لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > الروايات المغلقة
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الروايات المغلقة الروايات المغلقة


 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 14-06-20, 11:31 PM   المشاركة رقم: 296
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2018
العضوية: 330628
المشاركات: 159
الجنس أنثى
معدل التقييم: وطن نورة ،، عضو على طريق الابداعوطن نورة ،، عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 176

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
وطن نورة ،، غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 



اسعد الله اوقاتكم بكل خير.
تذكروني ولا نسيتوني :( ؟
يعلم الله اني مانسيت أحد فيكم وكنتم دائما في قلبي وعقلي ❤ وحشتوووني جداً.
اعتذر مليون مره على الانقطاع الطويل، واعتذر أيضا على عدم اخباركم حتى بذلك لكن الأمور كانت خارجة عن السيطرة.
وما أتوقع مهما قلت وتعذرت إن فيه عذر قادر على تبرير هذا الانقطاع لكن أنا واثقة ومتأكدة بكرمكم وأنا إن شاءالله إني استاهل العفو

أحب اقول لمن سأل الحمدلله أنا وأهلي بخير الله يسعدكم جميعًا ويحفظ لكم احبابكم .
انتم وش اخباركم طمنوني عنكم والله العظيم شوق غير طبيعي ❤❤❤

أرجع أكرر اعتذاري والله ما أدري وين أودي وجهي لكن والله وبالله ماكانت النية كذا أبداً، كان المخطط له فصلين بعد آخر فصل نزلته وقبل رمضان وفصل في العيد لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
حزينة أن المناسبات السعيدة مرت بدون لا اقضيها معكم لكن العوض بمناسبات أكثر قادمة :)

رجعنا من جديد وبإذن الله المره هذي رجعة اكيده بدون انقطاع إلى النهاية

الفصل الواحد والعشرين جاهز، فصل طوووويل جدا اتمنى يكون ممتع غير ممل ويشفع لي تأخيري.

وشكرا كثيررر لكم جميعا بدون استثناء على انتظاركم لازلت احتاجكم توقفون معي ولازلت احتاج تشجيعكم أتمنى التأخير مايكون افزعكم وصرفكم من طريقي

أخيراً وليس أخراً لا تنسون مرضانا ومرضى المسلمين من دعواتكم وبأن الله يعافيهم ويقويهم ويفرغ عليهم صبرًا من عنده❤.

اعتذاري مجددًا وأمانيي القلبية الخالصة لكم بقراءة ممتعة مقدمًا ❤

 
 

 

عرض البوم صور وطن نورة ،،  
قديم 14-06-20, 11:47 PM   المشاركة رقم: 297
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2018
العضوية: 330628
المشاركات: 159
الجنس أنثى
معدل التقييم: وطن نورة ،، عضو على طريق الابداعوطن نورة ،، عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 176

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
وطن نورة ،، غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 


أحب قبل لا أبدأ أن أقدم خالص اعتذاري إن كنت أسأت لأي ديانة أو فئة أو كنت ضايقت أحد بحدث أو حوار دون قصد مني، وبالنهاية كل ما يدور في هذه القصة هو من وحي الخيال البحت الغير موجود بالواقع لا يمثل أحد ولا يُقصد به أحد :)
وكالعادة أتمنى لكم يوم سعيد و قراءة ممتعة مقدما ❤..


# الفصل الواحد والعشرون،،
" نَجمٌ أضَاءَ العَتْمة "

.
.
.

الرقعة في داخله تتسع، الفراغ يتسع، الغربة، الوحشة، الظلام. الكثير يهاجمه رغم أن لا شيء في وجهه. وحيدٌ لا أحد معه، لا أحد يتبعه، حتى ظله.
يشعر بالماء البارد يقع على رأسه كوابلٍ من نار، وكأن الجحيم مشتعلٌ في جوفه. يسند جسده بذراعيه التي تلامس الحائط مغمضًا عينيه، يشد على أجفانه بأنفاس قصيرة تكاد أن تتوقف من شدة برودة الماء، روحه تطلب النجدة ولا يلبي النداء.
منهك. متعَب. لا طاقة لديه لمواصلة هذه الحياة، مع ذلك يجد نفسه يحارب كل وسيلة كانت تقّرب له الموت، متمسك بالأيام الفارغة وكأنها ستمتلئُ يومًا.
اعتاد على القسوة، غلبت عليه، لا ذكريات في عقله سوى تلك التي صقلته ليصبح كالآلة تنفّذ دون أن تسأل، تبطش دون أن تكترث. استيقظ يومًا لا يعرف من يكون، ولا لأي حزبٍ ينتمي، يتحدث ثلاث لغاتٍ بطلاقة جعلته يتوه حتى بات يستنكر نفسه التي لا يعرفها. بدأها بقتل، وخدمة مقابل خدمة ثم غرقت أقدامه بالوحل.
اتبّع نهجًا غير مقتنع به، لكنه لم يجد غيره. يحمله اسمًا فقط وشعارًا لكن داخله فارغ. لا يشعر بشيءٍ سوى بظلام بارد يجعل أضلعه ترتعش دون توقف.

يشعر باليد التي قطعت صراخه الموجوع رغم أنه يقف الآن وحيدًا في حوض استحمامه. ترفعه من على الأرض بعد أن وقع عليها خائر القوى ما إن تحرر من قيده، ورغم خشونتها إلا أنها كانت تتفقده بحنو، يعاتب عتاب المهتم رغم الغضب في صوته : كم مره قلت لك اسمع الكلام ولا تعاندهم؟ أنت ماتفهم!!
ابتلع ريقه وهو يتذوق طعم الدم فيه بعد ساعات طويلة من اللكمات التي لا ترحم، يشم رائحة الحديد الصدئ تنبعث من جروحه المفتوحة بعد أن جففت دماؤها الشمس فوق رأسه.
ورغم وهن جسده إلا أنه سحب ذراعه بقوة من قبضته، يشد على أسنانه كي لا يصرخ ما إن شعر بالألم ينهشها : يخسون.
صرخ الآخر بقهر وهو ينفضه بقوة عله يرد إليه صوابه : اصحى ياذيب مو وقت عنادك الحين، شف وش سوو فيك مجنون أنت تبي تموت؟
ذيب بقوة وبأْس : أموت ولا أحني لهم راسي.
ثم أردف يتمتم بفحيحٍ مقهور وهو يشد على أسنانه حتى كاد يكسر مطاحنه : أموت ولا ينحني لهم راسي هالكلاب.
زفر بحرارة وهو يتتبع بعينيه جروح وجهه الدامي بحسرة، يمد يده للشق المتسع في منتصف خده وقبل أن تلمسه رؤوس أصابعه كفّ يده بعيداً عنه : عنادك الفاضي ذا بيوردك المهالك ياذيب، أنا ضحّيت بكل شي عشانك ومستحيل أسمح لك تحسسني بتفاهة تضحيتي ذي وإن اللي خسرته كله راح على الفاضي.
ثم استطرد وهو ينظر لوجهه بصرامة : ذي آخر مر...
تهدجت أنفاس ذيب وارتخى كتفيه المشدودين، ينظر لوجهه بذات الصرامة رغم تورم إحدى عينيه بدائرة داكنة تحيط بها وتضبب رؤيته، يقاطعه : يبوني أذبحك ياساطي.
اشتدت أنفاس ساطي، وانهارت ملامحه وتلاشت القوة المصطنعة فيها وهو ينظر له بشيءٍ من الصدمة وكأنه لم يتوقع شيئًا كهذا، على الأقل ليس باكرًا هكذا.
شد على شفتيه لثانية قبل أن يقول وهو يصرف بصره عنه : وليه تقول لي؟
نظر له ذيب بحيره وتشتت وهو لازال يصرف بصره عنه ولم يعلق، ليردف ساطي بهدوء : أنت هنا عشان تنفذ اللي ينطلب منك مثل ما انطلب منك بالضبط.
تبدلت النظرة في عينيه لحزنٍ واضح، ينطق بتوهان : يبوني اذبحك ساطي. أنا. يبوني. أذبحك. أنت!
زفر ساطي بحدة، وعاد ينظر له بصرامة : اهتمامك معناه إنك تعصي الأوامر وأنت هنا عشان تنفذ وبس، افهم كم مره لازم أفهمك ياثور؟
ذيب بقهر : طول ما أنا حي أنت لازم تبقى حي. أنت الوحيد اللي تعرف من أكون وأنت الوحيد اللي أثق فيه هنا حتى لو كنت تكذب علي.
ضحك ساطي بتهكم : قلت لك كل شي وش تبي تعرف أكثر من اللي عرفته؟
رفع ذيب كفًا مرتعشًا يمرره على خصل شعره الطويلة وقد تيبست بعد أن جفت فيها الدماء، يضغط على مكان الألم في مؤخرة رأسه ليشتد أكثر : ما قلت لي إلا إني ذيب. طيب أنا ذيب مَن ذيب وش؟ أنا ليه هنا أنت ليه هنا؟
ثم رفع بصره له، يتمتم بتشتت : حنا وش نسوي هنا؟
سكت ساطي دقيقة طويلة وهو يعصر ذراع ذيب في قبضته بغضب دون أن يشعر بنفسه، يهتف بنبرة ميته وبوجهٍ لا تعبير فيه : وهذي الحقيقة تكفيك، أنت ذيب، ذيب وبس وهذا اللي تحتاج تعرفه.
ثم وقف وهو يرفعه معه بقوة، يلصقه بالعمود خلفه ويعاود شد وثاقه بقوة دون أي اعتراض من الآخر، يتابع قوله بذات الغضب : بس أنت شكلك تبيهم يفهمونك هالكلام بطريقتهم. خلك لين تسلخ الشمس جلدك يمكن تتربى.
.

زفر لهيبًا من جوفه، وأغلق المياة التي كانت تسقط على رأسه بضربة واحدة قوية على الصنبور، ليختفي صوت ارتطامها بالحوض تحته، يعم الهدوء أرجاء المكان إلا من صوت أنفاسه السريعة من البرودة.
بقى واقفًا على حاله، يسند جسده بامتداد ذراعه على الحائط أمامه مغمضًا عينيه ويمرر يده الأخرى على شعره إلى أن قرر أن يبدأ هذا اليوم ويتحرك خارجًا من دورة المياة. يرتدي ثيابه على أقل من مهلة بثقلٍ ونفسٍ مسدودة. ينظر لإنعكاس صورته في المرآه، يدقق النظر في عينيه الحادتين كالسيف بفراغ وكأنها لا تنتمي له وهو يرفع قلادته ويرتديها لتستريح النجمة السداسية على قميصه الداكن. يمسح على شعره أكثر من مره معيدًا الخصل الرصاصية للخلف قبل أن يخرج من غرفته.

مر بالصالة ليلمح نوعام الجالس على الأريكة مروره الخاطف، يتبعه بابتسامة مستفزة على وجهه ويقف عند الباب وهو يراه يفتح الثلاجة، يسأل : هل ستخرج؟
تجاهله ذيب وهو يشرب من قارورة الماء الباردة في قبضته، دون أن ينظر له.
نوعام بعد ثانية صمت ونبرة باردة : أريد أن أريك شيئًا، الحق بي حالاً.
التفت ذيب بعينيه ناحية الباب حيث كان نوعام يقف، يزفر بغيظ و "هه" كارهه بشكلٍ لا مثيل له خرجت من بين شفتيه.
ألقى بالقارورة على الرف بعدم اكتراث بعد أن شرب مافيها كله. يخرج من المطبخ بخطى بطيئة توقفت ما إن وصل لنوعام الجالس على الأريكة يضع قدمًا على الأخرى، والذي ما إن رآه حتى وبدأ يربت على المكان بجانبه : تعال واجلس بجانبي خبيبي ذيب.
تقدم يخطو خطوته وكم يتمنى أن يطأ على رأسه ليسحق جمجمته تحت قدميه، يتجاهل دعوته ويجلس على الكرسي المفرد دون أن ينطق بحرف ويكتفي بنظرته الحادة التي جعلت ضحكة هازئة تخرج من بين شفتي نوعام.
نوعام وهو ينظر له من الأسفل للأعلى باستصغار : أتوقع من تأنقك هذا أنك ستخرج مع القطة، لذلك لن أطيل عليك.
تقدم بجسده ورفع الصورة التي كانت على الطاولة أمامه، يرميها ناحية ذيب لتتهاوى أرضاً قريبًا من أقدامه.
أخفض ذيب عينه لها بعد أن وقعت قريبًا منه مقلوبةً على وجه صاحبها. يرفع بصره مجددًا لنوعام الذي كان ينظر له بذات الابتسامة، ليسأل ببرود : ماهذا؟
اتسعت ابتسامة نوعام أكثر وهو يشير بيده : اكتشف بنفسك.

زفر ذيب بخفه رغمًا عنه فهو لا يريد أن يشعر نوعام بأنه نجح باستفزازه. يمد ساقه قليلاً قبل أن يقلب الصورة بأصابع رجله بكل قرف مما أضحك نوعام الذي قال بسخرية : تؤ، أظهر بعض الاحترام يافتى!
نظر ذيب للوجه الذي ظهر له، متجاهلاً نوعام وتعليقه لدقيقة كاملة رفع بعدها عيناه له بتساؤل وبنظرة حاده كارهه جعلت نوعام يضحك، يقول بعد ذلك وهو يقف ويتقدم ليجلس على ذراع كرسيه : لطيف أليس كذلك؟
ثم يردف وهو يلف ذراعًا حول كتفه، يشير بسبابته للصورة الملقاه أمامهما أرضاً : فريستك القادمة بعد يومين، لكن خذ الصورة من الآن وعلقها على حائط غرفتك، تأملها وصلّي على ملامحه البريئة لأنك أنت من ستدميها لاحقًا.
ابتلع ذيب ريقه وهو ينظر للصورة، رجل رآه مره أو اثنتين لكن لا يعرف أين. أو حتى اسمه!
نوعام بهدوء وكأنه قرأ أفكاره : كوهين،
ذيب وقد ارتفع طرف فمه بعد أن لمع الاسم في ذاكرته، يومئ ساخرًا : آه كوهين، صحيح...
ثم أمال رأسه لينظر له بتهكم : هل بدأت بقتل جماعتك الآن؟ يبدو أن الأمر لم يعد مقتصرًا على أعدائك فقط.
نوعام بابتسامة : خبيبي الذئب الصغير أنا متفهم جدًا حالة التشتت التي تعيشها فعقلك أصغر من أن يفهم لكن جماعتي -مع تحريك إصبعي السبابة والوسطى إلى الأعلى والأسفل بعلامة تنصيص- في هذا العالم كُثر، نصفهم مثالي أكثر من اللازم ومثالية كوهين مؤذية للنصف الآخر الذي انتمي له أنا،،، وأنت.
احتدت نظرة ذيب كنصل سيف لتمحي البرود الذي كان يغطيها بعد أن نطق نوعام كلمتيه الأخيرتين ببطء وسبابةٍ تحركت بينهما لتؤكد كل كلمة : أنا لا انتمي لأحد.
شد نوعام على كتفه يقربه منه، يهتف ضاحكًا : أنت معي، مما يعني أنك تنتمي لي، تتّبع مساري وتنفذ أوامري دون أن تتفوه بكلمة كالجرو المطيع تمامًا.. أتمنى أن يكون المعنى وصلك بوضوح الآن.
لم يقطع ثواني الصمت التي غشت المكان والنظرات المسمومة بينهما سوى ارتفاع نغمة هاتف ذيب معلنةً عن اتصالٍ وارد، تجاهله ذيب لكنه لم يفت نوعام الذي أفلت كتفيه ووقف لازال الاستفزاز يغطي صوته : لابد من أن القطة قد وصلت أخرج لها قبل أن تصعد لك وتلتصق بقدمك طيلة الليل.

شد ذيب على قبضة يده بغيظ وهو يتوعد نوعام في نفسه، متأكد من أن اليوم الذي سيسحق فيه رأسه بذات القبضة سيأتي. عاجلاً أم آجلاً سيأتي.
وقف خارجًا من المكان بصمتٍ استطاع أن يغيظ به نوعام الذي تابعه بعينيه يطأ على الصورة ويبتعد مغلقًا الباب خلفه بقوة.

استمر هاتفه بالرنين دون توقف إلى أن وقف على الرصيف أمام السيارة السوداء، تلتقي عيناه بالسائق صاحب البنية القوية بعد أن ترك مكانه خلف المقود لصاحبة الشعر المشتعل، والتي ما إن رأت ذيب حتى وضربت له الهرن، تهتف بحماس وهي تنظر له من النافذة المفتوحة : أهلاً ومرحبًا بك لقد تأخرت لكن لا بأس، اركب عزيزي أمامنا طريق طويل وأحاديث مهمة!

رفع رأسه يطلق نفسًا حانقًا لا رغبة لديه بسماع صوتها أو رفقتها حتى، مع ذلك وجد نفسه يفتح باب الراكب ويركب، مجبرًا أخاك لا بطل، مغلقًا الباب خلفه ببطءٍ مميت فرغم كل شيء لكنه متأكد من أنها الوحيدة التي لا تنوي به شرًّا ويهمها أمره حقًا.
ينظر للأمام متجاهلاً صوتها وهي تتحدث مع سائقها بصرامة وحزم : انتظرني هنا حتى أعود، وإن اتصلت على والدي وأخبرته سأتأكد بنفسي من محوك عن هذا الكوكب، مفهوم؟
هز السائق رأسه دون أن يصدر صوتًا، لتنطلق بعد إشارته هذه في طريقها بسرعة جعلت ابتسامة ساخرة تعتلي وجه ذيب على حاله التعيس.

مضت ساعتين وكلاهما صامت، لا صوت سوى صوت انطلاق السيارة تشق الشوارع بسرعة جنونية، إلى أن وقفت على جانب أحد الطرقات. تأخذ نفسًا قبل أن تقول بهدوء : ذئب.
التفت ذيب الذي كان يسند كوعه على حدود النافذة رافعًا حاجبًا باستفسار دون أن يعلق.
انتظرت تعليقًا منه لكن لم يصلها شيء، ولم تستنكر ذلك فقالت بتردد : نوعام كان في منزلنا الليلة الماضية، مع والدي.
رمش مرتين بهدوء، ولم يظهر على وجهه أي تعبير فهو يعلم أن علاقة نوعام بوالدها جيدة حتى وإن حاول الأول ايهامه بعكس ذلك وطلبه أن يتودد لابنته 'شارونيت' ويستغل إعجابها القوي به والذي لم تحاول اخفاءه حتى.
أخفضت بصرها وهي ترى نظرته الباردة وكأنه سيقتلها : سمعت عن طريق الصدفة بأنه سيرسلك إلى أورشليم، هل هذا صحيح ذيب؟
اشتدت عقدة حاجبيه وهو ينظر لها بعدم استيعاب وصَمت رغم تسارع نبض قلبه بغضب.
شارونيت ونظرتها وقعت بعينيه الشاردة : هل ستذهب؟....
ثم أردفت بعد ثانيتين سكوت : لا أريدك أن تذهب،، أرجوك لا ترحل.

استمر ذيب صامتًا لساعة أخرى ولم يفتح فمه بحرف، كان صمته شيئًا اعتادت عليه شارونيت وكان هذا مايجعلها تهوي في حبه بقوة في كل مره.
توقفت أمام العمارة التي يسكنها، لترى سائقها الذي كان جالسًا على عتبات الدرجات الصغيرة يقف بوجهٍ جامد ينطق بالإستياء، تفتح بابها بعد أن فتح ذيب بابه. تلحق به باندفاع ما إن تحرك لتسمك كف يده بقوة : لحظة!
التفت ينظر لها بوجهٍ يتضح عليه الغضب، تشد على كفه ما إن شعرت بمحاولته الإفلات من قبضتها، تشير بعينيها لسائقها الذي فهم مقصدها وابتعد يأخذ مكانه خلف المقود بعد أن رمق ذيب بنظرة شرسة ردها ذيب بأخرى أكثر شراسة.
شارونيت بهدوء : أتمنى أن تتحدث مع نوعام وترفض الرحيل، ليلة سعيدة خياتي ذيب.
اقتربت منه وقبّلت خده بخفه، لينفض ذيب يده منها ويبتعد.

دخل الشقة التي يسكن فيها بوجهٍ سُحب منه الدم، يبحث بعينيه عن نوعام ولم يجده.
ليخطو خطاه مسرعًا بغضب جلي بعد الذي سمِع، يفتح باب غرفة نومه ويقترب من الجسد النائم على ظهره قبل أن يلف يديه حول عنقه بقوة.
فتح نوعام عينيه يشهق بهلع، وما إن التقت عيناه بالجمرتين المشتعلات في وجه ذيب حتى ولف يديه حول معصمه، يحاول تحرير نفسه منه ولكن دون فائدة، وما إن شعر بيدي ذيب قاب قوسين أو أدنى من أن تُخرج روحه من مقلتيه حتى ورفع ساقه، يركله بقدمه بقوة ليتراجع ذيب خطواتٍ للخلف ينحني على نفسه بألمٍ يقسم أنه قَسم جسده لنصفين.
وضع نوعام يده على عنقه يتحسسه، يعتدل جالسًا بسرعة بانفاسٍ فزعه ينظر لذيب بنظرةٍ غاضبة : ماذا دهاك هل جننت؟
شد ذيب على أسنانه بقوة كأن رأس نوعام بين مطاحنه، يرمقه بنظرة حاقدة جعلت الآخر يقول باستنكار : لماذا أنت غاضبٌ هكذا؟ هل هي القطة؟ ها؟
يتابع وهو يلاحظ رجفة جسد ذيب الواضحة : هل عبثت بك وأخذت منك شيئًا رغما عنك؟ لابد أنها قبّلتك..... قبّلتك صحيح؟
ثم أنزل أقدامه ليلامس باطنها الأرض الخشبية على صوت أنفاس ذيب الغاضبة جدًا، يقول متهكمًا : قلت لك لاعب القطة لكنك أحمق بما يكفي لتتجاهلها وهي تتلوى عند قدميك.
همس ذيب ببساطة رغم الكره الذي يشعر به والغيظ الذي يكوي قلبه، بحقد : خنزير.
زفر نوعام ضحكةً مستنكرة : اتشتمني بلغتك كي لا أفهم! اشتمني بلغتي كي أستطيع الرد عليك خبيبي ذيب.
ذيب بنبرة أعلى : صهيوني، ملعون، قذر.
عقد نوعام حاجبيه يمد شفتيه بتساؤل : هل نعتّني بالصهيوني القذر للتو أم اشتبهت عليَّ المعاني؟
ثم تابع وقد ارتفع طرف فمه بابتسامة هازئة : إن كنت أنا صهيونيًا فأنت من أي فئة تكون أيها الخسيس؟ لكن لا بأس.. قل ما شئت لن أخالفك الليلة فأنا أحتاجك بالغد.
انقض ذيب عليه مجددًا، يلف يده حول عنقه يحاول خنقه ليجد ابتسامة نوعام في وجهه وصوته هاتفًا باستهزاء وهو يضحك : والآن تحاول قتلي؟... حسنًا ياذئب افعلها واقتلني.
ضغط ذيب على رقبته أكثر وهو ينظر بحقدٍ لابتسامته الباردة التي لم تتغير. فهو يكره نوعام ويبغضه كما لم يكره أحدًا في حياته الفارغة كلها. بل إنه يكرهه أكثر من أسياده، وممن هم خلفه ويحركونه كيفما يشاؤون وكأنهم في مسرح دمى..
وبالرغم من أنّ ماكان ينوي قوله كثير لا نهاية له، إلا أنه وجد نفسه يصمت متجاهلاً البراكين التي ثارت في جوفه تحرق بحممها كل شيءٍ داخله.
يتجسد ضعفه في أبهى حلّه، لا أصوات ولا حروف تسعفه، لا شيء يقف معه.
اتسعت ابتسامة نوعام بثقة وهو يشعر بتراخي كفّي ذيب حول عنقه : هذا ما ظننته، والآن بعد أن انتهيت من اللعب اذهب وخذ قسطًا من الراحة.
.
.

"متى تفهم ياعزام إن حياتك ما صارت تخصّك لحالك؟ هلكت قلبي حرام عليك".
زفرت شعاع بضيق وهي تتبعه بعينيها بقلق، يرتدي ثوبه، يتحرك في الغرفة كالإعصار، متخبط في كل إتجاه! وكأن هناك شيءٌ يلحق به ويحاول الفرار منه،
سألت مجددًا بأنفاس مرتعشة : عزام صاير شي؟
وقف في منتصف الغرفة، يعطيها ظهره بعضلاتٍ مشدودةٍ بوضوح، يضغط أزراراً ظهرت على شاشة هاتفه بسرعة قبل أن يضعه على أذنه ويقول بزفرة حادة : لأ قلت لك، خلاص ارجعي نامي لا تشغلين بالك.
وقبل أن تفتح فمها لتسأل مجددًا، اتجه ناحية الباب، يفتحه ليخرج من الغرفة : هلا بسام..
هتفت شعاع بيأسٍ مقهور بعد أن سحَب الباب ليغلقه خلفه : طيب انتبه على نفسك ياخي.
تشتم في نفسها بسام الذي لم ترتَح له منذ تلك الزيارة ودخل القائمة السوداء بجدارة.

وضعت يدها على جبينها، تضغط عليه ونظرتها مثبته للسقف. تحاول ألا تقلق، أو تبحر في عالم الخيالات والوساوس الذي تجد نفسها تغرق به رغمًا عنها في أي موضوع يتعلق بعزام حتى ولو كان تافهًا،
تسلي خاطرها بتذكر أحداث الأمس، الفرحة التي استوطنت المنزل وساكنيه بعد معرفة خبر حملها, سعادة عزام على وجه الخصوص ونظرته التي لمحت فيها شيئًا مختلفًا غير الذي تعرفه،
لقد كان عزام مرهقًا طيلة الاسبوعين الفائتين، سارحًا رغم الابتسامات الباردة التي يسكتهم بها من وقتٍ لآخر. ورغم أنّ هذا طبعه منذ أن عرفته ولا يحق لها استنكار كل هذا الآن وكأن شخصًا آخر تلبّسه، إلا أنّ الرجل في الآونة الأخيرة تغيّر، وتغيّر كثيرًا حتى باتت ابتسامة باردة واحدة من تلك القديمات تكفي للفت الانتباه والقلق, لكنه وما إن علم بحملها تلاشت خطوط التعب تمامًا وأنارت البهجة وجهه بشكلٍ لا يمكن التغافل عنه.
بل أنه عندما حل وقت النوم حاصرها بين يديه ما إن خرجت من دورة المياة، يضع كفيه على كتفيها متأملاً وجهها بابتسامة صامتة جعلتها ترتبك، فهي وحتى بعد مرور سنتين برفقته لازالت تخجل من عزام وكأنها تزوجته بالأمس. لازالت نظرات عميقة كهذه توترها وتعبث بإتزانها وثباتها، وابتسامة واسعة كهذه تقلب موازينها رأسًا على عقب..
مع ذلك ضحكت بارتباكٍ جعل الابتسامة تتسع حتى أخذت نصف وجهه : وش عندك؟
قالتها وهي ترمق عينيه بنظرتها، تلمح بريقًا آسرًا تراقص على سطحها، قربها لصدره، هامسًا بنبرة مشاكسه : اشتهيت أضمك، فيها شي؟
ارتجف قلبها بين أضلعها، تضحك بعذوبة ضحكةً مرتعشة : لا مافيها شي, أبدًا مافيها شي.
تغمض عيناها وهي تشعر بدفء أنفاسه قريبًا من أذنها الباردة، يهمس فجأة : شعاع!
ابتلعت ريقها ببطء "قلب شعاع وروحها أنت" : مم؟
ارتفع طرف فمه بابتسامة متأكد من أنها سمعتها في صوته : تدرين إنك انقذتيني... ههه!
حاولت أن تتحرر منه لتنظر له وتفهم مقصده، عينًا بعين ووجهًا لوجه، العينان التي تغرق بها والوجه الذي تعشق.. لكنه شد عليها برقه ليمنعها، يتابع بذات الهمس : كانت روحي مخنوقة لين سمعت صوتك وأنتِ تبشريني وتغيّر كل شي بثانية كأن الدنيا ضحكت بوجهي فجأة..... شعاع أنا مبسوط.. أحس إني فرحان ومبسوط جد..

اشتد نبضها حتى شكت بأن الوداع قد حان، وما كانت هذه إلا النبضات الأخيرة، تشعر بكلماته تصل لقلبها مباشرة هذه المره، تلتصق بجدرانه وهي تلتمس صدق المعنى فيها.
رفعت يدها ومسحت على أطراف شعره، لثانية أو اثنتين بصمت، حتى أرخى من شد ذراعيه. ابتعدت، ليس كثيراً. تنظر لعينيه التي خفّت حدتها بإرهاقٍ واضح، ونظرة ناعسة، تضم وجهه بين كفيها، تميل نحوه بنظرةٍ حانيه قبل أن تقبل عينيه، وبروز عظام وجنتيه، تتمتم بخفوت ونبرة مثقلة بعد أن ابتعدت قليلاً، تتأمل اغماضه لجفنيه وابتسامته الهادئة : وأنا بعد.
.

تأففت وهي تنظر لساعة هاتفها التي تشير للسادسة وخمسة وأربعون دقيقة صباح يوم الخميس، تطلق نفسًا آخر بثقل قبل أن تبعد الغطاء عنها وتتجه لدورة المياة. تنتهي بعد ذلك من استعدادها لبدء يوم عمل طويل وتخرج من غرفتها بعد أن ارتدت عباءتها ولفت طرحتها.

نزلت السلالم وهي تعيد هاتفها لحقيبتها بعد أن اتصلت على السائق كي تتأكد من وصوله بعد أن أوصل خالتها صيتة حيث تعمل في أحد المكاتب التابعة لوزارة التعليم.
ليلفتها الجالسان بالصالة قبل أن تواصل طريقها لباب المنزل، عبدالإله على الأريكة مستعد بثوبة وشماغة ساندًا رأسه براحة يده وعند أقدامه على الأرض تجلس مريم أمامها صينية الفطور.
شعاع بابتسامة ونبرة خفيفة وهي تقترب : صباح الخير على أحلى اتنين فيكي يامنطِئة..
رفع عبدالإله عينيه لها، يبادلها الابتسامة بأخرى ناعسة : صباح الروقان ههه.
نزلت شعاع بجسدها حيث تجلس مريم، ترفع كأس الحليب الأبيض الذي تبقى فيه النصف تقريباً : الحين عرسك بكرة وبتداوم؟ المفروض تاخذ إجازة ترتاح وتزبرق عمرك!
تثاءب عبدالإله قائلاً بعد ذلك بعبوس : كان ودي بس خلص رصيد اجازاتي وبالموت أعطاني أسبوع إجازة زواج.
ضحكت بشماته : خل السودان تنفعك الحين...
عبدالإله متصنعًا الحسرة : اخ خليني ساكت بس، لا عاده الله من قميري نكبني..
عقدت شعاع حاجبيها باستهجان بعد أن شربت مافي الكأس كاملاً : حاطين سكر بحليب السعودية!!
تنهد عبدالإله بضجر : اسكتي وخلينا في ساعة خير هواش هي وصيتة من صبح الله عشان ذا السكر.
شعاع بمرح وعينيها على مريم الصامتة : نملة أنتِ نملة؟
ثم أردفت ما إن تجاهلتها مريم تمامًا، تتأمل ملامح وجه عبدالإله وحركة أجفانه البطيئة : وأنت وش فيك طافي؟ ماهي العادة يعني!
ابتسم بخمول : كنت مشغول أمس بمكالمات مهمة ولا نمت إلا متأخر.
وقفت، تضحك من أعماق قلبها ما إن أعطاها ابتسامة واسعة بعد أن انتهى من قوله : اللهُ أكبر! مكالمات مهمة أجل!
عبدالإله بذات الابتسامة : ومهممة جدًا ماكنت قادر أنام عنها.
لوت شعاع فمها قائلةً بنبرة ممازحة تتصنع الحسرة : الكل كان غرقان وعنده مكالمات مهمة قبل العرس إلا أنا حسرة علي ما سمعت صوته إلا وهو واقف قدامي ببشته وماقال إلا السلام لاا ومن ورى نفسه بعد.
بالرغم من أن ماقالت أحزنه إلا أن عينيه اتسعت بهلع، يفتح كفه في وجهها يهتف بإندفاع : قل أعوذ برب الفلق.
عادت تضحك ومزاجها انقلب مئة وثمانون درجة من مجرد النظر لوجهه : إن صار شي تدل مكاني تعال بتفّل عليك.
ثم ارتدت غطاء وجهها، بتأفف : استغفرالله العظيم أول مره اتثيقل روحة الدوام.
ضحك بدون نفس : ليكون تتوحمين؟
سحبت طرف نقابها من الأعلى وضوقته قائلةً بهدوء : لا والله بس انغثيت نفس الروتين ينعاد كل يوم.
سكت عبدالإله لثانية قبل أن يقول بهدوء : عزام طلع؟
زفرت وهي تشد على حزام حقيبتها المعلقة على كتفها : ايه طلع بدري اليوم يقول عنده شغل.
زفر هو الآخر ، يهمهم بهدوء : الله يعين..
ثم حرك ساقه التي تستند عليها مريم بقوة دافعًا معها جسدها للأمام قليلاً, يقول بنفاذ صبر مستعجلاً إياها : يابنت أنجزي تأخرت على دوامي صار لك نص ساعة مقابلة الأكل!..
تأففت مريم، ترفع خبز التوست أخيرًا، تمسكه بين يديها تنظر له دون أن تُقدم على أي حركة أخرى.. مما جعل شعاع تسأل وهي تلاحظ مزاجها المتعكر : وش فيها؟
عبدالإله متأففًا هو الآخر : نفسية.
شعاع بمودة وحماس : مستعد لبكرة؟
تبدل تجهم ملامحه لإبتسامة واسعة بلمح البصر : ماعمري كنت مستعد بحياتي مثل استعدادي الحين .
ضحكت شعاع وقطعت مريم حدود التوست البنيّة بحركة واحدة قبل أن ترفع يدها وتمدها لوالدها الذي أخذها منها قائلاً وهو يضعها في فمه : يابنتي شلتي نصه!
مريم بعبوس : قلت لك من قبل قصّه بالسكين ما أحبه.
تبسمت شعاع ما إن وقف ورفع ابنته بين يديه، بيدها خبزتها وبفمه ما أعطته : مشينا يا أميرة القصر كمليها بالسيارة...
وقبل أن يتعدى شعاع للباب، فردت ذراعيها واحتضنته.. تعلق مريم بالمنتصف بينهما فقال ضاحكًا : تسجيل دخول مفاجئ لمشاعر الأمومة هلا والله، بدت تطلع من ثاني يوم أشوف!
شعاع وهي تشد عليه متجاهلة مريم وتحركاتها السريعة كي تتحرر : والله إن لولو محظووظة فيك ياعبادي. الله يسعدكم!
ابتسمت مريم أخيرًا، ابتسامة واسعة أضاءت وجهها : خلاص لولو بتسكن معنا؟
ابتعدت شعاع قليلاً بتهكم : ماشاءالله الحين بانت كشرتك وقبل شوي مبرطمة علينا!!
مريم بحماس : الحين خلاص أصير أقعد مع لولو للأبد؟؟
هز عبدالإله رأسه بقوة، مبتسمًا بفوضوية : ايييه اييه..
حركت مريم قبضتها بالهواء بانتصار : يس... أخيرًا.
شعاع متعمدةً إغاضتها : عبادي بس بيسكن مع لولو وأنتِ بتقعدين عندي.
كرمشت ملامحها بسخط وانمحت الابتسامة بسرعة : ليش؟ ما أبي.
نطقت شعاع بصدمة حقيقية : أفا!! ماتبيني؟
انفجر عبدالإله ضاحكًا بسعادة واضحة : وش تبي فيك؟....
ثم أردف محدثًا ابنته بعد أن قبل أنفها : قولي لها صار عندنا لولو الحين خلاص الباقي كلهم يع!
هزت رأسها بقوة وهي تلف يديها حول رأس والدها تحتضنه وتنظر لشعاع تغيظها : الباقي يع..
مشت شعاع معهما للخارج : الجحدة بذا العايلة بريال!
ثم أردفت بغيظٍ فعلاً وهي تقرص ذراعه : دام الدعوة كذا أجل خذها معكم دبي خلها تنشب لك مانبيها.

.
.
: غادة نايمة!.
نطقها هامسًا، بل أنه متأكد من أن صوته لم يتعدى مسمعيه.. متعمدًا.. لا يريد منها أن تستيقظ الآن فالوقت لازال مبكرًا ليستيقظ كلاهما ويستعد لعمله، يحرص على أن يتأكد من ذلك بين ثانية وثانية في كل مره يرفع فيها هاتفه ليرى الساعة.
لكنه كان يشعر برغبة ملحّة بنطق اسمها، يشعر بأن تردد حروفه بين أضلعه إن لم يخرج سيكسر صدره... يتمدد في مكانه، ينظر لها نائمةً بجواره تعطيه ظهرها، وكم يتمنى أن يعاود مناداة اسمها بصوتٍ مرتفع هذه المرة علها تلتفت...
رفع هاتفه مجددًا ليجد الوقت هو نفسه، ولم تتغير إلا الدقائق التي زادت خَمسًا.
تراخى الهاتف من قبضته بخدر، و وقع على وجهه بالمساحة الفارغة بينهما، وهو يعلم بأنه سيعاود رفعه بعد دقائق ربما تقل عن الخمس هذه المره.
يرفع بصره لها، يأخذ أنفاسًا هادئةً.. وعيناه لم تتعدى محيطها رغم أنه لا يرى إلا خصل شعرها الطويلة التي غيرت لونها بالأمس ليصبح مزيجًا مجنونًا من تدرجات اللون الأشقر العسلي والبني.
مد يده يسحب مالم يشمله الغطاء الذي كانت غادة ترفعه ليغطي رأسها، يبتسم على ذكرى البارحة عندما عادت من صالون التجميل تقف في منتصف الصالة أمامه وتنزع الغطاء عن شعرها بحركة واحدة ، تنظر له بحماس : ها وش رايك؟ لاتينو ولا مش لاتينو؟

كان التغيّر واضحًا جدًا، ملفتًا جدًا، صادمًا حقًا وجدًا إذ أنه لم يتوقع هذا اللون عندما أخبرته بأنها ستغير لون شعرها، ساحرًا لا يقاوم أبدًا أبدًا.
ورغم أنه حاول أن يظهر بعض الثبات عندما جلست بجانبه على الأريكة الطويلة تنحني بظهرها للأمام قليلاً بعينين مثبتتين بتركيز على شاشة حاسوبها الموضوع على الطاولة أمامها تتفقد ما أرسلته الطالبات على البلاك بورد الجامعي، إلا أنه رفع راياته البيضاء كلها في النهاية، يمد يده لتتخلل أصابعه خصلات شعرها المنسدلة بطبقات متفاوتة الطول على ظهرها، غير قادر على التوقف فالخصل اللامعة كانت مغرية حدّ الغرق. محاولاً كف يديه بعد أن قالت بضحكة خافتة : محترق ها؟
فهد بابتسامة واسعة وهو يحرك يده بسرعة ليتناثر شعرها بشكلٍ فوضوي : بالعكس يهبل.
رمشت بخمول : فهد يرحم أمك وخر يدك أنا إذا أحد لعب بشعري أخدر.
فهد بدون أي تأنيب ضمير : آسف ماكنت أدري.
ضحكت وهي تشعر بأصابعه : والحين صار عندك خبر، تكفى باقي لي شعبة كاملة.
ليقول بتملل وهو يدلك فروتها ببطء : من رجعتي وأنتِ مقابلته خلاص قومي نامي وارتاحي.
غادة بنبرة مثقلة وعينين بالكاد ترمش : تونا على النوم الساعة مابعد تصير عشر حتى.
اعتدل بجلوسه وهو يسحب جهازها من أمامها على غلفةٍ منها، يغلقه ويلقي به على الأريكة الأخرى : أنا قلت قومي .
رمشت أكثر من مره ولم تستوعب حركته، لازالت يدها معلقه في الهواء حيث كانت تحرك أصابعها على الفأرة اللوحية : فهدد!!
رفع حاجبًا وهو يقف : قدامي أشوف.
رفعت رأسها تنظر له وهي تسند ظهرها على الأريكة خلفها، تقول بعناد رغم الإرهاق الواضح : بخلص شغلي وأقوم.
لكنه رفعها من ذراعيها بتجاهل، يمشي معها دون أن يعلق، لتقول باستسلام بعد أن تثاءبت : طيب أمري لله بس ذكرني بكرة وقفت عند اسايمنت سجى عيد، المطلوب الرابع.
هز رأسه يكرر خلفها متمتمًا : اسايمنت سجى عيد المطلوب الرابع، أوكي.
.

كان يلف الخصلة حول يده بشرود إلى أن تحركت غادة وكأنها شعرت به، وابعدت الغطاء لتستلقي على ظهرها، وقبل أن يبتسم فهد ظنًا منه بأنها استيقظت، وضعت ذراعها تغطي بها عينيها دلالة على أنها لازالت نائمة.
رفع رأسه يسنده براحة يده.. متأملاً بشغف, بمودة.. بذات الشعور الرقيق الذي يسيطر على مشاعره في كل مرةٍ ينظر لها.
يشعر معها بأنه شخصٌ آخر.. شخص سعيد تجرّد من كل مخاوفة ولم يبقى في قلبه ولا عقله إلا الطمأنينة وراحة البال.

يذكر فهد ذلك اليوم جيدًا عندما أغلقت باب الغرفة في وجهه محرجةً من سخافة طرفتها, لتفتح له بابًا آخر للحياة دون أن تدرك.
*

قاطعته غادة، ترفع كفًّا مرتعشًا في وجهه، إن لم تخفف من التوتر سيموت أحدهما لامحاله، تقول بابتسامة وارتباك أكبر : ناديني غادة بدون أستاذ.
في بادئ الأمر لم يستوعب، وبقى لثوانٍ قليلة يحدق بها بعدم فهم جعل الدم ينفجر في وجهها، بل شعرت بأنها ستبكي فقد بدت سخيفة جدًا هي وطرفتها هذه.. تعود خطواتٍ للخلف وتغلق باب الغرفة في وجهه بكل ما أتاها الله من قوة.. ليغرق بعد ذلك بضحكة عميقة وهو يسمع صوت المفتاح يُقفل مرتين، يهمس بذهول وعدم تصديق وفي عينيه تلتمع حياة : مجنونة!

أغلقت غادة الباب محرجة، وكانت جادّة عندما أغلقته.
وهو كان محترمًا مراعيًا بما يكفي لِئلا يقرعه، أو يضغط عليها كي تفتحه.
بل أنه بقى طوال الليل متمددًا على أريكة الصالة الغير مريحة، ينظر للسقف ساندًا ذراعه على جبينه، ولا يتردد في عقله سوى السكون المسيطر على المكان، يحاول جاهدًا ألا يشغل عقله بشيء فلا فائدة من التفكير، في هذا الموضوع بالذات..... تأتيه أحداث من الماضي تلوّح بأصابعها ساخرةً في وجهه، الأيام التي يتمنى أن يمحيها من عقله، يتذكر كل شيءٍ بالتفصيل رغم مرور السنين عليه،
تمدده على السرير الأبيض في المستشفى، لباس العمليات الخفيف، وجه أمه المليء بالدموع، نظرات والده الغارقة بالحزن، وجه حاكم الشاحب.
يتشبث بيدها ما إن طلبت منهم الممرضة الخروج فدقائق معدودة تبقت تفصله عن إنهاء ثمانية عشر سنة من الحياة في جسد فتاة.
إنحناء سارة التي ربتت على رأسه بالشعر القصير جدًا،
يهمس بضياع : يمه.
ابتسمت : استودعتك الله حبيبتي، بتطلعين وبتلاقينا كلنا ننتظرك.
انحناء والده يشد على كتفه : عندي محزمين والحين صاروا ثلاثة، شد حيلك وأنا أبوك العملية بسيطة حبيبي لاتخافين .
وجه حاكم المحتقن بالدموع : الجو..
ثم تلعثمه : تقومي.. تقوم بالسلامة .
صوت الممرضة الهادئ : عليكم أن تخرجوا يارفاق يجيب أن نبدأ بتحضيرها للعملية.
تنحني والدته تقبّل جبينه قبلةً طويلة، ليتشبث بيدها ما إن حاولت أن تبتعد، يستنجد بهلع : يممه تكفين لا تخليني، يمه والله خايفة يمممه.
لكن النحيب الذي خرج حادًا مرتفعًا من بين شفتي سارة عندما سحبها والده للخارج رغمًا عنها أثبت له بأن لا مفر من هذا، لا فرصة للتراجع الآن،
يجد نفسه على سريرٍ آخر، بغرفة بإنارةٍ خافتة تفوح فيها رائحة المعقمات وتصاعد أصوات الأجهزة وأعين كثيرة تقف فوق رأسه تنتظر منه أن يدخل في سباتٍ عميق.
يهرب من كل هذا، يسلط نظرته الغارقة بالدموع على دوائر الإضاءة الصفراء الفاقعة فوقه، صوت الطبيب هادئًا يسأل، يضيع الوقت بينما المخدر يبدأ مفعوله : هل أخترت اسمًا أم لم تقرر بعد؟
تتداخل الأصوات في عقله الذي بدأ يسبح في جمجمته، جلوس حاكم معه قبل الأمس، صمت وتوتر يشعر به وهو يتجنب النظر للإتجاه الذي يجلس فيه حاكم، يسند ذقنه على ركبتيه المشدودتين لصدره،
صوت حاكم المشتت فهو لا يعرف أي صيغة مناسبة للحديث خصوصًا وهو يرى شعره المحلوق على الماكينة وملامح أخته : وش قررت.ي اسم؟
رفعت الجوهرة بصرها تنظر له، وابتلع ريقه وهو يرى النظرة الفارغة ليقول مبتسمًا : يعني مو معقول بيبقى اسمك الجوهرة.
الجوهرة بنبرة ميتة : مافكرت!
اتسعت ابتسامته : تبين أختار لك أنا؟
: كيفك. مايهم!
عبس : وش فيك كذا وش هالكآبة!
ارتعش فكها تصرف بصرها عنه، تتمتم وقلبها ينبض بهلع : خايفة ياحاكم.
عقد حاكم حاجبيه : من وش خايفة؟
لتجيبه ببؤسٍ فضيع : ليه أنت ما تشوف إن حالي يستحق الخوف؟
زفر حاكم الذي كان يجلس على الأريكة الملاصقة للحائط في شقتهم المؤقته، يقول بعد سكوت قصير فهو خائفٌ أكثر منها : أتوقع أبوي يسميك على اسم عمي، علي.
ثم أردف يتصنع البشاشة : بس أنا بصراحة أحب اسم فهد واشوفه أحلى، فخم وكل واحد اسمه فهد يصير هيبة لا إرادي.
لم تجد الجوهرة ردًّا فآثرت السكوت، واستمر الصمت الثقيل لوقتٍ طويل حتى دخلت سارة بوجهٍ شاحبٍ وذابل، جلست على السرير تنظر لها قبل أن توجه سؤالاً بعينيها ناحية حاكم الذي رفع كتفيه بقل حيله بمعنى "وش اسوي!".
سارة بنبرة خفيفة وهي تضحك بهم : بنام هنا اليوم، بصراحة أبوك عليه شخير يصحّي أمي وأبوي وهم بالسعودية!
ليقف حاكم وكأنه لم يصدق : أجل أنا بروح أنام عنده، تصبحون على خير.
يخرج بسرعة وكأنه يهرب من المكان فهذا الكم من الكوارث كثيرٌ عليه وهو لم يدخل عامه العشرين بعد.

تمددت سارة على جنبها، تغلق فمها بعد محاولات فاشلة لقول شيء ولكن لم يخرج معها حرف، تنظر لظهر الجوهرة التي لازالت على وضعها وكأنها بالمكان لوحدها، لا تعرف ماذا تقول، كيف تواسي كيف تخفف كيف؟
اضطربت أنفاسها ما إن أرخت الجوهرة جسدها لتتمدد بجانبها، تنظر للسقف بصمت وكأنها تنتظر الخلاص من الأعلى.
تنهدت سارة وبدأت تمسح بيدٍ مرتعشة على صدرها المسطح, لا شيء بارزٌ فيه إلا العظام وهي تلوم نفسها وتتمنى الموت على إهمالها ابنتها فلا وجود لأي بروز يثبت بأنها كانت أنثى طبيعية.
تغرق بالعبرة كلما مرت بكفها على نبض قلبها المتسارع حتى أمسكت الجوهرة بكفها، تشد عليه هامسه : أنا آسفة.
سارة بأسى وهي تلمح الدموع التي بدأت تتدحرج من طرف عينها : آسفة ليش ياقلبي؟
الجوهرة بنبرة باكية : لأني كذبت.
اختنقت سارة بعبرتها، تشد على أصابع ابنتها التي ستوّدعها غدًا وداعًا أبديًا بعد ثمانية عشر سنة فهي ستدخل المستشفى بالغد لإجراء عملية التعديل بعد الغد، وكل هذا ثقيل وكثير عليها تشعر بأنها ستنهار الآن الآن قبل أن تنتهي هذه اللحظة حتى، تكدست الدموع في عينيها ولم تمنعها هذه المرة ولم تحاول أن تمنع الحزن من أن يظهر واضحًا في صوتها كما كانت تفعل وهي تتصنع القوة أمامها : الغلطة غلطتي أنا، أنا اللي ما انتبهت إلى أن وصلتي العمر ذا.
ثم تردف بحسرة : الغلطة غلطتي أنا، أنا المسؤولة عن كل شي قاعد يصير لك.
في تلك الليلة لم ينم أحد، لا سارة ولا الجوهرة ولا حتى سلمان الذي تفاجأ به حاكم يجلس في الغرفة الأخرى واضعًا كفه على رأسه بوجهٍ يغرق بالقلق والخوف.

شعر بيد الطبيب التي ربتت على كتفه، تمر الأسماء على مسمعه, عزام ناصر حاكم خالد عبدالله عبدالإله ذيب، ليهمس بصوتٍ خدر ولسان ثقيل قبل أن ينطبق جفنيه تمامًا : فهد....
...

فتح فهد عينيه عندما سمع صوت الباب الذي أعاده للواقع،
واقعهُ الذي صار يعيشه الآن حيث يتمدد على الأريكة بعد إحدى عشر عامًا من تلك الذكرى.
رفع رأسه ينظر للتي ظهرت له من خلف الباب، مبتسمًا قبل أن يقول مشاكسًا بهدوء عله يخفف من ربكَة الموقف السابق بينهما : أخيرًا حنيتي علينا وفتحتي الباب أستاذة غادة!
ضحكت بحرج : لا تكفى توقعتك نسيت.
كان فهد قد اعتدل جالسًا ما إن انهت جملتها، يقف على أقدامه تحت نظرتها وقد تحرر من جاكيته الأسود بعد أن كان سيقتلع سحّابة قبل ساعات من توتره، واكتفى ببنطاله الجينز وكنزته الشتوية برقبة مرتفعة بينت عرض كتفيه، يقترب منها ضاحكًا بخفوت : أنسى ميين خلاص ثبتت في الذاكرة!
أعطته غادة ضحكة مرتبكة وتحركت مبتعدةً من أمام الباب بهدوء وخطى موزونة تصرخ ثباتًا وثقة قبل أن يقف أمامها، تأخذ طريق المطبخ قائلة : ترى أذن الفجر صل قبل لا تنام.

لا تعلم كم دقيقة مرت عليها وهي هناك، تقضم أظافرها بتوتر. وتمرر يدها على شعرها بارتباك تعيشه لأول مره منذ أن تزوجته، ولم تخرج إلا بعد أن مر وقت سيطرت فيه على نفسها وتوقعت أنه كافي ليغلب النعاس أجفان فهد وينام.

شدّت خطواتها ناحية الغرفة بعد أن أغلقت جميع الأنوار وشربت القليل من الماء فحلقها جفّ فجأة، فتحت الباب المردوف بهدوء ليستقبلها الظلام، بحلكةٍ أقل بسبب الشمس التي وضح نور شروقها على قماش الستائر الخفيف.

أغلقت الباب بحذر وعيناها على بنطاله وكنزته الموجودين بشكلٍ مرتب على ظهر الكرسي قريبًا من التسريحة، قبل أن تحركها قليلاً لتحط عليه، يتمدد على ظهره، واضعًا ذراعه يغطي بها عينيه.

تقدمت بهدوء حتى رفعت الغطاء جهتها، ترفع بعده ركبتها على السرير وتنظر له بتفحص بعد أن أخذت عيناها على الظلام. ورغم أنه بدا لها نائمًا من أنفاسه المنتظمة وصدره الذي يعلو ويهبط بهدوء، إلا أن قلبها أبى أن يهدأ.
تنفست الصعداء،، وأخذت نفسًا عميقًا أطلقته مرتعشًا متقطعًا بشكلٍ يكسر الخاطر ما إن نجحت وتتمددت مكانها بخفه لم يشعر بها فهد.. مسكت الغطاء ورفعته لمنتصف صدرها قبل أن تضع ذراعيها عليه تثبته.. وكأنها تخشى من أن يتحول لبساط سحري يطير مبتعدًا عنها.

دقيقة اثنتين ثلاث وعشر مرّت في صمتٍ مرعب. مُربك..
الغرفة باردة بشكلٍ جعل كل شعرةٍ في جسدها تقف.. لا يُسمع فيها إلا صوت إندفاع الهواء من المكيف الذي فتحه فهد رغم أن درجة الحرارة أقل من ١٠ْ في الخارج.
وما إن استقرت أنفاسها أخيرًا واغمضت عينيها في محاولة استسلامٍ للنوم ، وصلها صوته هادئًا عميقًا يشق السكون : نمتي؟
لينفض عظامها، ويعيد معه الاضطراب، والأنفاس الغير منتظمة، والخفقان، وكأن قلبها سيكسر أضلعها.
فتحت عينيها بقوة، تقول بسرعة وإندفاع : ايه.

ضحك بخفوت، ولفّ لها، يضع يده على كتفه الآخر ويغرس أصابعه فيه عل رجفة أطرافه تختفي.. يتأملها وهي تنظر للسقف بحركة أجفانٍ قوية تأخذ مايقارب الثانيتين بين الرمشةِ والرمشة.
ابتلعت غادة ريقها وهي تشعر بنظرته تحرق جانب وجهها، تجذب أنفاسًا عميقة لرئتيها وتتنفس بصوتٍ مسموع : اليوم كتمه.. زين شغلت المكيف.
فهد بهدوء: مم.
عادت تبتلع ريقها، لازالت عيناها مثبته على السقف، ترمش بارتباكٍ لم يخفى عليه، فمد يده، وأحسّت بأصابعه الباردة على كفها الأقرب له.. لينتفض جسدها مجددًا بوضوح، وينسّل قلبها من بين أضلعها فلم تعد تشعر بنبضاته هذه المره .

أغمض فهد عينيه قليلاً وهو يشعر برجفتها وارتباكها منه، وكأنه يستمد قوته وثباته منها.. يحاول ضبط أعصابه التي تسحقها عجلة التوتر ذهابًا وإيابًا دون أي رحمة قبل أن يفتحها مجددًا بإرهاق.. فالتفكير أتعبه, والتردد أنهكه.. يرفع يدها ويقربها لصدره حيث أضلعه ترتعد..
لا تفكّر.. كن كما أنت ولا تفكّر.
شد نفسًا عميقًا شعر به صقيعيًا يجمّد رئتيه.. وبقى ساكتًا ينظر لها. فمالت برأسها ناحيته ونظرت له وهي غير قادرة على الصد عنه وكأن عينيه مجال مغناطيسي تجذبها له.. وبقت النظرة بينهما صامتة لثوانٍ قليلة إلى أن قالت بصوتٍ يتضح في نبرته الخوف وهي تسمع أنفاسه القصيرة مما جعل صدره يرتفع وينخفض يدفع يدها معه ويعيدها، تشعر بتسارع نبضات قلبه بشكلٍ غير طبيعي أبدًا.. وكأنه سيخرج من مكانه : وش فيك فهد؟

تهدجت أنفاسه "اللي فيني إني...... متوتر، وخايف، ومتوتر وخايف وقلقان قلقان قلقان وخايف".. مافيهِ كثير، ولن تكفيه ساعات قليلة لسرده.. ريحٌ من الفوضى تعصف به.. ورغم التضارب الرهيب لكل هذا في نفسه، إلا أنه زفر زفرةً مرتعشة خرجت من أعماقه، كانت ستحرق جوفه لو بقت أكثر، يقول هامسًا بكلمة واحدة كفيلة بوصف كل شيء.. بصدق : ما أدري!

واللهِ لا يدري، ولا يدري ماهو الشيء الذي لا يدري عنه..
كل ما يدري به الآن هو أنه مرتبك، وقلِق، يخشى من الخيبة والخذلان وأمور أخرى لم يسأل عنها ولم يبحث ولم يتجرأ.. كل شيء مثالي، نتاج عمل طاقم طبي كامل ومشارط جراحين لا تخطئ وخبرة دكاترة أعصاب وتجميل اتحدوا كي يُظهروا ماكان مخفيًا لثمانية عشر سنة، ورغم أنهم أكدوا له بأنه يستطيع أن يعيش حياته كرجل طبيعي إلا أن هناك الكثير من الأمور بقت فيها نسبة شك لن يؤكدها أو ينكرها إلا فهد نفسه.

حاولت غادة أن تسحب كفها من بين أصابعه، لكنه منعها.. يرفعها حتى لامست شفتيه.. يقول بنبرة خافتة فيها يأس بعد أن شبك أصابعه بأصابعها : بالله شوفيني .
انتفضت ما إن لامست أطراف أصابعها شعر شاربه :..كيف ه.ههه؟
قالتها وابتلعت ريقها، بصوتٍ بالكاد خرج.. تشتد أطراف شفتيها باستنكار، ولم تتحرك بعد قولها هذا أبدًا، ولم ترمش حتى.. بل تشنجت وكأنها خشبة، تنظر له بريبه فقد بدَا وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة.
"فوضى فوضى فوضى، شوفي الفوضى" شعر بتشنجها.. وخاف أن تأتيها نوبة صرع تزيد الطين بلّه.. فهتف مجددًا.. بتنهيدةٍ وهو يشدّ على أصابعها التي تيبست مفتوحةً بين أصابعه.. يشعر ببرودتها وكأنها مكعبات ثلج : بردانة أقفل المكيف؟
هزت رأسها تنفي ولم تكترث إن كان لمح ايماءتها هذه أم لا ، ساد الصمت لثوانٍ قليلة، مرت بمحاولات فاشلة لجمع ثباتها الذي بعثره، تحاول جاهدة أن تهدئ تسارع نبضات قلبها التي شعرت بأن العالم كله قادر على سماعها.
الثانية سحبت أخرى، والأخرى سحبت أخريات حتى تمت دقيقة كاملة طويلة تغرق بالصمت الثقيل جدًا ولا شيء غيره.

حرك فهد عضلات وجهه، عله بذلك يصحّي ثقته النائمة، لكن ما خرج منه كان ابتسامة قلقة اتسعت حتى ملأت وجهه، فبدا كوجه الذي يخفي مصيبةً خلفه : تدرين وش أنا ناوي عليه الحين؟
يراقص لها حاجبيه مشاكسًا ويضحك بارتباك ما إن عقدت حاجبيها. لتبادله الابتسامة مضوقةً عينيها بتهكم مازح عل الجو المتكهرب هذا يتغير قبل أن يقتلها : أحس إيه بس يارب أكون فاهمة غلط.
شدّ فهد على أصابعها بقوة مفرطة كادت تكسرها، دون أن يتعمد ذلك، يقول بضحكةٍ مرتبكة : يعتمد وش اللي فهمتيه بالضبط..
غادة بهلع : مافهمت شي...
ثم أردفت وهي تحاول سحب يدها بقوة : ولد اترك يدي.
ضحك فهد من أعماق قلبه على ملامحها المرعوبة، يشد على أصابعها أكثر، يحاول أخذ شهيقٍ عميقٍ بعد ذلك ما إن هدأ، وشعر بأنه سيختنق من قصر أنفاسه من محاولاته بأن يبدو طبيعيًا ولو قليلا، لينطق : مو مشكلة، افهمك.
احتدت نبرتها بجزع : ما أبي تفهمني شي.
فهد بضحكة مرتعشة : والله كل شي بطيب خاطر منك.. تطمني.
سكنت ضحكته، وساد الصمت المميت مجددًا بعد جملته هذه رغم أنه قالها ليخفف من الارتباك الذي هبط على الغرفة، صمت قاتل حتى باتت قادرة على سماع حدّة أنفاسه المتلاحقة التي تضرب كفها بحرارة، ونبرته المنهكة عندما قال هامسًا مغمضًا عينيه : اهدي،، أنا أبيك تهدين.. لا تتوترين... ولا تخافين.
نظرت له، وللعقدة الصغيرة التي تشكلت بين حاجبيه باستياء، وفمه الذي بات مشدود الأطراف بخطٍ مستقيم، بقلق واستنكار جعل عضلاتها المشدودة تذوب وترتخي، هي متوترة نعم, بل تكاد تموت من فرط توترها لكن حالته كانت أسوأ بكثيرٍ منها " إهدى أنت، باين متوتر أكثر مني!! "، ابتلعت ريقها قائلةً بهمس : طيب....
ثم قالت بقلق : فهد إذا بردان قفل المكيف عادي والله، يدك ثلجت!
تمتم بابتسامة مشاكسة : ثلجت من القمطه والله ههه.
لم يصلها ماقال بوضوح، فسألت : مافهمت!!...
لكنه لم ينطق بحرف ليفسر، بل فتح عينيه، ببطء. يرمقها بلمعانٍ غريبٍ يتراقص على سطح مقلتيه.. عيناه بخطوطها الحانية ما إن ابتسم لها بتعبٍ واضح وخجلٍ بدَا رجوليًا بشكلٍ غريب شقّت قلبها وجعلت منه أرض حربٍ لا تهدأ، تُمطرها القنابل ليلاً ونهارًا دون توقف.
ابتلعت أنفاسها المضطربة. ترخي تصلب أصابعها.. تشد على أصابعه.. تنظر لعينيه التي ابتسمت لها بدفء بعد حركتها هذه وكأنه ممتن، قبل أن تسمع اسمها بنبرته التي أغرقتها وجرفتها بعيدًا بكل رضا..

في ذلك اليوم أشرقت شمسٌ صفراء باردة لأهل الأرض جميعًا، وأخرى مختلفة أشرقت لفهد، في عينيه، بين يديه.. له لوحده دون أن تظلل أحدًا غيره، قادرٌ على احتضان أشعتها دون أن تحرقه، أنارت له أفقًا جديدًا، وأخذته إلى حياةٍ أخرى.. حياةٍ لا يعرفها.
وبغض النظر عن الخوف والتوتر والقلق الذي كان يتسيده، كانت هناك شعله في داخله تدفعه على التقدم، فهو في نهاية المطاف رجل بفطرة سليمة حتى وإن كان اكتشف ذلك متأخرا، ومن تنظر له الآن بعينين تتلامع وجلاً وارتباكا هي امرأة، زوجته... اللمسة منها تلهبه وتأجج رجولته، والنظرة تشعل حواسه كلها.
لا يعرف ماذا حصل، لا يذكر إلا أنه فكّ آخر قيد كان يأسر راحته، وتحرر مما كان يعيقه ويثقل خطوته. فرَد جناحيه وهو يشعر بأن روحه التائهه عادت لموطنها، وتأكد من أنه وجد ظالته وملاذه وهو يتأمل وجهها ما إن نامت بين يديه.

*

خرج فهد من دورة المياة بسرعة كما دخلها بسرعة : غادة قومي تأخر الوقت .
أبعدت الغطاء عن وجهها بعد نبرته التي وصلتها عالية، ترفع رأسها بحاجبين معقودين وعينين شبه مفتوحة والإضاءة البيضاء تكاد أن تسبب لها العمى : ليه كم الساعة؟
فهد على عجل وهو يخلع تيشيرته : شوي وتصير سبع ونص.
شهقت بهلع وقفزت واقفةً بسرعة : ليه ماصحيتني؟
ضحك بروقان لا يتناسب مع الموقف، لا يعرف كيف غفى دون أن يشعر : أنا توني أصحى راحت علي نومه.
غادة : عندي محاضرة بعد ساعة!!
قالتها على عجل، تسحب ملابسها التي جهزتها بالأمس قبل أن تغلق باب دورة المياة عليها، ولم تمضي عشر دقائق إلا وهي خارجة منها، تمسح وجهها المبتل ببجامتها بين يديها قبل أن ترميها جانبًا، تقف أمام التسريحة لتجد أدويتها وبجانبها قارورة ماء مفتوحة لكن لازال الغطاء عليها، الروتين الذي التزم به فهد من تلك المره وأخذه على عاتقه، نفس المكان كل يوم دون أن يفوّت يومًا.
فتحت العقاقير بسرعة ورمتها في فمها بعد أن تكدست على راحة يدها، تشرب الماء بعدها في نفسٍ واحد وعيناها تتابع فهد من انعكاس المرآه، ينحني بوقوفه قليلاً على قدمٍ واحدة ليرتدي جواربه بعد أن ارتدى ثوبه.
صرفت بصرها بسرعة، ولو كان لديها متسع من الوقت لكانت تأملته حتى اشبعت عيناها بوجهه الصباحي اللطيف هذا.
تمْشط شعرها المصبوغ حديثًا بأصابعها حتى هدأ تطاير خصله التي سحبت لونها بالأمس بكل وحشية. تضع روجًا ورديًا بيد وبالأخرى تحرك فرشاةً تلونت بالقليل من البلاشر بشكلٍ عشوائي على خديها قبل أن ترتدي نظارتها السوداء الكبيرة وتغطي بها تورم أجفانها بعد نومة عميقة.
تقدم ناحيتها، بخطى عجلة وهو يرتب شعره ويمسح عليه، وعيناه على المرآة التي صارت خلفها بعد أن استدارت لتواجهه، وما إن وقف أمامها، حتى ورفعت يديها، تغلق أزرار ثوبه التي لم يغلقها بعد.

هبطت عينا فهد من انعكاس وجهه في المرآة لانعكاسه بعدسات نظارتها ، متأملاً حركة شفتيها تتمتم بشيءٍ ما حاول سماعه بتركيز ولم يقطع محاولته إلا صوتها تنفث ثم تتفل بمرح : تف تف تف.
لف كفيه حول عنقها وضغط بخفة، يهزها شادًا على أسنانه بغيظٍ مازح : كم مره قلت لك لا تسوين الحركة ذي؟
ضحكت بعمق وهي تلف أصابعها حول معصميه : أنفث عليك ياخي خايفة من العين..
ابتسم وبقى ينظر لها حتى أحست به وسكنت ضحكتها وأرخت من تشبثها بمعصمه،
أبعد كفيه عن عنقها واعتدلت هيَ بوقفتها ترفع نظارتها التي تراخت لمقدمة أنفها نتيجةً لترنح رأسها..
فهد بمودة : صباح الخير ياشمسي وظلالي وفيّي.
نبض قلبها بقوة من نبرته، ومن عينيه التي كانت تغزو وجهها بدون أي احترام، ليس وكأن الوقت يركض وأمامهما عمل تأخرا عنه.
فقالت ضاحكةً رغم خجلها تأخذ زجاجة عطره من على التسريحة وترشه عليه بسخاء وإفراط دون أن تنظر لوجهه : بعد بعد قول بعد أحتاج طاقة.
ليهتف فهد مبتسمًا بهدوء : طيب شيلي النظارة .
قالها يمد يديه ليرفعها عن وجهها، لكنها أعادت رأسها للخلف بعيدًا عن امتداد يده : تؤ معليش اليوم معتمدة ستايل أم كلثوم.
ضحك، وقال بنبرة متعمدة : ترى مابيمدي نمر نجيب قهوة.
تعالت ضحكته أكثر ما إن انتبه لحاجبها الذي ارتفع وتعدى حدود نظارتها، تقول بتهديد : سم؟
وضع مفاتيحه ومحفظة نقوده في جيبه قبل أن يبتعد، لازال يضحك بروقان بعد أن تخصرت بتحدي وكأنها تنتظر منه أن يسحب كلمته. يبعد غطاء السرير بحثًا عن هاتفه، ويقول ما إن وجده : استعجلي تأخرنا جد.
اعتدلت واقفة بحنق : توبة اعتمد عليك مره ثانية كنت بحط منبه وأنت عييت.
فهد وهو يضع هاتفه في جيبه العلوي ويرمقها بإزدراء : على أساس إن دق تصحين؟ دايم أنا اللي اطفيه.
ثم استطرد قبل أن يخرج : بنتظرك بالسيارة عجلي إن كنتي تبين قهوة.
غادة بحماس وهي تركض لعباءتها المعلقة : والله هوااا.

أوصل هاتفه بشاحن السيارة ما إن ركب فيها وشغلها لتحمى، يقلب في برامجه قليلاً ويضيع الوقت حتى تأتي.
رفع عينيه ما إن سمع صوت باب المنزل الذي تركه مواربًا خلفه، ليبتسم ما إن عرف التي خرجت، يفتح نافذته، ويضرب على هرن السيارة قائلاً بمرح : فيه مجال ياغزال؟
ضحكت سارة واقتربت منه : فيه.
قبّل فهد يدها التي اسندتها على حد النافذة : صبحك الله بالخير، رايحة الدوام؟
سارة بمودة وهي تتأمل وجهه : يصبحك بالنور والرضا ياحبيبي، ايه عندي محاضرة بدري.
فهد : اركبي أوصلك.
: الله يسعدك بروح مع السواق طريقي غير طريقك.
وصلهم صوت إغلاق الباب ونظر كلاهما للقادمة بخطى شبه راكضة،
فهتف فهد بابتسامة هادئة وهو يتأمل خطواتها العجلة ناحيتهم : أنا رايح رايح بوصل غادة.
سلمت سارة على غادة التي صبّحت عليها ببشاشة، قبل أن تقول ممازحة وهي تفتح الباب الخلفي : اييييه الله يالدنيا يافهودي, الحين صرت تاخذ الطريق لجامعتي وأول كنت أمتره رايحه جايه مع السواق .
ضحك محرجاً وهو يدير رأسه للخلف لينظر لها : كنت أحايلك عشان أوصلك بس أنتِ ماترضين.
غادة : اركبي قدام مسّو.
لكن سارة ركبت خلف ابنها، وقالت قبل أن تغلق الباب : ما أحب سواقة فهد تغثني من غير شي كيف عاد لاركبت قدام!
غادة : صادقة والله سواقته تغث.
قهقه فهد يضحك بصدمة، ولم يعلق بعد أن تحالفتا ضده، يرتدي نظارته السوداء وهو يتابع غادة التي رمت كلمتها بنبرة مشاكسة قبل أن تعبر أمام السيارة وتأخذ طريقها لباب الراكب،
وما إن أغلقت بابها وربطت حزامها حتى وتحرك مبتعدًا عن المنزل، ثم عن الحي بأكمله للطريق العام، بأحاديثٍ هادئة.. وبسرعة لم تتجاوز الثمانون جعلت غادة تقول بقل صبر ما إن فتحت الإشارة التي أوقفتهم لدقيقة : فهد تكفى انطلق أسرع شي.
فهد وعينه على الطريق أمامه وينطلق أسرع شي : ترى مافيه إلا وادي القهوة، هو اللي بطريقنا.
غادة بتبرم : لا فهد طعم قهوتهم ماش!
ارتفع طرف فمه بابتسامة : عارف والله بس ما يمدي نروح غيرها ياقلبي ولا الكل بيتأخر.
غادة بعبوس اتضح بنبرتها : يلا العوض ولا الحريمة أمري لله..
وبكرة أشوفك تقول لا تحطين منبه وتسلّك لي بقهوة أبو كلب.
ضحك بخفوت، يمسك كف يدها المستنده على الصندوق بينهما، ويرفعه ليلامس ظهر أصابعها شفتيه بقبله أتت من العدم لم يستطع أن يقاوم نفسه التي كانت تحثه عليها، يقول بعدها وعينه لم تبتعد عن الطريق أمامه انشًا : بكرة جمعة روحي تقهوي لحالك.
بادلته غادة الضحكة بأخرى محرجه فوالدته معهم : أقصد الأحد.
فهد بنبرة : نشوف.

تبسمت سارة وهي تراه يأخذ منعطف المحطة، لازالت يده تمسك بيد غادة التي سحبتها بشكلٍ عفوي ناحيتها ليستريح كفيهما في حضنها، يسألها بهدوء بعد أن وقف خلف سيارة أمامهم تطلب : كم محاضرة عندك اليوم؟
غادة بضجر : ثلاث لابات وياقلب لا تحزن. اف بس اف متى اتقاعد!!
فهد بضحكة : خفيفة اللابات كانت مثل الفسحة بالنسبة لي يوم كنت جامعي واتحمس لها بعد، اتركي عنك الحلطمة بيفتحون الأجهزة ويطقطقون وأنتِ متكيّه..
غادة : ايه تسوي نفسك تطبق ومركز وأنت تلعب لعبة سوليتير، تراني أعرف حركاتكم يالطلبة لا يمكن تفوتني..
قهقه فهد بعدم تصديق، يسأل بعد أن هدأ : أي مستوى طيب؟
تنهدت : اللاب الأول مستوى خامس حليوات يهبلون ودايمًا مالهم خلق يخلصون شغلهم بسرعة ويطلعون والثنتين الأخيرات بنات التحضيري الدلوعات.
يتابعان حديثهما بهدوء، تستطيع بقدرة عجيبة أن تسرق ضحكة خافته منه لشيءٍ قالته ولم تركز فيه سارة. فقد كان كل تركيزها على ابنها الذي ضغط بقدمه على دواسة البانزين بخفه ما إن ابتعدت السيارة أمامهم، عينه لازالت على الجالسة بجانبه يسمع حلطمتها الصباحية باستمتاعٍ غريب وبيدٍ لازالت بيدها، يخرج الأخرى من حدود النافذة بعد أن فتحها، ولم تتوعى إلا بصوته يسألها : يمه وش تشربين؟
تنحنحت كي لا يخونها صوتها ويخرج مرتفعًا كصوت مراهقة ستموت من فرط السعادة : قد شربت في البيت ياقلبي .
لكنه استدار بجذعه ناحيتها بعد دقائق، يمد لها كيسًا بنيًا صغيرًا، قائلاً بابتسامة ودودة وهو ينظر لها من خلف نظارته : طلبت لك كوكيز أبيض أدري تحبينه.
أخذته منه دون أن تنطق بحرف، غير قادرة.. تتابع تحركاته بدقة، بقلبٍ يرفرف فرحًا بين أضلعها. يأخذ الكوب الكرتوني الأبيض من العامل قبل أن يبعد مايغطيه ويمده لغادة بدونه.
لتأخذه منه، تقول برقه : شكراً فهّود.
ويرد عليها بنبرة لينه تذيب القلب منطلقًا بسيارته : عافية.

.
.

تقدم في خطاه وأخذ منعطف أحد المباني، يقف ويبحث بعينيه عاقدًا حاجبيه بتركيز، ليجده كما قال له، يقف قريبًا من عماره بيضاء أمامها باص مدرسة.
اتجه له، وفتح باب الراكب ليركب، فاعتدل الآخر جالسًا بعد أن كان مرتخيًا بكرسيه الذي سدحه للخلف.
أغلق بسام بابه : سلام..
عدّل عزام كرسيه وأعاده لوضعه الطبيعي : وعليكم السلام. وش فيك تأخرت؟
مد بسام يده وفتح المكيف : جاي بنص الدوام زين قدرت أطلع لك أصلاً.
ثم أردف يفتح ياقة ثوبه بزفرة : إن كنت تقدر تنحّش وأبو عارف مفهي ونايم على أذانه ما يدري عنك فأنا صعبة....
لكن عزام أطفأه، قائلاً باستنكار : صاحي أنت؟؟ برد!
بسام : بموت من الحر جيتك أركض.
قالها وهو يعاود فتحه، يرمقه بإزدراءٍ جعله يسكت، ويتحمل البرودة طيلة الدقائق التي مرت عليهم صامتين يلتقط فيها بسام أنفاسه، يلتفت برأسه ينظر له بعد أن كانت عيناه للشارع بجانبه، ليجد أن عزام متكتف اليدين ينظر له، فقال ضاحكًا : ياساتر عيونك حرقت قفاي!
عزام بابتسامة صغيرة : ... وش صار؟
بسام بهدوء : مثل ما قلت لك تركي مات..
زفر بضيق يهز رأسه : الله يرحمه ويغفر له.. والله توقعت هالشي وقلت له يسافر ويختفي بسرعة بس ماطاعني!
بسام : سافر بسرعة ولا سافر بشويش هم ناويين عليه ناويين وبالأخير هذا يومه الله يرحمه.
تنهد : كيف ومتى؟.. دقيت على متعب بس قال انه طالع إجازة ولا يدري عن شي.

سكت بسام، يرمق وجه عزام الضائق قليلاً قبل أن يقول : قبل أمس الفجر صحى أخوه بيروح يصلي وشاف النور الداخلي لسيارته التأجير مفتوح، ويوم قرب شافه بالسيت اللي ورى وقده ودّع خلاص، وكيف ذي عاد،، نفس اللي قبله مخنوق بحزام سيارته وموسوم بذراعه..
عزام : برقم ٢.. رقمه نفس ماقال...
قالها متأكدًا يقاطعه، فرفع بسام حاجبه، وهز رأسه : ايه،
عزام : تعرف ذا وش معناه؟ إن فيه واحد ثاني قاعد يستعمل صلاحياته مثلك.
تجهم وجه بسام، وتقلصت عضلاته بعبوس : وش مثلي ذي؟... وليه تقولها وأنت قالب خلقتك كذا؟ ذا جزاي فازع لك يالتعبان؟
ضحك عزام وقال متعمدًا إغاضته : كل مصيبة لازم يكون فيها طرفين، الطيب اللي يحاول يساعد والشرير اللي يخرب.. وأنت الطرف الطيب.
بسام بحنق : تصدق الشرهه علي أنا بس ماعليه سو خير وقطّه بحر.
ثم أردف لازال عابسًا ما إن تعالت ضحكة عزام : تراك إلى الآن ماعلمتني باللي قاله بالتفصيل وما اعطيتني غير كلمتين زي وجهك تسكتني فيهم وسحبت علي.
عزام بتنهيدة : أدري والله واعذرني ما قصدت أسحب بس انشغلت الأيام اللي فاتت ولا أمداني أكلمك.
نطق بسام ممازحًا : تراني ساكت بمزاجي لا تخليني أفصل عليك.
عزام بابتسامة ضائقة : جايّك بالكلام لا تستعجل على رزقك..
بس علمني أول من مسك القضية؟
بسام بتهكم : هههااي مافيه قضية ياعمي.
عقد حاجبيه ومد يده ناحية المكيف : كيف مافيه قضية!
صفع بسام يده قبل أن تصل أصابعه لأزراره : ولد!
عزام بضحكة رغمًا عنه : البرد قطّع أذاني يخوي.
لكن بسام تجاهل تذمره وقال : تسجلت وفاة عادية وأهله استلموا الجثة وأتوقع قد دفنوه وقضوا.
رفع عزام حاجبيه باستنكار : كذا بسكات وسهولة؟
مط بسام شفتيه بعدم رضا : هذا اللي صار والله.... يارجّال احمد ربك إنها انتهت كذا، لأنه لو صار العكس أول من بينسحب للتحقيق مع شوشته وأذانه هو أنت. المشتبة فيه الأول محد يعرفك طلعت لهم فجأة برجعة ولدهم واختفيت فجأة هذا غير رقمك بجواله وسجل المكالمات بينك وبينه.
زم عزام شفتيه قائلاً بحنق : راكان هو من قفل السالفة وخلاها تنتهي بشكل تافه مثل ذا صح ولا غلطان؟
أومأ بسام برأسه، فتابع عزام وقد اشتد غيظه : عشان يوم أقول إني شاك فيه نبّش وراه شوف وش تحت رأسه تصدقني.
عقد بسام حاجبيه قائلاً بسرعة : ومن قال إني كنت مكذبك؟... بس أنت فاهم وعارف إن الدعوة ماهي زر اضغطه وخلاص، تبي تنكبني أنت؟.....
وتابع كلامه بعد ثانية صمت : ترى أدري إن الموضوع كبير والمخفي يروع لدرجة إن جرايم مثل ذي تتقفل بدم بارد...
ثم رمق بعينيه ساعة السيارة عندما لم يصله أي تجاوب من عزام، يقول متابعًا : عمومًا.. أنا بحثت عن ساطي مثل ماوعدتك.. وبعد السالفة ذي بغامر وأشوف راكان ب...
قاطعه بهدوء : اتركه عنك خلاص مايحتاج.
بسام باستنكار : ليه؟ يمكن نلقى شي..
ارتفع طرف فمه بابتسامة متهكمة : مابتلاقي إلا الضعوي واللي يبيك تعرفه وبس.. الشيخ راكان منظف سيرته زين وخلاها تلقلق.

بسام بعجل وعينه ترمق الساعة مجددًا : ماعليه مابنخسر شي، أنت شاك إن له يد بسالفة موت الضبا....
لكن عزام قاطعة : كنت شاك بس الحين تأكدت... والله لو تدري وش عرفت يابسام إن يوقف شعر راسك...
بسام بنفاذ صبر : أنجز مامعي وقت.
اعتدل عزام في جلسته يأخذ نفسًا : رحلة روسيا كان فيها عشر ركاب مو بثمانية مثل ما طلع عندك.
سكت بسام لثانية، يقلبها في مخه قبل أن يرفع حاجبه بتوجس : وراكان منهم.
عزام : راكان وساطي.. الإثنين.
سكت مجددًا وعيناه على ابهام عزام وسبابته بعد أن أشار بهما في وجهه معددًا بهما، ليسود الصمت الثقيل ولا تتخلله إلا أصوات عبور سيارة أو اثنتين بالشارع الذي أعطاه بسام ظهره، قبل أن يرفع بصره قليلاً وينظر لعزام الذي كان ينظر له بعقدة حاجبين بسيطة.
بسام بهدوء وتحفز : طيب؟
عزام بنبرة رتيبه : سالفة المهمة ذي ماهي إلا غطا لشي ثاني أكبر، هذا إن كان فيه شي اسمه مهمة سرية من الأساس ومو شي كتبه ساطي كذا في حال أحد شك بعد مده وكان مخطط لكل شي مستغل سلطته، طلّع قرار تشكيل الفرقة واختارهم وجمعهم وهو عارف كل واحد منهم وش فيه و وش مافيه.. ثم قدم طلب سفرة لروسيا ومتأكد إنه كان إما لدورة أو أي شي ثاني اعتيادي يظلل فيه المصيبة اللي أخذهم لها...
عقد بسام حاجبيه : وليه يسوي كل ذا!! وش ذا الشي الكبير اللي يخليه يتحايل كذا!
اشتدت أنفاس عزام ، وارتفع صدره وانخفض بغيظ : الواطي جندهم للصهاينة.
تطايرت عينا بسام بهلع ، ونطق بفزع : وشو؟
وقبل أن يفتح عزام فمه ليوضح رن هاتف بسام، ليخرج صاحبه من الفوضى والصدمة التي ألمّت به. أخرجه من جيبه وما إن قرأ اسم المتصل حتى واصمته. ينظر للساعة قبل أن يقول : السالفة ذي يبي لها قعدة وأنا تأخرت.
زفر عزام : متى يخلص دوامك؟
أعاد بسام هاتفه لجيبه : بطلع بدري اليوم هذا إن كملت ساعتين على بعض بعد هرجتك ذي ..
ثم فتح بابه، وأخرج قدمًا واحده، وقال وهو ينظر له قبل أن يخرج الثانية : بكلمك.
أومأ عزام برأسه، وعلى ذلك أقفل بسام بابه وابتعد.

عاد عزام بعد اللقاء القصير لمؤسسة أبو عارف، ورغم أن زميله أخبره ما إن دخل : عواد أبو عارف دق يسأل عنك.
إلا أنه لم يهتم لمعرفة السبب الذي دفعه لذلك، أو حتى ماقاله زميله ليغطي اختفاءه.
أكمل دوامه بشكلٍ عادي، ونفس ضائقة وتملل غير طبيعي إلى أن وصلته رسالة من شعاع أخرجته من هذا كله
(شو الأخبار؟ -مع قلب برتقالي وعينان تنظر للجهة الأخرى -)

نظر لساعة هاتفه قبل أن تعود نظرته لكلمة "يكتب..." في أعلى المحادثة، لم يبقى الكثير على صلاة الظهر، ربع ساعة أو أقل لذا أغلق ماكان بيده ويعمل عليه وأسند ظهره براحة على الكرسي خلفه، ينتظر ماتريد قوله بترقب خصوصًا وأنه لاحظ أنها تكتب وتمسح حتى قررت أن تكتفي بسؤاله عن أخباره.
ابتسم بعد دقائق عندما نفذ صبرها وأرسلت
(تقرا ليش ماترد؟ -مع وجه أصفر بحاجب مرفوع-)
(عزام -مع طبعة قُبلة- )
(ولد أكلمك أنا!!!!!!!!!!)
(ترى يطلع عندي إنك قريت إن كنت ماتدري)
ثم أضاءت شاشته باسمها وصورة عمه التي كانت تضعها صورة شخصية لها إذ أنها لم تصبر أكثر واتصلت عليه -واتساب- ،
أغلق في وجهها، فكتبت بسرعة
(قد حركتك ذي؟)
(طيب طيب ،
القم بلوك)
اتسعت ابتسامته حتى ملأت وجهه ما إن قرأ آخر ما أرسلت.
رسائلها لم تكن شيئًا جديدًا عليه فهو معتاد على محادثات شعاع التي تمطره بها يوميًا، بسببٍ أو بدون، عشوائيًا أو بتخطيطٍ مسبق.. إن لم يكن لديها شيءٌ مهم تقوله أرسلت صورة، مقطع فيديو، نكته، معلومة لا فائدة منها، ايموجي بشكلٍ مفاجئ،، أي شيء.. المهم أن تحسسه بوجودها وأنه مر في بالها وتذكرته في تلك اللحظة وأرسلت له، ورغم أنه لم يكن يرد على أيٍّ منها يومًا إلا أنها لم تمل، ولم تتحسس أو تعاتب بل يأتي اليوم الثاني والثالث والرابع والباقي من أيام السنة وهاتفه يضيء معلنًا عن رسالة منها كل يوم..

فتح هاتفه الذي اُظلمت شاشته، واعتدل جالسًا وعيناه تعاود قراءة ماكتبت، يتسارع نبضه بشكلٍ مفاجئ بحماسٍ لا يعرف سببه. يختفي كل شيء من عقله وتتبدد الضيقة ليجد نفسه ينجرف مع جنونها، تسحبه من رقعته الرمادية لعالمها المليء بالألوان، شيئًا فشيئًا دون أن تستعجله أو أن تيأس من انتظاره.
لا شيء يملأ تفكيره في هذه اللحظة سوى قلوبها البرتقالية، الساعات الرملية التي ترسلها كي تذكره بأنها تنتظره، استعمالها المفرط للوجوه التعبيرية، وتهديدها الذي هددت به.
ليضغط على شاشته، يكتب بشكلٍ عشوائي
(%%$/%)
ثم أمطرها بحروفه بشكلٍ متتالي
(شعا)
(ع)
(هييه)
(بنت!!!!!)
(قلبي)
وتوقع أن يجد ردًّا خصوصًا بعد كلمته الأخيرة، أول كلمة لطيفة يكتبها لها بعد جفاف الكلمات التي كان يرد بها نادرًا (ايه، نعم؟، والكثير من لا، لا، لا) وليكن البرنامج الأخضر وعمه خالد بالإطار الدائري أعلى الشاشة مشاهدين شاهدين عليه.
لكنه تأكد من أنها نفذت تهديدها وحظرته عندما لم يظهر له إلا صح واحد.. انفجر ضاحكًا بصدمة، واتصل عليها بسرعة يضع الهاتف على أذنه، يتمتم بينه وبين نفسه : أنا تصكيني بلوك!!

بينما في نفس اللحظة، كانت شعاع تجلس خلف مكتبها حيث الجدران الزجاجية تحيط بها. بكل أناقه ببنطالها الاسود الرسمي وقميصها الأبيض بثلاثة أزرار علوية مفتوحة لتظهر سلسالاً صغيرًا يتدلى حول عنقها بشكلٍ ناعم، وجاكيتها الأسود مفرود على ظهر الكرسي بعد أن شعرت بالحر رغم برودة المكان. بشعرٍ مسدول بكل نعومة جزءٌ منه خلف أذنها والآخر تتحرك خصله بكل حريه قريبًا من خدها الأيسر، تضع الهاتف أمامها بعبوس طفيف بسبب تجاهله لها. تسند ذقنها براحة يدها بعد أن وضعت كوعها على سطح المكتب، تحرك قلمًا بين أصابع يدها الأخرى وتنظر للخارج بتملل حيث بقية الموظفات كلاً خلف مكتبها أغلبهن يظهر انشغاله والأكثر على هاتفه فلا زحمة عملاء لليوم. ثوانٍ فقط حتى واهتز هاتفها وارتفعت نغمته معلنًا عن اتصاله، رفعت حاجبها وابتسمت تصمته، يرن مجددًا وتصمته، يرن ثالثة وأغلقت في وجهه.
تشد على شفتيها تمنع ابتسامة واسعة وترفع عنه الحظر،
تكتب بسرعة
(لو سمحت لا تتصل أنا مشغولة لا تشغلني زيادة)
وعندما ظهرت لها "يكتب..." في أعلى الشاشة، حتى وحظرته مجددًا بضحكة انتصار مجلجلة. والحمدلله الف مره أن الجدران عازلة للصوت.

.

خرج عزام من مقر عمله بعد أن انتهى من مهامه، واتجه لأحد المطاعم حيث أخبره بسام بأنه ينتظره هناك.
ركن سيارته، وأخذ طريقة لمدخل الأفراد يبحث بعينيه عنه وسط الحشود فاليوم الخميس والأغلب انتهى من عمله ويوم كالخميس يستحق الاحتفال به بالأكل خارجًا مثلاً!
رآه، وتقدم بخطى هادئة، يجلس أمامه قائلاً بسرعة: طلبت؟ تكفى قل ايه مافيني انتظر نص ساعة على مايجي الأكل....
عبس في وجهه : وين الواحد يشتهي الأكل بعد اللي قلته؟
ضحك : اها عاد لا تبالغ!
بسام بذات العبوس : لا أبالغ!! تدري إنك علقتني وفريت مخي بسالفتك ولا عاد جيت على شي أبد؟ كنت أدبس أوراق وبغيت أدبس أصابعي فيها لولا لطف الله .. فهمني وش معنى الكلام اللي قلته؟
عزام بابتسامة صغيرة : عيّن من الله خير واطلب لنا شي ناكله أول ولاحق على الباقي.
أشار بسام بيده للنادل وهو يرمق الآخر بطرف عينه قائلاً بتهكم : يابرودك يا أخي!.. أقولك افتَر راسي بينفجر وأنت همك بطنك؟..
ثم يردف متحلطمًا بخفوت ما إن وصله يحمل دفتراَ صغيراً بيده وابتسامة مهنية : أنا ما أدري وش سويت بدنيتي عشان أتعاقب فيك بس متأكد إنك تكفير ذنوب.
ضحك عزام بخفة ولم يعلق، وما إن امتدت الأطباق على الطاولة التي تفصل بينهما، حتى وتابع عزام حديثه بجدية من حيث توقف، دون أن يأخذ نفسًا واحدًا وهو يرى الصدمة بعيني بسام تكبر وتتسع كلما تقدم بحديثه، يأكل ببرود من طبقه، يحرص أن يذكر بين كلمة وأخرى أن والده هو الوحيد الذي رفض الرضوخ والاستسلام للعبتهم القذرة علّه يلمّع صورته في عيني الرجل أمامه والذي هو متأكد من أنه يعرف تفاصيل عنه لم يخبره بها لسببٍ في نفسه،
والده رقم ١ في عينيه لأسبابٍ عدّة حتى إن لم يلتقي به قبلاً، أو لم يعرفه يومًا، كبر على هذا، يسمعه من الجميع، أمه عمه أجداده، وكل من يعرف ذيب أكّد ذلك.. هو هكذا في عقله، بطلٌ لا يُخطئ حتى وإن ساوره الشك في أيامٍ قلائل بأنه مجرم، الأول في عينيه, مطلبه ومبتغاه قبل أن يكون هكذا بعين مجموعة من المفسدين لأنه عصاهم فقط.

أنهى حديثه بعد ذلك، يضع لقمةً في فمه ويمضغها بهدوء، وبقى الصمت ثالثهم لمدة قبل أن يقول بسام بقهر قاصدًا بحديثه ساطي : ابن اللذينا ملفه نظيف من تعين إلى إن تقاعد وبالأخير يطلع منه كل ذا!!
عزام بابتسامة متهكمة : تدري وش اللي يغبن صدق؟ إنه غدر فيهم وأخذهم معه بدون لا أحد منهم يدري عن اللي كان ناوي عليه.
سأل باستنكار : وعلى أي أساس حكمت محد يدري!!
عزام : لأني من طلعت من عند تركي وأنا أقلّب السالفة بمخي لا ليلي ليل ولا نهاري نهار.. وخذ العلم مني أقولها لك وأنا متأكد، ال* ساطي أخذهم غدر كان واضح ذا الشي من كلام تركي. ورطهم واختفى والحين قاعدين يدفعون الثمن.
بسام بتهكم : كانوا يقدرون يلحقون أبوك يوم طلع ورفض يجاريهم بس....
قاطعه عزام بهدوء : هم كسبوا وقت وأبوي دفع ضريبة رفضه بدري وقبلهم كلهم.. ماكان خايف يقول لأ، بس غيره خاف ماتدري ذيك اللحظة وش كان مرفوع بوجيههم!
بسام بحنق : لا تبرر عزام لو ينحرونهم واحد واحد ذيك اللحظة مافيه شي يشفع لهم خيانة مثل ذي..
سكت عزام قليلاً قبل أن يتابع بذات الهدوء : ما أبرر وبنظري الكل مجرم والكل يستاهل يتعاقب.. بس ذي الحقيقة مو الكل فدائي مثلك فيه كثير متمسكين بالحياة. أبوي وقتها كان واحد براسه لا مرَه يخاف تترمل ولا عيال يخاف يتيتمون وأهله بيبكون عليه سنة سنتين وبينسون، أما الباقي ماتدري، كلٍّا وظروفه.
شد بسام شفتيه ولم يعلق، وقال سائلاً عوضًا عن ذلك : تركي تجاوب معك على طول؟
تنهد : لأ، بس ماكان عنده مانع يجاوب إن سألته. هو كان سؤال واحد وبعدها جاب اللي عنده كله لأنه الله يرحمه كان شاد الظهر بجوازه الكندي وواثق مابيجيه شي...
قالها وأدخل أوراق الخس في فمه ، ليرفع بسام حاجبيه قائلاً بنبرة مقصودة : وأنت وش سألته عشان يهل السبحة ويعترف بموضوع كبير مثل ذا وهو مايعرفك؟
ضحك عزام بدون نفس، وابتلع ما بفمه قبل أن يقول : نفس اللي في بالك.
ثم أردف بجدية ما إن قلب الآخر وجهه بامتعاض : شف بسام بقولها لك بصراحة وبدون لف ودوران، أنا رجّال ما يعرف يكذب وأنت قد قلتها بوجهي مرّه وثرت بوجهك ساعتها بس ذا الشي مايمنع إن اللي قلته حقيقة فيني... أنا كنت مثلك فيني فضول أبي أعرف سالفة القضية ذي، أبي أعرف ليه فيه ناس بريئة بسجل نظيف قاعدة تموت وليه وليه وليه،، وعرفت.. بس ما تغير شي لا حماسي زاد عشان أعرف مَن ورى ذا كله ولا ليه يصير لهم كذا وش الجناية اللي ارتكبوها عشان يتصفون واحد ورى الثاني وبأبشع الطرق،
سكت قليلاً ثم أردف وهو يصرف بصره عن بسام الذي أبدَا استياءه بوضوح : القضية ذي تعتبر منتهية مالها حل ما تعرف مَن الجاني ومَن المجني عليه والكل كتب نهايته فيها وخلّص، الكل أخذ نصيبه الهربان بيقعد هربان واللي بيرجع بينهونه هم.
نطق بسام بنرفزة : دامها منتهيه أجل ليه للحين تحوم حولها ومقطّع عمرك تطرد ورى ذا وذاك؟
اومأ عزام رأسه بتفهم وهو يعلم أن ماسيقوله لن يروق للجالس أمامه أبدًا : ذي أقفلت بس قضية أبوي توها تنفتح. القضية اللي صار لها أكثر من سبع طعش سنة تاكل وتشرب وتنام معي.
رمش بسام أكثر من مره ببطء ونظرته تتفحص وجه عزام الذي بدا أسودًا من الغيظ، ليهتف بعد ذلك بضحكة مقتضبة : أنت منت صاحي على فكرة.
اومأ عزام مجددًا، متفهم جدًا يقول بثبات : صحيح, و زود على ذا أناني، واللي يهمني الحين من ذا كله أبوي لأن القضية اللي مالها حل ذي لو ماكان فيها اسمه كان ما التفّت لها بعد ماتقفلت. رغبتي بأني أنقذ أبوي أقوى من إني أنقذ الباقيين.
عقد بسام حاجبيه بعدم رضا : أنت ماتيأس؟ نعنبو غيرك ماتتعب؟.. إلى متى ياعزام منت بزر أنت عشان تعاند.
نبض قلب عزام بقوة آلمت أضلعه : إلى إن تشوفه عيني، ماني بمرتاح إلا لا شفت أبوي حي قدامي.
بسام بشفقة لم يحاول اخفاءها حتى : ذا الكلام لوه من بزر سفيه كان سلكوا له ولا استنكروه، لكن إنه يطلع من واحد عاقل مثلك فهذا دليل إن فيوزك ضربت.
سكت عزام لثانية نطق بعدها بابتسامة ضيقة : على كثر اللي سمعته كله بس كنت متأكد إن أبوي ما مات مفجّر نفسه،، وتأكدت من ذا الشي الحين..
خرج الذهول من بين شفتي بسام لا إرادياً : أنت تدري؟
عزام بعتب رغمًا عنه : وأنت تدري.
ليقول بسام مبررًا بتلعثم : أنا من أول قايل لك إنه توفى بتفجير، ما أخفيت عنك.
عزام بتهكم وملامح جامدة : ههه.

ساد الصمت بعد ضحكته الميتة هذه، تلهى فيها بالشرب من كأس الماء أمامه صارفًا بصره عن بسام الذي كان ينظر له بتركيزٍ سأل بعده بهدوء : شلون دريت؟
ضحك بدون نفس : لك أن تتخيل إنها كانت عيارتي وسط العيال .
بسام بعدم استيعاب : ما فهمتك ؟
نطق عزام بتوضيح : ولد الإرهابي....
ثم أردف بثبات ما إن ارتفع حاجبي بسام بمعنى "اهاااااءء" مصدومة : بسام أنت تدري كم قصة سمعت عن وفاة أبوي؟.. طريقة الموت وحدة بس اللي يختلف إن أهلي اعتبروه ضحية وغيرهم اعتبروه مجرم، كل من مات أبوه ولا أخوه ولا حتى ولد جيرانهم بالتفجير يجيني يشتم ويضرب من يدرون إني ولده. أمي كانت الوحيدة اللي قالت لي أنه طلع ولا عاد رجع.....
واستطرد سائلاً بيأس : فهمت؟
بسام بصرامة : لا مافهمت...
شد على شفتيه قبل أن يقول بهدوء وثبات: يابسام أبوي حي.
ظل بسام صامتًا لبرهه، يرمق الجالس أمامه بقلق، ينطق بحيرة : شلون حي وليه تقولها وأنت واثق كذا؟ إنك تتمنى شي بقوة مايعني أنه بيصير حقيقة ياعزام.
كرر عزام مجددًا، بذات الإصرار والثقة : أقولك أبوي حي، ومع ساطي .
عقد بسام حاجبيه بحنق : أنا ما أدري ليش قاعد أجادلك وأنت راكب راسك وماتسمع غير صوتك!..... أكثر من ثلاثين سنة لو هو حي كان طلع.
اومأ برأسه : صح، وكنت أقول مثلك لو هو موجود وينه لدرجة إني فقدت الأمل فيه بس الحين عرفت ليش، اللي مانعه نفس اللي منع تركي وغيره من أنهم يرجعون... أنا متأكد إنه حي.

الحال المائل هذا لا يعجب رجلاً مثل بسام، لذا قال بثبات رغم حدّة ما يقول : لنفترض إن كلامك صحيح وإنه ما توفى ذيك الفترة خصوصًا إن لساطي يد بالموضوع، لكن ذا ما يعني إنه للحين حي، أنت ليه ما حطيت احتمال أنه يكون تصفّى حاله حال غيره؟
انتفض بشكل واضح قائلاً بانفعال : تعوذ من ابليس ياخوي وش ذا الفال!!!
زفر بسام بضيق، يحني رأسه قليلاً يشد ذراعًا ناحية صدره بعد أن تقدم بجسده ويضع يداً على رقبته يدلكها بتوتر بعد هذا الحوار العقيم،
يسود الصمت لدقائق، تمر وعزام عاقدٌ جبينه بعد أن أسند مرفقيه على الطاولة،
يأخذ نفسًا وعيناه على نقوش الملاءة البيضاء، يقول محاولاً تخفيف نبرته المنفعلة : أنا اللي عجزت أفهمه ليه الحين بعد السنوات ذي كلها التفتوا لهم؟ وش اللي صار الحين!.... الأغلب أنهى خدمته وهرب،، يعني خايفين. وممكن تكون المهمة اللي اختاروهم لها انتهت من زمان والجوازات تسلمت وكان ممكن السالفة تموت من غير لا أحد يدري عنها، معقولة غلطة بسيطة من واحد فيهم تسببت بالخراب ذا كله؟
بسام بنبرة : أو ممكن واحد منهم تهدد وخاف تطلع السالفة لأحد وأخذ الموضوع من قاصره وتغدى فيهم قبل لا يتعشون فيه.
نظر عزام له، وعقد حاجبيه بحيرة : راكان؟
ابتسم بخبث وهو يضع ذراعه بجانب ذراعه الآخر على سطح الطاولة : ما أبي أحط بذمتي، بس ممكن.. أو ساطي..
سكت عزام قليلاً قبل أن يقول بتفكير : ساطي ما أظن لأنه مختفي وما فيه شي يخاف عليه الحين لا منصب ولا وظيفة ولا سمعه أو حتى أهل. على الأغلب راكان ولا استبعد منه شي مثل ذا خصوصًا إنه قفل القضايا وأنهى الموضوع.
بسام : وليه ما يكون نايف عوجان؟ بالذات إنه موجود هنا لا طلع ولا هرب وللحين ماخلصوا عليه.
عزام : نايف الله يرفع عنه واثقين أنه مابيتكلم. صدقني مافيه غيره الجرذ راكان.. استغل نفوذه وعرف الداخل والطالع واللي تطيح يده عليه ينتهي منه.
ثم أردف بعد أن شبك أصابعه ببعضها أمامه، قائلاً بنبرة مشاكسة : باقي ٣ و ٤ و ٧ و ٩ ، تتوقع راكان أي رقم فيهم؟
بسام بدون تفكير : أربعة.
عقد حاجبيه بابتسامة طفيفة : وش معنى؟
بسام بجدية مصطنعة : لأن سيارة أبوه مقربعة.
قهقه عزام ضاحكًا رغمًا عنه، يقول ساخرًا : صدق من قال هم يضحك وهم يبكّي.

تبسم بسام على ضحكة الجالس أمامه بعد مضي ساعات من الكآبة، يخرج هاتفه من جيبه، يجيب بابتسامة على المتصل : هلا عبادي.
تتسع الابتسامة أكثر لشيءٍ قاله الطرف الآخر، قبل أن يضحك مجددًا بهدوء.
تنتهي المكالمة، ولازال بسام ينظر له بقليلٍ من الشفقة، فعزام بدَا مُجهدًا وحزينًا بعض الشيء، بدَا مختلفًا تمامًا عن عزام صاحب النظرة الحادة الضجرة ينظر حوله وكأن لا شيء يعجبه.
يرخي نظرته بعد أن وضع هاتفه بجانب كأسه.. يقلب في طعامه ويكمل أكله بصمت.

لماذا يعذب عزام نفسه هكذا؟ يتمنى أن يدخل عقله ليعرف كيف يفكر..
يتمنى أن يسأله, لا يستطيع أن يسأله. لا يذكر متى صارت علاقته به قوية لهذا الحد، ولا متى صاروا أصدقاء في المقام الأول.. هيَ الأمور هكذا أتت، كل شيءٍ حصل فجأة.... هو مكان عمل واحد جمعهم وعدد من القضايا التي لا تنتهي وسالفة من بسام وتجاوب حذر من عزام وأحاديث أخرى متفرقة يكسرون بها رتابة القضية بين أيديهم ومنه تقوّت المعرفة ليجد بسام نفسه يركض وراءه في خرافة البحث عن والده هذه..
نطق بسام فجأة، بنبرة ساكنة : نفسي أدخل عقلك ياخي، أبي أعرف كيف تفكر.
ضحك بخفّة : ما أنصحك الطريق مليان شوك.
بسام بابتسامة : مافيه مانع نغامر دام الموضوع يستاهل ومن بغى الدح ماقال أح.
هز عزام رأسه بضحكة أخرى : هذا وأنا مكشوف قدامك وواضح.
بسام بإزدراء وعبوس : أي وضوح ذا اللي تتكلم عنه؟ الجودة تعبانة ياخوي، فيه تشويش أنتلك زبّال.
تعالت ضحكة عزام عاليًا ينطق بإصرار : والله واضح خل عنك بس.
تنحنح بسام بعد دقائق ساد فيها الصمت انشغلا فيها بأكل مابرد في طبقيهما، يطرد التساؤلات التي بدأت تقصف عقله قائلاً بجدية : عزام الموضوع كبير حتى لو منتهي ماينفع ينسكت عنه ونمسكه أنا وأنت لحالنا.
رفع عزام عينيه، ينظر له بتساؤل دون أن ينطق، فتابع بسام : خلنا نكلم أبو هيثم.
ترك ملعقته ومسح وجهه بكفيه بإرهاق، يقول بعد ذلك يشد على شفتيه : أخاف تنقلب علي وعليك خصوصاً إن ماعندنا دليل ملموس. أنا مايهم وأستاهل إن جاني شي بس أنت وش ذنبك أنا اللي سحبتك معي....
اتسعت ابتسامة بسام بشقاوة : خايف علي؟
عزام بضحكة : تخيّل.
بسام : وأنا عشان الالتفاته النبيلة ذي يابو عزّه مستعد أساعدك باللي أقدر عليه، ويلا منها نعتبرك تكفير ذنوب.
رفع عزام كأسه ليشرب المشروب الغازي المتبقي فيه برشفةٍ واحدة، يردف بعدها : بنت ساطي مابقى عليها شي وترجع، أجّل كل شي لين نشوف وش موضوع أبوها حسبي الله عليه وبعدها نتصرف.
.
.


 
 

 

عرض البوم صور وطن نورة ،،  
قديم 14-06-20, 11:54 PM   المشاركة رقم: 298
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2018
العضوية: 330628
المشاركات: 159
الجنس أنثى
معدل التقييم: وطن نورة ،، عضو على طريق الابداعوطن نورة ،، عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 176

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
وطن نورة ،، غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 


.
.
أوقف عبدالإله سيارته أمام أحد محلات الشوكولاته،
يفتح الصندوق الصغير بين المقعدين ويأخذ محفظة نقوده يضعها في جيب ثوبه، تحت استنكار شعاع الجالسة بجانبة، تسأل بعد أن أبعدت بصرها عن واجهة المحل : وش تبي من باتشي؟
فتح بابه وقال قبل أن يبتعد : شوي وبجي خليك هنا وانتبهي ترى السيارة مفتوحة.

تابعته بعينيها إلى أن دخل واختفى خلف الباب الزجاجي، تتابع تحركاته قليلاً قبل أن تميل ببصرها للجهة الأخرى تتأمل حولها وعلى ثغرها طيف ابتسامة لازالت مرسومة، لازالت تحت تأثير المكالمة القصيرة بين عبدالإله وعزام، عندما فتح مكبر الصوت بعد أن وضع الهاتف بالمساحة الفارغة بينهما والخاصة بالاكواب، يحرك المقود ضاغطًا على دواسة البنزين مبتعدًا بسيارته من أمام المنزل.
عدد قليل من "طوط...طوط.. طو..." قبل أن يأتي الصوت الهادئ : هلا عبادي.
عبدالإله بدون مقدمات : ترى باخذ شعاع وبنطلع.
عزام بدون تردد : لأ غير مسموح!
تكرمش وجه عبدالإله بإزدراء وعقد حاجبيه : مو داق استأذن منك أنا، دقيت أعطيك خبر.
عزام بابتسامة استطاع سماعها كلاهما، يهتف بنبرة : الله لا يحرمني منك جمايلك مغرقتني دايم،
عبدالإله بضحكة : طلعنا من البيت خلاص.
عزام : وين رايحين طيب عشان لا ابطيتوا أعرف وين القاها.
قرر عبدالإله مشاكسته، فحرك رأسه ونظر لها غامزًا مبتسمًا باتساع قبل أن يعود بعينيه للطريق أمامه : بتلقاها بقلبي، وقلبي تدل عنوانه.
سمعت ضحكته الرنانة التي وصلتها مفلترةً بوضوح رغم الضوضاء عنده، وشعرت بدقات قلبها التي تسارعت ما إن قال من بينها : و وَجعه.
عبدالإله مرققًا نبرته : حتى أنت بقلبي لا تغار يا زومَه.
ليقول عزام وهو يتأفف بانزعاج زائف : شكلك فاضي..
عبدالإله بتهكم : اعذرني يالمشغول.
ضحك : ياكثر ماتبربر يخوي، اخلص علي وين رايحين؟
أظهر عبدالإله عبوسه وكأن الآخر يجلس أمامه، يقول بتهكم : بيت خالد يالحقنة، ويلا انقلع.
قالها وأغلق الخط في وجهه. يلتفت لها ليرى الابتسامة واضحة في عينيها الظاهرة من فتحة نقابها، يهتف بتبرم : رجلك ذا جحَش .
ضحكت بغرق : ليه بسم الله عليه.
عبدالإله بسخط : تسمعينه كيف يكلمني وهو ياكل مدري وش يلوك بفمه التيس.
شعاع بهيام بائن وكأن لعينيها قلبين نبضا في هذه اللحظة : بالعافية على قلبه ومطرح مايسري يمري ياكل من لحمك هو!!
ثم وضعت يدها على قلبها تقول بحالمية مبالغ بها لتغيظه فقط : جعلني ما أفقد حسّه صوته بس جاب أجلي كيف عاد لو أشوفه قدامي.
رمقها بطرف عينه، قبل أن ينظر من نافذته للطريق الجانبي ويأخذ المنعطف ، قائلاً بنبرة ناقدة : يالله ياكريم جعل لولو تطيح فيني وتموت بدباديبي وتحبني مثل ماشعاع تحب عزام. والله ملك ملك ولا شهريار بزمانه.
ثم نظر لها مازحًا وقال بنبرة محبّة تنافي قوله : وش لاقيه فيه بالله عليك؟ ثقيل دم ونفسية ودايم الدوم أخلاقة براس خشمه!..
ضحكت بخفوت وهي تشعر بالحرارة تشوي وجنتيها، تنهدت، ثم قالت وهي تقوس فمها وتتكتف بتفكير : تصدق ما أدري!.... بس من ولدت وأنا أحبه هي المشاعر كذا جات من جيت على الدنيا.
كرمش عبدالإله ملامحة باشمئزاز : وع بطرّش!
تعالت ضحكتها وأردفت بصدقٍ ونبرة شغوفة : لالا أنا تعديت مرحلة الحب من زمان صار اللي فيني ممم.. وش أقولك...
ثم تابعت بتفكير وهي تفرك ابهامها بالخنصر والوسطى وكأن الكلمة السحرية ستخرج من رؤوس أصابعها : جنون؟ هوس؟.... يعني،،، شي زي كذا...
قالتها وهي تنظر له بتنهيدة عميقة، تتصنع المزاح بنبرتها رغم أنها صدقت بكل حرفٍ خرج من بين شفتيها، ونطق به صوتها.. لتنتبه له، يلوي فمه للجهة الأخرى بإزدراءٍ دون أن يعلق، مما جعل ضحكتها تخرج عاليةً مرتفعة، بنفسٍ خفيفة تشعر بروحها ترفرف عاليًا من فرط شعورها..

تبّسمت وعينها تعود لواجهة المحل، حيث عبدالإله انتهى مما كان يفعله بالداخل، يدفع الباب الزجاجي بكتفه ويخرج منه بكيس المحل عشبي اللون، متدليًا من بين أصابعه، يقترب من سيارته بابتسامة لا أجمل منها ولا أروع.

فتح بابه، وعيني شعاع لازالت عليه.. بابتسامة لازالت واضحة لم تخفى عنه، يهتف وهو يجلس خلف مقوده : تأخرت عليك؟
شعاع بمودة فقد كانت سارحه ولا تعلم كم مضى عليه بالداخل : تؤ..
ثم أردفت بفضول : ماشاءالله ياكبر الكيس وش شريت؟
وضع الكيس بحضنها وهو يغلق الباب بيده الأخرى، يقول بابتسامة : بمناسبة الخبر الحلو أمس.
اتسعت عيناها، تضحك بتأثر وهي تنظر لصينية الشوكولاته الكبيرة بداخل الكيس، تهتف وقد اختلط فيها الإحساس : بعد قلبي والله ياعبادي ليه كلفت على نفسك كذا؟... المفروض أنا اللي أجيب...
قاطعها على مضض وهو يحرك -القير- : اشش،
وارتفعت عيناه للمرآه الأمامية، ينظر للشارع خلفه، هاتفًا بصوتٍ هادئ ما إن بدأت السيارة بالتحرك للخلف : تبين تجيبين جيبي بسلامتك، بس ذي مني أنا، فرحان لعيال خواتي أقرب اثنين لي مع إني أحب الباقي ولا أحد يشك بغلاهم بس شعاع وعزام غير، دايم غير ومنتم قليلين عندي.. والله يا إن اللي حسيت به أمس يوم دخل علينا وهو مستانس و يبشرنا أنه بيصير أبو ماينوصف، من زمان ماشفت وجهه منور كذا والدنيا مو سايعته من الفرحة وأدري ذا الشي بسيط لكن من تولدين بالسلامة إن شاء الله ابشري بشي يبيض الوجه.
ثم هتف غامزًا بمرح : عاد وقتها لولو بتكون عندي يعني بتضبطني بهدية معتبرة.
ضحكت بخفوت، تتأمل ابتسامته وهو يتحدث.. تشعر ببسطته وسعادته تظلل قلبها، حاولت أن تقول شيئًا يليق بما قال ولكنها لم تجد؛ فمدّت يدها تسحب خده بقوة. ليبتعد برأسه بقوة حتى ارتطم بنافذته يهتف معبرًا عن استنكاره : خير؟
شعاع بنبرة ذائبة وصوت غير بشري : أمووت ياناس على اللي صار يمون ويقول لولو.... يازينها من فممك... تهبّل.
قهقه عبدالإله بضحكة مرتفعة ملأت السيارة وهو يتقدم بجسده ويلتصق بمقوده. يهرب من أصابعها التي كانت ستقبض خده مجددًا وقد فاجأه تعليقها ولم يتوقعه منها فهو لايذكر متى بدأ يستعمل دلع لولوة في مناداتها، بل لم يلاحظ حتى أنه بات يستعمله.
ابتسمت شعاع على ذلك، تبرق مقلتيها وهي تتأمل جانب وجهه بحب، عاجزة عن الرد، الجميع فرح لها، خالتها، أهلها بعد أن ارسلت لهم الخبر بقروب العائلة، عزام، صديقاتها المقربات، زميلاتها بالعمل... لكن فرحة عبدالإله وبالرغم من بساطة ما فعل إلا أنها كانت الأرّق من بينهم كلهم.. لينتهي بها المطاف قائلة بنبرة دافئة مليئة بالمشاعر : ياحبي لك يا عبادي، مشكور مشكوور الله يسعدك ويكتب لك الراحة والرضا طول ما أنت حي..
عبدالإله بابتسامة بعد أن هدأت ضحكته وعيناه على الطريق أمامه : بتشكريني زين لاسميتّي علي ولا الحكي ذا مأخوذ خيره، ماني قايل الولد الأول لأنه ذا متسمّي وخالص، وبسامحك بالثاني ماعليه، بس الثالث الزامي, أقل شي تضمنون واحد من عيالكم يالسلَق ياخذ من طبايعي الزينة.
ضحكت : ولو إني ما أشوف أي زينة بالموضوع بس أبشر ولايهمك بندرس الفكرة من الحين أنا وأبوه.
عبدالإله بتهكم مازح : الله أكبر طار ولا وقّع تراه ولد عزام هاه.
شعاع بعذوبة : ولد عزام بن ذيب، وين بتلاقي أفخم من كذا ياخي؟
قهقه مجددًا : لا أنتِ مستوية وخالصة هنيّالك ياعزام أمك دعت لك من قلب.

فتح المسجل بعد ذلك على صوت ضحكتها المحرجة وهي تشيح ببصرها من نافذتها للخارج، يدندن مع مايصدح من سماعات سيارته بخفوتٍ وروقان،
وما إن انتبهت شعاع حتى وسألت وهي تنظر له و تشير بإبهامها للخلف : بيت أهلي ورى وش فيك عديته؟
ارتفع طرف فمه بابتسامة هادئة : أدري بس أبي أطوّل الطريق.

هزت رأسها بتفهم ولم تسأل، تعاود النظر للخارج، مستمتعة بهمهمة عبدالإله واللحن الذي تصنعه أصابعه على المقود.
دقيقة.. اثنتين.. ثلاث.. هتف بعدها بنبرة اعتيادية وهو يخفض الصوت : بسألك.
استدارت بجسدها ناحيته فقد شعرت منذ البداية أن هناك ما يشغل عقله، تقرب الكيس الذي لازال بحضنها من صدرها : يابعد روحي أنت اسأل قد اللي تبي. بعد حركتك ذي لو تبي تستجوبني ليل نهار ماعندي أي مانع.
ضحك، وضاقت الضحكة وخفتت حتى تلاشت. يهتف بعدها بجدية ما إن استوى فمه بخط مستقيم : وش سبب طلاق لولو من التعبان اللي مدري وش اسمه...
لم تستوعب سؤاله في البداية : .....ناصر .
رفع حاجبه قائلاً بعدم مبالاة : اسمه ناصر؟
صمتت قليلاً ولا تعرف لماذا ارتفع طرف فمها بابتسامة وهي ترى عبوسه، لتبدد الصمت وتهتف بهدوء : ماقالت لأحد السبب. و إيه اسمه ناصر.
عبدالإله بعبوسٍ زاد : وش يعني ماقالت لأحد؟ أنتِ صديقتها مستحيل ماقالت لك أو فضفضت لك بيوم...
شعاع : والله العظيم ماقالت لأحد حتى أمها.. وأنا أصلاً ما سألت مالي حق وبقولك شي عن لولو يمكن ماتعرفه، أنت شفتها تهقى ذاك الوجه تطلع منه الشينة؟
ابتسم تلقائيًا رغم جدية ملامحه : نظرتي الأولى تقول لأ.
شعاع : وطبايعها وأخلاقها أنا أعرفها أكثر من نفسي، لولوة ما تطلع منها العيبَة أبد وتحسب حساب أي تصرف قبل لا تسويه. وعلى كثر الأسئلة والبربرة اللي طالتها بعد طلاقها إلا إنها ماضعفت وقالت هو الغلطان وطلعت عيوبه أو ذكرت حتى سبب الطلاق عشان تبرئ ساحتها، بالعكس والله كانت تقول الله يستر عليه بس ماتم بيننا النصيب.
تأفف بغيظ : الله العالم إنه كان مريض نفسي الحمدلله ربي فكها منه الحمار المتخلف.
ضحكت بحدّة رغمًا عنها وهي ترى حاله الذي انقلب مئة وثمانون درجة.. فصفع ذراعها بخفه بظهر يده قائلاً بحنق : وجع إن شاءالله وش اللي يضحك قايل نكته أنا؟
فركت شعاع ذراعها باستنكار ولازالت الضحكة واضحة بصوتها : غيران أنت؟!!!
عبدالإله بإندفاع و هو يمسك المقود بكلتا يديه : أجل وش رايك؟ من أتذكر إنها كانت معه.....
ثم نظر لها : ..... كم؟
شعاع بابتسامة : ثلاث شهور تقريبًا ههه..
عبدالإله بذات الاندفاع والغيظ الواضح بصوته، عاد ينظر للطريق السريع أمامه ويتعدى السيارات وكأن ناصر ينتظره في نهاية الطريق : من أذكر إنها كانت معه يشوفها وقريب منها لثلاث شهور يفور الدم بعروقي.. مقهور كيف تركتها له.
تلاشت ابتسامتها فورًا وعقدت حاجبيها باستنكار : وش ذا الكلام صاحي أنت؟... شكل الغيرة اعمتك, ذاك الوقت هي أخذت نصيبها وأنت أخذت نصيبك، عبادي لا تصدمني وتفكر بالطريقة ذي ترى بتتعب،
أطبق أسنانه على شفته بقوة، مغتاظًا جدًا من هذا الموضوع، ولا يفكر فيه إلا ويفور دمه خصوصًا بعد أن قضى الأسبوعين الفائتين بالأحاديث معها : ما أقدر غصب عني.. الكلب لا تشوفه عيني أحسن له لأني ساعتها مدري وش بسوي فيه.
شعاع بتهكم : الله يعينك على خبالك أجل، بس المهم أنت لا تثقل عليها المسكينة ماهو سهل الحرمة تطّلق كيف لا كانت بعد ثلاث شهور من عرسها.
عبدالإله بتردد : تهقين كانت تحبه؟
اتسعت عينيها بذهول، تهتف بانفعال : خييير عبدالإله ماخبرت تفكيرك مريض كذا!
عبدالإله وعى على نفسه فقال مبررًا بحرج : سؤال بس سؤال وش فيك اكلتيني بقشوري بسم الله!
شعاع : سامع وش تقول أنت؟ كانت تحبه ولا ماتحبه حياتها معه ماتعنيك ومرحلة وانتهت واللي كان بينهم مهما كان حب ولا كره ماعاده موجود.
ثم أردفت بتحذير : انتبه تجيب السيرة ذي قدامها تراها كاسرتها والله حتى لو بينت العكس وماهي ناقصة صغر عقل وتفكير غبي..
عبدالإله بضيق : مابعد انهبل عشان أفتح معها موضوع مثل ذا، مو من زينه أصلاً .....
ثم تابع بتحلطم : أعوذ بالله منك دلّاله على طول ذرعتي لسانك بوجهي.
يتمتم بعد ذلك بغيظ وهو يفتح النوافذ كلها : الله لايوفقه حتى طاريه يغث ويجيب طاقة سلبية تونا كنا مستانسين .

ساد الصمت لثواني، أخذ فيها عبدالإله الطريق المؤدي لبيت أخته.
ولاحظت شعاع تقفيلة مزاجه بعد أن كان في العلالي، كما أنها لاحظت انفعالها الغير مبرر فهي أكثر العارفين بعبدالإله وتفكيره العقلاني لكن ربما غيرة الرجل فيه جرفته هذه المرة،
هتفت بمودة تحاول تلطيف الجو : والله صدمتني عبادي طلعت غيرتك عميا ههه..
رفع حاجبه بتهكم : والله المصدوم الوحيد هنا هو أنا.. وش ذا الصوت فجّرتي طبلتي ولا عشان الموضوع مافيه طاري عزام طلعتي الرجّال اللي بداخلك؟.
ضحكت بحرج، ليردف بهدوء : تراني مو من النوعية اللي في بالك. هي مطلقة وأنا مطلق وحنا الإثنين قد جربنا كيف تحاول لآخر دقيقة تنقذ حياتك المتهالكة إلى أن تيأس ولا تلقى قدامك حل إلا الانفصال. صحيح منقهر إنها كانت لغيري وإني أنا مو أول رجّال بحياتها بس هي بعد ماهي بأول مرَه بحياتي,
سكت قليلاً ثم تابع : وتبين الصدق والله إني كذاب أنا منيب مثالي للدرجة ذي وبعقليه متفتحه لأني لو شفت اللي مايتسمى قدامي بقتله بيديني بس الواحد يحاول يلقى ترقيعه عشان تمشي حياته.
تنهدت ولم تعلق على آخر كلامه بل قالت عوضًا عن ذلك : شكل ذي نفسية الحمل اللي فيني وطلعت فيك.
رمقها بطرف عينه : لا تكلميني عن نفسية الحمل إلا لا صار عزام ينام بالصالة وطبعة أصابعك الخمسة على خده، توك ماشفتي شي.
شعاع بنبرة ساخرة متعمدة : مجرب ماشاءالله واضح سحبتها نومة على كنب الصالة طول التسع شهور لين ورمت جنوبك.
عبدالإله : وأحيانًا من غير غطا بعد ههه.
كان لازال ضائقًا، لذا قالت بصدق : الحمدلله ربي عوضها خير الحين ومتأكدة إنها معك بتنسى ناصر واللي خلفوا ناصر.
انفكت العقدة البسيطة بين حاجبيه، وقال أخيراً بابتسامة بالكاد تُرى : اللي مريحني من ذا كله إن ميمي تحبها ومتلهفه عليها، كنت شايل هم ماني ناقص مشاكل بين بنتي وحرمتي.
شعاع بحب : وميمي من تكره بالله عليك ؟
ضحك : ايه والله, حبيبة طالعة على أبوها .
صمتت شعاع وهي تنظر له، تلاحظ ابتسامته التي بقت على وجهه وهو يشعر بعينيها عليه . قبل أن تقول برقة : لولوة تهبل وكل شي بس صدقني والله إنها هي المحظوظة فيك.. يابختها لأنها صارت من نصيبك..
مد عبدالإله قبضته بشكلٍ مفاجئ ليلكم عضدها بخفه،
ضحكت متفاجئة : سلامات؟
كرر فعلته، ولكمها مجددًا بشكلٍ أقوى ومتواصل هذه المره قائلاً بابتسامة واسعة ونبرة حاول التحكم بها : احرجتيني ..

.

: الله كلكم جايين تستقبلوني!!!
قالها عبدالإله بمرحٍ وصوتٍ مرتفع ما إن دخل بيت أخته، واقفًا عند الباب وكلاًّ من الجادل وذيب قادمان ناحيته بإندفاع بعد أن سمعا صوت الجرس. لكن تعليق الجادل العفوي أكثر من اللازم صدمه لدرجة أنه دفع ذيب الذي كان يسلّم عليه بعيدًا عنه،
الجادل : أنت وش جابك؟
رمش عبدالإله بعدم استيعاب : سمّي؟
يأتيه صوت ذيب المرتفع بحماس و هو يسلم على شعاع : هلا بخيتّي الغالية أم السمّي الغالي.
في نفس الوقت الذي تعلقت فيه الجادل برقبته تلصق خدها بخده سلامًا عليه وتقول بضحكة خرمت طبلته : أقصد غريبة جاي وبكرة عرسك؟
عبدالإله من بين أسنانه و هو يقرص عضدها بقوة : وليه ما أجي يعني؟ عروس وأخاف ما تطلع لي طلعه؟
ابتعدت من أمامه وهي تفرك مكان قرصته بألم : خلاص ياخوي نورت الحتة العين أوسع لك من المكان.
تتبدل ملامحها المعبسّة لابتسامة واسعة ما إن وقفت أمام شعاع، تسلم عليها بقوة قبل أن تضع كفها على بطنها بنبرة طفولية مستفزة : حبيب خالته اللي يروح مع أمه كل مكان والله, متى بيجي مافيني صبر أبي آكل أذنه.
شعاع بضحكة هادئة وهي تخلع طرحتها : هدّي توني بداية الثاني.
ارتفع حاجبي عبدالإله مرددًا بدون استيعاب : تاكلين أذنه!!...
يسود بعد جملته الصمت لثانية أو اثنتين، تم فيها تبادل بعض النظرات الغريبة بين الموجودين قبل أن يتنهد عبدالإله قائلاً بنبرة يأس خالصة : فيه أحد داخل ولا أدخل لأختي؟
ضحك ذيب وهو يرى الامتعاض الواضح على وجه خاله : حياك مابه غير أمي.

دخلا كلاهما، وخطَت شعاع ناحية دولاب العباءات المثبت على الجدار لتعلق عباءتها، على صوت الجادل التي ألقت نظرة فضول داخل الكيس على الأرض : حركّااات..
شعاع بابتسامة وهي تخلع عباءتها دون أن تنظر لها : من عبادي.
ضحكت الجادل بمودة : حبيبي الله يسعده بس وش صاير بالدنيا ماعرفته و هو ذوق!
علقت شعاع عباءتها، وطرحتها، وأخرجت هاتفها من حقيبتها ودسته في جيب بنطالها قبل أن تترك الحقيبة مكانها، تهتف ضاحكة وهي تغلق باب الدولاب : بركاتك يا لولو.
وما إن استدارت بجسدها إلا ووجدت الجادل في وجهها شبه ملتصقة بها تمنعها من التقدم ، تراقص حاجبيها بنبرة مشاكسة : وش سوّى عزام يوم قلتي له؟
عادت برأسها للخلف وعقدت حاجبيها بخفه : ماسوّى شي.
تخصرت، ورفعت حاجبها بعدم تصديق : عيني بعينك أشوف...
رمقتها شعاع وهي تقرب رأسها منها بعينين متسعة على أكبر مقاس تهتف ضاحكة : هااه..
سكتت الجادل لثانية قبل أن تغمز وتقول بنبرة تعمدت أن تمد في حروفها : يعني مم... ماشالك مثلاً وقام يدور فيك بالغرفة لين دختي أنتِ وياه وطحتوا على السرير؟
ضحكت من أعماق قلبها : لا طبعًا مسلسل هو؟ إن شالني طحت أنا وياه وتكّسرنا.
الجادل بذات النبرة وهي تنغز خصرها بأصابعها : ولا طيّح دمعة أو دمعتين متأثر ومسحها بدون لا تنتبهين؟
ضحكت باستنكار وهي تدفع يدها : لأ!
استوت ملامح الجادل بعدم تصديق : وش يعني؟ قلتي له أنا حامل وقال هييه مبروك أخيرًا بصير أب ونام وانتهى الموضوع؟...... ولّاااا....
قالتها تضوق عينيها بخبث، لتتكتف شعاع بتراخٍ وابتسامة : ولا وش؟
الجادل ببراءة لا تليق : ليكون ما يدري للحين!
اتسعت ابتسامتها، تعتدل بوقفتها وتضرب بسبابتها منتصف جبين أختها بقوة : لا أبشرك يدري.... أبي أعرف أنا منين تجيبين هالأفكار الدايخة اللي بعقلك!
عقدت الجادل حاجبيها باستياء، تفرك جبينها وتقول بتبرم : خلاص عرفت وش سوى.
طارت عيني شعاع ما إن رأت حاجبها الذي ارتفع عاليًا مع ابتسامة خبيثة تعتلي وجهها توضّح مقصدها : هييه لا تشطحين واجد.. يوم درى طلع من الغرفة يصرخ وينادي خالتي.
ضحكت بصدمة : وش ردة الفعل البريئة والكيوت ذي؟ ما أصدق....
تبسمت بمودة ما إن مر وجهه في خيالها : قلعتك لا تصدقين.
ثم أردفت وعينيها على ملامح أختها المكذِّبه لما سمعت : المهم عجلي علينا أبي أعمار عيالنا قريبة من بعض، وانتبهي تسوين غلطتي أول ست شهور قعدت أبلع بالحبوب زي الغبية والله ماحملت إلا ودمي ناشف خفت إني جبت لنفسي بلا.

انصفق وجه الجادل بضيقٍ واضح ينافي المرح الذي كان يغطيه، تقول بخفوت : إن شاءالله. الله كريم!
مسكتها من ذراعها عندما كادت تستدير، تسأل بشك : خير؟
الجادل بضيق : وشو؟
تأملتها شعاع قليلاً قبل أن تقول بتوجس : بنت،، ليكون تاخذين مانع؟
ابتلعت ريقها دون أن تنظر لها : لا ما آخذ.
شعاع بقلق : أجل وش فيك تغيّر لونك؟....
ثم نطقت تشهق بعينين متسعة : ليكون يالحمارة حامل ومخفيّه؟
زمت الجادل شفتيها بضيق : لا ماني حامل، وخلاص خلينا ندخل اسمعي أمي قاعدة تنادي.
شدت شعاع على ذراعها بقوة عندما حاولت أن تتحرر منها وتبتعد، تسأل بصرامة : جدّول وش السالفة؟
الجادل بتردد دون أن تنظر لها : السالفة إن موضوع حملي مطول شويّات.
انتفض قلبها بقلق : ليه؟
نظرت لها ثم أخفضت بصرها قائلةً بخفوت : والله ما أدري وش أقولك بس حاكم زعلان مني.
رمشت شعاع أكثر من مره، ثم سألت بعقدة حاجبين خفيفة : كيف زعلان مافهمت؟
الجادل وهي تزفر بحرارة : زعلان يعني،، زعلان... وش اللي مافهمتيه؟
أشتدت عقدة حاجبيها بتفكير وهي تتأمل وجهها الذي بدَا أحمرًا محتقنًا وكأنها ستنفجر، ثم ارتخى الحاجبين قبل أن يرتفعا بدهشة ما إن فهمت، فتحت فمها، وبقى مفتوحًا لثانية لا تعرف ماذا تقول.. حتى سألت بحيرة : ياويلي عنك يختي، ومَن الغلطان؟
مدت الجادل بوزها أشباراً، تخفض نظرتها لأصابعها التي بدأت تلعب بطرف قميص الواقفة أمامها، تقول بزعل : أختك القردة.
شعاع بتوهان وهي تلاحظ ارتعاش ملامحها : أنتِ؟... طيب اعتذري منه.
الجادل بصوت محتقن : ليت الموضوع بالبساطة ذي, اعتذرت لين نشف ريقي.
ابتلعت شعاع ريقها بتوتر، تأخذ ثانيتين صمت قبل أن تسأل بهمس :.... وش مهببة؟
رفعت عينيها المحمّرة، بمقلتين تتلامعان بهمٍّ بائن، تأخذ معها نفسًا عميقًا وتقول بنبرة مكتومة : والله العظيم نفسي أتكلم نفسي أفضفض ياشعاع الموضوع خانقني وكاتم على صدري بس بتركبيني الغلط أنتِ بعد وأنا ماني ناقصة عتب ولوم.
شعاع بقلق : تكلمي طيب خوفتيني.
زفرت الجادل بأسى : هي مشكلة صارت بيني وبينه قبل العرس باسبوعين بس مايبي أحد يعرف عنها شي .
شعاع بصرامة : بس أنا أختك مو أي أحد.. انطقي أشوف!
ثم تابعت بخوف وهي تلاحظ هبوط صدر الجادل وارتفاعه نتيجةً لأنفاسها السريعة : أنتِ كذا أقلقتيني زيادة . تكلمي وش صاير؟
غطت عيناها بكفها ما إن شعرت بحرقةٍ تشتعل على سطحها، تهدّئ من نفسها قليلاً ومن أنفاسها الثائرة قبل أن تقول وهي تبعده وتلمح الوجل بعيني شعاع : السالفة صارت وانتهت.. لا تشغلين بالك حاكم ماهو مقصر معي والوضع الحمدلله كل ماله ويصير أفضل بيني وبينه.
لكن شعاع لم تقتنع، أبعدت بصرها بقلق تتمتم بتفكير : قبل العرس باسبوعين!!... والله إني قلته وضعك ماكان طبيعي ماكان اللي فيك خوف وقلق عادي..
ثم عادت تنظر لها، تسأل بخوف : حاكم أعرفه زين عاقل ومستحيل يكبّر غلطتك إن كانت تافهه، وش سويتي عشان يعافك الرجّال؟
تهدجت أنفاسها بعد كلمتها هذه وشعرت بألمٍ يقتلع روحها من محلها... كلمة لاذعة جدًا. مُرّه. حقيقة مؤلمة كالموت...
ليتها اكتفت ب"إن شاء الله" وسكتت عن الباقي، ربما تسرعت عندما فتحت فمها وأعطت شعاع نبذة عن الوضع بينها وبين حاكم فمهما كان هناك أمور خاصة لا يجب لأحدٍ أن يعرفها حتى أقرب المقربين لها، خصوصًا أنها تعرف شعاع جيدًا وتعرف أنها ستحمِل همها وتقتل نفسها بالتفكير والقلق وكأن الموضوع يعنيها شخصيًا،
شيء كهذا بينها وبينه من المفترض ألا يطّلع عليه أحد لكنها كانت بحاجة للتنفيس عما فيها ولولا خوفها من توبيخ شعاع الذي هي متأكدة بأنه سيطولها لو عرفت بالموضوع لكانت أفضَت بكل مايكبس على قلبها،
تنهدت الجادل وهي تشعر بقلق أختها المتزايد مع كل ثانية تمر فهذا الطبع فيها منذ أن عرفتها، تقلق من أجل الجميع تهمها راحة الجميع وتحمل هم الجميع وكأنها مسؤولة عن سعادة هذا وراحة ذاك : شعاع لا تخليني أندم إني تكلمت.
شعاع بعبوس : هو أنتِ قلتي شي عشان تندمين عليه؟.... -أخذت نفسًا ثم أطلقته وهي تشعر بضيق الجادل الواضح- براحتك ما أبي أضغط عليك بس متى ماحسيتي نفسك تبين تتكلمين أنا موجودة، وبقعد أفكر فيك وقلقانة عليك من الحين إلى ذيك اللحظة..
تبسمت في وجهها ابتسامة واسعة لم تصل لعينيها : ياقلبي على أختي اللي بتصير أم والله لايق عليك الدور مرّة.
رمقتها شعاع بنظرة وآثرت السكوت حتى أنها لم تتمكن من تحريك عضلات وجهها بابتسامة صغيرة مجاملة.

الجادل وهي ترفع الكيس من الأرض بزفرة : أتمنى تنسين اللي قلته ولا تفكرين فيه كثير ما أبي ولدك يطلع و هو كاره سيرتي ههه..
تنهدت شعاع وهي تنظر لها بحنو : تدرين إني مستحيل أقدر.
الجادل بأمل متجلي وهي تمشي بجانبها للداخل، تشبك ذراعها الثانية بذراع أختها : لا تخافين علي وتشيلين همي أختك ذيبة والمسألة مسألة وقت وفترة وبتعدي إن شاءالله، وعلى إن الموضوع أثر علينا شوي بس ماعمر حاكم ضايقني بكلمة أو بين لي شي غير إنه يبيني ويبي الحياة معي وأختك عاد تعرفينها مايحتاج, نشبه من غير شي ههه خانقته خنق ورب المصحف وتكلمنا أنا وياه قبل فترة وعلى إن الغلط مني إلا إني ماهنت عليه وطيّب خاطري وراضاني الله يرضى عليه دنيا وآخرة، فديييته جنتل موت مو محسسني بشي والوضع بيني وبينه زي اللوز .
قالتها تغمز بنبرة متعمدة بدت مبتذلة نوعًا ما جعلت شعاع تبتسم بدون نفس وتهتف بصدق : الله يسخره لك.. تذكري إني معك دايماً وأمانة يالجادل بذمتك متى ماحسيتي نفسك تبين تتكلمين دقي علي على طول.
سكتت قليلا، قبل أن تقول بابتسامة : أبشري على خشمي.

مشاعل : هلا هلا هلا ببنيتي هلا بالحامل والمحمول.
ضحكت شعاع بمودة على ترحيب والدتها الذي وصلهن ما إن دخلن الصالة، تشد عليها بعناق حنون ودافئ جعل قلبها يذوب بين ضلوعها : يابعد قلبي اللي كبرت وبتكبرني معها، مبروك يا حبيِّبتي الله يتمم لكم على خير ويرزقكم الذرية الصالحة.
عبدالإله وعيناه على الجادل التي كانت تتأمل المشهد بابتسامة واسعة وكأنها أم تنظر بفخر لبناتها : كل ذا عند الباب؟
وضعت الكيس الثقيل على الطاولة بمنتصف الصالة، تهتف بنبرة مشاكسة وهي ترمق خالها الجالس على الأريكة : كنا قاعدين نتناقش قلقانين مو عارفين وش صاير لك.
عبدالإله بمرح : الله يقدرني على فعل الخير.
أخرجت الصينية تقلبها بين يديها : يَه يَه يَه وش الحركات الذوق ذي ولاّ عشانك بتصير جد يعني؟
لوى فمه بتهكم ساخر وهو يشير بيده ناحية شعاع التي جلست : خلي أمه وأبوه يعترفون بي خال أول...
شعاع بمودة وهدوء : والله إنك أحسن خال عندي من غير لا أقول.
ليعلق عبدالإله بنبرة هازئة : الحمدلله اللي اخترتيني من بين أخواني... لحد يدري أخاف يغارون باقي خوالك..

مضى الوقت والأحاديث والضحكات هي مايسمع في المكان، تدور الجادل بالقهوة حينًا ثم بالشوكولاته حينًا آخر، تمد فنجانًا لشعاع التي عادت للتو من غرفة جدتها تسأل بقلق وهي تأخذه منها : يمه وش فيها جدتي؟
مشاعل بقلق مشابه حاولت عدم إظهاره : من أصبحت وضغطها مرتفع بس الحين اشوى كنه بدا يزين..
الجادل وهي تقف أمام والدتها تسكب لها فنجانًا : ترى ماهي أول مره دايم يرتفع تلاقينها مخبصة بالأكل وهي عنيدة بحق نفسها الله يصلحها تحب الملح.
شعاع بتنهيدة : مرتفع واجد، إن بقى كذا قولوا لأبوي يوديها المستشفى هي مرَة كبيرة مابتتحمل...
خرجت مشاعل من قلقها على صوت الجادل التي لازالت تقف أمامها بفنجانها بين أصابعها، تقول بعجل : يمه امسكي بسرعة تشلوطت أصابعي....
أخذته منها وهي تتمتم وترمقها بتهكم : بنات مافيهن صبر .
ثم ارتشفت القليل منه، تسأل بابتسامة تمحو القلق : أي شهر ياشعاع؟
أتت الإجابة من الجادل التي وضعت الدلة على الطاولة بعد أن سكبت لها فنجانًا هي الأخرى : توها بالثاني يمه مطولين على مايشرفنا الحفيد المنتظر.
مشاعل بحنو : الله يتمم لها على خير ليه العجلة؟ يجي وقت مايجي طويل العمر.
ثم أردفت بلهفة : عقبالك أنتِ ومرَة فهد ولولو إن شاءالله.
شرق عبدالإله الذي كان متلهيًا باندماج بفتح مغلف قطعة الكاكاو بين يديه، وبدأ يكح بعمق رغم أن لا شيء في فمه،
مشاعل بفزّه : بسم الله عليك جادل جيبي ماء.
لكن الجادل اقتربت منه، وبدأت تضرب ظهره بقوة لدرجة أن القهوة في فنجانها تراقصت داخله حتى انسكب القليل منها على ثوبه، تقول ضاحكة : لا تخاف حبيبي هي أمي كذا إذا مالها خلق تدعي سدحت لك كل اللي تعرفهم بدعوة وحدة.
ثم التفتت برأسها تنظر لها وهي تهز كفها في الهواء برؤوس أصابع مضمومة : شوية إخلاص يمه أقل شي خصِّي بنتك بدعوة لحالها.
ذيب بضحكة : يمه روعتيه بدعوتك توه ما اختلى بحرمته حتى.
مشاعل وهي ترى إحمرار وجه عبدالإله نتيجة شرقته : اترك عنك البربرة والحقه بماء اختنق الولد.
أشار عبدالإله بكفه، ودفع اليد عن ظهره والتي كادت تكسره، يرمق الجادل المبتسمة فوق رأسه باتساع، قائلاً بصوتٍ مجروح وعين يتلامع سطحها بطبقة دموع خفيفة : والله بموت وعيالك يتفرجون ما أحد بيتحرك.
مشاعل وهي تقف : بسم الله عليك مافيهم خير خليك أنا بجيب لك.
قالتها وخرجت من المكان دون أن تدع مجالاً لأحد بالرد أو أن يكفيها عناء الذهاب وإحضار ماء من المطبخ -ليس وكأن هناك أحد كان ينوي ذلك من الأساس-
وضع عبدالإله يده على حلقه و هو يرى الابتسامات الواسعة في وجهه : قبّح الله ذا الوجيه على الأقل واحد يفز يكفي أمه.
ذيب : شرقان من الهوا وش الشرقة الخايسة ذي!!
قالها وتعالت ضحكته بعدها بسبب النظرة الناقمة التي سددها عبدالإله باتجاهه والذي قال هازئًا وهو ينظر لساعة معصمه : ماشاءالله اليوم وش من أيام السنة؟ ذيب اللبيب متنازل وقاعد معنا!!.
تريّح ذيب في جلسته يضع قدمًا على الأخرى وابتسم ضاحكًا يرتشف من فنجانه، يقول بنبرة وكأن الوقت كله ملك يديه : ايييه يارب لك الحمد رايق اليوم أنا.

تنحنح عبدالإله مجددًا وهو يشعر كأن موسًا جرح حلقه، ينظر للتي لازالت تقف عند رأسه : أقول حاكم ما أرسل معك أغراض لي؟
وضعت الجادل فنجانها على الطاولة : إلا دقيقة زين ذكرتني بغيت انسى...
ابتعدت من المكان على عودة والدتها التي جلست بجانب شقيقها، تمد له قارورة الماء بعد أن فتحتها له : سم بسم الله عليك .
تنهدت شعاع التي كانت تفكر بقلق بحال جدتها فضغطها غير طبيعي وهي امرأة كبيرة بالعمر جدًا أي عارض صحي من الممكن أن يهدد حياتها، وكأن موضوع الجادل الذي اشغلتها به لايكفي، تهتف بابتسامة تحاول عدم الإفراط بالتفكير فهي من طبعها وسواسية وإن تعب أحد أفراد عائلتها ولو كان تعبًا بسيطًا تقيم الدنيا ولا تقعدها من القلق : يمه مافيه شي قاعد يتدلع عليك.
مشاعل : حبيبي أخوي روحه بغت تطلع وأنتِ تقولين يتدلع....
ذيب بنبرة : جبتي طاري الحب يمه واختبص.. وين معه تطلع إلا قولي ردت له.
قالها وتنهد بعمق، فعقدت مشاعل حاجبيها باستنكار، وضحكت شعاع، وكاد عبدالإله يشرق مجددًا من نبرة الهيام في صوته.
عبدالإله بضحكة مصدومة : اقععد يالفاغر منت هين والله..
مشاعل انتبهي عليه تراه مهوب خالي مابعد التنهيدة ذي شي.
ذيب بتكشيره : فكنا من ش..
عقدت مشاعل حاجبيها وهي تقاطعه وتنظر لشقيقها : وش قصدك؟
عبدالإله بحرَش وابتسامته تتسع حتى غطت نصف وجهه : شوفي وش تحت راسه تراه يعتبر طايش لا يغرك تفهّيه.
قالها وشرب الباقي من الماء بعلبته، لتسأل مشاعل بشك : وش تقصد يعني يكلم بنات؟
ذيب بسرعة : وأنا عندي وقت أطالع بوجهي يمه عشان أكلم بنات؟
ضحك عبدالإله : أنتِ ما سألتي نفسك كيف طالب طب عنده أوف يوم الاحد؟ من وين طلعه ذا؟..
ذيب بتبرير : ماخذ صيفي وضاغط على نفسي لين طلعت روحي, بعدين وش دخل ذا بذا تبي تسولف أنت!!
عقدت مشاعل حاجبيها أكثر حتى كادت المسافة بينهما تختفي تقريبًا، ونظرت لابنها قبل أن تعاود النظر لعبدالإله وابتسامته الواثقة تقول بنبرة تقريريه وكأنها تفسر كل شيء : هو يبي يعرس....
عبدالإله : زوجيه أجل، تشوفينه بزر بس تفكيره تفكير اربعيني.
ابتسم ذيب، وتريّح بجلوسه أكثر حتى بدا وكأنه سيندمج بالأريكة : ايه كذا أنت تعجبني... زوجيني يمه.
مشاعل ولازالت في تفكيرها العميق : أزوجك مَن مافيه غير ميمي...
تلاشت ابتسامة عبدالإله فوراً ونظر لها بسرعة بعد أن كانت عيناه على ذيب : أقول طلعوا بنتي من المخطط الفاسد ذا،
مشاعل : حتى بنات حاتم صغار.
ذيب بسرعة وقد اتضح على نبرته الهلع : ميمي وبنات حاتم!! يمه كل ذولي قواصر تكفين أنا منيب منحرف.....
مشاعل بجدية : ها أجل!! ليت سعد ولد عمتي صيتة بنت كان خطبتها لك.
انفجر عبدالإله بضحكة مرتعبة : هيييه وش ذا؟ شفيه الحوار بدأ يصير غريب فجأة....
اتضح عدم الرضا على وجه ذيب ليقول بنقم : يمه ترى فيه بنات غير بنات أهلك ماخلصوا، وبعدين سعد أكبر مني بثلاث سنوات!
عبدالإله بقهقهه مرتفعة : يعني اعتراضك إنه أكبر منك بس!
ذيب ممازحًا : لا طبعًا وشغلات ثانية ماتعنيك. والله لو مايبقى من الحريم غيره ما أخذته شخصيته زبالة الله يعينه على نفسه .
عبدالإله بنبرة ساخرة : ياساتر يالكره تراه أخو المدام اِنضبط لا تزعلني منك.
ذيب بعبوس : مع نفسك.
تجاهلته مشاعل، والتفتت لابنتها : شعاع وش فيك ساكته؟. ماتعرفين أحد؟
نطقت شعاع باستنكار : ساكته بشوف وش آخر المصخرة ذي، الحين أنتم من جدكم؟
عبدالإله بامتعاض وهو يشير بيده : تشوفين أنتِ الحمدلله والشكر، يبوي عيش حياتك وفلها توك على المسؤولية أنت تدري أنا متى أعرست؟.. ترى مابه وناسة بالعرس إلا شقى ودندرة وغثى حريم.
ذيب بتهكم : يتكلم وهو عرسه على الثانية بكرة!!..
تطايرت عيناه، ورمى ماكان بيده ناحيته بامتعاض : أنا ما أبي أجرحك يالسَبك بس تراك ورع محد بيرضى يعطيك بنته أنت وشنبك المقلّم ذا.
وضع ذيب يده على شاربه بسرعة، يغطيه وهو يشعر بالإهانة، إذ أنه كان بشارب خفيف مرتب وناعم أعلى فمه يتناسب مع ملامح وجهه الهادئة, ولم يعلق، إلى أن انتبه لنظرات أمه المتفحصة وكأنها ستخترق عقله لتعرف كم فتاة يكلم ومع كم واحدة يتراسل ، فقال متنهدًا : أنا المفروض من غير خالتي صيتة ما أقعد معكم، عايلة منتهية!
كسرت مشاعل النظرة المرعبة أخيرًا، تنظر للجالس بجانبها بتساؤل : إلا صدق صيتة ليه ماجات؟
عبدالإله بابتسامة من مجرد الطاري : ميمي نايمة وقعدت عندها غير إنها كانت حاطه شي على شعرها لا إله إلا الله مدري وشو ريحته تجيب المرض والسلال.
ضحكت بمودة : فديتها من يومها تحب الزين.

اختفت الجادل مايقارب الثلاث دقائق ثم عادت ومعها كيس أحد المحلات، مدته له وأخذه منها قائلاً : وينه هو بالبيت؟
جلست مكانها ورفعت فنجانها ترتشف منه : ايه رجع من دوامه ونام على طول يقول مصدع.
أخرج كرتون الأحذية الذي بداخله : وتاركته وجايه؟ ماعاد به نسوان لو هي شعاع كان قعدت عند راس عزام لين خنقت الصداع من كثر ماتدلك جبهته.
مشاعل بضحكة : اعتق شعاع وعزام من لسانك أعوذ بالله منك.
ضحك عبدالإله بخفه، وانحنى يرتدي الحذاء الرياضي الأسود بعد أن أخرجه من كرتونه. لتقول شعاع بامتعاض رغم الابتسامة التي حاولت اخفاءها بعبوسها : كلمي أخوك يمه تراه غاثني واشغلني والله من كثر ما يعلق بديت أشك إني أسوي شي غلط.
عبدالإله وهو يشد خيوط حذائه : لا حبي أنتِ الصح ولا أختك الهامله ذي فشلتنا.
وقف يرفع طرف ثوبه ويركض وهو واقف في مكانه دون أن يتحرك، بابتسامة واسعة جعلت من في الصالة ينفجر ضاحكًا : اف يخرب بيت الراحة ولا كأني لابس شي.
مشاعل بضحكة عميقة وهي تحرك رأسها بيأس : الله يخلف عليك وأنا أختك.
رفعت الجادل حاجبها في وجهه وقالت بنبرة : طلعت عندكم حركات سلفيني شنطتكي بكشخ فيها؟
عاد يجلس، يقول وهو يخلع الحذاء بحرص : ذا الجزمة تقاططنا فيها كلنا وتراه دار على عشرة قبلي يا أم شنطة. ويكون بمعلومك مسويين جدول كل شهر تكون عند واحد.
اتسعت عيناها بذهول : ياساتر يالبخل..
رمقها عبدالإله بنظرة استخفاف وهو يأشر بالحذاء في يده : هالله العظيم حالة, تعرفين كم سعره أنتِ؟ شي لو دفعناه بمداس ربي بيسخط علينا أعوذ بالله. بعدين هذا اسمه اقتناص الفرص يعني عاجبتنا كلنا نِفرق السعر بيننا وخلاص بدل ماكل واحد ياخذ له وحده، حتى مقاساتنا قريبة من بعض إلا يمكن عبدالله يحط مناديل لا جا يلبسها.
أعقب قوله ضاحكًا ببرود واضعًا الكيس بجانبه يربت عليه بعد أن أعاد كل شيء فيه،
لتعلق الجادل بعدم تصديق وهي تضع يدها على رأسها : الله الله الله يالجعص... لا ذا مو بخل وبس،، ذي قعاااطة.
مشاعل : إلا عين العقل النعمة زوالة محد يكب فلوسه على جلد.
أرسل لها قبله هوائية يهتف مشاكسًا : خمسة أمواح يافاهمني.
ثم نظر لساعة معصمه قائلاً متأففًا بضجر : وبعدين يعني مابقى شي إلا وسويته والساعة للحين ست ما تغيرت!..
حركت مشاعل حاجبيها بخبث : وش مستعجل عليه؟
وضع عبدالإله كفيه حول عنقه ضاغطًا عليه بخفه : ما أحب الانتظار, يخنقني....
ضحكت الجادل باستخفاف وهي تنحني بوقفتها قليلاً أمام صينية الشوكولاته، محدثةً نفسها رغم أن صوتها كان مرتفعًا وكأنها تريده أن يسمع : هذا وهو ماشافها وبيموت على نفسه أجل لو إنه شايفها؟.. كان فضحنا ماغير يطرده عمي علي من قدام بيته.
مشاعل بمودة وهي ترى ابتسامته الواسعة وكأنه يخفي سرًّا ما : ومَن قالك ماشافها؟
اتسعت عيناها بذهول، لتعتدل واقفة تنظر لشعاع المبتسمة ثم تعاود النظر لخالها الذي كان ينظر لأخته بوجه لا تعبير فيه، تكرر النظرات لمرتين على الأقل بسرعة وعدم تصديق : أماا شافها!! شلون؟
ذيب بنبرة مغتاظة : يهب ياوجهه،،، وش خليت لنا ياخوي أنت كذا ختمت الصياعة وأخذت حظوظ الجميع.
مط عبدالإله شفتيه بشيءٍ من الحنق : ماشاءالله صيتة مابقى إلا تذيع السالفة بالتلفزيون. مَن باقي مادرى؟
ضحكت مشاعل باستمتاع : أسكت ترى حزّت بخاطري إنك أخفيت عني شي مثل ذا .
عبدالإله بتهكم : صيتة ماقصرت قامت بالواجب .
تحولت ضحكتها لإبتسامة ذات معنى بدا واضحًا جدًا وهي تشفط القهوة من فنجانها شفطًا بصوتٍ هتفت بعده : عجبتك هاه؟
هز رأسه ببطء ورضا، وابتسامة حبور واسعة أخذت نصف وجهه.. يعتدل بجلوسه ليقابلها، ويهتف بعينين تتسع حماسة : آه ياشعوله وش أقول وش أخلي، أنا لو أدري إنها كذا كان ماشفتها، ليتني ماشفتها ياخوك شوف وحر جوف من بعيد لبعيد. مير إني عتبان عليكم كلكم, يعني تشوفوني صغير ما أعرف مصلحة نفسي شاب غَرِير كان نصحتوني قلتوا لي خل كل شي مره وحده وخذها من ليلته...
ثم قطع كلمته ما إن توعّى على نفسه، يميل برأسه قليلاً لذيب الذي يظهر انشغاله بهاتفه رغم الابتسامة الواسعة على وجهه : ورع قفّل أذانك...

رُفع أذان العشاء، وخرج عبدالإله برفقة ذيب للمسجد القريب بعد أن قضى الساعات الماضية يضحك على أحاديث مشاعل التي حاول أن يسوق الثقل عليها لكنه رضخ لها في نهاية المطاف، لازالت كما عهدها مجنونة وراعية نكتة مع الكثير من خفة الدم ليس وكأنها على مشارف الخمسين على عكس صيتة التي كانت تمتاز بالرزانة والعقل وإن كانت موجودة الآن لكانت انصرعت من الحوار الهابط الذي يدور بينهم.
بل أنه بدأ يشاركها تحت ضحكات ذيب والجادل وانفعال شعاع : ترى ذيب قاعد وش ذا الكلام!!

وما إن انتهت الصلاة حتى وانطلق كل منهما في طريقة رغم أن مشاعل تمسكت به وأصرت على أن يعود ويتعشى معهم إلا أنه رفض وتحجج بأنه سيذهب لمريم فآخر عهده بها كان صباحًا عندما تركها في مدرستها إذ أنها كانت نائمة عندما عاد من عمله.

بعد ساعة دخل خالد بيته، يسحب خلفه هزاع بحاجبين معقودين وتبرم طفولي واضح.
خالد وهو يدفعه أمامه بانفعال : أدخل قدامي أشوف، أنا الغلطان يوم إني معتبرك رجال وتاركك تهيت على كيفك.
دخل الصالة، وتبدل غضبه في ثانية وكأنه لم يكن عندما رأى بناته في وجهه.
يسلم على الجادل قبل أن يلف ذراعه حول أكتاف شعاع التي قبلت رأسه، يضمها لصدره : مبروك يابوك الله يتمم لك على خير ويرزقك بالولد الصالح السليم المعافى.
شعاع بهمس خجول : آمين والله يبارك فيك ويخليك لي يبه.
خالد بابتسامة بعد أن جلس وأجلسها بجانبه : عزام دق علي أمس وبشرني الله يبشره بالخير بس يوم شفتك كأني سامع الخبر أول مره. عقبال الجادل..
لم تعرف ماذا تقول فاكتفت بضحكة هادئة وهي تسترق النظر للجادل التي اكتفت بابتسامة صغيرة.
مشاعل وعينها على هزاع الواقف مكانه حيث تركه والده عند مدخل الصالة، يرتدي بنطال رياضي أسود وتيشيرت ريال مدريد تغير لونه الأبيض وكأنه تمردغ بالتراب، سألت بتوجس : وش مسوي هزاعوه؟
هزاع بهدوء وهو يسند ثقله على قدم ويجمع كفيه خلف ظهره : مو مسوي شي.
رمقه خالد بنظرة : مو مسوي شي؟... ولدك قليل الخاتمة ناط على سور الجيران عشان يجيب كورته جعلها بقصتّه. قص وجهي مع العالم تمنيت الأرض تنشق وتبلعني يوم دق علي هاشم يقول ولدك يطلطل على محارمنا. لو مايعرفني هو وعياله ويعرفون أبوي كان دقوا عظامه لين عض الأرض.
ضربت مشاعل على صدرها تشهق بهلع : ياويلي... حسبي الله على عدوك من ولد ذي آخرتها تبي تفضحنا بالحارة أنت!!
خالد بتهكم : مهايطي يمدحونه هالسلق اللي معه وينفخون راسه وهو زي الثور يدربي دميجته.
هزاع بعبوس محاولاً التبرير : يبه هاشم وعياله يبالغون والله إني ماشفت شي من زين بناته أصلاً!.. وبعدين كنت بنط، كنت.... مانطيت .
خالد : ولك عين تجادل بعد.. انكتم..
تقدم هزاع في خطاه ينوي تقبيل رأسه : فيه فرق يالوالد شفيك...
لكنه غير وجهته ما إن وصل له ولمح الصينية وشكلها المُلفت على الطاولة، يسأل بانبهار قبل أن يعكس خطاه لها : الله وش ذا؟ شوكولاطة؟.
يجمع في يده أكثر من قطعة يدسها في جيبه بكل برود تاركًا والده يحترق في الخلف. لتقول مشاعل بإنفعال : أنت ماتعلمني متى بتعقل؟
هزاع وهو يمزق التغليف بحركة واحدة ويدخل القطعة المربعة كاملةً في فمه : ليه شايفتني مجنون يمه؟
مشاعل بقوة : مو مجنون وبس إلا قليل أدب وعديم تربية.. شف ذيب الله يرضى عليه ماله بالهياته تعلّم منه والتفت لدراستك شوي بدل مادرجاتك تسود الوجه وكل يومين راسلين لأبوك اشعار.
هزاع ببلادة : أعوذ بالله يكفي واحد فينا يصير دكتور تبينا كلنا دوافير ودكاترة عشان يصكونا عين ثم تبلشين بنا من شيخ لشيخ؟
خالد بزفرة : اللهم طولك ياروح.
ضحكت شعاع بمودة : يبه حبيبي أنت لا ترفع ضغطك توه بزر لا كبر بيعقل.
خالد وهو يشير باستصغار ناحيته دون أن ينظر له : وين معه يعقل أنتِ تشوفين به عقل مقطوع الرجا ذا؟ أنا خلاص غسلت يدي منه مره وحدة.
الجادل : اسفهه يبه كل المراهقين كذا.. المشكلة إنه شايف نفسه على ذيب مايبي يصير مثله.
نطق هزاع بانفعال ورذاذ اللعاب يتطاير مع كلماته من الحماس : أشوف لا طاح الجمل كثرت سشاشينه ههه،، خيير كلكم قلبتوا علي!!... وترى من جدّي أتكلم ما أبي أدخل جامعة.
نطق خالد بتهكم : مايحتاج وأنا أبوك ليه تدخل جامعة وتتعب نفسك وشركة العايلة موجودة.
ضحك بروقان : يبه واللي يطولي بعمرك أنا طموحي غير، أنا أبي أصير لاعب كورة.
لتقول مشاعل بتكشيره وامتعاض : خسّه الله من طموح.
رفعت الجادل حاجبيها قائلةً بنبرة هازئة : طائرة ولا سلة؟
خزها باحتقار : قدم جعلها بكرشك.
تبسم خالد بتهكم هاتفًا بهدوء : أبشر وأنا أبوك علمني بس أي نادي تبي عشان أخليهم يخيطون لك فانيلة من الحين. أنت أشّر بس طب وتخيّر عندك من الدوري الممتاز لين الدرجة الثانية .
رمقته مشاعل بنظرة باردة قبل أن تقول : لا ياخالد كلم له المنتخب على طول ولدي صقر مايلبس إلا الأخضر .
مط هزاع شفتيه بحنق : مع إني داري إنكم تتريقون بس أوريكم إن ماصرت لاعب محترف تتحاذف علي العروض العالمية والملايين من كل مكان ما أكون هزاع بن ساجر.
خالد بنبرة ناقمة : افا عليك من يقول نتريق؟.... بكلم لك معارفي يمكن تجيب لنا الكاس وتصير صورتك ملى الجرايد بس وين تبي مركزك أمر تدلل يابن ساجر.
ضحكت الجادل باستمتاع : يبه المنتخب يوم كان كله نجوم ورموز رقعونا تبي مع هزاع ياخذون الكاس؟
جلس هزاع بجانب شعاع من الجهة الأخرى، يأكل قطعة ثانيةً وهو مطنقر : أبي أسجل بأكاديمية كرة القدم يبه... خذني على محمل الجد لو سمحت.
خالد بصرامة وهو يمد ذراعه يعبر شعاع ليضرب مؤخرة رأس ابنه بخفّه : أقول أعقل و اترك الخرابيط ذي عنك وانشغل بدراستك، السنة الجاية أولى ثانوي مافيها لعب عيال.... قال لاعب كورة قال والله لو تطلع من الشوته الوحدة بدل المليون عشرة ماخليتك على هواك.
عبس بزعل يتحلطم بينه وبين نفسه مما دفع شعاع لأن تسحبه لحضنها ضاحكةً تحت اعتراضه : خلاص عاد وش فيكم حاطين عليه ترى كله ولا زوز ما أرضى يضيق صدره.
مشاعل بتنهيدة : اه من زوز بس، هو مافيه مثله بس لو يترك عنه لعب الشوارع ذا كان حنا بألف خير.
أدخل هزاع قطعة شوكولاته في فمه أتبعها بأخرى وأخرى حتى انتفخ خديه معلنًا بذلك حنقه واعتراضه، ومدت له شعاع فنجان قهوة : سم تقهو يابعد راسي .
ليتمتم لها شكره بنطقٍ غير واضح جعلها تبعثر بأصابعها خصلات شعره المبتلة بعرقه البارد بمودة.
خالد بابتسامة ونبرة حنونة : افا وأنا مالي فنجال يعني منتي مقهويتني؟
هزت شعاع الدلة بضحكة : أنت تبشر يابعد راسي بس ذي من المغرب وخلاص مابقى إلا الحثل بس أبشر الحين أسوي غيرها.
أشار بكفه قبل أن تقف : لالا مايحتاج خلك قاعدة.
مشاعل باستنكار : عمي ماجا معك؟
ليجيب متنهدًا : دق علي هاشم وطلعت أركض تاركه وراي عند أبو سفر ماعاد جيت على شي.
ثم سأل بقلق وهو يرى مكانها في الجلسة الأرضية بالصالة الأخرى خاليًا : أمي اللي وينها ماهي العادة مكانها خالي؟
مشاعل : داخل بالغرفة... وترى عبادي كان هنا ويسلم عليك .
ابتسم أخيرا : الله يسلمه، كيف أموره المعرس عسى مو ناقصه شي بس؟
مشاعل بمودة : أبد يارب لك الحمد ماتقصر.
وقف : الله يتمم له على خير. أنا رايح لأمي من الصبح وضعها مهوب عاجبني.
ثم أردف وهو يرمق هزاع بطرف عينه : وامسكي ذا السلقة لا يطلع من البيت.
ما إن اختفى خالد حتى وتكلم هزاع بانفعال وهو يبلع مافي فمه : يمه شفتي رجلك وش سوى فيني؟
نهرته بعنف : رجلي أبوك ياللي ماتستحي.
هزاع بتبرم وهو يشير على أذنه المحمرة : سحبني من أذني وسط العيال تقل تيس.
مشاعل : مزدي فيك ليته قطعها لك، وشلتّك التعبانة ذي اللي تلعب معها لا عاد أشوفك تقرب منها كلهم كبار وأنت الورع الوحيد بينهم.
هزاع بحنق طفولي : شعّوع شوفيها.. كلمي أبوي يسجلني بالأكاديمية تكفين فتحوا التسجيل هو يسمع منك ويقتنع برايك.
رفعت شعاع يديها باستسلام : ياقلبي أنا في ذا الموضوع بالذات مالي دخل لأني أشوفك غلطان. أنت من غير شي مهمل دراستك لو انك شاطر ودرجاتك تبيض الوجه كان أنا سجلتك بنفسي.
الجادل بابتسامة واسعة : تبي أكلمه أنا؟
هزاع بغيظ وهو يرمقها بطرف عينه : أنتِ بالذات ما أثق فيك بتفرّين راسه وتخلينه يقلب علي زيادة.
ضحكت بخبث، ورمشت بعينيها عدة مرات : افا يازوز للدرجة ذي الثقة زيرو ؟
تأفف وارتخى كتفيه بإحباط : يعني كيف الحين؟
مشاعل بانفعال : يعني تعوذ من إبليس وافتح كتبك احفظ لك كلمتين تنفعك مابقى شي على الاختبارات بدل ما أنت مثل الحمار يحمل اسفارا ماغير تشقلها معك تروح وتجي ولاتدري وش داخلها.
ثم تابعت بذات الانفعال وهي تقف : الجادل قومي سوي العشا أنا بروح أصلي.
عبست : وش معنى أنا ليه مو شعاع ؟
رمقتها بحده : ماسمعت؟
الجادل بسرعة : إن شاءالله يمه.
ثم أردفت بهمس ما إن ابتعدت، تحرر شعرها المشدود من ربطته وتمرر أصابعها بين خصله : وأنا من يهود بني قريظة ما أصلي يعني!!
عادت مشاعل فجأة بعد أن اختفت من أمامها : وش قلتي؟
ضحكت بخرعه : قلت سمّي وابشري يانظر عيني .
.

نزع خالد الذي كان يجلس بجانب والدته على فراشها جهاز الضغط من يدها، يتنهد بضيق : وش فيك يمه أحد مزعلك؟
هزت رأسها تنفي وهي ترفع طرف طرحتها وتمسح عينها التي تكدست على سطحها الدموع.
خالد بأسى وقلبه منفطر على منظرها : أجل وش فيك جعلني قبلك؟ ليه ضغطك مرتفع كذا سامعة شي ضايقك؟ أبوي قال لك شي؟ مشاعل؟ العيال؟ أنا سويت شي زعلك مني؟؟
لتهتف بصوت متحشرج : لا ياقلب أمك....
خالد بغصة اتضحت على صوته وهو يرى ضعفها وارتعاش كفها المجعد ومحاولاتها اليائسة في مسح دموعها : أجل علامك يابعد روحي؟
ثم رفع برقعها دون أي مقاومة منها ليظهر له وجهها وثمانون عامًا مكتوبة بتجاعيده، بأفراحها وأتراحها ومرارة الفقد الذي لازالت تعيشه حتى بعد مضي السنوات الكثيرة كلها. أكل القلق قلبه ومسح خديها بأصابعه : جعلني فدا ذا العيون لا تبكين....
بكت أكثر وكأن كلماته أثارت كل أحزانها فأتت مجتمعة، تهتف بأسى وصوت متقطع : قلبي موجعني على أخوك يا خالد.
انقبض قلبه، والخوف غزى حدقتيه , يتمتم : ذيب..
عادت تومئ برأسها تتشبث بذراعه وهذه المره لم تستطع أن تمسح دموعها التي سالت غزيرة بحسرة ولوعة : وهو فيه غير ذيب موجع قلبي بالحياة ذي؟؟.... أنت متّأكد إن ماعليه دين ولا أحد يطلبه شي؟
خالد بضيق : ايه يمه متأكد وأنتِ تعرفينه زين الله يرحمه ماعمره نام وبذمته شي لأحد...
عادت تسأل بلهفة ونبرة منهكة : والصلاة؟ هو كان محافظ عليها ياخالد؟ كان يصلي فروضه على وقتها ولا يلهى وينام عنها؟
هز رأسه بثقة وهو يلف ذراعه خلفها ويقبل كتفها، يجيب وهو يعرف ماسيقول بدون تفكير فقد اعتاد على هذه الأسئلة منها من حين لآخر وكأنها بإجاباتها التي هو متأكد من أنها تحفظها وتعرفها أكثر منه تطفئ نار الحزن في قلبها : ذيب أنتِ تعرفينه أكثر مني يمه ماعمره ترك لا فرض ولا سنة ودايم بالصف الأول مايفوت الجماعة.
ارتفع صوت نحيبها : أجل وش بلاه أخوك مهوب مرتاح بقبره؟
ابتلع خالد عبرته وقال متصنعًا الثبات رغم ارتعاش صوته : يايمه الله يخليك لي اذكري الله وبإذن واحد أحد إن ذيب مرتاح بقبره مات وهو موحد يعبد ربه ولا أحد شايل عليه شي وكل من سمع اسمه ذكره بالخير. وإن كان عليه شي مانعرفه فإن ربك غفور ورحيم يابعد راسي..
تهدجت أنفاسها، وقالت من بين دموعها وهي تشد على جيب ثوبها وكأنها ستمزقه : صار لي يومين أتحلم به أحلام شينة أقوم وقلبي مقبوض مقبوووض ودي أخلعه من محله. اسمعه يزهم علي يناديني وهو يصيح يدعيني يبيني أجيه.

اشتدت أنفاسه وهو يشعر بلهيب العبرة يوقد في جوفه، البؤس والخوف يتسربان لقلبه دفعةً واحدة فتفسير الميت ينادي أحدًا من الأحياء معروفٌ واضح، غير أن والدته لا تعرف حقيقة وفاته، كان من المستحيل أن تتحمل إن عرفت أنه هو من فجّر نفسه وقتل العشرات معه وليس العكس، تكفيها صدمة موته والتي لم تخرج منها حتى بعد سنوات عديدة، فبعد غياب أشهر تأملت فيها خيرًا توقعت سماع مصير مختلف ما إن تنقضي. وخالد متأكد من أن أحلامها هذه لها دلالة ذات معنى مؤسف وحزين لا يتراءى فيها الميت لأهله بأحلامهم إلا ليذكرهم به، ربما حاجة لدعوة أو صدقة أو خوف من أن يصبح في طي النسيان ولا يبقى له أثر حتى في ذاكرتهم.
أخذ نفسًا عميقًا وهو يشعر بشهقاتها تنفض جسدها الضعيف بحضنه في كل مرةٍ تخرج فيها. تمزق روحه، تمزق قلبه، تنهش عقله.. يحاول أن يجد تفسيرًا مقنعًا لمخاوفها التي سربتها اليه. لكنه لم يجد شيئًا يقال، فاكتفى بقوله بصوت حزين : تعوذي من ابليس يمه أضغاث أحلام ذي لا تفكرين فيها وادعي له بالرحمة وإن الله يتوب عليه ويغفر ذنوبه.
لتقول بلهفة : يالله انك تمحي ذنبه وتغفر له وتجعله بالفردوس يا كريم .
ثم أردفت بوجع : يالله ياحبيبي لا توجعني فيه ميت وأنا للحين مابريت من وجعته حي.
ثم سحبت بصعوبة ماكان في يدها من حُلي و وضعته في كفه، خاتمين من الذهب الخالص وثلاثة أساور : خذ يمه ياخالد، طلعها ذي باسم أخوك جعل أجرها يوصل له وتنفعه.
خالد وهو يغلق كفه عليها : ابشري بس أنتِ اذكري الله وارتاحي الله يرضى عليك ضغطك بينفجر من كثر ماهو مرتفع. ذيب الله يرحمه راح بس ذكره للحين باقي هذا هو عزام بيجيه ولد وغير الولد بيجيه عشر إن شاءالله.
ثم أردف يشاكسها : أنتِ تدرين إن شعاع حامل ولا الصياح نسّاك السالفة ذي؟
ابتسمت ابتسامة ضائقة من بين دموعها : وشلون أنسى وأنا أخذت الخبر من عزام يومه دق علي وبشرني قبلك أنت وبنتك،
خالد بضحكة لين ومودة : مستانس ولد ولدك ما ترك أحد إلا ودق عليه يبشره.
تبسمت والدته بتنهيدة راحة بعد ساعات من القلق وكأن كلام خالد الذي تعرفه ويكرره عليها في كل مرةٍ تضعف فيها هو كل ما تحتاجه، تنزل برقعها ليغطي وجهها : الله يفرّح قلبه ولا يخيب رجاه يوم إنه قال أبشرك شعاع حامل وبيجيني ذيب ياجدة، شرَح صدري كنّي مع كلمته ذي شفت أبوه داخل علي.
سكت خالد قليلاً يحاول ترتيب الفوضى التي سببتها والدته في نفسه : الله يرحمه ويتوب عليه... صليتي العشا؟
اومأت برأسها : الحمدلله.
وقف بعد أن وضع ما أعطته في جيب ثوبه : أجل قومي وأطلعي معي الصالة، البنات فيه.
استندت عليه تشد على كفه، تهتف وهي تقف بصعوبة : الله يسعدهن كل شوي وحدة تطل علي بعد ماسرى ولد عمك يحايلن فيني عشان أقوم بس أمك ماطاعت.
مشى معها بخطى حذره للخارج، ضاحكًا : وأنا أقول هزاع طالع على مَن بيباس الراس، أثره ماجابه من بعيد.
دخلت الصالة الجانبية المفتوحة حيث جلستها الأرضية، ترى هزاع يتمدد على ظهره واضعاً ساقه على ركبة قدمه المثنية الأخرى وبجانبه صينية الشوكولاته التي أكل نصفها حتى تكدست التغليفات بجانبها كالجبل، هاتفه بين يديه وعلى وجهه يتضح العبوس. فقالت بمودة : طحطوح وراسه يقدح مرجله.
خالد بنبرة ناقدة : لا هو طحطوح ولا قاله الله مير الله المستعان بس.
يركل قدمه بخفه ما إن وصلا إليه : قم اعتدل خل أمي تقعد.
فز جالسًا على تعليق جدته التي انحنت تجلس بحذر بمساعدة ابنها : وش فيك على الولد؟
هزاع بضيق وهو يأخذ المسند خلفه ليضعه بينه وبينها لتتركى عليه : مدري شفيه علي مستقعد لي.
جلس خالد في الجهة الأخرى زافرًا : قولي وش مافيني يمه تعبت من ذا الولد الله يصلحه.
أم خالد : عاد هزاع كنه أنت يومك بزر ماجابه من بعيد.
رمقه خالد بامتعاضٍ مازح وهو يلمح ابتسامته الواسعة يهتف بانتصار : ينصر دينك يابنت هادي أنا قايل اللي فيني أكيد وراثه مستحيل يكون جاي من فراغ.
نظر خالد لوالدته بعد أن ضحكت بهدوء : يمه كنت أنطط على أسوار خلق الله واكشف محارمهم؟
تلاشت الابتسامة من على وجه هزاع، يعقد حاجبيه هاتفًا بقهر : جعلك النفاد ياهاشم أنت وذريتك كانك قاعد تتبلى علي.
أم خالد بنبرة : لأ بس كنت تقنص الشيبان بنبيطتك مابقى شايب بالحارة إلا وصلته حصاك متعمد وبدون قصد مير اترك هزاع عنك.
تعلق هزاع برقبتها حتى كاد يعتلي المسند بينهما، يقبل رأسها بكامل قوته مما جعلها تتشبث بذراعه ضاحكة : نذرٍ علي يايمه إن جاتني بنت لا أسميها شعاع، وإن جاني ولد لا أسميه هادي. والله أنتِ نمبر ون في بن ساجر كلهم وغيرك يامحبوبي قراطيس.

أتت مشاعل بعد مضي وقت تبادل فيه خالد بعض الأحاديث مع والدته يحاول صرفها عن التفكير بما رأت في أحلامها رغم الاحتمالية الضعيفة بنجاح ذلك، فالميت الذي أقلق مضجعها وعبث بمؤشراتها الحيوية كان ولا يزال يقلق مضجعهم جميعًا أسىً وحسرةً على غيابه الذي أتى باكرًا فجأة دون أن يعطيهم فرصة لعناقٍ أخيرٍ حتى. يحرمهم حق تقبيل جبينه ونظرة أخيرة لوجهه قبل أن يوارى جثمانه الذي تبعثر أشلاءً الثرى.
بينما عاد هزاع ينشغل بهاتفه يتابع مقطعًا مهاريًا لفريقه المفضل، تحمل صينية القهوة بين يديها وما إن رأت والدة زوجها الجالسة حتى وأشرق وجهها، سكبت لها فنجانًا ومدته لها بعد أن أعطت خالد : الله لا يحرمنا من هالزول ياعمه والله تو مالحياة ردّت للمكان أنتِ بركة بيتنا والجلسة من غيرك ماتنبغى... بشريني وش أخبار الضغط الحين؟
أم خالد : الله يعز شانك يا أم ذيب الحمدلله.
ضحك هزاع : يمه لا يسمعونك النصراوية وتقلبين عليهم المواجع.
عقدت مشاعل حاجبيها بعدم فهم : وش دخل النصراوية؟
هزاع متابعًا : بعدين الوالد يزعل على إنه نصراوي تائب بعد مافشله فريقه لكن الموضوع للحين يأثر عليه..
قاطعه خالد ضاحكًا رغمًا عنه : العالمي مايفشل ياتعبان.
هزاع بسخرية لاذعة : الخالمي والله،، بشروني شخبار الضغط بس..
هتف خالد بدون نفس وهو يسمع تغنيه بها : أقول عطني من هاللي ترثع به من الصبح خلني أذوقه ولا تكثر بربرتك.
.

غطت الجادل القدر بغطائه بعد أن قصرت النار تحته، منتبهه وجدًا لنظرات شعاع القلقة التي كانت تتبعها بعينيها كلما تحركت في أرجاء المطبخ، تقول بمرح وهي تغسل يديها : متى ما اشتهيتي كيكة البرتقال علميني وبتوصلك لين محلك.. المره ذي عاد بسويها بطيب نفس ههه.
ضحكت شعاع بهدوء ولم تعلق، تتأمل شعر الجادل الكثيف بسوادٍ لامعٍ مُهلك والذي كان مجموعًا بذيل حصان تصل أطرافه لمنتصف ظهرها، لازالت تقف أمام المغسلة.. تتنهد بصوت مسموع جعل الجادل تلتفت لها بحاجبين معقودين : ياساتر ياشيلة الهم، أنا صاحبة الموضوع ماتغلقت كذا لا تصيرين اوفر عاد.
شعاع بنبرة : قلقانة عليك يالغبية.
عبست : يا أمي قلت لك ماله داعي الخوف والقلق ذا، يمينًا بالله حاكم كان عنده بعد نظر يوم قال لا تعلمين أحد.
شعاع : بس أنا قلبي مهوب مرتاح.
ابتسمت لها الجادل على مضض، تقترب منها وتوقفها من على الكرسي رغمًا عنها هاتفةً بنبرة ساخرة : ريحي لي جمالك وقلبك يا أم قلب شفاف أنتِ. وانسي اللي قلته يرحم أمك انسي وبلاش منها نظرات توقوموري ذي.
شعاع بتهكم : طبع خايس مدري متى أتركه ولا أنا وش دخلني فيك أشيل همّك يالباردة ياعديمة الإحساس؟
ضحكت : هو الواحد لا طاح وتألم يقول أخ برضه، الله لا يخليني.
ثم استدارت للعاملة تهتف قبل أن تخرج من المطبخ تسحب شعاع معها : عينك على القدر لا بدأ يطلع دخنَه اقفلي النار تحته.

لامت الجادل نفسها على الشبه اعتراف والذي لا يعتبر شيئًا من الوضع الذي تعيشه وهي تشعر بانطفاء حماس شعاع الذي أتت به، تعقد حاجبيها بخفه وتأنيب ضمير على أصوات خطواتهن الثقيلة للصالة، قبل أن يُمحى العبوس من على وجهها ما إن رأت الجالسة بجانب هزاع لتهتف بسعادة : هلا ومية هلا بلمبة البيت، هلا بأبجورة الصالة،، ياحي الله نورنا وضينا .
ضحكت أم خالد بمودة : آه منها أم لسانين ذي، الله يعين قلب حويكم كانه يتسمع لذا الكلام كل حزه.
جلست الجادل بجانبها، تلف ذراعها حول أكتافها تقول ضاحكة : طحت عليه من السما ياجدتي يابخته من يصبح لين يمسي وهو يسمع الكلام الزين، أنتِ تدرين وش أول شي يسويه لا صحى من نومه؟ يسجد سجود شكر إني صرت من نصيبه.
أم خالد : بعدي والله.
هزاع بقوة : والله حنا اللي كل ما صحينا الصبح استقبلنا القبلة ودعينا لحاكم لأنه فكنا منك.
تنهد خالد بحنو أبوي خالص وهو يتأمل بناته الجالسات أمامه : عز الله انك في ذي ماصدقت، والله إنها فقيدة من غير شر.
نظر له هزاع يقول بنبرة زعل : اييه يبه ماشاءالله هي فقيدة بس أنا أمحق نمى.
خالد بضحكة وهو يسحبه بحضنٍ جانبي : أنت القعدة اللي مطلع عيني مكانتك غير محد يجيها. أخوانك بكفه وأنت لحالك بكفة.
مط هزاع شفتيه يخفي إحراجه من القبلة التي طبعها والده على شعره ما إن أنهى جملته : كلام بس ولا لو تعزني صدق كان رضيت تسجلني بالأكاديمية وتعزز لي بدل ما أنت خاسف بي وبطموحي الأرض.
دفعة خالد بعيدًا عنه بخفه، قائلاً بامتعاض : أقول قم اذلف بس.
هزاع وقد عاد يلتصق به يقبل كفه بشكلٍ متتابع : يبه الله يخليك عطني فرصة والله أبهرك بمهاراتي الكروية.
خالد : كورة لأ اشغل عمرك بشي ثاني.
عقد حاجبيه : ولد أنا وش تبيني اشغل نفسي فيه يعني؟ مافيه إلا الكورة.
خالد : لا فيه، رح تعلم السباحة.
هزاع بعبوس : ما أحب الموية.
اتسعت ابتسامة الجادل حتى ملأت وجهها ولم تستطع أن تعلق بعد نبرة والدها تلك، فضحكت على ملامح الصغير تشعر بالانشراح وهي تسمع ضحكة شعاع التي وقفت تدور بالقهوة بعد أن كانت متضايقة وضحكة جدتها التي كانت متعبة، وكأن الأمور عادت لوضعها الصحيح فلا ضيق ولا تعب. لتنهي مشاعل نق ابنها قائلة : لأنك ضب ولا فيه آدمي مايحب الماء؟.. وخلاص يكفي فكنا من الإزعاج وسيرة الكورة ولعب الحواري.
أخذ أم خالد فنجانها الذي ناولتها اياه شعاع، تضع يدها الأخرى تحت ركبة الجادل المتربعة بجانبها وترفعها لتدفعها مما جعل جسدها يميل جانبًا بخفه : قومي من جنبي أشوف،
قبل أن تتمسك بمعصم شعاع كي لا تبتعد وتسحبها لتجلسها بالمساحة الصغيرة بعد أن زحفت الجادل دون أن تستوعب الحركة بعد، تهتف بحبور ما إن استقرت بجانبها : ما أبي غير شعاع قربي.
الجادل بدهشة : خير؟
أم خالد بصوتٍ هامسٍ مرتفع : لا أوصيك ياشعاع اقري على نفسك وعلى اللي في بطنك كل ما اصبحتي وكل ما امسيتي، واتركي عنك الحركة الزايدة والخرشة، الله الله بالركادة.
تبسمت لها ضاحكة على عيني الجادل المتطايرة : ابشري.
مشاعل : عاد شعاع تكانه ياعمه لو هي الجادل بقول.
لوت الجادل فمها معترضةً على قول جدتها الهازئ : عاد الجادل من غير شي ولدها بينزل من بطنها مخترش. هي خريش وأخذت لها خريش.
الجادل بامتعاض وهي تلف ذراعيها حول ساقيها تضمهما قريبًا من صدرها : والله هجوم كاسح ماله أي مبرر، جيتكم واحد وجيتوني جماعة.
ثم أردفت بنبرة : نسيتي أيامنا ياجدة أنا وياك؟ ابرة سكر من هنا، وحبة ضغط من هنا وقراض بجدي إلى أن تصفّر أذنه المسيكين من الحش؟ أشوف ذا كله ذهب مع الريح من سمعتي بولد شعاع وعزام.
تنهدت أم خالد بشوق : لا تلوميني، غالي ولد غالي ولد غالي.
خالد بابتسامة : أنا أشهد.
هزاع بنبرة حرَش : طبعًا شعاع وضعية المزهرية، تراه مشترك يا اخوان وش فيكم جحدتوا أختي؟
هزت شعاع رأسها تزفر ضحكةً خجلة مؤيدة هادئة : تشوف يازوز!!
غمز هزاع ممازحًا وهو يمتد بجذعه للأمام، بيدٍ التصق باطن كفها بالارض تحته لتمنع وقوعه على وجهه والاخرى امتدت لتأخذ من صينية الشوكولاته أمام والده : أنتِ غالية بعيوننا ولا يهمك.
ارخى خالد نظرته له، قبل أن يتابعه بعينيه ما إن اعتدل بجلوسه بعد أن أخذ مايريد : وأنت بس ذا اللي فالح فيه التعليقات اللي زي وجهك.
ضحك هزاع وعيناه على قطعة الشوكولاته بين يديه، يفتح تغليفها : أبوي واضح أنك توهقت وزل لسانك وخايف شعاع تزعل. ما أقول غير اااه بس، عطني حظ عزام وارميني فالبحر الكل معه وبصفه شكلي بحوّل عليه واقردنه عشان يقنعك.
مشاعل بسرعة : قل أعوذ برب الفلق.
في نفس اللحظة التي نطقت بها شعاع بذعر : قل ماشاء الله.
نظرت الجادل لجدتها التي فتحت كفها تشير به في وجه هزاع تتمتم بهلع "عوذه عوذه"... لتقول باعتراض : وحاكم مهوب غالي يعني؟ اتركي حاكم أنا وش وضعي معكم بعد خمس وعشرين سنة خدمة في هالبيت؟
خالد مبتسمًا بمحبة وضحكة : وأنتِ بعد غالية بنت غالية بنت غالية ولا تزعلين.
حط بصر الجادل على وجه والدها، تتبسم بحرجٍ مفاجئ وهي ترى ابتسامته والنظره الدافئة في عينيه، فقالت وهي تمط الحروف تتصنع الدلع : مايرضيني،، أبي أصير غالية بروحي يبه..
لكن صوت مشاعل هو ماوصلها، تهتف ضاحكة باستنكار وهي ترفع سبابتها بذهول : يالله إني في وجهك ماتحوجني لها أرذل عمري، لا صار ذا أولها ينعاف تاليها.

.
.

في نفس الوقت وأمام محل "يَمي يوغرت"، كانت سيارة عزام تقف أمام رصيفه حيث يتواجد في أكثر شوارع المنطقة ازدحامًا، يجلس بداخلها خلف المقود وعلى أقدامه تجلس مريم بين يديها الزبادي المثلج بقطع قليلة من الفاكهة لم ترضى بها إلا بعد أن هددها بأنه سيعيدها للبيت.
لم تكن النية هكذا أبدًا، إذ أن عبدالإله عندما عاد للمنزل وجد عزام بانتظاره، مريم كذلك وكلاهما جاهز للخروج ولم يمنعهما إلا تأخيره،
مريم وهي تتعلق به : أخيراً جيت.
عقد حاجبيه وهو يضع يده على شعرها، ينظر لعزام الجالس بثوبه أمامه بابتسامة : وش فيك تأخرت ذي طلعتك من ساعة ماكلمتني!
أخفض عبدالإله بصره لمريم التي كانت تدفن وجهها في بطنه : مادريت انكم تنتظروني!
رفعت مريم رأسها تنظر له : ترى طولت مرّه طفشت وأنا أنتظر وكنا بنروح من غيرك بس عزام قال لازم تكون معنا لأنك أنت اللي بتدفع الفلوس.
رفع حاجبيه ضاحكا باستنكار : ماشاء الله عازمين أنفسكم على حسابي ومن وراي!!
ليسحبه عزام معه، يقول ممازحًا وهو يأخذ طريقة للباب : امش امش خل نستغل آخر يوم معك قبل لا تصادرك بنت علي ولا عاد نلقى لك طريق.
ليجد نفسه يشق الشوارع برفقة عزام على دندنته "وداعية يا آخر ليلة تجمعنا وداعية" وأنغام تذمر مريم التي بدأت تنق لتحصل على الآيسكريم الذي وعدها به قبل أيام ولم يجدا أفضل من هذا المحل كي تسكت فالجو بارد جدًا لأكل المثلجات.
مريم بعبوس واستهجان وهي تنظر للكوب بيدها : عزام ذا مو اسكريم تضحك علي أنت؟
عزام بصرامة : مافيه إلا ذا كليه ولا برجعك البيت.
كشرت وأكلت منه حتى تلطخ ذقنها وماحول فمها بالزبادي الوردي، لا شيء يسمع في هدوء السيارة سوى صوت احتكاك الملعقة البلاستيكية بالكرتون المقوى الأبيض، وأصوات الازدحام خارجًا من سياراتٍ وبشر.
يدور بينهما السؤال الوجودي المعتاد بين أي سعودييّن ما إن يريَا محل مكتظ بالزبائن : بالله تهقى كم يطّلع ذا باليوم شف الزحمة كيف.
عزام وقد ارتفع حاجبه بتفكير وهو يرى الطابور الممتد للخارج : عشرة ثنعش ألف بالراحة.
عبدالإله بذهول : يا رجّال قل غيرها.
رفع عزام هاتفه يفتح الآلة الحاسبة : هذا إذا ماكان أكثر، شف خلنا نحسبها إذا قلنا...
يقوس عبدالإله شفتيه ويهز رأسه بإندماج على تمتمة الأرقام العشوائية التي يقولها عزام بشكلٍ غير واضح : والله الواحد يفتح له محل بروست هنا ويكبر مخدته وبيضمن دراهم زي الرز كل شهر بلا محامي بلا كلام فاضي.
عزام بضحكة : بس تلاقي الإيجار يكسر الظهر المنطقة حية ما تلقى لك مغط رجل من الزحمة.
عبدالإله بتنهيدة : الله كريم.

يعم الصمت بعد ذلك لدقائق، حتى قال عبدالإله وعينيه على عزام الذي كان يتأمل مريم بهدوء ومودة : تراك مدين لي باعتذار على فكرة.
عقد عزام حاجبيه بخفه يدير رأسه وينظر له : ليه بعد وش سويت؟
ضحك عبدالإله بخفوت : لأني إذا تذكر بعد ماطقتك النفسية يوم خَطبت شعاع تراهنت معك وقلت لك إنك محتاجها عشان حياتك العوجا تتعدل وإنك مابتلقى راحة البال والسعادة إلا معها.
عزام بعدم فهم : وتبيني أعتذر ليه طيب؟
ابتسم بخفه : لأني يوم قلت لك كذا سفّلت بأهلي وشرشحتني أنا وياها وهي مالها ذنب إلا إن ربي بلاها فيك.
عزام و هو يتذكر تلك الأيام جيدًا والزعل الذي طال بينه وبين عبدالإله بعد هذا الموقف : ثقتك وقتها كانت تقهر.
عبدالإله : لأني كنت واثق بشعاع وعارف إنها دواء وبلسم تبري الجرح. بس وقتها ماكنت واثق فيك وكنت خايف عليها منك.
سكت عزام قليلاً ولم يعجبه الكلام : ويعني أنت تشوفني مرتاح الحين؟
هز رأسه بثقة واتسعت ابتسامته : أشوفك وعارفك ومتأكد إنك مرتاح ومبسوط من ساعة ما أخذتها ياولد صيتة والدليل اللي صار أمس.
عزام وقد وصله المقصد بشكلٍ خاطئ : ترانا متزوجين لنا سنتين، ماكنا نلعب.
انمحت الابتسامة من على وجه عبدالإله وبردت ملامحه : الله لايوفقك!
انفجر عزام ضاحكًا ما إن بدأ عبدالإله يتكلم بانفعال : أبو تفكيرك ياشيخ!! تصدق إنك قليل أدب ولا بوجهك دم!! تراها بنت أختي ياحيوان لا تتكلم قدامي كذا.
عزام بضحكة عالية أفزعت مريم : وأنا وش قلت؟ إذا تفكيرك شطح فهي مشكلتك ماهي مشكلتي أنا قصدي بريء.
عبدالإله بحده : اعتذر أشوف!
عزام بنبرة ممازحة : أعتذر على وش بالضبط؟ إني كذبتّك وقتها وشككت ولا على إنها حامل؟
زفر عبدالإله يغمض عينيه ويضغط بسبابته على ما بين حاجبيه : لالالا أنا بنجلط أقسم بالله.
عزام باستمتاع : وش فيك ياخي؟
أبعد يده وهو يفتح عينه ليلتقي بالابتسامة الواسعة التي زينت وجه الآخر، ينطق بغيظ : من زمان ماطلعنا أنا وأنت لدرجة إني ماني قادر أتحمل سماع صوتك بمكان مغلق.
ضحك عزام وهو يراه يفتح نافذته كلها وقد لاحظ ارتفاع طرف فمه بشكلٍ طفيف معلنًا عن ابتسامة حتى وإن حاول اخفاءها : طيب الله يسامحك!
عبدالإله بنفخة : أقول تقلع بس.
عزام بهدوء : طيب آسف على الموضوع الأول، أما الثاني ههه..
عبدالإله مقاطعًا بتحذير : عزام!
ليتابع بابتسامة : ياسِيدي خلاص أنت فزت وثقتك كانت بمحلها. زين كذا؟
رمقه عبدالإله بطرف عينه : أيوه كذا اضبط وضعك.
عزام بذات الابتسامة والنبرة الهادئة : طيب.

عبدالإله بعد دقائق : اشكرني.
قلب عينيه بملل : على وش بعد؟
ابتسم بثقل : لأني كنت حليم وصبرت عليك ذيك الليلة ولا كسّرت راسك ولأني حكيم ونظرتي ماخابت.
ضحك عزام بخفه ناطقًا بصدق : ياشيخ شكرًا ومليون شكرًا الله لا يحرمنا وجودك... خلاص؟
ضحك : خلاصين.
عزام : طلبات ثانية ؟
عبدالإله بابتسامة : سلامتك بس....
عقد عزام حاجبيه بخفه : وش بس؟ قول!

سكت لثوانٍ يقلب فيها الكلام في عقله وصوت شعاع وهي تتكلم عن عزام في مسمعه، ونظرتها الحالمة لازالت أمام ناظريه.
عزام باستنكار : ولد، الصمت ذا مريب!!
تأفف عبدالإله بقل حيله وصرف بصره عنه : شف عزام أدري مالي دخل وإن هالشي بينك وبينها ولا لأحد حق يعلمك وش تقول أو تسوي، بس شعاع تهمني، وأنت تهمني.
عزام بذات الاستنكار : طيب؟
عبدالإله بنوع من الإحراج لتطفله : أعرفك زين و أدري بطبايعك، ناااشف وثقيل طينة بس إن كان ذا الشي بخاطرك قوله خليها تدري إنك تغيرت بسببها.
أبعد عزام عينيه عنه بعدم رضا، ينظر للأمام : تدري عنه من غير لا أقوله.
استوت ملامح عبدالإله ببرود وابتلع الإحراج من تدخله فيما لا يعنيه، يسحبه من عضده : هيه ولد، مافيه شي اسمه تدري وحتى لو تدري ترى المرَه تحب تسمع أشياء مثل ذي طول الوقت فيه كائن داخلها يتغذى على الإطراء.
ثم أردف بجدية لا تليق به ما إن ضحك عزام بهدوء : لا تضحك أتكلم جد، الحريم طبايعهم وحده يحبون المدح وإنك تثني عليهم وتعبر عن مشاعرك كل دقيقة حتى لو كان كذب أو مبالغة،
عزام بنبرة هازئة : تتفلسف على راسي وكأنك راعي خبرة وأنت كل اللي بتاريخك حرمتين.
قلّب عبدالإله عينيه بضجر : ياذا الحرمتين اللي ناشبين لي فيهم أنت وذيب، ترى الأولى تجربة فاشلة ولا أحب طاريها لأن نتايجها قدام عينك، بنت كبرت محرومة من الأم.
اتسعت ابتسامة عزام يهز رجله ويميل برأسه لينظر لها تأكل باندماج : لولو بتصير لها أم وأكثر وأنا أضمنها لك، صح ميمي؟
مريم على مضض : أيوه صح.
عبدالإله بنظرة ونبرة : سلامات يبوي وش لولو ذي تمون والله!! قل خالتي لولوة ولا أم عبدالله يكون أفضل.
ضحك عزام ينطق بصدق : تدري عاد تجربتك الأولى ما تعتبر فاشلة واجد لأنها جابت لك الشيخة مريم بنت عبدالإله. تخيل حياتك من غيرها بس؟
عبدالإله بتنهيدة : افف ياضيقة الخلق من مجرد الفكرة بس، يارجّال ميمي الحسنة الوحيدة اللي طلعت فيها من خبرتي الثلاثينية.
رفعت مريم رأسها منذ أن سمعت اسمها، لكنها سألت بعدم فهم ما إن ضحك والدها بعد أن أنهى جملته : أنتم وش تقولون فيني؟
رفعها عبدالإله وسحبها لحضنه بخفه يساعده في ذلك حجمها الصغير وخف وزنها، يقول بلين و هو يقبل خدها بقوة : نقول وش تاكلين؟ طعمه زين؟
اومأت برأسها تجيب بحماس : أيوه زين بس مو مره مثل الآيسكريم، ذوقه شوف.
مدت له ملعقتها بعد أن غرفت له القليل، ليتصنع عبدالإله أكلها بنهمٍ وتلذذ جعلها تضحك وهي تحاول أن تسحب الملعقة البلاستيكية بقوة من بين أسنانه.
عبدالإله وهو يلتقط قطعة فراولة من صحنها بأصابعه : ترى البنت تحبك.
ثم وضعها بفمه بابتسامة في عينيه وهو ينظر لعزام الذي عقد حاجبيه مشاكسًا : ميمي؟
رفعت مريم رأسها مجددًا ونظرت له : نعم؟؟
عبدالإله بتكشيرة : لا جدتي.
ابتسم عزام بمودة بانت في صوته : وأنا أحبها.
ضحكت مريم بخجل : وأنا حتى أحب..
وضع عبدالإله كفه على فم ابنته يقاطعها، يتابع بإندفاع وهو يعلم أن عزام يعرف مقصده منذ أول كلمة : ماتحبك الحب الطبيعي اللي بين البشر، لالا شي غير طبيعي يخوي، والله وهي تتكلم عنك اليوم شكيت إن كنت أعرفك صدق ولا لأ حسيتها تشوف فيك عزام غير اللي أعرفه.
ضحك عزام يشتت نفسه عن قلبه الذي بدأ ينبض بشدة اهتزت على إثرها أضلعه، ترتفع الضحكة بسعادة أكبر ما إن أبعدت مريم يد والدها بقوة، تهتف بحنق وقرف : افف طعم يدك خايس.
عبدالإله بتهكم وهو يضرب رأسها بخفه : يابنت عيب ليكون صدقتي إني عبادي؟ ترى أنا أبوك الصدقي وش فيك ماسحة باحترامي وكرامتي الأرض؟
لكنها دعت لملعقتها مهمة الرد عليه ما إن وضعتها في فمه كي يسكت. يسحب يدها بعيدًا عنه قبل أن يقول ونظرته تلهى بعيدًا عن وجه عزام : ترى دور الحزين مايلوق عليك. شكلك طالع بايخ!
عزام بابتسامة صغيرة قائلاً بنبرة مازحة : ودور القفّيط ومستشار العلاقات الأسرية مايلوق عليك.
رفع عبدالإله حاجبه بضحكة : ياخي مع إنك خسيس بس لك جانب ليّن في قلبي يشفع لك، ولا والله يا إن ودي أتوطاك وأشوتك لين يخيب ثناك ياللي ما تستحي.
ضحك عزام بخفه، ثم هدأ، وهدأت أنفاسه التي أججتها سيرة شعاع وابتساماتها التي تمطره بها في كل وقت فلا يرى العبوس أبدًا إلا إن فاق ضيقها منه قدرتها على التحمل، يقول بعد صمت قصير وهو يتفكر في حاله، يحاول وصف ما يشعر به رغم أنه متأكد من أن عبدالإله يعرف مافيه من نظرة عينيه فقط : أنا منيب حزين الحمدلله، بس إني مو عارف وش أبي من نفسي ومن حياتي وحتى من اللي حولي.
وضع يده على المقود من الأسفل، ينظر لاصابعة التي التفت حول طرفه، متنهدًا بحيرة : تقدر تقول تايه ضايع بس ما توصل إني أكون حزين باللي فات من عمري وإن شاءالله ما أكون باللي بيجي.
عبدالإله بهدوء فهو لم يتوقع هذا التعبير منه : رغم انك قاعد تستخدم مصطلحات مدري وش تبي بس عمومًا تايه ضايع حزين ما تفرق، كله واحد المهم إن ذا الشخصية اللي أنت لابسها ماتناسبك. اللي غيرّك وخلاك تقلب سوداوي وهادي وميت كذا بعد سنين عشتها حي لا تلتفت له مهما كانت حجته قوية لأن كل اللي بعقلك أمنيات ومجرد أوهام مالها أي أساس وأنت فاهم وش قصدي. يمكن مهوب وقت الكلام ذا بس عزام تذكر على حياة أبوي الله يرحمه يوم ضحكت على فصيل ولد الجيران وبعته ورقة فيها كلمات سر لعبة بالسوني بخمسين ريال؟
ضحك هادئًا ما إن تذكر : ياقدمي السالفة ذي.
تبسم عبدالإله وتابع بحماس ما إن سمع ضحكته : يومها جلدنا أخوه الملازم المهايطي بحزام بدلته جلد ماعمري ذقته بحياتي، المشكلة أنا مالي ذنب وأنجلدت معك .
عزام بضحكة مذهولة : الله حسيبه يا رجل إذني للحين ترن من كفوفه.
عبدالإله : ولا يوم سرقنا مفتاح سيارة أبوي آخر الليل ويوم جينا نوقّف ما عرفت كيف البّق.
عزام ولازالت الضحكة تختلط بصوته : ااخ يا إن جدي الله يبيح منه لعب بالعقال لعب ذيك الليلة.
ابتسم عبدالإله ونطق بعد سكوت قصير : أبي عزام ذاك الوقت يرجع.
سكت عزام بعد أن أنهى ضحكته بكحه خافته، وبقت ابتسامة صغيرة قال معها وعينه بعيني عبدالإله : لا تحسسني إني نكدي عاد.. ما تغيرت واجد بس كبرت وعقلت.
زم عبدالإله شفتيه ببرود : وأنا للحين خبل يعني؟ ترى عمري قريب ٣٨ سنة.
تأفف بخفوت : ياليل ذا الشايب اللي غث أمنا.. عبادي والله إني تحسنت الحين .
حرك عبدالإله رأسه وكأنه يرجح صحة الإجابة في عقله : الله حق ايه، فكيت شوي بس بعد.. أبيك تفك زود!
عزام وقد اتسعت عينيه : أكثر من كذا؟
عبدالإله بنبرة هادئة : شعاع تستاهل أحسن من كذا، وصيتة بعد ما أبي أتركهم وراي وأنا قلقان.
عقد حاجبيه بخفه، قائلا : اللي يسمعك يقول بتهاجر، ترى ما بيننا غير شارعين. وبعدين وش قصدك تتركهم وراك قلقان ليه أنا وش بسوي؟
تجاهل عبدالإله من كلامه مالم يعجبه، واومأ رأسه بتفهم : حتى لو،
يتابع بمرح : أحس وجودي في بيتك كان معطي حياتكم رونق خاص ونوع من التوازن.
عزام بضحكة تهكم : طيب يا أبو رونق. تطمن حبيبي وريح لي دماغك أختك وبنت أختك بأيدي أمينة.
عبدالإله بنبرة : أختي ماعليها خوف، الخوف على الضعيفة الثانية.
اشتدت العقدة بين حاجبي عزام باستياء واضح وتغيرت ملامح وجهه وكأن الجو المرح تلاشى فجأة، لا يعجبه تدخل عبدالإله الدائم حتى وإن كان لمصلحته : أقول تلايط بس ماتحس انك مصختها؟ وش شايفني عندك أنا مستحيل أضر شعاع أو أجيها بالشينة والله إني أغليها ولا تهون علي. أنا بديت أشك إنها تتشكى لك!
عبدالإله بسرعة : يمين بالله ماقد جابت سيرتك بشكوى ولو درت إني أتكلم معك كذا بتزعل.
عزام وقد اشتدت أنفاسه بضيق : أنا ماني جبّار وقليل مروّة للدرجة ذي ياعبادي, انصفني يالظالم حسبي الله عليك.
ضحك عبدالإله علّه يلملم الابتسامة التي انمحت من على وجه عزام الذي احتدت نبرته : والله أدري ما تجي منك أيتها حركات نص كم بس التكرار يعلم الحمار.
ابتسم عزام ببرود واستخفاف في وجهه : تدري، ماني راد عليك عشان لا تروح بكرة ويدك معلقه برقبتك ، مقدّر إنك عريس.
غمز له : ياعيني عليك يابرنس الليالي يامضبطني. وتقول عني مستشار والله أنت أكبر مستشار بالشرق الأوسط.
لم يبدي عزام أي رد فعل لثوانٍ قليلة ثم غير من وضعية القير وتحركت السيارة للخلف : عادك تبي مكان ولا خلاص أرجعك البيت؟
عبدالإله : افا وش فيك؟ ليكون زعلت يازومه!
زم شفتيه : غثيتني ياكلب.
فتح فمه بذهول : أحّاا أنا كلب!
عزام وقد انطلق في طريقه : وسلوقي بعد.. بروح بيت عمي شعاع ما أظن رجعت للحين ومنها أشوف جداني.
ابتسم بخفه وهو ينظر من نافذته للخارج : أجل مشينا البيت ياخلف جداني وهلي أنت.
.

 
 

 

عرض البوم صور وطن نورة ،،  
قديم 15-06-20, 12:10 AM   المشاركة رقم: 299
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2018
العضوية: 330628
المشاركات: 159
الجنس أنثى
معدل التقييم: وطن نورة ،، عضو على طريق الابداعوطن نورة ،، عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 176

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
وطن نورة ،، غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 



.
.
خرج عزام من بيت عمه بعد زيارة امتدت ساعة كاملة، من خلفه شعاع والجادل بمسافة بسيطة، يركب سيارته بعد أن فتحها عن بُعد وتركب بجانبه شعاع التي فتحت نافذتها ما إن أغلقت بابها، تتحدث مع الجادل التي بقت واقفة أمام منزل والدها : اركضي بسرعة.
الجادل على عجل : أمانة لا تمشون إلا لا سمعتوا صوت الباب.
شعاع : طيب يابنت الحلال بس روحي فكينا.
مشت بسرعة الكم خطوة الفاصلة بين منزل والدها ومنزل عمتها تهتف بسرعة وهي تسمع صوت مواء مجموعة قطط غاضبة من مكانٍ ما : طيب طيب، يلا مع السلامة.

تتبعتها شعاع بعينيها إلى أن اختفت خلف الباب المعدني الذي دوى صوت إغلاقه الحي الهادئ والفارغ في وقت متأخر نوعًا ما، تعتدل جالسةً قبل أن تلتفت لعزام الذي لم يشغل السيارة حتى، ينظر للأمام ويرمش ببطء وخدر بابتسامة طفيفة على وجهه.
عقدت حاجبيها : حرّك عزام خلاص دخلت.
نظر لها وأخرج من جيب ثوبه رزمة نقود القاها في حضنها : من جدي يقول عشانك بشرتني أمس بحمل شعاع.
ضحكت باستنكار : شدعوة للدرجة ذي طولت على ماحملت؟
غمز لها يقول بنبرة مشاكسة : ماطولتي بس كنا نطبخ الموضوع على نار هادية.
رفعت الرزمة بأوراقها الزرقاء والمجموعة بمطاط بني من المنتصف ومرت بطرف سبابتها على طرفها : ههه كم ذي؟
أدار مفتاح سيارته لتشتغل، يقول بهدوء باسم : أنتِ اللي تتعاملين مع الدراهم كل يوم، احسبيها.
كررت الحركة مجددًا أكثر من مره، وتحرك عزام من أمام المنزل يدعس علبة عصير فارغة كانت ملقاه تحت عجلته بإهمال لتصدر صوت انفجار خافت، مبتسمًا على صوتها عندما قالت بشهقه : عزام تدري كم ذي؟
عزام : كم؟
أدارت رأسها ونظرت له بذهول : خمس آلاف ريال.
قهقه بمودة : كريم ولد كريم الشيخ عزام.
لانت نبرتها بتأثر : حبيبي جدي كلف على نفسه والله.
عزام بابتسامة هادئة : المبلغ كله لك، عليك بالعافية.
ضحكت وهي تدسه في حقيبتها : تظن بقول لأ؟ شكرًا.
رفع حاجبه لازال مبتسمًا بشغب انتبهت له، ولم يعلق.. فسألت وهي تستريح بجلوسها : كيف كان يومك؟
عزام بهدوء وهو يمرر يده على جانب شعره، يقول بنبرة خدره : أبد والله ، كان طبيعي إلى أن بلكتيني.
ضحكت : شلت البلوك والله.
رمقها بطرف عينه بتهكم مازح : وش عقبه؟.. أنا خلقه أكره ذا البرنامج والحين بكرهه زيادة.
نظرت للخارج من نافذتها بابتسامة واسعة لم تظهر : ماعليه نرجع للرسايل أم ربع ريال.
همهم واكتفى بذلك، لتسأل بعد دقائق صمت فهي لم تسمع صوته طوال اليوم ولن تكفيها بعض الكلمات : جاي من البيت؟
عزام بهدوء وعينيه على الطريق : لأ طلعت أنا وعبادي شوي وحطيته بالبيت وجيتك.
شعاع برقه وهي تتأمل جانب وجهه : مشوار عليك ياقلبي لو قلت لي كان جيت مع السواق أو خليت ذيب يحطني.
عزام ببساطة : بس أنا أبي أجيك.
قالها بنبرة هادئة وهو ينظر لعينيها بشكلٍ فاجأها، ليعيد نظره للطريق ما إن صرفتها بارتباك واضح عندما قالت : وإيييه وش يقول عبادي؟
ضحك يهز رأسه بخفه وهو ينظر للشارع من نافذته دون أن يعلق، فسألت باستنكار : ليه تضحك؟
ارتفعت ضحكته : مدري بس ماني مستوعب أنه بيترك البيت خلاص. والله أحس كأنه ولدي وبيعرس ويتركني.
تنهدت بعمق : ولا أنا بشتاق له والله.
عزام بهدوء : زين إن شقته قريبة على ماوصف لي بعد شارعين من بيتنا.
ضحكت بخفة : مافهمت نيته للحين أنت؟؟ تعمّد يختارها قريبة ولو حصل له كان بناها بوسط الحوش أسرع له لا بغى يصرّف ميمي عشان ينفرد بالمدام.
نظر لها بدهشة قبل أن يعود بعينيه للطريق أمامه : اووف والله ولا جا في بالي كذا أبد،، مااااشاءالله منتي هينة طلعتي تعرفين الحركات ذي!
شعاع بنبرة ممازحة وهي تهز كتفيها : وش على بالك حبيبي أنا شعاع مو حي الله، أنت ناسي الشالية؟
عزام بنبرة ذات معنى : لا مانسيت وذا شي ينتسى؟
قالها وغمز بشكلٍ جعلها تكح بحرج تهتف بعده بندم : ياشيخ الله يقص لساني.
ضحك بمودة : بسم الله عليك... ممم تبين ترجعين البيت الحين؟
اعتدلت بجلوسها وعينها على ساعة السيارة التي كانت تشير للحادية عشر مساءً : ماتبينا نرجع؟
عزام بهدوء : الصراحة لأ، الجو حلو ومشتهي بليلة ولفة على الكورنيش.
ابتسمت تنطق بحماس : أجل قدام.
.
.
فتحت الجادل باب شقتها الغير مغلق بالمفتاح ودخلت لتجدها على حالها كما تركتها قبل أن تخرج عصرًا، الإنارة كما هي عليه جميعها مضاءه، مفتاح سيارته ومحفظة نقوده على الطاولة بمنتصف المكان، قميصه الرصاصي الذي خلعه بضيق عندما عاد من عمله على يد الأريكة، لم يتغير أي شيء، مما جعلها تنادي بتوجس : حاكم؟
لم تصلها إجابة فاتجهت مباشرةً لغرفة النوم ببابها الموارب بعد أن القت عباءتها جانبًا بنوعٍ من القلق، فسيارته بالخارج ولم يتصل عليها أبدًا وعندما اتصلت عليه أكثر من مره لم يجب،
ارتعشت ما إن فتحت الباب وصفعها الهواء البارد والظلام الدامس، فتحت الإنارة بسرعة ووجدته يلتف بالغطاء في منتصف السرير لا يظهر منه شيء، نادت بنبرة أعلى أكثر من مره : حاكم... حاكم.
تحرك حركة بسيطة بانزعاج مما جعلها تطلق نفسًا براحة، تقترب منه وتجلس بالمساحة الفارغة يمين جسده، ترفع الغطاء ليقابلها وجهه عاقدًا حاجبيه باستياءٍ كبير ثم يشد على جفنيه بقوة ما إن واجه الضوء الأبيض : طفي النور.
الجادل بقلق وهي تتأمل وجهه : بسم الله عليك نايم من ذيك الساعة؟
أعاد رفع الغطاء على رأسه : ايه والله ماحسيت بنفسي، كم الساعة؟
الجادل : قدها قريب احدعش..
أصدر صوتًا من حنجرته يعبر عن صدمته واستيائه فهو نائم منذ الرابعة عصراً وقد فاته الكثير : جادل اطفي النور جهرني الضو وأنا توي صاحي.
سحبت الغطاء مجددًا و وضعت كفها بشكلٍ عرضي على جبينه تحجب بأصابعها الضوء عن عينيه قبل أن يبدي استياءه : جوعان تبي تاكل شي؟
تنهد بضيق : والله ياليت تسوين خير.
ربتت على خده بيدها الأخرى : أبشر حبيبي بس قم غسل وتنشط وصل اللي فاتك وبتلقى أحلى بيض عيون ينتظرك بالصالة.
لف أصابعه حول معصمها ليبعد كفها عن جبينه ويضعها عوضاً عن ذلك على رأسه، يرمقها بعبوس بمحاولة صعبة لمواجهة الضوء القوي : أقولك جوعان تقولين بيض؟
ضحكت وهي تحرك خصل شعره المتموجة بنعومة : وش تبي طيب آمر تدلل؟
أغمض عينيه والعقدة التي كانت بين حاجبيه ولم يشعر بها ارتخت ما إن شعر بتوغل أصابعها في شعره، يقول بتنهيدة : فيه أندومي؟
الجادل بتأكيد : فيه اندومي.
: سوي حبتين نص استواء بالله.
تبسمت بمودة : من عيوني، تبي شي ثاني معه؟
هز رأسه ينفي ولم يعلق، يشعر بها تبتعد وتسحب يدها، يتحرك السرير ليختفى ثقلها من فوقه، ثم يغرق المكان بالصمت فهي حرصت على أن تغلق المكيف قبل أن تخرج.. بقى على حاله قليلاً ثم تحرك بكسل وفتور في عظامه وهو يبعد الغطاء عنه بحركة واحده، يتأفف بضيق متجهًا لدورة المياة.
صلى مافاته رغم أنه كان متأكدًا من أنه ضبط المنبه لصلاة المغرب قبل أن يأخذ غفوته إلا أنه وكما يبدو نام كالقتيل ولم يشعر بشيءٍ حوله.
خرج للصالة الفارغة، وارتمى جالسًا على أحد الأرائك وهو يسمع صوت حركتها في المطبخ.
أسند رأسه للخلف وأغمض عينيه و هو يشعر باهتزاز هاتفه في يده دلالة على وصول عدد من الرسائل توقع أن تكون من قروب أصدقائه فهم الوحيدون الذين لا يعرفون قراءة الساعة ولا يحترمون الوقت ولم يهتم بإلقاء نظرة حتى فهو يعرف -مع كامل الاحترام طبعًا- بفراغ مايتحدثون عنه وتفاهته.

شعر بنسيمٍ يهب عليه ويغطيه، ولم يكن هذا إلا اقتراب الجادل التي إنحنت تضع الصينية الصغيرة على طاولة الضيافة أمامه، تسأل بهدوء : للحين مصدع؟
عقد حاجبيه بخفه وهو يتحسس جبينه : لا راح بس أحس راسي ثقيل تقل بلكّه.
سمع الرقة في صوتها : سلامة راسك بس طبيعي ياعيني وأنت نايم أكثر من سبع ساعات، زين منك قدرت ترفع راسك من المخدة.
رفع رأسه واعتدل بجلوسه، يقابل صينية عشائه منحنيًا بظهره قليلاً ويضم كفيه أمامه، لتعلق بمودة وهي ترى تجهم ملامحه : فديته أنا أبو وجه مفقع الشبعان نوم.
ضحك بخفه وعينه على شاشة التلفاز المغلق بخمول، يلف بعينيه عليها بعد ثوانٍ حيث جلست على الأريكة الأخرى : مع مَن رجعتي؟
اتسعت ابتسامتها وهي ترى بياض عينيه الذي خالطه احمرار طفيف، شعره المبعثر في كل اتجاه دون أن يكلف نفسه عناء المسح عليه، وابتسامته الخدره : شعاع وعزام انتظروني لين دخلت.
حاكم : ماشاءالله عزام جاكم!
هزت رأسها وهي تسمع صوته المثقل من فرط النوم وكم تتمنى أن تقترب لتقبل جفنيه المنتفخين، فتابع بابتسامة خبيثة : فرحان هاه!
ضحكت بخفة : اووه كشرته من الأذن للإذن. أصلاً لو تشوف اللي سواه جدي يوم شافه ولا جدتي ياساااتر،، ذا الورع اللي بيجي لو ما أعرف مَن أمه وأبوه كان قلت صلاح الدين الأيوبي.
ضحك حاكم بهدوء وهو يحرك شوكته في صحنه لتتصاعد الحرارة : الله يرزقه بالخلفه الصالحة ، ثقل وعقل لايق عليه يصير أب ويتحمل القروشة ومسؤولية أطفال.
الجادل بنبرة مشاكسة : حتى أنت حبيبي يلوق عليك تكون أب رغم أنك نكوتي كوتي كوتي، لا تتحسس.
حاكم بذات الهدوء وعيناه لازالت مسلطة على مافي صحنه يلف الشعيرية حول شوكته : قريب إن شاءالله.
لم تتوقع إجابته فاعتدلت جالسة بعد أن كانت تستند على يد الأريكة باسترخاءٍ تام، تقول بضحكة مرتبكة : لا تعطيني تلميحات من تحت الطاولة ترى والله أبدأ أتوتر وأتهرب منك.
ضحك بخفة : لا تكفين كله ولا إنك تتهربين مني. خلاص نبي أمورنا تزين ونبدأ نعيش زي الخلق يابنت الحلال.
انتهى من جملته ونظر لها نظرةً باسمة جعلت نبضها يضطرب رغم السكون فيها، لتتمتم بخجل : الله يزينها من عنده.
فلتت ضحكة خافته أخرى من بين شفتيه على تعابير وجهها المحمرة والتي لا يراها إلا نادرًا، فصرف بصره عنها وهو يقرب شوكته من فمه، ينفخ على الشعيرية الملفوفة حولها ثم يسأل قبل أن يضعها في فمه : عندي ثوب نظيف لبكرة؟
سحبت ربطة شعرها لتنتثر خصلاته الكثيفة على كتفها، تخلل أصابع يديها بين خصله من الأمام وتدلك فروتها، تقول باسترخاء وهي تتثاءب : ايه كل ثيابك مغسله ومكويه ماعليك بكرة إلا إنك تفتح الدولاب وتتنقى.
نطق حاكم بصعوبة بعد أن وضع لقمة أخرى في فمه : ماقصرتي.
ثم سأل : أخذ عبادي الجزمة ولا مامداه يمر؟
اسندت جانب رأسها على قبضة يدها المرفوعة وهي تتأمله : لا أخذها وأنا بصراحة مصدومة منك ومنه ومنكم يالعيال بشكل عام.
ضحك : وراه؟
الجادل برمشات مستنكرة : متقاطين بحذاه!!!!
حاكم بمزاج رائق : حبيبتي ذا يسمونه تدبير مالي محنك يعني تقدرين تقولين عشانك ياقلبوسي اقتصدت بالفلوسي. وبعدين ذا كله لجل عينك عشان آخر الشهر تلقين سبعتالاف ريال تشترين فيها شنطة كبر كفّي.
الجادل بنبرة : ياخوفي تتقاطون بأشياء ثانية بعد!!
ضحك حاكم بقوة : لا تطمني الموضوع مايوصل للأشياء الشخصية.
تثاءبت مجددًا تقول بثقل : أكيد؟ أخاف بكرة القى سروال عبدالله بدولابك.
كشر : الشفافية ماشية ألف،،
ضحكت : قلت أقول.
حاكم : لا عاد الله يخس إبليس ماتوصل للدرجة ذي.
تكركرت باستمتاع على ملامح وجهه : الله يطمنك... خلاص مدير أنا طفيت بقوم أنام بكرة وراي قومه من الصبح ومليون شغله وشغله اليوم خلص بسرعة ولا سويت شي،
حاكم بهدوء : وش الخطة بكرة؟
ابتسمت فهذه جملته قبل أي حدث : ااه فل شغل بكرة، بتجيني ريم بسوي شعري وشعرها وأشخمط وجهي و وجهها ههه.
فتح قارورة الماء يقربها من فمه : والمصَلحة؟
الجادل : العرس عائلي ومحفوف جدًا ما يسوى مصلحة على قولتك.
ابتسم ابتسامة عريضة : ياعيني عليك الحين أقدر أقول إنك صرتي ذات تدبير مالي محنك.
وقفت تضحك بمودة : ايه حط في بالك إني عشانك ياقلبوسي قاعدة اقتصد بالفلوسي،، خلاص تايم تو سليب بيْب إن بغيت شي ناديني بفز من عز نومي وأجيك.
وضع لقمه أخرى في فمه يقول وهو يمضغها : بخلص ذا اللقمة والحقك للحين براسي نوم ما شبعت.
ابتسمت وهي ترى طريقته النهمة في الأكل والتي تبين مدى جوعه : تصبح على خير.
اومأ كإجابه ورأسه في صحنه، واكتفى بذلك، لكنها ما إن عبرته حتى ورفع عينيه يتبعها ويدير رأسه ناحية غرفة النوم التي أخذت طريقها اليها والشعيريه تتدلى من فمه، يتنهد على شعرها الأسود الذي كان يغطي ظهرها بشكلٍ ملفت، ليسحب الشعيرية بنفسٍ واحد لداخل فمه ما إن اختفت عن مد نظره.

في تلك الليلة وللمرة الأولى تمدد حاكم على جنبه الآخر يوجه وجهه ناحيتها، ولكن وللمرة الأولى أيضًا نامت الجادل على جنبها الآخر تعطيه ظهرها.

.
.

توقف عزام على جانب الطريق المؤدي لشاطئ نصف القمر حيث العربات القليلة لبيع البليلة والآيسكريم وغيرها تقف خلف بعضها، يسأل شعاع الجالسة بجانبه وهو يفتح حزامه : كم وحدة تبين؟
شعاع : وحدة ثنتين اللي يطلع معك جيبه أنت كريم وأنا استاهل.
ضحك بخفه : لا إله إلا الله مافيه إلا قوة فَرم.
مدت شفتيها بزعل وضح بصوتها وهي تنظر للطريق من نافذتها : خلاص ما أبي لا تجيب شي.
فتح بابه لازال يضحك : بجيب لك ثلاثة جعلها مداخيل العافية.
حاولت أن تقاوم ابتسامتها فلم تستطع، فتحت نافذتها وهتفت بصوتٍ عالي وهي تخرج رأسها منها : كثّر كمون أجل.
رفع عزام كفه بإشارة منه بأنه سمع، تتابعه بعينيها بدقه، يقف أمام السيارة الكبيرة، قبل أن يمد النقود ويأخذ الكيس الشفاف وطلبهم الذي بداخله، ثم يعود لها، يضع ماكان بيده بالفراغ بينه وبينها ويتحرك من مكانه في الطريق الطويل الفارغ والذي كانت تضيؤه أعمدة الإنارة على امتداد جانبيه. ورغم أن شعاع تعرف بأن الطريق الذي أخذه عزام بعيد جدًا عن الكورنيش الجديد حيث البشر، إلا أنها سكتت تستمتع بصحبته وسكونه وهدوء الليل.

توقفت سيارته أخيراً عندما أصبح البحر على بُعد ضغطة واحدة على دواسة البانزين، إذ أن الموج كان قريبًا لدرجة أنه يلامس عجلات سيارته الأمامية في كل مرة يمتد فيها على الشاطئ، تنتشر الإضاءة الأمامية لأنوار سيارته على امتداد سطحه الأسود أمامه لتصبح مصدر الإنارة الوحيد في المكان الفارغ تماماً.
شعاع وهي تتلفت بعينيها في الخلاء المظلم، تضغط على زر الإنارة الأصفر بمنتصف السقف لتنير السيارة : يخوف المكان.
عزام بابتسامة هادئة وهو يمد لها صحن البليلة البلاستيكي الأبيض وملعقة من نفس اللون : بالعكس استكنااان.
أخذتها منه وخلعت نقابها لتضعه على الطبلون أمامها : ليه مافيه ناس؟
عزام بروقان : مادام معايا القمر مالي ومال النجوم؟
ضحكت تسأل باستنكار : تصدق توني أدري إنك تحب البحر!!
ابتسم بخفه : مو عن أحبه بس يعجبني الهدوء هنا وإن أصوات الناس مهما ارتفعت فيه صوت يغطي عليها.
عضت قبضة يدها بخفه، تقول ممازحة : اااخ يابشر ده طلع حسّاس وكمان شاعِر .
خلعت طرحتها تضعها حول رقبتها وهي تسمع ضحكته بعد الذي قالت، لكنه بترها فوراً باستنكار وهو يراها تنفض شعرها بعد أن التصق ببعضه بعد الذي كان يغطيه، لتبرر قائلة : مافيه أحد يا أخي.
تمتم وهو يفتح غطاء صحنه : زين بس لا تاخذين راحتك واجد يا أختي ترانا مو بمقطعه ممكن بأي دقيقة يجي أحد.

مرت دقائق وكلاهما يأكل، لا شيء مسموع سوى صوت الموج وبعض حشرات الليل التي غطت السكون، مع ذلك لم يكن هناك ملل أو ضيق من قلة الكلام.. خصوصاً بعد أن شبكت شعاع هاتفها ببلوتوث السيارة، تمد يدها وتخفض من صوته حتى بدا مايذاع منه كالخلفية الموسيقية لصوت البحر.
عزام بهدوء وهو ينظر للبحر أمامه : ترى ذا مزبني لا ضقت جيت و وقفت سيارتي هنا ونمت.
عقدت حاجبيها بخفه واستنكار : عزتي لي وأنا اللي كنت أظنك تكرف بالدوام طول الوقت!!
ثم أردفت عندما لم تجد منه تعليق : كل مالك وتصدمني، أول شي شاهي أبو مدينة وبرج الموية والحين بليلة والهافمون، وش باقي؟
ضحك متفاجئًا سؤالها وهو يضع يده على فمه كي لا تقع حبات البليلة منه : باقي معصوب أبو هلال وبر ويصير كشفت لك كل أوراقي.
شعاع بحماس : عاد المعصوب عشقي.
رفع حاجبيه بدهشة : صدق والله؟!
هزت رأسها بابتسامة وهي تقلب ملعقتها بين حبات البليلة : إي والله، بالذات المعصوب الملكي ايباااه.
عزام : من متى تاكلينه وليه توني أدري ؟
شعاع بضحكة وهي تنقل الشمندر بملعقتها من صحنها لصحنه : البركة بعبادي وذيب طيحوني فيه طيحة قشرا، وأما ليه توك تدري بصراحة ماعندي جواب.
مسك معصمها قبل أن تضع ملعقة أخرى بصحنه : خلاص يكفي تراني شايفك من أول وساكت.
قهقهت متفاجئة : شدعوة تراه شمندر زين لك يرفع دمك.
عزام وهو يرفع ملعقتها لفمه : بقلب عنابي من كثر اللي دفيتيه لصحني وأكلته خلاص ذي آخر دفعة.
قالها وهو يضعها في فمه، يترك معصمها ما إن انتهى، لترتخي يدها حتى استقرت في حضنها بعد حركته هذه. تبتسم ببلاهه.

ما إن انتهى من أكل صحنه حتى وضغط عزام الزر الجانبي لكرسيه ليسدحه للخلف، يتمدد بظهره عليه يربت على بطنه بيد وفي يده الأخرى هاتفه يتلهى بقراءة بعض التغريدات. بكل تلقائية وكأنه يمارس طقوسه التي اعتاد على القيام بها سابقًا، بابتسامةٍ طفيفة على وجهه بعد أن رمق شعاع بطرف عينه، والتي ما إن انتهت من أكلها هي الأخرى حتى ومدت يدها خارج حدود النافذة المفتوحة مستمتعة بالهواء البارد الذي يصطدم بكفها ويعبر من بين أصابعها، تدندن بخفوت وانسجام مع مايصدح من المسجل، ليسترخي عزام في تمدده أكثر حتى شعر وكأنه يغرق بالقطن، يأخذه صوتها ودندنتها لعالم آخر، كان هدوءًا آسرًا وكأنه عالم من خيال لدرجة أنه وضع هاتفه على صدره، يرفع ذراعه فوق رأسه وينظر للسماء السوداء الملبدة بالبياض من فتحة السقف العلوية بعد أن أبعد ماكان يغطيها.

: عزام أبي أنزل عادي؟
خرج من شروده وعقد حاجبيه ينظر لها : تنزلين وين؟
شعاع : أقعد قدام البحر.
نظر حوله : الدنيا ظلام أخاف يقرصك شي.
مطت شفتيها بامتعاض وهي تنظر للخارج : حسافة عاد الجو يهبل.
سكت قليلاً وهو يتأمل صدودها والدلال فيه، قبل أن يستقيم بجلوسه : ولا أقولك دقيقة دقيقة....
قالها وهو يعود بالسيارة للخلف مسافة بسيطة نوعًا ما ويرفع الأنوار الأمامية لأعلى درجة حتى أصبحت تنير المكان وكأنها شمس، يقول بابتسامة ودودة وهو ينظر لها : انزلي.
أشرق وجهها بشكلٍ غريب وكأنها لم تتوقع منه : صدق!
عاد يسترخي متمددًا على الكرسي يقول بنبرة ممازحة وهو يرفع هاتفه : ايه صدق، بس عاد انتبهي لا يجرفك الموج ترى مالي بالسباحة.

نزلت وأغلقت الباب بهدوء تخلع حذاءها وتتركه خلفها ولم تأخذ معها إلا هاتفها، تجلس على الرمل أمام السيارة بتنهيدة عميقة وابتسامة واسعة وهي تشعر بشيءٍ عذب يلاطف روحها ويطير بها لسابع سماء، غير قادرة على السيطرة على مشاعرها في هذه اللحظة، تندفع المشاعر كلها مع بعضها دفعةً واحدة، الف شعور وشعور يعصف بها كان يزعزعها ويدخل بينها موضوع الجادل الذي صدمتها به، وكأنها النقص الذي يعكنن الفرحة الكاملة, فالموضوع كبير ومجرد التفكير به يجعلها تضع يدها على رأسها من هوله خصوصًا وأن الجادل رفضت اخبارها بالسبب.
رفعت هاتفها وكتبت بعض الكلمات وهي تشد على شفتيها، ترسلها لها قبل أن تضع هاتفها جانبًا (ليتك ماقلتي لي بموت من القلق والتفكير -مع وجه أصفر بتقوس شفاهٍ حزين-)

تنهدت بعمقٍ مجددًا وهي تغمض عينيها، تشد ذراعيها وتقرب أقدامها لصدرها، تبتسم باستمتاع ولا شيء يعكر صفو الجو والمكان واليوم الذي بدأ لطيفًا خفيفًا وانتهى بهذه السعادة برفقة عزام سوى الابتسامة الصغيرة الضائقة على محيّا أختها الوحيدة كلما قال لها أحد "عقبالك"، لتجد أن راحتها بالدعاء، رجت الله أن تصطلح الأمور بينهما عاجلاً فلا شيء أقسى من كسرة القلب وهي تعرف أن أختها تحبه والصدود والرفض حتى وإن كان لغاية مؤقته موجع للحد الذي لا شفاء بعده.

اعتدل عزام بعد أن تملل مما كان يضيع وقته به، ورفع جسده ليجلس، يضع ذراعيه على المقود ويتقدم بجذعه للأمام قليلاً ليسند ذقنه على كفيه وهو يتأمل التي جلست بين الأنوار لتبدو كمصدر نورٍ آخر.
يجد أنه يسرح بالفراغ، لا شيء في عقله سوى الهدوء رغم زخم مايشغله فيه، الكم الهائل من المشاعر والأفكار، لكنه وبشكلٍ ما كان يشعر بالسكينة والرضا يحيطانه حتى بدا وكأنه لم يشقى قط..
ابتسم، يفتح بابه دون أن يغلقه خلفه، يتقدم بخطاه الخفيفة على الرمل حتى جلس بجانبها بهدوء، يلف ذراعيه بارتخاء حول قدميه الشبه مضمومات لصدره ويكتفي بالنظر للأمام دون أن يتفوه بكلمه.

مرت الدقائق بهدوءٍ مستساغ صوت الموج هو المعزوفة الوحيدة المسموعة فيه حتى فتحت شعاع عينيها على صوته يسأل : وش قاعدة تسوين صار لك ساعة؟ تشكين همومك للبحر.
شعاع بابتسامة : الحمدلله ماعندي هموم، بعدين وش هالدراما أنت مصدق سالفة إن الواحد يقابل البحر ويفضفض له؟
هز رأسه بخفة : صادقه والله البحر تكفيه ملوحته ماهو ناقص غثى.
شعاع بهدوء ونظرتها للأمام : كنت أفكر بالجادل.
عقد حاجبيه باهتمام : وش فيها الجادل؟
تنهدت شعاع بيأس : مافيها شي بس بزر ومشغول بالي عليها.
ثم التفتت تنظر له وتقول بنبرة وهي تتأمله : وقاعدة أفكر فيك.
ضحك بخفة : وش فيني أنا بعد؟
تنهدت بحب بائن لم يخفى عليه : ما فيك شي بس دايم شاغل تفكيري.
أغرقته النبرة والنظرة، فقال بصدق : لا ينشغل بالك علي، طول ما أنا معك فأنا بخير.
لم تتخيل ولا في أكثر أحلامها عذوبة كلامًا كهذا، تنهدت بعمقٍ تصرخ : ااه ياناااااس.
ولم تجد ردًا يعطي جملته التي قالها حقها فصمتت بعد ذلك وهي تسمع ضحكته، تعاود استراق النظر له بعد أن عاد هادئًا كهدوء البحر، حتى آلمتها عيناها فالتفتت تنظر لجانب وجهه عيانًا بيانًا دون أن تكترث، تتنقل ببصرها ببطء من خصل شعره الشبة طويلة والتي بدأت تتطاير مع الهواء لعكفة رموشه، استقامة عظمة أنفه، بروز شفتيه، شاربه وعوارضه المشذبين بترتيب، تجويف خده الذي برز في ارتخاء ملامحه، أدّق التفاصيل،، حتى قلاب ثوبه المفتوح بإهمال ليكشف عن الجزء البارز في منتصف حنجرته، إلى أن رفعت عينيها والتقت بطرف فمه الذي ارتفع بابتسامة ثقة ما إن شعر بأن نظراتها اللاهبة ستحرقه، لتقول بتنهيدة لم تُخفي شيئًا مما تشعر به : الجو يهبل ماشاءالله.
رفع كتفيه ببساطة : شتا.
مددت ساقيها أمامها، تدلك ركبتيها، وتبتل أطرافها بمد البحر، تنتفض بخفة من برودة الماء وتنطق بزفرة ونبرة : ايييه يازين الشتا والله. أحبه أكثر شي.
ضحك عزام بخفوت ما إن فهم ما تعني ولشيءٍ آخر طرأ عليه، فالتفتت بحاجبين معقودين تسأل : وش؟
نظر لها بقهقهه خافته وعينين تلتمع بشغب : والله لو أقولك تضحكين.
تضارب النبض في صدرها وهي ترى وجهه بوضوح والظلال تتراقص عليه من النور الساطع خلفه، تلح عليه بانفاس مسلوبة : ضحكني طيب، وشو؟
ارتفع صدره بعد نفسٍ أخذه، يقول بخفوت وهو يزفره ببطء، وطرف فمه يرتفع بابتسامة محرجة بشكلٍ واضح : ليتني طعتك بموضوع الإبر المنشطة أحس ماراح أكتفي بولد واحد.
ضحكت بعمق وصوت ضحكتها تردد بالمكان، تخزه بعد ذلك بنظره وتنطق بتهكم : سبحااان الله هذا اللي قام يتريق على فكرتي ويقول حزم بقدونس!!
عزام بهدوء لازال ينظر لها بذمةٍ وضمير : ماكنت أدري إن إحساس الخبر بيكون حلو كذا!
ابتلعت ثقلاً تشكل في حنجرتها كالعبرة، كان هذا الاعتراف الأعذب من بين كل الاعترافات التي كانت قد سمعت بها، شيءٌ في حروفه أذاب قلبها لينًا ومودة.
تنقلت ببصرها بين عينيه بهيام واضح، تقول بعذوبة : ماعندك مشكلة يابعد روحي أنت المره الجاية ناخذ إبر وش ورانا أهم شي ما تقعد بخاطرك.
اتسعت ابتسامته وعاد ينظر أمامه يقطع النظرة التي طالت : إن شاءالله.
ثم أردف لا يعلم لماذا : أنتِ متعودة كل ماطلعتي مع عبادي تتكلمين عني؟
ابتسمت حتى تحولت الابتسامة لضحكة دهشة : مو دايمًا بس تسعين بالميه من طلعاتنا إيه.
رفع عزام حاجبيه بفضول : ليه؟
شعاع بعد ثانية صمت : لأنك المحور اللي يدور حوله كوني لذلك تشوفني بس أتكلم عنك والاقي نفسي جايبه سيرتك بأغلب المواضيع غصب عني.
قهقه ضاحكًا رغمًا عنه بعد أن باغتته إجابتها : أنا كذا أبدا أصدق نفسي ويكبر راسي ترى.
شعاع : مايكبر ياعم هو أنت شي بسيط!. أتوقع أي أحد يعرفك لازم يتكلم عنك بدون شعور حتى لو كان ذم، فيك شي لا يقاوم.
ضحك : لا يرحم أهلك إلا الذم ابعديني عنه. نبي نكون بالبوستف سايد قدر الإمكان.
رفعت حاجبها تهتف بشقاوة : وعشان أبري ذمتي ترى أحيانًا تنفلت أعصابي وأسبّك وأمسح فيك البلاط.
أدار وجهه عنها للأمام علّه يخفي ابتسامته الواسعة جدًا : أنا قايل لازم أمنع طلعاتك معه.
لكن شعاع لم تلتفت بعد قوله هذا والصمت الذي ساد المكان، بل بقت تتأمله وكأنها ترى الإعجاز متشكلاً أمامها، تحفه لايمكن وصفها، حب لا يمكن لقلبٍ تحمله، إلا قلبها فهو قد غرق حبًا به ولازال يسأل هل من مزيد!
ابتلعت ريقها وهي تشد نفسًا حادًا لرئتيها، تمرر لسانها على شفتيها وتقول بهمس مسموع بعد دقائق ليست قصيرة : عزام.
التفت بوجهه ينطق بشكلٍ عفوي : لبيه؟
لانت ملامحها حتى شعرت بها تسيح كالزبدة، وابتسمت تقول برقه : تدري إني أموت فيك؟
رفع حاجبيه متفاجئًا مما قالت رغم أنها ليست المره الأولى لكن ولأول مره يشعر بقوة الكلمات على قلبه، ليعلن حالة استنفار ثارت لأجلها نبضاته، يشعر بإحساسٍ عذب يلامس فؤاده ليقول بابتسامة : وش مناسبة هالكلام؟
ثم يتابع ممازحًا عله يحافظ على ثباته أمام طوفان المشاعر الذي ضرب بسفينته : إن كان عشان الفلوس خلاص قلت لك الخمسة حلال عليك والله ما آخذ ريال.
قوست شفتيها بعتب : اخص عليك اللي يسمعك يقول أول مره اقولها لك!
عزام بضحكة مودة خافته ذابت معها حدود عينيه : أمزح معك بس أنا دمي ثقيل حبتين.
مررت لسانها على شفتيها مجددًا بتردد : أنا أدري إني أكررها فوق راسك إلى أن مليت منها، بس أنا صدق أحبك ياعزام. أحس روحي معلقة فيك بشكل يخوفني على نفسي ساعات طلبتك لا توجعني فيك.
مرر كفه على شعره وهو ينظر لها، عسى أن يخفف من ثقل الشعور الذي عصف بقلبه وهو يرى التماع سطح عينيها : طيب وش المشكلة, زيديني عشقًا زيديني.
دندنها وغمز، لتضحك بهدوء وهي تتأمل وجهه بحب لو لف العالم كله لن يجد شخصًا يعطيه ربعه، تهتف برقه : أحبك وأنت كذا.
عقد حاجبيه بخفه : كيف كذا؟
أخذت نفسًا عميقا براحة، تصرف بصرها للبحر أمامها تخفي ارتباكها : يعني... رايق مخك فاضي وبالك مرتاح ونظرتك صافية بشي غير نظرة إنك مو طايقني بحياتك.

تصلبت أطرافه بعد أن سكتت، يلمح بروز عظام فكها وهي تضغط على أسنانها بقوة، وكأنها تنتظر تعليقه،
شعر بشيءٍ غريب يسكن صدره، إحساس بالحرارة وكأن أحدهم صفع جدار قلبه..
ابتلع ريقه أكثر من مره حتى جف وأصبح بلعه يحتاج مجهودًا لذلك، يأخذ نفسًا عميقًا آخر، يفتح فمه ويغلقه ولا شيء يخرج معه.
مشكلته وعلته أنه لا يعرف التعامل مع الكلمات، فاشل بالتعبير، غير جيد في الإنشاء!
هو ومنذ مده طويلة لم يواجه نفسه ليتحدث بشجاعة بما يشعر به، شخص اكتفى بنفسه وحب أمه ومن حوله، يرضع الحب والاهتمام منذ ثانيته الأولى في هذه الحياة، يأخذ دون أن يعطي أو يبرر، ولم يكن أحدٌ منهم يطلب أكثر من ذلك بل كانت قمة رضاهم تكمن باغراقه بالعاطفة والاهتمام دون انتظار أي ردة فعل منه. وكان مرتاحًا متعايشًا حتى أتت شعاع!

ارتخت ملامحها المشدودة والتفتت تنظر له، تقول بضحكة لا طعم لها ولا لون : وهقتك ههه؟
عقد حاجبيه بخفه، يخفض بصره رغم أن وجهه لازال ناحيتها : مو عن بس... صدمتيني!
ابتسمت بضيق وحسرة : اسفه.
رفع بصره عندما سمع نبرتها المعاتبه وكأنها كانت تتوقع شيء وماسمعت كان النقيض تمامًا، ليشعر بإنهيار جميع حصونه وهو يرى النظرة المخذولة التي تنظره بها، ليقول بإندفاع وانفعال : شفتي،، هذا اللي ما أحبه فيك إنك تعيشين حوار بينك وبين نفسك ماله أي أساس،، من قال إني مو طايقك أنتِ منين تجيبين ذا الهرج؟
شعاع بهدوء : عزام والله العظيم لو تلف وتدور من هنا لبكرة مابتلقى شخص يفهمك ويعرفك كثري، أنا حافظتك لدرجة إني أعرف تفسير كل حركة تطلع منك أدري متى تجامل ومتى تكره الشي ومتى تحبه. بداية زواجنا معاملتك لي كانت معاملة واحد يتمنى يكون الموت بيده عشان يرميه علي.
ذبلت عيناه بتحشرج صوتها مع آخر كلمة نطقتها : الله يهديك بس.
زفرت بضحكة مكتومة وهي تتعمد أن تضع عينها بعينه متجاهلةً نواح قلبها : يارجّال خلنا نكون واقعيين والصراحة راحة أنا لو بهتم كان من أول يوم وأنت مكشر بوجهي شلت قشي ولملمت نفسي وطلعت تاركه لك المكان، أنت ماكنت طايقني عادي والله ههه، وكنت أشوف الكره بعيونك حتى إني كرهت نفسي وحسيت إني سبب تعاستك، بعدها تغير الكره لشي ثاني يمكن رضا ورضوخ للأمر الواقع وكأنك استسلمت.. لدرجة إني في كل ليلة أسال نفسي إن كنت أنا سبب عبوسك وضيفتك طول اليوم أو لأ.
زم شفتيه قليلاً يبحث في عقله الصدئ عن شيء يواجهها به، وعندما طال صمته عادت تزفر ضحكةً أخرى تعيسة وهي تنظر للأمام.

سادت ثوانٍ صامتة وعزام يشعر بقلبه ينبض بقوة وكأنه سيموت ويقاتل لليتشبث بالحياة، يبتلع ريقه أكثر من مره وهو يشعر بالتشتت وصوت موج البحر زاد منه... يقول محاولاً وحديث عبدالإله يرن كالجرس بمنتصف عقله : لا والله أبدًا، بالعكس.. يمكن لو ما أخذتك كان حياتي ما مشت بعد اللي صار .. أقصد يعني. اق. اا..
شعاع بذبول وكأن شموعها انطفأت مرةً واحدة وهي تسمع تلعثمه وترى هلعه : عارفه وش تقصد مايحتاج تبرر ههه..
اتسعت عينيه بدهشة : تعرفين؟
أومات برأسها وهي تحاول رسم ابتسامه على وجهها قبل أن تنظر له : كنت عارفه من زمان، وأتوقع الكل كان عارف ياروحي لأنكم كنتم مفضوحين بشكل ههه، وكان قلبي يوجعني في كل مره أشوفك تتسحب للسطح عشان تقابلها لدرجة أنوي أعلم جدي وعمتي سارة عنكم بس أتراجع بآخر لحظة.
ابتلع ريقه بارتباك : قصدك أقابله ههه. وأنا اللي كنت أظن أمي وعبادي بس يدرون طلعت القبيلة كلها تدري!!
تقوست شفتيها بحزن ولم تعلق رغم أنها حاولت أن تقول شيئًا تلطف به الجو.. ليأخذ عزام هذه المهمة على عاتقه ويقول بظرافة رغم ضيق صوته : أجل كنتي تراقبيني؟
اخفضت بصرها عن مدى وجهه، ليخفض بصره معها حيث ابهامها الذي بدأ يرسم على الرمل أشكالاً عشوائية، تقول بخفوت : كنت حب الطفولة إذا ماعندك خبر! بس زي الحلم قريب وبعيد بنفس الوقت.
علقت أنفاسه في جوفه وذات الشعور اللطيف يباغت قلبه بقوةٍ هذه المره حتى شعر بنبضاته تخرج من عينيه، ليقول وهو يبتلع ريقه : افاا،، كنت؟!! والحين وش طيب؟؟
ارتفع طرف فمها بابتسامة، تنظر له من بين أهدابها رغم أنه لم يرفع عينيه لها : والحين شي تعدى الحب للأسف.
قهقه رغمًا عنه ما إن نثرت بعض الرمل عليه، يقول وهو ينفض ثوبه منه، ممتن بأنها غيرت الحال الثقيل الذي ظللهم قبل دقائق : سلامات وش للأسف ذي؟ اسحبيها أحسن لك لا أدفنك هنا.
شعاع وهي ترمقه بطرف عينها تقول ممازحة : والله عاد مشاعري وأسفي وبكيفي!
ثم أخذت نفسًا عميقًا بعد ضحكته الضيقة : اعذرني عزام يمكن سؤالي يصحي قصص نايمة بس أحس الموضوع للحين مأثر عليك.
عقد حاجبيه : أي موضوع؟
شعاع بتردد وهي تصرف بصرها عنه : موضوع الجوهرة.
رفع حاجبيه بمعنى "اهاا" وسكت، واحترمت شعاع ذلك فهي تعلم ثقل الموضوع في نفسه، بعيدًا عن الحب حتى.
تسأل بتردد : أنت للحين تحب الجوهرة؟
انتفض من سؤالها : أنتِ سامعة وش تقولين؟ قاعدة تسأليني عن شخص من الأساس ماكان موجود.
شعاع بحذر : بس فهد للحين موجود.
نظر لها بحده جعلتها تبلع ريقها بندم، تقول بارتباك : بالنهاية اثنينهم نفس الشخص.
رفع عزام رأسه للأعلى، ينظر للسماء السوداء إذ أن حتى القمر اختفى خلف التكتلات البيضاء للسحب ليسطع ضوؤه بشكلٍ هزيل في سطوة الظلام. يطلق نفسًا ملتهبًا خرج أبيضًا بسبب برودة الطقس وكأنه يحاول السيطرة على انفعالاته : للدرجة ذي تشوفيني غير سَوي؟
شعاع بهلع : لا والله مو هذا قصدي.
عزام : أجل وش قصدك؟ كلامك ماله إلا معنى واحد وأنا فاهمه.
شتمت نفسها وقالت بتبرير : لا والله عزام أنت فهمت غلط وإن كان كلامي زعلك انسى إني فتحت فمي من الأساس.
تنهد بضيق : من متى والسؤال ذا يدور بعقلك؟
"ياربي أنا وش سويت؟" : ماعمره طرى علي أصلاً توه طرالي وما أبي أعرف شي خلاص، قفل على هالموضوع أساساً غلط نتكلم فيه وهو منتهي والحكي فيه لا بيقدم ولا بيأخر.
عزام وعينه عليها : أنتِ تظنين إني أفكر بفهد كل ماشفته؟
اتسعت عينيها بهلع تشعر وكأنها ستبكي : لا والله العظيم ياعزام، أنا اسفه تكفى اقفل على الموضوع خلاص.
لكن عزام ولشيءٍ في نفسه كان يحتاج أن يتكلم عن هذا الموضوع بالذات، إن لم يكن لأجلها فهو لأجله : ترى نظرتي له ماتتعدى كونه ولد عمتي، حاله حال حاكم وناصر.
شعاع بنبرة مثقلة بالندم : والله أدري!
ليتابع بهدوء رغم ثقل لسانه : الفكرة مأثرة علي ما أنكر، فكرة إني كنت متعلق بالجوهرة وهي ولد لكن مو فكرة إنها ماعادت موجودة، لأنها كشخص ماعادت تفرق معي.. تجاوزتها من زمان والله...
كانت نبرته وكأنه يتوسلها أن تصدقه، وارتاحت شعاع لذلك فقالت مشاكسة رغم نبرتها المثقلة بالعبرة : عيني بعينك أشوف.
ضحك بدون نفس وهو ينظر لها، ليجد في وجهها وابتسامتها الرقيقة ما يبحث عنه، طريق النجاة الوحيد لنعيمٍ لا يفنى، يقول بتنهيدة متعبة : فيه أشياء ماتنتسى ياشعاع، وفكرة إنك مجبور تتعايش معها مهما قدرت تبقى صعبة.
ثم ابتلع ريقه وأردف بصعوبة : حقيقة إنها ولد وأنا كنت أميل له وأحبه ماني قادر أتخطاها مهما حاولت..
تقوست شفتيها بعطف وهي تلاحظ بروز عروق رقبته، وارتفاع بروز عنقه وانخفاضه أكثر من مره، لتقول مواسيه : ماكنت تدري، لا تقسى على نفسك.
عزام بزفرة وهو يصرف بصره للأمام : اسمعي شعاع يمكن تكون ذي الفرصة الوحيدة اللي نتكلم فيها عن هالموضوع عشان كذا خليني أبيّن لك الشي اللي منتي فاهمته. أنا كنت أحب الجوهرة إيه ما أنكر، وكنت أبي،،، أتزوجها.... إيه ما أنكر. بس الجوهرة أختفت واختفى كل شي معها ولا بقى إلا إحساس غريب ومقزز بإني كنت أحب رجّال هو اللي ثابت، حتى لو كنت ما أدري... شلون ماحسيت إن فيه شي غلط؟ قلبي شلون ما استنكر هالمشاعر الغلط؟..... أحاول أرقع لنفسي وأقول كنت صغير ويمكن كانت غلطتي إني كنت مندفع بمشاعري وتمسكت بأول شخص دق قلبي له. بس البلا كان إنها ما كانت دقة وتعلق عادي لا والله، كان شي يوجعني في كل مره أختلي فيها معها لأن نظرتي لها كانت غير. وكنت أمسك نفسي في كل مره أشوفها فيها لا اتع..
قاطعته شعاع بقهر وحدّه دون شعورٍ منها : قلت ماكنت تدري.. خلاص انسى ليه قاعد تعذب نفسك بالأفكار ذي؟ الله يخليك لاتستفزني عزام.
تبسم بخيبة ما إن لمس غيرةً في صوتها، وتابع : على قد ماكانت ذيك الأيام حلوة على قد ما أنا كارهها الحين وأتمنى أمحيها من مخي، لدرجة إنها مأثره على علاقتي بفهد ماني قادر أتكلم معه كلمتين على بعض..
اختنقت بعبرتها : وفهد وش ذنبه حرام عليك؟
تنهد بأسى : ماله ذنب، وأنا مالي ذنب وأنتِ مالك ذنب، هي أقدارنا جات كذا بس ماضيي معه يفشل رغم إن ماكان فيه تجاوزات كان يكفينا غلط واحد وإني التقي فيها من ورى أهلي وأهلها. مع ذلك كنت أنا الوحيد المندفع بمشاعري كنت متعلق فيها ولا تملى عيني إلا شوفتها على عكسها هي، كانت ماخذه الموضوع بشكل عفوي تعاملني مثل ماتعامل حاكم وناصر وعبادي وباقي العيال وكان هالشي يغبني ويقهرني بس بعدين عرفت ليه.
تكدست الدموع في عينيها من وصف مشاعره لها حتى وإن كانت بدون معنى الآن : عشان كذا تهاوشت معه؟
ضحك ناقمًا على نفسه : تبين الصدق عاد، فهد كان طول عمره أجرأ مني، كنت أنا اللي أتعمّد أبعد وأتصدد لأني مو قادر أحط عيني بعينه كنت مستحي من نفسي كيف كانت أفكاري يوم إني معه، على عكسه هو مع إن اللي مر فيه مايجي شي عند اللي مريت فيه أنا، مع ذلك كان دايم هو أول من يبادر، سواء سلام ولا سواليف ولا حتى ابتسامة وكأن ما بيني وبينه شي. أنا ما أكره فهد، والله العظيم ما أكرهه، بس كاره نفسي اللي ما شافت فهد مع أنه كان طول الوقت قدامي ومع ذلك تمنيته لي..
طغى السكون بعد أن أنهى حديثه، حتى موج البحر هدأ وكأن أنفاسه التي خرجت متدافعه بقوة افزعته.
يشعر عزام بأنه تجاوز الحد معها قليلاً وأسرف بالتعبير عما في صدره، فهو لازال يتحدث عن فهد وكأنه الجوهرة، كأنها موجودة يعيش الشعور معها مجددًا لدرجة أنه وصفه بدقه.
ابتلع ريقًا كالعلقم وهو يشعر بصمت شعاع يكسر ظهره، يحاول أن يخلق جوًّا آخر غير الكئيب هذا : ذكريني بالله حنا ليش قاعدين نتكلم عن فهد الحين؟
ضحكت بدون نفس : طيب وش ودك يكون اللي في بطني ولد ولا بنت؟
عزام بزفرة بدت ممتنة : عندك أسلوب عجيب في تغيير المواضيع!
غمزت له وهي تشعر بدموعها تبلل أهدابها : كيف بس؟
نظر لها يهمس بمودة طغت على نبرته : وش أوصف وش أقول علميني تكفين!
ثم يتابع بنبرةٍ أعلى وهو يلحظ ابتسامتها التي اتسعت : كله خير من الله أهم شي تمام الخلقة.
شعاع بهدوء وهي تضع كفيها خلفها تستند عليهما وتنظر للأعلى : أما أنا بصراحة أبي ولد.
رفع حاجبيه باستنكار : وش معنى؟
ارتفع طرف فمها بابتسامة شاردة وهي تميل برأسها : أبيه يكون أكبر أخواته.
هز رأسه بتفهم ولم يعلق، يصرف بصره عنها بعد تأمل دام لثوانٍ دون أن تكترث له فكما يبدو أنها وجدت شيئًا يشغلها في السماء، تهتف بأسى : أنا غبية خربت الليلة وغثيتك بكلامي صح؟
ارتفع طرف فمه بابتسامة : لا بالعكس الليلة للحين قمرا وجالس معي قمر.
ضحكت بخفوت من تملقه، تسأل بعد ذلك بنبرة هادئة : مرضيتك الحياة عزام؟
سكت يفكر بسؤالها بشكلٍ جدي، يقلب الإجابات في عقله حتى رسى على أصدقها : الحمدلله، طول ما أنا معك أحس إني مرتاح وراضي.
رغم أن إجابته أرضتها حتى طفحت بالرضا، إلا أنها قالت بذات الهدوء : تعرف عزام السستم بهالحياة كيف؟... لازم تعطي كل شعور وقته وحقه لين تنتهي منه تمامًا وتتجاوزه وتضمن إنك ما ترجع له مره ثانية، تعطي الحزن حقه، تعطي الفرح المفرط حقه، تعطي الصدمة حقها.
ثم نظرت له : حتى الرفض وعدم القبول تعطيه حقه... ثم تتجاوزه.
زم شفتيه يومئ برأسه مؤيدًا حقيقة ماقالت، لم تكن تلك الكلمات شيئًا مقارنةً بنبرتها وهي تنطق بها : لعلي ماوزنت الوقت صح وأسرفت بواحد منهم على الثاني لين صار مثل السور اللي بنيته بيدي ويوم جيت أهده ماقدرت.
شعاع : اشقحه.
ضحك عاقدًا حاجبيه باستنكار : وشو؟
فتحت عينيها باتساع، تهتف بنبرة أعلى وكأنها تأمره : أقول اشقحه، إن ماقدرت تهده اشقحه المهم تعدّيه ياخوي ترى تعبتني وأنا أراكض وراك وأنت مو معبرني.
قالتها تقلب ملامحها بإزدراء ويأس مبالغ به، ليضحك بقوة حتى اختفت عينيه، يقول بعد أن هدأت أنفاسه أخيرًا وهو ينظر لها نظرة غريبة جعلتها تصرف بصرها الهائم فيه بارتباك : وهذا اللي بيصير... بشقحه ههه.
صرخت شعاع بفزع ورفعت يدها من على الأرض : يماااه.
عزام : وش فيك؟
شدت على أصابعها قريبًا من صدرها تبحث بعينيها في كل إتجاه بأنفاسٍ متسارعة : فيه شي مشى على يدي.
ضحك وهو يرفع كفه ويحرك أصابعه أمام وجهها : ايه ذي.
ثواني حتى استوعبت ثم قالت وأنفاسها لازالت تسابق بعضها، لسببٍ آخر هذه المره : قهر، لو أدري مانقزت.
تعالت ضحكته أكثر وهو يسحب يدها من بين أصابعها، يضحك الباقي من ضحكته في باطن كفها بقبلة طوويلة هادئة أسكن فيها مشاعره التي لا يستطيع البوح بها مهما حاول ذلك، وكانت كفيلة بأن تكتم أنفاسها من فرط الخجل.

سحبت يدها من قبضته بقوة ما إن بدأت الرعشة تصل لأطرافها، فالحركة رغم بساطتها إلا أنها عبثت بها إلى أن قالت آمين.
تعتدل بجلستها وتميل عليه ما إن نظر لها عاقدًا حاجبيه باستنكار، لتقول بارتباك وهي تبتلع ريقها وتنفض فمه بكم عباءتها : شنبك صار كله رمل ههه.
مد شفتيه بعبوس وهو يشعر بالقماش الناعم يبعد بكل رقه حبات الرمل القليلة التي التصقت به من كفها، تبتعد قليلاً بعد ذلك لتضحك وهي ترى عبوسه : ياساتر يالتبرطم!!
عزام : خربتي أم اللحظة بغيتي تشقين برطمي يالدفشة.
شعاع باستهجان : وش برطمي ناقة أنت؟
رفع رأسه : عووو.
شعاع بذات الاستهجان : وش ذا؟
رمقها بطرف عينه، قائلاً بخفّة : تشوفني ذيب وتقول ناقة!! عصّب الذيب لا عاد تغلطين مره ثانية.
ضحكت من أعماق قلبها وسعادة مفاجئة ضربت أوتارها دون استئذان فهي تعشق شخصيته هذه والتي لا تظهر إلا نادرًا بشكلٍ عفوي غير متعمد لدرجة أنها تحلم بها ليلاً نهارًا، تدفعه لا إراديًا من كتفه بقوة ليميل واقعًا على جنبه يثبت جسده بذراعه كي لا يلتصق خده بالرمل، يسأل بهلع وهو يدير رأسه ناحيتها : بسم الله وش جاك؟...
رفعت هاتفها بربشة واضحة، وفتحت الكاميرا تمده له وابتسامتها من الإذن للاذن : ممكن صورة؟
عزام باستنكار ونظرة متفحصة : أنا وأنتِ؟
ابتسمت بتهكم : لا أنت وحورية البحر اللي قاعدة بالجهة الثانية.
تلفت حوله وهو يعاود ضم قدميه بشكلٍ متراخي : ما أشوف غيرك هنا ليكون تقصدين نفسك؟
ضحكت ببرود : حلوة منك... يلا عاد صورة وحده للذكرى، اليوم مايتكرر مزاجك بالعلالي.
لوى فمه بتفكير وهو يتأمل وجهها والتماع الحماسة في عينيها ، يقول وهو يأخذ الهاتف منها رغم عدم اقتناعه : اوكي قربي،
لفت يديها حول عضده ومالت عليه، يرفع الهاتف عاليًا وما إن سطع ضوء الفلاش الأبيض حتى وشعر بشيءٍ على خده، أنزل يده ونظر للصورة ليرى ابتسامته المغلقة و عينيها المغمضة وهي تقبل خده.
التفت ينظر لها بحاجبٍ مرفوع وابتسامة لعوب أحرجتها، جعلتها تسحب الهاتف منه بخجل : أشوف.....
ثم تردف بانبهار مبالغ به تداري خجلها : وربي مصوراتي ياعز.
عزام بتحذير : ياويلك تنزلينها سناب.
شعاع بإعجاب ولازالت تتأمل الصورة : أكيد من غير لا تقول أغار عليك يامز.
عزام : ولا تورينها أحد.
هزت رأسها بتأييد : ولا الجن الأزرق أقولك أغار عليك يامسلم..
ثم رفعت بصرها له تسأل بعفوية : تبي أرسلها لك؟
عزام بابتسامة هازئة : واحطها خلفية شرايك؟
ضحكت تشاكسه : فكرة مش بطالة،
ليقول براحة : أقول الخلا بس،
شعاع : طيب أنا بصورك صورة لحالك ممكن؟
رفع حاجبيه بحركةٍ واحدة وهو يصرف وجهه عنها للأمام : نو،
شعاع بإلحاح : تكفى عزام!.. بحط لك فلتر بتطلع كيوت.
ثم أردفت بنبرة توسل ما إن تجاهلها : تكفى يااخي.
سكت قليلاً قبل أن يرمقها بطرف عينه : من غير فلتر.
اتسعت ابتسامتها حتى ملأت وجهها، تقول بعدم تصديق وهي تقلب التصوير للكاميرا الخلفية : ابشر من غير فلتر أصلاً مايحتاج بسم الله عليك مفَلتر من الله،،،، يلا ابتسم .
مال بجسده للخلف قليلاً وابتسم ابتسامة صغيرة مغلقة يسلك لها بها، وقبل أن يظهر الفلاش في وجهه، كشّر عن أسنانه العلوية ليغطي شفته السفلية بها وكرمش ملامحه بعبط التقطته كاميرتها.
صرخت تضحك بدون تصديق : والله لا أحطها خلفية.
عزام بهدوء وهو يغرق في ضحكتها، يطيل التمعن في ثنايا وقسمات وجهها المبسوطة : أذبحك والله.

استمرت شعاع تلتقط بعض الصور لها وله وهو يمرر ذلك بمزاجه وكأنه لا يرى، غارق بقربها دون أن يهتم بمرور الوقت، يشعر بخف روحه وتأثير ضحكتها لازال يسيطر عليه ليبسط عضلة قلبه بحبور.

رفعت شعاع رأسها عاليًا بعد أن وقعت قطرة ماء على كفها، تبعتها قطرات بشكلٍ متتالي، تهتف بذهول : مطرر.
عزام بضحكة وهو ينظر للسماء وهطول الرحمة منها : ايييه هتنت.
أغمضت عينيها تستمتع بوقوعه عليها، تدعي للجادل من أعماق قلبها بأن يسخر الله لها رضا حاكم وألا يطول الجفاء أكثر... كم دعوة أخرى معها قبل أن تنطق : حلو اسم هتان.
نظر لها يعيد شعره الذي تبلل واقعًا على جبينه للخلف : يعني؟
ضحكت لازالت على وضعها : ولا شي بس أقولك إنه حلو.
عزام نافخًا صدره : ذيب أحلى.
نظرت له بافتتان : ذي مافيها كلام، وخالد أحلى وأحلى.
ابتسم باتساع حتى تحولت ابتسامته لضحكه وهو يرى تشابك أهدابها المبللة، يمد يده ليمسح وجهها الذي تبلل بكفه، يهتف بمودة : مافيه شك..
تأملته وهو يعيد الحركة أكثر من مره قبل أن يمسح على حاجبيها بسبابته يعيد ترتيبهما بعد أن بعثرهما المطر، لتهتف برجاء وهي تشعر بكفه الأخرى خلف عنقها، والرذاذ يتطاير أمام شفتيها مع نطقها المستميت للحروف وكأن مصيرها معلق بها : حبّني أنا، ولَا تملى عينك غير شوفتي أنا. الله يخليك حبّني أنا.
لم يسمع ولم ينتبه أصلاً، فسأل بصوتٍ مرتفع : هاه نمشي خلاص؟
ضحكت تهز رأسها : مو مشكلة، نمشي.

طوال الطريق وشعاع غير قادرة على السيطرة على مشاعرها، هناك سعادة وراحة غير طبيعية تسكن جسدها لدرجة أنها بدأت تتحرك بجلوسها أكثر من مره وكأن المركبة أصغر من أن تتحمل ما تشعر به من سرور، ليغلق عزام التدفئة ظنًا منه بأنها سبب عدم راحتها.

ورغم أنهما وصلا المنزل والساعة تجاوزت منتصف الليل، إلا أنهما وجدا عبدالإله يتمدد بالصالة العلوية يتضح عليه الضجر، يعتدل جالسًا بسرعة ما إن وقفا أمامه : ماشاءالله من وين راجعين؟
شعاع باستنكار : أنت وش مصحيك للحين؟
عبدالإله بنظرة : قاعد انتظركم بشوف وش آخرتها معكم.. أدق على جوالك ماتردين!
جلست على الأريكة الأخرى : ما جاني إتصال.
عبس عبدالإله وهو يشعر بثقل عزام الذي جلس بجانبه : ماجا اتصال ولا كل ما شفتي رقمي سفطتيني عشان ما أخرب عليكم؟
عزام : أقول جبنا لك بليلة.
التفت ينظر له يتصنع الثقل : بشطة؟
ضحك بخفة : ايه بس اسكت.
عبدالإله بنفخة : عطني أشوف،
ثم أردف وهو يتناولها منه : ماني قادر أطالع فيك ياخوي.
عقد عزام حاجبيه باستنكار : ليه؟
عبدالإله بنبرة ممازحة : مو متخيل إنك بتصير أب رجل مسؤول وواعي وعندك أسرة، مايلوق!
شعاع : بالعكس...
لكن عبدالإله قاطعها بضحكة ساخرة : اسكتي أنتِ تراك منتي طالعة منها، العيال كبرت والله.
تبسم عزام يمسك بيده ويقبلها بإمتنانٍ ومودة ، ليمد عبدالإله الأخرى في وجهه بصمت، مما جعل عزام يهتف ضاحكًا بعد أن قبّلها أيضًا : ليتك ماتطلع!
ابتسم عبدالإله وهو يتلهى ببليلته : لا تتوقع إنك بترتاح مني الزيارة اليومية شيء مفروغ منه.
عزام بصدق : القلب أوسع لك من المكان.
أومأ برأسه : كلام جميل،
ثم أردف وهو يلمح شعاع التي بدأت تنفض شعرها الرطب : وش مغركم مويه كذا؟
استراح عزام في جلسته : مطرت.
قهقه عاليًا : مو أنا شايف بعيوني.. الله يسقينا بعد الجفاف.
عقدت شعاع حاجبيها بقوة، تسأل : وش شايف؟
أجاب عبدالإله ببراءة : إنها مطررت.
ضوقت شعاع عينيها وهي ترمقه بشك، ليقول عبدالإله ضاحكًا : أقسم بالله قصدي شريف لا تحاولين تفكرين بشي ثاني.
نظرت لعزام الذي شاركه الضحك، تقف بسرعة وتقول بذات التشكيك : أنا داخلة أنام يافاسد... عزام قوم لا تقعد معه.
عبدالإله بنبرة ساخرة : ايه خذيه معك لا أخربه.
وقف عزام بضحكة مرهقة فهو لم يأخذ قسطًا من الراحة منذ الصباح : قايم من غير شي. تصبح على خير.
تمتم عبدالإله بمودة وحب مفرط وهو يرى ابتعادهما : تلاقي الخير حبيبي.
.

لم يشعر عبدالإله بالوقت الذي مضى مسرعًا وكأن هناك من يلحق به، إحساس غريب يستوطن قلبه غير الذي كان يشعر به في زواجه الأول رغم أن الحماس كان موجود في التجربتين إلا أنه هذه المره كانت هناك لهفة غريبة جعلته يشعر بأنه يعيش حلمًا من شدة جماله.

يجلس في صالة أخته السفليه، متأنقًا بثوبه وشماغه بعد أن عاد هو وعزام من صلاة العشاء وفي حضنه مريم تتشبث به وتبكي باستماته ما إن عرفت بأنه لن يعود معها للمنزل الليلة.
عبدالإله بنبرة هادئة وهو يربت على ظهرها : بعد ست أيام بجي.
سكتت تفكر، تقول بين شهقاتها المتواصلة : يعني أنام وأصحى ست مرات.
ابتسم : ايه.
عادت تبكي : كثيرة.
تنهدت صيتة الجالسة بجانبه : خلاص ميمي عن الدلع بتمر بسرعة.
تعلقت عيناه بشعاع الواقفة أمامه بعباءتها تضع طرحتها على شعرها بشكلٍ متراخي، يسأل بحيرة : وش أسوي أخذها معي؟
نطقت شعاع بقوة وانفعال فلا أحد يعرف حركات مريم مثلما تعرفها : من جدك أنت ياكثر ما تسافر وتخليها وراك وش معنى الحين منت قادر؟
عبدالإله بنبرة اتضح فيها الضيق : ماعمرها تعلقت فيني كذا بيوقف قلبها من الصياح!
شعاع : ماتعلقت فيك كذا إلا لأنها تدري إن لولو بتروح معك ولا أنت ماطقت لك خبر.
عزام بضحكة وهو يرى توبيخها لخاله المستسلم تمامًا : بشويش على الرجال طيب.
عبدالإله بزفرة مغتاظة : شايف حرمتك أنت ولا فيه أي مراعاة إني عريس ركبي تتصافق من التوتر.
صيتة بمودة : أي توتر إلا حماس بيطلع من عيونك.
عبدالإله : ما يمنع إن ركبي لازالت تتصافق.
شعاع بصرامة : ميمي تعالي أشوف.
لم تقاوم مريم وتعلقت بشعاع التي انحنت بجسدها ناحيتها، تلف ذراعيها حول رقبتها لكن عزام أخذها منها ما إن تأوهت شعاع التي كانت ترتدي كعبًا أضاف لطولها طولاً آخر : هاتي شيخة البنات هاتيها.
تعلقت عينا عبدالإله بابنته المتأنقه بفستان أبيض منفوش وشعر متموج بنعومة، لازالت شهقاتها مسموعة حتى بعد أن أسندت رأسها على كتف عزام، تقول بزعل : شعاع.
اقتربت شعاع تهتف بلين وهي تمسح دموعها وأنفها بالمنديل : لبيه قلبي.
قوست شفتيها : القلوس خرب.
صيتة بضحكة وهي ترتدي نقابها : اكلتيه.
مريم وهي تلعق شفتيها : أيوه طعمه حلو.
قبّل عزام خدها بقوة فمريم نقطة ضعفه : بالعااافية، أعطيها اياه تاكل من راس العلبة.
لتقول شعاع بضحكة : الحين بالسيارة أحط لك.
صيتة : خلاص أجل عزام أنت خذ شعاع وميمي وأنا بجي مع العريس.
وقف عبدالإله يلف ذراعه حول كتفها ويتشبث بالأخرى بكفها ملاحظًا طلاء الأظافر الوردي الذي لوّن أظافرها المقلمة بترتيب وأظهر عروق يدها بشكلٍ لطيف، يقبل يدها بامتنان لو قضى عمره كاملاً يشكرها عليه لما وفاها حقها : أعز من يخاويني والله.
.
.

دخل حاكم شقته عاقدًا حاجبيه بعد أن عاد من المسجد، وما إن فتح الباب حتى وهاجمته رائحة كتمته وجعلته يقول باستهجان وهو يرى أخته ريم تجلس على كرسي بمنتصف الصالة ومن خلفها الجادل تلف شعرها : ياساتر وش ريحة الحريق ذي؟ ارحموا الأوزون صارت فوق بيتنا سحابة سودا جمعتوا الغربان علينا.
سفهته ريم وعلقت الجادل ضاحكةً بمودة : هلا وسهلا.
ابتسم واكتفى بذلك يشد خطاه نحو المطبخ وهو يشعر ببدايات صداع تهدد راحته، ليأخذ حبتين بنادول ابتلعها بقارورة ماء شرب نصفها وخرج وهو يشرب النصف المتبقي، يعطي نظرة سريعة للجادل التي كانت قد انتهت من شعرها لتجعله منسدلاً دون أي ثنيَه، يحدثها وهو يشير برأسه قاصدًا ريم : ليكون بتسوين لها ببلاش؟
رمقته ريم بنصف نظرة -وهي قدها قافلة معها- : تبيها تاخذ فلوس من أختك؟
ابتسم : ها أجل تكسر يدها على فاشوش؟
ريم بانفعال : لا حشى فيمتو هاللي بيني وبينك ماهو دم.
حاكم : شوية أخلاق ياهوه!
تأففت، فأغلق حاكم غطاء القارورة الفارغة بيده والقاها عليها مما جعلها تهتف باستياء : حاكم بلا ثقالة دم.
عقد حاجبيه وهو يسمع ضحكة الجادل : خير؟
ريم بإمتعاض : أنتم بذا العايلة ماعندكم حل وسط؟ ياخمسين سنة قحط ياسنة مليانة زواجات؟ ياعيال الذين قعدنا سنوات نهش ذبان بدون مناسبة وحدة ويوم تفيلحتوا تسلطتوا كلكم بنفس السنة!!
ضحك بخفه : طيب وش مزعلك؟
ريم بتأفف : شعري انعدم تراه ماهو ناعم مثل حرمتك وأشيل هم لاجيت استشوره قبل كل عرس وما أخلص إلا وأنا مصدعة وكل عين في جهه من التمعيط.
حاكم ببرود : بتعطلين مصالح العالم عشان شوشتك؟ تحجبي ولا لا تروحين.
ريم بحنق : اف بس.
ضحك : أجل لا جا نصيبك السنة ذي بنأجل.
لتهتف بسرعة : لا ياخوي هي جات علي يعني؟ عرس زيادة مابيضر.
لم يستطع حاكم أن يبعد عينيه عن الجادل بعد أن تعالت ضحكتها التي كانت تكتمها منذ البداية، ليقول وهو يلتقط أنفاسه : أنا بدخل أتروش طلعي ثوبي.
الجادل بابتسامة وهي تنظر له : كله موجود عندك بس ما كأنه بدري تروح من الحين؟
اتجه ناحية الغرفة وهو يخلع ثوبه في طريقة : باخذ أبوي معي مايبي يتأخر وأنتم تعالوا مع فهد. وتلحلحوا مو يدخل والرجال قدهم قالطين على العشا.

انتهت الجادل من ثلاثة أرباع شعر ريم الصعب وبقى لها الربع، لكنها ما إن سمعت صوت باب الخزانة يغلق حتى وتركت الفير : بروح أشوف حاكم.
مسكت ريم معصمها قبل أن تبتعد : تشوفين وش يعرف ملابسه ويعرف كيف يلبس تكفين خلصيني تأخرت!
صفعت كفها بخفه، تقول مبتعدةً ما إن حررتها الأخرى : حطي الجمرة على النار وجيبيها ببخره.

تأففت واتجهت ناحية المطبخ، تتذمر تحت أنفاسها وهي تفتح أبواب الدواليب وتغلقها بقوة متعمدة بعد أن وضعت جمرةً على النار، تبحث عن المبخرة التي كانت موجودة أمامها على الرف هي وعلبة العود منذ البداية ولم تنتبه.
انتهت و وضعت كسرتين وهي تتجه بخطواتها ناحية الغرفة ببابها الشبه مغلق، قرعت الباب ولم تتوعى وتستوعب مانطقته إلا عندما سمعته بإذنها : أدخل؟
حاكم من الداخل : لأ.
اشتعل وجهها بإحراج ولأول مره منه، عادت خطوة للخلف لكن الباب فُتح بقوة وظهرت لها الجادل تضحك : ماعرفتك وأنتِ تدقين الباب!
ريم بهمس حانق : انكتمي والله قليلة ذوق أنتِ والثور اللي ماخذته.
شرّعت الجادل الباب على مصراعيه : أقول ادخلي بس تراه يلبس شراريبه.
حاكم بنبرة مشاكسة : وش عندها ريم تدق الباب ليكون مستحية؟
دخلت وكأن شيئًا لم يكن تهتف بحدة ليس وكأنها كانت ستبكي قبل قليل من فرط إحراجها : وأنا من متى أدخل على اثنين مقفلين الباب على نفسهم؟
الجادل : قلت لك كان يلبس شراريبه كان رفستي الباب ودخلتي!
ريم بقهر : ليته خنقك فيها.
ضحك حاكم رغمًا عنه : وش فيك عليها جزاها من الصبح تشتغل فيك؟
ثم أخذ المبخرة منها يقول وهو يرى عينيها ونظرتها الساخطة : عقبال ما أتطيب بعرسك.
تنهدت ريم بتعب : تعرف شلون تجيب راسي، اللهم آمين.
هز رأسه بقل حيلة : بحاول أشوف الموضوع اليوم.
عقدت حاجبيها بعدم فهم : أيّت موضوع؟
مد المبخرة للجادل التي أخذتها منه وبدأت تبخر شماغه المعلق، ليقف هو أمام التسريحة يعيد شعره للخلف قبل أن يضع طاقيته على رأسه : بدبر لك عريس قبل لا أطلع من مجلس عمي علي ولا يهمك.
راق مزاجها وضحكت ممازحة : اوكيه برسل لك النقاط المهمة اللي أبيها تكون موجودة فيه ركز عليها ولا تلتفت لسفاهه الأمور.
حاكم : إن شاءالله ياسافهه.
انفجرت الجادل تضحك ضحكةً مرتفعة جعلت ريم ترمقها بإزدراء : وش اللي يضحك الحمدلله والشكر؟
الجادل والضحكة لازالت تحاصر حنجرتها : أمانة مافهمتي الحركة؟.. سافهه.. تافهه.
تبسم حاكم ابتسامة عريضة أخذت نصف وجهه وهو ينظر لانعكاسها من المرآة، يهتف بمودة : يسعدلي والدينه اللي فهمها وهي طايرة.
ريم بإمتعاض ونفخة تحاول أن تغطي بها إحراجها وهي تشعر بأن لا داعي لوجودها في المكان خصوصاً بعد أن ارسلت الجادل قبلة مازحة باتجاه حاكم ردًّا على قوله : وش هالسخف أبو من جمعكم ياشيخ،،، أنا برى اخلصي والحقيني قبل لا تخلّص علي أمي.
الجادل باستمتاع : ماعندك سالفة والله إنها حلوة.
حاكم : ماعليك منها ياعمري ذي دايما كذا أوفر سفاهه.
ثم أردف بصوتٍ مرتفع وهو يرى خروج ريم العاصف ويأخذ الشماغ الذي مدته له زوجته : وترى اسمها سفاسف على فكرة.. فشلتينا!

عادت ريم وجلست مكانها على الكرسي تهز قدمها بنفاذ صبر فالوقت يركض وهي لم تنتهي بعد، تصرخ تنادي الجادل تستعجلها لتخرج الأخرى راكضة وتستأنف ماتوقفت عنده، لكنها تركت الفير مجددًا ما إن خرج حاكم الذي وقف بأمرٍ منها لتلتقط له صورة تحت شتائم ريم التي ارتفع ضغطها.

أغلق حاكم باب شقته والصداع تلاشى تمامًا بعد أن سكنّته الحبوب المسكنة، يشعر بروقانٍ غريب لدرجة أنه ضرب باب فهد ثلاث ضربات قوية قبل أن يبتعد راكضًا من المكان.

وقتها كان فهد يقف بجانب غادة أمام طاولة الكوي، يتابع كيّها لشماغه بعينيه خشيةً من أن تحرقه ولم يبعدها عن القطعة الحمراء حتى بعد أن قفزت الأخرى بذعر، ليصرخ قاصدًا الواقف خلف الباب : بشويش على الباب طيب.
غادة : بسم الله من ذا؟
فهد باختصار : حاكم يستظرف،
ثم يردف وهو ينظر لها : أبيه بمرزام.
عقدت حاجبيها : شلون يعني؟
ليجيبها ببساطة : يعني خلي فيه مرزام.
ضحكت غادة بيأس : ايه وش يعني مرزام؟ ترى طول عمري أكوي فساتين وتنانير ماعمري كويت شماغ.
نطق بخفة : خلاص اتركيه أنا بضبطه.
وضعت المكواة على الطاولة، تعتذر وتبرر : أوعدك أتعلم بشوف تتوريال باليوتيوب بس مو اليوم مامعي وقت وباقي ماخلصت.
هز رأسه بقل حيلة ومودة وهو يأخذ مكانها : روحي روحي بس.
لتقول وهي تبتعد : بعد قلبي والله بس انتبه تراها حارة لا تحرق شماغك.

أكملت غادة تأنقها بينما فهد لازال في الصالة يكوي شماغه، يفرده على الأريكة ما إن انتهى ويشد خطاه للغرفة بعد مايقارب النصف ساعة، ليهتف ما إن دخل ورآها وقد انتهت تقريبًا : لالالالا أنا لا يمكن أسمح لك تروحين كذا.
التفتت بسرعة ما إن وصل لها، تسأل بقلق : ليه مو حلو؟
اتسعت عيناه ينطق بإندفاعٍ صادق : إلا حلو مووت،
خرجت ضحكتها بأنفاس مرتعشة، تقول بحرج : أشوى خرعتني.
فهد : أخاف تشوفك وحدة من ذا العجز وتطسك بعين ترجعين لي وحده غير اللي طلعت.
سكتت قليلاً وهي تنقل بصرها على تقاطيع وجهه التي لم ترى أرحم منها، لتقول بتنهيدة تتبعها بنبرة ذائبة وعينها بعينه المبتسمة لها : الحمدلله إن نظام دهنّا في مكبّتنا ماشملك ولا كان رحت لغيري.
شعر فهد بقلبه ينسل فجأة من بين أضلعه لأخمص قدميه، ولو لم تلتفت غادة لتكمل زينتها وتعطيه ظهرها لكانت انتبهت لوجهه الذي بهَت وابتسامته التي تلاشت.
هاجمه الخوف لوهله جعل الاضطراب ينزل على بطنه كالزلزال، غادة لا تعرف شيئًا مما فيه لا تعرف أن لولوة التي ستحضر زفافها الليلة كانت في يوم مبتغاه وأنه تقدم لها ورُفض لسببٍ لو عرفته هي باكرًا لكانت رفضت أيضًا مع كامل الاستنكار لجرأته ووقاحته .
ابتلع ريقه وهو يراها تحاول إرتداء عقدها الأبيض وإغلاقه، ليأخذه ويحرر أطرافه من بين أصابعها، يغلقه ببراعه وهو يصرف بصره عن عينيها التي كانت تنظر له بابتسامة من المرآة التي عكست صورته، ينتهي من مهمته ليأخذ حَلق اذنها ويلبسها اياه بخفّه وكأن أصابعه تعرف ما تقوم به، بضيقٍ وضيقٍ وضيق لا يعرف من أين أتاه.
يصله صوت غادة هادئًا بامتنان بعد أن أغلق الحلق وأنزل يديه بثقل : باقي الأسوارة لاهنت.
ليأخذها منها دون أن يرفع بصره لها، يمرر لسانه على شفتيه ويهمس بريقٍ جاف : أبشري.
ينتهي ويشد على كفها بخفه بعد أن ارتدت خاتمها، ولأول مره يشعر بأن لا طاقة لديه لرفع يدها وتقبيله، ينتبه للدبلة لتشتد أوتار قلبه حتى شعر بأنها ستتقطع.
يسمع همسها : شكراً.
ليرفع عينيه أخيرًا، يبتسم لها ابتسامة مغلقة مقتضبه لم تصل لعينيه لكنها أغرقتها فقد تشكلت خطوط تعب بدت في غاية الدفء : العفو، خلاص نمشي؟
: البس عباتي بس.

لكن فهد اضطر أن ينتظر ساعة أخرى حتى تنتهي ريم وقرر أن يهرب فيها من غادة ويجلس بالمجلس الخارجي يقضم أظافره دون شعورٍ منه بعبوسٍ لا مثيل له.
يركب سيارته بعد أن وقفن أمامه بعباءتهن ليخرج من شروده، يشغّلها على صوت إغلاق والدته للباب بجانبه بعد جدال طويل بينها وبين غادة كي تركب بالأمام.
يسأل قبل أن ينطلق بحاجبين معقودين وزفره : خلاص أحرك؟
سارة بهدوء وهي تلاحظ نبرته الغير طبيعية : ايه ياقلبي خلاص.
تهتف ريم بعد فترة من الصمت : وش فيكم ساكتين بسم الله؟ فهد حط لنا شي نسمعه!
فهد بدون نفس وحدّة طفيفة : أحط وشو؟
لتقول سارة والقلق اشتعل في صدرها عليه : وش تبين بالازعاج استغفري أنفع لك.
.

قبل مايزيد عن الساعة أخذ حاكم منعطف بيت عمه المضيء بعقود الأنوار التي غطته كاملاً فبدَا كالشمس الساطعة التي أنارت الحي بأكمله، كانت الابتسامة الهادئة تعتلي وجهه مستمتعًا برفقة والده وأحاديثه حتى رأى الواقف أمام الباب قريبًا من حوض النخلة المزروعة في منتصف الرصيف، يرتشف من السيجارة بين أصابعه بشراهه وينفث دخانها في الهواء وعينه على هاتفه بانسجامٍ تام.
كرمش ملامحه وتشكلت o متورطة بفمه ما إن علّق والده بغيظ : شف العنز الجربا!
حاكم بتمتمه خافته : الله يقلعك ياسعيدان.
أوقف سيارته بالمساحة الرملية الفارغة أمام بيت عمه، وترجل من السيارة بعد أن أغلقها وهو يتبع والده الذي ما إن انتبه له سعد حتى ورمى السيجارة بعيدًا عنه بهلع واضح، يهتف بصوتٍ مرتفع : ياهلا والله ومرحبا.
يتقدم بخطاه مسرعًا قبل أن يصله سلمان، يقبل رأسه ويده بربكه ويسأله عن أخباره ليجيبه الآخر على مضض قبل أن يتركه واقفًا ويدخل المنزل.
سعد بحلطمة وهو يسلم على حاكم : كان اعطيتني رنه يوم قربت ياخي.
حاكم ببرود : وأنا وش يدريني إنك واقف عند الباب تمز يالبجيح!
وضع يده على رقبته : بس احح يا إنه أعطاني نظره، حرقتني حراق.
حاكم : عقبال ماتجرب الكف من يده والله يولع خدك.
ضحك وهو يمشي معه باتجاه مدخل المنزل : افاا تضمر لي الشينة إبن عمي؟
حاكم بزفرة : اعقل وأترك هالبلوة عنك.
سعد بملل من هذه الاسطوانة : تراه دخان مهوب إبرة.
وقف حاكم عند الباب، ينظر له بحزم : نفس الشي بس وحده بتقرب لك الموت بسرعة والثانية بالهداوة.
قلّب سعد ملامحه بامتعاض : الله يسد نفسك زين!
زفر وهو يشعر بأن النيران تشتعل في أنفه من رائحة السجائر القوية المنبعثة من ثياب سعد : حد جا؟
سعد : ايه شيبان الحارة حماس مليون جايين قبل العريس وأهله.
رفع حاكم حاجبه باستنكار : أشوف سيارة عبادي وعزام واقفات.
: توهم ماصار لهم نص ساعة من وصلوا ومن شافوا الشيبان عبادي استلموه نكت من اللي خبرك.
عبس : وعوه.
سعد بضحكة : بس مستانس على الآخر أبو نسب فاك خشته ويتضوحك تقل حد يدغدغه.
هز حاكم رأسه بابتسامة : أعرفه التعبان تعلمني فيه.
تلفت سعد ينظر لأول الشارع، ثم خلفه، يسأل متصنعًا العفوية : إلا وين الباقي؟
: مَن الباقي؟
سعد بارتباك : أهلك.
دلّك حاكم عظمة أنفه قريبًا من مدامع عينيه ما إن شعر بزغلله بسيطة فيها : بيجون مع فهد. وش عندك تسأل؟
تورط : لأن مدخل الحريم الثاني ماهو ذا.
ليقول على مضض قبل أن يدخل بعد نفسٍ عميقٍ أخذه : اها.
.

حاولت لولوة أن تسيطر على أنفاسها المضطربة وهي تشعر بنظرات عبدالإله الجالس على الكنبة الأخرى تخترق قلبها كالسهام على الرغم من مرور مايزيد عن الربع ساعة منذ أن زفّ اليها في المجلس الداخلي، تحيط به شقيقاته وبنات أخته تتقدمهن مريم وكأن الأرض لا تسعهن من الفرحة.
ابتسم لها ابتسامة هادئة ما إن وقعت عيناها بعينيه أخيرًا بعد محاولاته المستميته للفت انتباهها، يشيح بنظره عنها يستمع لحديث شقيقاته ولكن بعقلٍ غائب لدرجة أنهن خرجن ولم يدرك ذلك إلا بعد أن سمع صوت إغلاق الباب، خرجت شعاع بعد دقائق قصيرة من تلقاء نفسها بكل احترام وتفهّم على عكس الجادل التي اضطر أن يسحبها بالقوّة يغلق الباب خلفها.
التفت ورأى مريم جالسةً على أقدام لولوة تلف يديها حولها بتملك طفولي راق له، مع ذلك وضع يده على خصره متصنعًا الجدية : أنتِ للحين هنا!! قومي الحقي بنات عمتك أشوف.
لكن مريم شدت من احتضانها بعناد : والله ما أطلع.
عبدالإله بزفرة : أنتِ مَن مسلطك علي الليلة؟
يأتيه صوت لولوة أخيرًا بعمقٍ آسر : خليها أنا أبيها معي.
مريم بشقاوة : أصلاً الجادل قالت خليك معهم ياويلك لو طلعتي.
عبدالإله بحنق : الموضوع مطول شكله.
ضحكت مريم تنادي بدلع : عبادي.
تجاهلها وأشار بيده للولوة : قومي البسي عباتك بنمشي.
توترت واتضح ذلك على وجهها فخرجت نبرتها مرتفعة حادة : الحين؟
وضع يده الأخرى على الجهة الثانية من خصره فبدَا كطفلٍ ساخط، يرفع حاجبًا باستمتاع وهو يومئ برأسه ببطء، يستغل ارتباكها ليتأملها على راحته، ابتداءًا من شعرها البني الذي يلامس أكتافها بتموجات طبيعية لتاجها الصغير الذي جمعت به مقدمة شعرها للخلف ببفٍّ بسيط وانتهاءً بفستانها الضيق ذا الكتف الواحد بلون النيود المائل للوردي الفاتح مما جعل لون بشرتها الخمري يبرز ببهاءٍ ملفت، تاركًا وجهها وملامحها لوقتٍ لا تكون عينا مريم مسلطة عليه كما تفعل الآن : مم.
مريم بزهق : عبادي.
تنهد : جيت جيت.
عاد يجلس مكانه، يشير للمكان بجانبه : تعالي اقعدي عندي لا تضايقين لولو.
وضعت مريم كفيها الصغيرين على وجنتي لولوة، تقريبًا تلتصق بوجهها، تنظر لعينيها وتسأل وهي تومئ برأسها وترقق نبرتها : قاعدة أضايقك؟
ضحكت لولوة بمودة : لا ياقلبي ماتضايقيني.
ابتسمت مريم باتساع وضحت معه غمازتيها وارتفع خديها الممتلئين بشكلٍ لطيف، تشرق عيناها التي تتأمل وجه لولوة بتمعن وكأن فجرًا بزَغ في روحها، مما جعل لولوة تضحك مجددًا وهي تلاحظ عيناها الواسعتان تتلامعان وتعلَق بالنظر على تاجها بإنبهارٍ واضح دون أن تتحرك لتنظر لشيءٍ غيره.
خلعته لولوة بحذر بعد أن علق قليلاً بشعرها ووضعته بخفه على رأس مريم التي شهقت بحماس وهي تتحسسه بيدها وكأنها لا تصدق، تلتفت لعبدالإله الذي كان يتأمل ما يحصل أمامه بسكونٍ غريب : عبادي شوف.
عبدالإله بابتسامة وعينه على لولوة التي حركت مقدمة شعرها بشكل تلقائي تعيد ترتيبه : قولي شكراً.
مريم : والله شكرًا كثير.
ابتسمت وهي تعيد خصلاً لولبية خلف اذنها الصغيرة التي احمرت بخجل : عفواً كثير.
عادت مريم تنظر لعبدالاله بذهول، ثم تعاود النظر للولوة قبل أن تدفن رأسها في رقبتها بضحكة مسموعة.
تنحنح عبدالإله وقلبه سينفجر حبًّا لابنته، يقف ليأخذها من لولوة ويرفعها عالياً بين يديه : ميمي.
لفت مريم يديها حول رقبته وهي تنظر له بابتسامتها التي كانت ولا زالت مفتاحًا لسعادته، يهمس بصوتٍ مرتفع وهو يرفع كلا حاجبيه بحماس : تبين ترجعين معي؟
سكتت تفكر، قبل أن تقول بعبوس تمد بوزها أشبارًا : شعاع تقول عيب مايصير.
تنهد وهو ينظر للولوة ويهتف بنبرة درامية بحته : بنات مشاعل طمسوا شخصية بنتي حسبي الله.
ضحكت لولوة ولم تجد شيئًا تعلق به ويكفي لتعبر عن مشاعرها في هذه اللحظة.
.

دخل عبدالإله شقته بعد حفل الزفاف البسيط بمظهره إلا أنه كان باذخًا بفرحة من فيه وأنت تشعر بها تجرفك معها منذ أن تدخل وحتى تخرج. الشقة التي سيسكنها هو ولولوة وابنته بعد سنوات من الوحدة، يأخذ لولوة بجولةٍ فيها يفتح بابًا ويغلق الآخر يمطرها بتعليقات جعلت توترها يختفي تمامًا حتى بدت وكأنها معتادة على قربه لسنوات.
وبعد انتهاء الجولة في الشقة الصغيرة، جلس على أحد كنبات الصالة، يسأل بترقب : وش رايك بالشقة؟
تلفتت لولوة بعينيها في المكان بابتسامة لطيفة : رايقة وتفتح النفس.
عبدالإله : لمساتي.
اتسعت ابتسامتها رغمًا عنها وهي تنظر له بشعورٍ دافئ يستوطن قلبها : ذوق.
عجبه المديح ويطمح للمزيد : والله العظيم لمساتي.
ضحكت بعمق : والله ذوق.. خلاص ههه.
كان سيفتح فمه ويعطي تعليقًا آخر لكن الظلام الذي غشى المكان جعله يقول عوضًا عن ذلك بتحطّم : افّا.
يطلب منها أن تهدأ وتبقى مكانها ما إن سألت بقلق : وش فيه؟!
لينزل سلالم العمارة بسرعة يتأكد من عداد الكهرباء في الخارج وإن كانت المشكلة منه أو من شيءٍ آخر بعد أن كبس أزرار الإنارة أكثر من مره دون فائدة.
لكنه ما إن وصل للشارع حتى وتفاجأ بأن الحي بأكمله يسبح في الظلام، يتوزع على أرصفته عدد قليل ممن خرجوا من بيوتهم ليتأكدوا مثله، والبعض تعلق بنافذته يتطقس بفضول.
تأفف ما إن أخبره أحد الواقفين بملل وبين أصابعه علبة حمضيات يشرب منها بأنه شيء اعتيادي يحصل من وقتٍ لآخر، لا داعي للقلق والفزع. ليخرج هاتفه من جيبه ما إن بدأ يهتز بإشعاراتٍ متتالية تشعرك لوهلة بأنها مسألة حياة أو موت لكنها كانت في النهاية -طبعًا- صورهم من حفل الليلة والتي قرر عبدالله إرسالها الآن في هذه اللحظة بالذات في قروب 'الصغارين' وكأن الشمس لن تشرق عليه غدًا.
كتب بسرعة وبشكلٍ متتابع
(مَن التيس اللي دعى علي؟ انقطعت الكهرباء من الحارة)
ليأتي رد عبدالله الهازئ فورًا (جااايّش بالكشاف جاايّش)
عبدالإله بغيظٍ اتضح بحروفه وهو يرى الصحيّن الرماديين يتلونان بالأزرق دلالة على أن الجميع قرأ (اللي أشوف زوله بذبحه، حسبنا الله ونعم الوكيل)
يكتب مجددًا ويرسل (عزام بكرة تطلع تدور لي على عمارة غير الزبالة ذي فاهم!!!)
رن هاتفه وكان المتصل عزام الذي ضحك ضحكة متواصلة ما إن فتح عبدالإله الخط مما جعله يقول بحنق : ضحكه بليا ضروس.
تنحنح عزام قائلاً ولازالت الضحكة واضحة بصوته : افا وش صار ؟
عبدالإله بانفعال : ما أدري فجأة الدنيا غدت سودا طمس ما يبان حتى اصبعي يارجال.
عزام : طيب أجيك؟
عبدالإله بعبوس : تجي وش أسوي بك؟
: أرجعك البيت ولا أوديك مكان أنت والمدام لا تروعها بالظلما.
عبدالإله بدون نفس : مايحتاج يقولون عشر دقايق وترجع.
ضحك عزام : طيب لا بغيت شي دق، ليلة سعيدة تتهنى ياعريس ههه..
أغلق منه واستدار للعمارة ينوي العودة للتي تركها خلفه لكن رن هاتفه مجددًا وكان المتصل ذيب الذي قال بنبرة ما إن وضع عبدالإله السماعة على أذنه : خاالي.
عبدالإله بقفلة واضحة وهو يسمع ضحكته : تخلخلت ضروسك، ذي أكيد إنها نفسك مافيها كلام.. حشى أعداء مو عيال خوات داقين تشمتون بي.
ضحك : وأنا ليه دقيت؟ أبي أبرّي نفسي والله مالي ذنب.
صعد الدرج بثقل : عينك ذي ياولد مشاعل أعرفك جعلك اللي منيب قايل بس هين ألقاك ليلة عرسك إن ماسودت عيشتك ما أكون عبدالإله.
قالها وأغلق الخط في وجهه ما إن وصل لشقته في الطابق الثاني، يفتح الباب الذي أغلقه خلفه بالمفتاح ليجد لولوة لازالت على وضعها تجلس في الصالة تتخذ من فلاش هاتفها إضاءة.
سألت بقلق : وش طلع؟
جلس على طرف الأريكة التي تجلس عليها وهو يشعر بالندم لأنه لم يسمع نصيحة صيتة ويأخذ غرفة في أحد الفنادق "خل القعاطة تنفعك الحين"، يقول بإمتعاض : شركة الكهرب أعدائي إلى يوم يبعثون.
لولوة بارتباك : بتطول مقطوعة؟
دلك عينيه بإرهاق : أبو عشر دقايق.
ثم أبعد أصابعه يسأل : تخافين من الظلام؟
تجيب بهدوء رغم توترها الواضح : لأ.
سكت عبدالإله قليلاً قبل أن يقول بحسرة : حسافة.
عقدت حاجبيها بعدم فهم : ليه؟
تغير مزاجه في ثانية ليقول بنبرة باسمة : كنت أبيك تقولين ايه عشان تلصقين فيني.
سكتت لولوة قليلاً وهي تنظر له بإزدراء رغمًا عنها : لا والله ما أخاف، أنت تخاف؟
عبدالإله مرققًا نبرته بمرح : ايه بالحييل!
ضحكت تصرف بصرها عنه بإحراج، ليقول : طيب الحين يمديك تبدلين وتتوضين ولا تحتاجين مساعدة ؟
يردف بسرعة دون أن يدع لها مجالاً للرد : أتوقع تحتاجين مساعدة.
لولوة بضحكة هادئة : لأ ما أحتاج شكرًا.
تأفف : طيب هذي حاله بالله ما أشوف إلا عيونك تتلامع؟ وش ليكون خايفة؟... والله شكلك خايفة.
قالها وهو يقطع المسافة القصيرة بينهما، يشدها لحضنه،
لكنها دفعته لا إردايًا بهلع : عبدالإله!!
عبس في وجهها لتظهر له ملامحها الغارقة بلون أحمر داكن ما إن انتشرت الإضاءة مجددًا لتضيء المكان : تكفين لا تقولين عبدالإله أحس أني قاعد مع مديري.
.
.

 
 

 

عرض البوم صور وطن نورة ،،  
قديم 15-06-20, 12:14 AM   المشاركة رقم: 300
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2018
العضوية: 330628
المشاركات: 159
الجنس أنثى
معدل التقييم: وطن نورة ،، عضو على طريق الابداعوطن نورة ،، عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 176

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
وطن نورة ،، غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 



.
.


بعد يومين،
السودان.


كانت تجلس على الأرض الصلبة تحتها، تستند بظهرها على الحائط وتضم ركبتيها، تسمع الهدوء ولا شيء غيره، وهذا كان حالها طيلة الأشهر الماضية. محتجزة داخل دورة مياة.. تنام وتستيقظ وتقضي حاجتها فيها، بل وأنها أحياناً تستحم وتغسل ماترتدي بعناية فهي لا تملك شيئًا غيره. لا ترى شيئًا غير جدرانها البيضاء. ولا تسمع شيئًا سوى ارتداد أنفاسها الهادئة في جوفها. لا إفراج إلا لدقائق قليلة، معدودة، محسوبة.. تعيش سجنًا آخر هذه المره، أقل عذابًا وقسوة لكنه أشد وطأة على نفسها.
لا تعلم الساعة ولا اليوم ولا حتى إن كانت تعيش نفس اليوم أو انتهت منه.
امتهان للكرامة وإذلال لم ترى مثله قط رغم أنها قد ذاقت الأسوأ، لاسيما وأن تصرفات كهذه تأتي ممن كان ملاذًا آمنًا لفزعها فيما مضى.
كيف لمن شكت له يومًا بكل حزن : الحياة تعبتني واجد ياجوار.
ليطمئنها ويمحي مخاوفها بكل ثقة وحنان : وأنا الحين عندك، ارمي كل شي علي وإنسي.
أن يتحول لمسخ تجرد من جميع مبادئه وأخلاقه التي كان يتغنى بها قبلاً وكأنها لم تكن.

لازالت تذكر تلك الليلة عندما فتحت عيناها ليلاً وهي تسمع صوت تدفق المياة من الصنبور لتجد جوار يغسل يده بعد أن قضى حاجته دون أي احترام للنائمة في داخل حوض الاستحمام، حتى بعد أن صرخت في وجهه بذعرٍ وقرف تصرف بصرها عنه، إلا أنه هتف ببرود : إذا ماهو عاجبك لا تطالعين.
ومن تلك الليلة وحتى هذه اللحظة باتت تنام وهي تعطي ظهرها كل شيء، على جهة واحدة طوال الليل الذي تتوعى فيه أكثر من مره على دخول جوار لدورة المياة وخروجه منها وكأن دناءته باحتجازها في هذا المكان لا تكفي.

فُتح الباب، دُفع قليلاً دون أن يظهر من كان خلفه.
وكانت هذه إشارة اعتادت عليها طيلة الأيام الماضية أيضاً. وقفت وتقدمت بخطى هادئة بطيئة، تأخذ نفسًا عميقًا ما إن ظهرت لها الغرفة الصغيرة التي لم تتغير منذ تلك الليلة التي دخلتها فيها، تغرق بالفوضى وكأنها لم تُرتب لسنوات.. تزداد الفوضى عن الأمس، وماقبله وقبله.
مع أنه كان يخرج يوميًا منها، تسمع صوت إغلاق الباب بعده لكنه كان يحرم دخول أي شخصٍ آخر غيره.

تابعت خطاها الهادئة حيث وضع لها كيس أحد المطاعم على الطاولة الصغيرة، تجلس على كرسي الأريكة الذي لا يوجد غيره في المكان وتحاول عدم النظر للجسد الواقف بالقرب من النافذة المفتوحة، يتابعها بعينيه وكأنها فريسة ينتظر اللحظة المناسبة كي ينقض عليها بمخالبه.
أقلها كان يطعمها كي لا تنفق من الجوع!

أخذ جوار نفسًا عميقًا من عود السيجارة بين أصابعه قبل أن ينفث دخانها من فمه في الهواء، بهدوء، وبطء يتماشى مع حركتها وهي تخرج ما بداخل الكيس. يبتسم بحقد وغيظ فقد تعلمت الدرس جيدًا وصارت تعلم أن التمنّع لا يفيد. منذ تلك الليلة قبل أسابيع عندما فتح باب دورة المياة عليها والذي كان يغلقه من الخارج، ينتظر خروجها ولم تخرج. وكأنها كانت تعانده وتتعمد استفزازه. مما جعله يدخل عليها غضبانًا ينفث نيرانًا من فمه كالتنين، يسحبها بقوة ودون أي اكتراث لاعتراضها أو حتى أظافرها التي غرستها في كفه. يدفعها أمامه على الأرض لتتعثر وتسقط، يقول بسخط : تسممي.
هي وجية واحدة في اليوم فقط كي تبقى حيه وليس حبًّا فيها.. فهو يحتاجها. الكثير من الأسئلة لازالت معلقة وتحتاج لإجابة. وإن لم تنطق بها سيسحبها من بؤبؤِ عينيها بالقوة.

نفث دخانه في الهواء، يسأل بهدوء : مر قريب الشهرين ولا قد شفتك سألتي عن الصلاة! ولا العرق دساس؟
وصلته نبرتها هازئة بعد ثواني : ماشاءالله صرت قديس علي وأنت أول ماكنت تركعها!
جوار ببرود رغم أنها استفزته : ربي كشف الضلالة عني يوم صرفك من طريقي.
ثم أردف بغيظ وكره : يابنت الصهيونية.
ضحكت بخفة وكأنها تسخر منه، وقد استفزته أكثر، يقسم أنها استفزته لدرجة أنه رمى سيجارته -التي لم يصل لنصفها حتى- على الأرض المفروشة يدعسها بحذائه قبل أن يخرج عودًا آخر يضعه بين شفتيه ويشعله مقربًا الولاعة برجفة خفيفة في أطرافه.
انهت طعامها بسرعة، تشعر بعيناه كفوهة مسدسٍ على قفاها رغم أنها تعطيه ظهرها. تلملم الطبق الكرتوني الذي كانت تأكل منه قبل أن تضعه في كيسه وتربطة، وما إن شدّت خطاها لتعود وتختبئ فهي لا تطيق مكانًا يجمعها به حتى و أوقفها صوته بصرامة : وقفي.
وقفت، ولم تتحرك أو تنطق، بل سلطت نظرتها الكارهه لوجهه.
نظره شعر جوار بأنها أدمت ملامحه من حدتها، يبتسم بدناءة وهو يشير برأسه لقطعة قماش سوداء على السرير : خذي عباتك معك.
عقدت حاجبيها ونظرت لحيث يشير بعدم فهم، ليتابع : آخر الاسبوع بنرجع السعودية ولا تتوقعين إني بخليك بدشرتك مايسترك شي.
رمقته باستحقار وهي تشد على قبضتها كي لا تسحق جمجمته بها، تتابع اقترابه منها بعد أن أطفأ سيجارته بحدود النافذة التي باتت كالمنفضة لسجائره، يقول بنبرة بطيئة قتلتها من الغيظ ما إن وقف أمامها : شغلة ثانية...
يمد يده بعد ذلك لجيب بنطاله الخلفي ليسحب ورقةً فردها أمام وجهها، يمهلها بعض الثواني لتقرأ ماتستطيع قراءته : وهذي وثيقة السفر اللي بترجعك معي زي ال*.
ثم أبعادها بسرعة لتلتقي عيناها المشتعلة بعينه الباردة، يسفط الورقة ضاحكًا بشماته : نعتذر من سعادتك ماهي بمقام الجواز أبو امتيازات لكنها تفك أزمه، نتمنى بس ما نكون قللنا من قدرك يابنت ساطي،
زفرت عذوب تحاول التخفيف من الضغط الذي كان يذيب أعصابها، تشعر بالجنون يأكل عقلها غير مصدقة أن هذا الجوار هو نفسه الذي كانت تعرف، تحاول السيطرة على نفسها لتهتف بنبرة ساخرة : رتبت كل شي أشوف!
ضحك : عاد إن شاءالله يعجبك الاستقبال اللي ينتظرك...
عذوب ببرود : ماهو في صالحك ترجعني معك.. إن عرفوا مكاني ماراح يرحمون أحد.
جوار بغضب : مين هم؟
ابتسمت ترفع كتفيها : أنا علمتك عشان تنفع نفسك وتلحق على عمرك.. ولا أنا ماعاد يهمني أحيا ولا أموت.. لو يسوون بي اللي يسوونه من زمان وأنا ما عندي شي أخسره.
قالتها والتفتت تأخذ عباءتها قبل أن تبتعد من أمامه وعينه تتبعها دون أن يفعل شيئًا، تغلق باب دورة المياة خلفها تستند عليه واضعةً يدها على قلبها الذي اشتد نبضه بتسارعٍ محى البرود الظاهري الذي كان يغطي ملامحها لتنهار بهلعٍ وفزع.

.
.


ابتلع ريقه وهو يشعر بحبات العرق تتشكل على جبينه رغم درجة الحرارة المتدنية جدًا، يتمدد فوق أحد الأسطح وعيناه على من يقف بين الحشد بابتسامة محاولاً طمأنتهم ببعض الكلمات، فلاشات كاميرات صحافة ومايكروفونات قنوات إخبارية جميعها موجهة ناحيته. تطويق رهيب من رجال الأمن وكأنهم يتوقعون رصاصته في أي لحظة.
أسبوع مر منذ أن أودَع رصاصته في منتصف رأس كوهين الذي انتفض لوفاته العالم خصوصًا وأنه عُرف بنزاهته وصلاحه على عكس غيره. يأتيه نوعام بعد ذلك ويضع مهمة أخرى في وجهه، صاحبها ذا شأنٍ عظيم "عدوي وعدوك لذا يجيب أن يموت".
شد على زناد بندقيته ما إن أشار الحارس الشخصي الذي كان كالظل لمن يقف أمامه على بُعد مسافة ليست بسيطة ببدلته الرسمية وصلعته اللامعة وابتسامته الواسعة، عدو نوعام ومن هم أعلى منه فقط. أما هو فلا أعداء لديه سوى ضعفه ونفسه التي لازالت تقحمه في كل هذا دون أن تردعه.

وضع عينًا على منظار البندقية لتقرب له البعيد وكأنه يقف أمامه لا يفصل بينهما شيء، وأغلق أخرى تماثل بلونها سواد الليل الذي لوّن السماء فوقه، يضغط على زناده مطلقًا رصاصةً واحدة بدقّة وهدوء.. أنهت كعادتها كل شيء تحت شعار "طلقة واحدة في منتصف الرأس كفيلة بتأدية المهمة على أكمل وجه" ،
يقف بعد ذلك بسرعة، يستعجل في نزوله السلالم ما إن ثارت الحشود أمامه بعد أن قنص روحًا أخرى،
يعبر عتبة الباب وهو يشعر لأول مرة برغبةٍ بالهرب، ليتفاجأ بعدد مهول من فوهات البنادق مرفوعةً في وجهه.

*

صوت هادئ يقول مبتسمًا : كل واحد له ظل يتبعه عشان ما يحس أنه لحاله، وأنت ظلي ياذيب.
لينطق سائلاً بقهر : وأنا مين ظلي ياساطي؟
تبسم له بمودة، مجيبًا بهدوء : أنا ، أنا ظلك.
خرجت ضحكة ساخرة من بين شفتيه، يكرر بعده باستخفاف : أنت!!!
هز ساطي رأسه بثقة، يهتف بثبات : إيه أنا.. صحيح إني أقصر منك ههه بس تأكد ياذيب إني مستحيل أتخلى عنك أو أتركك بروحك مهما صار.
ينهي جملته وينظر له بنظرةٍ صادقة جعلت أنفاسه الثائرة تعلق في صدره، يسأل بتوهان : بس أنا أحس إني بروحي،، لحالي ومامعي أحد.
ليشد ساطي عليه، يقربه منه وهو يشعر برجفته : افا عليك وأنا وين رحت؟
.
.
.
.


# نهاية الفصل الواحد والعشرون
نلتقي قريبًا جدًا إن شاءالله


سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ♡.

 
 

 

عرض البوم صور وطن نورة ،،  
 

مواقع النشر (المفضلة)
facebook




جديد مواضيع قسم الروايات المغلقة
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 07:41 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية