كاتب الموضوع :
وطن نورة ،،
المنتدى :
الروايات المغلقة
أتمنى لكم يوم سعيد و قراءة ممتعة مقدما ❤
# الفصل السابع،،
" كَان سَرابًا "
.
.
.
ابتلعت ريقها وهي التي لم تغفى عينها من التفكير بعد الذي عرفته، وقعت عينيها عليه.. تتأمله،، تتأمل فهد الجالس بجانب ريم يبتسم لما تقول متفاعلاً مع حماسها.. تبتسم بحب لا يضاهيه شيء وقلبها يمتلئ عطفاً عليه.. عادت بذاكرتها للوراء كثيراً،، للزمن الذي من ثقله ظنت بأنه لن يعبُر.. الفترة من عمرها التي تمنت أن تكون فيها نسياً منسيّا..
تجلس في غرفة الطبيب يقابلها زوجها سلمان ، بعد اسبوع من إغماءة الجوهرة المرعبة.. استيقظت بعدها مباشرة لكن لم يُسمح لها بالخروج من المستشفى وبقيت تحت الملاحظة دون أن يُفصَح عن حالتها وكان ردهم "شويّة تحاليل عشان نتطمن" إلى أن طلب الطبيب رؤيتها هي وسلمان في مكتبه.. وقتها عرفت أن الموضوع لم يكن (شويّة) بل كان صاعقة أحرقتها..
ابتسم الطبيب بارتباك.. رجل كبير بالسن تلون شعره الكثيف بالشيب و وجهه بالتجاعيد.. سأل عن حال سلمان الذي أجابه باقتضاب يسأل بعدها مباشرة : عسى خير يا دكتور..؟
شد على كفيه المضمومان فوق الطاولة، وقتها توقعت سارة أن يخبرها بأن الجوهرة تعاني من ورم خبيث انتشر بجسدها وسيودي بحياتها قريباً ولا أمل بالعلاج.. هوَى قلبها : وش نتيجة التحاليل؟
زفر و أخفض بصره : تحاليل الدم و وظائف الكلى وما إلى ذلك جميعها سليمة ولله الحمد .
بان الارتياح على سلمان عندما تراخى كتفيه المشدودين، وزفرت سارة بضحكة مرتجفة : الحمدلله..
لكنه زم شفتيه ونقل بصرَه بين الاثنين ، ابتلع سلمان ريقه بخوف : الله يرحم والديك قل اللي عندك صار لي اسبوع على أعصابي.. بنتي وش فيها؟
ابتسم مواسيًا : تحاليل الدم وضحت إن الجوهرة تعاني من ارتفاع شديد في هرمون الذكورة .
نظر سلمان بعدم فهم لسارة، وشعرت سارة بنظرته الخائفة.. قالت بقلق : ممكن يادكتور يكون هذا سبب تأخر الدورة عليها؟ هي بلغت متأخر.. بس أتوقع العلاج بسيط أعرف بنات كثير يعانون من نفس المشكلة.
ابتسم : أم الجوهرة واضح إنك أم مثقفة و واعية وعلى إطلاع بحالة بنتك...
سارة بارتباك قاطعته بتساؤل وكأن عقلها لازال يقف عند آخر كلمة قالتها : بس مافهمت هذا وش دخله باللي صار لها ؟
صمت ثقيل عبَر عليهم إلى أن تنهد الطبيب بأسى : خلل الهرمون مثل ماتفضلتي يعانون منه بنات كثير وله علاج ورغم إنه مشكلة لكنها ماتعتبر خطيرة ويمكن تداركها بالحبوب أو الكورتيزون وغيره من طرق العلاج .. لكن تحاليل الجوهرة مع الأشعة الدقيقة أثبتت إن الجوهرة تعاني من مشاكل..
قاطعته مستنكره : مشاكل؟
حطّ بصره على سلمان وملامحة المرعوبة وتابع : أنا ما حبيت أعطي حكم مبدئي قبل لا أتأكد، وعِدت الأشعة أكثر من مرّه وعرضتها على أكثر من استشاري وأكثر من طبيب متخصص ورغم إني كنت شبه متأكد من حالتها لكن كان عندي أمل إن تشخيصي يكون خطأ..
سكتَ لثواني يقسم خلالها أنه استطاع أن يسمع أنفاس سلمان العالقة في صدره، ونبضات قلب سارة التي تكاد أن تكسر أضلعها : الله خلقنا إما ذكور أو إناث سبحانه يعطي بفضله من يشاء ويمنع بحكمته عمن يشاء..
عاد يصمت.. لا يعلم طريقة أرّقْ من هذه في صياغة العبارة.. لم يستطع أن يتحمل نظرة سارة المتوسله فقال بخفوت وأسى : يعلم الله إني حاس بخوفكم وقلقكم بس،، الأشعة أثبتت إن الجوهرة تملك جهاز تناسلي ذكري..
سكوت وسكون مرعب،، لم يسمع فيه هذه المره أنفاس سلمان العالقة في صدره ولا تسارع نبضات قلب سارة.. وكأن صمتَ المقابر هوى عليهم..
ابتلع الطبيب ريقه بقلق، يوزع نظره في الغرفة إلى أن حطّ على سلمان الذي قال بعدم تصديق في صوته : يا دكتور الله يرضى عليك قل كلام يدخل العقل ..
زفر بصبر : هذي حاله تحصل لعد..
لتقاطعه سارة هذه المره،، بحدة وغضب : ومالقت تحصل إلا لبنتي أنا؟
سلمان بهمس مهموم مشتت : يا سارة اهدي خلينا نفهم منه..
ثم عاد ينظر له بضياع حقيقي في عينيه : شلون يعني؟ كيف جهاز تناسلي ذكري وهي بنت؟ بنتي أنا بنت...
ابتسم بضيق : يعني فيه أشخاص يولدون من الأساس إناث وتكون أعضاءهم الأنثوية ظاهرة.. أو ذكور وأعضاءهم الذكورية ظاهرة.. وفيه أشخاص يخلقون إما ذكور أو إناث لكن الأعضاء غير ظاهرة لسبب من الأسباب،، مثل الجوهرة..
سارة ولازال صوتها يرتعش بغضب وانفعال : ماقد صارت ولا قد سمعنا بها ذي البنت عمرها ١٨ سنة وقد جتها الدورة.
ليقول نافيًا محاولاً التحكم بنبرته : أنا جلست مع الجوهرة و سألتها بعض الأسئلة.. الدورة إلى الآن ما نزلت عليها و تتعرض لآلام شديدة جدًا من دخلت ١٥ سنة والأهم من هذا كله مافيه أي ظهور لمعالم أنثوية مثل ماهو واضح على جسمها اللي يميل للخشونة.. وإحساسها بالتخبط وإنها ماتنتمي للمجتمع الأنثوي غير الصوت والجسم وشعر الوجه اللي كانت تحلقه باستمرار عشان ما أحد يلاحظ، والعلامات هذي مالها أي علاقة بارتفاع نسبة الهرمون ولا هو السبب الأساسي لحدوثها.. الجوهرة ذَكر..
صرخت فيه بحدة وانهيار : وش اللي قاعد تقوله أنت بنتي مهيب شاذة .
قال بهدوء : أنا ماقلت كذا، الجوهرة ماهي أنثى من الأصل عشان تصير شاذة هي ذكر منذ النشأة والجهاز التناسلي الذكري مكتمل النمو عندها ونقدر نقول تشوه خلقي أدى لعدم ظهوره.. والظاهر واللي كان يوهم ولدك ويوهمكم أنه أنثى ماهو إلا تشوه شبيه بأعضاء الأنثى.
سلمان بأنفاس مقطوعة : لا حول ولا قوة إلا بالله،، يارب لطفك بي يارب.
لم تخفى عليه عينَي سارة التي كانت تنظر له نظرات قوية وكأنه يتبلّى على ابنتها، لذا مدّ لها مجموعة أوراق سحبتها من بين يديه بكل قوة : التحليل أثبت إنها تحمل الكروموسوم الذكوري XY، والأشعة أثبتت إن أعضاءها التناسلية الداخلية لرجل بمعنى مافيه أي وجود للرحم والمبيضين، بينما فيه بروز واضح في المنطقة التناسلية كان مسبب لها الألم اللي إلى الآن ما أدري كيف كانت صابرة عليه بدون شكوى لأنه لا يُحتمل.. وهذا كله مُثبت ومكتوب بالنتائج اللي معك..
شدّت سارة على الورق بين يديها بكل قوة حتى كاد أن يتمزّق، علّها تسيطر على الرجفة التي ضربت أطرافها، عيناها تتحرك بسرعة على المكتوب دون أن تقرأ أو تفهم منه شيئًا، تراكمت الدموع في عينيها حتى أصبحت رؤيتها ضبابية تداخلت بسببها الخطوط السوداء إلى أن باتت الرؤيا شيئًا مستحيلاً،، شعرت بسلمان يقف عند رأسها وكأنه يحاول القراءة هو الآخر عله يجد أن ماسمع مجرد مزحه ثقيلة، لكن جسده المرتعش بشدة وأنفاسه السريعة المقطوعة يظهران عكس ذلك..
ابتسم مواسيًا عندما بدأ صوت النحيب المكتوم يرتفع : أنا أدري إن الموضوع مو بسيط ويشهد الله إني حاولت بشتى الطرق أثبت عكس اللي طلع لكن ما باليد حيله. الحالات مثل هذي تحصل وأغلب الأهل يكتشفونها من السنوات الأولى ويتم التصحيح أو التعديل والبعض الآخر بعد فترة طويلة جدًا..
جلس سلمان بصعوبة على الكرسي المجاور لزوجته التي لازالت على وضعها وكأن الزمن توقف بها عند تلك اللحظة، يقول بانكسار واضح : طيب والحل؟
ابتسم مؤازرًا : عملية جراحية لإظهار أعضاءه المخفية..
التقت عيني سارة بسلمان وتبدلت نظرتها القوية الغير مصدقة لشيءٍ آخر تماماً،، شيءٌ انعكس على عيني زوجها وكأنه يشاركها نفس المخاوف..
أردف الطبيب : عمليات التصحيح أو التعديل مجازه شرعًا لأنها إظهار للعضو المخفي والموجود أساساً سواء كان لذكر أو أنثى.. على عكس التحويل أو التغيير اللي يتغير فيه ذكر بالأصل لأنثى أو العكس ويتم فيه زراعة شي ماهو موجود بالأساس وهنا يا أم الجوهرة أقولك هذا شذوذ عن الفطرة السويّة والعياذ بالله.
نقل بصره بين الإثنين عندما لم يجد استجابه، كان انهياراً وتهالكاً واضحاً وكأن معركةً مرت عليهما وعاثت بهما الفساد.. تابع بأسى: العملية موضوعها هيّن بإذن الله وفيه كفاءة سعوديين متخصصين بالنوع هذا من العمليات وتقدر تسويها هنا وهذا يثبت لك أنها مباحه شرعاً، أو تسويها بالخارج الأمر راجع لكم،، ويقدر المريض بعدها وبعد العلاج يمارس حياته بشكل طبيعي جداً .. لكن الصعب هو اللي يجي بعد هذا كله، نفسيًا وحتى جسديًا الموضوع مو بسيط يا أبو الجوهرة وأنا ما أقولها عشان أخوفكم لكن اللي مقبل عليكم يحتاج وقفتكم كلكم مع بعض. الجوهرة لازم تتقبل الخبر والأهم من هذا كله تحتاج تقبلكم أنتم لها وهالشي أهم حتى من العلاج النفسي .
بدأ صوت بكاء سارة يرتفع و كأنها تنعَى ميتاً فتابع بجدية : بسطوا الموضوع لها حتى وإن كان صعب لأن أول شي بيجي في بالها إن درَت هو أنتم قبل حتى لا تفكر بنفسها.. ازرعوا في عقلها فكرة إن الجوهرة بتبقى الجوهرة مهما كانت سواء ذكر أو أنثى .. هنا يجي وقت العائلة ومهما الواحد رفض الفكرة وماتقبلها تبقى هذي مشيئة الله ومالنا عليها اعتراض..
.
دخل الطبيب بعد أن قرَع الباب على ضحكة الموجودين بالداخل،، ومن خلفه سلمان وسارة كلاً يجرُ خطاه ..
ابتسم : السلام عليكم.
أسندت سارة يدها على إطار الباب علّه يسندها وهي تسمع ردودهم المتفرقة بصوتٍ لازالت الضحكة عالقة به، تقع عينيها على الجوهرة التي تسدل غطاءها على وجهها تستر نفسها به.. أغرورقت عينيها بالدموع رغم أنها وعدت نفسها أن تكون قوية -أمام الجوهرة على الأقل-.. سحبت طرف طرحتها لتغطي فتحت نقابها تَحجب دموعها كي لا يلمحها أحد.. بكت بصمتٍ موجع ونحيبٍ مكتوم.. بكت كثيراً دموعاً تسقط بلا صوت وهي تسمع إجابتها على الطبيب الذي سألها : كيفك الحين الجوهرة؟
الجوهرة بهدوء : الحمدلله..
سألَ بحنو أبوي : فيه ألم؟
الجوهرة : شوي.
ابتسم ينظر لحاكم الجالس على الكرسي القريب من السرير، ثم لناصر الجالس بجانبها يلف ذراعه حول كتفها، ثم أدار رأسه لسلمان الذي تتجمع الدموع في عينيه بشكلٍ واضح : أولادك؟
هز رأسه يزفر بضيقٍ واضح وعِبرة : ناصر وحاكم .. عيالي.
ليقول معاوداً النظر لناصر وملامحه القلقه وابتسامته التي تلاشت تماماً : الله يباركلك فيهم كلهم ويرزقك برهم..
ناصر بتوتر : طمنا يا دكتور..
ليقول بابتسامه لم تصل لعينيه : تطمنوا مافيه إلا الخير إن شاءالله والجوهرة قوية بالله ثم بكم وتقدر على كل شي،، ولا يالجوهرة وش تقولين؟
لم تجبه بل هزت رأسها "بنعم" هزيلة..
ليردف : استأذن..
خرج بهدوء كما دخل بهدوء لتنزع الجوهرة غطاءها وتتضح ملامح وجهها الشاحبة والخائفة و كأنها شعرت بأن هناك شيئًا خاطئاً يحدث..
حاكم بخوف وهو يرى وجه والده وملامحه التي ذابت بحزنٍ فضيع وهو يتأملها : وش فيكم يبه وش قالوا عن الجوهرة؟
صمتٌ مطبق إلى أن قطعه شهقات متتالية ونحيب خفيف فرّ من سارة عندما أصبح كتمه مستحيلاً حالما التصقت عيني الجوهرة الوَجلة بها، تنظر لها بتوهانٍ واضح.. خارت قوتها و وقعت أرضاً على ركبها تضع يدها على فمها علّها تكتم صوت أنينها المرتفع.
*
*
نطقت بسرحان وحنين لا تعلم كيف خرج منها مادُفن قبل ١١ سنة : جوجو قلبي .
اتسعت عينيها بهلع بعد الذي قالت مباشرة وكأنها فاقت من غيبوبتها،، شعرت وكأن الدم توقف عن السريان في عروقها وبقلبها يهوي لأسفل قدميها والدموع تهوي منه وهي تنظر له بصدمة وذهول مما نطقت.. سمعت له أنيناً حتى وإن لم يخرج من بين شفتيه، اتضح بملامح وجهه التي بهُتتْ فجأة وكأنه لم يتوقع شيئاً كهذا من والدته.. الألم فضيع ومعه غضب متصاعد*من نفسها كيف لها أن تخطئ خطأً فادحاً كهذا؟ فإن أخطأ الجميع باسمه لا يجب عليها هيَ بالذات أن تغدر به هكذا وهي الوحيدة التي تعلم معاناته من الماضي حتى بعد السنوات هذه كلها..
شعرت بنظرات ريم المصدومة وبفمها الذي فُتح بعدم استيعاب.. ولكن تلاشى كل شيء ولم تبقى إلا عيني فهد التي تبدلت في ثانية من عينين ضاحكتين لأخريين تملؤها الخيبه والخذلان..
ضاق الهواء عليهم جميعًا وكأن الأكسجين فرّ فزِعاً من المكان،، حتى صوته خرج مخنوقاً ضيِّقاً عندما قال يصحح لها مبتسماً بأسى : فهد يمه..
فتحت فمها وأغلقته لا تعرف ماذا تقول فلا شيء قادر على محو ما حصل في الدقيقة الفائته، دقيقة فقط لكنها كدهرٍ من الثقل والعذاب.. تسارعت أنفاسها بهلع تحاول أن تبحث عن شيء تغطي به خطأها،، أي شيء.. لكن دون فائدة فكل شيء فرّ من عقلها ومن حولها وكأنه يُبرّئ نفسه من فعلتها، كان الجو مُثقلاً ثقيلاً على أرواحهم وكأنهم في قبر.. حتى دخل حاكم يحمل كرتوناً على كتفه يقول بحماس : طحت لكم على خضّار يبيع كرتون المنقا ب٤٠ ريال بس.
أغمضت عينيها تزفر هواءً لم تعلم بأنه كان محبوساً في صدرها، علّها تستطيع الهرب من عيني فهد التي كانت تنظر لها إلى أن أخفضها بانكسارٍ رهيب بعد دخول شقيقه..
ريم بارتباك : كان دفّيت كرتون لبيت عمي خالد.
جلس على الأريكة بابتسامة متسعه : توني جاي من عندهم أدري فيها جدتي تحبه .
ريم بحاجب مرفوع ونبرة ليست طبيعية أبداً : جدتي ولاّ؟..
شعر بالجو المختنق لكنه قال متصنعاً الجدية : اعقبي يا بنت .
ريم : بس ترى انضحك عليك الحين مو موسم منقا.
اعتدل جالساً : أخّو العيال.
كانت تحاول باستماته أن تشتت الكآبة المحيطة بهم : حتى اسأل أمي، صح يمه؟
لاحظ حاكم وجه والدته، تفتح عينيها وتنظر لفهد الذي لازال على وضعه ينظر للأرض بحاجبين متراخيان وكأنه لمح شيئاً مثيراً لفت انتباهه..: أنا أقول قومي جيبي سكين وصحون خلينا نرثع بالنعمة لا أجيبه أنا وأشق كرشك الحين..
تعلقت عينَي حاكم بفهد الذي وقف ما إن ابتعدت ريم من المكان : وين رايح؟
فهد بضيق : بطلع أتمدد شوي إلى إن يأذن العِشا..
حاكم : والمنقا؟؟
أخذ نفساً بوضوح يبتعد في خطاه : اتركوا لي حبه باكلها بعدين..
لحقت عينا حاكم بوالدته التي فزّت تلحق به.. عقد حاجبيه بقلق وهو الذي لم تفته منذ أن دخل الغيمة السوداء التي ظللت صالة منزلهم على غير العادة،، فبيتهم مشّع دائماً ترتسم على أوجه ساكنيه السعادة الواضحة.. يمتلئ بالحب والدفئ والمودة،، حميميته تملأ القلب حتى بات الخروج منه لقضاء ساعات معدودة أمراً صعباً،، والفضل بعد الله لسارة بنت عزام. أروع أم وأطيب قلب وأعظم إنسانة.. حرصت سارة على أن تكون صديقة أبنائها قبل أن تكون والدتهم، لا حدود ولا قيود بينهم إذ أنّ حتى ناصر وبالرغم من تصرفاته المستفزة في السنوات الأخيرة إلا أنه قريب منها كروحها لا يمضي يوم إلا وقد مرّ يلقي السلام عليها يأخذ أخبارها ويطمئنُ عليها رغم بُعد المسافة بين بيته وبيتهم..
لم يدرك بأنه كان سارحاً بالظلال الممتده على حائط السلالم المؤدية للطابق العلوي إلى أن وصله صوت الأطباق تضعها ريم على الطاولة بمنتصف الصالة..
حاكم بتشتت : وش فيهم؟
مدت شفتيها بزعل تناوله صحنه : أمي الله يصلحها نادت فهد بالجوهرة.
اتسعت عينيه بصدمة وانقبض قلبه : كذابة!!!
كان فهد سريعاً في خطاه وكأنه يهرب من فوران الدموع في عينيه،، يأخذ درجتين في قفزه واحده دون أن يشعر بالتي تلحقه،، كان صوت الضجيج في عقله أعلى من كل شيء.. لكن الأصابع الدافئة التي ألتفّت حول عضده أوقفته ليلتفت بقوة كادت أن توقع سارة للخلف لكنه أمسكها من معصميها بكل قوته يقربها منه يقول بخوف : انتبهي يمه...
كان الألم في قدمها التي إلتوت لا يوصف، لكن ألم روحها أعمق وأشد دون أيِّ مبالغة.. تقول بعبرة وأنفاس لاهثه : الله يقص لساني والله ماكان قصدي ولا أدري كيف ز...
قاطعها يضمها لصدره : بسم الله عليك يمه،، لا تدعين على نفسك شدعوة ماصار شي.
تعلقت به تشد عليه ولو عليها أدخلته بين أضلعها : لا تزعل مني تكفى يا فهد..
ضحك ضحكة باردة علّه يبدد رعشة صوتها : والله مازعلت و أدري إنها طلعت منك بدون قصد..
ابتعدت عنه تنظر لوجهه وابتسامته المتصنعه لتبادله بمثلها : شكل أمك خرّفت وقامت تقط خيط وخيط..
فهد : لا والله يمه بس شكل الجوهرة هي اللي ماتنتسى بسهولة..
رغم أنه قالها بضحكة يغمز لها وكأن الموضوع لا يُذكر لكنها تعلم أنه يكذب فقط كي يبعد الهم عن قلبها،، فلا هذه ضحكته ولا نبرة الصوت الميتة هذه نبرته..
فهد إن ابتسم و ضحك تضحك الدنيا معه تبتسم عينيه بتجاعيد دافئة وكأنك ترى قلبه من مقلتيه.. ونبرة صوته دائمًا عميقه حنونة تجمع بين الرجولة والرّقة قادرة على إغراقك وأنت راضٍ تمام الرضا عن ذلك..
ارتعشت شفتيها وهي تتأمل عينيه الجامدة رغم أنه يبتسم لها ابتسامه عريضة : لا تواخذ أمك يا فهد تكفى..
رغم جلوس حاكم الهادئ إلا أن داخله يحترق بالقلق والتفكير.. عقله مع من صعدوا بالأعلى يعلم أن أمراً كهذا لن يمرّ دون أن يضر، لا على فهد ولا حتى والدته..
العلاقة بينه وبين فهد منذ الصغر كانت قوية خصوصًا وأن الفارق بينهم سنة وبضعة أشهر.. ورغم أنها برَدت في مرحلةٍ ما عندما وصلت الجوهرة عامها الثالث عشر واستمرت لفترة انشغل فيها هو الآخر بمراهقته وأصدقائه وعالمه الجديد، إلا أنه لازال قريباً منها لا يمضي يوم دون أن يجلس معها يتحدث مطولاً بمواضيع كثيرة.. تلك الفترة تغيرت الجوهرة على الجميع وشعر بذلك دون أن يعلق ظناً منه بأن الأمر طبيعي يحصل لكل البنات في تلك المرحلة العمرية.. لكنه لم يكن يعلم بأن الموضوع كان أكبر من تحليلاته المتواضعة،، وبعد الذي حصل ازدادت قوة العلاقة بينهما حتى أصبح يفهم مافيه من نظرة عينيه..
كان يأكل فاكهته -المفضلة جدًا- بسرحان دون حتى أن يستطعمها، إلى أن وصله صوت أمه المرتفع مختنقاً تناديه : حاكم.. حاكم..
قفز من مكانه هو وصحنه -ومنقته- يصعد السلالم بسرعة ليراها تجلس على درجاته.. اقترب منها بقلق مستنكراً جلوسها : سمّي يمه،، فيك شي؟
سارة بعينين تتلامع على سطحها الدموع : اسكت يا حاكم ماتدري وش سويت!
حاكم بهدوء : قالت لي ريم.. اذكري الله ماصار شي .
مسدت فخذيها بحسرة : شلون ماصار شي أنت ماشفت وجهه.. ليت انقص لساني ولا نطقت بها.
حاكم بضيق : يوه يمه بسم الله عليك وش ذا الكلام! فهد يدري إنها طلعت بدون قصد ولا أظنه حط في باله.
سارة : أنا ما أبيه يكتمها و يخليها بخاطره أدري إنه تضايق بس الله يرضى عليه دنيا وآخره مايبي يضيّق صدري..
ثم أردفت برجاء : روح شوفه لا ينام وهو زعلان تكفى..
باستنكار : الساعة ٧ يمه!!
سارة بنبرة متعبة : حاكم روح.
زفر : طيب أكمل منقتي أول..
بانفعال : تبي تذبحني أنت؟
صعد الدرجات المتبقية بعد أن قال يرمقها بنظراته ممازحاً علها تبتسم : طيب طيب بروح،، يا حبّك لتكبير المواضيع الصغيرة يا سارة..
سارة وقلبها يتبعه : تكفى يا حاكم شف وش بخاطره علي.. أنا أدري مايعرف له غيرك..
ابتسم لها قبل أن يختفي من أمامها : أبشري يمه وريحي نفسك خلاص الموضوع صار عندي..
ما إن وصل لباب غرفته حتى وتوقف قليلاً.. ينّظم أنفاسه قبل أن يرسم ابتسامة مبتذله واسعة جداً على وجهه يفتح الباب داخلاً : أنت صاحي يوم تقول اتركوا لي حبه؟ يبوي ذي منقاا زين إن جيت ولقيت أصابعنا كامله..
كان فهد يتمدد على جنبه الأيمن متوسداً ذراعه.. ابتسم باقتضاب : عليكم بالعافية ما أشتهي والله.
ثم تتبعه ببصره يقترب منه بعد أن أغلق الباب خلفه،، يجلس على السرير بالمساحة الفارغة يتربع أمامه : والله زبدة ليتني أخذت كم كرتون زيادة.. لا تفوتك..
قالها يمد له قطعه ،، يبتسم في وجهه ابتسامة مغايرة للتي دخل بها.. تميل للمواساة وكأنه يخبره بأن ما يمس قلبه من أذى وضيق قد وصل له ومسّ قلبه..
شدّ فهد أطراف فمه حتى استوت بخطٍ مستقيم، ولوهله تراءت بعيني حاكم صورة الجوهرة قبل أكثر من ١١ سنة عندما تغضب أو تحاول بكل عنفوان أن تمنع ارتعاش شفتيها من أن يظهر لأحد .. مرر لسانه على شفتيه يعقد حاجبيه من هذا الهاجس : استح على وجهك يدي ممدودة..
اعتدل جالساً يسند ظهره و يأخذها منه.. يزفر بضيق دون أن ينظر له : جعلني قبل أمي ضاق صدرها والله..
حاكم : هي تحت تحسب ضايق صدرك وأنت هنا تحسب ضايق صدرها وأنا ضايع بينكم..
ثم أردف بجدية : سلامات فهد خلاص حصل خير وإن كانت نادتك الجوهرة يعني؟ أنا أحيان تغلط وتناديني ريم.
رغم أنها طرفة كان الغرض منها أن يبتسم لكن عبوسه زاد يقول بعد أن ابتلع ريقه : والله إني قلته لها عادي بس ماطاعت تصدقني..
حاكم بعد لحظة صمت : وهو صدق عادي عندك؟
عاد يبتلع ريقه وهو يشعر بالجفاف سيقتله،، يرفع بصره ينظر لحاكم بنظرة فهم معناها جيدًا،، ليبتسم له قائلاً : قم بنطلع.
فهد بضيق : والله مالي مزاج أقابل أحد أبد.
لم يدع له مجالاً للاعتراض : خلّص اللي بيدك واستعجل مانبي نتأخر فيه مباراة اليوم والعيال كلهم متجمعين.. وإن كنت ماتبيها عطني آكلها.
.
.
حاولت أن ترسم ابتسامة قبل أن تدخل، وليتها لم تفعل فما ظهر على وجهها لم يكن إلا تعبيراً مشدوداً لشخصٍ يخفي شيئاً ويحاول ألا يُكشف..: فيه أحد عبدالله؟..
قالتها قبل أن تدخل لتسمع الإذن منه.. : تعالي لولو .
أخذت أنفاسها بهدوء تشعر وكأنها ستختنق عندما هاجمتها رائحة عطره القوية والتي شمتّها بما يكفي لتتشبع حواسها بها وكأنها إثبات على وجوده.. اقتربت من صينية القهوة ونظرات عبدالله المتمدد على الكنبة تتأملها بتفحص،، تسأل بارتباك تضع الفناجين عليها : فيه أحد بيجي بعد ولا خلاص؟
عبدالله : لا خلاص ناصر كان آخر واحد.
أبدت تشاغلها : أوه ناصر ولد عمي سلمان جا ؟
عبدالله : لأ، ناصر بن محمد..
تمنت أن الرعشة التي ضربت أطرافها لم تكن واضحة بما يكفي ليلمحها عبدالله : وش جابه ذا؟
بينما هي كانت ترفع حاجبيها وتنظر له بنرفزه،، رفع هو حاجبيه ينظر لها مستنكرًا : كيف وش جابه؟ جا يزورني الرجال بيّض الله وجهه. لا تنسين إني أعرفه من قبل لا تاخذينه.
لم تعلق فهاتفه رن و أنقذ الموقف.. ردّ مستعيناً بسماعاته فكفيه المكسوران لن يسعفانه لفترة من الزمن.. لتجلس على الأريكة خلفها وهي تسمع ترحيبه الحار بمن اتصل وكأنها ليست موجودة..
رعشتها لم تكن حنيناً أو شوقاً بل كانت غضباً وانفعالاً وتقرفًا من تواجده معها في نفس المكان بعد أن انتهت العلاقة بينهما. كيف يجرأ أن يأتي وهو الذي استفز كل مافيها إلى أن طلبت الطلاق منه ولم يمضي على زواجها به سوى ثلاثة أشهر؟ لوهله شعرت وكأن النيران ستخرج من أذنيها لتحرق المكان بما فيه عبدالله الذي تعالت ضحكاته مع من يهاتفه بكل برود..
تشعر وكأنها جُرحت فعلى الرغم من أن لا أحد يعلم بسبب الطلاق لرفضها الإفصاح عنه، إلا أنه لا يحق لعبدالله أن يمشي في نفس الطريق معه فكيف باستقباله؟ وكأن ناصر مر عليها كنسمة ربيع و ليس كإعصار فيه نار..
ما إن أغلق الاتصال حتى وقالت بانفعال : أنت كيف للحين تقابله؟
عبدالله بعبوس : وليه ما اقابله؟
لولوة بغضب : شلون ليه عبدالله!!! أختك أنا كيف ترضاها بحقي؟
سكت قليلاً يحكّم انفعاله بعد أن ارتفعت نبرتها عليه : الرجال جاني يسلم ويتحمد بالسلامة أقفل الباب في وجهه يعني؟ كبري عقلك أنتِ مو طفلة ناصر مثل مادخل بالمعروف طلع بالمعروف والزواج قسمة ونصيب واللي صار ماهو نهاية العالم .
فتحت فمها لتهبّ صارخةً في وجهه مجدداً لكنه قال بزفرة يمنعها : قومي داخل وعبّي الدله هذا عبادي بيجي الحين..
عبست : وش بيجيبه ذا بعد؟
عبدالله بابتسامة : الحين أنتِ معصبة من ناصر تحطين الحرّه بالمسكين ذا ليه؟
لولوة بضيق : الله يقلع الاثنين ..
ضحك : اتركي عنك البربرة وادخلي .. والله الله بالأخلاق ترا الزم ما على البنت أخلاقها.
خرجت كالطوفان وعيني عبدالله تلحق بها،، تلاشت ابتسامته وحلّ محلها عبوس وضيق من نفسه ومن كلمتها عندما لامته.. رغم أنه قابل ناصر بابتسامة وترحيب فهو ضيفه،، لكنه داخلياً شعر وكأن حجرًا حلّ محل قلبه.. غيرُ متقبلٍ وجوده بعد كل الذي حصل،، مع أن أخته هي من طلبت الطلاق وقد حاول ناصر معها بالعودة قبل أن تصل الأمور للنهاية لكنها كانت تقابل محاولاته بالرفض.. لولوة توأمه الذي لايشبهه تكبره بدقائق معدودة،، مليئة بالحياة حتى بعد أن عادت لمنزلهم بعد ثلاثة أشهر من الزواج بملامح جامدة تقول ببرود "ناصر طلقني" ..
كان كل هذا الغضب وهو لم يخبرها بعد أنه دعاه لحفل زفافه نهاية الشهر.. تحلف الإيمان المغلظة بأنها تجاوزته لكن يبدو أنها لازالت عالقة بالتجربة الفاشلة ..
.
.
ابتسم فهد يجلس في استراحة أصدقاء حاكم.. ينظر للمجموعة الجالسة أمام التلفاز يصرخون متفاعلين مع المباراة ..
دخل حاكم قادمًا من الخارج بعد أن اختفى يجري اتصالاً امتد لساعة كاملة،، على وجهه ابتسامة واسعة وقد ارتوت روحه بصوتها وضحكاتها.. يقترب منهم باهتمام ينظر للتلفاز : كم كم النتيجة؟
ليجيبه أحد الموجودين : أنت وينك ياخي فاتك نص عمرك.
تعالت الصرخات بسبب هجمة ضائعة ليجلس مباشرةً على المسند أمامه وعينيه تتسمّر على الشاشة : خير وش اللي فاتني؟ اوف ثلاثة واحد!!
بحماس : تحدي بين صالح و محمد اللي فريقه يخسر بيشيل قطّة الإستراحة كاملة لمدة خمس شهور..
ضحك ينظر لهم باستنكار فمصروفات استراحتهم تتجاوز ال٥ آلاف في الشهر الواحد : وش هالتحدي؟ صاحي أنت وياه؟
صالح بضيق : صادق وش هالتحدي؟ والله ماهقيت ذا الزلايب يجيبون العيد .
محمد بتركيز وعينه على التلفاز : قايل لك لا تهايط وفريقك الله بالخير.. وبعدين ياعمي أنا ملك التوقعات مستحيل أخسر جهز فلوسك بس.
صالح : أجهز وش يارجّال يبي لي آخذ سلفة من البنك..
اتسعت ابتسامة فهد وهو يرى الاحتفال أمامه بعد أن انتهت المباراة.. صالح يعبس بشدة يشتم بغضب يلقي المسند بجانبه على الشاشة علّ صوته وغضبه يصل للاعبين،، أحدهم يقفز على محمد يقبل رأسه فقد وفّر عليهم مبلغاً من المال لمدة خمس أشهر،، والبقية بين التصفير والصراخ لاستفزاز صالح ومن معه..
محمد باستمتاع : بكرة ماتجي إلا والقطّه كاملة معك تسمع ولا لأ.
صالح ببرود : اصبر ينزل الراتب .
محمد : وش راتبه تونا باقي كثير على نهاية الشهر!!
صالح بنرفزه : من وين أحلب لك خمس وستمية؟ هذا اللي عندي تبي انتظر ، ولا كنسل حرام أصلا نتراهن..
محمد بحاجب مرفوع : لا بننتظر وش ورانا أهم شي تدفع..
أدار صالح رأسه ناحية حاكم الذي يشاركه نفس الميول الكَروي : افزع لي يا حاكم تكفى وخلها نصيفه بيني وبينك ذولي يهود لا يحللون ولا يحرمون.
ضحك : ياخوي فكني أنت وفريقك الدايخ ذا أنا رجّال وراي عرس .
اقترب منه يقبل كتفه : تكفى ياحاكم أنا راتبي كله على بعضه ما يجي ٧ آلاف إن دفعت فوق الخمس بالشهر وش يبقى لي؟
باستمتاع : قلعتك وش لك بالحركات ذي من زين علوم فريقك يوم إنك تراهن عليه أنت و وجهك!!
صالح : وش اسوي اعشقه منذ الصغر ياخي..
ثم عاد يقبل كتفه : قط الف وأنا بحط الباقي.. تكفى استر علي تبيني أتفصخ آخر الشهر يعني؟
ضحك : مشكلتك.
اعتدل فهد جالساً يتنحنح قبل أن يقول : خلاص صالح أنا بدفع معك..
توجهت أزواجٌ من الأعين ناحيته.. من ضمنها عينَي حاكم المذهولة.. ابتسم بتوتر فهو لا يعرف منهم سوى واحد أو اثنين التقى بهم مرّه تحت إجبارٍ من شقيقه والمعرفة سطحية جدًا، أما البقية فهذا أول لقاء يجمعه بهم..
لا يعرف الكثير -بل لم يتعرف على أحدٍ أبدًا خارج نطاق العائلة- فلا أصدقاء لديه وكأنه يخشى إن نظر أحدٌ لعينيه سيعرف من كان،، وكيف أصبح.. يكفي عليه حتى الآن جفاء شقيقه وابن خاله..
حتى أثناء الجوهرة كان حاكم عموماً وعزام خصوصاً يكفيانه ويملآن عالمه جملةً وتفصيلا.. لم يكن يحتاج شخصاً ثالثاً أبداً فعزام كان عن أمّةٍ كاملة.. أقرب له من روحه رغم فارق العمر بينهما.. أقرب حتى من حاكم الذي انشغل بمراهقته لفترة على عكس عزام الذي كان مشغولًا به و له.. والآن اختفى عزام مع كل الأسف وكأن ماكان بينهما من صداقة وقُرب و ود تلاشى وصار إلى العدم كما تلاشت الجوهرة وكأنها لم تكُن.. كأنها رؤيا،، كابوس عاشاه كلاهما واستفاقا منه فنفثا عن يسارهما ثلاثاً يستعيذان بالله من شره، ثم انقلب كل واحدٍ منهما على جنبِه يعطي الآخر ظهره..
لم يبقى سوى حاكم الذي يحاول إدخاله في دائرة معارفه قدر المستطاع لكنه إن نجح مره،، فشل آلاف المرات..
لم يستوعب إلا وصالح يلتصق به يقبل خده بكل قوة جعلته يدفعه لا إرادياً يقول مستنكراً بغضب : خير؟
صالح بسعادة : أكيد خير يا وجه الخير .. صدق فهيد خلاص اعتمد؟
نظر فهد لحاكم و الذي أشار برأسه "لا" وفي عينيه يلتمع خبث معناه "حسّر به شوي".. أضحكه : إعتمد ماعليك .
عاد صالح يقبّل خده ليدفعه فهد مجدداً بهدوء وأقل حدّه هذه المره فعلى مايبدو هذه حركاته مع الأغلب فحاكم لم يستنكر فعلته ولم يصرخ أحد من الموجودين عليه ليتوقف عما يفعل : وبعدين؟
احتضنه صالح ممازحاً : أنت وينك عن حياتي من زمان؟ المفروض أنت صديقي مهوب الخايب أخوك ..
حاكم بابتسامة وهو يسمع ضحكة شقيقه الهادئة : نتفاهم في البيت يا فهد.. هيّن والله لا أعلمك من الخايب يا صلوح..
أمسك صالح برأس فهد يضع كفيه على أذنيه يغطيها وينظر لعينيه بجدية : ركز معي أنا وبس لا يوسوس لك إبليس. ممكن أعترف لك؟؟ أحس إني حبيتك من أول نظرة .
عاد يسند ظهره، ينظر لصالح يتلاسن ويصنع جوًّا ضاحكًا مع الموجودين وهو يحاول باستماته الدفاع عن فريقه..
فلان يضحك مع فلان ومجموعة تجلس في دائرة بينهم أوراق تزداد في كل مره يرمي أحدهم بواحده..
وحاكم يجلس أمام التلفاز يلعب (بلايستيشن) مع محمد .. وأحدهم يتحدث والبقية تستمع له بتركيز..
وهو لازال يجلس في مكانه.. رغم الابتسامة الباردة التي تسمرت بها شفتيه إلا أنه يشعر بقلبه وحيدًا بين أضلعه،، ينظر للموجودين من نفس جنسه بنظرة فارغة يشعر بأنه لا ينتمي إلى أي الفريقين.. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. وكأنه كُتب عليه أن يعيش غربة الروح للأبد،، حتى بعد أن وُضعت كل قطعة من روحه في مكانها المناسب، وحتى بعد أن أصبح في مكانه الصحيح..
يتذكر جيدًا قبل أكثر من ستة عشر سنة.. وذكريات الماضي لازالت حيّةً في عقله لم تُمحى بعد.. يحاول تجاهلها دائمًا ولكنها تقوى على قوته المزعومة في بعض الأحيان، كهذه اللحظة والجميع بين ضاحكٍ ومستمتع وحتى سارحٍ وعَبوس مرّت على عينيه من ذاكرته المُثقله من كان يتلبس روحها.. عندما بلغت الجوهرة عامها الثالث عشر ، تبتسم لشعاع التي قالت بابتسامة صغيرة : الله يجعل سنواتك كلها سعيدة..
ثم بقلبها ينتفض بشدة ما إن اقتربت منها لولوة ابنة عمها علي،، تحتضنها بكامل قوتها تقبل خدها بقوة حتى أصدرت صوتاً تقول بسعادة : جوجو كل سنة وأنتِ بألف خير..
لم تكن قبلة عادية.. ليست قبلة عادية وهي التي جعلت أطرافها تبرد و كأن لا دماءَ تصلها.. وروحها تنتعش وقلبها ينتفض وكأن ماساً ضربها وأعادها للحياة..
تأكدت من أنها ليست مثل قبلة شعاع،، أو حتى قبلة عزام الذي قبلها في نفس المكان بعد أسبوع.. مع ذلك تجاهلت العواصف الغريبة التي عبرَت قلبها وكأنها لم تكن فهي لازالت في الثالثة عشر من عمرها، صغيرة ومتخبطه و تجهل الكثير..
عاد كل شيءٍ في قلبها وعقلها دفعةً واحدة وهي ابنة السابعة عشر.. عندما ساعدت لولوة في حل أحد المسائل الرياضية وشرحتها لها لتصبح سهلة كشرب الماء.. لتحتضنها الأخرى تقبل خديها قبل أن تقول بامتنان : يا بختي يا عالم عندي أذكى بنت عم بالدنيا..
وقتها ابتلعت ريقها تبتسم لها ابتسامة المتورط.. تتسارع أنفاسها ويتصلب جسدها كقطعةٍ من خشب حتى لاحظت لولوة التي سألت بقلق : يمه جوجو وش فيك ؟
من بعدها و الجوهرة تعيش عدداً من الصراعات داخلها.. صراعات و مخاوف من نوع آخر تختلف عن البقية.. تحاول تجاهلها لكن دون فائدة فهي ترى لولوة شبه يومياً تقريباً.. أفكارٌ وخيالات أولها موت وآخرها موت وما بينهما عذاب..
رغم أنها تصغرها بسنتين إلا أنها تفوقها أنوثةً ودلالاً.. ورغم أنها بعمر شعاع تقريباً والتي تشاركها نفس الطباع والاهتمامات وكأنهن شخصٌ واحد،، إلا أنها كانت بعيني الجوهرة مختلفة تماماً.. هي الوحيدة التي ترتفع نبضات قلبها فوق المعدل الطبيعي ما إن تراها أو تسمع صوت ضحكتها.. أو ابتسامتها و "يالله إن كانت هيَ سبب هذه الضحكة أو الابتسامة"..
كانت تعلم أنها ترتكب جرماً مهما حاولت أن تنفي ما تشعر به.. لم تعد في الثالثة عشر من عمرها كي تقول أنها صغيرة وتجهل الكثير. هي الآن كبيرة بما يكفي واعية بما يكفي كي تعرف أن لولوة مختلفة عن شعاع.. مختلفة حتى عن عزام الذي لا يشبه الاثنتين لا بنظراته ولا حتى مشاعره الواضحة والأهم جنسه.. كل شيءٍ يختلف إن تعلق بها،، قلبها تتسارع نبضاته تشعر بالبرودة تضرب أطرافها وبرغبتها الشديدة بأن تحتضنها وتقبلها.. لتضطر في حضرتها بأن تتكتف وتغرس أظافرها في عضديها بكل قوة عل الألم يشتتها عن رغبتها المرعبة..
مضت عليها ليالٍ كثيرة تستيقظ باكيةً بفزع بعد حلمٍ يجمعها بها.. حلم لا يليق لفتاة بأن تحلمه بفتاةٍ مثلها.. كان أثره شديداً عليها لدرجة أنها بدأت تتجنبها.. والأخرى لا تفهم لازالت بعد كل البرود ناحيتها تعاملها بود كبير تقبل خديها ما إن تراها وتبتسم في وجهها وتضحك .. إلى أن بدأت تفزيع نفسها وترهيبها، تقرأ كل ليلة قبل أن تنام عقاب مخالف الفطرة.. سخط الله على قوم لوط وعذابه الذي حل عليهم علها تنام قريرة العين لكن هيهات و لولوة تغزو أحلامها بكل عذوبة.. ولكن ما أبكى وأدمى روحها حقاً وجعلها تفر خوفًا من بين أضلعها هو عندما بدأت تبحث عن علاج للشذوذ الجنسي.. وقتها عرفت الجوهرة أنها تهوي من علّو،، وأن موازينها الطاهرة انقلبت رأساً على عقب..
رمش فهد أكثر من مره يبلل شفتيه بطرف لسانه.. لا يعلم من فتح بوابة الذكريات الليلة لتنهال عليه كوابلٍ من عذاب دون توقف.. ذكريات مشوهة جدًا تجعله يرثي روحه التائهه.. لايزال في تِيه حتى بعد أن أصبح في مكانه الصحيح..
.
.
في أحد المنشآت الحكومية الخاصة،، المبنى خالي تماماً من الموظفين خصوصاً بعد انتهاء وقت الدوام الرسمي.. إلا أحد المكاتب يتسلل من تحت بابه الضوء حيث يتواجد عزام.. يرتدي ثوبه ويجلس أمام اللواء الركن عساف أو من يفضل مناداته بكنيته (أبو هيثم)..
كان ينظر لعزام بابتسامه هادئة.. يسمعه يتحدث عن نظرته فيما يحصل حولهم : الأوراق صعب أدخلها بيتي وأهلي عارفين إني معفي عن الخدمة.. بس بحاول القى طريقة لا تشغل بالك وبإذن الله نوصل لنتيجة..
أبو هيثم : وش كانت ردة فعل أهلك؟
سكت قليلاً يتذكر جيدًا تلك الليلة،، فقال مبتسماً ينظر ليدي أبو هيثم المعقودتان على سطح مكتبه : الوالدة قامت تلولش من الفرحة.
ضحك بصدمة : ليه؟
نظر له وابتسامته باتساع : ماكان جايز لها شغلي مع المجرمين على قولتها..
ابو هيثم وبقايا الضحكة لازالت بصوته : قلب الأم محد يلومها.. وكيف أمورك الآن؟
سكت ينظر له بتردد،، ليقول الآخر بابتسامة : قريت خطاب التكليف.. تطمن..
عزام بعد تفكير : إلى الآن منيب قادر أمسك عليهم شي.. كل شغل المؤسسة نظامي..
ليقول بحزم : انتبه من جوار.
عزام : جوار أعرفه من قبل لا ينهون خدمته.. ضابط بالاستخبارات وبعد أمر إنهاء الخدمة اشتغل مع أبو عارف وهو من سهّل لي موضوع الشغل معه..
أبو هيثم بهدوء : أعرف جوار وقد تعاملت معه في فترة خدمته، لا تامن أحد أبد يا عزام..
ثم أردف بعد ثانية صمت : بخصوص القضية،، مبدئياً وش تشوف؟
عزام بتروي : إلى الحين مافيه شي واضح أنا استلمت قائمة بأصحاب السوابق وإن مالقينا شي يربط واحد منهم على الأقل بالضباط معناها الموضوع مهوب منتهي وبنقعد نلف حول أنفسنا.. لكن أنا متفائل نلقى شي حتى وإن كان بسيط.
أبو هيثم بابتسامة : أثق فيك وبقدراتك وما اخترتك وأنت في مهمة إلا لأني عارف إن الحل بعد الله بيكون بيدك.
عزام : الله لا يخيب ظنك فيني وإن شاءالله إني قد هالثقة..
ليقول أبو هيثم بابتسامة حانيه وهو يرى الامتنان بعيني عزام : أنا أعرف أبوك زين ياعزام كان زميلي أيام الكلية الأمنية ولا صدقنا اللي صار وانقال عنه يوم مات الله يرحمه.. وسبحان الله كأني أشوفه فيك نفس النباهه والذكاء اللهم الشبَه شكلك طالع على خوالك.
ضحكته الهادئة نهاية ما قاله شتَتت انتباه عزام الذي رنّت (اللي صار وانقال عنه يوم مات الله يرحمه) في عقله كالجرس.. فتح فمه ليسأل والجملة أثارت فضولاً في داخله لكن أبو هيثم الذي وقف لم يدع له مجالاً لذلك : عموماً تأخر الوقت خلينا نمشي،، واعذرني أخرتك عن بيتك.
.
عاد عزام لبيته.. حيث الساعة اقتربت من الحادية عشر ليلاً..
التعب واضح على تقاطيع وجهه.. الكثير من الأحداث حصلت اليوم من أهمها تكراره بالسؤال لجوار عن معرفته بعبدالله وماقصة الجوال الذي دمّر أبو عارف منجرته لأجله .. وإن كان لأبو عارف ورجاله علاقة بالحادث من قريبٍ أو بعيد..
لتأتي إجابات جوار باردة : ما أعرف عبدالله ولا قد التقيت فيه وحتى الجوال ما أدري وش قصته.. اسأله إذا ودك تعرف..
ليرد عليه منفعلاً : شلون اسأله تبيه يشك فيني أنت؟
جوار بابتسامة : بالضبط عشان كذا عض على شحمه.. وبالنسبة للحادث قضاء وقدر إلا الموت محد يلعب فيه..
أغلق باب المنزل بهدوء وهو متأكد من أن جميع من فيه نائمون لكنه تفاجأ بوجود عبدالإله يجلس على أرض الصالة من أمامه أوراق كثيرة والذي ما إن سمع صوت الباب حتى ورفع رأسه ليُستبدل عبوسه بابتسامة : الحمدلله على السلامة ياوحش.
مشى بخطى مثقله قبل أن يرتمي على الأريكة التي يسند ظهره عليها : وش مصحيك للحين؟
عبدالإله بزفره : بكرة عندي جلسة بالمحكمة عشان قضية وقاعد أراجع بعض الشغلات.. وش فيك تأخرت؟
عزام وعينه على مجموعة الأوراق المتناثرة : انشغلت شوي..
عمّ الصمت لدقائق طويلة عاد فيها عبدالإله لأوراقه وانشغل فيها عزام بهاتفه إلى أن أصبحت لحظات تثاؤبه أكثر من لحظات صمته..
عبدالإله : قم ياخي جبت لي النوم..
قالها يتثاءب هو الآخر، ليضحك عزام يضع هاتفه في حضنه ويتقدم بجسده يرفع أحد الأوراق القريبة من أقدامه : الصدق مالي خلق أنام..
سحبها عبدالإله بسرعة قبل أن يقرأها : سلامات يبوي أوراق سرية ذي!!
عزام وقد ارتفع حاجبه بتحدي : عشتو أوراق سرية!! تراك شقفة محامي لارحت ولا جيت..
استدار برأسه ينظر له يرمقه من الأعلى للأسفل بإزدراء : اترّفع عن الرد روح نام ريّح ملائكتك وريحني منك يالموذي..
وقف يمدد يديه للأعلى : قايم قايم تهقى أمي نامت؟..
عبدالإله بانشغال : ماهقيت تنام وأنت برا البيت يالفطفوط.
ابتسم : ياجعلني ما أفقد رضاها..
قالها يتعدى عبدالإله، داعساً على أوراقه وأصابع يده المبسوطه على أحدها متعمداً ليركض بعدها ناحية الدرج يصعده بسرعة بضحكة مرتفعه يسمعها الأصم عندما صرخ عبدالإله بغضب متألماً يحذف القلم الذي بيده باتجاهه : وجع يوجعك يالتعبان..
هدأت خطوته ما إن وصل للطابق العلوي ضحكته تخرج خافتةً من بين شفتيه لازال يسمع تذمر عبدالإله الغاضب.. ساقته أقدامه تلقائياً حيث غرفة والدته يفتح الباب بهدوء دون أن يقرعَه خوفاً من أن تكون نائمة لكن هيهات مادام خارج المنزل..
كانت تجلس على سريرها ترفع الغطاء حتى منتصف ساقيها الممدودين وتسند ظهرها على خلفيته.. شعرها الطويل المتموج بنعومة يستريح على أكتافها العارية ترتدي قميصاً موردًا والضوء الأصفر الخافت من الاباجورة على الطاولة الصغيرة بجانبها جعل منها أسطورة تُحكى ولا تُصدّق..
رفعت عينيها من الكتاب بين يديها عندما شعرت به لتبتسم ابتسامة عريضة : هلا وسهلا بقلب أمه وش فيك أبوي تأخرت حتى الغدا ما جيت تتغدا؟.
بادلها الابتسامة بأخرى يتقدم ناحيتها بهدوء بعد أن أغلق الباب خلفه.. يجلس في الجهة الأخرى الخاليه يميل عليها مقبلاً خدها ثم كفها الذي احتضن أصابعه كعادته : والله ماكانت النيّه بس طلعت لي شغله أخرتني.
صيتة بحب وهي تتأمله : الله يعطيك العافية ولا يضيع تعبك حبيبي.. تعشيت؟
هز رأسه "ايه" دون صوت لازالت عينيه تتأمل وجهها فالصمت في حَرم الجمال جمال.. انتبهت لذبول عينيه واحمرار أجفانه : معاد إلا الخير نام عشان تقدر تقوم لصلاة الفجر..
كان السؤال عالقاً في طرف لسانه.. لكن ملامح وجهها المرهقة جعلته يبتلعه، ليرفع عوضاً عن ذلك كفها التي لازالت بيده ليلامس بظهرها خده يميل عليها برأسه مغمضاً عينيه بسكينه..
ابتسمت ضاحكة : اترك عنك حركات القطاوة ذي.
فتح عينيه يرفع حاجبيه : أفا وأنا اللي كنت أظن إني أسد.. آخرتها طلعت قطوة!!
ضحكت تضرب كتفه بيدها الأخرى : الأسد صِيت على الفاضي خلّك ذيب..
ابتسم لها بهدوء بعد الذي قالت.. تلتقي عينيه المتعبتين بعينيها التي لمعت بشكلٍ واضح و ابتسامتها العريضة تجمّل وجهها..
:
*
تسارعت نبضات قلبي حتى شعرت بها تضرب رأسي عندما سمعت سارة تصرخ بفرحة : يمه وصلوا وصلوا جا ذيب جاا..
وقتها كنت في السابعة عشر من عمري.. أجلس بجانب والدتي في منزل عمي عزام حيث يجتمع الجميع بترقب.. فاليوم سيعود ذيب بعد انتهاء أول دورة له بعد قبوله في الكلية الأمنية وأختفى بسببها لمدة ٤٥ يوم دون أن يراه أحد.
ارتفعت عينَي لباب المنزل حيث تقف سارة وبجانبها زوجة عمي عزام (شعاع) والتي أتت راكضة بعد صراخ ابنتها.. ارتفعت الزغاريط و وقتها عرفت بأنه أتى.. انتبهت للذراعين السمراوين يلتفان حول أكتافها لتنقطع الزغاريط ويحل مكانها صوتها ترحب به بعبره واضحة بصوتها.
ابتلعت ريقي أخفض بصري لكفّيَ المشدودين في حضني وعندما لاحظت اختفاء اللون من مفاصلي دسيتهما داخل كم عباءتي.. كنت أسدل غطائي كاملاً أنا وأمي وحتى شقيقتي مشاعل فهذه لحظة لا يمكن تفويتها..
سمعت صوته الذي عبث بمؤشراتي الحيوية كلها، يلقي السلام لترد عليه أمي تسأله عن حاله وتبارك له اجتياز أول امتحان في مصنع الرجال وحماة الوطن..
"وشلونك صيتة؟"
ارتفع صدري وانخفض. شعرت وكأن الشهيق الذي أخذته لم يكن إلا شرارةً أشعلت جوفي.. شددت على كفّي أكثر حتى شعرت بأن مفاصلي ستُكسر.. ثم بكوع والدتي التي وكزت جانبي بقوة تهمس : الرجّال يكلمك..
رفعت بصري لازلت أخفض رأسي لتقع عينايَ عليه.. يقف بعيداً بالقرب من الباب بشرته ازدادت سُمره يضع يده على رأسه وشعره الكثيف قد اختفى بحلاقة على رقم ١.. ينظر للأرض وعلى وجهه تعتلي ابتسامة مُحرجة.. تمتمت رداً لسؤالٍ لازال صداه مرتفعاً في عقلي ولم أعلم إن كان صوتي وصل له أم لا..
وقتها كانت مشاعل في الرابعة عشر من عمرها،، لم تتغطى إلا قبل أشهر بعد أن بلغت لازالت -تمون- على الكل، فقالت بنبرة عالية : طيب عبرنا يا حضرة الضابط شدعوة مالنا رب ولا وش؟ ترى الكبر لله .
ارتفعت ضحكته و ارتفع معها قلبي حتى شككت بأنه سيخرج من فمي.. رد عليها بنبرة مشاكسة : كبرتي وتغطيتي ورحت وجيت وللحين صوتك يلعلع!!
مشاعل بشهقه : كفوك ذا الدورة ياللي ماتستحي ليتهم مغطوك مية يوم وفكونا منك.
ضحك مجددًا باستمتاع وتأكدت هذه المره من أن قلبي غادرني وجاور قلبه بين أضلعه..
استأذن وخرج حيث الرجال يجتمعون في المجلس الخارجي.. ليصلني صوت مشاعل ما إن أعدت رأسي للخلف اسنده على الأريكة فلا طاقة لدي من رفعه حتى رغم أن اللقاء لم يتجاوز الدقيقتين : فيك حياة ولا ودعتي خلاص؟
لم أكن أعلم بأن مشاعري وشعوري مفضوحان هكذا.. نظرت لها وعيناي تلتمعان بحالمية جعلتها تعلق بإزدراء : والله قلة أدب والمشكلة قدام أمك وأمه!!! مافيه خوف لا من رب ولا من عَرب.
*
:
دخل عزام غرفته بهدوء متوقعاً أن تكون شعاع نائمة فالوقت قد تأخر كثيراً وهي امرأة عاملة.. لكن تفاجأ بأن مكانها على السرير كان خالياً..
عقد حاجبيه يغلق الباب يتقدم وقبل أن يفتح فمه ليناديها سمع صوت الماء من دورة المياة..
خرجت من دورة المياة والألم يكاد يفتك بعظامها وبطنها.. تمسح فمها بالمنديل بتعب واضح.. تفاجأت به يجلس على السرير يرتدي لباس نومه وكأنه ينتظرها لتقول بابتسامه متعبة : أخيراً جيت..
عزام متفحصاً وجهها الشاحب : وش فيك للحين صاحية؟
لفت يديها حول بطنها : ماقدرت أنام وأنت للحين ما رجعت.
تبعها بنظراته إلى أن ألقت بنفسها على السرير ترفع الغطاء وتندس تحته بألمٍ واضح.. لم يعلق رغم وضوح التعب عليها ودخل لدورة المياة..
غطّى عينيه بذراعه وصوت تأوهاتها يصله بوضوح.. استمرت لفترة عجز فيها عن النوم و لم يسأل لأنها قفزت من جانبه.. يسمع صوت خطواتها الراكضة على الأرض ثم صوت إغلاق باب دورة المياة. عقد حاجبيه لازال يتخذ من ذراعه غطاءً لعينيه عندما وصل لمسمعه صوت استفراغها يتبعه سعال.. بقت لفترة والصوت يصله إلى أن آلمته أذنيه..
توقف الصوت وحل محله صوت الماء.. ثواني حتى فُتح الباب وصوت خطواتها على الأرض مرتفع جدًا في سكون المكان..
ما إن تمددت مكانها حتى وابعد ذراعه ينظر لها بقلق : وش فيك؟
شعاع بوهن : ما فيني شي وجع كل شهر..
عزام و وجهها الشاحب أفزعه : خذي مسكن طيب.
تجمعت الدموع في عينيها وأطبقت أسنانها على شفتيها علها تمنع رعشتها ولكنها لم تستطع،، انفجرت تبكي : ماعندي خلّص.
ارتعب من اندفاع شهقاتها ونحيبها الذي ارتفع والضوء الممتد من دورة المياة لا يساعد أبداً.. يعلم أنها تتألم منها في كل شهر لكن ليس لحد البكاء.. فقال بقلق : ليه تبكين طيب!!
ألم قلبها هذا الشهر كان أكبر هذه المره، تبكي الخيبة التي شعرت بها وظلت حبيسة روحها ما إن علمت أن محاولتها بالحمل فشلت هذا الشهر أيضاً.. لم يكن الألم الجسدي مقارباً لما تشعر به في قلبها ولا حتى قليلاً..
عاد يسأل وهو يرى محاولاتها الفاشلة بمسح دموعها لكن لا فائدة فعينيها كانت تهطل بلا توقف : إذا تعبانة مرّه قومي اوديك المستشفى.
شعاع بأنفاس مقطوعه : شوي ويروح أنا لا رجّعت أرتاح.
عزام بقلق : متأكدة؟
هزت رأسها "نعم" تبلع عبرة كبيرة إن خرجت ستغرق المنزل بساكنيه..
لم يدرك عزام بأنه غفى إلا عندما سمع صوتها تستفرغ مجدداً..
تنهد بتعب يبعد الغطاء عن جسده قبل أن يتحرك من مكانه متجهاً لدورة المياه حيث بابها الموارب يتسلل من فتحته الضوء..
قرعه قبل أن يفتحه : شعاع..
سندت جبينها على ذراعها الممدود على المرحاض فلا طاقة لديها لتقف أمام المغسلة.. عادت تبكي بتعب وكل شيءٍ تجمع عليها حتى معدتها فرغت تماماً وأصبحت تقلصاتها لا ترحم ..
عقد حاجبيه يقترب منها يرفعها من على الأرض : وش جاك يا بنت الحلال أول مره يصير بك كذا متأكدة إنها الدورة؟
وقفت وساقيها يصطدمان ببعضهما فلا قوة لديها أبداً.. بالعادة ينقذها مسكن الألم الذي تأخذه ما إن تراها لكن هذه المره تفاجأت بأن كرتونه فارغ تماماً..
أخرجها من دورة المياة بعد أن مد لها منديلاً تمسح به فمها فمن الصوت الذي سمعه يتضح أن لا شيء خرج من معدتها بل من الجيد أنها لم تُخرج روحها ..
رفع الغطاء على جسدها المرتعش ليقول عاقدًا حاجبيه : تستعملين نفس المسكن الأول ولا غيرتيه؟
هزت رأسها ولا يعلم الإجابة كانت لأي سؤالٍ بالضبط..
ابتعد عنها يرتدي ثوبه وانتبهت لحركته فقالت بصوت مبحوح : وين بتروح؟
فقال على عجل قبل أن يخرج : الصيدلية..
نزل درجات السلم بسرعة يغلق أزرار ثوبه والسكون التام جعل صوت ثوبه الذي يتحرك مع حركة أقدامه مرتفعاً جدًا.. توقف في خطاه على منظر عبدالإله يتمدد في مكانه متوسدًا ذراعه وأوراقه لازالت منثوره أمامه.. اقترب منه يوقظِه بهدوء كي لا يفزعه : عبادي قم نام بغرفتك ..
ولكن ما إن رأى الآخر لباسه حتى وارتعب تلقائياً : وين رايح؟
عزام بعبوس : القى عندك بندول ؟
جلس يرفع يده التي تنملت بألم : لأ شعاع مسكينة سألت قبلك.. وش فيك أنت وحرمتك؟ وليه لابس وين بتروح هالوقت؟
اعتدل واقفاً : بروح الصيدلية .
تبدلت نظرته النائمة لأخرى خبيثه ليضحك عزام رغماً عنه : ليتني خليتك منخمد..
عبدالإله وقد بدأ بتجميع أوراقه يصفع قدم عزام الواقفه على أحدها : والله بنات أفكاري ولا أنا مالي دخل.
أبعد قدمه بعد أن شعر بحرارة صفعته : الحرمه تعبانه رايح أجيب مسكن..
رفع عينيه بقلق ينظر له : وش فيها؟
عزام بإحراج : وأنت وش دخلك؟
عبدالإله : بنت أختي ياللي ما تستحي! مير من الساعة ١٠ و وجهها مصوفر وديها المستشفى يشوفون وش فيها وش بيسوي المسكن؟.
ابتعد ولازال محرجًا لا يعلم لماذا : مايحتاج مستشفى ضفضف عفشك بس وانكتم..
.
.
تقلبت سارة بِفراشها وكأنها على جمرٍ يكوي جنوبها.. تحركت بهدوء كي لا يستيقظ النائم بجانبها وخرجت من الغرفة بهدوءٍ تام إلى أن وصلت لغرفة فهد.. فتحت الباب بخفّه دون أن يصدر أي صوت.. تريد فقط أن تلقي نظرة عليه فهو عاد متأخراً بعد مشواره مع حاكم و وقتها كانت تختبئ في غرفتها لا تقوى على أن تقابله...
أسندت كتفها على إطار الباب وابتسامتها المخنوقة تتسع وهي تراه يعطيها ظهره مستقبلاً القِبله يصلي قيامه..
تلاشى شيءٌ من الكدر الذي كان يغطي قلبها.. تسند رأسها وعينيها تلتمع بالدموع وتحركاته المتأنية تُسكت شيئًا يصرخ في جوفها..
قفزت بذعر دون أن تعلم بأنها كانت سارحه عندما شعرت باليد التي وُضعت على كتفها.. استدارت لترى سلمان يعقد حاجبيه يضع سبابته على فمه مشيرًا لها بالصمت التام قبل أن يسحبها من ذراعها راجعاً بها لغرفتهم..
أغلق الباب بعد أن دخل يُوقفها أمامه كالمذنبه يقول بعدم رضا : انهبلتي أنتِ؟
ابتلعت ريقها تدلك ذراعها حيث أصابعه لم توجعها أبدًا لكنها اتخذت من هذه الحركة عذرًا كي تبتعد من أمامه لتجلس على السرير : ليه وش سويت؟
وقف أمامها : وش سويتي ؟ قاعدة تراقبين الولد تبينه ينهبل لا التفت وشافك واقفه وراه؟
سارة بانفعال : ماكنت أراقبه.
زفر بضيق : والله محد بيعقده بحياته ويجيب له حاله نفسية غيرك.
لتقول بصدمة: أنا؟
سلمان بقوة : تعاملينه غير عن أخوانه وكأنك متعمده تحسسينه أنه غير عنهم.. أنتِ حتى تخافين عليه أكثر من ريم وهي بنت.. خلاص يا سارة أنا انخنقت منك كيف هو؟
سارة بعبرة : حرام عليك أنا ما أفرق بين عيالي.
تكتف يرفع حاجبيه : تضحكين على نفسك ولا علي؟
شدّت على شفتيها تمنعها من الارتعاش وعينيها الملأى بالدموع تنظر له بضعف.. سارة ليست سوى أم قلبها انفطر على ابنتها التي أصبحت بين يوم وليلة ابنها ولا يلومها فهو نفسه لازال تحت تأثير الصدمة إلى هذا اليوم وكأن ماكان يسمع به يحصل لغيره ويستنكره دار وقرع بابه وصفعه..
زفر هواءً ساخنًا وجلس بجانبها.. أخفضت رأسها تشد على أصابع كفيها عندما أحرقت الدموع سطح عينيها.. ليقول سلمان بضيق : أدري ضايق صدرك للحين على اللي صار المغرب بس خلاص سارة لا يكبر الموضوع زيادة عن اللزوم،، فهد كان الجوهرة لمدة ١٨ سنة حتى وإن ماغلطتي باسمها قدامه..
ابتلعت ريقها تمسح دموعها بظهر كفها.. لا أحد يشعر بما تشعر به هذه اللحظة ولن يشعر أحد مهما وصفت وتكلمت نظرة فهد في تلك اللحظة،، كانت كألفِ سيفٍ اخترق قلبها دفعةً واحدة..
مضى على صمتهم مدة.. سارة تمسح دموعها وسلمان يأخذ أنفاسه بثقلٍ واضح وكأنه ينازع روحه على البقاء.. إلى أن ارتفع أذان الفجر ليريح أرواحهم المتعبه..
ردد سلمان خلف المؤذن بخفوت، قبل أن يقف يستغفر ربه.. يلتفت ينظر لها لثواني قبل أن يقول بشفقة : ما أقول غير الله ينور بصيرتك.. ادعي له بين الأذان والإقامة بدل الحرص الزايد اللي ذبحك.
مشى من أمامها لكن كفها الذي تشبث بكفّه أوقفه..
نظر لها تنظر له بعينين ذابله تقول : كلمت فهد عن غادة.
عقد حاجبيه : غادة مين؟
ابتلعت ريقها بارتباك : البنت اللي أقولك معي بالجامعة.
استوى فمه بخط مستقيم قبل أن يقول : وش قال؟
لا تعرف لماذا خرجت كذبتها بسهولة هكذا : قال طيب. أنا سألت عن البنت وطلعت مهيب مخطوبة.
سلمان بعدم تصديق : فهد قال طيب؟
هزت رأسها بتردد وهي تحاول إقناع نفسها بأنها "كذبة بيضا" لن تضر..
سلمان : ودرت عن فهد؟
مررت لسانها على شفتيها قبل أن تقول بارتباك : ماقلت لها شي للحين.. أنا متأكدة إن غادة هي الوحيدة اللي تناسب فهد وبتسعده وبصراحة ناوية ما أعلمها أبد.
سلمان بعدم رضا : إذا تبين تساعدينه ساعديه لكن بدون لا تضرين أحد.
سارة بإندفاع : أنا مو أنانية عندي بنات وعندي عيال وأخاف الله بعيال غيري بس فهد يستحق يعيش حياة طبيعية حاله حال غيره.. سلمان الناس لا درت بترفض على طول حتى بدون لا تفهم أو تفكر أو تعطيه فرصة بيشوفونه شي غلط وينبذونه وفهد ماله ذنب..
سكتت لثواني قبل أن تردف بصوتٍ محتقن : أسألك بالله،، بذمتّك ما ودك تشوفه مستقر بحياته وباله مرتاح بدل ماهو ياكل بنفسه كذا؟
بابتسامة تحمل الكثير من الأسى : أنا اللي ودي والله..
ابتسمت تغص بعبرتها : ربي وحدة أعلم باللي في نيتي ونيتك الموضوع قديم وماضي وانتهى.. فهد إن بغى بعدين يوصله لها بالطريقة اللي يبيها يمكن ترضاها منه وما يكون عندها مانع على عكس أهلها اللي مليون بالميه بيقولون لأ . فهد معشَره حلو وقلبه طيب وحبيب لا نظلمه ونصير حنا والناس عليه.
تكفى يا سلمان طلبتك ريّح قلبي وقل تم..
.
.
.
.
# نهاية الفصل السابع
نلتقي قريبًا يوم الثلاثاء إن شاءالله ❤
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ♡.
|