العدم لم يستطع أن يقاوم نفسه التي كانت تحثه عليها، يقول بعدها وعينه لم تبتعد عن الطريق أمامه انشًا : بكرة جمعة روحي تقهوي لحالك.
بادلته غادة الضحكة بأخرى محرجه فوالدته معهم : أقصد الأحد.
فهد بنبرة : نشوف.
تبسمت سارة وهي تراه يأخذ منعطف المحطة، لازالت يده تمسك بيد غادة التي سحبتها بشكلٍ عفوي ناحيتها ليستريح كفيهما في حضنها، يسألها بهدوء بعد أن وقف خلف سيارة أمامهم تطلب : كم محاضرة عندك اليوم؟
غادة بضجر : ثلاث لابات وياقلب لا تحزن. اف بس اف متى اتقاعد!!
فهد بضحكة : خفيفة اللابات كانت مثل الفسحة بالنسبة لي يوم كنت جامعي واتحمس لها بعد، اتركي عنك الحلطمة بيفتحون الأجهزة ويطقطقون وأنتِ متكيّه..
غادة : ايه تسوي نفسك تطبق ومركز وأنت تلعب لعبة سوليتير، تراني أعرف حركاتكم يالطلبة لا يمكن تفوتني..
قهقه فهد بعدم تصديق، يسأل بعد أن هدأ : أي مستوى طيب؟
تنهدت : اللاب الأول مستوى خامس حليوات يهبلون ودايمًا مالهم خلق يخلصون شغلهم بسرعة ويطلعون والثنتين الأخيرات بنات التحضيري الدلوعات.
يتابعان حديثهما بهدوء، تستطيع بقدرة عجيبة أن تسرق ضحكة خافته منه لشيءٍ قالته ولم تركز فيه سارة. فقد كان كل تركيزها على ابنها الذي ضغط بقدمه على دواسة البانزين بخفه ما إن ابتعدت السيارة أمامهم، عينه لازالت على الجالسة بجانبه يسمع حلطمتها الصباحية باستمتاعٍ غريب وبيدٍ لازالت بيدها، يخرج الأخرى من حدود النافذة بعد أن فتحها، ولم تتوعى إلا بصوته يسألها : يمه وش تشربين؟
تنحنحت كي لا يخونها صوتها ويخرج مرتفعًا كصوت مراهقة ستموت من فرط السعادة : قد شربت في البيت ياقلبي .
لكنه استدار بجذعه ناحيتها بعد دقائق، يمد لها كيسًا بنيًا صغيرًا، قائلاً بابتسامة ودودة وهو ينظر لها من خلف نظارته : طلبت لك كوكيز أبيض أدري تحبينه.
أخذته منه دون أن تنطق بحرف، غير قادرة.. تتابع تحركاته بدقة، بقلبٍ يرفرف فرحًا بين أضلعها. يأخذ الكوب الكرتوني الأبيض من العامل قبل أن يبعد مايغطيه ويمده لغادة بدونه.
لتأخذه منه، تقول برقه : شكراً فهّود.
ويرد عليها بنبرة لينه تذيب القلب منطلقًا بسيارته : عافية.
.
.
تقدم في خطاه وأخذ منعطف أحد المباني، يقف ويبحث بعينيه عاقدًا حاجبيه بتركيز، ليجده كما قال له، يقف قريبًا من عماره بيضاء أمامها باص مدرسة.
اتجه له، وفتح باب الراكب ليركب، فاعتدل الآخر جالسًا بعد أن كان مرتخيًا بكرسيه الذي سدحه للخلف.
أغلق بسام بابه : سلام..
عدّل عزام كرسيه وأعاده لوضعه الطبيعي : وعليكم السلام. وش فيك تأخرت؟
مد بسام يده وفتح المكيف : جاي بنص الدوام زين قدرت أطلع لك أصلاً.
ثم أردف يفتح ياقة ثوبه بزفرة : إن كنت تقدر تنحّش وأبو عارف مفهي ونايم على أذانه ما يدري عنك فأنا صعبة....
لكن عزام أطفأه، قائلاً باستنكار : صاحي أنت؟؟ برد!
بسام : بموت من الحر جيتك أركض.
قالها وهو يعاود فتحه، يرمقه بإزدراءٍ جعله يسكت، ويتحمل البرودة طيلة الدقائق التي مرت عليهم صامتين يلتقط فيها بسام أنفاسه، يلتفت برأسه ينظر له بعد أن كانت عيناه للشارع بجانبه، ليجد أن عزام متكتف اليدين ينظر له، فقال ضاحكًا : ياساتر عيونك حرقت قفاي!
عزام بابتسامة صغيرة : ... وش صار؟
بسام بهدوء : مثل ما قلت لك تركي مات..
زفر بضيق يهز رأسه : الله يرحمه ويغفر له.. والله توقعت هالشي وقلت له يسافر ويختفي بسرعة بس ماطاعني!
بسام : سافر بسرعة ولا سافر بشويش هم ناويين عليه ناويين وبالأخير هذا يومه الله يرحمه.
تنهد : كيف ومتى؟.. دقيت على متعب بس قال انه طالع إجازة ولا يدري عن شي.
سكت بسام، يرمق وجه عزام الضائق قليلاً قبل أن يقول : قبل أمس الفجر صحى أخوه بيروح يصلي وشاف النور الداخلي لسيارته التأجير مفتوح، ويوم قرب شافه بالسيت اللي ورى وقده ودّع خلاص، وكيف ذي عاد،، نفس اللي قبله مخنوق بحزام سيارته وموسوم بذراعه..
عزام : برقم ٢.. رقمه نفس ماقال...
قالها متأكدًا يقاطعه، فرفع بسام حاجبه، وهز رأسه : ايه،
عزام : تعرف ذا وش معناه؟ إن فيه واحد ثاني قاعد يستعمل صلاحياته مثلك.
تجهم وجه بسام، وتقلصت عضلاته بعبوس : وش مثلي ذي؟... وليه تقولها وأنت قالب خلقتك كذا؟ ذا جزاي فازع لك يالتعبان؟
ضحك عزام وقال متعمدًا إغاضته : كل مصيبة لازم يكون فيها طرفين، الطيب اللي يحاول يساعد والشرير اللي يخرب.. وأنت الطرف الطيب.
بسام بحنق : تصدق الشرهه علي أنا بس ماعليه سو خير وقطّه بحر.
ثم أردف لازال عابسًا ما إن تعالت ضحكة عزام : تراك إلى الآن ماعلمتني باللي قاله بالتفصيل وما اعطيتني غير كلمتين زي وجهك تسكتني فيهم وسحبت علي.
عزام بتنهيدة : أدري والله واعذرني ما قصدت أسحب بس انشغلت الأيام اللي فاتت ولا أمداني أكلمك.
نطق بسام ممازحًا : تراني ساكت بمزاجي لا تخليني أفصل عليك.
عزام بابتسامة ضائقة : جايّك بالكلام لا تستعجل على رزقك..
بس علمني أول من مسك القضية؟
بسام بتهكم : هههااي مافيه قضية ياعمي.
عقد حاجبيه ومد يده ناحية المكيف : كيف مافيه قضية!
صفع بسام يده قبل أن تصل أصابعه لأزراره : ولد!
عزام بضحكة رغمًا عنه : البرد قطّع أذاني يخوي.
لكن بسام تجاهل تذمره وقال : تسجلت وفاة عادية وأهله استلموا الجثة وأتوقع قد دفنوه وقضوا.
رفع عزام حاجبيه باستنكار : كذا بسكات وسهولة؟
مط بسام شفتيه بعدم رضا : هذا اللي صار والله.... يارجّال احمد ربك إنها انتهت كذا، لأنه لو صار العكس أول من بينسحب للتحقيق مع شوشته وأذانه هو أنت. المشتبة فيه الأول محد يعرفك طلعت لهم فجأة برجعة ولدهم واختفيت فجأة هذا غير رقمك بجواله وسجل المكالمات بينك وبينه.
زم عزام شفتيه قائلاً بحنق : راكان هو من قفل السالفة وخلاها تنتهي بشكل تافه مثل ذا صح ولا غلطان؟
أومأ بسام برأسه، فتابع عزام وقد اشتد غيظه : عشان يوم أقول إني شاك فيه نبّش وراه شوف وش تحت رأسه تصدقني.
عقد بسام حاجبيه قائلاً بسرعة : ومن قال إني كنت مكذبك؟... بس أنت فاهم وعارف إن الدعوة ماهي زر اضغطه وخلاص، تبي تنكبني أنت؟.....
وتابع كلامه بعد ثانية صمت : ترى أدري إن الموضوع كبير والمخفي يروع لدرجة إن جرايم مثل ذي تتقفل بدم بارد...
ثم رمق بعينيه ساعة السيارة عندما لم يصله أي تجاوب من عزام، يقول متابعًا : عمومًا.. أنا بحثت عن ساطي مثل ماوعدتك.. وبعد السالفة ذي بغامر وأشوف راكان ب...
قاطعه بهدوء : اتركه عنك خلاص مايحتاج.
بسام باستنكار : ليه؟ يمكن نلقى شي..
ارتفع طرف فمه بابتسامة متهكمة : مابتلاقي إلا الضعوي واللي يبيك تعرفه وبس.. الشيخ راكان منظف سيرته زين وخلاها تلقلق.
بسام بعجل وعينه ترمق الساعة مجددًا : ماعليه مابنخسر شي، أنت شاك إن له يد بسالفة موت الضبا....
لكن عزام قاطعة : كنت شاك بس الحين تأكدت... والله لو تدري وش عرفت يابسام إن يوقف شعر راسك...
بسام بنفاذ صبر : أنجز مامعي وقت.
اعتدل عزام في جلسته يأخذ نفسًا : رحلة روسيا كان فيها عشر ركاب مو بثمانية مثل ما طلع عندك.
سكت بسام لثانية، يقلبها في مخه قبل أن يرفع حاجبه بتوجس : وراكان منهم.
عزام : راكان وساطي.. الإثنين.
سكت مجددًا وعيناه على ابهام عزام وسبابته بعد أن أشار بهما في وجهه معددًا بهما، ليسود الصمت الثقيل ولا تتخلله إلا أصوات عبور سيارة أو اثنتين بالشارع الذي أعطاه بسام ظهره، قبل أن يرفع بصره قليلاً وينظر لعزام الذي كان ينظر له بعقدة حاجبين بسيطة.
بسام بهدوء وتحفز : طيب؟
عزام بنبرة رتيبه : سالفة المهمة ذي ماهي إلا غطا لشي ثاني أكبر، هذا إن كان فيه شي اسمه مهمة سرية من الأساس ومو شي كتبه ساطي كذا في حال أحد شك بعد مده وكان مخطط لكل شي مستغل سلطته، طلّع قرار تشكيل الفرقة واختارهم وجمعهم وهو عارف كل واحد منهم وش فيه و وش مافيه.. ثم قدم طلب سفرة لروسيا ومتأكد إنه كان إما لدورة أو أي شي ثاني اعتيادي يظلل فيه المصيبة اللي أخذهم لها...
عقد بسام حاجبيه : وليه يسوي كل ذا!! وش ذا الشي الكبير اللي يخليه يتحايل كذا!
اشتدت أنفاس عزام ، وارتفع صدره وانخفض بغيظ : الواطي جندهم للصهاينة.
تطايرت عينا بسام بهلع ، ونطق بفزع : وشو؟
وقبل أن يفتح عزام فمه ليوضح رن هاتف بسام، ليخرج صاحبه من الفوضى والصدمة التي ألمّت به. أخرجه من جيبه وما إن قرأ اسم المتصل حتى واصمته. ينظر للساعة قبل أن يقول : السالفة ذي يبي لها قعدة وأنا تأخرت.
زفر عزام : متى يخلص دوامك؟
أعاد بسام هاتفه لجيبه : بطلع بدري اليوم هذا إن كملت ساعتين على بعض بعد هرجتك ذي ..
ثم فتح بابه، وأخرج قدمًا واحده، وقال وهو ينظر له قبل أن يخرج الثانية : بكلمك.
أومأ عزام برأسه، وعلى ذلك أقفل بسام بابه وابتعد.
عاد عزام بعد اللقاء القصير لمؤسسة أبو عارف، ورغم أن زميله أخبره ما إن دخل : عواد أبو عارف دق يسأل عنك.
إلا أنه لم يهتم لمعرفة السبب الذي دفعه لذلك، أو حتى ماقاله زميله ليغطي اختفاءه.
أكمل دوامه بشكلٍ عادي، ونفس ضائقة وتملل غير طبيعي إلى أن وصلته رسالة من شعاع أخرجته من هذا كله
(شو الأخبار؟ -مع قلب برتقالي وعينان تنظر للجهة الأخرى -)
نظر لساعة هاتفه قبل أن تعود نظرته لكلمة "يكتب..." في أعلى المحادثة، لم يبقى الكثير على صلاة الظهر، ربع ساعة أو أقل لذا أغلق ماكان بيده ويعمل عليه وأسند ظهره براحة على الكرسي خلفه، ينتظر ماتريد قوله بترقب خصوصًا وأنه لاحظ أنها تكتب وتمسح حتى قررت أن تكتفي بسؤاله عن أخباره.
ابتسم بعد دقائق عندما نفذ صبرها وأرسلت
(تقرا ليش ماترد؟ -مع وجه أصفر بحاجب مرفوع-)
(عزام -مع طبعة قُبلة- )
(ولد أكلمك أنا!!!!!!!!!!)
(ترى يطلع عندي إنك قريت إن كنت ماتدري)
ثم أضاءت شاشته باسمها وصورة عمه التي كانت تضعها صورة شخصية لها إذ أنها لم تصبر أكثر واتصلت عليه -واتساب- ،
أغلق في وجهها، فكتبت بسرعة
(قد حركتك ذي؟)
(طيب طيب ،
القم بلوك)
اتسعت ابتسامته حتى ملأت وجهه ما إن قرأ آخر ما أرسلت.
رسائلها لم تكن شيئًا جديدًا عليه فهو معتاد على محادثات شعاع التي تمطره بها يوميًا، بسببٍ أو بدون، عشوائيًا أو بتخطيطٍ مسبق.. إن لم يكن لديها شيءٌ مهم تقوله أرسلت صورة، مقطع فيديو، نكته، معلومة لا فائدة منها، ايموجي بشكلٍ مفاجئ،، أي شيء.. المهم أن تحسسه بوجودها وأنه مر في بالها وتذكرته في تلك اللحظة وأرسلت له، ورغم أنه لم يكن يرد على أيٍّ منها يومًا إلا أنها لم تمل، ولم تتحسس أو تعاتب بل يأتي اليوم الثاني والثالث والرابع والباقي من أيام السنة وهاتفه يضيء معلنًا عن رسالة منها كل يوم..
فتح هاتفه الذي اُظلمت شاشته، واعتدل جالسًا وعيناه تعاود قراءة ماكتبت، يتسارع نبضه بشكلٍ مفاجئ بحماسٍ لا يعرف سببه. يختفي كل شيء من عقله وتتبدد الضيقة ليجد نفسه ينجرف مع جنونها، تسحبه من رقعته الرمادية لعالمها المليء بالألوان، شيئًا فشيئًا دون أن تستعجله أو أن تيأس من انتظاره.
لا شيء يملأ تفكيره في هذه اللحظة سوى قلوبها البرتقالية، الساعات الرملية التي ترسلها كي تذكره بأنها تنتظره، استعمالها المفرط للوجوه التعبيرية، وتهديدها الذي هددت به.
ليضغط على شاشته، يكتب بشكلٍ عشوائي
(%%$/%)
ثم أمطرها بحروفه بشكلٍ متتالي
(شعا)
(ع)
(هييه)
(بنت!!!!!)
(قلبي)
وتوقع أن يجد ردًّا خصوصًا بعد كلمته الأخيرة، أول كلمة لطيفة يكتبها لها بعد جفاف الكلمات التي كان يرد بها نادرًا (ايه، نعم؟، والكثير من لا، لا، لا) وليكن البرنامج الأخضر وعمه خالد بالإطار الدائري أعلى الشاشة مشاهدين شاهدين عليه.
لكنه تأكد من أنها نفذت تهديدها وحظرته عندما لم يظهر له إلا صح واحد.. انفجر ضاحكًا بصدمة، واتصل عليها بسرعة يضع الهاتف على أذنه، يتمتم بينه وبين نفسه : أنا تصكيني بلوك!!
بينما في نفس اللحظة، كانت شعاع تجلس خلف مكتبها حيث الجدران الزجاجية تحيط بها. بكل أناقه ببنطالها الاسود الرسمي وقميصها الأبيض بثلاثة أزرار علوية مفتوحة لتظهر سلسالاً صغيرًا يتدلى حول عنقها بشكلٍ ناعم، وجاكيتها الأسود مفرود على ظهر الكرسي بعد أن شعرت بالحر رغم برودة المكان. بشعرٍ مسدول بكل نعومة جزءٌ منه خلف أذنها والآخر تتحرك خصله بكل حريه قريبًا من خدها الأيسر، تضع الهاتف أمامها بعبوس طفيف بسبب تجاهله لها. تسند ذقنها براحة يدها بعد أن وضعت كوعها على سطح المكتب، تحرك قلمًا بين أصابع يدها الأخرى وتنظر للخارج بتملل حيث بقية الموظفات كلاً خلف مكتبها أغلبهن يظهر انشغاله والأكثر على هاتفه فلا زحمة عملاء لليوم. ثوانٍ فقط حتى واهتز هاتفها وارتفعت نغمته معلنًا عن اتصاله، رفعت حاجبها وابتسمت تصمته، يرن مجددًا وتصمته، يرن ثالثة وأغلقت في وجهه.
تشد على شفتيها تمنع ابتسامة واسعة وترفع عنه الحظر،
تكتب بسرعة
(لو سمحت لا تتصل أنا مشغولة لا تشغلني زيادة)
وعندما ظهرت لها "يكتب..." في أعلى الشاشة، حتى وحظرته مجددًا بضحكة انتصار مجلجلة. والحمدلله الف مره أن الجدران عازلة للصوت.
.
خرج عزام من مقر عمله بعد أن انتهى من مهامه، واتجه لأحد المطاعم حيث أخبره بسام بأنه ينتظره هناك.
ركن سيارته، وأخذ طريقة لمدخل الأفراد يبحث بعينيه عنه وسط الحشود فاليوم الخميس والأغلب انتهى من عمله ويوم كالخميس يستحق الاحتفال به بالأكل خارجًا مثلاً!
رآه، وتقدم بخطى هادئة، يجلس أمامه قائلاً بسرعة: طلبت؟ تكفى قل ايه مافيني انتظر نص ساعة على مايجي الأكل....
عبس في وجهه : وين الواحد يشتهي الأكل بعد اللي قلته؟
ضحك : اها عاد لا تبالغ!
بسام بذات العبوس : لا أبالغ!! تدري إنك علقتني وفريت مخي بسالفتك ولا عاد جيت على شي أبد؟ كنت أدبس أوراق وبغيت أدبس أصابعي فيها لولا لطف الله .. فهمني وش معنى الكلام اللي قلته؟
عزام بابتسامة صغيرة : عيّن من الله خير واطلب لنا شي ناكله أول ولاحق على الباقي.
أشار بسام بيده للنادل وهو يرمق الآخر بطرف عينه قائلاً بتهكم : يابرودك يا أخي!.. أقولك افتَر راسي بينفجر وأنت همك بطنك؟..
ثم يردف متحلطمًا بخفوت ما إن وصله يحمل دفتراَ صغيراً بيده وابتسامة مهنية : أنا ما أدري وش سويت بدنيتي عشان أتعاقب فيك بس متأكد إنك تكفير ذنوب.
ضحك عزام بخفة ولم يعلق، وما إن امتدت الأطباق على الطاولة التي تفصل بينهما، حتى وتابع عزام حديثه بجدية من حيث توقف، دون أن يأخذ نفسًا واحدًا وهو يرى الصدمة بعيني بسام تكبر وتتسع كلما تقدم بحديثه، يأكل ببرود من طبقه، يحرص أن يذكر بين كلمة وأخرى أن والده هو الوحيد الذي رفض الرضوخ والاستسلام للعبتهم القذرة علّه يلمّع صورته في عيني الرجل أمامه والذي هو متأكد من أنه يعرف تفاصيل عنه لم يخبره بها لسببٍ في نفسه،
والده رقم ١ في عينيه لأسبابٍ عدّة حتى إن لم يلتقي به قبلاً، أو لم يعرفه يومًا، كبر على هذا، يسمعه من الجميع، أمه عمه أجداده، وكل من يعرف ذيب أكّد ذلك.. هو هكذا في عقله، بطلٌ لا يُخطئ حتى وإن ساوره الشك في أيامٍ قلائل بأنه مجرم، الأول في عينيه, مطلبه ومبتغاه قبل أن يكون هكذا بعين مجموعة من المفسدين لأنه عصاهم فقط.
أنهى حديثه بعد ذلك، يضع لقمةً في فمه ويمضغها بهدوء، وبقى الصمت ثالثهم لمدة قبل أن يقول بسام بقهر قاصدًا بحديثه ساطي : ابن اللذينا ملفه نظيف من تعين إلى إن تقاعد وبالأخير يطلع منه كل ذا!!
عزام بابتسامة متهكمة : تدري وش اللي يغبن صدق؟ إنه غدر فيهم وأخذهم معه بدون لا أحد منهم يدري عن اللي كان ناوي عليه.
سأل باستنكار : وعلى أي أساس حكمت محد يدري!!
عزام : لأني من طلعت من عند تركي وأنا أقلّب السالفة بمخي لا ليلي ليل ولا نهاري نهار.. وخذ العلم مني أقولها لك وأنا متأكد، ال* ساطي أخذهم غدر كان واضح ذا الشي من كلام تركي. ورطهم واختفى والحين قاعدين يدفعون الثمن.
بسام بتهكم : كانوا يقدرون يلحقون أبوك يوم طلع ورفض يجاريهم بس....
قاطعه عزام بهدوء : هم كسبوا وقت وأبوي دفع ضريبة رفضه بدري وقبلهم كلهم.. ماكان خايف يقول لأ، بس غيره خاف ماتدري ذيك اللحظة وش كان مرفوع بوجيههم!
بسام بحنق : لا تبرر عزام لو ينحرونهم واحد واحد ذيك اللحظة مافيه شي يشفع لهم خيانة مثل ذي..
سكت عزام قليلاً قبل أن يتابع بذات الهدوء : ما أبرر وبنظري الكل مجرم والكل يستاهل يتعاقب.. بس ذي الحقيقة مو الكل فدائي مثلك فيه كثير متمسكين بالحياة. أبوي وقتها كان واحد براسه لا مرَه يخاف تترمل ولا عيال يخاف يتيتمون وأهله بيبكون عليه سنة سنتين وبينسون، أما الباقي ماتدري، كلٍّا وظروفه.
شد بسام شفتيه ولم يعلق، وقال سائلاً عوضًا عن ذلك : تركي تجاوب معك على طول؟
تنهد : لأ، بس ماكان عنده مانع يجاوب إن سألته. هو كان سؤال واحد وبعدها جاب اللي عنده كله لأنه الله يرحمه كان شاد الظهر بجوازه الكندي وواثق مابيجيه شي...
قالها وأدخل أوراق الخس في فمه ، ليرفع بسام حاجبيه قائلاً بنبرة مقصودة : وأنت وش سألته عشان يهل السبحة ويعترف بموضوع كبير مثل ذا وهو مايعرفك؟
ضحك عزام بدون نفس، وابتلع ما بفمه قبل أن يقول : نفس اللي في بالك.
ثم أردف بجدية ما إن قلب الآخر وجهه بامتعاض : شف بسام بقولها لك بصراحة وبدون لف ودوران، أنا رجّال ما يعرف يكذب وأنت قد قلتها بوجهي مرّه وثرت بوجهك ساعتها بس ذا الشي مايمنع إن اللي قلته حقيقة فيني... أنا كنت مثلك فيني فضول أبي أعرف سالفة القضية ذي، أبي أعرف ليه فيه ناس بريئة بسجل نظيف قاعدة تموت وليه وليه وليه،، وعرفت.. بس ما تغير شي لا حماسي زاد عشان أعرف مَن ورى ذا كله ولا ليه يصير لهم كذا وش الجناية اللي ارتكبوها عشان يتصفون واحد ورى الثاني وبأبشع الطرق،
سكت قليلاً ثم أردف وهو يصرف بصره عن بسام الذي أبدَا استياءه بوضوح : القضية ذي تعتبر منتهية مالها حل ما تعرف مَن الجاني ومَن المجني عليه والكل كتب نهايته فيها وخلّص، الكل أخذ نصيبه الهربان بيقعد هربان واللي بيرجع بينهونه هم.
نطق بسام بنرفزة : دامها منتهيه أجل ليه للحين تحوم حولها ومقطّع عمرك تطرد ورى ذا وذاك؟
اومأ عزام رأسه بتفهم وهو يعلم أن ماسيقوله لن يروق للجالس أمامه أبدًا : ذي أقفلت بس قضية أبوي توها تنفتح. القضية اللي صار لها أكثر من سبع طعش سنة تاكل وتشرب وتنام معي.
رمش بسام أكثر من مره ببطء ونظرته تتفحص وجه عزام الذي بدا أسودًا من الغيظ، ليهتف بعد ذلك بضحكة مقتضبة : أنت منت صاحي على فكرة.
اومأ عزام مجددًا، متفهم جدًا يقول بثبات : صحيح, و زود على ذا أناني، واللي يهمني الحين من ذا كله أبوي لأن القضية اللي مالها حل ذي لو ماكان فيها اسمه كان ما التفّت لها بعد ماتقفلت. رغبتي بأني أنقذ أبوي أقوى من إني أنقذ الباقيين.
عقد بسام حاجبيه بعدم رضا : أنت ماتيأس؟ نعنبو غيرك ماتتعب؟.. إلى متى ياعزام منت بزر أنت عشان تعاند.
نبض قلب عزام بقوة آلمت أضلعه : إلى إن تشوفه عيني، ماني بمرتاح إلا لا شفت أبوي حي قدامي.
بسام بشفقة لم يحاول اخفاءها حتى : ذا الكلام لوه من بزر سفيه كان سلكوا له ولا استنكروه، لكن إنه يطلع من واحد عاقل مثلك فهذا دليل إن فيوزك ضربت.
سكت عزام لثانية نطق بعدها بابتسامة ضيقة : على كثر اللي سمعته كله بس كنت متأكد إن أبوي ما مات مفجّر نفسه،، وتأكدت من ذا الشي الحين..
خرج الذهول من بين شفتي بسام لا إرادياً : أنت تدري؟
عزام بعتب رغمًا عنه : وأنت تدري.
ليقول بسام مبررًا بتلعثم : أنا من أول قايل لك إنه توفى بتفجير، ما أخفيت عنك.
عزام بتهكم وملامح جامدة : ههه.
ساد الصمت بعد ضحكته الميتة هذه، تلهى فيها بالشرب من كأس الماء أمامه صارفًا بصره عن بسام الذي كان ينظر له بتركيزٍ سأل بعده بهدوء : شلون دريت؟
ضحك بدون نفس : لك أن تتخيل إنها كانت عيارتي وسط العيال .
بسام بعدم استيعاب : ما فهمتك ؟
نطق عزام بتوضيح : ولد الإرهابي....
ثم أردف بثبات ما إن ارتفع حاجبي بسام بمعنى "اهاااااءء" مصدومة : بسام أنت تدري كم قصة سمعت عن وفاة أبوي؟.. طريقة الموت وحدة بس اللي يختلف إن أهلي اعتبروه ضحية وغيرهم اعتبروه مجرم، كل من مات أبوه ولا أخوه ولا حتى ولد جيرانهم بالتفجير يجيني يشتم ويضرب من يدرون إني ولده. أمي كانت الوحيدة اللي قالت لي أنه طلع ولا عاد رجع.....
واستطرد سائلاً بيأس : فهمت؟
بسام بصرامة : لا مافهمت...
شد على شفتيه قبل أن يقول بهدوء وثبات: يابسام أبوي حي.
ظل بسام صامتًا لبرهه، يرمق الجالس أمامه بقلق، ينطق بحيرة : شلون حي وليه تقولها وأنت واثق كذا؟ إنك تتمنى شي بقوة مايعني أنه بيصير حقيقة ياعزام.
كرر عزام مجددًا، بذات الإصرار والثقة : أقولك أبوي حي، ومع ساطي .
عقد بسام حاجبيه بحنق : أنا ما أدري ليش قاعد أجادلك وأنت راكب راسك وماتسمع غير صوتك!..... أكثر من ثلاثين سنة لو هو حي كان طلع.
اومأ برأسه : صح، وكنت أقول مثلك لو هو موجود وينه لدرجة إني فقدت الأمل فيه بس الحين عرفت ليش، اللي مانعه نفس اللي منع تركي وغيره من أنهم يرجعون... أنا متأكد إنه حي.
الحال المائل هذا لا يعجب رجلاً مثل بسام، لذا قال بثبات رغم حدّة ما يقول : لنفترض إن كلامك صحيح وإنه ما توفى ذيك الفترة خصوصًا إن لساطي يد بالموضوع، لكن ذا ما يعني إنه للحين حي، أنت ليه ما حطيت احتمال أنه يكون تصفّى حاله حال غيره؟
انتفض بشكل واضح قائلاً بانفعال : تعوذ من ابليس ياخوي وش ذا الفال!!!
زفر بسام بضيق، يحني رأسه قليلاً يشد ذراعًا ناحية صدره بعد أن تقدم بجسده ويضع يداً على رقبته يدلكها بتوتر بعد هذا الحوار العقيم،
يسود الصمت لدقائق، تمر وعزام عاقدٌ جبينه بعد أن أسند مرفقيه على الطاولة،
يأخذ نفسًا وعيناه على نقوش الملاءة البيضاء، يقول محاولاً تخفيف نبرته المنفعلة : أنا اللي عجزت أفهمه ليه الحين بعد السنوات ذي كلها التفتوا لهم؟ وش اللي صار الحين!.... الأغلب أنهى خدمته وهرب،، يعني خايفين. وممكن تكون المهمة اللي اختاروهم لها انتهت من زمان والجوازات تسلمت وكان ممكن السالفة تموت من غير لا أحد يدري عنها، معقولة غلطة بسيطة من واحد فيهم تسببت بالخراب ذا كله؟
بسام بنبرة : أو ممكن واحد منهم تهدد وخاف تطلع السالفة لأحد وأخذ الموضوع من قاصره وتغدى فيهم قبل لا يتعشون فيه.
نظر عزام له، وعقد حاجبيه بحيرة : راكان؟
ابتسم بخبث وهو يضع ذراعه بجانب ذراعه الآخر على سطح الطاولة : ما أبي أحط بذمتي، بس ممكن.. أو ساطي..
سكت عزام قليلاً قبل أن يقول بتفكير : ساطي ما أظن لأنه مختفي وما فيه شي يخاف عليه الحين لا منصب ولا وظيفة ولا سمعه أو حتى أهل. على الأغلب راكان ولا استبعد منه شي مثل ذا خصوصًا إنه قفل القضايا وأنهى الموضوع.
بسام : وليه ما يكون نايف عوجان؟ بالذات إنه موجود هنا لا طلع ولا هرب وللحين ماخلصوا عليه.
عزام : نايف الله يرفع عنه واثقين أنه مابيتكلم. صدقني مافيه غيره الجرذ راكان.. استغل نفوذه وعرف الداخل والطالع واللي تطيح يده عليه ينتهي منه.
ثم أردف بعد أن شبك أصابعه ببعضها أمامه، قائلاً بنبرة مشاكسة : باقي ٣ و ٤ و ٧ و ٩ ، تتوقع راكان أي رقم فيهم؟
بسام بدون تفكير : أربعة.
عقد حاجبيه بابتسامة طفيفة : وش معنى؟
بسام بجدية مصطنعة : لأن سيارة أبوه مقربعة.
قهقه عزام ضاحكًا رغمًا عنه، يقول ساخرًا : صدق من قال هم يضحك وهم يبكّي.
تبسم بسام على ضحكة الجالس أمامه بعد مضي ساعات من الكآبة، يخرج هاتفه من جيبه، يجيب بابتسامة على المتصل : هلا عبادي.
تتسع الابتسامة أكثر لشيءٍ قاله الطرف الآخر، قبل أن يضحك مجددًا بهدوء.
تنتهي المكالمة، ولازال بسام ينظر له بقليلٍ من الشفقة، فعزام بدَا مُجهدًا وحزينًا بعض الشيء، بدَا مختلفًا تمامًا عن عزام صاحب النظرة الحادة الضجرة ينظر حوله وكأن لا شيء يعجبه.
يرخي نظرته بعد أن وضع هاتفه بجانب كأسه.. يقلب في طعامه ويكمل أكله بصمت.
لماذا يعذب عزام نفسه هكذا؟ يتمنى أن يدخل عقله ليعرف كيف يفكر..
يتمنى أن يسأله, لا يستطيع أن يسأله. لا يذكر متى صارت علاقته به قوية لهذا الحد، ولا متى صاروا أصدقاء في المقام الأول.. هيَ الأمور هكذا أتت، كل شيءٍ حصل فجأة.... هو مكان عمل واحد جمعهم وعدد من القضايا التي لا تنتهي وسالفة من بسام وتجاوب حذر من عزام وأحاديث أخرى متفرقة يكسرون بها رتابة القضية بين أيديهم ومنه تقوّت المعرفة ليجد بسام نفسه يركض وراءه في خرافة البحث عن والده هذه..
نطق بسام فجأة، بنبرة ساكنة : نفسي أدخل عقلك ياخي، أبي أعرف كيف تفكر.
ضحك بخفّة : ما أنصحك الطريق مليان شوك.
بسام بابتسامة : مافيه مانع نغامر دام الموضوع يستاهل ومن بغى الدح ماقال أح.
هز عزام رأسه بضحكة أخرى : هذا وأنا مكشوف قدامك وواضح.
بسام بإزدراء وعبوس : أي وضوح ذا اللي تتكلم عنه؟ الجودة تعبانة ياخوي، فيه تشويش أنتلك زبّال.
تعالت ضحكة عزام عاليًا ينطق بإصرار : والله واضح خل عنك بس.
تنحنح بسام بعد دقائق ساد فيها الصمت انشغلا فيها بأكل مابرد في طبقيهما، يطرد التساؤلات التي بدأت تقصف عقله قائلاً بجدية : عزام الموضوع كبير حتى لو منتهي ماينفع ينسكت عنه ونمسكه أنا وأنت لحالنا.
رفع عزام عينيه، ينظر له بتساؤل دون أن ينطق، فتابع بسام : خلنا نكلم أبو هيثم.
ترك ملعقته ومسح وجهه بكفيه بإرهاق، يقول بعد ذلك يشد على شفتيه : أخاف تنقلب علي وعليك خصوصاً إن ماعندنا دليل ملموس. أنا مايهم وأستاهل إن جاني شي بس أنت وش ذنبك أنا اللي سحبتك معي....
اتسعت ابتسامة بسام بشقاوة : خايف علي؟
عزام بضحكة : تخيّل.
بسام : وأنا عشان الالتفاته النبيلة ذي يابو عزّه مستعد أساعدك باللي أقدر عليه، ويلا منها نعتبرك تكفير ذنوب.
رفع عزام كأسه ليشرب المشروب الغازي المتبقي فيه برشفةٍ واحدة، يردف بعدها : بنت ساطي مابقى عليها شي وترجع، أجّل كل شي لين نشوف وش موضوع أبوها حسبي الله عليه وبعدها نتصرف.
.
.
|