كاتب الموضوع :
وطن نورة ،،
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي
.
بينما في نفس الوقت، وعند البوابة الرئيسية للفندق،
توقفت سيارة عبدالله بلونها الأزرق الذي بدا مشعًا مؤذيًا للعين مع انعكاس الشمس، تترجل منها لولوة وتغلق الباب خلفها بعد أن أخذت فستانها الممدود في الخلف بداخل كيس من القماش الأسود الخفيف لحفظه، تشد خطاها للداخل وتعبر الباب الزجاجي الدوار، لينطلق عبدالله مفحطًا في طريقه بعد أن تأكد من دخولها، رغم أنه عرض عليها المساعدة لكنها رفضت فلا داعي لذلك والغرفة التي حجزتها ريم لهن موجودة بالطابق الثاني مباشرة.
خففت من وطء خطواتها على الأرض الرخامية تشتم ابليس الذي زيّن لها فكرة ارتداء كعب الحفل من الآن كي تقلل من الأشياء التي تأخذها معها، خصوصا بعد أن شدت رنته الملفته الأعين القليلة الموجودة ببهو الفندق..
لم تصدق أن تدخل المصعد ليغلق بابيه عليها لوحدها دون أن يكون معها أحد حتى ورفعت إحدى قدميها للخلف بعد أن شدّت عليها في الكم خطوة التي مشتها، ولم يمديها أن ترتاح وتلتقط أنفاسها إلا واعتدلت واقفه تعيد ترتيب غطاء وجهها وترفع فستانها الثقيل وتخطو للخارج، تبحث بعينها عن لافته توضح الطريق الصحيح الذي تسلكه لتصل للغرفة رقم ٢٣١.
اخذت مايقارب الخمس دقائق قضت أغلبها وهي تستند على الجدران ترفع قدمها وتحرك أصابعها المشدودة، حتى وصلت للغرفة التي يصدح منها صوت الشيلات تتغنى بقبيلتهم دون أي احترام للفندق أو نجومه الخمس أو من ينزل فيه.
ضربت الباب بيدها، تحاول إخراج هاتفها من جيب حقيبتها بيدها الأخرى بعد أن وضعت كيس فستانها على كتفها، وقبل أن تخرجه وصلها صوت مرتفع هازئ يسأل : مين بالباب بلا زغره؟
عرفت أنها ريم فلا أحد يهوى الاستظراف غيرها : أنا.
ريم : وأنتِ مين يابعْدي؟
تأففت : ريم افتحي بلا سماجة انكسرت يدي.
فتحت ريم الباب، وكان صوت المطرب المرتفع يتغنى باستماته كالصفعة على أذنيها، ابتعدت ريم من الطريق تهتف بمرح : هلا بك في معتقل الجميلات.. بدري طال عمرك كان ماجيتي أحسن.
دخلت لولوة تضحك، تضع يدها على رأسها بسخط : ياويلي ياويلي يالهيلقيه منتي قاعدة بصالة بيتكم وطي الصوت الناس بتشتكي. صوت ذا اللي يجاعر ينسمع من أول الممر.
ضحكت ريم ببلادة تغلق الباب : اسكتي والله شايش راسي بالموت ماسكة نفسي...
دفعت لولوة كيس الفستان في حضنها بقوة، تتبعه بالكيس الصغير الذي يحتوي على طقمها وبعض ماقد تحتاجه وهي تتأفف، تعطي نظرة سريعة لشعرها المفتوح والمستشور بشكلٍ سريع مما جعله منتفشًا : شيلي وأنتِ ساكتة .
ثم استندت على الجدار بكفها، تخلع كعبها الأيمن من الخلف تستعمل لذلك مقدمة قدمها الأخرى قبل أن تلقيه أمامها : قتلني ..
رفعت ريم حاجبيها بعد أن رأت كعبها العالي جدًا والرفيع كالمسمار جدًا جدًا : اوتش، ناوية تتشعلقين بالثريات أنتِ؟
ثم تتابع ببرود قبل أن تبتعد : سلمي على الكهلات وتعالي حنا بالجهه الثانية.
تنهدت لولوة براحة ما إن لامس باطن قدميها الموكيت تحتها، تهتف بعد أن نزلت من علو : يازين الأرض زيناه..
ذا بيقتلني قبل نص الليل حتى....
خلعت طرحتها أثناء تحلطمها : اقعدي بها الحين و خلي شكله ينفعك!!
ثم عباءتها في طريقها للداخل ليظهر ماترتدي، (بُدي) أسود و بنطال بقصة واسعة، عابرةً الممر الصغير والضيق للغرفة ذات السريرين، يفصل بينها وبين الغرفة الأخرى باب تم فتحه.
سلمّت بإحراج على سارة التي كانت خبيرة الشعر تضع آخر اللمسات على تسريحتها، ومن أمامها تقف مسؤولة المكياج. للتو بدأت بها بعد أن انتهت من مكياج صيتة الناعم والذي جعلها تبدو أصغر من عمرها بسنوات، والتي كانت تنتظر دورها في الشعر بعد سارة،
ثم انحنت تسلم على مشاعل الجالسة على الكرسي المفرد قرب النافذة وتتقهوى وتأكل من صحن التمر أمامها بكل برود ولم تبدأ بشيءٍ أبدًا، إذ أن حتى شعرها لازال مجموعًا لأعلى رأسها بمشبكها ، ترحّب بحماس : هلا والله وسهلا بعروسة ولدنا، استعدي الدور الجاي عليك.
ثم تسأل ضاحكة ما إن لاحظت تلعثمها وتورد وجهها : ليه ماجات عمتي معك؟
تبسمت لها بخجل، تأخذ منها فنجان القهوة الذي مدته لها : أمي تخبرينها بتحط برقعها وتلبس ثوبها وتَقضي، مالها بالشغلات ذي.
صيتة بمودة : يازينها.
مشاعل : اقعدي تقهوي معي،
لولوة : بروح للبنات.
مدت لها مشاعل صحن التمر : يابنت الحلال روقي دماغك وتقهوي أول قبل لا يخرشونك بلجّتهن.
أخذت تمره وتراجعت للخلف تجلس على طرف السرير.
تبتسم على مشاعل التي كانت تحرك قدمها بانسجام مع الشيلة التي كانت تتكرر مباشرةً بعد أن تنتهي، دون أن تشعر بنفسها منطربةً جدًا مع ماتسمع،
رفعت الفنجان الورقي لفمها تنظر حولها أثناء ذلك، تنتبه للأحاديث بنبرة خفيضه بين سارة وصيتة التي جلست على الكرسي الآخر بجانبها ومن خلفها مصففة الشعر... تستمع لهن ولضحكهن الخافت وتحاول تنظيم شهيقها وزفيرها وهي تشعر بالخجل منهن لأول مره ولا تعرف سبب ذلك، إذ لم تكن هكذا في السابق أبدًا!!
وضعت حبة التمر في فمها وأبقت على نواتها داخله، تمصها بارتباك ما إن انتبهت لنظرات مشاعل المسلطة عليها ، تقول بعد ذلك بنبرة وكأن هذا ماكان ينقصها : وينك ياعبادي تجي تشوف اللي تشوفه عيني قسم مايمسي ذا الليل إلا وهو جنبك...
ابتلعت لولوة النواة وغصت بها، تكح حتى اصطبغ وجهها باللون الأحمر، يأتيها صوت صيتة مرتفعًا : بسم الله عليك.
وتتابع مشاعل ضاحكة باستمتاع : أجيب لك ماء؟
لكن لولوة فضلت الهرب، اعطتها ابتسامة هي متأكدة من أنها خرجت بلهاء فالاحراج سيقتلها، ترفع (البُدي) بحمالاته الرقيقة للأعلى قليلاً وكأن مشاعل ستعمل مسحًا شاملاً بعينيها وتحفظه في عقلها للذكرى، قبل أن تقف وتبتعد بخطى سريعة، تذهب للغرقة الأخرى حيث رائحة الشعر المحروق وصوت مجفف الشعر ينازع باستماته ليكون مسموعًا فوق صوت الأهازيج.
تسمع تعليق صيتة قبل خروجها : احرجتيها حرام عليك .
ومشاعل : وأنا صادقة عند ربي والله لا يفترسها أخوك نهّاش راعي البراري والصحاري.
ثم تستطرد ممازحة تشير بسبابتها وابهامها بشكل مسدس : بيو بيو.
ليضحكن بعد ذلك بصوتٍ مرتفع كمجموعة عجائز منحرفات على الإيحاء الشفاف أكثر من اللازم.
توقفت شعاع التي كانت في طريقها للغرفة الأخرى ما إن استبطتها : وين...
لكن ارتطام جسد لولوة بجسدها بتر كلمتها، لتجد نفسها محاصرة بين ذراعيها قبل أن تصرخ مبتعدة بعد أن قرصتها : وجع يوجعك... بنت وش فيك؟
لولوة بانفعال : ليه ما قلتي إنهم بيكونون معنا بنفس الغرفة!!..
لتجيب شعاع بألم تفرك عضدها حيث غرست لولوة أظافرها : وإن كانوا معنا طيب؟
همست بانفعال : غطست بثيابي....
ضحكت شعاع، تنتبه لاشتعال نحرها وتبعدها من طريقها : صدقت ريم يوم قالت كهلات،، أنا أوريك فيهم.
.
أغلقت ريم المسجل قبل أذان المغرب بدقائق، ولم تفتحه مجددًا بعد أن انتهت الصلاة. ليعم الهدوء البهيج أرجاء المعمورة، إلا من بعض الأحاديث الجانبية من وقتٍ لآخر، فالجميع مشغول.. ولم يتبقى الكثير من الوقت.. ولم تمضي إلا دقائق طويلة حتى وصل لمسامعهن صوت نغمٍ رقيق، يتبعه صوت الدفوف والزغاريط والصلاة على النبي.
لتقول شعاع مغمضَة العينين وفرشاة الظلال تلون جفنها، تسحب نفسًا مرتعشًا وتضع يدها على صدرها : يمه قلبي يرقع شكل زفة غادة بدت .
الجادل بحماس : اوف الصوت مره عالي كيف مافيه عوازل!!
سكت الجميع وعم الصمت المهيب الغرفتين إلا من أنغام زفة غادة فهي الصوت الوحيد المسموع، تتسارع معها نبضات قلوبهن بشكلٍ لا إرادي ، ليبقى سؤال الجادل الوجيه معلقًا دون إجابة.
تهتف لولوة بتأثر وحب أخوي خالص : ياعمري يافهد الله يسعده ويوفقه.. بداية زفتها تهبل يابنات..
ابتلعت ريم ريقها وعبرتها، هاجت عاطفتها وخليط من المشاعر المثقلة تعصف بقلبها وروحها ، ولم تُخفي العاملة التي كانت تضع لها طلاء الأظافر استيائها من رعشة أطرافها مما جعل اللون الأحمر الصعب يخرج عن حدود الإظفر، لتقول ريم معتذرة قبل أن تقف : دقيقة وراجعة..
ثم مشت بخطى سريعة للغرفة الثانية، حيث والدتها تجلس بسكينة على الكنبة التي كانت لمشاعل، بابتسامة واسعة وعينين تلتمع بومضات البهجة والفرح ، تستطيع أن ترى هالة السعادة تحيط بها، سعادة معدية جعلتها تضحك بحبور وعدم تصديق : يمه تسمعين؟
بادلتها سارة الضحكة بعبرة واضحة والشعور الذي تعيشه الآن لا يمكن وصفه، تقول بنبرة خرجت مرتفعة من فرط سعادتها : ايييه يارب لك الحمد على البلاغ.. حبيبي.. الله يجعلها دخيلة خير عليه ويجمع بينهم بالخير .
لتقول صيتة بنبرة تغرق بالعاطفة : اللهم آمين وعقبال ماتبلغين بعياله وأحفادهم.
سارة بلهفة : يارب.
انتظرت مشاعل أن تنتهي خبيرة التجميل من وضع محدد الشفاه، وما إن أبعدت الأولى يدها حتى وأبعدت رأسها تقول بعد ذلك مباشرة : مبروك يالسوري مبروك، الله يوفقهم ويجعل السعادة والهنا فالهم وقدامهم. والله يرزق شيخة البنات ريم الرجل اللي يقول بها هه -قالتها تبسط كفيها للأعلى وتحركهما- وتكشخ فيه عند صديقاتها .
ضحكت سارة بمودة : اللهم آمين ياحبي لك..
قالت ريم بخجل ليس وكأنها نفسها التي أمنّت بصوتٍ مرتفع أمام أشقائها : ياليتنا نقدر ننزل ونشوف.
أمسكت مشاعل بمعصم من تقف أمامها قبل أن تضع الروج : وش تبين تشوفين؟ مرَه ورجلها تلاقينهم هاريين بعض بوسات وأحضان وحركات ساخنة .
وضعت صيتة يدها على رأسها ما إن ضحكت ريم بصوت مرتفع و وجهٍ مشتعل، وابتسمت مشاعل بخبث تغمض عينيها باستسلام تسمح للمرأة أن تكمل عملها أخيراً والذي قطعته الف مره، تجد أن حتى سارة ومن فرط سعادتها وجدت ماقالت مشاعل مضحك..
: نعنبو ياخيّه !! لا تنزعين حيا البنت بالكلام الماصخ.
لتقول مشاعل باستهجان لازالت على وضعها : أفتح عيون مين يختي؟!!
ثم تستطرد : ريم استحيتي؟
لتجيب ريم لازالت تضحك : الصدق لا والله .
واللهِ أنها تموت بريم ، تقول متبسمةً بتشفي : شفتِي..
.
قبل نصف ساعة، خرج فهد من غرفته بعد أن صلّى المغرب قاصدًا القاعة الموجودة بالطابق الأول.. يقف أمام بابها الخارجي المغلق ويحاول فتحه وفشل بذلك..
تلفت حوله باحثًا عن أحدٍ بعينيه ولم يجد. فأخرج هاتفه يتصل عليها، يضعه على أذنه ويشد أنفاسًا عميقةً لصدره.. خطوات سريعة لا يفكر فيها مرتين كي لا يتراجع عنها..
ثواني فقط و وصله الصوت الهادئ مخلوطًا ببحه خفيفة : الو..
ليقول باندفاع ودون تفكير : غادة وينك؟
وكان هذا أجمل صوت مر على مسمع غادة ونطق بإسمها منذ أن ولدت وحتى هذا اليوم، وأجمل سؤال سوئلته ذات يوم..
وضعت يدها على قلبها متسارع النبض : أنا داخل؟
ضحك بارتباك : وأنا واقف عند الباب، والباب مقفل!
ثم يردف بظرافة : أرجع يعني ماتبيني ولا شلون ههه؟!
غادة "هذا شفيه؟".. : طيب دقيقة.
قالتها تغلق في وجهه، تقف بعد أن كانت جالسة تلتقط بعض الصور.. تقول بتوتر : فهد جا... رهف اطلعي افتحي له الباب.
لكن رهف التي كانت بين يدي مسؤولة المكياج أجابت باستهجان : أقوم من تحت المرَه عشان افتح لزوجك؟ لا حبيبتي شوفي غيري.
غادة بانفعال وتوتر : حسبي الله عليك كانك لا حلَق ولا بطانة أنا وش له جايبتك معي!!
لترحمها المصورة السعودية التي تملك استوديو تصوير تعمل فيه هي وأختها ومساعدات من الجنسية الفلبينية على مستوى عالي من الاحترافية، ترسل واحدة منهن مع أختها لفتح باب القاعة الكبير المغلق من الداخل ،
ليجد فهد نفسه بعد ذلك يمشي على الممر الطويل وطائرة فانتوم صغيرة مثبت بها كاميرا تحلق فوق رأسه.
.
(الساعة ٥:٥٥ مساءً)
زواج فهد وغادة ؛
أُغلقت الأنوار وبقى القليل منها يتوزع بشكلٍ أثيري على السقف، وما إن بدأ الصوت الرقيق يتردد بين جدران القاعة الفارغة معلنًا عن قرب دخول غادة. إلا وشدّ فهد على بشته، مركزًّا نظرته على الباب المغلق أمامه في أول الممر، يبتسم باتساع رغم تلاطم أنفاسه، وقرع الطبول بين جوانحه، وكأن قلبه سينفجر من قوة نبضاته كأنما عاد للحياة بعد أن فارقها لدقائق.
اتسعت الابتسامة أكثر حتى ملأت وجهه ما إن ظهرت غادة تتسربل بالبياض، يزم شفتيه كي لا تخرج ضحكة عالية من حلاوة الشعور الذي يخالجه. يستطيع أن يرى الدفء ينبعث من عينيها الآسرة بوضوح رغم بُعد المسافة، تتلاشى مخاوفه، يتخلص من مكنونات نفسه، مايجول في خاطره وكل ما اعتمل في صدره، وتبقى غادة... تتهادى نحوه ببطئ وكأن أمامها الليل بأكمله. يجد نفسه مشتاقاً لأخذها بين يديه رغم أنه لم يقم بذلك أبداَ. متلهف لسماع اسمه بصوتها، يخرج من بين شفتيها التي تلونت بالأحمر التوتي وكأنها تعرف أنه لا يليق إلا بها، يخترق أضلعه ولا يستقر إلا في أعماقه.. أن يُغرق وجهها بالقبلات ويهمس في أذنها الأحاسيس الجديدة التي تفجرت في داخله ولم يشعر بها قبلاً.
وصلت له، تمد يدها ليساعدها في صعود الدرجات الصغيرة ، فتقدم ينزلها لأجلها
الأولى
والثانية
والثالثة
إلى أن وقف أمامها، يمسك بأصابع يدها المرتعشة بوضوح ويشد عليها قبل أن يرفعها لفمه، يقبل كفها برقّه وكأنه يخشى أن يخدش نعومة سطحها بشعر شاربه، دون أن يبعد عينيه عن عينيها المتلألأه، يهتف مرحبًّا بابتسامة دافئة وحبور، يشعر بأنه فهد غير الذي يعرف : هلا والله هلا.
أخذت غادة نفسًا عميقًا محملاً برائحة عطره ورائحة العود الذي تصاعدت أخبرته بشكلٍ مهيبٍ في المكان، تنظر لعينيه وكأنها تراها لأول مره، ترى فيها بريقًا آسراً ذابَ قلبها فيه، وكأنها خُلقت لها وحدها لتتأملها دون ملل، غير قادرة على صرف بصرها عنها،
ولا عن خطوطها التي تشكلت حولها بشكلٍ حاني ما إن اتسعت ابتسامته وكأنه ملك الدنيا وما عليها برؤيتها، تشد على أصابعه، تقول بأنفاس مقطوعة وبضحكة مهزوزة خرجت رغمًا عنها : هلاا هلاا.
.
سلمت سارة من صلاة العشاء، تستغفر وتدعو قبل أن تأتيها ريم تتراقص على رنين هاتفها الذي كان موصولاً بالشاحن، تسأل ما إن مدته لها : مَن؟
لتقول ريم تفتح لها الخط وتجلس بجانبها : فهود.
سحبته من يدها بقوة، تضعه على اذنها تقول بلهفه : هلا وسهلا بمعرسنا هلا والله.
وصلتها ضحكة فهد وكأنه للتو وُلد ، خفيفة ومتسعه كالأفق. سمعتها بقلبها، واللهِ بقلبها.. يأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يقول بنبرة مثقلة بالمشاعر : هلا بك يابعد روحي.. بشري كيف أمورك؟ وكيف ريم خلصتوا ولا للحين؟
سارة : أموري تسرك يابعد قلبي وأبشرك خلصنا بس انتظر البنات يصلون وننزل جميع، أنت بشرني شفت غادة؟
وصلتها نبرته تعبر عن الف شعور عجز عن نطقه، نبرة رجولية عميقة : شفتها يمه شفتها، ما أقول غير الله يخليك لي يومك ماتختارين لي إلا الزين..
ضحكت بعبرة : ويخليك لي يا حبيبي أنت وأخوانك...
أبعدت ريم رأسها بعد أن كانت تلتصق بها علها تسمع شيئًا، تقول باستهجان : واختك؟.. ولا الأخت مالها خانه بذا العايلة!
لكن سارة تابعت تسأله : وينك الحين؟
عادت ريم تتحلطم، تعاود لصق رأسها برأس أمها : أنا قايله زوجونا قبل لا نموت ما سمعنا كلمة حلوة...
لكن سارة كانت تصب كل تركيزها مع فهد الذي قال : انتظر حاكم بيمرني بعد شوي ونروح للرجال بس قلت أدق اتطمن عليك واسمع صوتك .
هتفت سارة بحب عميق : الله يطمن قلبك ويسعدك، الف الف مبروك وأنا أمك... تكفى لا تنسى خليهم يصورونك وأرسل لي الصور..
ثم تردف وهي تسمع سلامات متطايره يمينًا ويسارًا : وحريم خوالك عندي ويسلمون عليك.
ليقول فهد بحبور : الله يبارك فيك ويسلمك أنتِ وهم، يلا يابعد روحي فمان الله.
سارة بلهفة : مع السلامة، أستودعتك الله.
وما إن أبعدت الهاتف حتى وباغتت ريم قبل أن تباغتها : ضفضفن الحوسة ذي وكل وحدة تقفل شنطتها بعد العرس على طول بنرجع البيت..
ثم تابعت تنادي بصوت مرتفع : يلا يا بنات استعجلوا.
ابتعدت ريم تهتف برجاء : ليه يمه نبي ننام هنا..
رمقتها بطرف عينها قائلةً بتهكم : ليه ماوراك بيت يضّفك؟ ولا جايه من سفر؟
مطت ريم شفتيها تقول بتبرم : نبي نحلل قيمته على الأقل والصبح ننزل نفطر من البوفية حالنا حال عيال الناس .
وقفت سارة، تهتف بصرامة وتبعد طرحتها قبل أن تتأكد من أن شعرها لم يخرب : قلت مافيه..
هتفت ريم بامتعاض وهي تأخذ خطوات سريعة واسعة للغرفة الأخرى، ترفع فستانها قليلاً كي لا يعيق حركتها : دام الدعوة كذا أجل يلا يا بنات انتشار سريع نبي نقش كل الصوابين اللي بالحمام،
ثم انتبهت أن الجميع يصلي فالتفت على الجادل التي كانت تقف أمام المرآة الطويلة ترتدي أقراط أذنها، تقول مصفقةً بيديها : هيه الجادل عليك الشباشب مانبي نترك لهم خيط أحمر والله لو المفارش ماهي واضحة كان حطيتها بشنطتي.
الجادل ضاحكة : والقلم والنوت اللي على الطاولة ناخذها ولا نخليها؟
حركت ريم يدها تشجعها وتقول بنبرة تمط بها الكلمة : خذيييها نعنبو من قالك لأ.
انتظرت الجادل حتى تأكدت من أن القفل خلف حلق أذنها مشدود باحكام، تقول بعد ذلك بابتسامة وخدَر : دام محد بينام أجل بقول لحاكم يجي.
التفتت ريم التي كانت تنوي العودة للغرفة الأخرى لترتدي كعبها برأسها بقوة كادت أن تكسر رقبتها ، تقول بإندفاع : لا حبيبتي يا ننام كلنا ونفطر من البوفيه أو نروح كلنا.. أنا اللي حجزت ودفعت ما أبي أخذ ذنبكم لا سويتوا حركات خيطي بيطي..
أحمر وجهها واتسعت عيناها في ذهول وقد فهمت ما تعني جيدًا : ذنب وش يابنت يا مجنونة أنتِ؟!
لتهتف ريم : مثل ما جيتي معنا ترجعين معنا..
كادت الجادل أن ترد، لكن ريم اختفت من أمامها قبل أن تدع لها مجالاً لذلك.
.
.
دخل ذيب شقته، متوشحًا بالسواد كعادته.. اللون الذي يتناسب مع نمط حياته، فكل ما يحيط به أسود، وكل مايخصه أسود، يغرق بالقتامه..
يمشي بخطى واثقة متزنه، هادئة جدًا، على صوت التلفاز المرتفع، يعرِض الأخبار التي هزّت العالم بأكمله, يقف خلف الأريكة حيث نوعام الجالس بأريحية يضع ساقًا على الأخرى ويرفع قارورة بيرته في الهواء مشيراً بها ويراقصها بتبجيل واحتفاء بالمشهد الذي يعرض أمامه، ينشد أهزوجةً بعبريةٍ يفهمها جيدًا :
طالما في القلب أملٌ كمين
نفس اليهودي فيها حنين
ونحو المشرق وإلى الأمام
عينٌ على صهيون لا تنام
ليخيم على سمائهم الذعر والرعب
حين نغرس رماحنا في صدورهم
وترى دماءهم التي أُريقت ورؤوسهم المقطوعة
يهتف وكأن من هم خلف الشاشة يسمعون، حيث البابا يقف بلباسه الأبيض وصليبه الكبير المذهب، يلوّح بيده وتظهر ابتسامته الفارغة على ملئ الشاشة، قبل أن يقع أرضاً بعد رصاصة كالصاروخ اخترقت منتصف رأسه.. ليفزَع الحشد أمامه، ويستنفِر الحراس حوله بعضهم يلتفون ويغطونه والبعض الآخر ينتشرون في كل اتجاه ويشيرون بسلاحهم كمجموعة عميان، ليبعد ذيب عينيه اللامعتين عن منظار البندقية، بقزحتين متباينتين, ترى في الأولى الليل الحالك والأخرى وضح النهار. متمدداً على أحد الأسطح البعيدة بعد أن أطلق رصاصةً واحدة بدقّة وهدوء.. أنهت كل شيء. كما قال نوعام تمامًا "طلقة واحدة في منتصف رأسه كفيلة بتأدية المهمة على أكمل وجه" ، يبتعد بعدها ينزل السلالم ببطء وسكينه تاركًا بندقيته والحشود المرعوبة خلفه.
.
ابتعد تاركًا نوعام المبتهج خلفه، والذي ضم ابهامه وسبابته واصبعه الأوسط لبعضهم البعض، تاركًا الاصبعين المتبقيين يلتصقان براحة يده، يرفع يده لتلامس أطراف أصابعها المضمومة جبينه أولاً، ثم ينقلها لبطنه ثم كتفيه من اليمين إلى اليسار ، يهتف شامتًا بسخرية : فليرقد البابا القدّيس بسلام .
أغلق ذيب باب غرفته وصوت ضحكة نوعام المرتفع بعد الذي قال يصله بوضوح، ينزع ثيابه في طريقه لدورة المياة، ويخلع قلادته ويلقي بها أرضاً قبل أن يدخل، يفتح الماء البارد ليقع كالثلج على رأسه، ويكاد يقطع أنفاسه.. يرتعش من برودته، يرفع يديه معيدًا شعره للخلف، يشد عليه حتى كاد ينتزعه من جذوره، ثم يخفض رأسه قبل أن تقع عيناه على رقم ١ الموشوم بحبرٍ أسود داكن على صدره، قريبًا من قلبه النابض ببرودٍ رهيب، بشكلٍ عابث لا يشعر به. كأنه ميت!
يرفع كفّه لشفتيه، يقبّل عزام، وساجر وشعاع وصيتة. علّه يجد بحروفهم مايحيي قلبه، ويملأ الفراغ داخله.
.
.
دخل عزام قاعة الرجال وهو يعلم بأنه تأخر في حضوره، فالسيارات بالخارج أغلقت الطريق من كثرتها.. يحاول أن يبتسم ويعطي فهد حقه من القرابه وصلة الرحم ويتخطى ما بينهما رغم صعوبة ذلك.. لازال يشعر بالندم ينهشه كلما تذكر ما دار بينهما البارحة من صراخ وحتى ضرب.. نادمٌ أشد الندم فما قاله ليس هينًا أبداً لا على روحه ولا على روح فهد المستنزفه. دار ذلك في خلده وهو يقطع المسافة الواسعة، حتى بان له العريس يقف في استقبال ضيوفه بين والده و والدها الذي يجالس مقعده، عن يمينه وشماله خاله وجده وأشقاؤه ، وعمه وأبناء جماعته.. الجميع يقف معه كتفًا بكتف, إلا عزام الجبان الذي أتى وكأنه ضيف.. حاله حال المهنئين الذين دخلوا مع الباب ، بعضهم سعيد له من الخاطر ويبارك له خطوته هذه، والبعض القليل بدَا وكأنه أتى مجبرًا يرمقونه بالنظرات التي حاول تجاهلها قدر المستطاع كي لا تنغص عليه ليلته.
أوقفه عبدالله الذي ما إن رأى ما يغطي كتفه ويشتد على صدره بشكلٍ عرضي فوق ثوبه حتى وتقدم له، يسأل بقلق : ياولد وش بلاه كتفك؟
ليسلم عليه عزام ويجيب عاقدًا حاجبيه بامتعاض : شد علي أمس ذبحني.
عبدالله : من وشو والجرح طاب!!!
زم عزام شفتيه قليلاً، يبحث عن شيء منطقي يقنع عبدالله لينطق أخيراً بعد ثواني : يقولون بذلت عليها مجهود والجرح للحين طري.
هز عبدالله رأسه بتفهم ، يزفر بحيرة، ويهتف باهتمام : والحين؟
عزام : الحين اشوى الحمدلله،
ثم رفع عينيه قليلاً ينظر لفهد المنشغل : أبعد من طريقي بروح اسلم يكفي إني متأخر.
سلّم فهد على صالح ومن أتى معه من أصدقاء الاستراحة، يحتضنه الآخر ويربّت على ظهره بقوة وإمتنان : الف مبروك يالمحزم..
يضحك على تعليقاتهم الغير لائقة نوعًا ما إلى أن سحبهم حاكم معه يبعدهم من أمامه، يهمس ممازحًا : فشلتونا بين العربان الله يفشلكم.
وما إن وقعت عينه على عزام الذي أصبح على مقربة منه، حتى وتلاشت ابتسامته وتغير لون وجهه رغم الابتسامة المغلقة التي كان يرتديها الآخر على وجهه.. ليقترب منه مسرعًا قبل أن يصل عزام له، يسأله بقلق فقد لاحظ الألم الذي كان وجهه يتلون به البارحة : علامها يدك ؟
مد عزام يمينه ليصافحه ، يجيب بهدوء : زالق عليها.
زم فهد شفتيه وكأنه يقيم إجابته، لازال ينظر لوجهه بتفحص قبل أن يتنهد بقل حيله ، يشبك يده بيد عزام ويشد عليها كعادته : ماتشوف شر.
ابتلع عزام ريقه بابتسامة اتسعت إنشًا، يسحب فهد ويلصق خده به سلامًا عليه، يهتف بهدوء ومودة خالصة ففهد يستحق الخير ولا دخل له بعقده النفسية : الف مبروك يافهد، الله يوفقك ويعمر بيتك ويرزقك بالذرية الصالحة.
ثم تفر من بين شفتيه زفره متفاجئة ما إن شعر بذراع فهد الأيسر يلتف على كتفه، يقربه منه ويمنع ابتعاده، يهمس برجاء : أنا آسف ياعزام، سامحني...
تبسم عزام عاقدًا حاجبيه بعدم فهم ما إن أبعد نفسه عن محيط يده، لايزال كفه معقودًا بكفِّ الآخر والذي رأى في عينيه التماع غريب وحنين قديم لم يفُته، يقول بعد أن صرف بصره عن عينه : تعتذر على وش يافهد؟
ثم يردف ممازحًا بضيق : أنا اللي اعذرني, أمس لويت يدك بقوة وأوجعتك وأنت عريس وراك شغل واجد اليوم ههه.
لكن ماكان يعنيه فهد أعمق من ذراعه الذي التوى، وأقدم بكثير مما حصل بالأمس.. يعتذر عن ثمانية عشر عامًا مر نصفها وعزام ينظر له نظرةً مختلفةً عن غيره، وبأنه لو كان يعلم بأن الأحوال ستتبدل مئة وثمانون درجة هكذا, لما كان استهان بالتحذيرات وسهّل جلسات آخر الليل خلف الخزان معه.. لكان قطع كل شيء مع عزام باكرًا وتغطى عنه حاله حال غيره حتى لا تكبر الفكرة في عقله أكثر.
مع ذلك, خرجت من بين شفتي فهد ضحكة رجولية خافته، يهتف بعدها شادًا على كف عزام بكلا كفيه.. هاتفًا بحزم : الروح وراعيها ترخص لك يابو العز،
أرحب حياك الله.
بعد نصف ساعة بالضبط، ثلاثين دقيقة.. خرج عزام من القاعة يفتح أزرار ثوبه العلوية ويجذب أنفاسًا عميقةً لصدره، يهتف بينه وبين نفسه بغضب هادر " وش طاعونك أنت؟ وش هي علتك يالرخمة.. يالرخو!!".. دون أن تجيب نفسه على نفسه،
يركب سيارته مبتعدًا عن المكان كارهًا روحه في هذه اللحظة، والشعور المُر والحارق الذي أتاه من العدم، الشعور بالاختناق والثقل وكأن الموجودين يجلسون على قلبه.
سعيد لفهد، والله العظيم أنه سعيدٌ له, سعادةً أخويةً خالصة.. حقيقية.. من أعماق قلبه، ويتمنى أن يجد في زوجته العوَض الذي ينسيه كل ما صار له.
مع ذلك, ورغم سعادته وأمنياته القلبية الخاصة، وجد نفسه الآن يخرج من المكان بسرعة، متعذرًا بظرفٍ طارئ صدّقه به الجميع إلا عبدالإله فهو يعرف منذ القدم، وربما فهد لأنه صار يعرف الآن،
يُخرج هاتفه من جيبه، تقوده أصابعه لاسم شعاع متصلاً عليها..
لم يجد ردًّا في المره الأولى، ليعاود الاتصال بإلحاحٍ مجددًا.. يحتاج لسماع صوتها الهادئ كي لا يستسلم للأصوات الغريبة داخله.
طال الرنين حتى أتاه صوتها، قبل الرنة الأخيرة تقول بصوت مرتفع وانفاس لاهثه : هلا عزام .
أستراح في جلسته، وارتفع طرف فمه بابتسامه صغيرة، وكأنها إبرة مخدر انتشرت في عضلاته المشدودة.
قادر على سماع الصوت البعيد للمطربة وكأنها ابتعدت لتجد زواية هادئة تستطيع التحدث فيها معه، يقول متنهداً : هلا بك.. وش أخبارك؟
شعاع : الحمدلله؟....
ثم أردفت بتوجس : فيه شي؟
أخرج تنهيدةً أخرى : لا أبد.... خلص عرسكم؟
علمت شعاع التي ابتعدت بهاتفها ما إن بدأ بالرنين للمدخل ودورات المياة تاركةً المكان المكتض بالنساء الراقصات على صوت المطربة المرتفع خلفها , أن هناك خطبًا ما : عزام الله يهديك توها الساعة ما صارت عشر ونص حتى!!.... تكفى علمني وش اللي صاير لا تخرعني.
أجاب عزام بسرعة ما إن احتدت نبرتها بقلق : والله العظيم مافيه شي وش فيك على طريف أنتِ!!
زفرت، تأخذ ثانية صمت قبل أن تسأله : أنت وينك الحين؟
عزام بتردد : ... عند مدخل النساء؟
شعاع : أجل انتظرني عشر دقايق وبطلع لك.
قالتها وأغلقت الخط، مما جعل ابتسامة عزام تتشكل وتتسع حتى تحولت لقهقهه، يلقي بهاتفه في حضنه ويأخذ المنعطف مسرعًا حيث الطريق لقاعة النساء التي تركها خلفه، يتمم : ياحبي لك ياشعاع..
ورغم أنها زادت على العشر دقائق ، عشر دقائق أخرى.. إلا أنها أتت، تركت الحفل ومن فيه خلفها وأتت..
يتابع زولها بعينيه تخرج من البوابة وتتلفت حولها، يضرب لها هرنًا كي تنتبه لوقوفه خلف السيارة التي أنزلت ثلاث نساء من الضيوف الواصلين للتو، ترفع يدها في الهواء كإشارةٍ بأنها رأته قبل أن تتقدم لسيارته بخطى مدروسة كي لا تقع، تسحب ذيل فستانها خلفها.
مد جذعه جانبًا ما إن اقتربت، يفتح بابها ويدفعه قليلاً ليهتف مرحبًّا قبل أن تركب : هلا بشيختهم.
ولو كانت شعاع في حالٍ أفضل، لكانت طارت من فرط سعادتها، ولكنها كانت في حالة لا يعلم بها إلا الله، تركب على عجل، قدمٌ في الداخل وأخرى لازالت في الخارج، تسأله : صدق مافيك شي؟
ثم تضع كفها على كتفه حيث إصابته، تهتف بقلق رقيق : ليكون يدك توجعك؟
سحب يدها، وشدّ على كفها يزم شفتيه عله يمنع ابتسامة واسعة جدًا من أن تخرج ما إن رأى خاتمه الذي أهداها إياه يزين اصبعها، على مقاسها هذه المره : والله العظيم ما فيني شي...
ثم يستطرد بسرعة : وش قلتي لهم؟
أدخلت شعاع قدمها الأخرى، تهتف ضاحكةً بخفه وهي تغلق الباب : قلت حفلتكم بيض أنا طالعة.
اتسعت عيناه بذهول : من جدك؟
تعالت ضحكتها : لا طبعًا، طلعت من غير لحد يدري بس قلت للجادل عزام برى وبيخطفني برضاي.
عزام بابتسامة على مزاجها الرائق رغم أنه أفسد الحفل عليها : أقول أنا برجعك قبل لا أبلش فيك.
تريحت في جلستها تهتف ولازالت الضحكة واضحة في صوتها : محد بيفقدني ولو إن وجودي واضح لكن إن سألوا جادل بتقول داخت وطلعت بتروح المستسفى.
عزام : صاحية تفاولين على نفسك؟
أدارت رأسها ناحيته، تنظر... تتأمله بثوبه الأسود وشماغة الأحمر.. تشعر بقلبها ينفجر نابضًا بين أضلعها، تتنهد هاتفةً بحب واضح : وش أسوي كله لعيونك.... وين بنروح؟
ارتفع طرف فمه بابتسامة, يقول ممازحًا بهدوء : بسرقك.
سكنت شعاع بعد كلمته هذه واستكّنت، ترتخي بجلستها لتقول بخدَر وخفوت بعد دقيقة كاملة مرت في صمت : .....أوكي حلو.
ضحك : فيه واحد اسمه أبو مدينة عند مفرق الظهران يبيع شاهي حبق خرافي قلت لازم تجربينه.
وضح الاستنكار بصوتها : شاهي حبق!!
توقف للإشارة خلف عدد بسيط من السيارات، يستدير لها برأسه ويقول بابتسامة طفيفة : إذا تبين ترجعين للعرس رجعتك.
شعاع بخفّه : أرجع وأنت معطيني ذا الابتسامة؟ لا يبوي دووس وعلى أبو مدينة وديني.
ضحك بصوتٍ مرتفع، ولم يشعر بنفسه.. وأخذ كم ثانية إضافية يضحك.. فشاركته ذلك وهي تشعر بروحها ترفرف بين جوانحها.. يأخذ نفسًا ما إن تحركت السيارات أمامه.. يتنحنح ساندًا كوعه على النافذة المفتوحة ويمد ذراعه ليغطي فمه بأصابع يده التي فشلت في إخفاء ابتسامته بعد أن بقَت واسعة.
ينطلق بسيارته فوق الحدّ المسموح به، يشق الطريق أمامه بسرعة، يفتح جميع نوافذ السيارة ليدخل الهواء البارد العليل الذي أنعشه، وأنعش شعاع الجالسة بجانبه..
وما إن مد عزام كوب الشاي الكرتوني لشعاع، يضع كوبه بينهما في مكانه المخصص ويحاسب أبو مدينة، إلا وانطلق مجددًا في طريقة.. بسرعة.... لتجد شعاع نفسها تعيش مغامرة من نوعٍ مختلف معه، تشعر بفوران الدم في عروقها ترقبًا وحماسه، تسأله : والحين وين؟
ليجيبها بهدوء دون أن يبعد عينيه عن الطريق : الحين بتشوفين.
تنشغل بعد ذلك بهاتفها والاتصالات التي توالت عليها، والدتها تطرح المئات من الأسئلة القلقة بعد أن فقدت وجودها، ثم خالتها صيتة.. ثم سارة..
تشير بكفها في وجهه مستنكره بمعنى "ليه جايين هنا؟" ما إن تراءى لها البحر بلونه الداكن والأنوار المنعكسة على سطحه، لازالت عمتها على الخط.. ولازالت تسطر لها الأعذار لكونها خرجت قبل أن تزف عروس ابنها حتى.. وما إن أغلقت منها حتى وأبعدت هاتفها بسرعة، أمامها البحر مباشرةً لا تفصلهم عنه سوى حدود اليابسة التي تقف عليها سيارة عزام، ومن خلفها برج المياة بألوانه التي تتغير كل ثانية وتضيء سماء الليل الحالك، تنطق استنكارها هذه المره : الكورنيش؟!!!
تبسم لها بحماس : وش رايك؟
صمتت، تتأمله.. تتأمل انعكاس الألوان المختلفة على وجهه.. تحبه.. تسأل بحيرة : عزام أكيد مافيك شي؟ تكفى لا تكذب علي..
تبسم عزام معتذرًا، خصوصا بعد أن نزعت غطاء وجهها وبانت له زينتها.. يشعر بأنانيته وهو الذي أحرجها وأخرجها من حفل زفاف ابن عمتها لإحساسٍ غريبٍ في نفسه : والله ما فيني شي هذاني قدامك..
استمرت تتأمله لثواني، يلاحظ القلق واضحًا في التماع عينيها، قبل أن تزفر بعمق، تعتدل جالسةً وتنظر للأمام مرتشفةً من كوبها بهدوء.
وقبل منتصف الليل بثوانٍ قليلة، فتح عزام باب منزله، يحمل بيده كيس عشائهما من أحد المطاعم فهو ليس بقليل ذوق لهذه الدرجة ليعيدها بدون عشاء، يقول ممازحًا : برجلك اليمين يا سندريلا.
ضحكت تتجه للدرج مباشرة : سندريلا بتطلع تبدل ثيابها وأنت ضبطنا بالعشا تكفى.
صعد الدرج خلفها، يفتح الأنوار والتلفاز الموجود في الصالة العلوية قبل أن يجلس على الأريكة، يطلق زفرةً مُنهكة وهو يلقي بشماغة جانبًا، يفرك وجهه بكفيه، يبقيهما على حالهما لدقائق.. ثم يرفع عينيه عندما وصل لمسمعه صوت خطواتها على الأرض، لازالت بزينتها، شعرها المموج مجموعٌ للأعلى، ترتدي بيجامتها تاركةً فستانها الضيق خلفها على السرير، تسرع بخطاها قليلاً إلى أن جلست بجانبه : والله ما أشوف قدامي جايعة موت..
تسحب الكيس الذي وضعه على الطاولة وتفتحه بسرعة قبل أن تخرج وجبتها، تضعها في حضنها ثم تمد له وجبته وتضعها بين يديه.. كل ذلك وهو مشدوهٌ بها، ينظر لها وكأنه يراها لأول مره، تقضم البرغر بين يديها بنهم، تتبعه بعدد لا يستهان به من أعواد البطاطس،، وهكذا... حتى غصّت, ترفع مشروبها وتشرب منه في نفسٍ واحد..
يجد نفسه يمد لها كرتون بطاطسه ما إن قضت على ما بين يديها، لتسأل بعد أن أخذته منه : ماتبيه؟
ليضحك بخفوت قبل أن يبدأ أكله : عليك بالعافية..
.
عادت شعاع من المطبخ، تلف أصابعها على أذن كوب الشاي الأخضر الساخن، عله يصلح ما أفسده الدهر..
تأخذ ريموت التلفاز وتقف قريبًا منه تقلب في قنواته، تهتف متأففةً بضيق : ياويلي وش اللي سويته بعمري أحس بطني بينفجر..
ثم ارتشفت قليلاً من كوبها وهي تسمع ضحكته الخافته الناعسة خلفها، تقول بشرود مضوقةً عينيها بتساؤل حقيقي : وين راح جسمي اللي قبل ثلاث سنوات!!!..
وصلها صوته هادئًا رائقًا : ما أشوف تغير جسمك.. للحين حلو..
تورد خديها واستدارت بجسدها لتواجهه، تربت بالريموت على بطنها : وذا الكرشة وشو؟
كان عزام جالسًا على الأريكة نفسها، مرتخيًا بجسده ويمدد أقدامه يسندها على الطاولة أمامه ولازال بثوبه يفتح جميع أزراره هذه المره متكاسلاً خلعه،، تتراقص على وجهه ظلال النوم والإرهاق، مع ذلك كان لديه طاقه كافيه ليرفع حاجباً بخبث : والله تبين الصدق مو بس الكرش اللي كبرت.
اتسعت عينيها بذهول وهي تتبع امتداد نظرته لأسفل ظهرها، لينفجر ضاحكا مقهقهًا بصوتٍ مرتفع على ملامح وجهها المفزوعة.. وتهتف هيَ بصدمة وإحراج خرج مع نبرة صوتها الحادة، تقترب منه بإندفاع لتجلس بجانبه : وأنا أقول عنك قطة مغمضة!!
التمعت عينيه، وازداد ارتفاع حاجبه خبثًا.. يقطع ضحكته ويقول بابتسامة لا تطمئن : قطة أجل!
هزت رأسها بتحدي : ومغمضة....
ضحك باستنكار : بعد!!..
وضعت كوبها أمامها : طلعت منت هين.. مادريت إنك مصحصح..
برقت عيناه الحادتين بشكلٍ جعل النبض في قلبها يتسارع حتى شكت بأنه سيخرج من مكانه ، ثم تأتي نبرته الخافته لتكمل الناقص : مشكلتك محقرتني!! ومستهينه فيني،، بس ياقلبي كله مسجّل هنا .
قالها يربت بسبابته على جانب رأسه، ثم يتابع بذات النبرة : تبين أقولك كم شامه بجسمك؟ ومكان كل وحد...
وضعت يدها على فمه بقوة، تتسارع أنفاسها لاهثة : بسم الله عليك وش جاك ..
ضحك مجددًا من أعماق قلبه، يلف أصابعه حول معصمها قبل أن يبعد يدها : بوريك القطة المغمضة على قولتك.
لتقول شعاع بأنفاس قصيرة و وجه مشتعل، تثبّت ملاحظةً في عقلها "مرتين انتبهي تتكلمين فيها مع عزام، الأولى لاصار شبعان والثانية إن شرب قهوة تركية". : الله يقص لساني ..
عزام بإندفاع: بسم الله عليك..
ثم وضع يده على بطنها الممتلئ.. لتهتف بتبرم وهي ترى الضحكة تذيب حدّة عينيه : خلاص فهمت.. بشترك بنادي.
ضحك عزام بخفوت : زين النادي لياقة.. بس تراها عاجبتني.
قالها يربت عليها، مما جعلها تقول ضاحكة : هذا وأنا مابعد أجيب أحد وهي كذا أجل كيف بعدين لا حملت و ولدت!
تبسم لها بمودة : الله يعجل به.
لتسأل ترمقه بطرف عينها : النادي ؟
استوت ملامح وجهه بتهكم : لا يالبايخة! ولدي.. ذريتي.
همست برجاء : آمين يارب..
قبل أن تقول بشغب تضرب كتفها بكتفه : شد حيلك.
اتسعت عينيه مذهولاً مصدومًا،، ينظر لها ببلاهه وعدم استيعاب مما جعلها تضحك بصوت مرتفع، تغطي بذلك العراك الحاصل بين نبضات قلبها فكل واحدة تريد أن تسبق الأخرى...
تشعر بنظرته بعد مضي الوقت، ينظر لها بهدوء يتماشى مع هدوء المكان إلا من صوت التلفاز الخافت. تبعد عينيها عن شاشة هاتفها بعد أن كانت تتابع سنابات ريم والجادل ولولوة لحفل الزفاف، تلتفت له : وش فيك؟
ليقول بخفوت وابتسامته الناعسة تزين وجهه : مافيني شي...
ثم ينظر للتلفاز يظهر انسجامه بما يعرض فيه، قبل أن تسوقه عيناه لها مجددًا.
شعرت شعاع بها وبدأت الحمرة تغزو وجهها لتغطية بكفها تهتف بإحراج: عزااام!
ضحك بنعس، يسحب ذراعها قبل أن يشبك كفها بكفه : خلاص خلاص.
لم تستطع شعاع أن تمنع نفسها من السؤال، تشعر بالقلق فعلاً : أنت متغير.. وش صاير لك؟
ابتسم عزام ابتسامةً لم تتعدى حدود فمه : للأحسن ولا للأسوأ طيب ؟
هتفت بصدق : ما يجي منك سوء حبيبي..
كان يتوقع شيئًا آخر غير هذه الإجابة التي جعلته يقول بمودة يشد على أصابعها : أنتِ المفروض يسوون منك نسخ .. حرام وحدة مثلك ماتتكرر..
تكركرت شعاع ضاحكة رغمًا عنها. ليسأل عاقدًا حاجبيه بابتسامة مستنكرة : وشو؟
ارتفعت ضحكتها، تقول بعد أن غطت فمها بيدها : وش غزل الثمانينات ذا!
دفعها بعيدًا عنه : يمين بالله مو وجه كلام حلو ، بدل لا تستحين!!..
كانت شعاع فوق الغيم حرفيًا،، منتشية بالسعادة غير قادرة بالسيطرة على ضحكتها، ترتمي بثقلها عليه : حبيبي أنت، المهم إنك مقتنع إنه كلام حلو!
رفع عزام حاجبه بتحدي : عندك اعتراض؟
شدت حدود شفتيها بابتسامة واسعة مغلقة، تهز رأسها تنفي بقوّة.. تنظر له، وتعلقت النظرتين ببعضها، وذابت حدود عينيه الحادة في عينيها اللامعتين.. رفع يده، يمسح على حاجبها بظهر إبهامه، يقول بخفوت بعد فترة صمت : ما أدري وش أقولك...
عقدت حاجبيها بعدم فهم، تتراقص نظرتها الهائمة بحيرة بين فمه الذي اشتدت أطرافه بعبوس وعينيه حيث رأت بريقًا غريبًا فيها،
تهدجت أنفاسها.. تعرفه أكثر من نفسه، تحفظ روحه وتعرفها مثلما تعرف روحها.. تعرفه بأحزانه بأيامه الصعبة وكل ما يخفيه عن الجميع..
ابتلعت ريقها ما إن قال أخيرًا، بنبرة محملّة بالأسى وابتسامة صغيرة بالكاد انتبهت لها : مم اكتشفت متأخر إني مقصر معك؟
بادلته الابتسامة بأخرى مثلها، بالكاد تُرى : مقصر من أي ناحية؟
لكن عزام زفر إجابة لا علاقة لها بسؤالها، يصرف بصره عنها : أنا أحس إن بداخلي عقد مالها حل ياشعاع.
وأردف : وعلى إنها حقيقة توجع وصعبة.. بس إنها فيني ولا أقدر أنكرها.. أحس إني عالق بعمر معين مو قادر اتخطاه.. أحس إني تعبان وقاعد أتعب اللي حولي معي، فيه شي قاعد ينهش بروحي وماني قادر أوقفه.. قلة الحيلة ذبحتني ياشعاع..
همست بقلق وخوف : بسم الله عليك ليه تقول كذا؟ وش اللي صاير معك؟
هز رأسه بالنفي، ببطء.. يشعر بضعفٍ لم يعتد عليه، غرقت نفسه باليأس، وفاض قلبه بالأسى والشعور بالذنب وهو يرى الهلع والخوف يتقافز من عينيها، يبتسم بضيق عله يطمئنها..
لتقول شعاع بعد دقيقة صمت بالكاد عبرت، بزفره وابتسامة بدت جميلة جدًا رغم ارتعاشها : عمومًا أنا من اللي حولك وأقولك أبدًا ماتتعبني. بالعكس راحتي وسعادتي ماتكتمل ولا تصير إلا بقربك.
ثم أردفت ممازحة : صحيح إنك تغثني أحيانًا.. بس أحبك وغثاك على قلبي زي العسل..
ضحك بضيق : كملي جميلك على الأقل و أجلي ذا الإعتراف لبكرة..
سكتت وبقت الابتسامة هي الشيء المسموع بينها وبينه، تقول بتردد بعد دقائق : تزوجتك وأنا مجهزة عدّتي، كأني داخله حرب.. يا أفوز بقلبك أو أفوز بقلبك ماعندي خيار ثاني.
عزام : ياساتر حرب مره وحده!!
ضحكت، تقول بنبرة خفيضة : حرب ضروس.. مجزرة.. بيوصل فيها الدم للركب..
ثم أردفت بأسىً رقيق : بس التحدي كان صعب ياعزام.. للحين صعب... بس أنا قدها ومتأكدة من قدراتي ههه.. تراني ما استسلمت ومستحيل استسلم بشي يخصك..
لتخرج استجابة عزام المبهوت على خطابها البطولي ببهوت : مم..
أخذت نفسًا عميقًا تجمع به ابتهاجها الذي تطاير : والحين ممكن يا أخ عزام تعلمني وش فيك بكل صراحة وبدون لا تصرفني كعادتك؟
تستطرد بعدها مبتسمةً بعتب : ترى والله قلقانة جد....
ابتلع عزام ريقة، يهتف بارتباك بعد سكوت طويل : تهاوشت مع فهد؟..
رفعت حاجبيها باستنكار : فهد ولد عمة سارة!...
أومأ برأسه "نعم".. فسألت : ليه؟
زفر عزام إجابته بغباء : ما أدري.
زمت شفتيها قليلاً،، تفتح فمها ثم تغلقه، تباعًا.. حتى سألت : متى طيب؟
عزام بهدوء وشرود : بعد مارجعت من السودان..
عقدت شعاع حاجبيها باستغراب : السودان!! متى رحت السودان؟
تطايرت عينيه بهلع، يعود من شروده هاتفًا بتلعثم : أنا قلت السودان؟
شعاع بحزم : ايه!
ابتسم بتوتر : أقصد الصين. معليش ههه...
صمتت شعاع، تنظر له بتفحص.. لا تدقق كثيرًا بما قال قبل ثواني، تتمنى فقط أن تسأل "للحين تحبها؟ للحين مانسيتها؟ للحين تفكر فيها وتتمناها ترجع في كل مره تطيح عينك على فهد؟.."
لكنها تسكت ما إن تتوقع أن تكون الإجابة نعم ونعم ونعم.
لتقول عوضًا عن ذلك بأسى وداخلها ينوح ويبكي : مسكين فهد..
تنهد : يكسر خاطري ويعوّر قلبي.
تتقوس شفتيها بحزن بعد جملته هذه، تتمنى أن تصرخ في وجهه "أنت زعلان لأن فهد تزوج بعد ماكنت تبيه لك؟".. لكن سرعان ما استبدل الهلع والفزع الحزن الذي كان يعشعش في قلبها، تشتم نفسها والشيطان الذي حدّها لهذا التفكير المنحط.. تساؤل غير لائق.. مجنونة كيف فكرت بهذا الشكل؟ كيف لفكرة نجسة كهذه أن تطرأ على بالها!!!
تجمعت الدموع في عينيها بندم وهي تنظر لوجهه والتعب البادي على ملامحه، يردف بتعاطف : اللي مر فيه ماهو سهل ومحد يقدر يتحمله،،
ابتلعت ريقها، تبتلع معه عبرتها، تهتف برجاء : الله يعوضه خير ويسعده..
ثم استطردت بصدق : فهد قوي وبطل حقيقي..
ليجد عزام نفسه يبتسم رغمًا عنه، يتذكر لكمته الحارقة في منتصف بطنه البارحة ، ولا يعرف ما دخل هذا بهذا : صدقتي.. فهد أقوى شخص قابلته بحياتي.. الله يرزقه راحة البال..
.
.
(الساعة ٢:٤٥ فجرًا)
عند فهد وغادة ؛
دخل فهد جناحه، ممسكًا بيد غادة التي كانت تتسربل بغطائها لا يظهر منها شيء، لدرجة أنها تعثرت أكثر من مره وكادت تقع قبل أن يلحق عليها فهد ويمسكها.
خلعت عباءتها و وضعتها جانبًا، تخلع كعبها وتلقي به خلف الكنبة ثم تدلك أصابع قدمها الحمراء بيدها، مستغلةً بذلك ابتعاد فهد لفتح الباب الذي قُرع.. لازال يرتدي بشته، وعقد الورد الأبيض الذي أصرّت جدته شعاع على أن تضعه حول عنقه، مزغرطةً بفرحة قبل أن تحتضنه..
فتح الباب، واستقبلته ابتسامة نايف المتسعة بإحراجٍ واضح : هلا؟
نايف بسرعة : والله أدري جاي بوقت غلط..
رفع فهد حاجبيه مبتسمًا بهدوء : لا أبد حياك الله..
دخل نايف رغم أن فهد لم يدعوه لذلك، يقول بسرعة وتبرير : جاي أسلم على غادة.. رحلتي بعد ثلاث ساعات ولا أدري متى بشوفها مره ثانية.
هز رأسه بتفهم : حياك غادة داخل.
تبعه ما إن انطلق للداخل، يمشي على مهل وخطى بطيئة ليأخذ الرجل راحته..
ابتسم رغمًا عنه وهو يراها متعلقه به، ثم تتسع عينيها ما إن وقعت بعينيه من فوق أكتاف خالها, تبتعد عنه، وتقول بنبرة ضاحكة مهزوزة : والله بدري يانايف ترجع الحين. اقعد يومين على الأقل.
ليقول نايف دون أن يعلم بوجود فهد خلفه : اتركيك من ذا الكلام واسمعيني ماعندي وقت،، رجلك عنده خوات؟
ضحكت : تراه وراك ويسمعك..
اتسعت عينيه بصدمة، يلتفت بسرعة البرق برأسه ليجد أن فهد خلفه فعلاً "أشوف فيك يوم ياغادة"، يقف على بُعد مسافة قصيرة، يبتسم رافعًا حاجبيه وكأنه يسأل ماهي مشكلته بالضبط.. فابتسم ابتسامة المتورط يهتف بإندفاع : هلاا فهد.. أنا بمشي الحين...
خلع فهد بشته، يصرف بصره عنه كي لا يحرجه : يارجّال خذ راحتك...
عاد نايف لغادة وكتفيها المهتزان بضحكة صامتة، يقول بهمس متوعّد : حسابك معي بعدين.... هين!
قالها وابتعد، يمر من عند فهد ويصافحه، يقول بسرعة قبل أن يحرر يده ويتجه للباب : بالرفاه والبنين إن شاءالله.. مع السلامة..
ثم يغلقه خلفه ويختفي بلمح الصبر..
كل ذلك وفهد لازال يرفع حاجبيه غير مستوعب حضوره من الأساس كي يستوعب اختفاءه، إلى أن وصلته ضحكة غادة التي عجزت عن كتمها أكثر، ليلتفت لها يراها تجلس على الأريكة وتنظر له بوجهٍ مُحمَر، وغمازتين عميقتين، و وجهٍ وعينين مشعتين، ورنّة ضحكة لم يسمع مثلها أبدًا.. ليشاركها رغمًا عنه..
يقترب حتى جلس على الأريكة الأخرى واضعًا بشته بجانبه.
يجد نفسه بعد أن هدأت يسأل عن نايف، أين يدرس؟ وماذا يدرس؟ ومنذ متى يدرس؟ "بالذمة ذا موضوع نتكلم فيه الحين!!!" .. والإجابة كانت نعم،، فلا مواضيع لديه كي يفتحها معها، ولا يعرف بماذا يبدد الصمت الثقيل..
يعود توتره تلقائيًا ما إن شعر بتوترها.. يبتلع ريقه ويقنع نفسه بأن يتصرف على طبيعته، وأن يعمل بنصيحة حاكم أخيرًا ولا يفكّر مطولاً قبل أي موضوع يفتحه.. هل يسأل : تحبين الموز؟ ،
أم سيكون سؤال غير أخلاقي؟
كانت غادة تنظر له بتوجسٍ من بين أهدابها، ينظر لإصابعه بابتسامة شاردة.. " هذا وش فيه؟... توه ينتبه لأصابعه ولا كيف!!
والله إنها خمسة ياولد الحلال،، خلاص تكفى طالعني قل شي بدل ذا الهدوء اللي يخرع.....
لا أمانة.....
ماهو وقت الضحكة أبد.. ههه" تزم شفتيها بقوة ، تحاول أن تمنع ضحكة مرتفعة من أن تنفرط من بينهما فهي الآن في قمة توترها العشريني ولا تتوقع بأن تعيش توترًا مثله.
ابتسم فهد ، يخلع شماغه بتوتر بعد أن بدأ يسمع أصواتًا مكتومة منها : وش فيك؟
أخذت غادة نفسًا عميقًا تبتلع معه سلسلة من القهقهات إن خرجت لن تنتهي، تقول بعد ذلك بنبرة ثقيلة : طيب، بروح أبدل فستاني....
ابتسم : خذي وقتك.. أنا بنتظرك هنا ومتى ماخلصتي صلينا.
هزت رأسها تبتلع ريقها "يالله استرني بسترك وش ذا الابتسامة!!!".
.
وفي اللحظة التي دخلت فيها غادة دورة المياة تغلق الباب خلفها وتلف القفل مرتين،
أوقف ذيب سيارته الصغيرة أمام باب القاعة ليُرجع أمه وعمته بعد أن انسحب الجميع، فالغد هو الأحد والأغلب سيستيفظ مبكرًا للذهاب لعمله، على عكسه إذ أن الأحد هو يوم "الاوف" الجامعي.
يخرج منها ما إن أنتبه للتي تتعكز بعصاها، يقترب منها ويسندها حتى ركبت بالمقعد الأمامي، يغلق بابها ويركب مكانه بعد أن وضع الحقائب اللاتي راكمنها له عند صندوق السيارة ، يغلق بابه على المتعاركات في الخلف إذ أن والدته ركبت، وعمته كذلك، وأخته الجادل، وبقت ريم بجانب الباب،، القليل من جسدها بالداخل والأغلب بالخارج لو قالت "أء" وقعت..
يسمع والداته تهتف : ادخلي شوي يالجادل السيارة تشيل أربع حريم بالراحة.
ريم بحنق : كان لازم تكثرون بالعشا يعني؟ مستحيل ينقفل الباب وش كان بيضرك يمه لو خليتنا ننام ونفطر الصبح من البوفيه؟
ضحكت الجادل باستسلام رغم ألم ساقيها : خلاص اقعدي على رجلي بس فكينا يا إزعاج.
لكن سارة قالت بسرعة قبل أن ترتفع ريم بجسدها : لا تقعدينها فوق رجلك أخاف تكونين حامل.
قالت أم خالد بإزدراء : عزّ الله انفحس الورع لا قعدت ريم فوقه.
ارتفعت ضحكة الجادل ما إن قالت ريم بخفوت : الله يفحس كبد العدو.
تقول بعدها بتنهيدة : لا ماني حامل.
لكن سارة قالت بإصرار : ريم تعالي اجلسي على رجلي.
لفت الجادل يديها على خصر ريم قبل أن تبتعد، تهتف بإصرار أشد : والله ياعمه ماني حامل، متأكدة..
تأفف ذيب أخيرًا، يقطع الحوار قبل أن يطول : اخلصوا علي ماعاد أشوف قدامي من النوم.
لتجلس ريم على أقدام أخته بسرعة، تُغلق الباب بقوة جعلت ذيب يزفر كاتمًا غيظه ويضغط على دواسة البانزين بقوة مصدرًا صوتًا مرتفعًا.
شدت ريم شفتيها بارتباك، رغم أن ذيب يصغرها بخمس سنوات إلا أنها تهابه وتخجل منه أكثر من غيره. وربما لشخصيته الهادئة علاقة بذلك فهي تشعر أن وراء هذا الهدوء عصبيه مدمرة وغضب لا يرحم.
عادت بظهرها للخلف، تستند بثقلها على الجادل قائلة بهمس : ياويلي على ذيب ماهو قادر يلف بالسيارة من كثر ماهي ثقيلة.
مما جعل الجادل تصفع عضدها، تقول بأنفاس مقطوعة : لا تتريحين واجد كتمتيني وجع .
لتقضي المسافة المتبقية جالسة وليست جالسة، مرتفعة بجسدها قليلاً كي لا تضغط على جسد الجادل تحتها.
تفتح الباب بسرعة ما إن وقفت السيارة أمام بيت خالها، تمشي بشكلٍ أعوج بعد أن شدّت عظامها وعضلاتها بما فيه الكفاية .
لتجد حاكم يقف متكتفًا يسند عضده على حدود باب منزلهم المفتوح، مبتسماً ولازال يرتدي ماكان تحت ثوبه، سرواله الأبيض الطويل وفنيلته.. يهتف : أبطيتوا !!
قالت ريم بإزدراء قبل أن تعبره للداخل : ماشاءالله هذا اللي بينام بدري عشان الدوام !!
ليقول حاكم بهدوء وعينه تبحث عنها : نمت وقمت..
تجاهلته ريم ودخلت، ليقول بصوت مرتفع ما إن رأى ذيب يسند جدته : سلَمت ذيبان.
ذيب بابتسامة: احمد ربك بكرة ماعندي دوام ولا كان بلش بهم أبوي..
أم خالد بمودة : مبروك عرس أخيّك وأنا أمك.
حاكم بابتسامة : الله يبارك فيك يابنت هادي ويبلغك عرس عياله..
مشاعل : مبروك يا حاكم الله يوفقه ويهنيه.
قبّل حاكم رأس والدته التي عبرته ودخلت في صمت تسحب أقدامها خلفها بتعب واضح ولا ترى أمامها ، يجيب مشاعل قبل أن تغلق باب منزلها وتختفي خلفه : اللهم آمين وعقبال الذيب.
لازال يركّز بنظرته على التي أغلقت صندوق سيارة شقيقها بقوة بعد أن أخذت ماتحتاجه، تسحب حقيبتين خلفها، واحدة لها والأخرى توقع أن تكون لريم و والدته.. ليعتدل واقفًا ما إن اقتربت، يلف ذراعه حول كتفها ويمشى معها للداخل بعدما دفع الباب برجله ليُغلق خلفهم، يهتف بمودة : يا أهلاً وسهلاً وش فيكم تأخرتوا؟
الجادل : مانمت ؟
قال بتنهيدة : لأ ..قاعد انتظرك ما شفتك طول اليوم .
لتقول الجادل بتوتر وخجل : بكرة ذكرني أعطي ريم شنطتها.
فتح باب الشقة لها : احذفيها بوجهها.
ضحكت تضعها بجانب حقيبتها عند جدار المدخل، قبل أن تتقدم وتنزع غطاء وجهها بربكة واضحة : حرام عليك.
وما إن نزعت عباءتها وبان له فستانها الارجواني حتى وأصدر صفيراً مرتفعًا مستعملاً سبابته وابهامه، يقول بعدها مقتربًا بنبرة بدت حادّة مندفعة : الله الله على حبيبتي الحلوة.
احمرّت واصفرّت، وتلامعت عينيها تنتظر اقترابه، تلف يديها حول أكتافه ما إن صار أمامها، ليضع كفيه على خصرها بشكلٍ تلقائي وكأنهما يعرفان طريقهما، وعلى وجهه ابتسامة خطفت أنفاسها، وسرقت قلبها.. تنظر لعينيه التي تنطق إعجابًا واضحًا وتهمس بصوت مثقل : أحبك يا حاكم، والله العظيم أحبك.
أخذ نفسا عميقًا شعرت به، يهتف مبتسمًا بهدوء : اعتراف مثل ذا يبي له ثوب وشماغ غرقان نشا، مو صروال وفانيلة.
ضحكت تغص بعبرتها : ياسخيف.
تحلف الجادل أنها قادرة على سماع نبضات قلبه المرتفعة، تشعر باهتزاز أضلعه واضحًا وكأنها مكشوفة أمامها.. يتأملها بعينين ساحرتين حزينتين، تجمع بين العمق والحزن والكبرياء..
أرخت جبينها على جبينه،، وكأنها تريد أن تتّبع مجرى أفكاره، أن تعرف ما يدور بعقله كي يبعدها عنه رغم وضوح الرغبة في عينيه والحب في تصرفاته...
تضع كفها على خده، تمسح عارضه برقّه مغمضةً عينيها تتمنى ألا تنتهي هذه اللحظة..
لكن صوته الذي بدا ثقيلاً ثملاً بأنفاسٍ قصيرة، أتاها بعد مدّه.. ينطق بظلمة موحشة : لا يالجادل، لأ!
همست بعبرة : ليه لأ؟
كان حاكم يشعر بألمٍ ينخر روحه، يهتف بصعوبة : مهوب الحين، مو بالفترة ذي على الأقل.
تهدجت أنفاسها، تقترب منه أكثر حتى اصطدم مرفق يدها بصدره، تسأل بأسى : طيب ليه؟ اعطيني سبب واحد مقنع...
ثم تردف بتردد باكي : حاكم أنت ماعدت تبيني؟ ماعدت تحبني؟
ابتلع ريقه، ينظر لعينيها التي تكسدت على سطحها الدموع : فيه مواضيع لازم أ..... أنا مستحيل أرضى أجيك عشان بس أشبع رغبة فيني، أنا منيب حيوان، وأنتِ منتي رخيصة.
ارتعش فكها، تبتعد عنه وتقول بوجع عميق : لا حاكم، اللي فيه إن اللي بيني وبينك مهما تصلح مستحيل يرجع مثل ماكان.. مانحتاج لا وقت ولا صبر، اللي نحتاجه معجزة تمحي اللي صار من مخك،،
تابعت بعدها بأنفاس حادة، تمسح عبرتها التي سقطت من عينها بكفها، كف يرتعشُ بضعفٍ هذه المره فلم تعد لديها طاقة كي تتحمل تناقض تصرفاته : إن كنت تبي تربيني وتحسسني بغلطتي فأنا والله العظيم ندمت... أنت تقول إنك مو زعلان مني وإنك سامحتني، بس الصدق أنت للحين مانسيت،، أنت صدق عايفني يا حاكم....
ليجيب بسرعة وانفعال، ممزق لا يعرف علتّه.. قلبه مقبوض وفي كل مره يدفع نفسه للأمام يجده ينقبض أكثر حتى يشعر بأنه سيموت من ضيقه،، روحه تنازع بين الرجاء واليأس : افهمي يالجادل افهمي، أي شي بيصير بيني وبينك الحين بيكون رغبة ماهو حب... أعطينا وقت..
عضت شفتها بقوة، تبتلع شهيقها الذي بدأ يشق طريقة للأعلى، وتمنع ارتعاشها الواضح بشكلٍ مؤسف، تومئ برأسها قبل أن تعطيه ظهرها وتبتعد.. تربّت على قلبها علّه يهدأ.. تتوقف في خطاها ما إن سمعته يقول بصوت مكتوم وكأنه يعتذر : ودك نشوف حلقه من مسلسلنا قبل لا يأذن؟
لتقول تجهش باكية : شوفها لحالك أنا داخله أنام.
ارتمى حاكم بجسده على الأريكة ما إن أغلقت الباب بقوةٍ شعر بها كالصفعة على قلبه ، يتأفف بضيق واضعًا ذراعه على رأسه،، ينام بعد دقائق من الهم الذي أثقل عاتقه، دون أن يشعر،
حزينًا بسرواله وفانيلته.
.
.
قضت غادة ربع ساعة تحت الماء الساخن عله بانسكابه عليها يذيب المكياج الذي تكاسلت أن تمسحه ، وربع ساعة أخرى تنظر لنفسها بصدمة بعد أن إرتدت ما كان معلقًا في الدولاب.. غير مستوعبة رغم أنها بنفسها من اختارت كل شيء.. تشتعل مُحرجه ما إن راحت السكرة وجاءت الفكرة، "والله ما أنزل كذا لو أقعد طول عمري هنا، ويقعد هو ينتظر طول عمره على الطريق ويشتكِي ههه.."
ثم جلست على طرف حوض الجاكوزي ما إن أحسّت بأن أقدامها لم تعد قادرة على أن تحملها، تهتف موبخةً نفسها بصرامة : خلك ياقليلة الأدب تستاهلين.... ذي ملابس تنشرى؟ من أول يوم تبين تتعرين وش بيقول الرجّال عنك أكيد بيقول بدون حيا مافيه شك...
ثم تضع يديها على رأسها ما إن لفّت بها الدنيا : ومن زود وسع الوجه أرسلتها مع امي ترتبها،، يعني شافتها!!!! اِخس عليك ياغادة ياوسسخة..
تجد نفسها بعد دقائق قليلة تضع يدها على ذقنها بتفكير تهمس بشكلٍ مفاجئ : والله بشاير مزيونة..
ثم تضوّق عينيها بإزدراء وتهكم : بس باين كريهه وقليلة ذوق مووت.
قالتها وكرمشت ملامحها بعبوس وهي تتذكر الفاتنة بفستانها الأبيض. كانت الأجمل دون أدنى مبالغة لينخفض معدل ثقتها بنفسها ثلاثة نقاط.. : شكلها شريرة..
هتفت بها بنبرة ملتهبة، فهي على قناعة تامة أن كل امرأة تمتلك وجه مثالي فاتن هي امرأة شريرة لعوب وغير محبوبة.
زفرت، تخفض بصرها وتنظر للمشكلة الحقيقة، ماترتدي في هذه الأثناء وتؤجل موضوع بشاير والتفكير بها وبجمالها وأخلاقها الغير موجودة لاحقًا ..
شعرت بقلبها يهبط ، وبطنها يُعصر بشكل مؤلم جعلها تتصنم لدقائق فألم كهذا مألوف وتعرف ماذا يأتي بعده.. تعد على أصابعها بسرعة وتحسب.. تقدمت عن موعدها أسبوع تقريبًا،، تبتلع ريقها وهي تشعر بالعبرة تثقل أنفاسها : لا عاد إلا ذي...
.
: فهد.. فهد.. لو سمحت..
وقف فهد الذي لازال جالسًا في الصالة الصغيرة ما إن سمع الصوت الذي ينادي بإسمه بشكلٍ خفيض تحول لعالٍ أقرب للصراخ، يقترب من مصدره بقلق خصوصًا وأنها تأخرت، ليرى رأسها يطل عليه من فتحة الباب الصغيرة وباقي جسدها يختفي خلفه : سمّي؟
غادة بصعوبة واختناق حقيقي : ممكن تروح الصيدلية؟
: عسى ما شر ؟
ابتلعت ريقها، مراراً وتكراراً تشعر بأنها ستبكي من فرط الإحراج.. تهمس بصوت مقطوع : معليش بس أبيك تجيب لي أغراض..
عقد حاجبيه، واقترب قليلاً كي يسمع.. حتى بدَا وكأنه سيقتحم المكان عليها مما جعلها تدفع الباب قليلاً في وجهه لتردعه.. يسأل باهتمام : وشو؟
غادة ستموت قبل أن تتسنى لفهد الفرصة لرؤية بقية الثياب الخليعة التي اشترتها أيام جهازها : مستلزمات نسائية..
ازداد عَقد حاحبيه، ثم أضاء مصباح أعلى رأسه ما إن فهم، يهتف بهدوء وهو يرى انحباس الدموع في عينيها : أبشري..
غادة بنبرة مرتعشة : برسل لك صورتها، أو قول للصيدلي أبي الوردية وهو بيع...
لكنه قاطعها مبتعدًا : عرفتها خلاص..
خرج فهد من الجناح ضاحكًا على صوت الصرخة المكتومة التي صدرت من غادة، تتبعها بصوت الباب الذي أغلقته بقوة حتى شك بأن الطابق الرابع عشر ومن فيه سيقع على من هم تحته.. ينزل للمواقف حيث أخبره حاكم بأنه أوقف سيارته، ليعود هو مع ناصر ووالده بعد نهاية العرس، ثم يقف عند أول صيدلية أتت في وجهه، يتكلم مع الصيدلاني من فتحة الشباك الصغيرة في منتصف الباب، يطلب ما تحتاج من 'مستلزمات نسائية' وقربة ماء وأي مسكن سريع وفعّال.. يتذكر جيدًا تلك الفترة عندما بلغت أخته ريم، والمرات الكثيرة التي تكلمت فيها لولوة وشعاع عن دورتهن الشهرية، والألم القاتل الذي يباغتهن ما إن تأتي.
ليعود لها في أقل من نصف ساعة، يعلق الكيس بمقبض باب دورة المياة ويقول بتفهم كي لا يحرجها أكثر : غادة اللي طلبتيه موجود عند الباب، وبتلاقين قربة عبيها موية حارة واستعمليها، وفيه مسكن إن احتجتي،، أنا بنزل المسجد وانتظر صلاة الفجر مابقى شي ويأذن.. لا تبطين بالحمام....
لتفتح غادة الباب بحذر، تحرك بؤبؤها خلال فتحته الصغيرة في أرجاء الغرفة، وتسحب الكيس المعلق عندما لم تجد له أي أثر.
ثم تخرج بعد دقائق، بوجهٍ محتقن ورأس منكوس وعبرة مكتومة تشتم حظها.. مرتديةً بالطو الحمام الأبيض المعلق خلف الباب وتشد على ربطته بقوة حتى كادت روحها تخرج من أذنيها..
.
.
مرت أربعة أيام على الخلاف الذي حصل بين عزام وبسام،
مضت دون أن يسمع أي أحدٍ منهما خبرًا عن الآخر، عزام مستاء وبسام غاضب.
أصمت عزام هاتفه للمرة الثالثة، يرى اسم بسام على شاشته..
وبقى يصمته حتى شعر بأن هناك أمراً ما، فالرجل وصل للاتصال الخامس دون أن يمّل.
فتح الخط قبل أن يُغلق، صامت..
ليأتيه صوت بسام مرحًا : زعلان يالذيب ؟
زفر ، يقول بعد ثانية : لا والله،، بس لاتشوفك عيني.. يالرخمة.
ضحك: طيب الله يسامحك، متأكد إنك لاسمعت اللي عندي بتغير رايك فيني.
عزام بنبرة مقصودة : قل إن عقلك رجع لك وصحيت على نفسك...
ليقول بسام بحزم : خلاص ياعزام قد تكلمنا بذا الموضوع وانتهينا بزعل.. لا عاد تفتحه معي لأني مستحيل أغير رأيي.
احتدت نبرة عزام بنرفزة : أجل وش تبي داق؟
ضحك بسام بروقان : مشكلتي أغليك يالتعبان ولا تهون علي.. وصلتني أخبار ماقدرت أسكت عنها ولا أعلمك،،
عزام بضيق : وش بيكون عندك يعني؟
أتت نبرة بسام هادئة جديّة : ماينفع بالتليفون، لازم أشوفك.
عزام بتحفز : يمين بالله إن طلع شي م....
قاطعه : علم غانم وبيسرك.. قابلني ..
أخذ عزام نفسًا عميقًا يهتف وهو يزفره : هات أولّه عشان أشوف يستاهل العنوة ولا لأ.
سكت بسام لثوانٍ بتردد، يقول بعدها بنبرة خفيضة ولا يعرف لماذا يهمس؟ : تذكر الضابط تركي بن محمد؟
عقد عزام حاجبيه يكرر الاسم بينه وبين نفسه،، نعم يذكره، وكيف ينسى أحد الضباط الذين كانو مع والدة برحلة روسيا ثم هرب بعد ذلك كما هرب غيره، يسأل بإندفاع يشعر بقلبه ينبض سريعًا بين أضلعه : وش فيه؟ لا تقول صفّوة!
ضحك، يقول بنبرة خفيفة : لا ياوحش، إلا نوّر السعودية اليوم الفجر.
.
.
.
.
# نهاية الفصل الثامن عشر
نلتقي الاسبوع القادم إن شاءالله ❤
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ♡.
|