كاتب الموضوع :
وطن نورة ،،
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي
.
.
.
أتمنى لكم يوم سعيد و قراءة ممتعة مقدمًا ❤
# الفصل الثامن،،
" لَم أترُكْ عَزيزًا عَبثًا "
.
.
.
كاد أن يكون يوماً جامعياً عادياً إلى أن قررت سارة عكس ذلك..
انتهت للتو من محاضرتها.. وضعت حاجياتها على مكتبها والتفتت برأسها تسترق النظر لغادة الجالسة خلف مكتبها هي الأخرى، تنظر لشاشة حاسوبها بتركيز تكتب تارة وتقرأ ما كتبت تارةً أخرى..
عادت تنظر للأمام، تأخذ نفساً تقوي به نفسَها.. قبل أن تستدير بكامل جسدها تمشي بخطى ثابتة حتى وقفت أمام مكتبها..
ضربت أصابعها بخفّه ضربتين على سطحه لترفع الأخرى المنهمكة في عملها بصرها لها..
ابتسمت سارة : الحلو مشغول؟
غادة وقد بادلتها الابتسامة بأخرى أجمل : يسوي نفسه مشغول..
ضحكت : طيب قومي معي عازمتك على قهوة.
ابتسمت وقد انعقد حاجبيها فأردفت سارة بسرعة قبل أن تعترض : متى محاضرتك الجاية؟
اسندت غادة ظهرها للخلف بارتياح : خلصت معامل اليوم كلها .
اتسعت ابتسامتها : وأنا عندي محاضرة بعد ساعتين..
.
كانت قهوة ستاربكس الشيء الوحيد الذي لا تختلف على إدمانه بنات الجامعة، ترى أكوابه بين أيديهن أكثر من كتبهن خصوصاً وأن العاملة المسؤولة عن إعداد القهوة فيه تكتب أسماءهن مع قلب صغير و وجه مبتسم ليكون مكونًا جيدًا للتصوير..
وقفت سارة وأمامها صفٌ طويل من الطالبات اللاتي ما إن انتبهن لها حتى وابتعدن باحترام لتتقدمهن..
لتقول بابتسامة لازالت تقف مكانها : شدعوة بنات عادي بنتظر..
لكن إحداهن كانت قد أخذت مقررًا عند سارة في أحد السنوات قالت باحترام : لا والله دكتورة أنتِ أول..
أخذت طلبها وطلب غادة ما إن انتهى لتودع الواقفات بابتسامة : الله يسعدكم حبايبي مرّه شكراً..
خرجت من المبنى لحديقة الجامعة حيث تركت غادة باكرًا تجلس على أحد المقاعد.. تأملتها وهي تخطو باتجاهها خطى هادئة.. تجلس وأمامها تقف طالبتان يتضح أن ماتقول يروق لهن خصوصاً وأن ضحكاتهن تصل لها رغم بُعد المسافة..
سلمّت بهدوء ما إن وصلت وجلست إلى أن انتهت غادة من حديثها تنظر لها : شفتي مسِّو قاعدين يقردنوني بنات التحضيري عشان أعطيهم الأسئلة .
ابتسمت سارة ما إن اشتعل وجه إحداهن بتبرير : أستاذة غادة أنتِ كريمة وحنا نستاهل واختبار المعمل مع مادة ثانية صعبة .
غادة : المفروض تذاكرونها قبل بوقت.
لتتحدث الأخرى بإندفاع : وين أستاذة مايمدي ضغط ضغط هو كويزات ولا اسايمنتات ولا مشاريع!!.. أنا ماتوقعت الجامعة كذا يازين الثانوي كانت نعيم. مايمدينا نحك راسنا تدرين متى آخر مره سويت تريتمنت لشعري؟
ثم أردفت باستنكار بريئ : والله العظيم حتى ما أتذكر متى آخر مره مشطته صاير شبكه من داخل أخاف أدخل أصابعي وتنكسر اظافري.
انفجرت سارة تضحك رغماً عنها تشاركها غادة : ياحبكم للحلطمة هذا وأنتم تحضيري.. توكلوا على الله الاختبار إن شاءالله سهل وبتقدرون عليه كلكم..
ثم وضعت كفها جانب وجهها بمرح تحجبه عن سارة تقول بهمس مرتفع : افتحوا البلاك بورد اليوم الليل وبتلاقون مفاجأة.
قالتها بابتسامة واسعة لتفهم الشابتين مقصدها وكأن هناك شَفرة بين الثلاثة ليبتعدن بحماس يمطرنها بكلمات الشكر والثناء..
مدّت سارة كوب القهوة لها عندما استدارت بجسدها لتواجهها، تأخذه منها وترفع نظارتها الشمسية التي تغطي عينيها لأعلى رأسها بيدها الأخرى تمنع بذلك خصلات شعرها الناعمة من التطاير : الله يسعدك شكراً.
مدّت لها سارة ثلاثة أكياس سكر : بالعافية..
فتحت غادة الغطاء و وضعته جانباً فهي لا تشرب ولا تستطعم قهوتها به،، أبداً.. تبتسم بود : ما أشربها بسكر.
ارتفع حاجبي سارة باستغراب : فوق ما إنها سودا كيف تتحملينها مُرّه؟ أنا ٤ أظرف سكر ويالله وتعتبر قهوتي دلع أخف منك بكثير..
ابتسمت تتلذذ بارتشاف القليل منها قبل أن تقول بابتسامة وغمزة : أحبها سوداء ومُرّه،، كقلبِه .
ضحكت تضع كوبها على الكرسي بينهن تبعد غطاءه وتفتح كمية كبيرة من أظرف السكر، تبدأ بتحريكها بالعود الخشبي تحاول ترتيب كلماتها وماذا ستقول وكيف ستقوله ولازالت الابتسامه تعتلي ثغرها..
كانت غادة تراقب حركة يدها التي طالت وترد التحية على اللاتي يعبرنهن من طالبات.. باتت تستغرب تصرفات سارة مؤخرًا رغم أنها لطيفة مع الجميع ومحبوبة من قِبل الجميع إلا أنها زادت العيار معها ، تلاحظ نظراتها المتفحصة لها.. وفي كل مره ترفع عينيها تجد عيني سارة تتأملها بسرحان..
أخذت سارة نفساً طويلاً تغلق كوبها بغطاءه البلاستيكي، تقول محاولةً في نبرتها أن تخرج عادية : أنتِ أكبر أخوانك غادة؟
ابتسمت ما إن التقت عينيها بعيني الأخرى : أنا الأخت الكبيرة لثلاث أخوات أصغرهم عمرها ١٠ سنوات..
سارة بهدوء : ماعندك أخوان؟
غادة : لأ.. أمي خلفتها كلها بنات .
فتحت سارة فمها وأغلقته لا تعرف ماذا تقول بعد ذلك.. لا تعرف أين فرّت الحروف منها وكأنها لم تخطب لأحدٍ من أبنائها قبلاً..
عمّ الصمت لدقائق كلاً ترتشف من كوبها إلى أن قطعته سارة أخيرًا : غادة، أبي آخذك رايك بموضوع..
لتقول بابتسامة وارتباك لا تعلم سببه : سمّي ؟.
كان ارتباك سارة أكبر من ارتباكها بكثير وكأن ما تقوم به فعلٌ خاطئ.. هناك الكثير فيما يتعلق بفهد،، ليس كناصر ولا حاكم أبدًا.. فهد مختلف لأسباب كثيرة وعوائق كبيرة وخلفيته بالماضي أكبر عائق حتى وإن كانت ماضٍ مضى.. حتى وإن كان كأخويه الآن،، لكن لازال ماضيه حجر عثرَةٍ في طريقة..
عضّت غادة حواف كوبها الورقي بقلق وهي تتأمل عيني سارة التي سرحت وكأنها ترى شيئاً لا أحد يراه غيرها .. إذ أن حتى ابتسامتها الصغيرة اختفت تماماً وحل محلها شفتين مشدودتان بتوتر.. استغلت غادة كل ذلك وبدأت تتأملها وأسنانها لازالت تعض حافة كوبها الذي فرَغ مافيه تقريباً.. هبّ هواءٌ حار كأنه خرج من جوف سارة، حرّك خصلات شعرها القصير والذي يصل حدّ أكتافها ليغطي جزءاً من ملامحها دون أن تكترث بابعاده حتى، هذا إن كانت لاحظت ذلك في المقام الأول.. ليعود مستقراً على جانبي وجهها بعد أن سكن الهواء تماماً لتتضح ملامحها الهادئة بشكلٍ يبعث السكينة للنفس..
هناك سؤال يراود غادة منذ أن بدأت تعمل في هذا المكان وتتمنى أن تعرف إجابته، كم عمر سارة بالضبط؟ تعلم أنها كبيرة.. تجاوزت الأربعين ربما.. لكن روحها لازالت فتيّه مليئة بالمرح والظرافة التي لا تبذل جهدًا لأجلها.. لا يتضح عليها الكبر أبداً فجسدها بقامته الطويلة مشدود وكأنها تمارس الرياضة يومياً وبشرتها تكاد تخلو من التجاعيد تقريباً،، حاجبيها مرسومان بإتقان.. عيناها ناعستان بحنوٍ فضيع وأهدابٍ كثيرة وأنفها صغير بعظمة مستقيمه.. حتى شفتيها كانت تمتلئ باعتدال تتلون دائماً بملمع شفاه وردي باهت يزيد من جمال لون بشرتها الخمري..
استمر حالها للحظات قبل أن ترمش سارة و كأنها عادت للواقع على نظرة عيني غادة المتسائلة من فوق حدود كوبها والتي قالت بسرعة : مِس سارة عادي اسألك سؤال واعذريني على لقافتي.. كم عمرك؟
ابتسمت سارة حتى ضحكت تعطيها وضعية التصوير السينمائي تضع يداً على خصرها والأخرى مبسوطةً تحت ذقنها : أنتِ كم تتوقعين؟
غادة بتأمل : اللي يشوفك يقول ماتعديتي الأربعين..
سارة بضحكة : الله يجبر بخاطرك. عمري يا قلبي ٥٣ سنة.
ثم مدت شفتيها بعبوس تردف : عجيّز صح؟
اتسعت عينيها بذهول ولم تكن تعلم بأن جزءًا من كرتون كوبها تمزق ودخل فمها حتى شرقت به : مستحيل..
ضحكت عندما بدأت تكح بقوّة تضع يدها على حلقها لازالت عينيها متسعة بذهول، لتقول ممازحة تضرب فخذها بخفه : اذكري الله يابنت خليني أربّي عيالي..
غادة بإحراج : ماشاءالله تبارك الله.. انصدمت جد الله لا يضرك على كذا كم عمر أكبر عيالك؟
سارة بابتسامة وحب خالص : أكبر عيالي دخل ٣٤ سنة، واللي بعده ٣٠ ثم يجي فهد عمره ٢٩ سنة وبعدهم آخر العنقود وبنتي الوحيدة وتراها مهيب بزر،، بتصير ٢٥ قريب.
لم يخفى عن غادة اسم فهد الذي ذُكر دون غيره لكنها لم تعطي الموضوع أي اهتمام لازالت تقيس أثر الصدمةِ عليها..: ماشاءالله .
سكتت سارة قليلاً قبل أن تقول : غادة أنا أبي أخذ رايك بموضوع.
ابتلعت ريقها بارتباك ولازال أثر الشرقَة واضحاً، ملامح وجهها تقول (قد قلتي هالجملة قولي وش عندك وخلصيني) ، لكن لسانها نطق بابتسامة متوترة : وش الموضوع؟ ترى والله بديت أقلق.
بادلتها الابتسامة بأخرى : اسمعيني غادة وبدون مقدمات، فهد ثالث عيالي وعمره ٢٩ سنة مثل ماقلت لك.. مهندس برمجيات في شركة وبسم الله عليه ماينقصه شي ومن شفتك تمنيتك عروس له..
زفرت سارة زفرةً مرتجفة تبتسم بعد الذي قالت بعد أن قالته دفعةً واحدةً في نفسٍ واحد.. ولم تعلم بأنها كانت تحبس هواءً في رئتيها حتى انتهت منه.. كحت الأخرى هذه المره تشرق بأنفاسها.. تبتعد بارتباك قليلاً عن سارة التي انتبهت لاذنيها التي اشتعلت لتقول بابتسامة : وش قلتي؟
استقام ظهرها تهرب ببصرها بأنفاسٍ مرتجفة تنزل نظارتها من أعلى رأسها لتغطي عينيها : فاجأتيني بصراحة ماتوقعت هذا هو الموضوع!!!
ضحكت بهدوء : أدري إني دجّيتها في وجهك على طول بس ماتتصورين يا غادة وش فهد بالنسبة لي..
تعلقت عيني غادة بها عندما قالت بنبرة حانية تذيب الحجر وعينين تتلامع : طيّب وحبيب وقلبه قلب طير وفيه حنان الكون كله، من شفتك عرفت إنك الوحيدة اللي تناسبينه .
ابتلعت ريقها الذي جف فجأة، نبضات قلبها تتسارع لأسباب عديدة أولها نبرة سارة في وصفه..
أخذت سارة نفساً قصيراَ آخر قبل أن تتابع : أنا أخذت رقم الوالدة من الدكتورة نجوى بس قلت اسألك وأشوف رايك قبل لا اتصل عليها.
زمت شفتيها تشعر باهتزاز حدقتيها من شدة توترها.. فتحت فمها وأغلقته تشد عليه.. ثم فتحته بعد ثوانٍ تقول بتردد : بس قبل فيه شي لازم تعرفينه مِس.
سارة بنبرة تتصنع فيها القلق فهي تعرف كل شيء : وش؟ لا تقولين مخطوبة!!
زفرت تهز رأسها تنفي بعد أن أخفضته : لا مو مخطوبة.
لتضع سارة يدها على صدرها تزفر براحةٍ لو كانت غادة في حالٍ أفضل لكانت انتبهت لكمية التصنع فيها : أشوى الحمدلله خوفتيتي يا شيخة.
تراخى حاجبيها وكتفيها بيأس، تهمس بضيق : مِس.
سارة بإصرار : أي شي بتقولينه الحين هيّن..
لتقاطعها ترفع رأسها تحمد الله الف مره أن عينيها محجوبة وإلا لكانت لمحت التماعها،، تقول بأسى وفقدان أمل : مِس سارة.. أنا فيني.. صرع.
لتتابع سارة : ...مهما كان..
غادة بضيق : سمعتي وش قلت؟ أنا فيني صرع..
سارة بهدوء وابتسامة حانية جعلت الدمع يتكدس حتى أحرق مقلتيها : سمعت.. وأدري.. وذا الشي مايعيبك أبد ياغادة بالعكس والله ما أثر على قراري باختيارك ولا بهَه..
قالتها تشير بنهاية اصبعها السبابة تعني (قيد أنملة). ثم أردفت : أنا لازلت أبيك لفهد ومصرّه على قراري مهما كان.
مررت لسانها على شفتيها تقول بخجل وتأثر واضح : والله ما أدري وش أقول.
سارة بابتسامة وقلبها وصل أعلى بلعومها من فرط شعورها : قولي آمين..
أعادت خصلاً من شعرها خلف أذنها تصرف بصرها عن عيني الأخرى المتلامعه، تهمس : آمين!
لتقول سارة بعبرة : الله يعجّل باليوم اللي أشوفك فيه مع فهد.
.
.
السودان،،
الثالثة والنصف بعد منتصف الليل..
.
كان صوت الصراخ مرتفعاً قادراً على أن يوقع سقف المنزل المتهالك أساسًا فوق رؤوس ساكنيه..
حتى صوت التوبيخ كان يسري في سكون الليل واضحاً : سدّي حلقك يابت فضَحتينا.
ليقول الصوت المنهك بأنينٍ واضح : ماقادرة يا أمي.. ماقادرة روحي هتطلع.
أخذت قطعة قماش بعد أن كورّتها لتضعها في فم ابنتها بغضب : هسّع كل السّتات بتولد بس ما أحد يصوط كده.. شويّة وتاجي الدايّة رانيا تحملي شويّة بس.
في الغرفة الملتصقة بها حيث الجدار الرقيق هو ما يفصل بينهم، كانت تحدث قصة أخرى.. هناك حيث عذوب تسند ظهرها على الجدار الذي تتمدد بجانبه بدايع ابنة أبو عصمان والتي باغتتها آلام المخاض قبل نصف ساعة تقريباً لتبدأ به موجات الصراخ المرتفعة التي أيقظت عذوب من نومها..
ابتلعت ريقها تعقد حاجبيها وعينيها الذابلتين ترى ما لا يمكن لأحدٍ سواها أن يراه،، مشهدًا لازال كابوساً تعيشه رغم أنه انتهى.. لازالت تعيش الفزَع والقهر والغضب حتى بعد أن انتهى كل شيء.
أسندت ذقنها على ركبتيها المضمومات لصدرها، وما صراخ وأنين الأخرى إلا كالموسيقى التعبيرية لذكرياتها المشوهه.. تستحضر أحد الليالي وكأنها حصلت بالأمس.. انفلت شريط الذكريات ومرت أمام ناظريها لتغمض عينيها دون أن تدرك بأنها تتمايل بجسدها يميناً ويساراً..
" إبتسامة..
غرفة مغلقة..
سرير..
صوت يهمس : بس أنا خايفة..
تصله إجابة حانية : لا عمرك تخافين وأنتِ معي. "
زفرت أنيناً حاراً على صوت أبو عصمان المرتفع الذي عاد من آخر القرية حيث تسكن الداية، يقرع الباب الذي تقبع خلفه ابنته : الداية رانيا وصلَت.. افتحي الباب يا مرَه.
كان الخوف واضحاً على صوته خصوصاً وأن صراخ ابنته الموجوعة كان مرتفعاً..
ابتلعت ريقها وأنين بدايع المكتوم قادرٌ على اختراق أضلعها وليس الجدران الرقيقة فقط.. تعقد حاجبيها تشد من إغماضها لعينيها تشعر بالعرق الذي تشكّل أعلى جبينها يتدحرج نزولاً للأسفل،، تماماً كما كانت قبل . . . لا تعلم كم مضى عليها منذ ذلك اليوم عندما استيقظت تغرق بدمائها لتضع يدها على بطنها بهلع أنساها كل ألم كان يفتك بها في تلك اللحظة..
من بعد ذلك اليوم توقف عمرها ولم يعُد حساب الأيام والسنوات مهمًا بالنسبة لها،، أبدًا.
لفت ذراعها على بطنها تضغط بكل قوة وصوت بكائها المكتوم يرتفع مع صوت بدايع الصارخة وصوت الداية تهتف : كمان شويّة يا بدايع.. ادفعي كمان شويّة..
شعرت باليدين التي بدأت تهزها بقوة لكنها لم تتحرك حتى بعد أن صرخ بها عصمان يبكي بخوف : أنتي ليه بتبكي بابتول؟ هيَّ بدايع هتموت ولا شنو؟
لا تعلم كم استمر الحال حتى وصلها صوت بكاء الصغير ما إن خرج من بطن أمه، رفعت رأسها تضحك ودموعها تنساب على خدها دون أي مقاومه وهي تسمع رانيا تهتف بسعادة : مبروك يا بدايع.. وَد زي القمر اللهم بارك ..
عذوب بضحكة مرتعشة محاولةً مسح دموعها علها ترى في الإضاءة الخافتة : بدايع ولدت ياعثمان..
بحثت عنه بعينيها ولم تجده وعلمت أنه يئِس منها وخرج دون حتى أن تشعر به عندما سمعت صراخة سعيدًا بالخارج بعد أن عرف : هنسميه عصمان وهاخدوا يلعب معايا من بكرة.
.
حَملت الصغير بين يديها بعد أن نزعت لثام وجهها ما إن خرج أبو عصمان من غرفة ابنته بعد أن تطمن على صحتها ليعيد رانيا لمنزلها.. قربته من صدرها بحنو وهي تتأمل وجهه بابتسامة سارحه ودموع تتجمع على سطح عينيها.. أرخت من القماش المشدود عليه لتُحرر ذراعه تمسك بكفه الصغير الذي اختفى تماماً تحت أصابعها ، ترفعه لشفتيها تقبله بضحكة مخنوقة : قلبي أنا شوفي يده كيف سعنووونة.
ابتسمت لها أم عصمان رغم أن عذوب المفتونه بالكائن صغير الحجم بين يديها ومشغولة بتأمله لم تلتفت ناحيتها أبداً..
لاحظت خط الدموع الذي ارتسم على خدها ولم تعلّق فلا أحد يعلم شيئًا عن حياة البتول وما حصل فيها.. حتى البتول نفسها عندما قرعت بابهم في أحد الليالي تبكي بهلع وخوف قبل أن تتهاوى واقعةً على الأرض، تستيقظ بعدها لا تذكر شيئًا.. كانت أم عصمان من أول المعارضين على بقائها في بيتها لكن زوجها كان له وجهة نظر مختلفة فالمرأة قرعت بابه تستنجد به ويستحيل أن يتخلى عنها بعد أن استفزعت به. دمه السوداني الحار يأبى..
كان هذا قديماً لكن الآن أصبحت البتول فردًا من أفراد العائلة. لا يقف خلفها ويحمي ظهرها أبو عصمان وحده.. بل زوجته وابنته وحتى عصمان الصغير..
تنهدت والتفتت حيث ابنتها تتمدد وتنام كالمقتوله بعد أن انتهت من عذاب ٩ أشهر وكأنها أنهت حرباً ضروساً للتو..
.
نامت عيون الجميع إلا عيني عذوب بقت ساهرة، تجالس الصغير الذي أصبح الآن بين أحضان والدته بعد أن استيقظت تتحسس بطنها ولم تصدق أنها ولدت ولازالت على قيد الحياة لم تخرج روحها مع خروجه.. لتقول بعدم تصديق بأن كل ذلك انتهى فعلاً : أنتِ حقيقي بتول ولا شكل من أشكال عذاب القبِر؟
كانت تصف الألم الذي شعرت به -والذي تعرفه عذوب جيدًا- تحلف الأيمان المغلظة بأنها لن تكرر التجربة مجددًا مهما حصل
لتعلق عذوب ضاحكة : الكلام هذا ماراح يعجب زوجك.
لتعبس الأخرى : ياريتو يجرب عشان يعرف كيف الموضوع ماسهِل. الراجل منهم همو بس يملي بيتو وِلاد والسِت بحريقة قاعد كدا خارم بارم داير يجيبهم حتى لو مالاقي ياكُل.
عذوب لازالت الابتسامة الهادئة تجمل وجهها تمد يديها لتأخذه منها مقبلةً خده برقة : اتركيك من هالكلام وعلميني وش قررتي تسمين القمر هذا ؟
سكتت بدايع تتأملها بابتسامة وهي التي تعرفها منذ أن أتت وأكرمها والدها في منزلهم،، رغم أنها كانت تعتزل الجميع في بداية الأمر تصبح كاللبوة تكشر عن أنيابها إن اقترب أحدٌ منها أو حاول أن يخلق معها حديثاً،، لكنها ومع مرور الأيام اعتادت عليهم وعلى بدايع بالذات والتي كانت تشاركها هي وعصمان نفس الغرفة، خصوصاً وأنها تقيم مع أهلها حتى عودة زوجها الذي يعمل في الكويت ولا يأتي إلا في إجازاته فقط..
لم تعي عذوب بأن بدايع كانت تكلمها حتى ألقت عليها كوباً بلاستيكياً بجانبها ليصطدم برأسها ثم يقع على الصغير في حضنها..
لتقول بإنفعال تحذفه عليها مجدداً : وجع اوجعتيه.
بدايع بابتسامة بعد أن تصدت له بذراعها : سرحانة بمنو صارلي ساعة بأكلمّك!
رفعت عذوب الصغير تدفن أنفها في رقبته تستنشق رائحته : سرحانه بالحلو هذا.
بدايع : تفتكري لما قولتلّيك هتسميه لو طلع وَد متل ما اتوقعتي؟
رفعت عذوب رأسها لتتسع عينينها بذهول تلتمع بحماس تراه بدايع لأول مره، تقول بسرعة وعدم تصديق : صدق؟ عادي أسميه؟ زوجك مابيزعل!
عبست : وزوجي مالو بالاسم افتكر أنا اللي جبتو وكانت روحي هتطلع قبيل.. و الله يخليكي أنا ماناوية أديلو مجال لانو هيسمي على اسم أبوه.. وقلّك إش اسم أبوه ؟ دلدوم .
ثم أردفت باستنكار حقيقي أضحك عذوب : بقَى أنا أشيلو تسع شهور عشَان ينادوه بالأخير دلدوم!! لا يا ستّي عليك الله تسمّيه.
لتقول عذوب بعد تفكير وهي تتأمل وجهه تمسح بظهر سبابتها على خده وعقلها يصّور لها بطلاً كانت تعرفه يومًا : ذيب،، سمّيه ذيب.
.
.
تلتقي العائلة في منزل خالد بن عزام و والديه من وقتٍ لآخر،، مرة كل أسبوعين تتخللها زيارات متفرقة.. كان منزل العائلة الكبير الذي يجمع الكل مهما تعددت المناسبات بسبب وجود كبير العائلة عزام و وزوجته شعاع..
شقيقه عبدالله والد صيتة ومشاعل وعبدالإله توفى قبل سنوات تزيد عن العشرة.. لتلحق به زوجته بعد سنتين.. ولم يبقى سواه هو وأخته الصغرى صيتة.
فقد الكثير في حياته ابتداءً من ابنه الشاب ذيب والذي أصبحت كل خسارةٍ بعده هينّه.. وانتهاءً بعضيده،، وما بينهما هم أصدقاء وقَرابه..
لذا كان يحرص في كل مرةٍ على أن يجمع أحفاده في منزله وكأنه لن يراهم غدًا.. يفشل في أغلبها فلا يستطيع أن يقول شيئًا إن اعتذر أحدهم بسبب انشغاله..
كان عزام بارعًا في ذلك ومن يترأس القائمة دائماً،، لكنه تواجد اليوم قبل الجميع على غير العادة مما أبهج العجوز وأصر عليه كي يجلس بجواره دون أن يسمح حتى للهواء بالعبور بينهم.
كان الحديث يدور في المجلس بودٍ كبير، يضحك رغم محاولاته الفاشلة بأن يتصنع الثقل أمام مزاح حاكم وعبدالإله وتعليقاتهم. لكنه فقد الأمل بذلك خصوصاً باهتزاز جسد عزام الجالس بجانبه يضحك بصوتٍ مرتفع..
حطّت عينيه على مريم الجالسة بجانب ذيب لا تفارقه أبدًا منذ أن دخلت.. ليشير لها بيده بأن تأتيه. قطعت المسافة بينهم حتى وصلته تمسك يده الممدودة لها بين يديها وتقبل كفه قبل أن تستقر جالسةً في حضنه.
ابتسم عزام بحنو وهو يسمع حديث جدّه الخافت معها.. وإجابات مريم على أسئلته آخرها سؤاله : طيب تعرفين أنا وش اسمي؟
لتجيب مريم بذات الهمس : أبوي عزام.
اتسعت ابتسامته وهو يدخل يده في جيب ثوبه العلوي يُخرج ورقة نقود ويدسها في كفها مقبلاً شعرها : شاطرة بنتي مريم.
ثم رفع صوته يسأل ما إن ابتعدت من عنده : فهد وش فيه للحين ما جا؟
ابتلع عزام ريقه يشد على فكّه بكل قوة، كان مرتاحاً لعدم وجوده ولكن بوجوده سيصبح الجو مشحونًا لا محاله..
ليرفع حاكم هاتفه : هذا أنا بدق عليه أشوفه.
أجلس عبدالإله ابنته بجانبه ما إن وصلت له بعد أن ناداها يأخذ مابيدها ليقول بصدمة : شدعوة ياعمي ١٠٠ بس!! توقعتها ٥٠٠ على الأقل!
أبو خالد ضارباً بعصاه الأرض أمامه : الخلا بس ليه حلالي سايب يالمخنز؟ مير هات الميه بس منت بكفو لا أنت ولا بنتك.
ضحك عبدالإله يدخلها في جيب ثوبه ويمد عوضاً عنها ورقتين نقديتين من فئة الخمس ريالات لابنته -والتي فرحت بها ظنًا بأنها أكثر- : نمازحك ياعم يكفي إنها منك الله يحييك..
انتهى حاكم من اتصاله ليقول بابتسامة قبل أن يتحدث جدّه : إلا وش عندك ياجدّي ملزم تجمعنا كلنا؟ خير وش ناوي عليه؟
أبو خالد بانفعال : وهو لازم يكون فيه شي عشان اجتمع بعيالي؟ لا بارك الله بذا الوجيه شرهتكم على اللي متشفق على شوفتكم .
ابتسم خالد الجالس بجانب والده يفصل بينهم المسند، يشير بيده لمن يجلسون أمامه بالصمت : اتركك منهم يبه جيل متهالك تلاقي وراهم طلعه وأنت ربطتهم.
أبو خالد بإزدراء : وأنا أشهد. لو انكم مع أخوياكم خوت جنوبكم كان كل واحد قاعد والكشره شاقه وجهه.
عبدالإله بهمس لم يسمعه سوى الجالسين حوله : وش فيه عمي ؟
ارتفعت الأبصار لذيب الساكن معه بنفس المنزل ليرفع كتفيه بمعنى "ما أدري" .. فعلّق حاكم ضاحكًا بمودة وهو يتأمل جده يتحدث مع عزام بعبوس : أجل جاته الحاله اتركوه. شوف شلون مطنقر وهو يسولف مع عزام تقل مغصوب.
دقائق فقط قبل أن يصلهم سلام فهد الذي أسكت الجميع، يخلع نعليه قبل أن يدخل وعلى ثغره ابتسامه صغيرة..
تصدد عزام بنظراته وهو يرى اقتراب فهد منهم.. يسلم على خاله ثم ينحني لجدّه الجالس مقبلاً رأسه وأنفه ويده ولم يدعه إلا بعد أن أخذ أخباره كلها يعتذر عن تأخره.
عقدةٌ صغيرة تشكلت بين حاجبيه عندما أصبح يقف أمامه يمد يده لازال مبتسماً، لم يجد عزام مفراً من ذلك فصافحه، يشعر بيد فهد تشد على يده بكل قوة مثل كل مره يصافحه فيها.. يقربه منه للسلام وقبل حتى أن يلتصق خده به، ابتعد عزام برأسه يحرر يده.
تفهّم فهد ذلك ولم يلُمه.. يراه يعاود الجلوس في إشارة منه بأن يبتعد من أمامه.. فهم ذلك جيدًا وابتعد يسلم على الباقي حتى جلس بجانب عبدالإله. عينيه لم تفارق عزام الذي بدأ يظهر التشاغل بهاتفه وكأنه لا يريد حتى أن يراه.. رغم ذلك لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يسأل : وش أخبارك أبو العز؟
النبرة لم تتغير كثيرًا عن نبرته قبل إحدى عشر عامًا لكنها ازدادت عمقًا.. ابتلع عزام ريقه يزفر أنفاسه بحرارة ينظر له مجيبًا باقتضاب : يسرّك الحال.
ثم وقعت عينيه بعيني عبدالإله المتوسله فتابع بصعوبة : أنت بشرني عنك؟
اتسعت ابتسامة فهد، ابتسامة حقيقية من أعماق قلبه شكلّت تجاعيداً دافئةً حول عينيه استطاع عزام أن يراها رغم المسافة بينهما : الحمدلله بخير ونعمة دامك بخير..
تنحنح عزام بضيق وكل هذا كثيرٌ عليه، قبل أن يقف كالملدوغ لتمسك يد جدّه بطرف ثوبه يسأل عاقدًا حاجبيه : وين رايح؟
عزام بضيق : طلَعت لي شغله ياجدّي ولازم أمشي.
لتزداد عقدة الحاجبين : والله ما تمشي إلا وأنت متعشي.. اقعد بس اترك عنك الحركات ذي.
عزام بزفره : يبه الله يطول بعمر..
قاطعه بعدم رضا : قلت والله، ترد حلفي يا ولد ذيب؟؟
تنهد من أعماق قلبه علّ ضيقه ينجلي، لكن هيهات هيهات..
عاد يجلس وهو يشعر بالهواء يخنقه.. لا شيء يساعده أبدًا حتى صوت فهد الذي كان يتحدث مع من هم حوله.. يسأل باهتمام : ناصر ما جا؟
ليجيب حاكم بهدوء : مستلم الليلة.
وصلهم صوت الأهازيج الطربية والزغاريط ثم تبعه بعض الصرخات ليفّز الجد مرعوبًا : عسى خير وش بلاهن؟
خالد بابتسامة : خير يبه بس الجادل محتفله بأمي لأنها حفظت جزئين من المصحف..
ليقول حاكم بصوت مرتفع : جزئين من المصحف!! كفو يابنت هادي أنا لازم أدخل أبارك لها بنفسي..
لكن خاله قال معلقًا بضحكة فاهمًا غرَضه وهو يراه يعيد ترتيب شعره : أقول اقعد.
حاكم بابتسامة واسعة : عسى الله ينفع بها والله إنها تاج على راسي.
أبو خالد بإزدراء : صدقت، سوّت اللي ماقدرت تسويه أنت.
تطايرت عيني حاكم باستنكار، ليتابع جدّه مستمتعاً بمشاكسته : ماتقولي كم جزء حافظ من كتاب الله؟
حاكم بتلعثم : حافظ الحمدلله.
أبو خالد مضوقاً عينيه : إيه كم يعني؟ شف ذيب جعلني ما أبكيه باقي له خمس أجزاء ويختمه عسى الله يثبته.
تنحنح : إن قلت صارت رياء .
ضحك : داري منت حافظ منه إلا اللي تقراه بصلاتك مير بعذر من شاف وجهك شاف معه قترَه..
حاكم بذهول وضحكة عبدالإله كادت أن تصمّه : لا صدق ذا وش فيه علي!
تبدلت الأحاديث لمزاح ونكات يضحك عليها الجميع فيما عداه،، لا شيء يساعده ولا أحد يعلم كيف شعوره في هذه اللحظة وفهد يجلس أمامه يشاركه نفس الهواء..
كم يتمنى أن يمحي ٢١ سنة من عمره كان يعرف فيها فتاةً تُدعى الجوهرة كان متيمًا بها مستبدٌ به الحب حتى أذهب عقله، يذهب لها بقلبٍ مثقل ليعود منها بقلبٍ مزدهر لا حُزن ولا حَزن فيه.. يراها زوجةً له رسم بقربها حياةً كاملة لكنها أصبحت الآن رجلًا يدعى فهد يجلس أمامه..
واللهِ لا أحد يعلم بكُبِر الموضوع في عقله،، وصعوبته في نفسه.. فلا أحد كان يرى الجوهرة كما كان يراها.. ولن يأتي أحد لأن الجوهرة قد تلاشت تمامًا كما يتلاشى الدخان،، كالسراب الذي توهمّه ضائع فقد الأمل بالنجاة..
يشعر بأضلعه تضغط على قلبه، تعصره حزناً وعدم راحة.. لا أحد يعلم كم يشتاق عزام لنفسه القديمة.. لازال في قلبه بقايا، أمنية بأن ينتهي كل هذا التوهان المُبهم.. تنتهي كل هذه الحيرة وعدم الاستقرار والضياع والتشتت وأن يلتقي بروحه التي لازالت تائهه في وادٍ غير واديه..
.
دخلت الجادل الصالة قادمه من المطبخ تحمل بين يديها كيكة غُرست بها شمعة حفلات ينطلق الشرار منها، من خلفها ريم تحمل سماعةً صغيرة يرتفع صوتها بأحد الشيلات..
فزّت جدتها بهلع من الصوت المرتفع الذي باغتهن ، وهي تراها قادمة ناحيتها تتمايل بما بين يديها : يامال الهجاد صبيتن عظامي..
الجادل بعد أن زغرطت لازالت تتراقص بالطبق بين يديها : الف مبروك يا شعيع .
لتقول بقلق وهي ترى الشرارة المرتفعة تتمايل معها : اهجدي يا بنت لا تحرقينا.
سارة باستنكار ضاحكة عندما وضعت الجادل ما بين يديها على الأرض ترفع عكاز جدتها وتبدأ الرقص به تتعمد ضرب ريم بطرفه وكأنها لا تقصد لتصرخ الأخرى مع كل ضربه : وش فيكم ليه ذا كله ؟
أم خالد بانفعال : اصه يامال الفَترة اقصري صوتك المجلس مليان رجال.
مشاعل باستمتاع : عمتي شعاع بسم الله عليها حفظت جزء عمّ وتبارك وسمعتهم اليوم كلهم صح.
سارة بفرحة وعبرة واضحة : صدق يمه؟ ماشاءالله تبارك الله .. الله يزيدك من فضله و يثبته .
أم خالد ويدها على رأسها تتمايل به بمبالغة : اقصرن من حس ذا البلا يا بنات راسي بينفجر.
أغلقت ريم هاتفها الموصول بالسماعة تقترب من جدتها تحتضنها تقبل رأسها وتهنئها فهي امرأة قد تجاوزت الثمانين من عمرها وأن تحفظ جزئين من المصحف يعتبر إنجازاً لمن هن في مثل عمرها..
مسحت عينيها بطرف طرحتها بعد أن اقتربن منها يقبلنها، تسمع تبريكاتهن ودعواتهن لتقول بصوت مخنوق بالعبرة : كان انتظرنا صيتة تجي وراها تأخرت!.
الجادل تمد لها قطعة كيك وريم من خلفها تصب لها فنجان قهوة : والله كانت النية ننتظر جدتي صيتة بس شكلها مطولة.
لتتابع عنها شعاع بابتسامة : لولو تقول صديق أبوها عندهم بيجهزون عشاه و يجون.
هزت أم خالد رأسها بتفهم قبل أن ترفع طرف برقعها لترتشف من فنجانها : دام كذا أجل معذورة، الزم ما على المرَه رجلها وضيفانه تجي وقت ما تجي الله يحييها البيت بيتها.
مشاعل بتأييد : إيه والله الزم ما على المَره رجلها.
كانت صيتة تسمع كلامهن بابتسامة لا معنى لها فهي لم تجرب معنى أن يكون في حياتها رجل تلتزم به.. ذيب كان التزامها ولزَامها الوحيد حتى وإن لم يبقى معها إلا لأسبوعٍ واحدٍ فقط،، لكنها لم تستطع أن ترتبط بغيره فقد أغلق قلبها وعينيها وأخذ مفاتيحهم معه.. أسبوع بأيامه ودقائقه وثوانيه لكنه كفيل بأن يكون عن عُمر وحياة كاملة.. مؤمنة بأنها لن تعيش أياماً كالتي عاشتها معه وبقربه لدرجة أنها لازالت تشعر بحلاوتها وكأنها عاشتها البارحة وليس قبل أكثر من ربع قرن..
ضحكت والعبرة تسد حلقها وهي تسمَع الجدل القائم عندما قالت سارة : لا يختي الوحدة يكون عندها شخصية شوي لا ترخي الحبل واجد.
لتقول مشاعل بتهكم : شفناك يا أم شخصية لامن قالك ولد ناصر اقعدي بلعتي لسانك وقعدتي.
لتبرر سارة ممازحة : أقصد شخصية بس بحدود.. بعد الرجّال قال اقعدي أقول له لأ يعني يامال اللاوي!!
.
سارة : مين اللي سوت القهوة؟ والله ياهي بالمخيخ.
الجادل بابتسامة : بالعافية، أنا اللي سويتها ياعمة..
ارتشفت مابقى في فنجانها بتلذذ لتمده ناحيتها : الله يسلم هاليدين. عبي الفنجال تكفين أبي أقنّد راسي.
أخذت الجادل الدلة من بين يدي ريم لتتجه ناحيتها بسرعة : ابشري ابشري..
ريم بعد أن رفعت يديها باستسلام : يالله لك الحمد والشكر إني عشت عشان أشوف هالمعجزة.. الجادل مستحية لا لا لا مستحيل!
الجادل بزعل طفولي يليق بها بعد أن مدت فنجان قهوة لخالتها صيتة : عميمه سارة شوفيها..
سارة بمودة : روّيم اعقلي عن الجادل أحسن لك لا أتوطى بطنك.
ريم : صدق من قال لاحبتك عيني ماضامك الدهر يعني لأنها زوجة ولدك تحامين عنها قدام بنتك يمه!
جلست الجادل بجانب شعاع السارحة منذ أن أتت على كلام سارة الذي أذاب داخلها من فرط الخجل : الجادل بنتي وقطعة من قلبي قبل لا تصير مرَة حاكم.
شعاع بهمس توكز جانب أختها بكوعها : حركات..
لتبتسم الأخرى دون أن تعلق عليها تصرف بصرها عن الجميع وتقول عوضاً عن ذلك : عاد تكفين ياجده لا تنسينا إن دخلتي الجنة.
أم خالد في محاولة فاشلة بأن ترفع قطعة الكيك بالشوكة دون أن تقع منها لكن دون فائدة فقالت بانفعال : بإذن الله إني بدعي الكل يجيني إلا أنتي.
الجادل بصدمة حقيقية : أفاا!!
ضحكت مشاعل رغماً عنها : أفا ياعمه وش فيك عليها؟
تركت الشوكة لصيته الجالسة بجانبها والتي قالت بحنو وصوت خافت كي لا تحرجها أمام الجميع : هاتيها يا عمه أنا بقص لك..
لتقول بعد ذلك بتبرير : لأنها رباديّه أحايلها تجي معي لمركز التحفيظ تحفظ لها كم سورة تنفعها بس عيّت تبي الرقاد.
شعاع : وهي صادقة روحي معها بدل قعدة البيت..
لتجيبها الجادل بخفوت وهي تراقب تحركات خالتها صيتة الحذرة ترفع الشوكة حتى قربتها من جدتها قبل أن تأخذها الأخرى ترفع طرف برقعها وتأكل مافيها قبل أن يقع.. : ما أشوف له داعي وجدتي تروح المركز لأنها تبي تتونس مع الجارات ويساعدونها على الحفظ لكن أنا الحمدلله ملتزمة بوردي و أحفظ منه جزئيه كل ليلة..
دارت الجادل بالقهوة مرّه، ثم شعاع مرّه.. وأخيراً ريم لتستغل الجادل ابتعادها وتسأل شقيقتها بقلق : شعاع وش فيك منتي على بعضك من جيتي!! صاير شي؟
شعاع بتنهيدة : عزام.
عقدت حاجبيها : وش فيه؟ وأنا كل ما سألتك قلتي عزام وعزام هي وحدة من الثنتين يا إنك تصرفيني أو ماعندك حياة ومخليته محور حياتك..
ضحكت : لا والله، بس أحس عزام مضغوط بالشغل ودي أسوي له شي يغير جوه ويطلعه من اللي هو فيه.. كاسر خاطري والله.
لوت فمها بامتعاض وتهكم قبل أن تقول : سافروا.
شعاع بتفكير : لا صعبة سفر ومستحيل يرضى مع إنه ودي.
الجادل : طيب احجزي بفندق ليلة أو ليلتين غيروا عن جو البيت.
لتقول بدون تردد : أحس تفاهه..
ارتفع حاجبيها باستنكار : تفاهه!! طيب اسمعي فيه مجموعة بنات فاتحين بزنس تعلمينهم وش مناسبتك واللي تبينه ويجهزون لك مكان بترتيباته من الألف إلى الياء.. وفيه شاليهات جديدة توها شفت صورها صغيرة ومرتبة احجزي وحده واطلبي يرتبونها قولي انكم معاريس جدد عشان يحطون لكم بنص السرير المنشفة اللي على شكل بجعة وينثرون ورد عليه ويسون لكم حركات بركات..
ثم أردفت بسخرية : عاد أنتِ صيري ذكية واطلبيه يكون مجفف عشان إن نكد عليك عزام ترجمينه فيه لين يصب الدم من راسه .
اعتلت الحمره أعلى وجنتيها وضحكت : وأنتِ وش عرفك بالشغلات ذي؟ ليه تدورين عليها؟
ابتسمت : حبيبتي عمري ٢٥ سنة الحركات ذي صارت قديمة بالنسبة لي، وبعدين أنا حالفة أخلي حياتنا أنا وحاكم مليانة فعاليات ما ندخل البيت إلا عشان نبدل ثيابنا.
شعاع بابتسامة من نبرتها الحالمة : وإن جاك حاكم ثقل ؟
ابعدت قميصها قليلا عن صدرها وأخذت تنفخ وتقول : كش برا وبعيد،، لا اللهم لك الحمد جا تفصيل على جوّي مع إن اللي يشوفه يقول العكس.
شعاع باستنكار : إذا حاكم الضحوك ٢٤ ساعة تقولين عنه كذا!! أجل وش خليتي لناصر!
اقتربت ريم منهن لتقول الجادل بصوت مرتفع : خلاص غيري الموضوع جات ريم.
جلست ترميها بنظرات مزدرية : تحشون فيني؟
الجادل ببساطة : لا عيوني باخوانك.
اتسعت عينيها مذهولة واعتلت ضحكات شعاع المكان على نبرتها عندما قالت بعدم تصديق : سلامات؟
شعاع ولازالت الضحكة بصوتها : نقول حاكم بسم الله على قلبه ضحوك عكس ناصر..
ريم بضيق : حرام والله ناصر مهوب شين مرّه بس تعابير وجهه ظالمته.
الجادل : لا والله بلاه من حرمته قشرا.
لتقول شعاع بعدم رضا تسكتها : اذكري الله وش تبين فيها..
ريم بتفكير : الحق كل أخواني نفسياتهم حلوة حتى ناصر خصوصًا يوم يصير رايق ماتبينه يسكت من كثر ماسواليفه حلوة وتوسع الصدر. بس حاكم أكثر شي لأنه ياخذ كل شي بسهاله واستهبال،، وفهد....
قالتها تمد شفتيها بتفكير وكأنها تبحث عن كلمة مناسبه لوصفه.. التقت عيني الجادل باختها التي ابتسمت ابتسامة لا معنى لها ما إن قالت ريم بنبرة مذابه بالحب : فهد غير.. وجوده بالمكان يكفيك حتى وإن كان ساكت .
.
بعد صلاة العشاء بساعة تقريبًا ، دخلت لولوة بعد والدتها تسلم على الموجودين.. وما إن ابتعدت حتى ونظرت صيتة لمشاعل الجالسة بجانبها بنظرة معناها "هاه وش قلتي؟" .. وكأنهنّ يرينها للمره الأولى.
استدارت مشاعل بنظرة تقييميه تبدأ من الأعلى للأسفل تتفحص لولوة التي كانت تسلم على ريم تسمع منها تعليقاً أضحكها،، فصيتة قد قالت لها نيتها بأن تخطبها لشقيقهن. لترفع مشاعل حاجبيها تهز رأسها برضا وابتسامة واسعة انتبهت لها سارة الجالسة أمامهن..
تحركت من مكانها لتجلس قسراً بين الشقيقتين : وسعوا لي شوي..
مشاعل بضيق وهي تبتعد بصعوبة بعد أن جلس جزء من الأخرى عليها : الله لا يضيّق علينا..
ضحكت تعيد شعرها للخلف بحماس : وش السالفة؟
مشاعل : لا إله إلا الله أنا أخاف أقول شي بيني وبين نفسي وتجين تسأليني .. مافيه سالفة يالله هشّي هناك هش هش..
سارة بنظرة قبل أن تعطيها ظهرها : جيت اسأل صيتة ما جيت لك..
ثم تابعت بمرح : علميني صيوت قبل لا تطّق كبدي من اللقافة..
صيتة بابتسامة وخفوت : نبي لولو لعبادي،، وش رايك؟
عقده صغيرة تشكلت بين حاجبيها وعينيها تتعلق بالتي جلست بالقرب من ابنتها.. كانت في يوم طموح ابنها ولكن طموحه رُدّ عليه وحطمه..
حاولت أن تبتسم : بسم الله عليها ما يبي لها راي ذي ونعم الإختيار.
صيتة : البلا الولد ماهو براضي، يقول توي.
مشاعل بنبرة ناقده : والله لو تركتي أخوك على هواه ما أعرس بيقعد لاقط شنطته وبندقه من ديره لديره ويكب علينا بذا العصافير والله أخاف الريش يطلع مع أذاني.
سارة ضاحكة : اتركوه على هواه طيب، عبدالإله مهوب بزر وأكيد يدري بمصلحته..
مشاعل : أخته تبي أخوان.
صيتة بعدم رضا : وهي صادقة وبعدين الرجّال لا تعود الوحدة يصير خلاص ماعاد يبي أحد. عبدالإله توه على ذا كله قلبه للحين حي يبي له مرَه تعفّه..
سارة بابتسامة : الله يكتب له مافيه خير وصالح ولولو مافيه مثلها يكفي إنها بنت عمتي صيتة.
ثم أردفت بتردد تبلل شفتيها بطرف لسانها : طيب يا بنات بقولكم شي بس لا يطلع.. للحين ما صار شي لكن والله من زود فرحتي نفسي أبشركم وأفرحكم معي.
التصقت بها مشاعل تلفها ناحيتها : وش؟
رغم أن أكبرهن سارة وقد بلغت ٥٣ من عمرها وصيتة تصغرها بسنتين تقريباً ثم مشاعل وقد دخلت عامها الثامن والأربعون قبل أيام.. إلا أن من يراهن يستحيل أن يتوقع أعمارهن الحقيقية.. فلا سارة وصيتة يتضح عليهن كِبر الخمسين ولا حتى مشاعل بخفة دمها وحركاتها تبدو وكأنها قد تجاوزت الأربعين. لازلن يتمتعن بصغر الملامح، قلوبهن بنقاء الماء واتساع السماء. لازلن صغاراً كالماضي تمتلئ دواخلهن فرحًا ومرحًا ولم تخطف الأيام شغفهن وإقبالهن على الدنيا ،، لاتزال أرواحهن خضراء، تنمو أغصانها وترتفع بعفوية وشفافية..
سارة بحماس تقربهن منها بلف ذراعيها حول اكتافهن كي لا يسمع أحد : بنخطب لفهد قريب إن شاءالله.
كادت مشاعل أن تصرخ لولا ذراع سارة خلف رقبتها والتي غطت بكفها فمها.. لتقول صيتة هامسة بسعادة : ماشاءالله تبارك الله .. مين؟
سارة : وحده معي بالجامعة .
صفعت مشاعل كف سارة الذي لازال يغطي فمها لتقول بعينين ملهوفة : جعل ربي يكتبها من نصيبه ويبلغك فيه وبعياله يارب..
لتقول سارة بأمل ورجاء : اللهم آمين،، ودي ولدي يستقر ويعيش حياته يا بنات .
صيتة بنبرة دافئة : إن شاءالله، وبتشوفين عياله وتزوجينهم.. فهد يستاهل كل خير ويابخت اللي بتضوي عروس عليه.
قالتها صيتة تعني كل حرفٍ فيها فهي تحب فهد كما كانت تحب الجوهرة ولم يتبدل شيءٌ من شعورها ناحيته إلا ربما زيادةً لاحد لها شفقةً و رحمة.. مع ذلك في قلبها أسى لأنه في يومٍ ما عندما كانت جميع الأمور والموازين مختلفه،، كان حلم ابنه الذي استفاق منه فزِعاً ولازال.. لدرجة أنه بقى تحت تأثيره حتى هذه اللحظة.
:
*
مضى أسبوعين من بعد أن عرفت سارة بالمصيبة التي حلّت عليها.. كانت إجابتها الدائمة على كل الأسئلة : الجوهرة طيبة الحمدلله بس ننتظر تطلع نتايج التحاليل عشان نتطمن أكثر .
لم تكن الإجابة مقنعة لأي أحد، خصوصًا أنها كانت تقولها بوجهٍ باهت وملامح مدفونه تحت الركام.. مع ذلك كانت كفيله بأن تجعلنا نسكت دون أن نسأل أكثر..
إلى أن اتصلت عليّ ليلاً في أحد الليالي.. ارتعبت ما إن أجبت، وزاد هلعي حتى وصل لذروته لأبكي بخوف وصوت بكائها أول شيءٍ يصلني ما إن قلت بتوجس : الو..
كانت سارة صديقتي أيام الصبا والأكيد أنها لازالت حتى بعد أن أصبح أبناؤنا كباراً.. علاقتي بها لم تكن بهذه القوة والمتانة لأنها ابنة عمي فقط.. بل لأنها كانت شقيقة روحي التي طابقتني وكأنها مرآتي..
بكت سارة كثيرًا في ذلك الاتصال.. تخبرني بعد أن قالت بانهيار تام : صيتة أحس إني بموت ماني قادرة أتحمل أكثر.. أحس قلبي بيوقف في أي لحظة من الهم..
نزل علي الخبر كالزلزال الذي شطر روحي نصفين.. فكيف بسارة!!
لم أجد كلمة قادرة على تخفيف ماكانت تشعر به . ولا أتوقع بأن هناك كلمة قادرة على أن تخفف ما تشعر به..
كنت أعلم بأن عزام كان يزور الجوهرة أثناء إقامتها بالمستشفى بالخفاء، بعد أن يتأكد بأن غرفتها أصبحت خالية لم يبقى فيها أحدٌ غيرها، يستغل الدقائق والثواني قبل أن تعود سارة من المنزل بعد أن ذهبت لتغيير ثيابها أو تطمئن على بيتها الذي أهملته، أو أن يأتي حاكم أو ناصر أو والدها.. ولأول مرةٍ في حياتي لا أغضب من لقاءه بها حتى بعد أن أصبحت شابه وهو رجل قد تجاوز العشرين من عمره..
كان يأتيني بعد كل زيارة يحكي لي حالها.. في عينيه دمعٌ ترقرق بحزن وأسى : يمه وش فيها الجوهرة؟ وش صار لها ما عادت هي الأولية اللي أعرفها.. عمتي سارة ما قالت لك شي؟
لأنخرط في بكاءٍ مرير لم أعد أعرف سببه. هل هي الجوهرة أم سارة أم عزام! أم أحزان الثلاثة مجتمعة؟
بعد ثلاثة أسابيع أخبرت سارة الجميع بحال الجوهرة وبما قاله لها الطبيب بالحرف الواحد.. تلك الفترة كانت قريبة لحدٍ ما من تلك الأيام التي اختفى فيها ذيب..
نفس الضياع نفس الحزن نفس عدم التصديق والقلق وكأنك تقف على أرض غير ثابتة تشعر بأقدامك تُسحب في كل اتجاه وكأنك ستمزق أشلاءً، بإختلاف أننا في الموضوع الأول كان إحساسنا بكل هذا مضاعفاً وكأن أرواحنا تُنزع منا في كل ثانية تمر علينا..
دخلت سارة في حالة لا يعلم بها إلا الله،، اختل اعتدال الضغط عندها حتى لازمها وأتاها مبرراً قدومه بما حصل،، خصوصاً عندما انهارت الجوهرة وكأن جهازها العصبي لم يتحمل كل هذا لتلازم المستشفى لفترة من الزمن خسرت فيها وزنًا كبيراً وشعرها الذي كان طويلاً كثيفاً في السابق..
قررت أن تنهي تلك الصورة تماماً عندما طلبت من حاكم أن يأتي بماكينة حلاقة لتدخل دورة مياة غرفتها وتحلقه تماماً بعينين تكدست الدموع فيها حتى أعمتها.. تردّى حالها كثيرًا حتى برزت عظامها وكأنها تهيئ نفسها للموت..
سافرت للخارج بعدها مباشرة، يرافقها والديها وحاكم الذي كان في سنته الجامعية الأولى - و أوقفها لأجلها- ما إن طلبت منه أن يكون معها..
بدى كل شيءٍ غريبًا في تلك الفترة.. وكأن لعنةً حلت علينا وقلبت أحوالنا الآمنة والمستقرة لسلسة من المشاكل والهموم..
كانت العائلة ممزقة تماماً بين الغير مقتنع لكنه يحاول أن يكون راضيًا بحكم الله. وبين الساخط والغاضب وكأن ما حصل كان باختيار الجوهرة ورضاها..
الكل كان يتبع الفئة الأولى حتى وإن كان يُبدي عدم تقبله للموضوع بأي طريقة.. إلا اثنين،، عزام وناصر..
لا أعلم ماذا حصل بناصر لكني أعرف تماما مالذي يحصل مع ابني،، ولا ألومه فأنا بنفسي قد شهدت على كل شيء كان يجمعه بها منذ أن كان صغيراً وحتى أصبح رجلاً يعرف ماذا يريد ومن يتمنى..
لم يكن تعلق عزام بها عابراً،، ولم تكن الجوهرة محطة انتظار لفوران مشاعره في تلك اللحظة.. بل كانت الجوهرة مستقبلاً تمناه وعاشه بأدق تفاصيله..
كان عزام يعاقب نفسه بطريقة غريبة وكأن ما حصل كان بسببه.. يعاتب نفسه ويلومها.. يبكي يوميًا ولم يخجل من شعر وجهه ورجولته يقول بنبرة محطمة ممزقة تماماً : ليتني تزوجتها يمه قبل لا يصير كل ذا.. ليتك وافقتي آخذها قبل لا يصير فيها كل ذا..
حتى تحول العتب لشيءٍ آخر بعد فترة من الزمن التزم فيها عزام بالصمت المخيف، لتأتي تساؤولاته مرتعشةً وجِلةً دفعةً واحدة في أحد الليالي وكأنه بركان، كان خامداً وانفجر. : والله العظيم أحس إني منْهد يمه.. ماعاد بي حيل.. ماني قادر أصدق اللي قاعد يصير حولي أحس إني بستخف،، ليه أنا من بين الناس ذي كلها يصير بي كذا؟ يمه أنا كنت أحب.. أحب.. أحب وأبي رجّال مثلي مثله.. ماني قادر أستوعب كيف الجوهرة صارت رجّال!!!.. شلون يصير فيها وفيني كل ذا يمه؟ طيب ليه؟.. أنا وش سويت عشان أتعاقب بأقرب الناس لي؟ وش الذنب اللي سويته عشان أفقدهم واحد ورى الثاني؟؟
أنا خايف.. أحس جوفي صار فاضي ماني قادر أحس بقلبي،، أحس إني ميت وقرفان من نفسي بشكل ماتتخيلينه يمه!!
عادت الجوهرة بعد اختفاء سنة،، بإسم جديد وهوية وهيئة جديدة تماماً تختلف عن الأولى مئةً وثمانين درجة.. بوجهٍ يتجمّل بشارب وعوارض خفيفة وشعر قصير بحلاقة مرتبّة..
صارت فهد والموضوع بأكمله كان غريبًا مرعبًا وثقيلًا علينا جميعاً.. حتى على فهد نفسه.. وسلمان.. وسارة التي تلاشت لمعة عينيها التي كانت تميزها سابقًا عن غيرها،، وكأنها تعلم أن ماسيواجه ابنها سيكون أصعب بكثير مما مضى.. فمعاناته لم تنتهي بتصحيح وضعه بل أنها للتو بدأت..
مرّت سنتان حتى استطاع الجميع أن يتقبل فهد بعد أن كان وجوده بينهم ثقيلاً وغير مستحب، يجاملونه كي لا تغضب سارة، أو ينكسر سلمان..
سنتان حتى بدأ كل فردٍ في العائلة يتقبل فكرة ماذا كان وكيف أصبح، يبتلع الحقيقة التي كانت كالعظمة في البلعوم بصعوبة وغصّة يشرب خلفها محيطاً من الماء علّها تعبر..
تجاوزها الجميع تقريبًا.. فيما عدا ناصر وعزام الذي ذهب للرياض مقررًا أن يكمل الماجستير في آداب القانون الجنائي والعلوم الجنائية حيث تتم دراسته في جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية..
كان هربًا جبانًا من واقعه،، وكنت أعرف ذلك وسمَحت له..
*
:
.
.
دارت ريم كعادتها بالشاي بعد أن انتهى الجميع من غداء يوم الجمعة.. لتقول سارة بسعادة وحماس مستغلةً بذلك تواجد جميع أبنائها بما فيهم ناصر الذي لازال يرتدي بدلته بعد أن أنهى استلامه : عندي لكم خبر ياشباب متأكدة إنه بيفرحكم..
ابتسم فهد ابتسامة لا معنى لها عندما نظرت ناحيته بفرحة طاغية.. مجاملاً كي لا يفسد فرحتها، وهي التي داهمت غرفته بجانبها والده اليوم صباحاً عندما كان يرتدي ثوبه يستعد لصلاة الجمعة.. تخبره عن نيتها الجادة بأن تخطب له غادة.. حاول أن يعترض ويرفض فلا فائدة من رفع سقف التوقعات والآمال إن كان سيقع فوق رأسه..
لكنها صدمته عندما قالت : ماله داعي تدري عن اللي صار قبل لا تعرفك..
فهد بذهول : يمه تبين نغش البنت وأهلها؟ أنا مستحيل أر...
لكن والده الذي كان يقف أمامه أسكته عندما قال بصرامة : الحين أنت فهد ولا الجوهرة؟
شعر بانتفاضة والدته الجالسة بجانبه والتي قالت بعتب : سلمان!!!
لكن عيني والده لم تتزحزح إنشاً واحداً بعيداً عن عينيه لازال يقول بصرامة : اسكتي أنتِ.. جاوبني الحين أنت وش تطلع؟
ابتلع ريقه : فهد يبه.
سلمان ونبرته الجادة الصارمة كأنها تجلده : وفهد رجّال ولا مرَه؟
لكن سارة كانت من أجابته بانفعال : سلمان وش ذا السؤال؟ خلاص اتركنا لحالنا أنا بتفاهم معه.
تكتف والده يرفع حاجباً مشيرًا بأنه ينتظر إجابةً لما سأل،، ليخفض فهد بصره يقول بنبرة منهكة : رجّال..
سلمان : ودامك رجّال لا أعرست بتقدر تجي حرمتك مثل باقي الرجَال ولا منت بقادر؟
تسارعت أنفاسه واشتعل عنقه بإحراجٍ واضح لم يتوقع سؤالاً كهذا أبدًا، سؤالٌ لم يجرؤ هو على طرحه بينه وبين نفسه خوفًا من الإجابة،، يغرس أصابعه في شعره بعد أن انحنى ساندًا مرفقيه على فخذيه يقول بتعب وتشتت : ماعدت أدري وش أنا يبه!! هو أنا رجّال ولا مرَه ولا سَخط من الله؟!
ثم أخذ أنفاساً ثقيلة قبل أن يردف : خلاص أنا موافق باللي تبون بس تكفون ، تكفون الله يخليكم ارحموني ترا والله ماعاد بي حيل.
لم تخفى عن سلمان نظرات سارة الغاضبة جدًا المليئة بالدموع ناحيته ولو كانت النظرة تقتل لكان ميتاً يسبح بدمه في هذه اللحظة .. ولم تخفى عليه نبرة ابنه الغارقة بالعبرة،، انحنى منكسرًا باتجاهه يقبل شعره لتتلاشى الصرامة والحدة ويحّل محلها حنو وأسى بعد أن استراحت يده خلف عنقه يشد عليه : فهد يابوك والله إني ماسويت اللي سويته إلا عشانك.. أبيك تصحى وتفوق على نفسك وتعطيها فرصة ما أبيك تظلم عمرك.. فهد يابوي أنت ولدي ذخري وقوتي بالدنيا ذي والله إنك مثل حاكم وناصر ولا ينقصك عنهم شي كلكم عيالي وسند ظهري ومحزمي . تكفى يابوك لايضيق صدرك ولا تاخذ بخاطرك علي.
خرج من سرحانة على صوت حاكم الذي قال بسعادة وصوت مرتفع يلقي عليه وسادة الكنب : اقعععد فهود وأنا أقول وش فيك تهوجس من تالي أثاريك غرقان لين شوشتك!!
ثم بصوت ريم تهتف : والله العظيم أحلى خبر يمه .. يابختها فيك يافهد والله أمها دعت لها بتاخذ واحد جنتل موووت.
اتسعت ابتسامته وطيف البهجة طلّ على قلبه الذي تسارع نبضه بتوتر من خطوةٍ كهذه،، لكن صوت والدته كان ولازال ملاذاً له من جميع مخاوفه،، تقول بثقة : وأنا أشهد يا بختها بتاخذ شيخ جماعته كلها..
ناصر وطرف شفتيه ارتفع بإزدراء : والبنت تدري إن شيخ جماعته أصله حرِيمه؟ ولا بتغشونها بعد!!
جف الدم في عروقه وماقال ناصر أفزع طيف البهجة الذي طلّ على قلبه ليفر هارباً..
عجَز حتى على أن يرمش وهو يسمع صراخهم الغاضب على ناصر، صرخ الجميع باسمه موبخاً حتى ريم..
ليقول ناصر بقوة وتبرير : أسالك بالله يبه أنت ترضاها على ريم بنتك يجيها واحد مثل فهد ولا يعلمونك بحقيقته؟
ليجيبه والده بحدة : وفهد أخوك وش فيه؟ فهد رجّال ولا يعيبه شي..
ناصر وقد برزت عروق عنقه بانفعال : أي رجّال يبه أنت كذبت الكذبة وصدقتها ولا وش وضعك؟ تكفى لا تضحك على نفسك وتضحك الناس علينا وش رجولته ذي اللي ماطلعها إلا مشارط الدكاتره !! يبه هذا مسخ...
صرخ بغضبٍ مدمر ليقاطعه،، فقد سكت عن ناصر حتى تمادى كثيرًا وأصبح لا يحتمل : اص ياقليل الخاتمة اص ، هذا تاليها يانويصر ترفع صوتك علي؟ ليت أمك بركت عليك يوم جابتك قم انقلع من قدامي لا بارك الله فيك.. اذلف لا توريني وجهك إلا لا صرت رجّال وتعرف كيف تحكّم عقلك و توزن كلامك يالزلابة..
خرج ناصر من الصالة بانفعال، ليتبعه فهد بسرعة دون إدراكٍ منه متناسيًا كل ما قال وهمه شقيقه وغضب والده عليه -لأول مره- فهو السبب في كل هذا.. يركض خلفه عله يجاري خطواته الغاضبة : ناصر،، ناصر..
لكن ناصر تجاهله تماماً يخرج من المنزل يركب سيارته ويغلق بابها بقوة.. لكن فهد فتحه ما إن وصل له، يقول برجاء ونبرة مرتعشة : ناصر تكفى اسمعني..
لكن ناصر قال بقرف قبل أن يغلق الباب دون أن يكترث إن كان سيقطع أصابع فهد أم لا : ما أبي أسمع صوتك يالخني* ..
لينطلق بعدها بغضبٍ مدمر أثار الرمال التي سببت دمعًا أحرق عيني فهد..
.
.
تتبعت شعاع عزام بعينيها بعد أن تحرك من مكانه متجهًا نحو السلم يصعد درجاته للأعلى.. لتنتظر لثواني معدودة قبل أن تلحق به..
دخلت غرفتها لتجده يرتدي ثيابه.. أغلقت الباب واسندت ظهرها عليه وهي تتأمله : بتطلع؟
وقف أمام التسريحة يرش عطره : ايه رايح مشوار قريب وراجع منيب متأخر.
لم تعلّق، وما إن استدار ناحيتها إلا وسألها باستنكار عندما رآها تنظر له وتقضم شفتيها بتفكير : وش فيك؟
تقدمت بخطاها تقول بهدوء : أقول عزام..
وقفت أمامه مباشرة وعلى ثغرها ابتسامة واسعة ليقول مبتسماً رغماً عنه بعقدة حاجبين بسيطة تشكلت على وجهه : قولي الله يستر منك..
مدت شفتيها بدلال وأصابعها تعبث بأحد أزرار ثوبه : حرام عليك دايماً ظالمني..
شعرت بارتفاع صدره وانخفاضه ما إن أخذ نفسًا عميقًا لتتابع : عندك شي الويكند الجاي؟ تكفى قل لأ.
رمش أكثر من مره بدون تركيز ما إن بدأت تفتح أزراره وتغلقها : ما أدري! يمكن.. ليه؟
رفعت بصرها لعينيه ترمش ببطء وتقول بخبث هادئ فعزام رجل تذيبه لمسَه : حجزت لنا شاليه أنا وأنت لحالنا عشان نغير جو شوي..
عزام بدون مقدمات : كنسلي.
شعاع بصدمة : ليه عزام!!
عاد خطوة للخلف : أخاف أنشغل الاسبوع الجاي.
لتقول بسرعة : عشان كذا أنا تعمدت اخليه ويكند.. تكفى قد دفعت وتكلفت وكلها يومين نروح الخميس الليل ونرجع السبت.. تكفى الله يخليك يا عزام لا تكسر بخاطري..
سكت ينظر لعينيها التي بدأت تتلامع برجاء ليقول يزفر بضيق : ثاني مره علميني قبل لا تخططين على كيفك ..
مدت شفتيها بزعل : كنت أبيها مفاجأة.
عزام بعبوس : ما أحب المفاجآت .
لتقول بإمتعاض : أدري لأنك تموت بالنكد..
اتسعت عينيه : وش قلتي؟
لكنها تجاهلت نظرته لتقول بلطف : تكفى عزام طلبتك هي يومين بس افصِل فيها عن العالم ما أبيك تفكر بشي أبد..
عزام بعدم تصديق : أنا أموت بالنكد؟
اختصرت الخطوة بينه وبينها تلف ذراعيها حول عنقه تقربه منها أكثر : أنت بس سلمني نفسك وما عليك..
قالتها بهمس ترفع حاجبيها بخبث وعندما همّ بفتح فمه ليعلق -وهي تعلم بأنه لازال عالقاً عند كلمة النكد لا تعلم لماذا تفاجأ لهذه الدرجة وكأنه يجهل أطباعه!!!- ، سَرقت من بين شفتيه قبله ابتلعت حروفه كلها قبل أن تخرج، تفّر بعدها راكضةً لدورة المياه تغلق الباب خلفها على صوت ضحكته التي ارتفعت بصدمة ..
.
.
استيقظ من نومه مرعوباً فزِعًا بعد كابوسٍ حلم به.. ينظر للسقف في ظلام الغرفة يشعر بخفقان قلبه ينفض جسده من قوته..
انتظر حتى هدأت أنفاسه يستعيذ بالله مما رأى قبل أن يتحسس الطاولة الصغيرة بجانب سريره إلى أن لامست أصابع يده هاتفه..
ضوق عينيه ما إن جهرته الإنارة.. صوت أنفاسه المتسارعة والثقيلة هو الشيء الوحيد والمسموع في سكون المكان..
لم يتردد لثانية قبل أن يتصل عليها رغم أن الساعة تجاوزت الثانية فجرًا.. ليأتيه صوتها بقلق بعد ثاني رنّه : الو..
أغمض عينيه يزفر براحة : ليكون نايمة؟
لتقول بخوف : لا صاحية.. خير حاكم فيك شي؟ ليه متصل ذا الوقت؟
سكت قليلاً قبل أن يقول بتردد : حلمت فيك واتصلت أبي أسمع صوتك .
تلعثمت بخجل : اان.. لا عاد وش السالفة صدق؟
حاكم محاولاً الابتسام لكن لم يستطع : والله إنه ذا الصدق.
الجادل ولا زال الخجل واضحًا بصوتها : حلم شين ولا زين؟ وكيف كان شكلي إن شاءالله يبيض الوجه ؟
رغم أنها قالتها بمرح لكن نبرتها المشاكسة أوجعت قلبه : لا والله صحيت مرتاع.
سكتت قليلاً قبل أن تردف : تعوذ من ابليس ولا تفكر فيه أو حتى تفسره تكفى ما أبي أوسوس بعمري.
حاكم بقلق : ضايق صدري يالجادل، أ..
لتقاطعه : أقصاه حلم يا حاكم لا تخليه يشغلك..
ابتلع ريقه أكثر من مره ليقول بعدها بزفرة : طيب أكيد أنتِ ما فيك شي؟
الجادل بنبرة مشرقة تحاول أن تمحي الضيق من صوته : صدقني ما فيني إلا العافية، بعدين أنت موجود صرخة وحدة وبتجيني على وجه السرعة متشعلق بالجدران ..
ابتسم بضيق : ليش الجدران طيب؟ خليني أدخل مع الباب على الأقل..
لتجيبه بعذوبه : لأني متأكدة إني وقت ما أحتاجك بلقاك بأي طريقة.. صح ولا لك راي ثاني لا سمح الله؟..
انقبض قلبه قلقاً ليس كعادته وهو يسمع ضحكتها الهادئة التي اختتمت بها جملتها لكنه قال بصدق على كل حال : لا طبعاً، صحين بعد ياشيخة ماهو واحد بس..
.
.
.
.
# نهاية الفصل الثامن
نلتقي قريبًا إن شاءالله ❤
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ♡.
|