كاتب الموضوع :
وطن نورة ،،
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي
.
.
.
أتمنى لكم يوم جميل و قراءة ممتعة مقدما ❤
# الفصل السابع عشر،،
" تَشافَى ممَّا يُحزِنكْ "
.
.
.
خرجت رصاصتين بشكلٍ طائش من مسدس جوار،، سببت صوتًا مدويًا تردد في الأرض الواسعة، قبل أن يخيم الصمت على المكان.. صمتٌ رهيب كصمت الأموات تمامًا .. سكوتٌ مطبق.. مرعب.. وكأن لم تطأها قدم حيٍّ قط .
كان ذلك قبل أن يرتفع صوت نحيبٍ مفزوع من مكانٍ ما.. يخالطه نداء عزام،، بنبرةٍ هلعَه خرجت مع بكائه : عبدالله..
عجَز عن كبته، يخشى أن تكون الرصاصة أصابته.. أو قتلته، يقسم أنه لن يتحمل خسارته،، سيموت بعده لا محاله،، فهو من تصرف بأنانيه وأجبره على القدوم معه،، دون أن يأبه باعتراضه.
لا يرى أمامه بوضوح،، فأغلق عينيه بقوة.. وفتحها؛*علّ رؤيته المشوشة تتضح بعد الضربة التي اسدلت ستارًا من الظلمة على عينيه، لا يشعر إلا بالألم ينتشر سريعًا ليغزو وجهه كله، وكأن لجمجمته قلبٌ انتفض نابضًا بفزع في منتصفها،
يعاود الصراخ بخوف ، لا يسمع صوتًا لعبدالله.. لا يسمع إلا النحيب : عبدالله..
تهدجت أنفاس جوار بصدمة،، غامت نظرته.. وتدلى ذراعه على جانب جسده ..تراخى شدّه للسلاح حتى وقع ساقطًا من بين أصابعه.. يشعر بالفتور في أطرافه.. وكأن الدم لا يصلها, ينظر بذعرٍ لعزام الواقف أمامه بوجهه الشاحب المبهوت، وعينيه بحدقتيها المتسعة، ضعف حجمها الطبيعي, يغلقها ويعود ليفتحها على أكبر اتساع قبل أن يستدير بوقوفه، يمشي بخطىً متعثّرة ومتسارعة، برؤيةٍ ضبابيةٍ غير واضحة. يقع ويقف، أو يكاد يكون قبل أن يتدارك ذلك ويستقيم بجسده قبل أن يلامس كفيه الأرض..
تخرج غمغمته من بين شفتيه المرتعشه بحروفٍ غير مفهومة، يمشي بدون ثبات. يردد بلا توقف "عبدالله"، صارخًا به...
يواصل تقدمه بالاتجاه الذي يرى فيه خيالاتٍ عائمةَ الحدود، حيث صوت البكاء في ارتفاع، ليصرخ بإسمه مجددًا بأعلى صوته، بيأس.. وكأنه تأكد من أنّ مكروهًا قد حلّ به عندما لم يسمع إجابةً منه بعد كل هذه النداءات.. دون أن ينتبه لبقعةِ الدم الحمراء التي بدأت تتسع على قميصه الأبيض، و دون أن يشعر بالرصاصة التي أصابته.
فتح عبدالله عينيه بهلع، لا يعرف ما الذي حصل تمامًا في الثانية الماضية، فبعد صوت الطلقة الأولى مباشرة، شعر بثقلٍ يقع عليه ليوقعه معه،، ممددًا على ظهره. ثم بصوت عزام ينادي ببكاءٍ مرعوب ويقطع السكون.. لتختلط بعدها الأصوات وتصبح طنينًا لا معنى له.
تسارعت أنفاسه بذعر عندما أدرك أن الجسد الواقع عليه ماهو إلا جسد مصطفى النحيل، والذي ارتمى تلقائيًا للأمام يغطي رأسه بيديه بحركةٍ لا إرادية لحماية نفسه، دون أن ينتبه لعبدالله الذي صار تحته.
دفعه بعيدًا عنه لازال مرتجفًا يحاول الجلوس والتحكم بأنفاسه المتسارعة وهو يرى الشاب متقوقعًا على نفسه لازال يضع يديه على رأسه مغمضًا العينين بقوة.. مرتعشًا بوضوح.. ليبتلع ريقه الذي جف بصعوبة عندما تأكد من أن مكروهًا لم يُصبه , فجلابيته السكريّة نظيفة تمامًا إلا من الغبار والأتربة.
ثم ينقل عينيه بوجل حيث عذوب وصوت عويلها المرتفع.. تحاول تحريك عصمان الممدد على الأرض بهلع وعدم تصديق.. مناديةً اسمه بخوف وصراخٍ أبح عندما لم تجد منه استجابه..: عثمان.. عثمان..
شعر عبدالله بالثقل الذي وقع قريبًا منه، ينثر الرمال تحته،، والغبار حوله.. يسأل بخوف : عبدالله جاك شي؟
فأدار رأسه بعينين مفزوعه، ليرى عزام ووجهه الشاحب وكأن لا روح فيه، لا لون فيه إلا لون رعاف أنفه الذي بلل شعيرات شاربه... يهز رأسه بالنفي لازال مرعوبًا غيرُ مصدقٍّ للثوانِ المجنونة الماضية.. إلى أن وقعت نظرته على البقعة الحمراء التي لوّنت أعلى قميصه...
تهدجت أنفاسه لدرجة أنه شعر بالاختناق ، يهمس من بين شفتيه المرتعشتين : عزام..
ثم ارتخت ملامح وجهه المشدوهه، يردف هامسًا بهلع وذهولٍ شديد : عزام أنت...... أنت تنزف!!!!
عقد عزام حاجبيه بألم، وعدم فهم... قبل أن يخفض بصره حيث نظرات عبدالله الوجله لكتفه، ليجد بقعة الدم التي انتشرت حتى أغرقت أعلى قميصه... فزفر بحدّه بعد هذا المنظر، يتمتم بمرارة : صابني!!
كان جوار لازال واقفًا متسمرًا في مكانه... يتابع المشهد أمامه بلا تعبير, للحظات،، قبل أن يتقدم ناحيتهم بسرعة خاطفة كسرعة البرق.. وقف خلفها، يسمعها تنتحب وتنادي الطفل السوداني الصغير الغائب عن الوعي، منتبهًا للرجل السوداني الآخر الذي نزع طاقيته ليضغط بها على جانبه، محاولاً إيقاف تدفق الدم الذي انفجر كالسد ملونًا كفيّه وطاقيته والمكان تحتهم.
يصل لمسمعه صوت عبدالله المرتعش الهامس،، يصمه عن أي ضوضاء أخرى "عزام...... أنت تنزف!!!!"..
احتدت أنفاسه، فقد أصاب عزام، وشخصًا بريئًا آخر معه، لكنه وفي هذه اللحظة بالذات لن يعود خطوةً للخلف بعد أن وصل لمراده، بعد أن أصبحت حقيقةً أمامه.. الآن.. وهو يسمع نحيبها الذي غذّى حقده، وأشعل نيرانًا بألسنةٍ مسعورةٍ، تحرق كل شيءٍ تقع عينيه عليه،، حتى روحه.. مما جعله ينحني ويرفعها من ذراعها بقوة دون أي اكتراث بصراخها وبكائها..
بدأت تلكمه على صدره لكماتٍ موجعة، لم يشعر بأي شيءٍ منها.. صارخةً بانهيارٍ تام تحاول تحرير ذراعها منه : اتركني... اتركني...
ثم أخذت تدفعه بعيدًا عنها، لكنه لم يتزحزح.. فصاحت بيأس : شيل يدك عني الله ياخذ عمرك... ذبحته عساك الموت،، ذبحته يا...
لكنه صفعها بكامل قوته ليقطع سلسلة الشتائم واللعان التي أمطرته بها دون توقف، يغرس أصابع يده بشعرها الذي تناثر مغطيًا وجهها بعد صفعته تلك، يسحبها معه للأمام. فاتحاً باب السيارة قبل أن يدفعها داخلها رغم اعتراضها ومقاومتها.
وقبل أن يركب بعدها، استدار برأسه و وقعت عينيه القلقة بعيني عزام المتراخية بإعياءٍ واضح، ليرى فيها فراغًا غريبًا قبَض قلبه.. وجعل أنفاسه تنخفض حتى أصبح أخذ النفس مستحيلاً..
مع ذلك ابتلع ريقه بمرارة و ركب السيارة مغلقًا الباب ، تاركًا خلفه اثنان يغرقان بدمائهما..
هاجت أنفاس عزام، وبدأ يسعل باختناق بعد أن انطلقت السيارة مسببةً سحابةً من غبارٍ خلفها، بداخلها عذوب وجوار ونظرته التي رماها عليه قبل أن يتصدد عنه..
شعَر بعبدالله وأنفاسه اللاهثه التي تكاد تطيّره من سرعتها وقوتها.. يحاول مساعدته على الوقوف رغم أنه هو نفسه بالكاد يقف من فرط ارتجاف أطرافه، فالمصاب جلل.. يقول شيئًا لم يستطع عزام سماعه، فكل شيءٍ بدَا عائمًا ضبابيًا حوله.. غير واضح, لا يشعر إلا بوخز الرصاصة ما إن حاول عبدالله تحريكه، وبحبات العرق الباردة على جبينه، وتتدحرج من على جسده، وشعورٌ حارق ينتشر في شقّه الأيسر، يسحب طاقته معه. يتمتم بصعوبة ويقاطعه : ماهي خطيرة، لا تخاف.. روح شوف الولد.. و...ساعده.
لكن صرخة عبدالله المنفعلة الحادة اخترقت مسمعه ووصلته بوضوح : شلون ماهي خطيرة ودمك يصب!!!!... قم ياعزام قم.. أنت لازم تروح مستشفى.
حاول عبدالله أن يكتم بكاءه ولم يستطع ، فأجهش به بأسىً بعد جملته.. بذعرٍ وهو يشعر ببرودة جسد عزام وأطرافه عندما أسنده عليه، يسمع تأوهه متألمًا ما إن نهض وارتسم على وجهه ألمٌ حاول كبته، ليقول بصعوبة وثقل واضح محاولاً إقناعه : وش...فيك...أنت!! أقولك.. جرح.. بكتفي.. ماهو خطير،،،، لا تقعد تبكبك زي الحريم..
لكن عبدالله لم يجبه، وهو يشعر بدمائه الفائرة تُغرق كفّه وأصابعه..
حمَل مصطفى عصمان الذي يبدو أنه تلقى رصاصةً في جنبِه،
ولم يقوى عليها الصغير فسقط مغمًا عليه.. ركب بالمقعد الأمامي بعد أن فتحه له عبدالله، ليصيح بالسائق المذعور أن يتحرك، ويسرع بأخذهم لأي مكان قريب قادر على علاج المصابين.. فالخرطوم بعيدة بما يكفي ليفقد الإثنان حياتهما قبل الوصول لها حتى.. ليهز الآخر رأسه بانصياع و وجهٍ مرعوب مما حصل كله.
وبينما كان مصطفى يحاول السيطرة على دماء عصمان.. كان عبدالله بالخلف يحاول نزع قميص عزام دون أن يوجعه، فمزقه من الأعلى قليلاً، قبل أن يمزقه كله بحركةٍ واحدة، ليئن الآخر بألم ما إن لامس الهواء مكان إصابته..
شعر عبدالله بأنه سيُفرغ مافي جوفه وهو يرى كتفه والجزء الظاهر من جسده، وما إن حدد مكان إصابته ورأى الحفرة التي سببتها الرصاصة واخترقت كتفه، لتجعله كفوهة بركانٍ دموية، حتى وغامت نظرته وتضببت رؤيته، فوضع قطعة القماش عليها بعد أن كوّرها في يده، يضغط بقوة عله يمنع تدفق الدم، بشكلٍ ما.
استسلم عزام للألم تمامًا.. يُرجع رأسه للخلف بأنفاسٍ متسارعة وكأنه يحاول اللحاق بها خوفًا من أن تفوته، وصدرٍ يرتفع وينخفض بسرعة، يشد على عينيه بقوة ويضغط على أسنانه كي لا يصرخ مما يشعر به..
وصله صوت عبدالله مرتعشًا يسأل بتشتت : وش تحس فيه الحين يا عزام!!
ابتلع ريقه بصعوبة، يفتح عينًا واحدة ويحاول أن يبتسم ما إن وقعت نظرته بنظرة عبدالله الغارقة بالخوف والقلق، يقول بين أنفاسه المتقطّعه : ما أحس. بشي. غير إني،،، برجّع من ريحة الدم.
ثم مرر لسانه على شفتيه، يغمض عينه ويقول بعبوس ونفسٍ حاد : ريحة بيض....
ضحك عبدالله رغمًا عنه بعبرة واضحة : ايه والله،، حشرتنا بريحة دمك المخنز ..
ثم يردف برجاء ما إن انطبق جفنيه تماما : عزام تكفى خلك معي و لا تغمض عيونك.. شوي وبنوصل..
هز عزام رأسه، كاستجابة.. لكنه لازال مغمضًا عينيه.. يشعر بالبرودة الموجعة تسري في أوصاله وكأنه في قالب جليد.. بات الألم موزعًا في أنحاءٍ متفرقةٍ من جسده.. لم يعد يعرف ما يؤلمه حقًا.. يسمع بلبلة عبدالله بجانبه يحاول التحدث معه وإبقائه مستفيقًا..
لكنه بدأ يشعر بالغثيان، وبرأسه يدور في غرفة سوداء مغلقة ، وكأنه دخل في قلب إعصار..
ضغط عبدالله بقلق على مكان إصابته، وهو يسمع أنفاسه التي احتدت، يعاود الضغط مجددًا، بقوةٍ هذه المرّه كي يبقيه الشعور بالألم واعيًا , متجاهلاً ملامحه الموجوعه والأنين الذي يخرج من بين شفتيه.. يهتف مبتسمًا بوهن، وبنبرة تهديد : عبيّد، والله بذبحك...قاعد توجعني....
وقبل أن يفتح عبدالله فمه،، وصله صوت مصطفى المنفعل : أنت رايح فين !!! بتاخد السكّه دَي ليه؟
ثم بالسائق الذي رد بذات الانفعال : مدينة بارا، بلد بيه مشاكل كتير والمركز الصحي مش هيسأل سبب ده كلو شنو!!
ليهتف مصطفى بارتباك واضح : طَب ماتسرع شويّة ياراجل... الود هيموت غرقان بدمّو..
اعتدل السائق بجلوسه، يتشبث بالمقود بكلتا يديه وكأنه طوق نجاة، ، يقول صارخًا بنفاذ صبر : أسرع من كده العربيَة هتَقَف.
وبينما كان عبدالله يسأل مصطفى عن وضع الصغير بين يديه تاره، ويصرخ على السائق كي يزيد من سرعته تارةً أخرى.. كان عزام قد وصل لتلك المرحلة بين الوعي واللاعي،، والتي تشعر فيها بأن أجلك قد دَنى منك، وتبدأ بمراجعة حساباتك،،
وأعمالك،،
وعمرك فيما أفنيته...
وجسدك فيما أبليته...
ثم تمر عليك أوجه أهلك وأحبائك.. وكأنهم يخففون عنك مرارة الشعور بلحظاتك الأخيرة.
تراءى له وجه أمه.. حبيبته الأولى والأخيرة،، ملاذه ومسكنَه.. بابتسامتها الحانية تنظر له قبل أن تودّعه وتتعلق برقبته في عناقٍ صامت. تخفي نواحًا خلف ذراعيها اللذين أقفلا عليه تقربه منها أكثر، وقد أحسّ به عزام.. وكم تمنى في تلك اللحظة وهو يسمع أنفاسها المتوسله بأن يغير رأيه ويبقى, أنْ يبقى..
يجد نفسه وفي هذه اللحظة بالذات، يحاول أن يحسب كم عدد الرسائل المختومة بقلبٍ برتقاليٍّ وملأت برنامج محادثاته, كان قد قرأها وتركها دون رد. وكم ابتسامةً واسعةً وُجهّت له, وتظاهر بأنه لايراها.. وكم مرة نظر ناحيتها ليجد عينيها البراقتين تنظر له بشغف, فيقابلها ببرودٍ وعينين يتضح السخط في حدتها . وكم مره سمع شهيقًا مكتومًا آخر الليل, ليعطيها ظهره متصنعًا النوم. وكم مرّة حكت له شيئًا حصل معها بحماس, ليرد عليها بملل وعدم اهتمام. وكم مرّة وصله صوتها رقيقًا عذبًا تهمس له دون كلل أو ملل "أحبك عزام", بدون أن يجاملها بابتسامةٍ حتى .
تسارعت أنفاسه ما إن وضحت له ابتسامة شعاع البائسة الهزيلة، وعينيها التي لم تفارقه لثانيه، ثم ارتعاش فكها لتتسع معه ابتسامتها بشكلٍ مؤسف..
تدافعت المواقف في عقله مرةً واحدة ودون رحمة،، إلى أن تداخلت الوجوه، واندمجت الأصوات فلم يعد يميز صوت فلان عن فلان.. ليشدّ على أسنانه، وعينيه.. رغم وهن جسده، يشعر بالدموع تغرق قلبه، ولم يعد يعرف السبب الحقيقي وراءها!
هل هي أمه؟؟ شعاع؟ الموت الذي بدأ يشم رائحته قبل أن يصل لغايته ومراده؟ قبل أن يرى والده حقيقةً أمامه، لا من خلف صورة قديمة مرتديًّا زيّ تخرجه بأطرافه المذهبه، مؤديًا التحية العسكرية بابتسامةٍ واسعة، وكأنه يوجهّها لقلبه.. ينظر له،، وكأنه يعرفه....
ثقلت أنفاسه،، وتحركت شفتيه بارتعاشٍ ما إن جمدت البرودة أوصاله.. يتمتم بضعف، وخوف : عبدالله......
شعر بكف عبدالله تضغط قطعة القماش على كتفه، ثم بكفه الآخر يمسح وجهه وحبات العرق الباردة على جبينه ورقبته. يقول بخفوت وعبرة : سم.. سم يابعد راسي.. أنا هنا..
ولم يشعر عبدالله بنفسه إلا وكفّه بدأت تضرب خد الآخر بخفه وشكلٍ متتابع، وبنبرته ترتفع بهلع : ياعزام خلك صاحي تكفى.. افتح عيونك وتكلم معي،، مابقى شي ونوصل..
ماكان يبحث عنه عزام طيلة أيام حياته هو أن يكون مطمئنًا مرتاح البال... ليجد نفسه عوضًا عن ذلك، يعيش أيام حياته بقلق، ومشقّه وتحفز، وكأن الأرض تحته ستخونه وتبتلعه.
عاد يبتلع ريقه، وإحساسه بالصفعات على خدّه بدأ يضعف، ولم يعد يشعر بالألم نتيجة ضغط عبدالله المؤلم على جرحه .
يحاول أن يقول شيئا لكنه عجز عن النطق..
لا يريد الموت،، ليس الآن... ليس في هذا المكان على الأقل.. وليس بهذا الشكل المؤسف..
ثقُل لسانه، وباقي جسده.. وخارت قوته ولم يشعر بعدها بشيءٍ أبدًا..
.
.
: ذيب.
تحرّك مسرعًا ناحية الباب، تتحرك معه قلادته السداسية التي تتدلى من على رقبته ، ما إن سمع صوتها يناديه.. وصل له، وأغلق قفله في نفس اللحظة التي بدأت تحرك فيها مقبض الباب.. تنادي مجددًا : ذيب..
ثم تحركه بقوة تتبعه ببعض الطرقات ما إن عرفت بأنه مغلق : ذيب... افتح الباب.
تجاهلها، وتجاهل صوتها الذي بدا مزعجًا لوهله, رغم نعومته. يمشي مبتعدًا على أقل من مهله لدورة المياة المدمجة بغرفته.. يقف أمام المغسلة، ينظر إلى وجهه في المرآة ويجده كالأمس والذي قبله وقبله وقبله،، فارغ ومتحجّر الملامح.
يفتح الصنبور ليندفع منه الماء بقوة، ثم ينحني بوقوفه متنهدًا يرشق الماء البارد على وجهه.. لازال يصله صوتها تنادي بإسمه وتضرب الباب بقبضة يدها كي يفتح.
كان الصوت لازال مستمرًا بذات الإصرار حتى بعد أن خرج من دورة المياة، يمسح وجهه بمجموعة مناديلٍ في يده قبل أن يلقيها بسلة النفايات الصغيرة قريبًا من شماعة ملابسه، حيث سحب كنزةً صوفيةً ثقيلة، وسوداء.. تتماشى مع حالته المزاجية في هذه اللحظة..
سواد .
ظل ممسكًا بها حتى سكنت الطرَقات، واختفى الصوت تمامًا وكأنها فقدت الأمل فيه.
ليزفر نفَسًا لم يدرك بأنه كان يحبسه، مدخلاً رأسه في فتحة كنزته، ثم يديه، حتى استقرت مستويةً على كتفيه العريضين وباقي جذعه.
يمرر كفيه على شعره الذي ابتلت بعض شعيراته، متأففًا بضجر.. فمنذ أن أستيقظ اليوم ومزاجه متعكر، لا نفس له لمقابلة أحد.. أو التحدث مع أحد.
انتظر ربع ساعة إضافية ولم يفتح قفل باب غرفته إلا عندما تأكد من اختفاء الضوضاء تمامًا، يخرج بخطى هادئة حذره يتمنى أن تكون قد ملّت الانتظار ورحلت حقًا. لكنه ما إن خرج من الممر المؤدي للصالة الصغيرة، حتى وشعر بيديها تطوّق جسده من الخلف، ثم بصوتها يأتيه هامسًا قريبًا من أذنه ليجعل قشعريرةً تسري على امتداد ظهره، تقول كلماتٍ عربيةٍ بمخارجِ حروفٍ غير صحيحة، لكنها مفهومة : تتخبى عني ؟ أوه، خبيبي الذئب العربي الصغير!
لم يستجب ولم تصدر منه أي ردة فعل، بل بقى متصنمًا بين ذراعيها، إلى أن شعر بقبلتها على عنقه، لينتفض مبتعدًا عنها عاقدًا حاجبيه باستياء. فكم مره حذرها من فعلٍ كهذا، تستفزه هذه القبلات الصغيرة ، خصوصًا تلك التي تكون على عنقه،، على غفلةٍ منه.. وهي تفعلها باستمتاع وكأنها تتعمد إغاضته.
ابتسمت له، وظهر صفٌّ لؤلؤيٌ من الأسنان البيضاء، يرى اتساع بؤبؤيها الأخضرين بشكلٍ مريب.. والإحمرار الذي لوّن خديها وعظمة أنفها ليتماشى مع لون شعرها المجعد الأحمر.
كان سيسأل "كيف دخلتي؟" .. لكنه سكت.. يرحَم مسمعيه من سماع ثرثرة طويلة لن تنتهي.
تركها تقف مكانها خلفه، بذراعين لازالا مفتوحين وابتسامة لعوبه، ليبتعد عنها متجهًا لأحد الأرائك يجلس بثقله كله عليها.
تبعته بخفّه، على مقدمةِ حذائها الرياضي الأبيض، تجلس بجانبه.. تلتصق به : فتَحَ لي الباب نوعام قبل أن أقرع الجرس حتى، يبدو أنه ذاهبٌ لملاقاةِ أحدهم.
ابتسمت ما إن أتمّت جملتها، تهمس آخرها بخبث.. تمرر سبابتها ببطء على امتداد عنقه قبل أن تسحب الجزء الظاهر من قلادته، والذي كان مخفيًا تحت كنزته، ثم تربت على نجمته بكفّها ما إن استقر ظاهرًا على صدره، تهمس : المكان سيبقى خاليًا لعددٍ من الساعات، خبيبي ذيب.
ابتلع ذيب ريقه، ينظر لعينيها ولونها الأخضر الذي بدَا مشعًّا كالنيون، يخفض بصره قليلاً ليرى بقايا البودرة البيضا قريبًا من فتحة أنفها اليمنى، ليرفع حاجبًا باردًا ما إن رآها تفرك أنفها بظهر كفها بعد أن لاحظت نظرته، تبتسم بارتباك، وتقول بصعوبة : ليش ما تخكي معايا؟
ثم أردفت بعبوس : آه اليوم أسود!! يعني ساكت.
قالتها تربت على فمه بأصابعها، ليسحب يدها يبعدها عنه، بقوة,, علّها تشعر بأنه ليس في مزاج يسمح باللعب وتبتعد، ولكنها كانت كاللوح، لا تفهم.. تضع نيابةً عن ذلك رأسها على كتفه، لتخالط رائحة شعرها الجميلة أنفاسه، تتشبث بعضده وتقول بتنهيدة : لا بأس، اليوم هو يوم السكوت.. يومٌ آخر بمزاجٍ متعكر؛ أتفهم ذلك.... سأبقى معك حتى يعود نوعام.. وإن نمتْ إياك أن توقظني..
ثم أردفت بخفوتٍ مشاكس.. قريبًا من خده بعد أن رفعت رأسها تنظر له : كما أتمنى أن تكون لطيفًا بما يكفي لتأخذني لسريرك،، خبيبي العربي العنيد.
.
.
دفع جوار عذوب التي لازالت تبكي أمامه بعد أن فتح باب إحدى الغرف التي استأجرها قريبًا من مدخل الخرطوم، ورغم نظرات الشاب القلقة خلف طاولة الاستقبال من صياح عذوب ولباسها الملطخ بالدم، ومنظر جوار المريب وهو يمسك ذراعها بقوة كي لا تفر منه، إلا أنه أعطاه مفتاحًا لغرفةٍ في الطابق الثاني، دون أن يسأل عن شيءٍ حتى،، فهو كما يبدو سائح مجنون، ومستعد لدفع الكثير.
وقعت عذوب أرضاً بقوة، بعد عدة خطوات غير ثابتة اِثر دفعته لها. لتصرخ بألم، متوجعةٌ وخائفة وكأنها ترى جوار الذي اقترب منها الآن كالموت الذي يحوم حولها،، يبدو غاضبًا وبشدة.. بل كان يتأجج غضبًا ينفث نيرانًا من عينيه.
نزل لمستواها، بعينين شديدة الإحمرار تنظر لها بتركيزٍ مرعب، مما جعلها تعود زحفًا للخلف، وهو يتبعها لازال يجلس على قدميه، كقزمٍ سريعٍ مرعب.. لازال ينظر لها بتركيز جعل سلسلةً من الشهقات تتدافع في حنجرتها، تزحف على مؤخرتها بمساعدة يديها، ولا تشعر بأقدامها أبداً.
إلى أن أوقفها الحائط خلفها بعد أن اصطدمت به، تتمتم بذعر ما إن وصل لها : لا تظن إنك بتخوفني بحرك...
لكنه لم يدع لها مجالاً كي تتابع، يقف ويرفعها من شعرها معه ، بعد أن غرس أصابعه فيه ، والذي انسل الغطاء عنه نتيجة زحفها، على الرغم من أنه لفّه بأحكام وربطه حول عنقها بقوة لدرجة أن سعالها خالط نحيبها لعدد من الدقائق عندما شعرت بأنها ستختنق، كان ذلك ما إن ركب بجانبها في السيارة، فهي وفي نهاية المطاف تبقى زوجته ولا يرضى لكل عينٍ بأن تراها.
شعرت عذوب بأن رأسها سيُفصل عن باقي جسدها من قوة شده لشعرها، مع ذلك استجمعت الباقي من قوتها المزعومة وبصقت عليه ما إن استقرت واقفة، لتجد عنقها محاصرٌ بين أصابعه، بعد صفعةٍ أججّت ناراً على خدها من كفه الآخر، يتبعه بصفعةٍ أخرى أقوى من سابقتها.. ثم بصوته يخرج بفحيحٍ غاضب : لا تظنين إنك بتستفزيني بالحركات ذي، ماقصرتي باللي فات.
عذوب بهلع : أنت مجنون.. أتركني وش تبي فيني؟....
زاد من ضغطه حتى شعرت بأن الدم سيخرج كالنافورة من محاجرها : صدقتي،، أنا مجنون لأني للحين تاركك بدون لا آخذ روحك يابنت ال* .
تسارعت أنفاسها وبرزت عروقها، جحظت عيناها وتجمعت فيها الدموع وهي ترى الإصرار في عينيه، لفت أصابعها حول معصمه، تحاول أن تبعد يده التي تنوي قتلها، لكنه شد من قبضته حول عنقها أكثر.. وما إن أزرقّت شفتيها حتى وتركها لتتهاوى واقعةً على الأرض، تكح بشكلٍ متواصل تدلك عنقها بعدم تصديق وكأنها تتشبث بروحها التي كادت أن تفر منها..
رفعت بصرها له، بعينين شديدة الاحمرار تمتلئ بالدموع، تنظر بحقد وكأن في نظرتها الموت.. لكن جوار رأى في نظرتها دعوةً له، ليسحبها من شعرها خلفه دون أن يكترث بصراخها الموجوع، بل أنه أعجبه ويريد أن يسمع منه المزيد عله يُبرئ قهره منها.
شدها بقوةٍ أكبر للأمام ما إن دخل بها لدورة المياة، يقف مكانه لتكمل هي طريقها ككرة البولينغ على الأرض الرخامية, ويساعدها في ذلك القماش الناعم الذي ترتديه، لترتطم بساق المغسلة الصلبة خلفها.. ولم تستطع لحظتها أن تكتم ضعفها، أو أن تتظاهر بالقوة، تشعر بقدمها تصرخ من فرط الألم بعد أن خدرت في الدقائق الماضية، تضع يدها على كاحلها.. تبكي بنشيجٍ موجوع : رجلي ياجوار رجلي توجعني.
ليقول جوار بهدوء : أي وحدة ؟
ثم يتابع وهو يضغط على كاحلها الأيمن بخفه : ذي؟
ويردف قبل أن يطأ الأيسر، يضغط عليه بكل قوة لتصرخ من الألم، يقول بتشفي : ولا ذي؟
عذوب بصراخ مجزوع ضاربةً ساقه بشكل قويٍّ متواصل : حرام عليك رجلي..
فصرخ غاضبًا شاتمًا، يركل قدميها بكل قوته : حرمت عليك عيشتك كانك تعرفين الحلال من الحرام يال*..
عاد يركلها مجددًا قبل أن يخرج ويغلق باب دورة المياة بالمفتاح خلفه.
تركها ساعة،، ساعتين،، ثلاث.. ولم يسمع لها صوتًا أو اعتراضًا أو حتى قرعًا على الباب.. فعاد يفتحه بتوجس..
ليجدها تجلس على الأرض تسند ظهرها على الجدار، برأسٍ مرفوع ووجهٍ يخلو من الدموع أو أي تعبير آخر، لا شيء واضح فيه سوى كدمة داكنة على خدها بعد صفعاته الموجعه.
تربط كاحلها بقطعةٍ مزقتها من طرف ثوبها ، تنظر له بتحدّي وسخرية ، وتنطق الحقد نطقًا من بين شفتيها : تظن أنك بتخوفني وبقعد أصيح وأصارخ عشان تفتح لي الباب؟
ضحكت بخفوت وكأنها تستخف به : أنا جلست سنين من عمري محبوسة تتوقع لعب العيال ذا بيأ....
لم يدع لها مجالاً لتتابع، فقد انقض عليها يسدد لها الركلات دون أن تصرخ هذه المره بل بقت صامته، على عكسه هو الذي بدأ يصرخ بقهرٍ بينها -رغم أنه في دورة مياة- : إنهدّي... إنهدّي الله يهدّك..
.
.
استيقظت صيتة فجأة،، في منتصف نومٍ لم يكن مريحًا على أيّ حال.. تتنفس بصعوبة بالغة بعد أن رأت كابوسًا مريعًا.. سمعت فيه قرعًا مرتفعًا على الباب.. ثم بأيدي كثيرة تسحب أحدًا تعرفه، لم يكن واضح الملامح ولم تتعرف على هويته، لكنها تعرفه.. متأكدة من أنها تعرفه. والفزع الذي أصابها في حلمها وحتى بعد استيقاظها منه يثبت ذلك..
نفثت عن يسارها ثلاثاً، تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وهي تشعر بالصداع ينتشر في رأسها فجأة.. وبالقلق يتزايد مع تزايد نبضات قلبها.. كجنودِ احتلالٍ داخلين على الأراضي الآمنة .
تحركت من سريرها تبعد الغطاء عنها بقوة، لازالت يدها على قلبها الذي انفجر نبضه وتعدّى الحد الطبيعي.. تبتلع ريقها الذي جف بصعوبة وترفع هاتفها بيدٍ ترتعش.. قبل أن تعيده مكانه عندما لم تجد شيئًا فيه.. لا اتصال ولا رسالة..
أحاطت رأسها بكفيها، تضغط عليه بقوة.. وكانت ستقف لولا صوت شعاع الذي سبقها، تسأل بنبرة مستنكره : خالتي!!
استدارت تنظر للنائمة خلفها، أو هكذا ظنت قبل أن تلقي بهاتفها كالطفلة.. ولكنها لم تدرك بأن تأوهاتها الخافتة التي كانت تخرج منها دون أن تشعر بها، هي من أيقظت شعاع.. لتقول بضيق : آسفه ياقلبي صحيتك.
شعرت شعاع بأن شيئًا غريبًا يحصل، شمّت ذلك.. لتعتدل جالسة تسأل بقلق ما إن وقفت خالتها : وين بتروحين؟
لتقول صيتة بيدٍ لازالت على جانب رأسها، تتأوه وتئن بألم : بجيب لي بندول، راسي بينفجر.
شعاع : بسم الله عليك، خليك أنا بجيب لك..
وخرجت من الغرفة دون أن تدع لها مجالاً كي تعترض.
تخطو خطاها مسرعة، تنظر لساعة معصمها في طريقها لتجد أنها تشير للثانية والنصف بعد منتصف الليل.
أوقفها صوته ما إن عبرت الصالة العلوية كالصاروخ : شعاع!!!
التفتت برأسها ناحيته، لتجده متمددًا على أحد الأرائك بيده ريموت التلفاز : أنت للحين مانمت؟ وش عندك قاعد هنا؟
اعتدل جالسًا ببطء : ماجاني النوم..
ثم أردف بتوجس : خير وش فيك تقل أحد يلحقك؟
لتقول قبل أن تبتعد : خالتي صيتة تبي بندول،، صحت فجأة ماسكة راسها.
عادت شعاع من المطبخ بيدها حبتين بندول وقارورة ماء، تصعد الدرج بسرعة قبل أن تتجه خطواتها العجلة لغرفة خالتها ببابها المردود، وما إن دخلتها حتى و وجدتها تسند ظهرها على وسادتها وعبدالإله يجلس أمامها على السرير، يدلك قدميها حيث هو جالس من فوق الغطاء، وكلاهما يغرق بالصمت..
اقتربت منها، وما إن انتبه لها عبدالإله حتى وأخذ المسكن منها، يفتحه في راحة يد أخته، ثم يأخذ قارورة الماء من شعاع ويناولها للأخرى الجالسة أمامه، يقول وهو يراها تشربها دفعةً واحدة : جعل فيه العافية.. بسم الله عليك وش جاك؟
دلكّت صيتة رأسها بألم واضح، تقول على مضض : صداع ياخوي عادي.
عقد عبدالإله حاجبيه : أول مره أشوف أحد يصحى من نومه مصدع!!
ثم أردف : أخاف بنت مشاعل سوت شي ولا صكّت راسك بالهذرة قبل لا تنامين..
ضحكت صيتة ضحكةً خافتةً متعبة، لتشعر بالألم ينخر رأسها بسبب ذلك.. ترى شعاع التي شهقت بعنف تلكم كتف خالها بخفه، تقول بامتعاض : والله ماسويت شي..
صيتة بابتسامة ذابلة : ماعليك منه،، شايل على أمك لأنها حطته قدام الأمر الواقع اليوم وقالت له مالك إلا لولوة .
اتسعت عيني شعاع ، تقول بذهول : وااو.
هز عبدالإله رأسه، مؤيدًا بتبرم : فعلاً وااو... أنا متعود على صيتة ياجعلني قبلها إن قلت لها لأ ولّا صرّفت الموضوع تفهم وتسكت.. بس أمك!!! لا إله إلا الله ماقد شفت مثلها..
ضحكت شعاع بمودة : شافتك راكد قالت أحركه...
رمقها بطرف عينه : راكد!!!.... أنتِ من وين تجيبين مصطلحاتك؟؟
جلست شعاع بالمساحة الصغيرة بجانب خالتها، تحتضن كتفها بحنو، وتقول بسعادة : أكيد متحمس..
ليقول بنبرة هازئة : افف، بموت من الحماس...
تبسمت صيتة ما إن قالت شعاع بحنق : عن المصاخة عاد...
ثم تأففت بضجر قبل أن تلصق رأسها برأس خالتها، تقول وقد مدت شفتيها أشبارًا : عديم احساس وترفع الضغط.. علّة الزمان الله يعينها عليك.
عبدالإله وقد ارتفع حاجبه باستمتاع : طيب اهدي، يمكن مايصير نصيب،
ثم يتابع بنبرة هازئة : عشان كذا أنا مركّد حماسي.
صيتة بسرعة : أعوذ بالله من فالك..
عبدالإله بتبرير : أنا أقول يمكن... يمكن...
لكن صيتة قالت بإندفاع، تحرك كفها أمام وجهه بسخط : لا يمكن وولا مايمكن، إلا بيصير نصيب ان شاءالله وبتصير هي زوجتك وأم عيالك... ياتقول شي زين ولا انطم.
مط عبدالإله شفتيه، يقول ضاربًا فمه بيده : ياكلمة ردّي مكانك،، آسفين...
ثم يتابع بامتعاض : الحين ذي اللي مصدعة قبل شوي؟
وضعت صيتة كلتا يديها على رأسها، وكأنها تذكرت.. لتقول بضيق : والله أحس راسي بينفجر.
لتسأل شعاع بقلق : ماخف ؟؟
هزت صيتة رأسها تنفي،، تغمض عينيها ما إن أحست بأنها ستستفرغ من قوة الألم الذي تشعر به يأكل خلايا عقلها دون رحمة.. إلى أن وصلها صوت عبدالإله : تمددي وغمضي عيونك شوي ويروح.. ارتاحي...
ثم يردف بقلق بعد أن وقف : ولازم تشوفين دكتور الوضع ماهو طبيعي يا أختي.
لتقول صيتة باستسلام تام ليدي شعاع التي أعادت رأسها على وسادتها : صحيت متروعه ومسكني الصداع، هذا هو السبب... مايحتاج دكتور وغيره..
ليقول عبدالإله بحنو : بسم الله عليك،، تعوذي من ابليس.. وش اللي مروعك؟
ثم أردف ممازحًا عله يمحي تقطيبة حاجبيها : أخاف شعاع..
لكن العقدَة زادت، تقول بقلق : عزام دق علي مره الظهر ولا عاد رجع اتصل..
صمت عبدالإله لثانية، قبل أن يقول متسائلاً : طيب؟
صيتة : غريبة ماعاد دق مره ثانية ماهي عادته.. ومن المغرب وجواله يعطي مقفول ويوم فتحه ماعاد رد علي مره وحده.
زم شفتيه بتفكير، فهو الآخر حاول الاتصال بعزام مراتٍ عدة لكن دون جدوى، غير أنه لم يهاتفه اليوم أبداً وهذا شيء وكما قالت صيتة "ماهي عادته".
رفع بصره ليأخذه صوت شعاع من أفكاره ، تقول بتنهيدة وأسى، فإن كانت صيتة قلقه لأنه اتصل عليها اليوم مره واحدة فقط،، فشعاع لم تسمع صوته مطلقًا : تلاقينه طلع مكان وانشغل، بعدين لا تنسين ياخالة فرق التوقيت بيننا وبينهم.
صيتة بقلق : عسى.
عبدالإله بحنو : تعوذي من ابليس يابنت الحلال، مافيه إلا العافية وعبدالله معه... لو فيه شي لا قدر الله بيدق.
رمشت بعينيها لازالت قلقة، فقد اعتادت منه أكثر من اتصال في اليوم الواحد ، قبل أن تغلقها بانصياع لأصابع شعاع التي بدأت تدلك جانبي رأسها عل مادكّ به يفارقه.
.
.
فتح عينيه على أقل من مهله، يشد على حاجبيه، قبل أن يرخيهما مجددًا.. لا يشعر بأي ألم.. لا شيء البتّه حتى بعدما رفع يده..
حاول أن يبتلع ريقه ولكنه لم يستطع بسبب جفاف حلقه. فعاود إغماض عينيه.. تتدافع الأحداث الأخيرة على عقله بسرعة. كالومضات... ففتحها مجددًا بقوة، وفزع خوفًا بألا يستطيع فتحها مجددًا. يقول بصوتٍ أبح : عبدالله..
ثم بنبرة ارتفعت قليلاً : عبدالله..
وأعلى قليلاً، ينادي : ياعبدالله..
إلى أن صرخ بصوتٍ مجروح بعد أن تمكن منه القلق : عبدالله.
في أقل من ثانية، فُتح الستار الأبيض بقوة، لتظهر له امرأة سودانية ترتدي لباس المستشفيات الأبيض، صرخ بها : وين عبدالله؟
اقتربت منه، تسأل باستنكار : عبدالله منو؟
تهدجت أنفاسه، قائلا بسرعة : عبدالله علي،،، الرجّال اللي كان معي..
ثم عاد يصرخ وهو يرى اقترابها منه بملامح ناقمه : ياعبدالله.. عبدالله وينك؟.....
نهرته بانفعال : ماطوطي صوتك يازول، حوليك ناس عيّانه.. وكمان أنا مش فاهمة أنت عايز منو؟ أصل أنت جيت لوحدك ماكان يرافقك أيَّ حد.
حاول أن يرتفع بجسده، لكنها دفعته للخلف بقوة.. تثبته من كتفيه تمنع حركته، حتى بات يرفس بأقدامه.. يشعر بقوته المزعومة تتهاوى كتلالٍ رملية، حتى فقدها تمامًا..
: عزام... عزام بسم الله عليك..
فتح عينيه بقوة، وهلع، وأنفاسٍ متسارعة.. مستجيبًا للصوت المنادي بإسمه واليدين التي تهزه بخفّه وحذر.. يشعر بقلبه وتسارعه وكأنه سيكسر أضلعه. يقوم بتحريك يده بقوة كي يتأكد فشعر بألمٍ رهيب، وشدٍّ في أعلاها.
الإنارة البيضاء في كل مكان جهرته.. أوجعت عينيه التي كان سيغلقها لولا الصوت الذي وصله، يسأل بوجل : عزام وش جاك ياخوك خلعت قلبي..
ثبتت نظرته ، واتضحت رؤيته، ليجد أن صاحب الصوت هو عبدالله، ولا شيء واضح على وجهه سوى الخوف والعينين التي تنطق قلقًا ناحيته.
تمتم بتوهان : عبدالله..؟
زفر عبدالله أنفاسه وتوتره وصل ذروته، يعود خطوة للخلف قبل أن يرمي جسده المرتجف على الكرسي البلاستيكي خلفه، والذي كان يجلس عليه بهدوءٍ وسكينة قبل أن يبدأ عزام النائم بالصراخ مناديًا بإسمه.. بملامح وجه مرعوبة،، مبهوته، وجبين متعرّق. يرفس بأقدامه وكأنه يعارك أحدهم.
مسح عبدالله وجهه بكفيه، يذكر ربه بينه وبين نفسه.. يحاول أن يهدّأ من أنفاسه الثائرة ما إن دخل الطبيب بسرعة، تلحق به ممرضته للتأكد من الوضع الصحي للمريض الذي تردد صوته المرتفع بالمكان.. وما إن هدأت أنفاسه اللاهثة واستقرت نبضات قلبه المتسارعة.. حتى وتبسّم الطبيب بمودة : الحمدلله على سلامتك. خوفتنا عليك يازول .
نظر له عزام بقلق، ليتابع : بحب أطمنك، أمورك بقَت كويسة ماتخاف.... ما فاكر شنو حصل قبل توصل للمركز؟
كانت نظرة عزام تائهه، غير ثابتة.. فتابع الطبيب ما إن شعر بتشتته، يضع يديه في جيب بالطوه الأبيض : الرصاصة ضربت كتفك، واتغرست بمكان عميق شويّة العظم واللحم.. والحمدلله ماكانت اختراق كلي،
ثم تابع بنبرة مرحه : وعملنا عملية بسيطة كده عشان نخرِّجها بدون أي حاجه لنقل دم أو غيرو..
وأكمل بعدها يزفر بأسى : بعتذر شديد بالنيابة عن ولاد منطقتَي واللي عملوه، بارا منطقة حلوة شديد ما عايز تاخد عنها فكرة مش كويسة، بس ماعارف شنو حصل ليها دِلوقيت وبقت متل الغابة،، بقى القوي ياكل الضعيف واليوم الواحد تاجي فيه إصابات كتير.... السلاح بقى متوفر بكلَّ مكان وتشوفو مع كل حد... البلد صارت لعبة روس كبيرَة.
سكت عندما أدرك أنه استرسل بشيءٍ لا يعني للمتمدد أمامه بشيء.. ثم أردف بمودة، يبتسم بمهنية : وهقوليك بس ما تزعل مننا ياعم، هنخليك كمان يوم زيادة إلى إن نطّمن إن كل حاجه بقَت كويسة.
بالسلامة ان شاءالله..
وما إن خرج الطبيب من المساحة الصغيرة التي يتواجد فيها سرير عزام يفصله عن باقي الأسرّة ستائر بيضاء، إلا وأتاه صوت عبدالله، يقول بحروفٍ بدت ضاحكة من فرط سعادته وراحته : الف الحمدلله على السلامة يابعدي..
ثم اقترب منه مقبلاً جبينه : خطاك السوء ...
ابتسم له عزام بامتنان، ابتسامة باهته وهو يرى شحوب وجهه والإرهاق الواضح على عينيه وكأنه لم يذق طعم النوم : الله يسلمك من كل شر،
ثم أردف بمودة وهو يلاحظه يتصدد بالنظر عنه فاركًا أنفه بكفّه.. يتذكر جيدًا بكاءه ما إن رأى الدماء تلطخ قميصه : قلت لك ماهي خطيرة... جرح بسيط...
قالها يحاول أن يعتدل جالسًا، فإنحنى عبدالله يساعده،، يرفع الوسادة خلفه كي يستند بظهره عليها براحه، وما إن التقت نظرة عزام بنظرة الآخر، حتى ولاحظ الالتماع الطفيف لسطحها...
ليقول عبدالله مبررًا ذلك بضيق : هي بسيطة يارب لك الحمد، بس والله يا إني نشفت أمس.. قلت خلاص ياعبدالله ضيّعت عزام من كيس أهله ..
ابتلع تأوهًا كاد أن يخرج من بين شفتيه ما إن شعر بألمٍ على امتداد يده اليسرى، ليعقد عوضًا عن ذلك حاجبيه، ينظر لعبدالله بتساؤل : أمس؟
هز رأسه يقول بهدوء : اليوم الإثنين.
اتسعت عينيه بذهول، واتضحت خطوط التعب على وجهه الذي لازال شاحبًا مبهوتًا : اسألك بالله!!!
ليتابع عبدالله بذات النبرة الهادئة : وصلنا أمس قرب العشا، ودخل بعدك ثلاثة اللي متصاوب بذراعه واللي منفلع راسه واللي مكسوره ساقه.. لا إله إلا الله شي شي يروع القلب،، أثر الديرة قايمة قاعدة بين عيال البلد..
ثم أردف وكأنه يعيش البارحة مجددًا : سدحوك وأنت مغيّب ماتحس باللي حولك والحمدلله إصابتك طفيفة على كلام الدكتور، سحب الرصاصة ونظف الجرح واستقر وضعك.
ثم عم صمت لثواني قبل أن يتابع عبدالله بزفرة : مير انك من فقدت الوعي ذيك الساعة ماعاد صحيت، ونفضتك حرارة تالي الليل غسلت ذنوبك لسبعين سنة قدام.
وأكمل مبتسمًا بعد أن ضحك عزام : والحين يوم إنك قمت تصارخ وترافس وأنت نايم مدري وش طاعونك قلت بسس ياعبدالله خلاااص, الولد جاته جرثومه وقده ينازع.
كح عزام يشرق بضحكة خافته جديدة، يضرب عظام صدره الخدرَه بخفه، قائلاً : حلمان فيك الله يقلعك..
وعين عبدالله تتأمله بحب أخوي خالص، فقد ظن بأنه سيفقده البارحة. لازال المنظر حيًّا طريًّا في عقله.. منظر عزام ممددًا على سريرٍ موجودٍ بأحد ممرات المركز المتصدّعة، بملاءات ملطخة بدماءٍ جافة والطبيب المنهك من العمل المتواصل يعاين جرحه قبل أن يدخل أداةً أشبه بالمقص كي يسحب الرصاصة الغائرة في كتفه،، وأمام ناظريه فلم يستطع أن يقاوم رغبته بالاستفراغ في أقرب سلّة نفايات وجدها في وجهه، خصوصا وأنه يقاوم هذه الرغبة منذ أن وصف عزام رائحة دمه بالبيض..
وعندما انتهى كل ذلك، وجد عبدالله نفسه يجلس على كرسي بلاستيكي في غرفة كبيرة تمتلئ بالأسرّة، والجرحى.. بين السرير والسرير ستارة بيضاء تفصل كل مريضٍ عن الآخر .
وما إن سحب الطبيب الستارة البيضاء التي تفصل سرير عزام عن السرير بحانبه، حتى وشعر عبدالله بأن عينيه ستنفجر من تكدس الدموع خلفها، ينظر لعزام الساكن تمامًا ممددًا أمامه كالجثه الهامدة، بوجهٍ شاحب وملامح متعبه حتى أثناء نومه، وكأنه نازع الموت حيًّا. وما إن مضت الساعات وعزام لازال مستلقٍ على نفس وضعه، دون حركة، ولا حتى رفّة رمش.. إلا وبدأت الوساوس تضرب عقله دون رحمه.. يجد نفسه يقترب بين كل دقيقةٍ وأخرى منه, واضعًا يده قريباً من أنفه ليتأكد من تنفسه، أو يبسط راحة كفه على صدره ليتأكد من نبضه.
كانت الأفكار السوداء والمخاوف تضرب عقله دون رحمه، تنزل على رأسه كالمطرقة، فالمركز الصحي متواضع جدًا، من الجيد وجود عدد من أجهزة المهمة وأجهزة الضغط وبعض المعدات الطبية.
قلقان،، ماذا لو كان الطبيب شخصّه بشكل خاطئ؟ أو قطع شيئًا وهو يسحب الرصاصة بآداته الغريبةِ تلك؟
وما إن بدأ جسد عزام يرتعش بعد منتصف الليل، معلنًا عن حمى أصابته.. حتى وانهار عبدالله تمامًا، على وشك أن يحمل عزام على ظهره كي ينقله لمكانٍ آخر، لو سيرًا على الأقدام حتى يصل به للخرطوم، المهم أن يبتعد عن هذا المكان الموبوء حيث هو متأكد من أن فيروسًا أصابه.. أو جرثومةً التقطها وداهمت دمه، في طريقها لعقله.. قاب قوسين أو أدنى من أن يتصل بعبدالإله كي يأتي وينقذ الموقف؛ فهو سيء جدًا في إدارة الأزمات . ولا يحسن التصرف تحت الضغط..
لكن الطبيب الطيّب طمنّه، حاول أن يهدّأ من روعِه ويخبره بأنه أمر طبيعي فهو قد نزع رصاصةً من كتفه ونزف بسببها،، وليس ضرسًا في فمه.
: وش صار على الولد الصغير اللي كان معها؟
توعى عبدالله على صوت عزام يسأله، بعد أن هدأت ضحكته، لازالت الابتسامة ترتسم على وجهه بهدوء ، فأجابه : نقلوه للمستشفى كان يحتاج نقل دم.
عزام بقلق : ياساتر!! وكيف وضعه الحين؟
عبدالله بسكون وضيق من نفسه فلولا تدخله لما حصل كل هذا : إن شاءالله إنه بخير ، على كلام الدكتور الرصاصة جاته بجنبه، ربك رحيم ماصابت الكلى ولا كان راح فيها.
عزام : الله يلطف فيه،، عدّت على خير الحمدلله.
زفر عبدالله يشعر بأنه سيختنق ، وهو الذي لم تخفى عليه نظرة مصطفى المعاتبه ناحيته وكأنه يحمّله السبب وذنب كل هذا، عندما خرج برفقة أحد الممرضين للمستشفى الذي يبعد عن المركز الصحي مسافة الأربعين دقيقة تقريبًا.
.
مضت ثلث ساعة على استيقاظه، يسند ظهره على السرير خلفه، ويرفع يده ملامسًا كتفه حيث الشاش يغطيه تمامًا.
ينظر حيث تنتهي أقدامه الممدودة أمامه يغطيها الشرشف الأبيض الخفيف، يشعر بنظرات الجالس تكاد تخترق جانب وجهه، يشعر بالقلق المندفع من عينيه، والذي وصله دون الحاجة بأن يصفه حتى.
كان يعلم بأن إصابته لم تكن بتلك الخطورة التي تستدعي الموت، لكن ماذا لو كان ذلك يومه فعلاً، وكانت الرصاصة سببًا لموته بعد انتهاء أجله؟ ماذا لو كانت الرصاصة أصابت رأسه؟ أو استقرت في منتصف قلبه؟.. ماذا لو مات؟!!!
كانت تجربة قريبة من الموت لحدٍ كبير.. شعر بالموت يحوم حوله في كل مرة يصرخ بها عبدالله على السائق كي يسرع، أو في كل مره يضرب فيها خده كي يبقى بوعيه... حتى فقدَه!
كانت أنفاسه منتظمة تمامًا، لكنه يشعر بألمٍ طفيفٍ في رأسه.. ووخزٍ في كتفه.. وأفكار متفرقه في عقله .. يجد نفسه يراجع أفعاله، وتصرفاته في السنوات الماضية..
ماذا لو مات حقًا ولم تكن التجربة القريبة من الموت،، تجربة؟!!
كيف سينزل الخبر على أمه؟ أو حتى شعاع التي أعلنتها صراحةً في وجهه أنها أضعف من أن تتحمل خسارته.. كيف سيتعايشن مع فكرة عدم وجوده؟ وماهي الذكرى التي ستبقى في عقولهن بعد رحيله؟
تنهد وهو يشعر بأوتار قلبه تشتد بضيقٍ فجأة، متذكراً شعاع التي لازالت على ذمته دون أن تيأس أو تمل منه حتى بعد مرور سنتين من الجفاف والمعاملة الرسمية وكأنها سكرتيرة مكتبة لا زوجته،، سنتين مرّت وهي تستجدي الحب والاهتمام والعواطف منه.. بل أنها ورغم كل البرود الذي يصدر منه ناحيتها، كانت دائمًا تشتعل لأجله، تضيء ظلمة قلبه حتى وإن أنكر ذلك فوجودها ولو أستثقله أحيانًا كان كالأرض الثابتة التي يضع عليها حمله وأثقاله وهو واثقٌ متأكد من أنها لن تنهد تحته..
كان الصمت يسيطر على المكان، تخترقه بعض التأوهات الموجوعة للموجودين من حينٍ لآخر.. تخالط أفكار عزام الذي تبسّم ابتسامةً صغيرة على ما طرأ في باله في هذه اللحظة.... عندما اعتقدت والدته بأن شعاع حامل، ليجد نفسه الآن، وفي هذا المكان بعد أن اخترقت رصاصةٌ كتفه، يتمنى لو كان ما اعتقدت صحيحًا..
إلى أن قطعه عبدالله من هذه الافكار، قائلاً بهدوء : ترى أمك دقت ورديت عليها.
اتسعت الابتسامة على الطاري، مشتاقٌ لها وكأنه لم يراها لسنوات.. يقول ممازحًا : ومن سمح لك؟
بادله الابتسامة بأخرى : ياخوي أحرقت جوالك اتصالات ولا رديت، بس يوم دقت اليوم خفت إن مارديت توصلنا.
رفع حاجبيه باستنكار : فيه شبكة؟
عبدالله : مدينة ذي فيها خدمات ومدارس ومستشفى ماهي قرية..
ثم أردف بخبث : تراني قلت لها عزام طلع يسعسع ونسى جواله... ياويلك!
اتسعت ابتسامته ، بل أن الابتسامة تحولت لضحكة حنين وشوق : والله إن تبطي، مستحيل تصدقك بنت عبدالله.
ليقول عبدالله بمودة فقد صدق : واضح راضية عليك، وش مسوي لها اعترف؟...
انعقد حاجبي عزام ، يسأل بقلق : ليكون قلت لها شي؟
فقال عبدالله بإزدراء : ليه مهبول؟...
ثم تابع يمد له هاتفه بعد أن أخرجه من جيب بنطاله : المهم خذ كلمها وطمنها تلاقي بالها مشغول عليك،، مع إني كلمت عبادي وطمنته .
قالها وخرج يسحب الستار خلفه كي يأخذ عزام راحته.. تكفي المره الأولى عندما بقى جالسًا بكل وسِع وجه يستمع لمحادثته مع زوجته..
طلب رقمها، ووضع هاتفه على أذنه بعد أن أغلق وضع الطيران الذي فعّله عبدالله كي لاتفرغ بطاريته ، تتسارع نبضات قلبه لا إراديًا مع كل 'طوط' ترتفع.. إلى أن توقفت، وفتح الخط ليقول بسرعة وابتسامة كأنها تراه : ال..
لكنها قطعت كلمته قبل أن يتمّها، تهتف بلهفه : ياهلا والله ومسهلا، حي ذا الصوت وراعيه...
اتسعت ابتسامته، وتنحنح يبعد عبرةً تسلقت حلقه : هلا بك يابعد روحي.. وش أخبارك؟
ثقلت نبرتها بضحكة سعادة واضحة : أنا بخير دامني أسمع هالحس.. وينك يا أمك عن جوالك من أمس؟ شغلت بالي عليك..
ورغم أن عبدالله كان يقف بالخارج إلا أن صوت عزام كان يصله بوضوح، تبدلت نبرة التعب في صوته لشيءٍ آخر وكأن مخزون الحياة امتلأ عنده. يسمعه يسطر لها أيمانًا بأنه بخير..
يؤكد لها بأن ماقاله عبدالله صحيح.. وأنه نسى جواله الصامت موصولاً بالشاحن عندما خرج بعد أن فرغت بطاريته بالأمس.
كانت التبريرات تخرج من بين شفتيه بسهولة، دون أن يتردد في شيءٍ منها، أو أن يتلعثم بأحدها, وكأنه اعتاد عليها.
لا يعلم كم مضى على وقوفه بالخارج، حتى أتاه صوت عزام مناديًا، ليفتح الستار ويدخل.. يجده يبتسم ابتسامةً واسعة، قائلاً بطاقة متفجرة : متى ناوي نرجع إن شاءالله؟ مليت وطقت كبدي ياخي...
عبدالله بود : أول ما تطلع من هنا إن شاءالله نشيل شلايلنا وعلى المطار دايركت. وحرام علي كان جيتها مرة ثانية.
سكت عزام قليلاً، يقلب في هاتفه... قبل أن يضحك بذهول :
جوار مرسل قبل أربع ساعات!
عبدالله بغيظ : وش يبي بعد الله ياخذه!!
ليقول عزام لازال الذهول واضحًا على ملامحه : يسأل إذا أحد جاه شي ههه!!!..
فقال عبدالله بتهكمٍ واضح : أنا شفت ناس وسيعة وجه بس مثل ذا ماقد شفت!!!... له عين يسأل بعد اللي سواه؟ ماهو كان شايف بعينه كيف كان الوضع قبل لا يركب السيارة وينحاش زي النعامة، ولا ليكون يظن أنه أطلق علينا من مسدس موية!!...
.
خرج عزام بعد أن استقرت حالته تمامًا في اليوم التالي, بكتفٍ مضمّد وقميص لا يعلم من أين أتى به عبدالله ، عائدًا للخرطوم برفقته على متن حافلة صغيرة، تحمل معهم عددًا لا بأس به من الركاب.
ورغم الطريق الطويل، المتعب والشاق بين المنطقتين والذي يتجاوز الساعتين بالسيارة، إلا أنهما لم ينتظرا حتى يصعدا للغرفة، بل توقف عبدالله في منتصف بهو الفندق، يفتح بهاتفه موقعًا لحجز رحلات الطيران بعد أن اتصل بالأنترنت الذي لم يستطع الاتصال به في بارا، يبحث بعينيه عن أقرب رحلة للعودة بينما عيني عزام القلقة تراقب مؤشر بطارية الهاتف الحمراء ورقم "١٠%" يصرخ بجانبه، يحث عبدالله على أن يستعجل قبل أن ينطفئ هاتفه.
الرحلة الأقرب كانت بعد يومين، عصر الخميس.. مما جعل الشعور المر بالخيبة يُغرق الشابين، فلم تعد لهما رغبة بأن يبقيَا في هذه الأرض دقيقة واحدة..
ليجد عبدالله نفسه يعاود البحث بكل أمل مجددًا في وقتٍ متأخر من الليل، يتمدد على سريره بعد أن امتلأت بطارية هاتفه.. يبحث باستماته علّه يجد رحلةً أقرب من هذه..
ليسأل عزام بأمل بعد دقائق صمت طويلة، عاد فيها يتمدد في مكانه بعد أن غير ضماد جرحه.. يتحسس طريقه،، لا يرى في الظلام سوى عبوس عبدالله الذي أظهره ضوء هاتفه المنعكس عليه : ها بشّر ؟
ليتأفف عبدالله قائلاً بضجر : أقرب شي رحلة الخميس.
تنهد عزام باستسلامٍ تام، يقول بهدوء علّ صوته يقنعه : ماعليه، خيره إن شاءالله مابقى شي على الخميس.
قالها يغلق عينيه، يتمنى أن ينام للخميس... يصارع رغبةً ملحّةً بالصراخ من أعماق قلبه من فرط قنوطه.. فإن كان عبدالله وعلى الرغم من اعتياده على ترك أهله لأسابيع يجد نفسه مشتاقٌ متلهفٌ للعودة، فكيف برجل مثل عزام لم يعتد أن يفارق أهل بيته لمدة تزيد عن اليوم ؟
ومنذ تلك اللحظة التي أكد فيها عبدالله الحجز وحتى الخميس، لم يظهر جوار أبداً.. ولم يجب على اتصالات عزام.. ولا حتى القرعات المرتفعة على باب غرفته.. مما أثار قلقًا في نفسه، فماذا إن كان أذىً حل به، أو بزوجته؟...
هل سيُضيع الطريق لوالده الآن، بعد أن اقترب منه؟؟
.
أتى الخميس، ولم يسعد عزام به قبلاً كسعادته الآن..
لدرجة أنه لم ينم إلا لساعتين فقط بعد أن عجز عن النوم طوال الليل، على عكس عبدالله الذي غرق بنومٍ عميق ما إن لامس رأسه وسادته،، يستيقظ بعدها بنشاطٍ وكأنه نام الليل كله.. يحرك المزلاج بخفّه قبل أن يَفتح النافذة على مصراعيها لتدخل أشعة شمس الثامنة صباحًا ، حارة وقوية وكأنه في عز الظهر.. يهتف رغمًا عن ذلك بحماس : اصحى ياعبدالله.. قم...
ثم يتمتم بسعادة جاذبًا نفسَا عميقًا لرئتيه، دون أن يأبه بتذمر النائم خلفه يسحب غطاءه مغطيًا به رأسه : اصحى.. جا الخميس الونيس..
لازال غير مصدق أنه في طريق عودته للمنزل.. يجلس على مقعده القريب من النافذة مودعًا سماء السودان أخيراً،
متأكدٌ من أنه لو أتى لها بظروفٍ غير هذه لكان استمتع ببقائه فيها. فالسودان بلد حي وشعبه ودود ومحبوب بامتياز..
نقلته الطائرة المتجهة من الخرطوم لجدّة فوق السحاب، ساعةٌ تعلقت فيها عيني عزام بالسحب المتراكمة تحته، في منظرٍ بديعٍ لا يُنسى .. يجد نفسه مسترخيًا مبتسمًا وهو يرى تبعثر آخر خيوط الشمس على تكتلاتها التي جعلتها كوسائدٍ من القطن، رغم نظره لساعة هاتفه من وقتٍ لآخر بنفاذ صبر يعد الدقائق عدًّا من لهفته، لا صبر لديه حتى يدخل منزله ويراهنّ أمامه.
ولا يعرف كيف انتهى به المطاف بين رسائلها، منذ أول رسالةٍ أرسلتها له وحتى آخر واحدة، قبل سفره عندما كتبت (مكانك بيّن من الحين حبيبي عزام، استودعناك الله.. تكفى لا تبطي علينا).. يقرأها بتمعن، يرتفع طرف شفتّه بابتسامة رغمًا عنه على استخدامها المفرط للوجوه التعبيرية،، يلحظ قلبًا برتقاليًا في كل مره.. متجاهلاً بذلك عدم رده على معظمها..
ارتفعت عينيه عن هاتفه ما إن قال عبدالله بتذمّر، يتأفف من قلبه.. يرخي من شد الحزام حول نفسه.: الله لا يعيدها من سفرة.. مابغينا..
اتسعت ابتسامته، والتفت ينظر له قائلاً بتفكّر حقيقي : والله إنها عدّت مثل الحلم.
اتسعت عيني عبدالله بشكلٍ درامي، قائلاً بذهول : حلم!!! حلم!!!.....
ثم أردف بقوة : ياخوي قل جاثوم.. كابوس، فلم رعب.. موب حلم!!..
قبل أن يتابع بعفوية : على إنها نفس الديرة بس والله يالفرق بين السفرة ذي والسفرة اللي فاتت مع العيال ان.....
سكت عبدالله بسرعة قبل أن يتابع جملته عندما أدرك ماتفوّه به، فتبسّم له عزام ابتسامةً واسعة لم تصل لعينيه، جعلته يغرق في ثيابه محرجًا فمن الواضح أن الرجل أمامه فهم مقصده بشكلٍ خاطئ..
مما جعله يقول بسرعة عله يتدارك خطأه : لكن أبشر بالعوض أنا افدى راسك ياذيبان.. تجهّز، بعد شهر ولا شهرين بالكثير بنروح النرويج سياحة ونقاهه وتكفير ذنوب.. ونقول عسى نعوض عن سفرة الشر ذي واللي صار فيها.
ليقول عزام لازال مبتسمًا : لا النرويج ولا غيرها... خلاص،، عزّلنا.. توبة من ذا النوبة...
ضحك عبدالله بخفوت : افاا.. وراه؟
عزام : يارجّال مالك إلا خشمك لو إنه عوَج... أنا من حيني ما أداني الدوجَه والهجولة من ديرة لديرة.
رفع عبدالله حاجبيه ، ضاحكًا باستنكار : ياخوي متأكد إن وضعك طبيعي؟! أول مره أشوف ثلاثيني جاد ومابجوازه إلا ختمين!!!
ثم تابع بتملق : أوعدك تغير رايك السفرة الجاية يالشايب.. تراي وسيع صدر،، جربنّي.
قالها يغمز، لكن عزام الذي ضحك بخفوت كان جادًّا بقراره، يقطع عهدًا بينه وبين نفسه بألا يبرح الأرض مجددًا ويتركهن خلفه، فقد بلغ الشوق ذروته.. ليقول مشيراً بيده : شف غيري..
عبس عبدالله ، يقول بتبرم : أشوف مِن مابقى أحد! حاكم أعرس وفهد بيلحقه قريب... ولا أظن عادهم بيقابلون وجهي اللي يفتح النفس وحريمهم معهم.
سكت عزام قليلا قبل أن يقول بهدوء : مالك إلا عبادي.. أعزب خيبر.
عبدالله بنبرة ساخرة : لا تكفى، فكنا من خالك قناص المدينة، بيشغلنا في المطارات هو وبندقه..
فقال عزام بعد ضحكة فرّت من بين شفتيه.. مبسوط جدًا في هذه اللحظة : أنا أشوف تترك عنك السفرات اللي مالها سنع وتجمّع قريشاتك وتعرس...
عبدالله بروقان فطاري العرس انعشه : القروش موجودة الحمدلله والخير كثير.... لكن السؤال، القى عندك عروس تتسق مع ذاتي وتتماشى مع رؤيتي؟
تبسم عزام قائلاً : والله لو عندي أخت كان اعطيتك اياها بثيابها.. اللي مثلك ماينرد ياعبدالله، بس مثل منت شايف...
ثم أردف مازحًا : إلا إن كان ماعندك مانع تنتظر بنتي، فهذا شي ثاني..
رمقه عبدالله بطرف عينه.. يقول بتهكم : بنتك؟؟!... لا ياخوي يفتح الله..
عم الصمت بعد أن أطلق عزام ضحكة قصيرة، ههه... ينهي بها هذا الحوار، ليجد عبدالله نفسه يكبح فضولاً جامحًا من أن يخرج من بين شفتيه بخصوص ماقاله الآخر تلك المره قبل أن يسحبه خلفه كالشاه لجوار الجالس في بهو الفندق..
يرمقه بطرف عينه ليجد أنه عاد ناظرًا لهاتفه..
فتنحنح، واعتدل جالسًا، يسأل بنبرة بدت طبيعية لوهله : إلا بسالك ياعزام، الحين وش علاقة ذيب الله يرحمه ويغفر له بذا كله؟ أنت وش كنت تقصد يوم قلت تبي أي شي يوصلك له؟
ثم تابع عندما تعدّى صمت عزام الثانية.. ليعقد حاجبيه يقول باستياء : لا عزام،، لالا ما أظن قصدك نفس اللي فهمته.. لأنه شي مستحيل، ما يدخل العقل...
كان عزام باردًا جدًا ليس وكأن الجالس بجانبه بدأ يشكك في قدراته العقلية، أو أن سره الصغير المجنون عرف به شخص ثالث... إذ قال ببرود لازال ينظر لهاتفه : قلت لك شي في نفسي وأبي أتأكد منه..
ثم أردف بحزم ناظراً لوجهه الذي لازالت علامات عدم التصديق باديةً عليه،، بصرامة : ولا عاد تكثر كلام بالموضوع ذا.. خلاص ياعبدالله، اعتبر السالفة انتهت..
زم عبدالله شفتيه.. بضيق،، وتردد قبل أن ينطق بنبرة : شلون انتهت؟.... عزام ياخوك أنا خايف عليك..
عقد عزام حاجبيه بعدم رضا : وش تخاف علي منه؟ استح على وجهك شايف كم عمري أنت؟... مستحيل أسوي شي يضرني!
لكن عبدالله لم يقتنع ، يقول بحاجبٍ مرفوع : والله ماهقيت العمر بيفرق على تصرفاتك دام أفكار مثل ذي براسك!
ثم أردف بسرعة ما إن احتدت نظرة الآخر : ياخوي أنا جوار واللي معه ذي ما ارتحت لهم من البداية أ...
ليقاطعه عزام بحزم : أنا مرتاح ويكفي.
فزفر عبدالله قائلاً : أخاف إنه ملعوب منه يدخلك بمشاكل مالها أول من تالي... زوجته من مواليد ٨٩, يعني بعد وفاة أبوك بوقت.. وأبوها ماهقيته موجود ولا كان شفته مقيّم الدنيا ومقعدها، مافيه أب يشوف كل ذا يصير لبنته ويسكت....
رمقه عزام بطرف عينه ثم عاد ينظر لهاتفه مجدداً في صمت، كي يصمت... فكلام عبدالله على كثر واقعيته إلا أنه ضايقه، وبدد ساحبة أحلام اليقظة أعلى رأسه.. فهتف عبدالله قائلاً بتنهيدة ويأس، علّ المرح الذي تبخر يعود : طيب تتوقع الشرطة قفطت جوار وحذفوه بالسجن لين تطلع ريحته ؟؟
ابتسم عزام ابتسامة باهته على قوله.. صغيرة ومتكلفة جدًا : ودّك أنت...!
عبدالله بتمنّي : الله كريم،،، لو علي كان سلمتّه بيدي بس بينك وبينه مصلحه غريبة.....
ثم سأل بعد أن لاحظ شد عزام على شفتيه بابتسامة مغلقة بدون نَفس : عاده رد عليك؟
رفع عزام حاجبيه بمعنى "لأ" كإجابة، دون أن يتكلف بنطقها.. مما جعل عبدالله يعلق بغيظ : شفت!!! قلت لك ذا واحد مافيه خير ولا أدري كيف طاوعته ... أنا بس أبي أعرف وش استفدت الحين؟ هذا هو أخذ حرمته وجحدك، بدون لا يعطيك لا حق ولا باطل، ولا أخذنا منه غير أرواحكم اللي بغت تروح!!
طال الصمت، وندم عبدالله على ماقاله عندما زاد شد عزام لشفتيه حتى استوت بخطٍ مستقيم، في عينيه الحادتين برودٌ رهيب... كان وكأنه يلومه ويحمله ذنب ماحصل، رغم أنه هو المسؤول الأول والأخير عنه. يجد نفسه يشتم عبدالإله اللي ياغافلين لكم الله, فهو صاحب فكرة مقناص السودان قبل أكثر من شهر.. والذي من بعده بدأت المصائب تهل عليه تباعًا.
لكن صوت عزام الذي وصله بهدوء أخرجه من دوامة جلد الذات التي لم تفارقه منذ أيام، ينظر له،، يقول ببساطة : لا تخاف.. قد أمّنت وضعي وأخذت منه كلمه .
ضحك عبدالله باستنكار، ضحكةً لا يعرف كيف خرجت منه, لكنها خرجت..فهو لم يعهد عزام بكل هذه السذاجة.. : وأنت تظن واحد مثل ذا بتفرق معه كلمة ولا عشر؟ يارجّال ذا جاب رصاصته بين عظامك ولو رفع يده شوي كان جابها بين عيونك،، ولا اهتم.... أنا بس أبي أفهم وش بينك وبينه؟ هو مهددك بشي؟ ماسك عليك شي؟؟
أجاب عزام بجدية وهدوء : ماعليه... أنا واثق فيه.. وبالأول والأخير هو رجّال مقهور، توقع منه أي شي...
ثم يردف بحزم : وخلاص، فضّها سيرة عاد.
زفر عبدالله بغيظ ويأس فكما يبدو جوار يمسك صورًا على عزام قادرة على إنهاء مستقبله، وإلا لماذا كل هذا الاستسلام والرضوخ؟
كان سيشتم، فهو يكره جوار كما تكره البهيمة المسلخ.. وإن رآه الآن سيخرج روحه بيده دون تردد.
لكنه أطبق على شفتيه عوضًا عن ذلك.. يرى عزام ينظر للخارج.. بإشارةٍ منه كي يصمت.
وبينما فهمها عبدالله إشارة صمت تنبئ عن أن عزام لم يعد في مزاجٍ يسمح بالحديث.. كان عقل الآخر مشغول بأفكار مشتتة ومتفرقة، أمنيات عجيبة وغريبة.. من الصعب أن يفكر بها عاقل مثله، لكنها أتته، وداعبت خياله، ورفعت سقف توقعاته عاليًا حتى أصبح قلبه مكشوفًا لا تسقفه إلا السماء. بل وصل به الحال من الهذيان بأن يسمع صوت زوجة جوار تخبره بمكان والده ما إن يسألها عنه، هكذا بكل بساطة..
.
.
الرحلة من السودان لمطار الملك عبدالعزيز تقارب الساعة، والانتظار في مطار الملك عبدالعزيز يقترب من الثلاث ساعات قبل وجهتهم الأخيرة ، والتي لم يحن وقتها إلا والدخان يخرج من أذني عزام نتيجة احتراق دمه.. فهو يكره الانتظار، ولا يطيقه. غير أنه مجهد لم ينم إلا لساعتين فقط، ولازال الوخز في كتفه مكان إصابته مستمرًا حتى بعد أن أخذ حبوبًا مسكنه..
لكن وما إن خرج من بوابة المطار وظهر له وجه عبدالإله يقف منتظراً قريبًا من سيارته، إلا واتسعت ابتسامة، يسحب حقيبته خلفه قبل أن يسلم عليه..
ليجد عبدالإله نفسه يربت على ظهر عزام عدة تربيتات، وهو يشعر به يشد من عناقه الرجولي بشكلٍ غريب وكأنه فارقه لسنوات وليست أيام بالكاد تكمل الأسبوع حتى.
ينظر لعبدالله باستنكار من فوق كتف الآخر، ليرى ابتسامةً واسعةً تزين وجهه..
وطوال طريق العودة كان عبدالإله يسأل، وعزام يجيب.. يتدخل عبدالله أحياناً إن شعر بتورط الآخر. إلى أن نزل لبيته، قائلاً بضحكة قبل أن يغلق الباب خلفه : استر ماواجهت ياعزام.
ليجيب عزام يبادله الضحكة بأخرى : الله يستر علينا وعليك.
يراقب ابتعاده حتى أغلق باب المنزل خلفه، ثم يستدير برأسه متنهدًا ليجد عبدالإله الذي لازال واقفًا ينظر له مضوقًا عينيه يقول بشك.. : في فمي ماء...
ارتفعت ضحكته : ياشيخ فكنا والله ماعندك ماعند جدتي.
ثم يفتح النافذة مستنشقًا هواء الليل البارد، يهتف براحة : عجّل علينا ياعبادي، أبي أمي.
تحرك عبدالإله أخيرًا، قائلاً بتهكمٍ ساخر : وزينوه اللي يبي أمه...
ثم يردف مهدداً بسبابته : مير اسمع، ذي آخر مره أسمح لك تسافر فيها لحالك تفهم ولا لأ! المره الجايه رجلي على رجلك... اشغلوني حريمك، تولجّوني ياخوي.. عزام مايرد!!!.. عزام مادق؟!!... تتوقع عزام صاحي ولا نايم الحين؟.. هو عزام ماقال متى بيرجع؟... حتى ميمي ذا البزقَه استلجّت،، سمعت اسمك بالأسبوع اللي فات لين كرهتك أعوذ بالله.
لتبرق عينيه، يضحك،، بخفّة روح وكأن له أجنحة تحلق به بعيدًا : الله لا يخليني.
شد عزام خطىً سريعة ناحية المنزل، بعد أن أغلق باب سيارة عبدالإله بقوة ليتردد صداه في سكون الليل،، ويهتف الآخر بانفعال : عمى،،، بشويش على الباب.
لكن عزام الذي وقف أمام الباب الخارجي ينتظر قدوم خاله ناحيته كي يفتحه بمفتاحه قال بإندفاع : بسرعة ياخوي تمشي على بيض أنت؟
تمهل عبدالإله بمشيته متعمدًا، بل أنه عاد الخطوات التي قطعها ما إن تذكر حقيبة عزام التي لازالت في سيارته.. ليأخذها ويعاود التقدم ببطء واستمتاع على ملامحه المغتاضه، ثم ترتفع ضحكته ما إن تقدم ناحيته، يسحب المفتاح من بين أصابعه قائلاً بحنق : أقول هات المفتاح بس.. يالميّت..
ويختفي من أمامه قبل أن يرمش حتى، منطلقًا بخطوات واسعة للداخل.
دخل عزام منزله، يدفع باب البيت بقوة ليُفتح على مصراعيه.. ينادي بصوتٍ مرتفع متجاهلاً الوقت المتأخر : يمه،،، شعاع... يا أهل البيت... وينكم ؟
لم يتوقع أبدًا بأن يكون الشوق قاتلاً لهذه الدرجة،، يشعر به يحرّف قلبه ويلعب به بين أضلعه..
وبينما كان عبدالإله الذي تبعه يسحب حقيبته، يوبخه بقوله : ليكون اشتغل عندك أنا؟ خذ شيل شنطتك وجع..
ثم يردف قبل أن ينطلق الآخر في خطى سريعة مبتعدًا عنه : بشويش لا توقف قلوبهم من الروعة .. تراهم مايدرون برجعتك..
عقد حاجبيه يلتفت له بعد أن كان يستعد للصعود للأعلى : بس أنا قلت لأمي وشعاع إني بوصل اليوم!
ليقول عبدالإله بمكر : داري،، قالت لي.. ورجعت شعاع تقول لي، ومن أمس وهم يعيدون ويزيدون علي يخافون أنساك بالمطار، لو عليهم خلوني أنتظرك هناك من ساعتها.. نفخوا قلبي وقلت لهم إن رحلتك تأجلت أبيهم يفكون عني شوي.
كانت شعاع في الصالة العلوية، تتمدد على أحد الارائك تنظر للتلفاز بملل وندم طفيف، ليتها فكّرت مليًا قبل أن تأخذ اجازتها الطويلة هذه..
تستيقظ الصباح مبكرًا فقد اعتادت على ذلك، وتبقى في المنزل الغارق بالهدوء لما بعد الظهر بكثير، فكلاً من عبدالإله وخالتها في عمله، ومريم في مدرستها.. لدرجة أنها تمسكّت بالصغيرة قبل أن تخرج، صباح هذا اليوم تتوسلها البقاء..: تكفين ميمي اقعدي معي اليوم..
ليعلق عبدالإله الذي كان يقف قريبًا من الباب يرتدي نعليه : خلي البنت تروح تشوف مستقبلها.
لكنها سحبت حقيبتها التي لا تحتوي إلا دفترًا واحدًا من على ظهرها، تلقي بها بعيدًا : أي مستقبل ياخالي البنت توها تمهيدي!! تشوفه بكرة لكن اليوم خليها تقعد معي.
ضحك بمزاجٍ رائق، ولو لففت العالم كله لن تجد شخصًا يستيقظ صباحًا بمزاجٍ عليل كعبدالإله : اليوم بيعلمونها كيف تكتب اسمي،، وأنتِ شايفه الاسم ماشاءالله مايحتاج, أطول من حياتي.. خليها تروح لا أبلش وأعلمها أنا بعدين..
لكنها لم تلقي لبلبلته بالاً، وانحنت تحمل مريم من على الأرض لتقابلها، تقول لها بخفوت ونبرة إغراء واضحة، تغرق وجهها بالقبلات بين كلمة وأخرى مما جعل الصغيرة تتلوى بين ذراعيها ضاحكة : ميمي إن قعدتي معي بنطلع نفطر أنا وأنتي، وبسمح لك تشربين كوفي المره ذي بس.. وبنسوي أظافرنا.. وبوديك المكتبة تاخذين كل اللي تبينه .
رفع عبدالإله حاجبيه مبتسمًا بتهكم وهو يرى ابنته تهز رأسها بالموافقة : وش ذا الاسلوب؟
ثم أردف بخبث يعلم أنها ستغرق في ثيابها منه : ليكون تستعملينه مع الصخرة!...
رآها تكرمش أنفها بإحراج، تشتعل وجنتيها بلونٍ زهريٍّ خفيف، تقول رغم خجلها الواضح : حبيبي عزام، اشتقت له والله .
حرّك عينيه بملل : أنتِ وصيتة تموتون بالمبالغة!! اتركوا الرجال يتنفس شوي ماصار له خمس أيام من سافر وأنتم هالكينه اتصالات، لو أخذكم معه أزين..
مطت شفتيها بشيءٍ من الامتعاض : والله إن البيت من غيره ماينطاق،، ماتعودنا عليه يغيب بالأيام الله يحفظه.
ثم أردفت ضاحكة ما إن تأفف بفقدان أمل فهي حالة ميؤوس منها، وخالتها التي خرجت عابسة أردى منها، تتبعه بعينيها يذهب حيث حقيبة ابنته الملقاه على الأرض : طيب الحين وش قلت؟.. أنا لو الجادل موجودة كان طلعت معها.. بس ماهي حولي و لولو ماهي فاضية لي.
ارتفع حاجبه وهو يرفعها، ويضع سيرها على كتفه : الجادل وعرفنا،، بس لولو وش عندها؟.
انتبه لعينيها التي التمعت بمكر، وأطراف فمها التي ارتفعت بخبث : دوام.
لم يتمالك نفسه وابتسم رغمًا عنه لسببٍ يجهله، ولكنها كانت حاجة ملحّه لم يستطع تجاهلها، يقول : ماشاء الله تشتغل!!
ثم عقد حاجبيه ما إن لاحظ أن حاجبها ارتفع وكأنها أمسكت به بالجرم المشهود ، فسأل بحيرة وارتباك مفاجئ : وش ذا الوجه الشيطاني...ههه؟
شعاع بضحكة مشاكسة : والله وصرت تمون وتقول لولو..
ضحك بعد أن استوعب، ترتفع ضحكته وهو يراها ترسل قبلاتٍ هوائية مغمضةً عينيها بهيامٍ ساخر : الله يعقلك وأنا خالك..
ثم أردف يدفع الحقيبة بالفراغ الصغير بين جسدها وجسد ابنته، يتصنع عدم الاهتمام : وش تشتغل؟
انحنت تنزل مريم أرضاً عندما كادت أن تقع : إدارية بمدرسة..
اتسعت عينيه بانبهار : حكومي؟
ضحكت : منين يا حسرة!! مدرسة أهلية وماسكة ثلاث مراحل كارفينها كرف الضعيفة..
ثم غمزت : نلقى عندك واسطة توظفها حكومي؟.
ليقول مبتسمًا يرفع حاجبيه : أنا لو عندي واسطة كان نفعت بها نفسي.. بس دامها بمكان مو مختلط خليها تطقطق معهم لين الله يرزقها.
ضوقت شعاع عينيها، قائلةً بتهكم : أنت وتفكيرك المنغلق..
لكنه تجاهلها، قائلاً بحزم : أبي أرجع وأشوف ميمي كاتبه اسمي كله، لسابع جد... فاهمة؟
اتسعت ابتسامتها وهي تدخل سير الحقيبة بكتفها، ببشاشة : ازهل يابعد قلبي أنت.
انحنى مقبلاً رأس ابنته، وابتعد ناحية الباب... ثم عاد بسرعة : إلا تعالي بسألك..
شعاع : وشو؟
فقال متصنعًا الجدية : حلوة؟
ابتسمت : مم تق.....
ليقاطعها بملل : ايه أقصد لولوة.. حلوة؟
مررت سبابتها على خدها، من تحت عينها نزولاً للأسفل : اوف..
بانت مطاحنه من وسع ابتسامته : صدق؟
هزت رأسها بتأكيد : والله،، مزيونة...
فرك كفيه ببعضهما، يقول بنبرة مشاكسة وضحكة خبيثة : اف تحمست،، شكلي بطلب عبدالله يرسل لي الحين أجدد صوره له..
ضحكت : ماتشبه عبدالله أبدًا .
استوت ملامحه بجمود : تستهبلين على راسي؟.. شلون؟ أذكر انهم توأم..
فأردفت لازالت تضحك : توأم بس ماهو متطابق.. كل واحد شكل.
التمعت عينيه ، واتسعت.. يزفر براحة : أشوى ريحتيني،، ماني ناقص أصحى على وجه عبدالله كل يوم ..
ثم ابتعد مجددًا، جادًّا هذه المره يقول بصوت مرتفع أثناء خروجه : يلا سلام أنا رايح.. ومثل ماوصيتك،،، الاسم كامل.
تابعت شعاع ابتعاده، تشعر بسعادته رغم تصنعه الثقل، متأكدة من أن لولوة ورغم اختلاف الشخصيات ستكون خير زوجة له.. وهو بالتأكيد سيكون العوض لها بعد تجربة زواج قصيرة وفاشلة... تهمس بمودة ما إن اُغلق الباب : الله يحفظك.
.
.
|