لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > الروايات المغلقة
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الروايات المغلقة الروايات المغلقة


 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-03-20, 03:04 AM   المشاركة رقم: 241
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2018
العضوية: 330628
المشاركات: 159
الجنس أنثى
معدل التقييم: وطن نورة ،، عضو على طريق الابداعوطن نورة ،، عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 176

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
وطن نورة ،، غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 


اسعد الله اوقاتكم بكل خير..
هل للحين تبون تكلموني ولا زعلانين مني :( ؟
والله غبت ومامنعي إلا ظروفي لكن كلي ثقة أنكم بتقدرون اللي أمر فيه وتعذروني ❤
الف شكر لكل من دعا وتحمد لأبوي بالسلامة.. هو الحين طيب وبخير يارب لك الحمد بس لا تنسونا من دعواتكم :)،، و الله لا يريكم مكروه لا بغالي ولا بحبيب❤

الله يسعدكم يارب، انا خجلانة من نفسي والله وجهي غدى ممسحة من كثر ما اقول امسحوا بوجهي :(
ماعاد بقى عندي شي اقوله خلاص أحس أي كلمة بقولها مابيكون لها قيمة..


كل حبايب قلبي اللي ردوا وعلقوا وتوقعوا الله يسعدكم ويفرح قلوبكم مثل مافرحتوني ❤
والله أقرأ تعليقاتكم وأنا مبتسمة على أكبر مقاس.
وكل وحدة فيكم تستاهل رد طويل ومخصص لها يليق فيها ماهو رد مثل ذا :( بس يعلم الله إني شاكرة وممتنة جدا جدا :)❤❤ أتمنى عدم تفاعلي معكم مايخليكم تتجاهلون زر اضافة رد وتفرحون قلب العبد الفقير أنا

وقبل لا اترككم مع الفصل ال١٧ .. أبي أجاوب على حبيبة قلبي أبها ❤

اقتباس :-  
استفسار يا وطن نوره ،، 🤔
الحين يوم إن عزام وعبدالله يتصلون بأهلهم ما لاحظوا إن رقم فتح الخط ما هو للصين ،، فتح خط الصين 0086 وفتح خط السودان 00974
وللا هم يتكلمون مكالمات واتس اب ؟ 😇


على حسب تجربتي ، الاتصال الدولي من المملكة للصين مثلا بنفس الرقم المستخدم في السعودية مايحتاج فتح خط لانه من شركة اتصالات سعودية.
يعني مثلا شعاع بتتصل على عزام وهو بالسودان بنفس رقمه المستخدم بالمملكة تدق عادي وعلى طول.. وعزام ان جا بيدق على أهله لازم يفتح الخط بفتح خط السعودية لأنه هو اللي خارج المملكة.

وتستعمل شعاع فتح خط الدولة اللي هو مسافر لها إن كان عزام يتواصل معها من رقم سوداني أو صيني،، بينما هو في هذي الحالة وعشان يتصل عليها يدخل فتح خط المملكة .

هذا والله أعلم، وعلى حسب علمي وفي حال كان علمي لك عليه :) امسحيها بوجهي ولنعتبر انهم يستخدمون أحد تطبيقات الاتصال المشهورة .

..

أتمنى الفصل يعجبكم وينال على رضاكم ويعوض التأخير ..
قراءة ممتعة مقدمًا ولا تحرموني من ردودكم و توقعاتكم الحلوة :)

 
 

 

عرض البوم صور وطن نورة ،،  
قديم 01-03-20, 08:21 AM   المشاركة رقم: 242
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مشرفة منتدى الحوار الجاد


البيانات
التسجيل: Apr 2008
العضوية: 70555
المشاركات: 6,528
الجنس أنثى
معدل التقييم: شبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسي
نقاط التقييم: 5004

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
شبيهة القمر غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 

اقتباس :-   المشاركة الأصلية كتبت بواسطة وطن نورة ،، مشاهدة المشاركة
  
اسعد الله اوقاتكم بكل خير..
هل للحين تبون تكلموني ولا زعلانين مني :( ؟
والله غبت ومامنعي إلا ظروفي لكن كلي ثقة أنكم بتقدرون اللي أمر فيه وتعذروني ❤
الف شكر لكل من دعا وتحمد لأبوي بالسلامة.. هو الحين طيب وبخير يارب لك الحمد بس لا تنسونا من دعواتكم :)،، و الله لا يريكم مكروه لا بغالي ولا بحبيب❤

الله يسعدكم يارب، انا خجلانة من نفسي والله وجهي غدى ممسحة من كثر ما اقول امسحوا بوجهي :(
ماعاد بقى عندي شي اقوله خلاص أحس أي كلمة بقولها مابيكون لها قيمة..


كل حبايب قلبي اللي ردوا وعلقوا وتوقعوا الله يسعدكم ويفرح قلوبكم مثل مافرحتوني ❤
والله أقرأ تعليقاتكم وأنا مبتسمة على أكبر مقاس.
وكل وحدة فيكم تستاهل رد طويل ومخصص لها يليق فيها ماهو رد مثل ذا :( بس يعلم الله إني شاكرة وممتنة جدا جدا :)❤❤ أتمنى عدم تفاعلي معكم مايخليكم تتجاهلون زر اضافة رد وتفرحون قلب العبد الفقير أنا

وقبل لا اترككم مع الفصل ال١٧ .. أبي أجاوب على حبيبة قلبي أبها ❤




على حسب تجربتي ، الاتصال الدولي من المملكة للصين مثلا بنفس الرقم المستخدم في السعودية مايحتاج فتح خط لانه من شركة اتصالات سعودية.
يعني مثلا شعاع بتتصل على عزام وهو بالسودان بنفس رقمه المستخدم بالمملكة تدق عادي وعلى طول.. وعزام ان جا بيدق على أهله لازم يفتح الخط بفتح خط السعودية لأنه هو اللي خارج المملكة.

وتستعمل شعاع فتح خط الدولة اللي هو مسافر لها إن كان عزام يتواصل معها من رقم سوداني أو صيني،، بينما هو في هذي الحالة وعشان يتصل عليها يدخل فتح خط المملكة .

هذا والله أعلم، وعلى حسب علمي وفي حال كان علمي لك عليه :) امسحيها بوجهي ولنعتبر انهم يستخدمون أحد تطبيقات الاتصال المشهورة .

..

أتمنى الفصل يعجبكم وينال على رضاكم ويعوض التأخير ..
قراءة ممتعة مقدمًا ولا تحرموني من ردودكم و توقعاتكم الحلوة :)

ياهلا بوطن الحمدلله على السلامه والف سلامه للوالد الله يخليه لكم يارب ..
يقولون العتب على قدر المحبه ..واذا بنعتب فأحنا بنعتب على غيابك مو على الجزء ..اتمنى لو تطلين وتسلمين هالشي يكفينا ويطمنا ...

وطن ...👀👀👀👀👀شكلك نمتي ونسيتي تنزلين الجزء ههههههه
من قلتي قراءه ممتعه وانا اصعد بالصفحه فوق انزل تحت ارجع للصفحه السابقه احدث الصفحه ههههههه
نوما هنيئا اهم شي تطمنا عليك .. 🙄😍

 
 

 

عرض البوم صور شبيهة القمر  
قديم 01-03-20, 09:10 AM   المشاركة رقم: 243
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
قارئة مميزة


البيانات
التسجيل: Sep 2010
العضوية: 190192
المشاركات: 613
الجنس أنثى
معدل التقييم: أبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 748

االدولة
البلدKuwait
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
أبها غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 

أسعد الله صباحكم بنات ليلاس 💐

الحمدلله على سلامتك وطن نورة،،
الظاهر مثل ما قالت شبيهة القمر 😁
أين أنتِ يا جميلة .؟

 
 

 

عرض البوم صور أبها  
قديم 01-03-20, 09:39 AM   المشاركة رقم: 244
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2018
العضوية: 330628
المشاركات: 159
الجنس أنثى
معدل التقييم: وطن نورة ،، عضو على طريق الابداعوطن نورة ،، عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 176

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
وطن نورة ،، غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 

.
.
.


أتمنى لكم يوم جميل و قراءة ممتعة مقدما ❤


# الفصل السابع عشر،،
" تَشافَى ممَّا يُحزِنكْ "

.
.
.


خرجت رصاصتين بشكلٍ طائش من مسدس جوار،، سببت صوتًا مدويًا تردد في الأرض الواسعة، قبل أن يخيم الصمت على المكان.. صمتٌ رهيب كصمت الأموات تمامًا .. سكوتٌ مطبق.. مرعب.. وكأن لم تطأها قدم حيٍّ قط .
كان ذلك قبل أن يرتفع صوت نحيبٍ مفزوع من مكانٍ ما.. يخالطه نداء عزام،، بنبرةٍ هلعَه خرجت مع بكائه : عبدالله..
عجَز عن كبته، يخشى أن تكون الرصاصة أصابته.. أو قتلته، يقسم أنه لن يتحمل خسارته،، سيموت بعده لا محاله،، فهو من تصرف بأنانيه وأجبره على القدوم معه،، دون أن يأبه باعتراضه.

لا يرى أمامه بوضوح،، فأغلق عينيه بقوة.. وفتحها؛*علّ رؤيته المشوشة تتضح بعد الضربة التي اسدلت ستارًا من الظلمة على عينيه، لا يشعر إلا بالألم ينتشر سريعًا ليغزو وجهه كله، وكأن لجمجمته قلبٌ انتفض نابضًا بفزع في منتصفها،
يعاود الصراخ بخوف ، لا يسمع صوتًا لعبدالله.. لا يسمع إلا النحيب : عبدالله..

تهدجت أنفاس جوار بصدمة،، غامت نظرته.. وتدلى ذراعه على جانب جسده ..تراخى شدّه للسلاح حتى وقع ساقطًا من بين أصابعه.. يشعر بالفتور في أطرافه.. وكأن الدم لا يصلها, ينظر بذعرٍ لعزام الواقف أمامه بوجهه الشاحب المبهوت، وعينيه بحدقتيها المتسعة، ضعف حجمها الطبيعي, يغلقها ويعود ليفتحها على أكبر اتساع قبل أن يستدير بوقوفه، يمشي بخطىً متعثّرة ومتسارعة، برؤيةٍ ضبابيةٍ غير واضحة. يقع ويقف، أو يكاد يكون قبل أن يتدارك ذلك ويستقيم بجسده قبل أن يلامس كفيه الأرض..
تخرج غمغمته من بين شفتيه المرتعشه بحروفٍ غير مفهومة، يمشي بدون ثبات. يردد بلا توقف "عبدالله"، صارخًا به...
يواصل تقدمه بالاتجاه الذي يرى فيه خيالاتٍ عائمةَ الحدود، حيث صوت البكاء في ارتفاع، ليصرخ بإسمه مجددًا بأعلى صوته، بيأس.. وكأنه تأكد من أنّ مكروهًا قد حلّ به عندما لم يسمع إجابةً منه بعد كل هذه النداءات.. دون أن ينتبه لبقعةِ الدم الحمراء التي بدأت تتسع على قميصه الأبيض، و دون أن يشعر بالرصاصة التي أصابته.

فتح عبدالله عينيه بهلع، لا يعرف ما الذي حصل تمامًا في الثانية الماضية، فبعد صوت الطلقة الأولى مباشرة، شعر بثقلٍ يقع عليه ليوقعه معه،، ممددًا على ظهره. ثم بصوت عزام ينادي ببكاءٍ مرعوب ويقطع السكون.. لتختلط بعدها الأصوات وتصبح طنينًا لا معنى له.

تسارعت أنفاسه بذعر عندما أدرك أن الجسد الواقع عليه ماهو إلا جسد مصطفى النحيل، والذي ارتمى تلقائيًا للأمام يغطي رأسه بيديه بحركةٍ لا إرادية لحماية نفسه، دون أن ينتبه لعبدالله الذي صار تحته.

دفعه بعيدًا عنه لازال مرتجفًا يحاول الجلوس والتحكم بأنفاسه المتسارعة وهو يرى الشاب متقوقعًا على نفسه لازال يضع يديه على رأسه مغمضًا العينين بقوة.. مرتعشًا بوضوح.. ليبتلع ريقه الذي جف بصعوبة عندما تأكد من أن مكروهًا لم يُصبه , فجلابيته السكريّة نظيفة تمامًا إلا من الغبار والأتربة.
ثم ينقل عينيه بوجل حيث عذوب وصوت عويلها المرتفع.. تحاول تحريك عصمان الممدد على الأرض بهلع وعدم تصديق.. مناديةً اسمه بخوف وصراخٍ أبح عندما لم تجد منه استجابه..: عثمان.. عثمان..


شعر عبدالله بالثقل الذي وقع قريبًا منه، ينثر الرمال تحته،، والغبار حوله.. يسأل بخوف : عبدالله جاك شي؟
فأدار رأسه بعينين مفزوعه، ليرى عزام ووجهه الشاحب وكأن لا روح فيه، لا لون فيه إلا لون رعاف أنفه الذي بلل شعيرات شاربه... يهز رأسه بالنفي لازال مرعوبًا غيرُ مصدقٍّ للثوانِ المجنونة الماضية.. إلى أن وقعت نظرته على البقعة الحمراء التي لوّنت أعلى قميصه...
تهدجت أنفاسه لدرجة أنه شعر بالاختناق ، يهمس من بين شفتيه المرتعشتين : عزام..
ثم ارتخت ملامح وجهه المشدوهه، يردف هامسًا بهلع وذهولٍ شديد : عزام أنت...... أنت تنزف!!!!
عقد عزام حاجبيه بألم، وعدم فهم... قبل أن يخفض بصره حيث نظرات عبدالله الوجله لكتفه، ليجد بقعة الدم التي انتشرت حتى أغرقت أعلى قميصه... فزفر بحدّه بعد هذا المنظر، يتمتم بمرارة : صابني!!

كان جوار لازال واقفًا متسمرًا في مكانه... يتابع المشهد أمامه بلا تعبير, للحظات،، قبل أن يتقدم ناحيتهم بسرعة خاطفة كسرعة البرق.. وقف خلفها، يسمعها تنتحب وتنادي الطفل السوداني الصغير الغائب عن الوعي، منتبهًا للرجل السوداني الآخر الذي نزع طاقيته ليضغط بها على جانبه، محاولاً إيقاف تدفق الدم الذي انفجر كالسد ملونًا كفيّه وطاقيته والمكان تحتهم.
يصل لمسمعه صوت عبدالله المرتعش الهامس،، يصمه عن أي ضوضاء أخرى "عزام...... أنت تنزف!!!!"..

احتدت أنفاسه، فقد أصاب عزام، وشخصًا بريئًا آخر معه، لكنه وفي هذه اللحظة بالذات لن يعود خطوةً للخلف بعد أن وصل لمراده، بعد أن أصبحت حقيقةً أمامه.. الآن.. وهو يسمع نحيبها الذي غذّى حقده، وأشعل نيرانًا بألسنةٍ مسعورةٍ، تحرق كل شيءٍ تقع عينيه عليه،، حتى روحه.. مما جعله ينحني ويرفعها من ذراعها بقوة دون أي اكتراث بصراخها وبكائها..

بدأت تلكمه على صدره لكماتٍ موجعة، لم يشعر بأي شيءٍ منها.. صارخةً بانهيارٍ تام تحاول تحرير ذراعها منه : اتركني... اتركني...
ثم أخذت تدفعه بعيدًا عنها، لكنه لم يتزحزح.. فصاحت بيأس : شيل يدك عني الله ياخذ عمرك... ذبحته عساك الموت،، ذبحته يا...
لكنه صفعها بكامل قوته ليقطع سلسلة الشتائم واللعان التي أمطرته بها دون توقف، يغرس أصابع يده بشعرها الذي تناثر مغطيًا وجهها بعد صفعته تلك، يسحبها معه للأمام. فاتحاً باب السيارة قبل أن يدفعها داخلها رغم اعتراضها ومقاومتها.

وقبل أن يركب بعدها، استدار برأسه و وقعت عينيه القلقة بعيني عزام المتراخية بإعياءٍ واضح، ليرى فيها فراغًا غريبًا قبَض قلبه.. وجعل أنفاسه تنخفض حتى أصبح أخذ النفس مستحيلاً..
مع ذلك ابتلع ريقه بمرارة و ركب السيارة مغلقًا الباب ، تاركًا خلفه اثنان يغرقان بدمائهما..

هاجت أنفاس عزام، وبدأ يسعل باختناق بعد أن انطلقت السيارة مسببةً سحابةً من غبارٍ خلفها، بداخلها عذوب وجوار ونظرته التي رماها عليه قبل أن يتصدد عنه..
شعَر بعبدالله وأنفاسه اللاهثه التي تكاد تطيّره من سرعتها وقوتها.. يحاول مساعدته على الوقوف رغم أنه هو نفسه بالكاد يقف من فرط ارتجاف أطرافه، فالمصاب جلل.. يقول شيئًا لم يستطع عزام سماعه، فكل شيءٍ بدَا عائمًا ضبابيًا حوله.. غير واضح, لا يشعر إلا بوخز الرصاصة ما إن حاول عبدالله تحريكه، وبحبات العرق الباردة على جبينه، وتتدحرج من على جسده، وشعورٌ حارق ينتشر في شقّه الأيسر، يسحب طاقته معه. يتمتم بصعوبة ويقاطعه : ماهي خطيرة، لا تخاف.. روح شوف الولد.. و...ساعده.
لكن صرخة عبدالله المنفعلة الحادة اخترقت مسمعه ووصلته بوضوح : شلون ماهي خطيرة ودمك يصب!!!!... قم ياعزام قم.. أنت لازم تروح مستشفى.

حاول عبدالله أن يكتم بكاءه ولم يستطع ، فأجهش به بأسىً بعد جملته.. بذعرٍ وهو يشعر ببرودة جسد عزام وأطرافه عندما أسنده عليه، يسمع تأوهه متألمًا ما إن نهض وارتسم على وجهه ألمٌ حاول كبته، ليقول بصعوبة وثقل واضح محاولاً إقناعه : وش...فيك...أنت!! أقولك.. جرح.. بكتفي.. ماهو خطير،،،، لا تقعد تبكبك زي الحريم..
لكن عبدالله لم يجبه، وهو يشعر بدمائه الفائرة تُغرق كفّه وأصابعه..

حمَل مصطفى عصمان الذي يبدو أنه تلقى رصاصةً في جنبِه،
ولم يقوى عليها الصغير فسقط مغمًا عليه.. ركب بالمقعد الأمامي بعد أن فتحه له عبدالله، ليصيح بالسائق المذعور أن يتحرك، ويسرع بأخذهم لأي مكان قريب قادر على علاج المصابين.. فالخرطوم بعيدة بما يكفي ليفقد الإثنان حياتهما قبل الوصول لها حتى.. ليهز الآخر رأسه بانصياع و وجهٍ مرعوب مما حصل كله.

وبينما كان مصطفى يحاول السيطرة على دماء عصمان.. كان عبدالله بالخلف يحاول نزع قميص عزام دون أن يوجعه، فمزقه من الأعلى قليلاً، قبل أن يمزقه كله بحركةٍ واحدة، ليئن الآخر بألم ما إن لامس الهواء مكان إصابته..
شعر عبدالله بأنه سيُفرغ مافي جوفه وهو يرى كتفه والجزء الظاهر من جسده، وما إن حدد مكان إصابته ورأى الحفرة التي سببتها الرصاصة واخترقت كتفه، لتجعله كفوهة بركانٍ دموية، حتى وغامت نظرته وتضببت رؤيته، فوضع قطعة القماش عليها بعد أن كوّرها في يده، يضغط بقوة عله يمنع تدفق الدم، بشكلٍ ما.

استسلم عزام للألم تمامًا.. يُرجع رأسه للخلف بأنفاسٍ متسارعة وكأنه يحاول اللحاق بها خوفًا من أن تفوته، وصدرٍ يرتفع وينخفض بسرعة، يشد على عينيه بقوة ويضغط على أسنانه كي لا يصرخ مما يشعر به..
وصله صوت عبدالله مرتعشًا يسأل بتشتت : وش تحس فيه الحين يا عزام!!
ابتلع ريقه بصعوبة، يفتح عينًا واحدة ويحاول أن يبتسم ما إن وقعت نظرته بنظرة عبدالله الغارقة بالخوف والقلق، يقول بين أنفاسه المتقطّعه : ما أحس. بشي. غير إني،،، برجّع من ريحة الدم.
ثم مرر لسانه على شفتيه، يغمض عينه ويقول بعبوس ونفسٍ حاد : ريحة بيض....
ضحك عبدالله رغمًا عنه بعبرة واضحة : ايه والله،، حشرتنا بريحة دمك المخنز ..
ثم يردف برجاء ما إن انطبق جفنيه تماما : عزام تكفى خلك معي و لا تغمض عيونك.. شوي وبنوصل..
هز عزام رأسه، كاستجابة.. لكنه لازال مغمضًا عينيه.. يشعر بالبرودة الموجعة تسري في أوصاله وكأنه في قالب جليد.. بات الألم موزعًا في أنحاءٍ متفرقةٍ من جسده.. لم يعد يعرف ما يؤلمه حقًا.. يسمع بلبلة عبدالله بجانبه يحاول التحدث معه وإبقائه مستفيقًا..
لكنه بدأ يشعر بالغثيان، وبرأسه يدور في غرفة سوداء مغلقة ، وكأنه دخل في قلب إعصار..

ضغط عبدالله بقلق على مكان إصابته، وهو يسمع أنفاسه التي احتدت، يعاود الضغط مجددًا، بقوةٍ هذه المرّه كي يبقيه الشعور بالألم واعيًا , متجاهلاً ملامحه الموجوعه والأنين الذي يخرج من بين شفتيه.. يهتف مبتسمًا بوهن، وبنبرة تهديد : عبيّد، والله بذبحك...قاعد توجعني....
وقبل أن يفتح عبدالله فمه،، وصله صوت مصطفى المنفعل : أنت رايح فين !!! بتاخد السكّه دَي ليه؟
ثم بالسائق الذي رد بذات الانفعال : مدينة بارا، بلد بيه مشاكل كتير والمركز الصحي مش هيسأل سبب ده كلو شنو!!
ليهتف مصطفى بارتباك واضح : طَب ماتسرع شويّة ياراجل... الود هيموت غرقان بدمّو..
اعتدل السائق بجلوسه، يتشبث بالمقود بكلتا يديه وكأنه طوق نجاة، ، يقول صارخًا بنفاذ صبر : أسرع من كده العربيَة هتَقَف.

وبينما كان عبدالله يسأل مصطفى عن وضع الصغير بين يديه تاره، ويصرخ على السائق كي يزيد من سرعته تارةً أخرى.. كان عزام قد وصل لتلك المرحلة بين الوعي واللاعي،، والتي تشعر فيها بأن أجلك قد دَنى منك، وتبدأ بمراجعة حساباتك،،
وأعمالك،،
وعمرك فيما أفنيته...
وجسدك فيما أبليته...
ثم تمر عليك أوجه أهلك وأحبائك.. وكأنهم يخففون عنك مرارة الشعور بلحظاتك الأخيرة.

تراءى له وجه أمه.. حبيبته الأولى والأخيرة،، ملاذه ومسكنَه.. بابتسامتها الحانية تنظر له قبل أن تودّعه وتتعلق برقبته في عناقٍ صامت. تخفي نواحًا خلف ذراعيها اللذين أقفلا عليه تقربه منها أكثر، وقد أحسّ به عزام.. وكم تمنى في تلك اللحظة وهو يسمع أنفاسها المتوسله بأن يغير رأيه ويبقى, أنْ يبقى..

يجد نفسه وفي هذه اللحظة بالذات، يحاول أن يحسب كم عدد الرسائل المختومة بقلبٍ برتقاليٍّ وملأت برنامج محادثاته, كان قد قرأها وتركها دون رد. وكم ابتسامةً واسعةً وُجهّت له, وتظاهر بأنه لايراها.. وكم مرة نظر ناحيتها ليجد عينيها البراقتين تنظر له بشغف, فيقابلها ببرودٍ وعينين يتضح السخط في حدتها . وكم مره سمع شهيقًا مكتومًا آخر الليل, ليعطيها ظهره متصنعًا النوم. وكم مرّة حكت له شيئًا حصل معها بحماس, ليرد عليها بملل وعدم اهتمام. وكم مرّة وصله صوتها رقيقًا عذبًا تهمس له دون كلل أو ملل "أحبك عزام", بدون أن يجاملها بابتسامةٍ حتى .
تسارعت أنفاسه ما إن وضحت له ابتسامة شعاع البائسة الهزيلة، وعينيها التي لم تفارقه لثانيه، ثم ارتعاش فكها لتتسع معه ابتسامتها بشكلٍ مؤسف..

تدافعت المواقف في عقله مرةً واحدة ودون رحمة،، إلى أن تداخلت الوجوه، واندمجت الأصوات فلم يعد يميز صوت فلان عن فلان.. ليشدّ على أسنانه، وعينيه.. رغم وهن جسده، يشعر بالدموع تغرق قلبه، ولم يعد يعرف السبب الحقيقي وراءها!
هل هي أمه؟؟ شعاع؟ الموت الذي بدأ يشم رائحته قبل أن يصل لغايته ومراده؟ قبل أن يرى والده حقيقةً أمامه، لا من خلف صورة قديمة مرتديًّا زيّ تخرجه بأطرافه المذهبه، مؤديًا التحية العسكرية بابتسامةٍ واسعة، وكأنه يوجهّها لقلبه.. ينظر له،، وكأنه يعرفه....

ثقلت أنفاسه،، وتحركت شفتيه بارتعاشٍ ما إن جمدت البرودة أوصاله.. يتمتم بضعف، وخوف : عبدالله......
شعر بكف عبدالله تضغط قطعة القماش على كتفه، ثم بكفه الآخر يمسح وجهه وحبات العرق الباردة على جبينه ورقبته. يقول بخفوت وعبرة : سم.. سم يابعد راسي.. أنا هنا..
ولم يشعر عبدالله بنفسه إلا وكفّه بدأت تضرب خد الآخر بخفه وشكلٍ متتابع، وبنبرته ترتفع بهلع : ياعزام خلك صاحي تكفى.. افتح عيونك وتكلم معي،، مابقى شي ونوصل..

ماكان يبحث عنه عزام طيلة أيام حياته هو أن يكون مطمئنًا مرتاح البال... ليجد نفسه عوضًا عن ذلك، يعيش أيام حياته بقلق، ومشقّه وتحفز، وكأن الأرض تحته ستخونه وتبتلعه.
عاد يبتلع ريقه، وإحساسه بالصفعات على خدّه بدأ يضعف، ولم يعد يشعر بالألم نتيجة ضغط عبدالله المؤلم على جرحه .
يحاول أن يقول شيئا لكنه عجز عن النطق..
لا يريد الموت،، ليس الآن... ليس في هذا المكان على الأقل.. وليس بهذا الشكل المؤسف..
ثقُل لسانه، وباقي جسده.. وخارت قوته ولم يشعر بعدها بشيءٍ أبدًا..

.
.

: ذيب.
تحرّك مسرعًا ناحية الباب، تتحرك معه قلادته السداسية التي تتدلى من على رقبته ، ما إن سمع صوتها يناديه.. وصل له، وأغلق قفله في نفس اللحظة التي بدأت تحرك فيها مقبض الباب.. تنادي مجددًا : ذيب..
ثم تحركه بقوة تتبعه ببعض الطرقات ما إن عرفت بأنه مغلق : ذيب... افتح الباب.

تجاهلها، وتجاهل صوتها الذي بدا مزعجًا لوهله, رغم نعومته. يمشي مبتعدًا على أقل من مهله لدورة المياة المدمجة بغرفته.. يقف أمام المغسلة، ينظر إلى وجهه في المرآة ويجده كالأمس والذي قبله وقبله وقبله،، فارغ ومتحجّر الملامح.
يفتح الصنبور ليندفع منه الماء بقوة، ثم ينحني بوقوفه متنهدًا يرشق الماء البارد على وجهه.. لازال يصله صوتها تنادي بإسمه وتضرب الباب بقبضة يدها كي يفتح.

كان الصوت لازال مستمرًا بذات الإصرار حتى بعد أن خرج من دورة المياة، يمسح وجهه بمجموعة مناديلٍ في يده قبل أن يلقيها بسلة النفايات الصغيرة قريبًا من شماعة ملابسه، حيث سحب كنزةً صوفيةً ثقيلة، وسوداء.. تتماشى مع حالته المزاجية في هذه اللحظة..
سواد .
ظل ممسكًا بها حتى سكنت الطرَقات، واختفى الصوت تمامًا وكأنها فقدت الأمل فيه.
ليزفر نفَسًا لم يدرك بأنه كان يحبسه، مدخلاً رأسه في فتحة كنزته، ثم يديه، حتى استقرت مستويةً على كتفيه العريضين وباقي جذعه.

يمرر كفيه على شعره الذي ابتلت بعض شعيراته، متأففًا بضجر.. فمنذ أن أستيقظ اليوم ومزاجه متعكر، لا نفس له لمقابلة أحد.. أو التحدث مع أحد.
انتظر ربع ساعة إضافية ولم يفتح قفل باب غرفته إلا عندما تأكد من اختفاء الضوضاء تمامًا، يخرج بخطى هادئة حذره يتمنى أن تكون قد ملّت الانتظار ورحلت حقًا. لكنه ما إن خرج من الممر المؤدي للصالة الصغيرة، حتى وشعر بيديها تطوّق جسده من الخلف، ثم بصوتها يأتيه هامسًا قريبًا من أذنه ليجعل قشعريرةً تسري على امتداد ظهره، تقول كلماتٍ عربيةٍ بمخارجِ حروفٍ غير صحيحة، لكنها مفهومة : تتخبى عني ؟ أوه، خبيبي الذئب العربي الصغير!
لم يستجب ولم تصدر منه أي ردة فعل، بل بقى متصنمًا بين ذراعيها، إلى أن شعر بقبلتها على عنقه، لينتفض مبتعدًا عنها عاقدًا حاجبيه باستياء. فكم مره حذرها من فعلٍ كهذا، تستفزه هذه القبلات الصغيرة ، خصوصًا تلك التي تكون على عنقه،، على غفلةٍ منه.. وهي تفعلها باستمتاع وكأنها تتعمد إغاضته.
ابتسمت له، وظهر صفٌّ لؤلؤيٌ من الأسنان البيضاء، يرى اتساع بؤبؤيها الأخضرين بشكلٍ مريب.. والإحمرار الذي لوّن خديها وعظمة أنفها ليتماشى مع لون شعرها المجعد الأحمر.
كان سيسأل "كيف دخلتي؟" .. لكنه سكت.. يرحَم مسمعيه من سماع ثرثرة طويلة لن تنتهي.

تركها تقف مكانها خلفه، بذراعين لازالا مفتوحين وابتسامة لعوبه، ليبتعد عنها متجهًا لأحد الأرائك يجلس بثقله كله عليها.
تبعته بخفّه، على مقدمةِ حذائها الرياضي الأبيض، تجلس بجانبه.. تلتصق به : فتَحَ لي الباب نوعام قبل أن أقرع الجرس حتى، يبدو أنه ذاهبٌ لملاقاةِ أحدهم.
ابتسمت ما إن أتمّت جملتها، تهمس آخرها بخبث.. تمرر سبابتها ببطء على امتداد عنقه قبل أن تسحب الجزء الظاهر من قلادته، والذي كان مخفيًا تحت كنزته، ثم تربت على نجمته بكفّها ما إن استقر ظاهرًا على صدره، تهمس : المكان سيبقى خاليًا لعددٍ من الساعات، خبيبي ذيب.

ابتلع ذيب ريقه، ينظر لعينيها ولونها الأخضر الذي بدَا مشعًّا كالنيون، يخفض بصره قليلاً ليرى بقايا البودرة البيضا قريبًا من فتحة أنفها اليمنى، ليرفع حاجبًا باردًا ما إن رآها تفرك أنفها بظهر كفها بعد أن لاحظت نظرته، تبتسم بارتباك، وتقول بصعوبة : ليش ما تخكي معايا؟
ثم أردفت بعبوس : آه اليوم أسود!! يعني ساكت.
قالتها تربت على فمه بأصابعها، ليسحب يدها يبعدها عنه، بقوة,, علّها تشعر بأنه ليس في مزاج يسمح باللعب وتبتعد، ولكنها كانت كاللوح، لا تفهم.. تضع نيابةً عن ذلك رأسها على كتفه، لتخالط رائحة شعرها الجميلة أنفاسه، تتشبث بعضده وتقول بتنهيدة : لا بأس، اليوم هو يوم السكوت.. يومٌ آخر بمزاجٍ متعكر؛ أتفهم ذلك.... سأبقى معك حتى يعود نوعام.. وإن نمتْ إياك أن توقظني..
ثم أردفت بخفوتٍ مشاكس.. قريبًا من خده بعد أن رفعت رأسها تنظر له : كما أتمنى أن تكون لطيفًا بما يكفي لتأخذني لسريرك،، خبيبي العربي العنيد.

.
.


دفع جوار عذوب التي لازالت تبكي أمامه بعد أن فتح باب إحدى الغرف التي استأجرها قريبًا من مدخل الخرطوم، ورغم نظرات الشاب القلقة خلف طاولة الاستقبال من صياح عذوب ولباسها الملطخ بالدم، ومنظر جوار المريب وهو يمسك ذراعها بقوة كي لا تفر منه، إلا أنه أعطاه مفتاحًا لغرفةٍ في الطابق الثاني، دون أن يسأل عن شيءٍ حتى،، فهو كما يبدو سائح مجنون، ومستعد لدفع الكثير.

وقعت عذوب أرضاً بقوة، بعد عدة خطوات غير ثابتة اِثر دفعته لها. لتصرخ بألم، متوجعةٌ وخائفة وكأنها ترى جوار الذي اقترب منها الآن كالموت الذي يحوم حولها،، يبدو غاضبًا وبشدة.. بل كان يتأجج غضبًا ينفث نيرانًا من عينيه.

نزل لمستواها، بعينين شديدة الإحمرار تنظر لها بتركيزٍ مرعب، مما جعلها تعود زحفًا للخلف، وهو يتبعها لازال يجلس على قدميه، كقزمٍ سريعٍ مرعب.. لازال ينظر لها بتركيز جعل سلسلةً من الشهقات تتدافع في حنجرتها، تزحف على مؤخرتها بمساعدة يديها، ولا تشعر بأقدامها أبداً.
إلى أن أوقفها الحائط خلفها بعد أن اصطدمت به، تتمتم بذعر ما إن وصل لها : لا تظن إنك بتخوفني بحرك...
لكنه لم يدع لها مجالاً كي تتابع، يقف ويرفعها من شعرها معه ، بعد أن غرس أصابعه فيه ، والذي انسل الغطاء عنه نتيجة زحفها، على الرغم من أنه لفّه بأحكام وربطه حول عنقها بقوة لدرجة أن سعالها خالط نحيبها لعدد من الدقائق عندما شعرت بأنها ستختنق، كان ذلك ما إن ركب بجانبها في السيارة، فهي وفي نهاية المطاف تبقى زوجته ولا يرضى لكل عينٍ بأن تراها.

شعرت عذوب بأن رأسها سيُفصل عن باقي جسدها من قوة شده لشعرها، مع ذلك استجمعت الباقي من قوتها المزعومة وبصقت عليه ما إن استقرت واقفة، لتجد عنقها محاصرٌ بين أصابعه، بعد صفعةٍ أججّت ناراً على خدها من كفه الآخر، يتبعه بصفعةٍ أخرى أقوى من سابقتها.. ثم بصوته يخرج بفحيحٍ غاضب : لا تظنين إنك بتستفزيني بالحركات ذي، ماقصرتي باللي فات.
عذوب بهلع : أنت مجنون.. أتركني وش تبي فيني؟....
زاد من ضغطه حتى شعرت بأن الدم سيخرج كالنافورة من محاجرها : صدقتي،، أنا مجنون لأني للحين تاركك بدون لا آخذ روحك يابنت ال* .
تسارعت أنفاسها وبرزت عروقها، جحظت عيناها وتجمعت فيها الدموع وهي ترى الإصرار في عينيه، لفت أصابعها حول معصمه، تحاول أن تبعد يده التي تنوي قتلها، لكنه شد من قبضته حول عنقها أكثر.. وما إن أزرقّت شفتيها حتى وتركها لتتهاوى واقعةً على الأرض، تكح بشكلٍ متواصل تدلك عنقها بعدم تصديق وكأنها تتشبث بروحها التي كادت أن تفر منها..

رفعت بصرها له، بعينين شديدة الاحمرار تمتلئ بالدموع، تنظر بحقد وكأن في نظرتها الموت.. لكن جوار رأى في نظرتها دعوةً له، ليسحبها من شعرها خلفه دون أن يكترث بصراخها الموجوع، بل أنه أعجبه ويريد أن يسمع منه المزيد عله يُبرئ قهره منها.
شدها بقوةٍ أكبر للأمام ما إن دخل بها لدورة المياة، يقف مكانه لتكمل هي طريقها ككرة البولينغ على الأرض الرخامية, ويساعدها في ذلك القماش الناعم الذي ترتديه، لترتطم بساق المغسلة الصلبة خلفها.. ولم تستطع لحظتها أن تكتم ضعفها، أو أن تتظاهر بالقوة، تشعر بقدمها تصرخ من فرط الألم بعد أن خدرت في الدقائق الماضية، تضع يدها على كاحلها.. تبكي بنشيجٍ موجوع : رجلي ياجوار رجلي توجعني.
ليقول جوار بهدوء : أي وحدة ؟
ثم يتابع وهو يضغط على كاحلها الأيمن بخفه : ذي؟
ويردف قبل أن يطأ الأيسر، يضغط عليه بكل قوة لتصرخ من الألم، يقول بتشفي : ولا ذي؟
عذوب بصراخ مجزوع ضاربةً ساقه بشكل قويٍّ متواصل : حرام عليك رجلي..
فصرخ غاضبًا شاتمًا، يركل قدميها بكل قوته : حرمت عليك عيشتك كانك تعرفين الحلال من الحرام يال*..
عاد يركلها مجددًا قبل أن يخرج ويغلق باب دورة المياة بالمفتاح خلفه.

تركها ساعة،، ساعتين،، ثلاث.. ولم يسمع لها صوتًا أو اعتراضًا أو حتى قرعًا على الباب.. فعاد يفتحه بتوجس..
ليجدها تجلس على الأرض تسند ظهرها على الجدار، برأسٍ مرفوع ووجهٍ يخلو من الدموع أو أي تعبير آخر، لا شيء واضح فيه سوى كدمة داكنة على خدها بعد صفعاته الموجعه.
تربط كاحلها بقطعةٍ مزقتها من طرف ثوبها ، تنظر له بتحدّي وسخرية ، وتنطق الحقد نطقًا من بين شفتيها : تظن أنك بتخوفني وبقعد أصيح وأصارخ عشان تفتح لي الباب؟
ضحكت بخفوت وكأنها تستخف به : أنا جلست سنين من عمري محبوسة تتوقع لعب العيال ذا بيأ....
لم يدع لها مجالاً لتتابع، فقد انقض عليها يسدد لها الركلات دون أن تصرخ هذه المره بل بقت صامته، على عكسه هو الذي بدأ يصرخ بقهرٍ بينها -رغم أنه في دورة مياة- : إنهدّي... إنهدّي الله يهدّك..

.
.


استيقظت صيتة فجأة،، في منتصف نومٍ لم يكن مريحًا على أيّ حال.. تتنفس بصعوبة بالغة بعد أن رأت كابوسًا مريعًا.. سمعت فيه قرعًا مرتفعًا على الباب.. ثم بأيدي كثيرة تسحب أحدًا تعرفه، لم يكن واضح الملامح ولم تتعرف على هويته، لكنها تعرفه.. متأكدة من أنها تعرفه. والفزع الذي أصابها في حلمها وحتى بعد استيقاظها منه يثبت ذلك..

نفثت عن يسارها ثلاثاً، تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وهي تشعر بالصداع ينتشر في رأسها فجأة.. وبالقلق يتزايد مع تزايد نبضات قلبها.. كجنودِ احتلالٍ داخلين على الأراضي الآمنة .
تحركت من سريرها تبعد الغطاء عنها بقوة، لازالت يدها على قلبها الذي انفجر نبضه وتعدّى الحد الطبيعي.. تبتلع ريقها الذي جف بصعوبة وترفع هاتفها بيدٍ ترتعش.. قبل أن تعيده مكانه عندما لم تجد شيئًا فيه.. لا اتصال ولا رسالة..

أحاطت رأسها بكفيها، تضغط عليه بقوة.. وكانت ستقف لولا صوت شعاع الذي سبقها، تسأل بنبرة مستنكره : خالتي!!
استدارت تنظر للنائمة خلفها، أو هكذا ظنت قبل أن تلقي بهاتفها كالطفلة.. ولكنها لم تدرك بأن تأوهاتها الخافتة التي كانت تخرج منها دون أن تشعر بها، هي من أيقظت شعاع.. لتقول بضيق : آسفه ياقلبي صحيتك.
شعرت شعاع بأن شيئًا غريبًا يحصل، شمّت ذلك.. لتعتدل جالسة تسأل بقلق ما إن وقفت خالتها : وين بتروحين؟
لتقول صيتة بيدٍ لازالت على جانب رأسها، تتأوه وتئن بألم : بجيب لي بندول، راسي بينفجر.
شعاع : بسم الله عليك، خليك أنا بجيب لك..
وخرجت من الغرفة دون أن تدع لها مجالاً كي تعترض.
تخطو خطاها مسرعة، تنظر لساعة معصمها في طريقها لتجد أنها تشير للثانية والنصف بعد منتصف الليل.

أوقفها صوته ما إن عبرت الصالة العلوية كالصاروخ : شعاع!!!
التفتت برأسها ناحيته، لتجده متمددًا على أحد الأرائك بيده ريموت التلفاز : أنت للحين مانمت؟ وش عندك قاعد هنا؟
اعتدل جالسًا ببطء : ماجاني النوم..
ثم أردف بتوجس : خير وش فيك تقل أحد يلحقك؟
لتقول قبل أن تبتعد : خالتي صيتة تبي بندول،، صحت فجأة ماسكة راسها.

عادت شعاع من المطبخ بيدها حبتين بندول وقارورة ماء، تصعد الدرج بسرعة قبل أن تتجه خطواتها العجلة لغرفة خالتها ببابها المردود، وما إن دخلتها حتى و وجدتها تسند ظهرها على وسادتها وعبدالإله يجلس أمامها على السرير، يدلك قدميها حيث هو جالس من فوق الغطاء، وكلاهما يغرق بالصمت..
اقتربت منها، وما إن انتبه لها عبدالإله حتى وأخذ المسكن منها، يفتحه في راحة يد أخته، ثم يأخذ قارورة الماء من شعاع ويناولها للأخرى الجالسة أمامه، يقول وهو يراها تشربها دفعةً واحدة : جعل فيه العافية.. بسم الله عليك وش جاك؟
دلكّت صيتة رأسها بألم واضح، تقول على مضض : صداع ياخوي عادي.
عقد عبدالإله حاجبيه : أول مره أشوف أحد يصحى من نومه مصدع!!
ثم أردف : أخاف بنت مشاعل سوت شي ولا صكّت راسك بالهذرة قبل لا تنامين..
ضحكت صيتة ضحكةً خافتةً متعبة، لتشعر بالألم ينخر رأسها بسبب ذلك.. ترى شعاع التي شهقت بعنف تلكم كتف خالها بخفه، تقول بامتعاض : والله ماسويت شي..
صيتة بابتسامة ذابلة : ماعليك منه،، شايل على أمك لأنها حطته قدام الأمر الواقع اليوم وقالت له مالك إلا لولوة .
اتسعت عيني شعاع ، تقول بذهول : وااو.
هز عبدالإله رأسه، مؤيدًا بتبرم : فعلاً وااو... أنا متعود على صيتة ياجعلني قبلها إن قلت لها لأ ولّا صرّفت الموضوع تفهم وتسكت.. بس أمك!!! لا إله إلا الله ماقد شفت مثلها..
ضحكت شعاع بمودة : شافتك راكد قالت أحركه...
رمقها بطرف عينه : راكد!!!.... أنتِ من وين تجيبين مصطلحاتك؟؟
جلست شعاع بالمساحة الصغيرة بجانب خالتها، تحتضن كتفها بحنو، وتقول بسعادة : أكيد متحمس..
ليقول بنبرة هازئة : افف، بموت من الحماس...
تبسمت صيتة ما إن قالت شعاع بحنق : عن المصاخة عاد...
ثم تأففت بضجر قبل أن تلصق رأسها برأس خالتها، تقول وقد مدت شفتيها أشبارًا : عديم احساس وترفع الضغط.. علّة الزمان الله يعينها عليك.
عبدالإله وقد ارتفع حاجبه باستمتاع : طيب اهدي، يمكن مايصير نصيب،
ثم يتابع بنبرة هازئة : عشان كذا أنا مركّد حماسي.
صيتة بسرعة : أعوذ بالله من فالك..
عبدالإله بتبرير : أنا أقول يمكن... يمكن...
لكن صيتة قالت بإندفاع، تحرك كفها أمام وجهه بسخط : لا يمكن وولا مايمكن، إلا بيصير نصيب ان شاءالله وبتصير هي زوجتك وأم عيالك... ياتقول شي زين ولا انطم.
مط عبدالإله شفتيه، يقول ضاربًا فمه بيده : ياكلمة ردّي مكانك،، آسفين...
ثم يتابع بامتعاض : الحين ذي اللي مصدعة قبل شوي؟
وضعت صيتة كلتا يديها على رأسها، وكأنها تذكرت.. لتقول بضيق : والله أحس راسي بينفجر.
لتسأل شعاع بقلق : ماخف ؟؟
هزت صيتة رأسها تنفي،، تغمض عينيها ما إن أحست بأنها ستستفرغ من قوة الألم الذي تشعر به يأكل خلايا عقلها دون رحمة.. إلى أن وصلها صوت عبدالإله : تمددي وغمضي عيونك شوي ويروح.. ارتاحي...
ثم يردف بقلق بعد أن وقف : ولازم تشوفين دكتور الوضع ماهو طبيعي يا أختي.
لتقول صيتة باستسلام تام ليدي شعاع التي أعادت رأسها على وسادتها : صحيت متروعه ومسكني الصداع، هذا هو السبب... مايحتاج دكتور وغيره..
ليقول عبدالإله بحنو : بسم الله عليك،، تعوذي من ابليس.. وش اللي مروعك؟
ثم أردف ممازحًا عله يمحي تقطيبة حاجبيها : أخاف شعاع..
لكن العقدَة زادت، تقول بقلق : عزام دق علي مره الظهر ولا عاد رجع اتصل..
صمت عبدالإله لثانية، قبل أن يقول متسائلاً : طيب؟
صيتة : غريبة ماعاد دق مره ثانية ماهي عادته.. ومن المغرب وجواله يعطي مقفول ويوم فتحه ماعاد رد علي مره وحده.

زم شفتيه بتفكير، فهو الآخر حاول الاتصال بعزام مراتٍ عدة لكن دون جدوى، غير أنه لم يهاتفه اليوم أبداً وهذا شيء وكما قالت صيتة "ماهي عادته".
رفع بصره ليأخذه صوت شعاع من أفكاره ، تقول بتنهيدة وأسى، فإن كانت صيتة قلقه لأنه اتصل عليها اليوم مره واحدة فقط،، فشعاع لم تسمع صوته مطلقًا : تلاقينه طلع مكان وانشغل، بعدين لا تنسين ياخالة فرق التوقيت بيننا وبينهم.
صيتة بقلق : عسى.
عبدالإله بحنو : تعوذي من ابليس يابنت الحلال، مافيه إلا العافية وعبدالله معه... لو فيه شي لا قدر الله بيدق.
رمشت بعينيها لازالت قلقة، فقد اعتادت منه أكثر من اتصال في اليوم الواحد ، قبل أن تغلقها بانصياع لأصابع شعاع التي بدأت تدلك جانبي رأسها عل مادكّ به يفارقه.

.
.


فتح عينيه على أقل من مهله، يشد على حاجبيه، قبل أن يرخيهما مجددًا.. لا يشعر بأي ألم.. لا شيء البتّه حتى بعدما رفع يده..
حاول أن يبتلع ريقه ولكنه لم يستطع بسبب جفاف حلقه. فعاود إغماض عينيه.. تتدافع الأحداث الأخيرة على عقله بسرعة. كالومضات... ففتحها مجددًا بقوة، وفزع خوفًا بألا يستطيع فتحها مجددًا. يقول بصوتٍ أبح : عبدالله..
ثم بنبرة ارتفعت قليلاً : عبدالله..
وأعلى قليلاً، ينادي : ياعبدالله..
إلى أن صرخ بصوتٍ مجروح بعد أن تمكن منه القلق : عبدالله.

في أقل من ثانية، فُتح الستار الأبيض بقوة، لتظهر له امرأة سودانية ترتدي لباس المستشفيات الأبيض، صرخ بها : وين عبدالله؟
اقتربت منه، تسأل باستنكار : عبدالله منو؟
تهدجت أنفاسه، قائلا بسرعة : عبدالله علي،،، الرجّال اللي كان معي..
ثم عاد يصرخ وهو يرى اقترابها منه بملامح ناقمه : ياعبدالله.. عبدالله وينك؟.....
نهرته بانفعال : ماطوطي صوتك يازول، حوليك ناس عيّانه.. وكمان أنا مش فاهمة أنت عايز منو؟ أصل أنت جيت لوحدك ماكان يرافقك أيَّ حد.
حاول أن يرتفع بجسده، لكنها دفعته للخلف بقوة.. تثبته من كتفيه تمنع حركته، حتى بات يرفس بأقدامه.. يشعر بقوته المزعومة تتهاوى كتلالٍ رملية، حتى فقدها تمامًا..


: عزام... عزام بسم الله عليك..
فتح عينيه بقوة، وهلع، وأنفاسٍ متسارعة.. مستجيبًا للصوت المنادي بإسمه واليدين التي تهزه بخفّه وحذر.. يشعر بقلبه وتسارعه وكأنه سيكسر أضلعه. يقوم بتحريك يده بقوة كي يتأكد فشعر بألمٍ رهيب، وشدٍّ في أعلاها.
الإنارة البيضاء في كل مكان جهرته.. أوجعت عينيه التي كان سيغلقها لولا الصوت الذي وصله، يسأل بوجل : عزام وش جاك ياخوك خلعت قلبي..
ثبتت نظرته ، واتضحت رؤيته، ليجد أن صاحب الصوت هو عبدالله، ولا شيء واضح على وجهه سوى الخوف والعينين التي تنطق قلقًا ناحيته.
تمتم بتوهان : عبدالله..؟

زفر عبدالله أنفاسه وتوتره وصل ذروته، يعود خطوة للخلف قبل أن يرمي جسده المرتجف على الكرسي البلاستيكي خلفه، والذي كان يجلس عليه بهدوءٍ وسكينة قبل أن يبدأ عزام النائم بالصراخ مناديًا بإسمه.. بملامح وجه مرعوبة،، مبهوته، وجبين متعرّق. يرفس بأقدامه وكأنه يعارك أحدهم.

مسح عبدالله وجهه بكفيه، يذكر ربه بينه وبين نفسه.. يحاول أن يهدّأ من أنفاسه الثائرة ما إن دخل الطبيب بسرعة، تلحق به ممرضته للتأكد من الوضع الصحي للمريض الذي تردد صوته المرتفع بالمكان.. وما إن هدأت أنفاسه اللاهثة واستقرت نبضات قلبه المتسارعة.. حتى وتبسّم الطبيب بمودة : الحمدلله على سلامتك. خوفتنا عليك يازول .
نظر له عزام بقلق، ليتابع : بحب أطمنك، أمورك بقَت كويسة ماتخاف.... ما فاكر شنو حصل قبل توصل للمركز؟

كانت نظرة عزام تائهه، غير ثابتة.. فتابع الطبيب ما إن شعر بتشتته، يضع يديه في جيب بالطوه الأبيض : الرصاصة ضربت كتفك، واتغرست بمكان عميق شويّة العظم واللحم.. والحمدلله ماكانت اختراق كلي،
ثم تابع بنبرة مرحه : وعملنا عملية بسيطة كده عشان نخرِّجها بدون أي حاجه لنقل دم أو غيرو..
وأكمل بعدها يزفر بأسى : بعتذر شديد بالنيابة عن ولاد منطقتَي واللي عملوه، بارا منطقة حلوة شديد ما عايز تاخد عنها فكرة مش كويسة، بس ماعارف شنو حصل ليها دِلوقيت وبقت متل الغابة،، بقى القوي ياكل الضعيف واليوم الواحد تاجي فيه إصابات كتير.... السلاح بقى متوفر بكلَّ مكان وتشوفو مع كل حد... البلد صارت لعبة روس كبيرَة.
سكت عندما أدرك أنه استرسل بشيءٍ لا يعني للمتمدد أمامه بشيء.. ثم أردف بمودة، يبتسم بمهنية : وهقوليك بس ما تزعل مننا ياعم، هنخليك كمان يوم زيادة إلى إن نطّمن إن كل حاجه بقَت كويسة.
بالسلامة ان شاءالله..

وما إن خرج الطبيب من المساحة الصغيرة التي يتواجد فيها سرير عزام يفصله عن باقي الأسرّة ستائر بيضاء، إلا وأتاه صوت عبدالله، يقول بحروفٍ بدت ضاحكة من فرط سعادته وراحته : الف الحمدلله على السلامة يابعدي..
ثم اقترب منه مقبلاً جبينه : خطاك السوء ...
ابتسم له عزام بامتنان، ابتسامة باهته وهو يرى شحوب وجهه والإرهاق الواضح على عينيه وكأنه لم يذق طعم النوم : الله يسلمك من كل شر،
ثم أردف بمودة وهو يلاحظه يتصدد بالنظر عنه فاركًا أنفه بكفّه.. يتذكر جيدًا بكاءه ما إن رأى الدماء تلطخ قميصه : قلت لك ماهي خطيرة... جرح بسيط...

قالها يحاول أن يعتدل جالسًا، فإنحنى عبدالله يساعده،، يرفع الوسادة خلفه كي يستند بظهره عليها براحه، وما إن التقت نظرة عزام بنظرة الآخر، حتى ولاحظ الالتماع الطفيف لسطحها...
ليقول عبدالله مبررًا ذلك بضيق : هي بسيطة يارب لك الحمد، بس والله يا إني نشفت أمس.. قلت خلاص ياعبدالله ضيّعت عزام من كيس أهله ..
ابتلع تأوهًا كاد أن يخرج من بين شفتيه ما إن شعر بألمٍ على امتداد يده اليسرى، ليعقد عوضًا عن ذلك حاجبيه، ينظر لعبدالله بتساؤل : أمس؟
هز رأسه يقول بهدوء : اليوم الإثنين.
اتسعت عينيه بذهول، واتضحت خطوط التعب على وجهه الذي لازال شاحبًا مبهوتًا : اسألك بالله!!!
ليتابع عبدالله بذات النبرة الهادئة : وصلنا أمس قرب العشا، ودخل بعدك ثلاثة اللي متصاوب بذراعه واللي منفلع راسه واللي مكسوره ساقه.. لا إله إلا الله شي شي يروع القلب،، أثر الديرة قايمة قاعدة بين عيال البلد..
ثم أردف وكأنه يعيش البارحة مجددًا : سدحوك وأنت مغيّب ماتحس باللي حولك والحمدلله إصابتك طفيفة على كلام الدكتور، سحب الرصاصة ونظف الجرح واستقر وضعك.

ثم عم صمت لثواني قبل أن يتابع عبدالله بزفرة : مير انك من فقدت الوعي ذيك الساعة ماعاد صحيت، ونفضتك حرارة تالي الليل غسلت ذنوبك لسبعين سنة قدام.
وأكمل مبتسمًا بعد أن ضحك عزام : والحين يوم إنك قمت تصارخ وترافس وأنت نايم مدري وش طاعونك قلت بسس ياعبدالله خلاااص, الولد جاته جرثومه وقده ينازع.
كح عزام يشرق بضحكة خافته جديدة، يضرب عظام صدره الخدرَه بخفه، قائلاً : حلمان فيك الله يقلعك..
وعين عبدالله تتأمله بحب أخوي خالص، فقد ظن بأنه سيفقده البارحة. لازال المنظر حيًّا طريًّا في عقله.. منظر عزام ممددًا على سريرٍ موجودٍ بأحد ممرات المركز المتصدّعة، بملاءات ملطخة بدماءٍ جافة والطبيب المنهك من العمل المتواصل يعاين جرحه قبل أن يدخل أداةً أشبه بالمقص كي يسحب الرصاصة الغائرة في كتفه،، وأمام ناظريه فلم يستطع أن يقاوم رغبته بالاستفراغ في أقرب سلّة نفايات وجدها في وجهه، خصوصا وأنه يقاوم هذه الرغبة منذ أن وصف عزام رائحة دمه بالبيض..

وعندما انتهى كل ذلك، وجد عبدالله نفسه يجلس على كرسي بلاستيكي في غرفة كبيرة تمتلئ بالأسرّة، والجرحى.. بين السرير والسرير ستارة بيضاء تفصل كل مريضٍ عن الآخر .

وما إن سحب الطبيب الستارة البيضاء التي تفصل سرير عزام عن السرير بحانبه، حتى وشعر عبدالله بأن عينيه ستنفجر من تكدس الدموع خلفها، ينظر لعزام الساكن تمامًا ممددًا أمامه كالجثه الهامدة، بوجهٍ شاحب وملامح متعبه حتى أثناء نومه، وكأنه نازع الموت حيًّا. وما إن مضت الساعات وعزام لازال مستلقٍ على نفس وضعه، دون حركة، ولا حتى رفّة رمش.. إلا وبدأت الوساوس تضرب عقله دون رحمه.. يجد نفسه يقترب بين كل دقيقةٍ وأخرى منه, واضعًا يده قريباً من أنفه ليتأكد من تنفسه، أو يبسط راحة كفه على صدره ليتأكد من نبضه.
كانت الأفكار السوداء والمخاوف تضرب عقله دون رحمه، تنزل على رأسه كالمطرقة، فالمركز الصحي متواضع جدًا، من الجيد وجود عدد من أجهزة المهمة وأجهزة الضغط وبعض المعدات الطبية.
قلقان،، ماذا لو كان الطبيب شخصّه بشكل خاطئ؟ أو قطع شيئًا وهو يسحب الرصاصة بآداته الغريبةِ تلك؟
وما إن بدأ جسد عزام يرتعش بعد منتصف الليل، معلنًا عن حمى أصابته.. حتى وانهار عبدالله تمامًا، على وشك أن يحمل عزام على ظهره كي ينقله لمكانٍ آخر، لو سيرًا على الأقدام حتى يصل به للخرطوم، المهم أن يبتعد عن هذا المكان الموبوء حيث هو متأكد من أن فيروسًا أصابه.. أو جرثومةً التقطها وداهمت دمه، في طريقها لعقله.. قاب قوسين أو أدنى من أن يتصل بعبدالإله كي يأتي وينقذ الموقف؛ فهو سيء جدًا في إدارة الأزمات . ولا يحسن التصرف تحت الضغط..

لكن الطبيب الطيّب طمنّه، حاول أن يهدّأ من روعِه ويخبره بأنه أمر طبيعي فهو قد نزع رصاصةً من كتفه ونزف بسببها،، وليس ضرسًا في فمه.

: وش صار على الولد الصغير اللي كان معها؟
توعى عبدالله على صوت عزام يسأله، بعد أن هدأت ضحكته، لازالت الابتسامة ترتسم على وجهه بهدوء ، فأجابه : نقلوه للمستشفى كان يحتاج نقل دم.
عزام بقلق : ياساتر!! وكيف وضعه الحين؟
عبدالله بسكون وضيق من نفسه فلولا تدخله لما حصل كل هذا : إن شاءالله إنه بخير ، على كلام الدكتور الرصاصة جاته بجنبه، ربك رحيم ماصابت الكلى ولا كان راح فيها.
عزام : الله يلطف فيه،، عدّت على خير الحمدلله.
زفر عبدالله يشعر بأنه سيختنق ، وهو الذي لم تخفى عليه نظرة مصطفى المعاتبه ناحيته وكأنه يحمّله السبب وذنب كل هذا، عندما خرج برفقة أحد الممرضين للمستشفى الذي يبعد عن المركز الصحي مسافة الأربعين دقيقة تقريبًا.

.

مضت ثلث ساعة على استيقاظه، يسند ظهره على السرير خلفه، ويرفع يده ملامسًا كتفه حيث الشاش يغطيه تمامًا.
ينظر حيث تنتهي أقدامه الممدودة أمامه يغطيها الشرشف الأبيض الخفيف، يشعر بنظرات الجالس تكاد تخترق جانب وجهه، يشعر بالقلق المندفع من عينيه، والذي وصله دون الحاجة بأن يصفه حتى.

كان يعلم بأن إصابته لم تكن بتلك الخطورة التي تستدعي الموت، لكن ماذا لو كان ذلك يومه فعلاً، وكانت الرصاصة سببًا لموته بعد انتهاء أجله؟ ماذا لو كانت الرصاصة أصابت رأسه؟ أو استقرت في منتصف قلبه؟.. ماذا لو مات؟!!!
كانت تجربة قريبة من الموت لحدٍ كبير.. شعر بالموت يحوم حوله في كل مرة يصرخ بها عبدالله على السائق كي يسرع، أو في كل مره يضرب فيها خده كي يبقى بوعيه... حتى فقدَه!

كانت أنفاسه منتظمة تمامًا، لكنه يشعر بألمٍ طفيفٍ في رأسه.. ووخزٍ في كتفه.. وأفكار متفرقه في عقله .. يجد نفسه يراجع أفعاله، وتصرفاته في السنوات الماضية..

ماذا لو مات حقًا ولم تكن التجربة القريبة من الموت،، تجربة؟!!
كيف سينزل الخبر على أمه؟ أو حتى شعاع التي أعلنتها صراحةً في وجهه أنها أضعف من أن تتحمل خسارته.. كيف سيتعايشن مع فكرة عدم وجوده؟ وماهي الذكرى التي ستبقى في عقولهن بعد رحيله؟

تنهد وهو يشعر بأوتار قلبه تشتد بضيقٍ فجأة، متذكراً شعاع التي لازالت على ذمته دون أن تيأس أو تمل منه حتى بعد مرور سنتين من الجفاف والمعاملة الرسمية وكأنها سكرتيرة مكتبة لا زوجته،، سنتين مرّت وهي تستجدي الحب والاهتمام والعواطف منه.. بل أنها ورغم كل البرود الذي يصدر منه ناحيتها، كانت دائمًا تشتعل لأجله، تضيء ظلمة قلبه حتى وإن أنكر ذلك فوجودها ولو أستثقله أحيانًا كان كالأرض الثابتة التي يضع عليها حمله وأثقاله وهو واثقٌ متأكد من أنها لن تنهد تحته..

كان الصمت يسيطر على المكان، تخترقه بعض التأوهات الموجوعة للموجودين من حينٍ لآخر.. تخالط أفكار عزام الذي تبسّم ابتسامةً صغيرة على ما طرأ في باله في هذه اللحظة.... عندما اعتقدت والدته بأن شعاع حامل، ليجد نفسه الآن، وفي هذا المكان بعد أن اخترقت رصاصةٌ كتفه، يتمنى لو كان ما اعتقدت صحيحًا..
إلى أن قطعه عبدالله من هذه الافكار، قائلاً بهدوء : ترى أمك دقت ورديت عليها.
اتسعت الابتسامة على الطاري، مشتاقٌ لها وكأنه لم يراها لسنوات.. يقول ممازحًا : ومن سمح لك؟
بادله الابتسامة بأخرى : ياخوي أحرقت جوالك اتصالات ولا رديت، بس يوم دقت اليوم خفت إن مارديت توصلنا.
رفع حاجبيه باستنكار : فيه شبكة؟
عبدالله : مدينة ذي فيها خدمات ومدارس ومستشفى ماهي قرية..
ثم أردف بخبث : تراني قلت لها عزام طلع يسعسع ونسى جواله... ياويلك!
اتسعت ابتسامته ، بل أن الابتسامة تحولت لضحكة حنين وشوق : والله إن تبطي، مستحيل تصدقك بنت عبدالله.
ليقول عبدالله بمودة فقد صدق : واضح راضية عليك، وش مسوي لها اعترف؟...
انعقد حاجبي عزام ، يسأل بقلق : ليكون قلت لها شي؟
فقال عبدالله بإزدراء : ليه مهبول؟...
ثم تابع يمد له هاتفه بعد أن أخرجه من جيب بنطاله : المهم خذ كلمها وطمنها تلاقي بالها مشغول عليك،، مع إني كلمت عبادي وطمنته .
قالها وخرج يسحب الستار خلفه كي يأخذ عزام راحته.. تكفي المره الأولى عندما بقى جالسًا بكل وسِع وجه يستمع لمحادثته مع زوجته..

طلب رقمها، ووضع هاتفه على أذنه بعد أن أغلق وضع الطيران الذي فعّله عبدالله كي لاتفرغ بطاريته ، تتسارع نبضات قلبه لا إراديًا مع كل 'طوط' ترتفع.. إلى أن توقفت، وفتح الخط ليقول بسرعة وابتسامة كأنها تراه : ال..
لكنها قطعت كلمته قبل أن يتمّها، تهتف بلهفه : ياهلا والله ومسهلا، حي ذا الصوت وراعيه...
اتسعت ابتسامته، وتنحنح يبعد عبرةً تسلقت حلقه : هلا بك يابعد روحي.. وش أخبارك؟
ثقلت نبرتها بضحكة سعادة واضحة : أنا بخير دامني أسمع هالحس.. وينك يا أمك عن جوالك من أمس؟ شغلت بالي عليك..

ورغم أن عبدالله كان يقف بالخارج إلا أن صوت عزام كان يصله بوضوح، تبدلت نبرة التعب في صوته لشيءٍ آخر وكأن مخزون الحياة امتلأ عنده. يسمعه يسطر لها أيمانًا بأنه بخير..
يؤكد لها بأن ماقاله عبدالله صحيح.. وأنه نسى جواله الصامت موصولاً بالشاحن عندما خرج بعد أن فرغت بطاريته بالأمس.
كانت التبريرات تخرج من بين شفتيه بسهولة، دون أن يتردد في شيءٍ منها، أو أن يتلعثم بأحدها, وكأنه اعتاد عليها.

لا يعلم كم مضى على وقوفه بالخارج، حتى أتاه صوت عزام مناديًا، ليفتح الستار ويدخل.. يجده يبتسم ابتسامةً واسعة، قائلاً بطاقة متفجرة : متى ناوي نرجع إن شاءالله؟ مليت وطقت كبدي ياخي...
عبدالله بود : أول ما تطلع من هنا إن شاءالله نشيل شلايلنا وعلى المطار دايركت. وحرام علي كان جيتها مرة ثانية.

سكت عزام قليلاً، يقلب في هاتفه... قبل أن يضحك بذهول :
جوار مرسل قبل أربع ساعات!
عبدالله بغيظ : وش يبي بعد الله ياخذه!!
ليقول عزام لازال الذهول واضحًا على ملامحه : يسأل إذا أحد جاه شي ههه!!!..
فقال عبدالله بتهكمٍ واضح : أنا شفت ناس وسيعة وجه بس مثل ذا ماقد شفت!!!... له عين يسأل بعد اللي سواه؟ ماهو كان شايف بعينه كيف كان الوضع قبل لا يركب السيارة وينحاش زي النعامة، ولا ليكون يظن أنه أطلق علينا من مسدس موية!!...

.

خرج عزام بعد أن استقرت حالته تمامًا في اليوم التالي, بكتفٍ مضمّد وقميص لا يعلم من أين أتى به عبدالله ، عائدًا للخرطوم برفقته على متن حافلة صغيرة، تحمل معهم عددًا لا بأس به من الركاب.
ورغم الطريق الطويل، المتعب والشاق بين المنطقتين والذي يتجاوز الساعتين بالسيارة، إلا أنهما لم ينتظرا حتى يصعدا للغرفة، بل توقف عبدالله في منتصف بهو الفندق، يفتح بهاتفه موقعًا لحجز رحلات الطيران بعد أن اتصل بالأنترنت الذي لم يستطع الاتصال به في بارا، يبحث بعينيه عن أقرب رحلة للعودة بينما عيني عزام القلقة تراقب مؤشر بطارية الهاتف الحمراء ورقم "١٠%" يصرخ بجانبه، يحث عبدالله على أن يستعجل قبل أن ينطفئ هاتفه.

الرحلة الأقرب كانت بعد يومين، عصر الخميس.. مما جعل الشعور المر بالخيبة يُغرق الشابين، فلم تعد لهما رغبة بأن يبقيَا في هذه الأرض دقيقة واحدة..
ليجد عبدالله نفسه يعاود البحث بكل أمل مجددًا في وقتٍ متأخر من الليل، يتمدد على سريره بعد أن امتلأت بطارية هاتفه.. يبحث باستماته علّه يجد رحلةً أقرب من هذه..
ليسأل عزام بأمل بعد دقائق صمت طويلة، عاد فيها يتمدد في مكانه بعد أن غير ضماد جرحه.. يتحسس طريقه،، لا يرى في الظلام سوى عبوس عبدالله الذي أظهره ضوء هاتفه المنعكس عليه : ها بشّر ؟
ليتأفف عبدالله قائلاً بضجر : أقرب شي رحلة الخميس.
تنهد عزام باستسلامٍ تام، يقول بهدوء علّ صوته يقنعه : ماعليه، خيره إن شاءالله مابقى شي على الخميس.

قالها يغلق عينيه، يتمنى أن ينام للخميس... يصارع رغبةً ملحّةً بالصراخ من أعماق قلبه من فرط قنوطه.. فإن كان عبدالله وعلى الرغم من اعتياده على ترك أهله لأسابيع يجد نفسه مشتاقٌ متلهفٌ للعودة، فكيف برجل مثل عزام لم يعتد أن يفارق أهل بيته لمدة تزيد عن اليوم ؟

ومنذ تلك اللحظة التي أكد فيها عبدالله الحجز وحتى الخميس، لم يظهر جوار أبداً.. ولم يجب على اتصالات عزام.. ولا حتى القرعات المرتفعة على باب غرفته.. مما أثار قلقًا في نفسه، فماذا إن كان أذىً حل به، أو بزوجته؟...
هل سيُضيع الطريق لوالده الآن، بعد أن اقترب منه؟؟

.

أتى الخميس، ولم يسعد عزام به قبلاً كسعادته الآن..
لدرجة أنه لم ينم إلا لساعتين فقط بعد أن عجز عن النوم طوال الليل، على عكس عبدالله الذي غرق بنومٍ عميق ما إن لامس رأسه وسادته،، يستيقظ بعدها بنشاطٍ وكأنه نام الليل كله.. يحرك المزلاج بخفّه قبل أن يَفتح النافذة على مصراعيها لتدخل أشعة شمس الثامنة صباحًا ، حارة وقوية وكأنه في عز الظهر.. يهتف رغمًا عن ذلك بحماس : اصحى ياعبدالله.. قم...
ثم يتمتم بسعادة جاذبًا نفسَا عميقًا لرئتيه، دون أن يأبه بتذمر النائم خلفه يسحب غطاءه مغطيًا به رأسه : اصحى.. جا الخميس الونيس..

لازال غير مصدق أنه في طريق عودته للمنزل.. يجلس على مقعده القريب من النافذة مودعًا سماء السودان أخيراً،
متأكدٌ من أنه لو أتى لها بظروفٍ غير هذه لكان استمتع ببقائه فيها. فالسودان بلد حي وشعبه ودود ومحبوب بامتياز..

نقلته الطائرة المتجهة من الخرطوم لجدّة فوق السحاب، ساعةٌ تعلقت فيها عيني عزام بالسحب المتراكمة تحته، في منظرٍ بديعٍ لا يُنسى .. يجد نفسه مسترخيًا مبتسمًا وهو يرى تبعثر آخر خيوط الشمس على تكتلاتها التي جعلتها كوسائدٍ من القطن، رغم نظره لساعة هاتفه من وقتٍ لآخر بنفاذ صبر يعد الدقائق عدًّا من لهفته، لا صبر لديه حتى يدخل منزله ويراهنّ أمامه.
ولا يعرف كيف انتهى به المطاف بين رسائلها، منذ أول رسالةٍ أرسلتها له وحتى آخر واحدة، قبل سفره عندما كتبت (مكانك بيّن من الحين حبيبي عزام، استودعناك الله.. تكفى لا تبطي علينا).. يقرأها بتمعن، يرتفع طرف شفتّه بابتسامة رغمًا عنه على استخدامها المفرط للوجوه التعبيرية،، يلحظ قلبًا برتقاليًا في كل مره.. متجاهلاً بذلك عدم رده على معظمها..


ارتفعت عينيه عن هاتفه ما إن قال عبدالله بتذمّر، يتأفف من قلبه.. يرخي من شد الحزام حول نفسه.: الله لا يعيدها من سفرة.. مابغينا..
اتسعت ابتسامته، والتفت ينظر له قائلاً بتفكّر حقيقي : والله إنها عدّت مثل الحلم.
اتسعت عيني عبدالله بشكلٍ درامي، قائلاً بذهول : حلم!!! حلم!!!.....
ثم أردف بقوة : ياخوي قل جاثوم.. كابوس، فلم رعب.. موب حلم!!..
قبل أن يتابع بعفوية : على إنها نفس الديرة بس والله يالفرق بين السفرة ذي والسفرة اللي فاتت مع العيال ان.....
سكت عبدالله بسرعة قبل أن يتابع جملته عندما أدرك ماتفوّه به، فتبسّم له عزام ابتسامةً واسعة لم تصل لعينيه، جعلته يغرق في ثيابه محرجًا فمن الواضح أن الرجل أمامه فهم مقصده بشكلٍ خاطئ..
مما جعله يقول بسرعة عله يتدارك خطأه : لكن أبشر بالعوض أنا افدى راسك ياذيبان.. تجهّز، بعد شهر ولا شهرين بالكثير بنروح النرويج سياحة ونقاهه وتكفير ذنوب.. ونقول عسى نعوض عن سفرة الشر ذي واللي صار فيها.
ليقول عزام لازال مبتسمًا : لا النرويج ولا غيرها... خلاص،، عزّلنا.. توبة من ذا النوبة...
ضحك عبدالله بخفوت : افاا.. وراه؟
عزام : يارجّال مالك إلا خشمك لو إنه عوَج... أنا من حيني ما أداني الدوجَه والهجولة من ديرة لديرة.
رفع عبدالله حاجبيه ، ضاحكًا باستنكار : ياخوي متأكد إن وضعك طبيعي؟! أول مره أشوف ثلاثيني جاد ومابجوازه إلا ختمين!!!
ثم تابع بتملق : أوعدك تغير رايك السفرة الجاية يالشايب.. تراي وسيع صدر،، جربنّي.
قالها يغمز، لكن عزام الذي ضحك بخفوت كان جادًّا بقراره، يقطع عهدًا بينه وبين نفسه بألا يبرح الأرض مجددًا ويتركهن خلفه، فقد بلغ الشوق ذروته.. ليقول مشيراً بيده : شف غيري..
عبس عبدالله ، يقول بتبرم : أشوف مِن مابقى أحد! حاكم أعرس وفهد بيلحقه قريب... ولا أظن عادهم بيقابلون وجهي اللي يفتح النفس وحريمهم معهم.
سكت عزام قليلا قبل أن يقول بهدوء : مالك إلا عبادي.. أعزب خيبر.
عبدالله بنبرة ساخرة : لا تكفى، فكنا من خالك قناص المدينة، بيشغلنا في المطارات هو وبندقه..
فقال عزام بعد ضحكة فرّت من بين شفتيه.. مبسوط جدًا في هذه اللحظة : أنا أشوف تترك عنك السفرات اللي مالها سنع وتجمّع قريشاتك وتعرس...
عبدالله بروقان فطاري العرس انعشه : القروش موجودة الحمدلله والخير كثير.... لكن السؤال، القى عندك عروس تتسق مع ذاتي وتتماشى مع رؤيتي؟
تبسم عزام قائلاً : والله لو عندي أخت كان اعطيتك اياها بثيابها.. اللي مثلك ماينرد ياعبدالله، بس مثل منت شايف...
ثم أردف مازحًا : إلا إن كان ماعندك مانع تنتظر بنتي، فهذا شي ثاني..
رمقه عبدالله بطرف عينه.. يقول بتهكم : بنتك؟؟!... لا ياخوي يفتح الله..

عم الصمت بعد أن أطلق عزام ضحكة قصيرة، ههه... ينهي بها هذا الحوار، ليجد عبدالله نفسه يكبح فضولاً جامحًا من أن يخرج من بين شفتيه بخصوص ماقاله الآخر تلك المره قبل أن يسحبه خلفه كالشاه لجوار الجالس في بهو الفندق..
يرمقه بطرف عينه ليجد أنه عاد ناظرًا لهاتفه..
فتنحنح، واعتدل جالسًا، يسأل بنبرة بدت طبيعية لوهله : إلا بسالك ياعزام، الحين وش علاقة ذيب الله يرحمه ويغفر له بذا كله؟ أنت وش كنت تقصد يوم قلت تبي أي شي يوصلك له؟
ثم تابع عندما تعدّى صمت عزام الثانية.. ليعقد حاجبيه يقول باستياء : لا عزام،، لالا ما أظن قصدك نفس اللي فهمته.. لأنه شي مستحيل، ما يدخل العقل...
كان عزام باردًا جدًا ليس وكأن الجالس بجانبه بدأ يشكك في قدراته العقلية، أو أن سره الصغير المجنون عرف به شخص ثالث... إذ قال ببرود لازال ينظر لهاتفه : قلت لك شي في نفسي وأبي أتأكد منه..
ثم أردف بحزم ناظراً لوجهه الذي لازالت علامات عدم التصديق باديةً عليه،، بصرامة : ولا عاد تكثر كلام بالموضوع ذا.. خلاص ياعبدالله، اعتبر السالفة انتهت..
زم عبدالله شفتيه.. بضيق،، وتردد قبل أن ينطق بنبرة : شلون انتهت؟.... عزام ياخوك أنا خايف عليك..
عقد عزام حاجبيه بعدم رضا : وش تخاف علي منه؟ استح على وجهك شايف كم عمري أنت؟... مستحيل أسوي شي يضرني!
لكن عبدالله لم يقتنع ، يقول بحاجبٍ مرفوع : والله ماهقيت العمر بيفرق على تصرفاتك دام أفكار مثل ذي براسك!
ثم أردف بسرعة ما إن احتدت نظرة الآخر : ياخوي أنا جوار واللي معه ذي ما ارتحت لهم من البداية أ...
ليقاطعه عزام بحزم : أنا مرتاح ويكفي.
فزفر عبدالله قائلاً : أخاف إنه ملعوب منه يدخلك بمشاكل مالها أول من تالي... زوجته من مواليد ٨٩, يعني بعد وفاة أبوك بوقت.. وأبوها ماهقيته موجود ولا كان شفته مقيّم الدنيا ومقعدها، مافيه أب يشوف كل ذا يصير لبنته ويسكت....

رمقه عزام بطرف عينه ثم عاد ينظر لهاتفه مجدداً في صمت، كي يصمت... فكلام عبدالله على كثر واقعيته إلا أنه ضايقه، وبدد ساحبة أحلام اليقظة أعلى رأسه.. فهتف عبدالله قائلاً بتنهيدة ويأس، علّ المرح الذي تبخر يعود : طيب تتوقع الشرطة قفطت جوار وحذفوه بالسجن لين تطلع ريحته ؟؟
ابتسم عزام ابتسامة باهته على قوله.. صغيرة ومتكلفة جدًا : ودّك أنت...!
عبدالله بتمنّي : الله كريم،،، لو علي كان سلمتّه بيدي بس بينك وبينه مصلحه غريبة.....
ثم سأل بعد أن لاحظ شد عزام على شفتيه بابتسامة مغلقة بدون نَفس : عاده رد عليك؟
رفع عزام حاجبيه بمعنى "لأ" كإجابة، دون أن يتكلف بنطقها.. مما جعل عبدالله يعلق بغيظ : شفت!!! قلت لك ذا واحد مافيه خير ولا أدري كيف طاوعته ... أنا بس أبي أعرف وش استفدت الحين؟ هذا هو أخذ حرمته وجحدك، بدون لا يعطيك لا حق ولا باطل، ولا أخذنا منه غير أرواحكم اللي بغت تروح!!

طال الصمت، وندم عبدالله على ماقاله عندما زاد شد عزام لشفتيه حتى استوت بخطٍ مستقيم، في عينيه الحادتين برودٌ رهيب... كان وكأنه يلومه ويحمله ذنب ماحصل، رغم أنه هو المسؤول الأول والأخير عنه. يجد نفسه يشتم عبدالإله اللي ياغافلين لكم الله, فهو صاحب فكرة مقناص السودان قبل أكثر من شهر.. والذي من بعده بدأت المصائب تهل عليه تباعًا.

لكن صوت عزام الذي وصله بهدوء أخرجه من دوامة جلد الذات التي لم تفارقه منذ أيام، ينظر له،، يقول ببساطة : لا تخاف.. قد أمّنت وضعي وأخذت منه كلمه .
ضحك عبدالله باستنكار، ضحكةً لا يعرف كيف خرجت منه, لكنها خرجت..فهو لم يعهد عزام بكل هذه السذاجة.. : وأنت تظن واحد مثل ذا بتفرق معه كلمة ولا عشر؟ يارجّال ذا جاب رصاصته بين عظامك ولو رفع يده شوي كان جابها بين عيونك،، ولا اهتم.... أنا بس أبي أفهم وش بينك وبينه؟ هو مهددك بشي؟ ماسك عليك شي؟؟
أجاب عزام بجدية وهدوء : ماعليه... أنا واثق فيه.. وبالأول والأخير هو رجّال مقهور، توقع منه أي شي...
ثم يردف بحزم : وخلاص، فضّها سيرة عاد.

زفر عبدالله بغيظ ويأس فكما يبدو جوار يمسك صورًا على عزام قادرة على إنهاء مستقبله، وإلا لماذا كل هذا الاستسلام والرضوخ؟
كان سيشتم، فهو يكره جوار كما تكره البهيمة المسلخ.. وإن رآه الآن سيخرج روحه بيده دون تردد.
لكنه أطبق على شفتيه عوضًا عن ذلك.. يرى عزام ينظر للخارج.. بإشارةٍ منه كي يصمت.

وبينما فهمها عبدالله إشارة صمت تنبئ عن أن عزام لم يعد في مزاجٍ يسمح بالحديث.. كان عقل الآخر مشغول بأفكار مشتتة ومتفرقة، أمنيات عجيبة وغريبة.. من الصعب أن يفكر بها عاقل مثله، لكنها أتته، وداعبت خياله، ورفعت سقف توقعاته عاليًا حتى أصبح قلبه مكشوفًا لا تسقفه إلا السماء. بل وصل به الحال من الهذيان بأن يسمع صوت زوجة جوار تخبره بمكان والده ما إن يسألها عنه، هكذا بكل بساطة..

.
.

الرحلة من السودان لمطار الملك عبدالعزيز تقارب الساعة، والانتظار في مطار الملك عبدالعزيز يقترب من الثلاث ساعات قبل وجهتهم الأخيرة ، والتي لم يحن وقتها إلا والدخان يخرج من أذني عزام نتيجة احتراق دمه.. فهو يكره الانتظار، ولا يطيقه. غير أنه مجهد لم ينم إلا لساعتين فقط، ولازال الوخز في كتفه مكان إصابته مستمرًا حتى بعد أن أخذ حبوبًا مسكنه..

لكن وما إن خرج من بوابة المطار وظهر له وجه عبدالإله يقف منتظراً قريبًا من سيارته، إلا واتسعت ابتسامة، يسحب حقيبته خلفه قبل أن يسلم عليه..
ليجد عبدالإله نفسه يربت على ظهر عزام عدة تربيتات، وهو يشعر به يشد من عناقه الرجولي بشكلٍ غريب وكأنه فارقه لسنوات وليست أيام بالكاد تكمل الأسبوع حتى.
ينظر لعبدالله باستنكار من فوق كتف الآخر، ليرى ابتسامةً واسعةً تزين وجهه..

وطوال طريق العودة كان عبدالإله يسأل، وعزام يجيب.. يتدخل عبدالله أحياناً إن شعر بتورط الآخر. إلى أن نزل لبيته، قائلاً بضحكة قبل أن يغلق الباب خلفه : استر ماواجهت ياعزام.
ليجيب عزام يبادله الضحكة بأخرى : الله يستر علينا وعليك.
يراقب ابتعاده حتى أغلق باب المنزل خلفه، ثم يستدير برأسه متنهدًا ليجد عبدالإله الذي لازال واقفًا ينظر له مضوقًا عينيه يقول بشك.. : في فمي ماء...
ارتفعت ضحكته : ياشيخ فكنا والله ماعندك ماعند جدتي.
ثم يفتح النافذة مستنشقًا هواء الليل البارد، يهتف براحة : عجّل علينا ياعبادي، أبي أمي.
تحرك عبدالإله أخيرًا، قائلاً بتهكمٍ ساخر : وزينوه اللي يبي أمه...
ثم يردف مهدداً بسبابته : مير اسمع، ذي آخر مره أسمح لك تسافر فيها لحالك تفهم ولا لأ! المره الجايه رجلي على رجلك... اشغلوني حريمك، تولجّوني ياخوي.. عزام مايرد!!!.. عزام مادق؟!!... تتوقع عزام صاحي ولا نايم الحين؟.. هو عزام ماقال متى بيرجع؟... حتى ميمي ذا البزقَه استلجّت،، سمعت اسمك بالأسبوع اللي فات لين كرهتك أعوذ بالله.
لتبرق عينيه، يضحك،، بخفّة روح وكأن له أجنحة تحلق به بعيدًا : الله لا يخليني.


شد عزام خطىً سريعة ناحية المنزل، بعد أن أغلق باب سيارة عبدالإله بقوة ليتردد صداه في سكون الليل،، ويهتف الآخر بانفعال : عمى،،، بشويش على الباب.
لكن عزام الذي وقف أمام الباب الخارجي ينتظر قدوم خاله ناحيته كي يفتحه بمفتاحه قال بإندفاع : بسرعة ياخوي تمشي على بيض أنت؟
تمهل عبدالإله بمشيته متعمدًا، بل أنه عاد الخطوات التي قطعها ما إن تذكر حقيبة عزام التي لازالت في سيارته.. ليأخذها ويعاود التقدم ببطء واستمتاع على ملامحه المغتاضه، ثم ترتفع ضحكته ما إن تقدم ناحيته، يسحب المفتاح من بين أصابعه قائلاً بحنق : أقول هات المفتاح بس.. يالميّت..
ويختفي من أمامه قبل أن يرمش حتى، منطلقًا بخطوات واسعة للداخل.

دخل عزام منزله، يدفع باب البيت بقوة ليُفتح على مصراعيه.. ينادي بصوتٍ مرتفع متجاهلاً الوقت المتأخر : يمه،،، شعاع... يا أهل البيت... وينكم ؟
لم يتوقع أبدًا بأن يكون الشوق قاتلاً لهذه الدرجة،، يشعر به يحرّف قلبه ويلعب به بين أضلعه..
وبينما كان عبدالإله الذي تبعه يسحب حقيبته، يوبخه بقوله : ليكون اشتغل عندك أنا؟ خذ شيل شنطتك وجع..
ثم يردف قبل أن ينطلق الآخر في خطى سريعة مبتعدًا عنه : بشويش لا توقف قلوبهم من الروعة .. تراهم مايدرون برجعتك..

عقد حاجبيه يلتفت له بعد أن كان يستعد للصعود للأعلى : بس أنا قلت لأمي وشعاع إني بوصل اليوم!
ليقول عبدالإله بمكر : داري،، قالت لي.. ورجعت شعاع تقول لي، ومن أمس وهم يعيدون ويزيدون علي يخافون أنساك بالمطار، لو عليهم خلوني أنتظرك هناك من ساعتها.. نفخوا قلبي وقلت لهم إن رحلتك تأجلت أبيهم يفكون عني شوي.

كانت شعاع في الصالة العلوية، تتمدد على أحد الارائك تنظر للتلفاز بملل وندم طفيف، ليتها فكّرت مليًا قبل أن تأخذ اجازتها الطويلة هذه..
تستيقظ الصباح مبكرًا فقد اعتادت على ذلك، وتبقى في المنزل الغارق بالهدوء لما بعد الظهر بكثير، فكلاً من عبدالإله وخالتها في عمله، ومريم في مدرستها.. لدرجة أنها تمسكّت بالصغيرة قبل أن تخرج، صباح هذا اليوم تتوسلها البقاء..: تكفين ميمي اقعدي معي اليوم..
ليعلق عبدالإله الذي كان يقف قريبًا من الباب يرتدي نعليه : خلي البنت تروح تشوف مستقبلها.
لكنها سحبت حقيبتها التي لا تحتوي إلا دفترًا واحدًا من على ظهرها، تلقي بها بعيدًا : أي مستقبل ياخالي البنت توها تمهيدي!! تشوفه بكرة لكن اليوم خليها تقعد معي.
ضحك بمزاجٍ رائق، ولو لففت العالم كله لن تجد شخصًا يستيقظ صباحًا بمزاجٍ عليل كعبدالإله : اليوم بيعلمونها كيف تكتب اسمي،، وأنتِ شايفه الاسم ماشاءالله مايحتاج, أطول من حياتي.. خليها تروح لا أبلش وأعلمها أنا بعدين..
لكنها لم تلقي لبلبلته بالاً، وانحنت تحمل مريم من على الأرض لتقابلها، تقول لها بخفوت ونبرة إغراء واضحة، تغرق وجهها بالقبلات بين كلمة وأخرى مما جعل الصغيرة تتلوى بين ذراعيها ضاحكة : ميمي إن قعدتي معي بنطلع نفطر أنا وأنتي، وبسمح لك تشربين كوفي المره ذي بس.. وبنسوي أظافرنا.. وبوديك المكتبة تاخذين كل اللي تبينه .
رفع عبدالإله حاجبيه مبتسمًا بتهكم وهو يرى ابنته تهز رأسها بالموافقة : وش ذا الاسلوب؟
ثم أردف بخبث يعلم أنها ستغرق في ثيابها منه : ليكون تستعملينه مع الصخرة!...
رآها تكرمش أنفها بإحراج، تشتعل وجنتيها بلونٍ زهريٍّ خفيف، تقول رغم خجلها الواضح : حبيبي عزام، اشتقت له والله .
حرّك عينيه بملل : أنتِ وصيتة تموتون بالمبالغة!! اتركوا الرجال يتنفس شوي ماصار له خمس أيام من سافر وأنتم هالكينه اتصالات، لو أخذكم معه أزين..
مطت شفتيها بشيءٍ من الامتعاض : والله إن البيت من غيره ماينطاق،، ماتعودنا عليه يغيب بالأيام الله يحفظه.
ثم أردفت ضاحكة ما إن تأفف بفقدان أمل فهي حالة ميؤوس منها، وخالتها التي خرجت عابسة أردى منها، تتبعه بعينيها يذهب حيث حقيبة ابنته الملقاه على الأرض : طيب الحين وش قلت؟.. أنا لو الجادل موجودة كان طلعت معها.. بس ماهي حولي و لولو ماهي فاضية لي.
ارتفع حاجبه وهو يرفعها، ويضع سيرها على كتفه : الجادل وعرفنا،، بس لولو وش عندها؟.
انتبه لعينيها التي التمعت بمكر، وأطراف فمها التي ارتفعت بخبث : دوام.
لم يتمالك نفسه وابتسم رغمًا عنه لسببٍ يجهله، ولكنها كانت حاجة ملحّه لم يستطع تجاهلها، يقول : ماشاء الله تشتغل!!
ثم عقد حاجبيه ما إن لاحظ أن حاجبها ارتفع وكأنها أمسكت به بالجرم المشهود ، فسأل بحيرة وارتباك مفاجئ : وش ذا الوجه الشيطاني...ههه؟
شعاع بضحكة مشاكسة : والله وصرت تمون وتقول لولو..
ضحك بعد أن استوعب، ترتفع ضحكته وهو يراها ترسل قبلاتٍ هوائية مغمضةً عينيها بهيامٍ ساخر : الله يعقلك وأنا خالك..
ثم أردف يدفع الحقيبة بالفراغ الصغير بين جسدها وجسد ابنته، يتصنع عدم الاهتمام : وش تشتغل؟
انحنت تنزل مريم أرضاً عندما كادت أن تقع : إدارية بمدرسة..
اتسعت عينيه بانبهار : حكومي؟
ضحكت : منين يا حسرة!! مدرسة أهلية وماسكة ثلاث مراحل كارفينها كرف الضعيفة..
ثم غمزت : نلقى عندك واسطة توظفها حكومي؟.
ليقول مبتسمًا يرفع حاجبيه : أنا لو عندي واسطة كان نفعت بها نفسي.. بس دامها بمكان مو مختلط خليها تطقطق معهم لين الله يرزقها.
ضوقت شعاع عينيها، قائلةً بتهكم : أنت وتفكيرك المنغلق..
لكنه تجاهلها، قائلاً بحزم : أبي أرجع وأشوف ميمي كاتبه اسمي كله، لسابع جد... فاهمة؟
اتسعت ابتسامتها وهي تدخل سير الحقيبة بكتفها، ببشاشة : ازهل يابعد قلبي أنت.
انحنى مقبلاً رأس ابنته، وابتعد ناحية الباب... ثم عاد بسرعة : إلا تعالي بسألك..
شعاع : وشو؟
فقال متصنعًا الجدية : حلوة؟
ابتسمت : مم تق.....
ليقاطعها بملل : ايه أقصد لولوة.. حلوة؟
مررت سبابتها على خدها، من تحت عينها نزولاً للأسفل : اوف..
بانت مطاحنه من وسع ابتسامته : صدق؟
هزت رأسها بتأكيد : والله،، مزيونة...

فرك كفيه ببعضهما، يقول بنبرة مشاكسة وضحكة خبيثة : اف تحمست،، شكلي بطلب عبدالله يرسل لي الحين أجدد صوره له..
ضحكت : ماتشبه عبدالله أبدًا .
استوت ملامحه بجمود : تستهبلين على راسي؟.. شلون؟ أذكر انهم توأم..
فأردفت لازالت تضحك : توأم بس ماهو متطابق.. كل واحد شكل.
التمعت عينيه ، واتسعت.. يزفر براحة : أشوى ريحتيني،، ماني ناقص أصحى على وجه عبدالله كل يوم ..
ثم ابتعد مجددًا، جادًّا هذه المره يقول بصوت مرتفع أثناء خروجه : يلا سلام أنا رايح.. ومثل ماوصيتك،،، الاسم كامل.
تابعت شعاع ابتعاده، تشعر بسعادته رغم تصنعه الثقل، متأكدة من أن لولوة ورغم اختلاف الشخصيات ستكون خير زوجة له.. وهو بالتأكيد سيكون العوض لها بعد تجربة زواج قصيرة وفاشلة... تهمس بمودة ما إن اُغلق الباب : الله يحفظك.
.

.

 
 

 

عرض البوم صور وطن نورة ،،  
قديم 01-03-20, 09:43 AM   المشاركة رقم: 245
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2018
العضوية: 330628
المشاركات: 159
الجنس أنثى
معدل التقييم: وطن نورة ،، عضو على طريق الابداعوطن نورة ،، عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 176

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
وطن نورة ،، غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 




.

لو كانت شعاع تعلم بأن عزام سيسافر في منتصفها لما استعجلت بها واخذتها كاملة.. فتأثير غيابه واضح رغم أنه لا يتواجد في المنزل أغلب الوقت، يعود في أوقات متأخرة وإن عاد في وقتٍ أبكر قليلاً, بقى صامتًا سارح الفكر. لكنه وعلى الأقل موجود.. تستأنس به.. تسعد بقربه ويكفيها أن يكون حواليها كي تشعر أنها بخير..

كان الخدر بادئاً بالسيطرة عليها، تنظر للشاشة أمامها بأجفان ثقلت , تغلق جميع الأنوار ولا إنارة سوى تلك المنبعثه من شاشة التلفاز منخفض الصوت .. قبل أن يصلها صوت ارتداد الباب بالحائط، ثم بصوته ينادي.. مما جعلها تقفز واقفة، تعقد حاجبيها بتحفز.. تسأل بشك : عبادي؟؟

تحركت شعاع من مكانها بخطى واسعة، ناحية الدرج ما إن سمعت صوتين بالأسفل .. بضربات قلبٍ مجنونة، غير مصدقة.. وقبل أن تصل له، وصل لها.. وبان وجهه، بعد أن صعد الدرج بسرعة يأخذ الدرجتين في قفزة، لتتسع الابتسامة التي كانت تجمّل وجهه ما إن وقعت عينيه عليها، يسمعها تشهق بصدمة : عزام!!!
ولم يشعر بشيءٍ بعدها سوى بذراعيها حول عنقه، تشد عليه في عناقٍ قوي.. يبادلها بمثله.. يجد نفسه يغمض عينيه غارقًا بها، يرفعها له.. مستشعرًا وجودها بين يديه.. يهمس بلهفة قريبًا من أذنها : هلا.. هلا.. هلا..
ثم يضحك بخفوت ما إن شدت عناقها، حتى ظن بأنه سيختنق.. يشعر بأنفاسها المحبوسة في صدرها وترَدد صداها عالياً.

فكّت عنه بعد دقائق، فقط لأنها سمعت صوت عبدالإله الذي لازال يقف بالأسفل : دستور ياللي فوق دستور... مو لأن النور مطفي تستغلون الوضع أنتم الإثنين . سلامات،، شوية احترام لأهل البيت على الأقل.. شوية ذوق ياهوه.
ضحكت بإحراجٍ تغرق بعبرتها، تشعر بيده التي لازالت حول خاصرتها تجعلها قريبةً منه، وكأنه لا يقوى ابتعادها عنه.. وعينيه تتأمل وجهها بضميرٍ وابتسامة واسعة.. متجاهلاً عبدالإله وتعليقه، يسأل بخفوت : وش علومك؟
لتقول بنفس اللحظة التي سأل بها.. : سلامة الأسفار حبيبي..

ضغط بخفه على خصرها بعد أن ضحكت، تتكركر بضحكتها كالثملة. تقول وعينيها اللامعتين تتعلق به : الحمدلله بخير..
وفكرت وهي تتأمله بابتسامة عريضة "والله الحين صرت بخيييير" ،
تجد نفسها تهيم في تفاصيل وجهه، يختفي كل شيء حولها ولا تبقى إلا ابتسامته، تشعر بدفءٍ وحميميةٍ لم تشعر بها من قبل وهي تنظر لعينيه الحادتين، والتي لانت أطرافها مبتسمة ما إن تلاقت بعينيها..
أخذ عزام نفسًا عميقًا أحيَا قلبه، ولم يدرك بأنه كان ميتًا من الشوق حتى رآها أمامه.. ترتدي بيجامتها الواسعة وتجمع شعرها بظفيرة طويلة تستريح على كتفها، جعلته يتوق لغرس أنفه بين خصلاتها.. لا شيء على وجهها سوى تلك الابتسامة التي شعر بها تخطف أنفاسه،، لكنه كان متماسكًا قدر المستطاع، يسأل هامسًا عوضًا عن الأماني.. محرراً خصرها، ويتشبث بذات اليد بأطراف أصابعها ضاغطًا عليها : وين أمي؟؟
أخذت شعاع نفسًا عميقا براحة،، والاحساس بالإحراج من عينيه التي تلتهم وجهها يكاد يقتلها : بغرفتها .

تقدم خطوة، لازال ممسكًا بأطراف أصابعها، وكأنه نسيها بين أصابعه... كان ذلك قبل أن يسمع صوتها آتيًا من بعيد، تسأل : ما كأنه صوت عزام اللي كان ينادي ياشعاع؟
ليقول ما إن ظهرت أمامه، ترتدي شرشف صلاتها وترفعه من الأسفل كي لا تقع،، ناسيًا نفسه وكل شيءٍ حوله : إلا عزام بشحمه ولحمه .

كادت ولوهله أن تشرق بأنفاسها التي تدافعت بقوة، تقول بلهفة وقد أشرق وجهها بابتسامة واسعة : عزام....
ليلتقيها بنصف طريقها إليه، يمسك بذراعيها عندما كادت أن تتعثر بشرشفها.. يرفعها قائلا بضحكة: بسم الله علي...
لكنه لم يكمل جملته ما إن اعتصرت عظامه بعناقٍ قوي، يسمع صوتها يهمس له بحبور : الحمدلله على السلامة يابعد قلبي أنت،، حي ذا الزول وش المفاجأة الحلوة ذي!!
انزل رأسه يقبّل كفّيها، وخديها، وجبينها.. قبل أن تعاود شفتيه تقبيل كفها الذي شدت أصابعه على يده.. أكثر من مره, وكأنه يخشى أن تختفي من أمامه، وما إن رفع رأسه إلا واستقبله حضنها مجددًا، بعناقٍ قويٍّ آخر أنساه كل ألمٍ ألمّ به.. يجد نفسه يستنشق رائحة المسك التي تنبعث من شرشفها، يغرق ذائبًا في أحضانها دون أن يخجل.. يعود سنينًا من عمره للخلف.. ولولا الأعين المتلصصه التي يشعر بها على ظهره، لكان انفجر باكيًا على كتفها من فرط سعادته برؤيتها مجددًا..

كانت صيتة لازالت بشرشف صلاتها، بجانبها عزام وعلى طرفه الآخر تجلس شعاع، أقل التصاقًا منها.
مجيبًا على اسئلتهن التي لا تنتهي، مستمتعًا بالاهتمام وكأنه الرجل الوحيد بالعالم.. يقبل كف أمه ما إن لامست خده، تقول بحنو : ياروحي روحك، كلها أسبوع وغديت لحم على عظم.. وسمّرت!!
ليقول عزام والتصريفة خرجت بسلاسة : لقمتهم الله يعز النعمة, ماتنوكل يمه.. وشمسهم ياساتر.. باردة ماترحم تحس بها عمودية على راسك.

ليقضي نصف ساعة أخرى.. قبل أن تقف صيتة رغم أنها تتمنى ألا تبتعد عنه، تقول وهي تمسح على شعره وتلاحظ احمرار عينيه ومقاومته الواضحة للنوم : قوموا ارقدوا تأخر الوقت وبكرة وراكم صلاة جمعة..
ثم رفعت عينيها لشعاع تقول بمودة وهي ترى تورد خديها : ها الليلة بتنامين عندي بعد؟ ولا جا عزام خلاص...
ضحكت تحك جانب رقبتها، تقول بإحراج : لا خلاص..
ذهبت أمه، يتبعها عبدالإله الذي احتضن كتفيها ما إن بدأت تعاتبه بابتسامة واسعة : لو كنت قايل لي أنه بيجي كان سويت له عشا على الأقل..
يقول ممازحًا وهو يلاحظ تأثير وجود عزام على وجهها، بل تأثيره على هذا المنزل وساكنيه ما إن دخل.. : مجرد جوكي ياحبي.

بقى عزام وشعاع الجالسة بجانبة على أحد أرائك الصالة العلوية.. يسأل بعد أن لف ذراعه حول كتفها، يقربها منه : أجل مقضيتها نوم عند أمي؟
ثم يردف هامسًا بضحكة : تخافين تنامين لحالك؟
لتقول وتورد وجنتيها زاد : لا والله، بس عجزت أنام وأنت منت موجود.
خرجت أنفاسه بضحكة خافته، يقبل جانب رأسها قبل أن يقف، يوقفها معه.. لتتحرر من يده بخجلٍ واضح.. تتقدمه وتسحب حقيبته التي وضعها عبدالإله عند الدرج خلفها.

،،

خرج عزام من دورة المياة، بعد أن بدّل ثيابه الغير مريحه بثياب نومه، بنطال رياضي قطني فضفاض وتيشيرت.. وبعد أن استبدل ضماده اللاصق بآخر.. والذي وجد فيه بعض قطرات الدم التي نزفت من جرحه، فهو لم يبرأ بعد.

يبتسم لشعاع ما إن التقت عينيها بعينيه من مرآة التسريحة، لتبادل ابتسامته بأخرى أجمل.. تقف تعطيه ظهرها، متحررة من ظفيرتها هذه المره، ليرتاح شعرها على ظهرها كأمواجٍ شهيّةٍ من العسل والكراميل .. لازالت ترتدي بيجامتها الحريرية السوداء الناعمة وتبدو في منتهى الجمال والعذوبة.. مما جعل قلبه يخفق بطريقةٍ غريبة، مريبة.. كمراهقٍ يرى شيئًا حذره أهله من رؤيته..

بدأ يتحرك بالغرفة بارتباكٍ لا يعلم سببه.. يضع ثيابه التي كان يرتديها في سلة الملابس.. يأخذ حقيبته ويضعها على السرير قبل أن يفتحها.. ثم يتحرك من أمامها ليجد شحاطة شعاع من الفرو في منتصف الغرفة، ليرتديها ويمشي بها يسحب خطوته لصغر مقاسها مقارنةّ بقدمه قبل أن يضعها قريبًا من الباب.. بشكلٍ مرتب....

تابعت شعاع التي كانت تضع مرطبًا على شفتيها تحركاته بعينيها،، مستغربة... يذهب هنا وهناك، يتنقل كالنحلة وكأنه يبحث عن شيءٍ ما..
استدارت تسند ظهرها على التسريحة خلفها، تتكتف وتقول أخيرًا بحاجب مرفوع : وش تسوي عزام؟
طارت عينيه وحاجبيه بعد صوتها وكأنه للتو توعّى بوجودها، يقف أمام حقيبته يفرغها من ثيابه المتسخة.. وكأن هذا وقته!!
طيّب،،
عزام يعرف أنه ليس وقته.. يقسم أنه يعرف، لكنه يشعر بتوتر غريب يريد أن يبدده.. فلا معنى ولا مبرر له, فهذه ليست المره الأولى التي يختلي فيها مع شعاع بمكانٍ واحد، يُغلق عليهم باب.. فهي زوجته لما يقارب السنتين.....
سنتين أخذها بالطول والعرض!!!!

المشكلة أن عزام عاش الحب مرّةً وتاب،، خاض التجربة بعمق، بشغف،، ورغم صغر عمره وقتها, إلا أنها أخذت منه ما أخذت.. كانت مختلفة تمامًا،، لا تشبه شيئًا قد يتحمله إنسيٌّ على هذا الكوكب.. صعبٌ عليه تخطيها مهما حاول ذلك, فقد كان صغيرًا بما يكفي كي تترك تجربة فاشلة كهذه ندوبها وآثارها على جسده الغض.. اكتفى منه، ليقضي سنوات شبابه بقلبٍ مغلق.. متحجّر لا يعرف طريقًا إلى الرقة.. يستنكر أي نبضة قلب مختلفة عن سابقتها.. يتجاهلها،، ينهرها فلا يقع في نفس التجربة مرةً أخرى.
حتى شاخ قلبه بين جوانحه ومات..

يشعر بنوعٍ من الغرابة في هذه اللحظة، بعد غياب أيام لا تكاد تذكر.. تلقى في أحدها رصاصة..
يقف حائرًا مستنكرًا أمام زخم المشاعر هذا،، لم يعتد عليه... معها على الأقل.. لا يعرف كيف يبدأ حديثه.. يتمنى أن يصرخ فقط "ضميني شعاع.. شدّي علي،، فقد كدت أموت، كنت سأرحل.. دون عناق، دون وداع، دون أي شيء" .

استدار بجسده ينظر لها، يوبخ نفسه فهذا الارتخاء ليس له.. لا يناسبه.. وليس من طبائعه.. هو رجلٌ كبير قارب على أن يبلغ الثلاثة والثلاثين من عمره وليس بمراهقٍ صغير..
لكنه ما إن رأى حاجبها المرفوع وابتسامتها الماكره ووقفتها تتكئ بثقلها على التسريحة خلفها حتى وسال لعابه.. ليبتلعه قبل أن يُغرق الأرض تحته ويبتسم بثباتٍ ظاهري.. وكأنه جبل.

ضوقت شعاع عينيها تنظر له بتفحص،، تقضم شفتيها بتفكير، إلى أن بدأ يتقدم ناحيتها.. بخطوة تتبعها أخرى... وأخرى... وأخرى... لتعبث خطواته بمؤشراتها الحيوية كلها، ويتهاوى قناع المكر الذي كانت ترتديه عن وجهها.. تتعلق عينيها به وتدفع جسدها بعيدًا عما كان يسندها لتستقيم واقفة .. بتوجس، وربكَة.. حتى وقف أمامها لازال مبتسمًا بهدوء..

اشتعل وجهها بحمرة طاغية ما إن لاحظت سكونه، ونظرته التي تسلطت عليها بتأملٍ فاضح.. ثم وقوفه كالصنم أمامها حتى بعد مضي دقيقة كاملة من الصمت والنظرات الدائخة ..

ارتخى جفنيه بخدرٍ واضح ما إن أصبح على مقربةٍ منها، وكأن حركة أهدابها البطيئة لم تكن إلا تهويدةً أسكنت عقله، وقلبه.. يأخذ نفسًا عميقًا محملاً برائحتها التي لاتنم إلا عن امرأة رقيقة.. شديدة الرقّةِ في الواقع،، وبشكلٍ موجع..

تغلبت شعاع على خجلها، فكما يبدو أنّ عزام نام واقفًا من فرط تعبه.. فهمست قائلةً بشفافية بعد أن سمعت تنهيدته، وشعرت بها وكأنه سحب النفَس من رئتيها.. تضع كفها على صدرها، ترتعش بتوترٍ طبيعي : أحس قلبي بيوقف من الفرحة.. زين ما مت.. الله يسامح عبادي.
ضحك، يشدها ناحيته بخفّه بعد أن لفّ ذراعه خلف عنقها، دون أن يعلّق فلسانه قد رُبط من عذوبة تعبيرها..

لفت يدها حول خصره، تحتضنه وتسند ذقنها على كتفه، تقول بهمسٍ ومودة مغمضةّ عينيها : ،، اشتقت لك..
ابتسم عزام، يتحامل على نفسه والألم البسيط الذي سببه ارتطام ذقنها بجرحه، يقول بهدوء : ....وأنا اشتقت لك، بعد.
تابعت شعاع بتنهيدة ما إن أحسّت بتسارع أنفاسه : كيف الصين؟ حلوة؟
عزام بإندفاع : مخيسة،، تجيب المرض والسلال.
ضحكت برقّه، تبتعد عنه وتنظر لعينيه، ترفع يدها وتمررها على عارضه... تقول بهمسٍ ودود :*أفا، يعني ما انبسطت؟
تبسم لها قائلاً بصدق : لا والله أبد، كنت أفكر فيكم، أنا هناك وعقلي هنا معكم.
ضوقت عينيها تنظر له بشك : مم,, معنا؟!!!...... حدد مَن اللي تقصدهم بمعنا؟
ليقول ببراءة يتخللها مكر، يضوق عينيه بتفكير ومزاجٍ رائق : أمي ، عبادي وميمي.. جدي وجدتي وعمي خالد وعمتي و وخالتي مشاعل.. أهلي....
مطت شفتيها تقول بتبرم وتضغط على خصره الذي لازال محاصرًا بين أصابع يدها الأخرى : وأنا؟
أخفض بصره لملامح وجهها.. يبتسم لعبوسها.. يقول بخفوت : لا أنتِ غيير....
سبّلت شعاع بعينيها، تهمس بصوتٍ أبح : كيف غير؟...
ليجيب عزام وقد اتسعت ابتسامته حتى تحولت لضحكة خافته : كل ما جا الليل تغلّقت وتحسّبت عليك وعلى عبدالله.
ضحكت بدهشة : ليه؟
داعب أرنبة أنفها بسبابته، يقول والضحكة في صوته تحولت لنبرةٍ ودودة حانية : عودتيني لا تقلبت بنومي أشوف وجه يفتح النفس، ومن سافرت كل ماقلبت على يميني قابلني عبدالله فاتح خشته.... وصدقيني،، كان منظر ما أتمناه لعدّوي حتى.

زم شفتيه يحاول أن يمنع ابتسامته الواسعة من أن تتسع أكثر فيتمزّق خديه، يسمع ضحكتها المرتفعة، لا بذخ فيها ولا ترف خصوصًا بعد أن أصدرت صوتًا كالشخير من أنفها مما جعلها تضع كفها على فمها بقوة وكأنها تصفعه..

ضحك بمودة وخفوت وهو يرى اتساع عينيها المذهولة، بإحراج، ناقمة على نفسها.. ليقول وسرعان ما استعاد رباطة جأشه بعد الشد والجذب الحاصل مع ذاته قبل دقائق, هاتفًا لنفسه بفخر "والله إنك كفو.. وحش.. صنديد.. أررر".. : دخلي يدك بجيبي.
ارتفع حاجبيها، وتحول الذهول بعينيها لاستنكار حقيقي، تقول ببلاهه بعد أن أبعدت كفها بالحركة البطيئة : أي جيب؟

ضوّق عينيه وهو يرى الاحمرار يغطي وجهها كاملاً، ليفهم أي الأفكار طرأت على عقلها في هذه اللحظة.. يستغل ذلك ويسند يده اليمنى على حافة التسريحة خلفها.. مما جعلها تعود للخلف خطوة أو اثنتين.. تجد نفسها محاصرةً بين جسده الذي مال عليها والطاولة خلفها.. ليقول بعد ذلك بخبث ومزاج رائق يمرر سبابته بخفه على خدها : الجيب اللي فوق أو الجيب اللي تحت.. اللي ودّك......
فغرت فمها بدهشة، ترمش بأهدابها لثوانٍ قليلة تحت نظراته المتفحصة.. تمرر لسانها على شفتيها بارتباك قبل أن تحرّك يدها ببطئ تنوي جيب بنطاله.. مما جعله ينفجر ضاحكًا بهلع،، يعيد خصره للخلف قبل أن تصل إليه : يهبْ ياوجهها،، ماصدقت!!!!

أدركت أنه يتسلى بها، فلكمته أسفل خصره مما جعل عينينه تتسع كاتمًا أنفاسه، وما إن نوت تكرار المحاولة حتى وأمسك بمعصمها، يقول بحزمٍ ضاحك : عيب يابنت!!
سحبت يدها من قبضته، تجمع شعرها على كتفٍ واحد تشعر بأنها تغلي من فرط الإحراج.. تقول بتبرم، وتوتر : وش الظرافة ذي بسم الله عليك؟
ضحك : طيب دخلي يدك بجيبي..
ثم يردف بهمسٍ متعمّد،، وبطء... بعد أن تكتّفت تتصدد بوجهها عنه وترمقه بطرف عينها : اللي فوق..
ضربت الأرض بقدمها معترضه، تقول بزعل رغم أنها مدت يدها لجيبه العلوي : خلاص عزام... ستوب...

ثم سكتت.. اُخرست.. بفمٍ مفتوح قبل أن تكمل تحلطمها ما إن أخرجت ماكان فيه، علبة صغيرة سوداء اللون.. تنظر لها قبل أن ترتفع عينيها ببطء،، تتعلق بعينيه المبتسمة، يقول بهدوء وبساطة، وتوتر -نعم عزام متوتر الآن، متوتر وبشدة.. ولتذهب الإثنى وثلاثون عامًا من الخبرة مع الريح- : جبت لك هدية...

كانت الصدمة الواضحة على وجهها كالصفعة على وجهه، تبيّن له مدى تقصيره معها فالمرأة تكاد تموت من دهشتها.. ليعرف وبحسبة بسيطة في عقله الصدئ أنه وخلال السنتين الماضية لم يهدِها شيئًا أبداً.. تمر الأعياد والأيام التي تحمل ذكرى تخصهم ولا ترى منه خيطًا أحمرًا... على عكسها التي كانت تفاجئة في كل مرة بشيءٍ مختلف،، عطر.. قلم.. كبك.. محفظة نقود.. ميدالية مفاتيح.. مسبحة... وغيرها الكثير.. بمناسبة أو بدون..

شعر بشفتيها تحط على خده، تقبله بهدوء وتطيل في قبلتها.. تُبعده من أمام رفوف عقله المغبّره.. تخرجه من أرشيف حساباته الذي فتحه متأخراً... ليجد أن قلبه ذاب كقطعة سكر بصوتها ما إن همست بامتنان واضح : يابعد روحي أنت.. الله لايخليني..

تبسّم بأسى وهو يشعر بقبلةٍ أخرى على خدّه : طيب شوفيها أول يمكن ماتعجبك.
لتقول تشد عليها قريباً من صدرها، بعينين لامعتين تكاد تنطق من فرط الحب الواضح فيها : عاجبتني من قبل لا أشوفها.. يكفي انك ذكرتني.... شكرًا حبيبي، الله يسعدك ويغنيك من واسع فضله..

سحب العلبة من بين أصابعها، يفتحها ويخرج منها خاتمًا كان قد اشتراه من محل أنتيكه أثناء تجوله في الخرطوم هو وعبدالله بعد خروجه من المستشفى..
رغم اعتراض عبدالله : يارجّال فكنا بلاها الطلعة ذي لا يجي جرحك شي.
لكنه أصر على رأيه : و جرحي وش حوله؟ امش أقل شي نسرّي الوقت...

ليسمع لها شهيقًا لم تطلق زفيرًا بعده، تتسع عينيها باندهاش وهي ترى خاتمًا من الفولاذ والذهب المشغولين بطريقةٍ معتقّة، يحمل في أعلاه حجرًا بيضاوي الشكل من الجيود الطبيعي تتلألأ بلونٍ بنفسجّي داكن وعميق. رغم بساطته إلا أنه كان مفعمًا بالفخامة والجمال..

تابعته بعينين تلألأت مع تلألؤ القطعة أعلى الخاتم، يدخله في بنصرها، قبل أن يسحبه ليضعه في الوسطى، ثم الخنصر، والسبابة.. لينتهي به المطاف واضعًا إياه في ابهامها، ولايزال كبيرًا عليها..
ضحكت بعبرة واضحة وهي ترى ابتسامته الكبيرة المتورطة، وعينيه الواسعتين بشغب.. : شكلك جايبه على مقاس اصبعك!
ليزفر ضحكته، قائلاً : لا والله قايس على أصابع عبدالله..

.


لا يذكر كيف نام بالأمس، ومتى... لا يتذكر إلا كف شعاع المتمددة على ظهرها بجانبه بعد صلاة الفجر، مرفوعًا في الهواء، تتخلل أصابعها الإضاءة الصفراء الخافتة جدًا في السقف، نساها مفتوحةً بعد أن عاد من المسجد.. لا طاقة لديه للقيام من مكانه وغلقها بعد أن تدثر بالأغطية. يطلب منها ذلك بنبرة خدرة : قومي طفّي النور..
فقالت على مضض : طيب، شوي وأقوم..
لازالت تتأمل الخاتم والذي لا تلبث أن تثبته في مكانه إلا وأخذ دورةً كاملةً حول بنصرها، تردف بنبرة مفتونه قبل أن تقبله : اووف ياعزام، يهبل.. يطيّر العقل...

ليستيقظ الآن من نومه فاتحًا عينيه بقوة،، مبتسمًا باتساع ما إن أخذ نفسًا وتسللت لأنفه رائحة مألوفة.. رائحة بيته.. غرفته.. عطر والدته الذي سرقته شعاع في تلك المره.. والتي بررت تحرك سبابتها بتأكيد مع كل كلمة : استعارة.. ماهي.. سرقة..
-هكذا تقول وتدّعي- .. وأصبح لا يفارق درج كومدينته.

أبعد الغطاء عنه، لا أثر لشعاع في الغرفة، وساعة هاتفه الموصول بالشاحن قريبًا من رأسه تقول أنها التاسعة.. صباح يوم الجمعة..
تحرك من مكانه، لتلامس أقدامه البلاط البارد، قبل أن يقف عليها، يمشي وكأنه بأجنحه.. يطير ويشعر بخف عظامه.. مغلقًا باب دورة المياة خلفه..
استحم استعدادًا لصلاة الجمعة، بحذر كي لا يلامس جرحه الذي عاد ينزف قليلاً.. ليبدل الضمادة اللاصقة بأخرى.. ويقف أمام المغسلة بصدرٍ عاري ما إن انتهى..يرجع خصلات شعره المبتّله للخلف.. يجمع شفتيه ليصفّر لحنًا بروقان؛ حالة من السعادة والراحة النفسية تنتابه.
يفتح ماكينة الحلاقة لينتشر صوتها 'ززززز' في المكان المغلق.. يشذب شعر شاربه، ويخفف من كثافة عوارضه.. وما إن وضع جل الحلاقة كي يحلق بعض الشعيرات، حتى و وصله القرع المرتفع على الباب، وصوت الصغيرة يسأل : عزام أنت داخل؟
تفرقت شفتيه بابتسامة واسعة، يغسل وجهه مكنسلاً فكرة الحلاقة عن بكرة أبيها قائلاً بصوت مرتفع : دقيقة ميمي، الحين بطلع..
جفف وجهه.. قبل أن يرتدي فانيلته التي أدخلها معه منذ البداية كي يرتديها قبل خروجه خوفًا من أن تكون شعاع بالغرفة وترى ما على كتفه.. وارتداها الآن كي لاتَفزع الصغيرة..
فتح الباب.. لتتعلق به بسرعة، تلف ذراعيها القصيرين حول خصره بحلقة غير مكتملة.. فانحنى يرفعها.. ورغم خف وزنها وصغر حجمها.. إلا أنه شعر بألمٍ في كتفه يصرخ بأعلى صوته.. تجاهله مقبلاً خدها بقوة،، مرة ومرتين وثلاث.. لتمسح خدها بتذمر : يع عزام يع...
ثم احتضنه بقوة، ليقول ضاحكًا : هلا بأميرة البنات وشيختهم..
همست في أذنه لازالت تطوق عنقه : وين هديتي؟
ليقول : ما اشتقتِ لي؟
لتعاود الهمس : إلّا،،، وين هديتي؟
عاد يقبل خدها ضاحكًا،، قبل أن ينزلها أرضاً بحذر يتمنى فصل يده اليسرى عن جسده ، والتي بدأ يضغط عليها بكفه الآخر.. يشير برأسه لكيس أبيض يطل من حقيبته المفتوحة أرضاً : هذيك..
ركضت ناحيتها،، واتجه هو حيث وضع كيس أدويته البارحة ، ليأخذ مسكنًا للألم فالوضع خرج عن السيطرة.. لكنه تشبث بمنشفته حول خصره بقوة وهلع عندما كادت أن تقع، ما إن احتضنته مريم من الخلف بقوة.. تصرخ قبل خروجها بيدها كيس بداخله دمية كبيرة كما طلبت بالضبط : ثنكيو، أحبك مره مره..

وبينما عزام رفع حاجبه باستنكار من "ثنكيو" مريم في الطابق العلوي؛ فقد تطورت منفوحة.. كان المطبخ بالأسفل كخلية النحل تمامًا.. تتحرك فيها النحلتين صيتة وشعاع بسرعة، حركة دؤوبه لا تتوقف، يقمن بكل شيءٍ بأنفسهن.. لتجد العاملة نفسها تقف في منتصفه, تتكتف فلا عمل لديها..

كان ذلك حتى وصل لمسمعهن الصوت الصباحي الرائق : الله يصبّح شيخات بن ساجر بالخير.
لتخرج العاملة بسرعة ما إن دخل، فأول درس تعلمته من شعاع كان أن تترك المكان فورًا في حضرة أي رجل من رجال المنزل، فكما يبدو أن (المدام) تغار..
التفتت شعاع التي كانت تقف أمام أبريق الشاي بسرعة، وصيتة التي تقف أمام باب الثلاجة كذلك،، قائلةً بلهفه : الله يصبحك بالنور والرضا والسرور،، يازينه من صباح ذا اللي تصبّحنا فيه على صوتك.. كيف أصبحت وأنا أمك؟ عسى ارتحت؟
اقترب منها مقبلاً جبينها وكفها : الحمدلله يمه،، الواحد مايرتاح إلا في بيته.

شهقت شعاع المتشاغله بالنظر ناحيته ما إن فار الشاي وانسكب، لتغلق النار تحته وترفع الابريق عاليًا.. تعاود وضعه مجددًا بقوة كادت أن توقعه ما إن شعرت بيده التي لامست خصرها، وشفتيه التي قبلت خدها يقول هامسًا قبل أن يبتعد : انتبهي..

اللئيم، كاد أن يتسبب لها بعاهه مستديمة، وحروق من الدرجة الثالثة لن تمحي أثرها مئة جلسة ليزر... وبالأخير يقول بكل برود انتبهي!!

جلس عزام على أحد كراسي الطاولة في منتصف المطبخ، يتحدث مع والدته في مواضيع مختلفة.. يسألها عن الجميع وكأنه اختفى لأشهر وعاد للتو..
ينظر لشعاع التي قالت ما إن انتبهت لوجهه : نعيمًا..
ثم تردف ممازحة : ايه كذا،، الحين توّه طلع وجهك.
يقول بابتسامة ممشطًا شاربه بأطراف أصابعه : الله ينعم عليك..
.

التصقت شعاع بظهر خالتها، تهمس بتوجس ترمق عزام اللاهي بهاتفه بطرف عينها : خالة..
لتقول صيتة باندماج في محاولة لقلب البيض في المقلاة دون أن يتقطّع : سمي..
شعاع بذات الهمس : أمانة طالعي عزام ..
استدارت بسرعة، تنظر له بقلق : وش فيه؟
شعاع بارتباك حقيقي : ما أحسه طبيعي من أمس وحركاته تروع.
انفجرت صيتة تضحك ما إن أحست بقلقها.. تقول وهي تتأمله بود : عزام وش مسوي بشعاع أنت؟
رفع رأسه، يعقد حاجبيه باستنكار.. ناظرًا لشعاع التي كانت تنظر له بوجهٍ أحمرٍ مشتعل، ثم أمه وملامحها التي كانت تنطق رقّة : وش مسوي؟....ماسويت شي.
لتتابع صيتة لازالت تضحك بسعادة.. سعيدة، سعيدة، سعيدة جدًا اليوم : مدري عنك!! البنت مرتاعة..
ثم أردفت مشاكسة، تقرب شعاع لها في حضنٍ جانبي : بسم الله عليك يمه..

دخل عبدالإله المطبخ ما إن بدأت شعاع بتصفيف أطباق الفطور على الصينية الكبيرة، ليعلق بذهول ما إن وجد عزام لازال جالسًا في مكانه : بسم الله الرحمن الرحيم!! يالله ياكريم لطفك بعبادك.. هذا عزام ولا عيني فيها شي؟
ليضحك الآخر دون أن ينظر له : أنا أقول ارجع ارقد أحسن..
فقال عبدالإله بابتسامة واسعة يأخذ حبة زيتون ما إن مرت شعاع وصينيتها من جانبه : يابوي مستحيل تكون أنت ليه ما أعرفك؟ ذا أكيد تقليد صيني درجة أولى.. وين عزام الأصلي؟

فرشَت شعاع سفرةً على الأرض، وضعت عليها أطباق الإفطار والتف الجميع حولها..
حرصت صيتة على أن يجلس ابنها بجانبها، ركبته بركبتها.. تمد لقمة لفمه من وقتٍ لآخر، تتحسس كوبه وتزيد له من الشاي إن أحست بأنه برد ولو قليلاً..
كانت الأحاديث الهادئة تدور بينهم بمودة، حميمية طاغية تلفهم والفرق بعودة عزام بعد الغياب القصير جدًا واضح، فهذه المرة الأولى التي يفطرون فيها.. فكيف بهم مجتمعين معًا على هذه الوجبة المنسيّه؟.

تبسمت صيتة بحنو وهي ترى عبدالإله يلقي بعروسة مريم الكبيرة بعيدًا عنهم، والتي كانت تضعها على أقدامها وتحاول إدخال حبة زيتون في فمها الشبه المفتوح، موبخًا ما إن عبست في وجهه : شوية احترام للنعمة لاحقة على اللعب..
ثم أردف موجهًا حديثه الناقم لعزام : من وين جبتها ذي؟ شف عيونها شلون قايله!
فقال عزام بسخرية واضحة : عاد على حسب علمي العرايس اللي مثل ذي ،، أعوذ بالله... يسكنونها!
اتسعت عينيه، متجاهلاً مريم التي أخذت لعبتها وصعدت للأعلى بإشارةٍ لزعلها، ثم تلحق بها شعاع كي تراضيها، قائلاً بانفعال : دام أعوذ بالله يسكنونها جايبها معك ليه؟ ناقصين حنا؟ أصلاً شف كيف تطالع، أكيد مسكونه..
ثم هتف بصوتٍ عالي : إن شفتها مره ثانية يا ويلك ياميمي،،، ابعدوها من قدام وجهي..
عزام بابتسامة : استلج علينا الشايب وش يسكته الحين؟
ثم يتابع : والله عاد هي طلبتني قالت جب عروسة أكبر منّي.. اردها يعني؟
ضحكت صيتة بخفوت عندما وضع شقيقها لقمةً في فمه بعبوسٍ واضح، متجاهلاً تبرير عزام، وقالت فجأة بدون أي مقدمات أو إشارة مسبقة كي يهيئ نفسه لتلقي الخبر : عبادي,, تراني أمس كلمت عمتي صيتة.
غص بلقمته، يضرب صدره.. فمد عزام ذراعه يعبر السفرة بينهما، ساحبًا اذنه بكل قوة، متعمدًا ذلك : بشويش العِيشه ماهي طايرة.
صفع كفه ما إن أحس بأن أذنه ستنفصل عن رأسه وتصبح بين يدي الآخر في أي لحظة، يشرب الباقي من الشاي دفعةً واحدة، وينظر لصيتة المبتسمة بعينين تتلامع نتيجة شرقته، قائلاً بذهول بعد سلسلة سعال مرتفعة : بالسرعة ذي؟ تونا ماصار لنا يومين من تكلمنا بالموضوع.....
صيتة : خير البر عاجله... ليه التأخير دامك جاهز؟
فقال عزام عاقدًا حاجبيه : وش السالفة؟
اتسعت ابتسامتها، حتى غدت ضحكة بانت لها نواجذها : بارك لخالك خطبنا له لولوة بنت علي.
نظر عزام بدهشه، وسرعان ما تحولت دهشته لضحكة مرتفعة : لالالا , معقول؟
استوت ملامح عبدالإله بجمود، يهتف ببرود : ضحكت من سرّك بلا.. وش اللي يضحك؟
فقال عزام ولازالت الضحكة عالقة بصوته : لا بس تونا أمس أنا وعبدالله جايبين سيرتك.. لو إنا ذاكرين المليون أزين..
ثم يتابع، بمودة : مبروك،، الف مبروك.. والله زين ماسويت.

.


بدأ السؤال يقتات على خلايا عقله منذ تلك اللحظة التي استيقظ فيها قبل أيام، في مركز صحي متواضع الإمكانيات.. هل كان يحتاج لرصاصة كي يدرك مدى تقصيره؟ هل كان بحاجه لهذه الصفعة المؤلمة كي يستفيق؟
وجد نفسه يسترجع كل أفعاله.. ليس مع والدته وزوجته فقط..
بل الدموع في عيني جدته ما إن تراه.. العتب الصارم في صوت جدّه.. الإبتسامة الحانية على شفتي عمه.. اللهفة.. السعادة برؤيته.. كل كلمة قيلت، وكل ردة فعل لا تليق صدرت منه..

قدّر ولطف.. لكن ماذا لو عاد لأرضه بتابوت؟ كيف سيكون استقبالهم له؟ ميتًا وقد كذب عليهم؟..
كان هذا السؤال الذي تبادر لذهنه، بعد أن أوقف سيارته أمام منزل خاله حيث لا أثر لأي سيارة أخرى.. يترجل منها ويغلقها قبل أن يشد خطاه مسرعًا رافعًا طرف ثوبه كي لايعيق حركته للمسجد القريب بعد أن ركع الإمام لصلاة العصر .
دخل وصلى في آخر صفٍّ شكّله المصلين، وما إن انتهى حتى وبحث بعينيه عنهم، لازال جالسًا بعد سلامه،، ليتهلل وجهه وتشرق ملامحه ما إن رأى ذيب الذي وقف بجانبه شقيقه هزاع، يتحدثون مع الجالس وبان له جانب وجهه، عمه خالد.. وبجانبه جدّه. يجلس على الكرسي يسند عصاه على كتفه.. وقد عرفه من سبحته السوداء الملفوفة على رأسها ليقوم لهم تسبقه لهفته.

انتهت صلاة العصر قبل أكثر من نصف ساعة، عاد فيها عزام من المسجد يمشي بجانب جدّه.. يسنده رغم أن الآخر لا يحتاج لأي مساعدة فعصاته تكفيه, لكن ولشيءٍ في قلبه، وجد نفسه يميل على عزام ما إن شبك ذراعه به.. يركن عليه ويباطئ خطوته، يتمنى ألا يكون لطريقهم هذا نهاية.

وما إن وصل لجلسة جدته الأرضية، حتى وفتحت الأخرى ذراعيها له. ترحب به بحرارةٍ كعادتها، كأنه جنديٌّ عاد من أرض قتال..
تجلسه بجانبها... تلصق كتفها بكتفه بعد أن رحبت به بحرارة، تشبك أصابعها بأصابعه، ترفعها من وقتٍ لآخر لشفتيها وتقبلها بعدم تصديق.. أو تحتضنها قريبًا من صدرها.. تنظر له بعينين تتلامع، وتهمس : سولف علي يابعد روحي أبي أسمع صوتك.
يجد نفسه هذه المره يغرق بالعبرة وهو يقبل جانب رأسها.. يصله تعليق جده الناقد : اتركي الولد بحاله، أشغلتيه..
ثم يتابع متعمدًا : بعذره مايجينا ولانشوفه إلا في السِنه حسِنه.

ابتسم عزام ابتسامةً صغيرة لم تصل لعينيه، يبتلع ريقه بعد تعليق جده اللاذع، فاهمًا قصده به وعتبه الغير مباشر.. يحاول أن يضحك ما إن قال عمه مازحًا علّه يخفف من ثقل الشعور عليه، لكنه لم يستطع : يمه افهميها،، أبو خالد يغار..
لكن جدته التي كانت غارقةً بتأمل جانب وجهه لم تسمع شيئًا مما قالوا، بل همست بصوتٍ مثقل، تضغط على أصابعه : الله يجمعني بأبوك في جنته،، وأشوفه مثل ما أنا شايفتك قدامي الحين،، وأقعد معه وأشبع من شوفه يا ولدي ياعزام.
ليبادلها الهمس، بابتسامة مرتعشة وتنهيدة رممت شرخًا في روحه : اللهم آمين.

كان يشعر بنظراتها، صامته لا تتحدث ولا تجيب.. تتجاهل تعليقاتهم عليها.. تعليقات جدّه المتهكمة أحياناً، وتعليق عمه الحاني الودود بعد كل جملة..
مكتفيةً به عن العالم... تتشبث به بتملكٍ طفولي عندما كان ينوي الوقوف للسلام على خالته، لتضطر مشاعل على أن تنحني بجسدها تسلم عليه جالسًا.. فقال بإحراج : عز الله مقامك ياخالة.
مشاعل ضاحكة : مقامك عزيز وغالي حبيبي، الحمدلله على السلامة.. وش المفاجأة الحلوة ذي ماتوقعنا ترجع بدري!! أنا قلت بتقعد أسبوعين ولا ثلاثة على الأقل..
ليقول عزام مبتسمًا براحة.. يتابع ابتعادها بعينيه، تجلس في الجهة الأخرى بجانب ذيب : أنا ماصدقت عبدالله يخلص برابيسه عشان نرجع.. اسبوع بس وزين تحملت.
فقالت مشاعل ممازحة : هذا عيب اللي مهوب متعود على السفر ياولد صيتة.. عاد يقولون الصين حلوة.
ليقول عزام بقوة واندفاع : ماحلّاها ربي ..
ثم يردف : أنا مدري شلون يطاوعه قلبه ذا اللي يغيب عن ديرته وأهله بالشهر والشهرين!! أنا كذا وطقّت كبدي وحسيت إني ماشفت أهلي صار لي سنين.
فقال جدّه بمودة : أرض الناس للناس ياعزام والواحد ماله الا ديرته، ماله غناة عنها . تلاقيه يلف يلف ثم يرجع لها.. مايعزه إلا هي ولا يرفع قدره بين الناس إلا هي.
عزام بابتسامة : صدقت.

انقضى الوقت وهو جالسٌ بينهم، دون أن يشعر به.. يجد نفسه يتأمل أوجه الجالسين أمامه، من وقتٍ لآخر.. تحط عينه عليهم.. جدّه.. جدته.. خالته مشاعل.. عمته سارة التي أتت قبل ساعة.. وعمه خالد الذي أصبح جالسًا بحانبه الآن.. يربت على ظهره بحنو.. قائلاً بخفوت : الف الحمدلله على سلامتك وأنا عمك.. نورت دارك.

.
.

مر الاسبوع سريعًا، وأتت نهايته والجميع منغمس بأشغاله ..
تبسمت سارة وهي تراقب غادة، بشكلٍ واضح.. دون أن تكلف نفسها عناء إبداء عكس ذلك.. تراها ترتب مكتبها وتضع بعض الأوراق في أدراجه، تمد بعضها لتضعه على مكتب زميلتها بجانبها .. وبعضًا آخر في حقيبةٍ على شكل كيس.. ثم تجمع شعرها للخلف بربطة شعر كانت حول معصمها، بارتباكٍ واضح.. قبل أن تعاود التلهّي بأغراضها.

قالت بصوتٍ مرتفع : خلاص ياغادة؟ إجازة؟..
زفرت غادة ارتباكها فهي منذ أن انهت آخر محاضرة لها ودخلت غرفة هيئة التدريس حتى ولاحظت نظرات سارة.. تراقبها بذمه وضمير وكأنها تشاهد تمثيليةٍ ما.. أخذت نفسًا عميقًا واستدارت تنظر لها، تبتسم : ايه..
ثم أردفت بخجل : مابقى شي على العرس.
سارة بفرحة طاغية جعلت قلب غادة يذوب عذوبةً بين أضلعها : الله يتمم على خير يارب، ويبلغني ذاك اليوم وأنا بصحتي مو منجلطة من الانتظار .
لم تجد غادة ردًا فضحكت والباقي من وجهها تورد بحياء،، لتتابع سارة : بنفقدك،، وش يصبرنا أسبوع ونص من غيرك؟

أعطتها غادة ابتسامة لم ترى أجمل منها، وكفتها عن كل رد..
تشعر بنبضات قلبها تتسارع وهي تتأملها ، تعاود ترتيب مكتبها، تجمع ماتحتاج جمعه قبل أن تبدأ إجازة زواجها..
زواجها من ابنها... فهد..
والفكرة المجنونة هذه تكاد تقتلها من فرط السعادة، قتلاً رحيمًا ترحب به.

مضى على زيارتهم تلك أسبوع وكم يوم، لازالت تتذكر منظر غادة واقعةً على الأرض، وسؤال فهد الذي لم يطق صبرًا واتصل عليها بعد أن دخلت الجامعة بساعة ، يسأل : غادة داومت؟
لتجيب وهي تبحث بعينيها عنها عندما لم تجد أغراضها على مكتبها : ... شكلها للحين ما جات.
سمعت قلقًا بصوته : تهقين للحين تعبانة؟
لتقول بحزم : اتصل عليها، البنت طاحت قدامك ماهي حلوة ما تسأل عنها!
ثم أردفت دون أن تدع له مجالاً للرد : ارسل رسالة على الأقل..
شدعوة يافهيد بعلمك شلون تتعامل مع حرمتك يعني؟!
وصلتها أنفاسه التي احتدت، ثم صوته : بش...
لكنها قاطعته على عجل ما إن رأت التي تدخل مع الباب، تحمل بيدها كوبين قهوة وتبتسم ابتسامة صباحية واسعة،، تهتف ببشاشة : صباح الخير ياحلوييين..
: دقيقة فهد، لحظة حبيبي.
تتبعتها وهي تقترب منها بعد أن ألقت سلامًا سريعًا على القليلات الموجودات في المكان، لازالت تحافظ على ابتسامتها لتزيد غمازتيها عمقًا ما إن وصلت لها، تضع كوب القهوة على الطاولة أمامها قائلةً بلطف : وهذي قهوة الصباح وصلت...
فتحت سارة ذراعها لها لتنحني الأخرى تسلم عليها.. لازالت تمسك الهاتف قريبًا من أذنها بيدها الأخرى : ياصباح الورد، والرضا والسعادة... كثر الله خيرك حبيبتي غادة..
ثم أردفت بكلماتها المأثورة التي أدمنت غادة سماعها : روحي ياشيخة جعل فهد يخمّك ويلمّك ويسر خاطرك .. قولي آمين...
طمنيني عنك، وش أخبارك الحين؟
لتهتف غادة : بألف خير يارب لك الحمد.
قالتها مبتسمة.. وكأنها تعنيها.. ومافي داخلها فهو شيءٌ آخر.. تتمنى أن تسأل عوضًا عن ذلك "وش قال فهد؟"..
تنظر بقلقٍ خفي لنواعسها، تبتسم لها بحنو، كما السابق.. تبحث عن شيء؟.. لم يتغير شيء،، لا رفض،، لا ندم... وكأن شيئًا لم يكن..
أخذت نفسًا عميقا ، أردفت بعده ببشاشة : عندي محاضرة بعد نص ساعة،، بروح أتجهز..
ثم تابعت مقبلةً أطراف أصابعها ، ترسل قبلاتٍ هوائية لسارة : تشاو تشاو قلبي!

قالتها تبتسم مبتعدة.. تتلاشى الابتسامة ما إن اولتها ظهرها، وتنهار ملامح وجهها بأسىً فضيع على حالها, كان تصنعًا مثاليًا بالقوة، تستحق جائزةً عليه.. مازالت صورة فهد بوجهه المخطوف لونه، ونظرة عينيه الفزعة تلوح بمخيّلتها،، ومنذ تلك اللحظة والأفكار تغزو عقلها وقلبها، بدون رحمة..

عادت سارة لهاتفها، وفهد.. الذي تركته على الخط متعمدة كي يعرف بنفسه ويدرك, القوة العظيمة التي تتحلى بها غادة،، تخشى من أن يبكي أمامها غدًا بعد كل نوبة.. "يسويها أبو قلب رهيّف، ما استبعد".. تقول بخفوت : هاه،، سمعت باذنك؟..
وصلها صوته، عميقًا يخطف الأنفاس كما العادة،، بضحكة خافته : ايه سمعت.. شكرًا..
سارة بقوة : كلمها!
ليعاود فهد الرد بروقان عكس حاله أول المكالمة : يصير خير،،
سارة بإصرار : أقولك كلمها....
ليقول لها مشاكسًا، قبل ضحكة صاخبة : تشاو تشاو!
.
.


دخلت لولوة غرفتها، تغلق الباب خلفها بقوة وتستند عليه.. تضع يدها على قلبها الذي تسارع نبضه بشكلٍ مجنون.. محزن.
تحاول أن تلتقط أنفاسها. السيطرة عليها قبل أن تخرج رئتيها من فتحات أنفها.

فهي للتو كانت بغرفة عبدالله.. تجلس على طرف سريره،، تتابعه بعينيها يغلق أزرة ثوبه، مثبتًا هاتفه على كتفه في محادثة مع عزام لم تفهم منها شيئًا..
يسأله : وش أخبار جرحك الحين؟.....
ثم : مارد عليك؟.... وش قال؟....
ثم : راجع؟... بس كذا!!... ماقال متى؟.....
يردف بتردد بعد دقيقة صمت : أخاف إنه مسوي فيها شي!! والله ذنبها بيقعد برقبتي لين يوم الدين.
يتابع بعدها بغيظ : نعنباه لا تشوفه عيني يمين بالله لا أنسيه حليب أمه...

ورغم أن الكلمات المتقاطعة التي قالها شدت انتباهها، إلا أنها وجدت نفسها تبحر في بحرٍ غير بحره.. يذهب عقلها بعيدًا، رغمًا عنها.. لبداية الاسبوع عندما أخبرتها والدتها عن خطبة عبدالإله، وصدمتها..
رفضها السريع في نفس اللحظة.. لتنهرها بإنفعال، تطلب منها معاودة التفكير..
عدم اقتناع والدها قائلاً "سحَى بنات، لا تسمعين لها"..
اتصال حاتم من حائل فوالدته أخبرته بأن المجنونة رفضت.. دخول عبدالله عليها الغرفة في تلك الليلة، أرسلته والدته.. فالمجنونة رفضت.
يسأل : ممكن أعرف سبب الرفض؟
لتقول بانفعال تداري عبرتها : مافيه سبب.. هو العرس بالغصب!!!
لكن عبدالله عاد يسأل، محافظًا على نبرته الهادئة : كيف مافيه سبب؟
لتقول بذات الانفعال : ما أبي أعرس.. مايكفيكم ذا الشي؟.. ماهو مالي عيونكم؟
زفر محاولاً كتم غيضه فهي بدأت بالصراخ في وجهه، يقول بحزم : لا مايكفي.. لأن ذي اسمها قلة حيا.
ارتعشت شفتيها، تنبئ عن موجة بكاء.. يتهاوى جسدها جالسًا على الأريكة بضعف.. تقول بأنفاسٍ ضيقة : ما أبي،، افهموني حرام عليكم..
جلس عبدالله بجانبها بعد أن كان يقف بمنتصف الغرفة، قائلاً بحزم حاني ما إن بدأت تفرك عينيها : أنتِ اللي حرام عليك تحرمين نفسك تعيشين حياة طبيعية حالك حال باقي البنات عشان نصيب ماتم مرّه..
ثم أردف : فكري بالموضوع.. استخيري لا تستعجلين وأعطي نفسك وعبدالإله فرصة. ترى أصابعك ماهي سوى.
تعلقت نظرتها به، بوجَل... فتابع : اللي مثل عبدالإله ماينرد.. رجّال كفو ويخاف الله وماعمر الغلط طلع منه...
تقوست شفتيها بأسى ،، وعتب : نفس هالكلام قلته عن ناصر..
زم عبدالله شفتيه حتى استوت بخط مستقيم.. ينطق من بينها بعد ثانية صمت : وأنا للحين عند كلامي، ناصر رجّال كفو ولا قد شفت منه عيب ومنقود، ومهوب لأن الأمور بينكم ماتمت أبهته.
ثم قال ممازحًا وهو يرى تغير وجهها لضيقٍ واضح : يا شيخة والله لو إن عبدالإله تقدم لي كان وافقت على طول وبدون تفكير. بس انه اختارك...
واستطاع بذلك أن يسرق ابتسامة صغيرة لم تصل لعينيها...
شيء أحسن من لا شيء.
.

أغلق عبدالله هاتفه،، واستدار ينظر لشقيقته الجالسة وكأنها تشوى على جمر.. تضغط أصابع يدها بقوة وعلى وجهها بدت علامات التفكير العميق..
تنحنح، وخرجت من دوامة أفكارها تنظر له، تتحول نظرة التوهان في عينيها لارتباك حقيقي.. تبتلع ريقها،، ثم تنحنحت قائلة : أنا فكرت...
ابتسم : الحمدلله،، بشريني...

فركت وجهها بكفيها، تتأفف بقل حيلة.. ويأس. يمر على مسمعها صوت شعاع ما إن سألتها عن عبدالإله، لتبدأ الأخرى إجابتها بكل موضوعية " مو لأنه خالي، بس والله يا لولو وش أقول وش أخلي.. صدقيني مستحيل تندمين، أنا اضمنه لك.. يهبل عبادي يهبل لو كل الرجال مثله كان عاشوا الحريم بنعيم طول عمرهن"..
أتاها صوت عبدالله متمللاً : اخلصي علي.. بطلع.
أبعدت كفيها وأخذت نفسًا عميقًا تقول بعده : أنا موافقة...

اتسعت ابتسامة عبدالله حتى تحولت لضحكة مجلجلة.. يقول متصديًا بيده لوسادته التي رمتها بإحراجٍ واضح : أخيرًا.. مابغينا نسمع موافقتك الكريمة.. مبروك..
لتقول بحنق تداري خجلها : علم أمي، استحي أقولها.
اتسعت عينيه في ذهول، يقول ولازال يضحك : الحين تستحين من أمي ولا تستحين مني؟.... عجَب!!!
لتبتسم له هذه المره ابتسامة واسعة من أعماق قلبها، فقدها في الاسبوع المنصرم : أنا وأنت واحد مابيننا فرق.
.
.

المرأة عندما يكون قلبها مفعمًا بالحب، لا يمكن هزيمتها...
وامرأة مثل الجادل في مرحلةٍ كهذه من عمرها، لا يمكن أن تهزم.. مستعدة لأن تقاتل ببسالة حتى تنال ماتسعى له.. تتغاضى عن كل شيء، تقدم تنازلاتٍ لاحد ولا حصر لها.. تسعى.. تتظاهر بأن الأمور طبيعية، لا شيء غريب.. وكأنهما صديقين في رحلة استجمام.
الضحك مستمر ، نظرات الإعجاب متبادلة.. الحب أحيانًا، لا بأس، كل دقّه بتعليمة, والضربة إن لم تقتلك, قوتك.
وهي على ثقة تامة بأن الوضع لن يطول هكذا.. ستعتدل الأمور وتنصلح..
يتوجب عليها ذلك.

كانت تجلس بجانب حاكم، ركبتها تجاور ركبته،، على أحد القوارب الخشبية الصغيرة المنتشرة في خليج تاسمان حيث يقضون آخر ثلاثة أيام لهم في نيوزلندا..
من أوكلاند في الجزيرة الشمالية، لنيلسون في الجزيرة الجنوبية حيث منتزه آبيل تاسمان الوطني،، جنة الله في أرضه بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى.

أخذت نفسًا عميقًا بابتسامة واسعة، تشعر بطوفان من السعادة يغمر قلبها.. المكان حولها مبهج، جميل وشاعري.. الأجواء بديعة، المياه أمامهم ممتدة وكأن لا نهاية لها، تنعكس عليها أشعة الشمس لتجعلها تتلألأ.. سعادة عميقة لا مقياس لها. كل شيء حولها يدعوها لذلك،، يد حاكم حول خصرها، تقربها منه أكثر عندما شعرت بالدوار وكادت أن تميل ما إن تحرك القارب بعيدًا عن الشاطئ برماله الذهبية.. ليبقيها هناك..
ضحكهم المتواصل لأكثر من عشر دقائق بسبب الفيديو الذي أرسله عبدالإله بقروب شباب العائلة.. لعبدالله عندما كانوا بالسودان, يركض هاربًا بعصابةٍ على رأسه ومجموعة من الإبل تركض خلفه.. معلقًا تحته (شيخ الذبّان وخال العيال، أتمنى عدم التعرض) .
ليرد عبدالله (قدني شيخ).

سعيدة لعبدالإله.. خالها المثالي يستحق امرأة مثالية مثله، و لولوة هي الأنسب.
أخذت نفسًا آخر، ترمق بطرف عينها الجالس بجانبها ينظر لهاتفه، تقول بصوتٍ مثقل بالعاطفة : أحبك حاكم.
شعرت بالرعشة التي سرت بكفه المتراخي خلف ظهرها بعد كلمتها هذه.. يقول وطرف شفته ارتفع بحبور واضح، دون أن ينظر لها.. عينه لازالت على هاتفه : ماحبيتي إلا اللي يحبك.
ضحكت، تدوس بحذائها على أصابع قدمه المكشوفة.. بقوة : إجابة دبلوماسية.
ليصرخ حاكم بألم : يابنت ال....
رفعت حاجبها بتهديدٍ ناعم ما إن قطع كلمته : سم؟
قبّل حاكم خدها بقوة، مُصدرًا صوتاً عاليًا قبل أن يقول بضحكة : الحلوة.. بنت الحلوة..
مسحت خدها، تداري خجلها.. ونبض قلبها.. ورغبتها بالبكاء، فهي تحبه بشكلٍ موجع.. تقول بنبرة مثقلة بعد ضحكة قصيرة تغرق بالعبرة : وش خطتنا إذا رجعنا ؟
مط شفتيه بعبوس : بيبدأ دوامي بعد يوم من رجعتنا...
الجادل بامتعاض : ليه بدري كذا ؟!
ليجيب بحنق وابتسامة متهكمة : عجلة التنمية واقفة ينتظروني أرجع عشان أدفها..
أطلقت الجادل ضحكة مجلجلة اهتزت معها جدران قلبه.. وعينيه تتعلق بذقنها الذي برَز ما إن رمت رأسها للخلف، يتساءل،، ما الذي يمنعه؟ لماذا يضع بينه وبينها ألف سور؟.. يعاقب نفسه بالنوم ليلا وهي بجانبه، يشد على كفيه بقوة، يعض طرف وسادته، يوبّخ رجولته الجامحة ويكبتها.. بأنفاسٍ مكتومة كي لا يضعف ويستدير لها..
إلى متى سيقاوم ويكابر؟....
ولماذا؟

ضاق من أفكاره، فتنحنح قائلاً ما إن هدأت وعم الهدوء المريح بينهما : مافكرتي تشتغلين؟
لتقول بإزدراء شديد : لا ياخي وش لي بالكرف؟ أنا طموحي أكبر.
قالتها تحرك حاجبيها بمرح، ليسأل ضاحكًا بخفوت : وفاجئيني بالله عليك وش هو طموحك؟
الجادل بابتسامة واسعه : إفتح لي بوتيك.. وبنسميه جَي كي اس.
عقد حاجبيه، يشكّل الحروف في عقله قبل أن يقول باستنكار : جكص؟ وش يعني ؟
اتسعت ابتسامتها أكثر حتى بانت نواجذها، ترفع أنفها بتباهي : أول حروف اسمي .
ليقول حاكم بتهكم مازح : ماشاء الله ، وأنا الخروف اللي بدفع دم قلبي وش لي؟
ضربت كتفها بكتفه، تقول بغمزة : لك حبي وامتناني.
ليضحك بأنفاسٍ مسلوبة، يطيل التمعن في عينيها.. هامسًا : يكفي وزود.

تنهدت بعد دقائق، ما إن عكس صاحب المجدافين الجالس أمامهم يعطيهم ظهره طريقهم باتجاه الشاطئ.. تحتضن عضده وتسند رأسها على كتفه : ترى فهد ضحك علينا.. حجز لنا أقل من شهر .
ليقول ممازحًا : بخليه يحول الباقي من فلوس العانيّة لحسابي. الدنيا ماهي سايبة.
ثم أردف بسكينة : أنتِ تدرين إن شقته جنب شقتنا؟
الجادل بعد تنهيدة عميقة، تقول بنبرة ذائبه مبالغ بها : ياحلو شقتنا من فمك.
ضحك : تدرين ولا لأ ؟
هزّت رأسها : قالت لي عمتي سارة، الحمدلله زوجته حبيبة يعني تقريًبا ضمنت غدانا كل يوم.
حاكم بتهكم : ماشاءالله!!!!
لكنها تابعت : ريم عليها العشا. تسوي فول رهيييب..
رمقها بطرف عينه، فرأى ابتسامةً ماكرةً تجمل وجهها، جعلت كل شيءٍ ماعداها يبهت.

.
.

خرجت من دورة المياة تلف منشفتها على شعرها، بعد ثالث استحمامٍ لها هذا اليوم.. تشعر بتوترٍ يشتعل في جسدها كاملاً، ولعل الماء البارد يطفؤه..
تنظر لغرفتها التي أصبحت شبه فارغة بعد أن نقلت والدتها أعراضها قبل يومين لبيت فهد..

غدًا الزفاف..
تدافعت أنفاسها بارتباك.. وسرت قشعريرة في أوصالها من تذكّر معلومة كهذه حاولت التصدد عنها طوال اليوم.
لا تعرف ماذا ينتظرها, ففهد مستقبل مجهول. مبهم تمامًا..
لم تتعرف على شيءٍ فيه، لا أطباع ولا شخصية ولا حتى مميزات وعيوب.
كانت تتمنى أن تعيش هذه الفترة كبقية البنات، مكالمات وزيارات ورسائل. لكن وكما يبدو لفهد نظرة تخالفها.

ارتدت بيجامتها، وتمددت على سريرها رغم أن الساعة لم تتعدى السابعة مساءً بعد. تجمع شعرها أعلى رأسها دون أن تمشطه حتى، ستدع هذه المهمة لكوافيرة الشعر غدًا..
تفتح هاتفها على برنامج المحادثات.. حيث يتواجد اسمه في أسفل القائمة.. عندما ظهر التنبيه على شاشة هاتفها قبل أكثر من اسبوعين.. بعد زيارته هو وسارة مباشرة.
ظهر لها ما كتب (مسّاك الله بالخير غادة، أنا فهد وهذا رقمي)
(طمنيني عنك الحين، إن شاءالله صرتي أحسن؟)
كانت على وشك أن تختنق من تسابق أنفاسها، للتو أستيقظت بمزاج متعكر ونفس ضائقة، تدافع الموقف الذي حصل أمامه لعقلها كالسيل.. ولا ينقصها إلا رسالته هذه.
لكن سرعان ما ظهر لها بأنه 'تم مسح الرسالة' .. ومنذ ذلك اليوم وإلى هذه اللحظة لم يرسل شيئًا.

اختفت شفتها السفلى تحت أسنانها، بتفكيرٍ وتردد..
لا تعرف ماهو جدوله غدًا.. وعيبٌ عليها أن تفسد مخططاته مهما كانت،، لكنها تحتاج حضوره مبكرًا لقاعة الزفاف كي تلتقط لهم المصورة بعض الصور قبل حضور المعازيم، ولتصوير الزفة الأولى فهو لن يزّف معها أمام أعين النسوة.. لم ولن تسمح بذلك.
كتبت بأصابع ترتعش (مساء الخير)
(فاضي فهد؟)
انتظرت عشر دقائق ولم يتغير شيء..
فعادت تكتب وليكن مايكن... فاضي أو مشغول، لن تتحمل حرق الأعصاب أكثر (احتاجك تكون موجود بالقاعة قبل المغرب، عشان التصوير... ممكن تجي؟)
.
.

وبينما غادة القت هاتفها على السرير وخرجت من غرفتها ما إن أحست بأنها ستنهار من فرط الضغط الذي تشعر به ..

كان فهد عائدًا للتو من الخارج، بعد أن حلق شعره، وحدد عوارضه وشاربه. يعلق بشته وثوبه وشماغه في دولاب ملابسه الفارغ.

وعندما همّ بوصل هاتفه بالشاحن، رأى تنبيهات المحادثات الكثيرة على شاشته، من بينها يلمع اسم غادة كما حفظه في هاتفه،،

غادة.

جلس على سريره، لتجد الابتسامة طريقها على وجهه ما إن قرأ ماكتبت، والإيموجي الذي وضعته بكل لطف نهاية طلبها - وجه أصفر مرتديًا نظارة سوداء والراقصة الشقراء ذات الفستان الأحمر -
ليكتب ويرسل دون تردد (أبشري).

.

نزل من غرفته، ليجد والدته تجالس ريم بالصالة العلوية.
وما إن رأته حتى وزغرطت ترحب وتهلي بسعادة واضحة : ياهلا والله ومرحبا أرحب تراحيب المطر. ها يامعرسنا كيف الترتيبات؟

جلس بجانبها، مقبلاً يدها بامتنانٍ واضح يكفي عن كل الكلمات.
ريم : ماشاءالله الوجه منور.
لتعلق سارة : من يومه وجهه منور ويفتح النفس الله يحفظه.
تبسم فهد، وعلقت ريم : نور الحب يمه،، آه .
ثم أردفت وهي ترى صمته : قول أخوي وش عندك؟ خايف ؟
ضحك : جاي أبي أمي بسالفة.
أشارت بيدها بابتسامة واسعة : تفضل، تقدر تتكلم... وإن كنت تتوقع أطلع واترك لكم المكان فأنا آسفة.. شيل الوالدة وشوفوا لكم مكان ثاني.
قلبت سارة ملامحها بتهكم : يومك وجه بن فهره.. ماتستحين ولا تنتخين..
ثم تجاهلت ضحكتها الصاخبة بدون أي أحساس، تنظر لابنها حبيب قلبها وروحها وضحكته الودودة الخافته لأخته : اتركك منها.. تكلم حبيبي وش عندك؟
ابتلع ريقه يقول بإحراج رغمًا عنه : بكرة بروح القاعة من بدري.
ثم تابع ببساطة متجاهلاً "اووووه" التي انطلقت بخبث من بين شفتي ريم، وضحكة أمه.. : عشان تصوير ماتصوير...
فقالت سارة لازالت تضحك : طيب روح وين المشكلة؟
مط شفتيه بتبرم : واللي مواعدينهم يجون بعد صلاة العشاء؟
هزت رأسها بتفهم : أنا أكلم حاكم واتفاهم معه. لا تشغل بالك.
ثم أردفت متبسمةً بعبرةٍ واضحة : روح وانبسط مع حرمتك، العرس مره وحده بالعمر لا تضيعه.
الله يوفقك ويسعدك ويهنيك وتكون زواجة الدهر يا حبيبي يا فهد.

علّت ريم نبرتها ما إن أحست بأنها ستخرج مهزوزة، تهتف : زوجونا، عاوزين نسمع كلمة حلوة، بنموت من النشفان
.
هزت سارة رأسها بفقدان أمل، تبتسم لفهد الذي أطلق ضحكةً مرتفعة، يقول بعدم تصديق : أنتِ بنت أنتِ؟ مافيه حيا أبد!!
تجاهلته.. كالجبل لاتهزه ريح ، تقول لوالدتها عوضًا عن ذلك : يمه تكفين لا جا سعيد الحظ أبي مكالمات ودخلات وطلعات.. نظام خذوه فغلوه ذا ما أبيه.
لتقول سارة بصرامة : أقول بس،، اتركي عنك الحكي الماصخ وقومي سوي قهوة، عزام بيجي.
ريم : وش بيجيبه؟
تطايرت عينيها بصدمة : ذا البنت جبتها تالي عمري وأنا خلاااص قدني نسيت كيف التربية..
ضحكت : أقصد غريبة.
فقالت : ماغريب إلا الشيطان، ولد أخوي وجاي يزورني..
رفعت حاجبها بعدم تصديق : وغيره؟
تبسمت سارة رغمًا عنها : وبعطيه طقم أمه الأبيض اللي لبسته بعرس حاكم .
لتعلق ريم بإزدراء : ماشاءالله ، حتى بالذهب سلفيَات!!
وين أبوي ليه مايشتري لك ذهب؟ ماخذه حق الحرمة وخازنته عندك من ذيك الليلة امدى جادل حامل الحين وأنتِ توك تذكرين ترجعينه!!
خرجت ضحكة مجلجلة مصدومة من بين شفتي فهد كاد أن يشرق بها، على عكس سارة التي اتسعت عينيها بذهول، كادت تشرق به : أنا بنت أبوي.. ذي اللي بقوم أكوفنها الحين.
لكن ريم قفزت راكضة تنزل السلالم بضحكة مدوية ما إن رأت والدتها تهم بالوقوف.

.

بدأ سلمان ما إن أصبح أبناؤه في سن الزواج، ببناء المساحة الخلفية الواسعة خلف منزله لتكون شقتين متجاورتين، واحدة لحاكم والأخرى لفهد. أما ناصر فسكن في بيتٍ أمنه له عمله.
خرج فهد من منزل والده، يشق طريقه في ساحته الواسعة حتى وصل لشقته، يفتح بابها.. وإنارتها. لتظهر له الصالة بأثاثها.. شقة صغيرة -على قدهم- بثلاثة غرف، صالة، مطبخ و دورتين مياه.. ومجلس والده هو مجلسه ومجلس شقيقه.

ملأ رئتيه برائحة البخور التي تنتشر بالمكان، إذ أن أمه بخرتها قبل المغرب.
يأخذ جولته الأولى فيها بعد أن امتلأت بأغراض غادة و أغراضه.. يشعر بثقلٍ غريبٍ في قلبه.. فهذا منزلهما معًا. سيسكنانه ويتشاركان فيه أكبر الأمور وأصغرها..
وماكانت عطورها التي ملأت سطح التسريحة، وملابسها بين جدران الدواليب إلا إثباتًا لذلك.
جلس على السرير، يمسح ملامحه بكفّه.. مرةً واثنتين وثلاث.. يشعر بأنه في سفينةٍ باطنها مثقوب.. مركبه يغرق.. قلبه كذلك..

يجد نفسه وكلما اقترب من منتصف الليل وقلّت الساعات، يواجه سيلاً جارفًا من الحيرة، والتساؤلات الجديدة .. يسكنه القلق، لا من الأمس ولا اليوم، بل يرافقه منذ سنوات،، يسيطر عليه ويقيّده.. خوف من صفحة جديدة سيفتحها في حياته, ممزقة ومشوهه فالطرف الآخر في هذه العلاقة يجهل كل شيءٍ عنه. لا يعرف إلا اسمه.. تتسع في داخله المخاوف.. يخاف من اليأس، الخيبة.. يخاف الندم..

يشعر وكأنه ضائع، تائه.. يغرق بالفوضى. يتمنى الهرب.. إيقاف كل هذا.. مرهق وممزق،، تعب من التجديف علّه يصل لأرضٍ تجمعه يومًا مع الراحة، لكنها غير موجودة.

انتبه للعلبة السوداء الصغيرة من المخمل على الكوميدينه، كُتب عليها بقلمٍ ذهبي لامع ، بخطٍ أنيق (من غادة)..
أخذ نفسًا عميقًا بعد أن ضاق تنفسه، وشعر بأن الهواء يتسلل من شرخٍ في قلبه، ثقبٍ في روحه..
ألمٌ لا يليق بعريسٍ مثله.. وكأن أضلعه تنطبق على بعضها.
فتحَها، وما إن حطت عينيه على الكبكين الأسودين بخطوطٍ ذهبية، حتى وارتعشت أنفاسه،
وذُرفت دموعه،
وأجهش باكيًا...
.


أوقف عزام سيارته أمام منزل عمته، يترجل منها مبتسماً وعينيه تتأمل عقود الأنوار المشعة التي غطت جدرانه احتفاءً بزواج ابنها.

يقرع الجرس ثم يأخذ خطاه للمجلس الخارجي ما إن فُتح له الباب.. حيث وجد دلة القهوة ورائحة العود التي انعشته باستقباله..
انتظر لدقائق قليلة قبل أن تدخل عليه سارة.. ترحب به وتهلي..
تسأله عن أخباره.. ترفع الدلة كي تسكب له فنجانًا، لكنه سحبها من يدها يقهويها.
تدور الأحاديث الودوده بينهما قبل أن تستأذنه لداخل المنزل كي تحضر ما أتى لأخذه..

وما إن عادت وبيدها كيس فيه علبة الطقم الكبيرة بابتسامة واسعة، حتى و وقع قلبها وتلاشت الابتسامة تمامًا ما إن اقتربت من المجلس ببابه المردوف تسمع الأصوات المرتفعة بالداخل.
.

لا يعرف عزام كيف حصل كل هذا..
لا يذكر شيئًا، لا يتذكر إلا جلوسه وحيداً بعد خروج عمته، لدقائق قليلة.. ثم بالباب يُفتح ليرفع عينيه ظنًا منه بأنها عادت. ولكنه ما إن رأى الواقف حتى واحتدت أنفاسه.. وغامت نظرته.. وتجاهله.. متلهيًا بسكب فنجان قهوةٍ آخر.
: أرحب ياعزام.
ليجيب على مضض : الله يبقيك.
ثم يرفع عينيه ما إن حطّت على أقدام الآخر والذي وصل له، وصار يقف أمامه. يرفع حاجبًا ليضطر مجبرًا على الوقوف ما إن رأى يده الممدوده له..
كان سيتجاهله، فلا أحد موجود كي يتحامل على نفسه ويجامله.. لكنه صافحه، بالكاد لامس كفّه.. وكان سيسحب يده وينتهي من هذه المهمة الثقيلة على قلبه لولا شد الآخر على كفه.
فقال بضيقٍ واضح لا ينظر لوجهه : اقصر الشر يافهد وأترك يدي.
ضغط فهد على يده أكثر، قائلاً : وإذا ماتركتها؟
تطايرت نظرة عزام الحادة على وجهه، يلاحظ تغيرًا غريبًا فيه.. : تعوذ من ابليس لا تخليني أكفر فيك.
لم يبدي فهد أي استجابة، يشعر بقهرٍ فضيع لا يعرف سببه، ولن يجد شخصًا انسب من عزام كي يفرغ غيضه فيه.
زمجر عزام منفعلاً : فهد..
تبسم فهد، ابتسامةً واسعة مستمتعة جعلت عينيه تغرق بخطوطٍ حانية : ورني وش بتسوي..

كاد عزام أن يفقد صوابه، غاضبًا من نفسه الآن، أكثر بكثير من غضبه على فهد..
يجد عينيه التي حاول صرفها تعاود النظر لوجه الواقف أمامه، يبتلع ريقه بشعورٍ حارق، فالعينين تذكره بسنواتٍ مضت ، يتمنى محوها من حياته كما امتحت صاحبتها.
عيني الجوهرة جالسةً معه، تضحك له.. تقبّل خده قبل أن تضرب مكان القبلة بأطراف أصابعها بخفّه، تعلق ممازحة : وش النظرة اللي تضحك ذي؟

أرخى فهد من قبضته، ليسحب عزام يده بوجهٍ مسوّد.. ينفضها علّ الدم يصل لأصابعه بعد أن كادت تُعصر.
وقبل أن يفتح فمه، شعر بلكمةٍ قوية في منتصف بطنه جعلت عينيه تخرج من محاجرها..
تسارعت أنفاسه، ينظر لفهد الهادئ صارخًا في وجهه : انهبلت أنت؟؟
فهد ببرود رغم الألم الذي نفَض قبضته : كم وحدة مثل ذي تحتاج عشان تصحى؟
احتدت نظرة عزام، وثارت أنفاسه.. ليقول بغضب : أنا بمشي يالمريض.
لكنه عوضًا من أن يبتعد، وجد نفسه يمسك قبضة فهد قبل أن تسدد له ضربةً أخرى.. يمسك ذراعه بقوة ويلويها خلف ظهره. يشعر بعد حركته هذه بكهرباءٍ تسري في كامل جنبه الأيسر.. رغم أنه مكان إصابته برأ..

ضحك فهد متألمًا : على هونك يخوي.. بتكسر يدي.
عزام بانفعال : لا تخليها تكبر بيني وبينك يافهد.
ليقول فهد ببرود متعمّد : ليه وش اللي بيني وبينك؟
صرخ عزام بقهر، يردد خلفه بذهول : وش اللي بيني وبينك؟؟ وش اللي بيني وبينك؟؟.... وتسأل بعد.. تسأل؟؟
ثم دفعه بعيدًا عنه، يضغط على كتفه بقوة، ويشد على أسنانه كي لا يصرخ بأعلى صوته.

شعر فهد بأن دمه يغلي في عروقه، ليصرخ منفعلاً : وش اللي بيكون بيني وبينك وأنت حتى السلام ماترده علي!!....
أخرج عزام زفيرًا حادًا من فمه، يغمض عينيه والألم يفتك به.. يصرخ : اذلف من قدام وجهي دام النفس عليك طيبة يافهد..
ثم تسارعت أنفاسه يشعر بحبات العرق تتشكل أعلى جبينه، وألمٌ فتاك ينخر كتفه : اذلف، ترى والله مهيب ناقصتك.
تجاهل فهد الرجاء الحاد في صوته.. رغم الألم البادئ على وجهه.. يستغل فرصة اختلائه به ففرصةٌ كهذه لن تتكرر أبدًا.. يقول منفجرًا بقهر علّ ما بينهما يزول : أنا أدري وش اللي يدور بعقلك المريض ياعزام... عارف وش اللي تفكر فيه..
ضحك عزام ساخرًا، هازئًا به : وإيه؟ وش اللي يدور بعقلي؟
اقترب منه فهد، يلكمه لكمةً أقوى من سابقتها بكثير جعلت عزام ينحني نازلاً على ركبتيه ،
يهتف بعدها بإنفعال : تهقى الجوهرة بتقدر تضربك ضربة مثل ذي؟
ثم خلع قميصه، ليصد عزام ونظرته الدموية الغاضبة عنه، قائلاً بصدمة، وحزم : وش تسوي؟ استر عمرك .
فهد بقوة : لا طالع.... طالعني.

تحامل على نفسه ووقف، يدفع فهد بعيدًا من أمامه.. يصرخ في وجهه بسخط : أنت أكيد شارب شي مستحيل تكون صاحي!
عاد فهد ووقف أمامه، يدفعه للخلف يمنعه من التقدم، قائلاً وقد احتقن وجهه غيظًا : شوف جسمي،، شوفني عزام... هذا أنا.. فهد، وهذا هو جسمي من يوم جيت..... حتى وأنا الجوهرة, ماعمري كنت الجوهرة.. أنا رجّال، من جيت على الدنيا ذي وأنا رجّال..

فتح عزام أول أزرار ثوبه، يشعر بأن قلبه سيخرج من فمه.. يأخذ أنفاسًا مسموعة فكل شيء تآمر ضده، يقول بنبرة مخنوقة بعد ثانية صمت طويلة : أدري إنك رجّال...
فهد : د...
قاطعه، يتابع مبتسمًا بضيق : مشكلتي مهيب معك يا فهد.. أنا ما أعرفك, ولا أبي أعرفك; لأنك تذكرني ب١٨ سنة من عمري عشت نصها وأنا أتمنّاك زوجة لي... أنا ما أعرف غير الجوهرة... والجوهرة ماتت...
ثم أردف يأخذ نفسًا عميقًا : سلّم على عمتي سارة وقول لها عزام جاه اتصال ضروري وطلع،،،
مبروك ياعريس .

قالها وخرج من المكان بسرعة، حانقًا ناقدًا مقهورًا من نفسه، فإن كانت العلاقة بينهما سيئةً في السابق, فقد صارت أسوأ بكثيرٍ الآن.. يعبر فهد وأنفاسه الغاضبة المتأججه،، وعمته سارة الواقفة بجانب المجلس بعينين متسعة و وجهٍ مبهوت.. يغلق باب المنزل خلفه بقوة دون أن ينتبه لها.

.
.


في مكان بعيد،، لا شيء مسموع فيه سوى الأصوات الخافته من بعض الطاولات، أصوات الملاعق والأشواك.. صوت الكرسي يُسحب على الأرض الرخامية.. وبعض الكاسات الزجاجية تُقرع بأخرى..

كان يجلس أمامها، بعينين فارغتين تمامًا رغم الابتسامة الطفيفة التي جملت وجهه. اليوم لم يرتدي الأسود.. بل قميص أزرق جعل من سُمرته شيئًا لذيذاً كالعسل.. لكنه كان يشعر بالسواد يغلف قلبه، يمرِرُ عليه ذلك المشهد الذي عجز عن نسيانه منذ أن حصل، يرفع مسدسه، يطلق رصاصةً واحدةً لتستقر بمنتصف جبين الواقف أمامه، ليهوي واقعًا على وجهه كقطعة خشب..
يرتفع حاجبه ببرود، رغم تهدج أنفاسه، والصوت داخله يصرخ به مذهولاً "قتلت ساطي!!!!"

رمش أكثر من مره، يأخذ نفسًا حادًا ما إن أخذت يده بين يديها، تمرر طرف اظفر سبابتها الطويل على الحروف العربية المكتوبة بخطٍ صغير بالكاد يُرى على راحة يده.. بوشمٍ بدائي.. بين كل حرفٍ وآخر مسافة ، وعينيه تتابع حركة اصبعها.. يهتف بينه وبين نفسه ما إن تنتهي من رسم كلمه.

عـ زام س ا جــ ر
ش عــ اع
ــصيــ تــ ـهــ

لتسأل رافعةً عينيها المتوهجتين له : ماذا يعني كل هذا؟
.
.
.
.


# نهاية الفصل السابع عشر
نلتقي الاسبوع القادم إن شاءالله♡
وطلعوا فساتينكم من الخياط ورانا عرس < لا ظريفة بسم الله ماشاءالله :)


سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ♡.

 
 

 

عرض البوم صور وطن نورة ،،  
 

مواقع النشر (المفضلة)
facebook




جديد مواضيع قسم الروايات المغلقة
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 05:43 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية