كانت مها مسهدة بأرق تستعيد ذكرياتها البعيدة حين اسر قلبها جارهم الشاب الوسيم بالحى القديم ,خالد المرهف الحس الذى عرفت معه أنقى احساس بالحب , الحب الأول الصافى البرئ ,بلا أغراض ولا أسرار ولا تعقيد.
جمع العشق بينهما وربط قلبيهما سويا برباط اعتقدته قويا لا ينفصم , وتصورت حياتها معه فى عش هادئ صغير ,تنعم فيه بحنانه واهتمامه السخى ,وكانت أقصى طموحاتها أن يتزوجا على جناح السرعة وينجبا الكثير من الأطفال حتى يملأوا عليهما الحياة بهجة وسعادة ولم تكن تسعى كغيرها من الفتيات بمثل عمرها الى الثراء ولم تحلم يوما بعريس غنى ينشلها من ضيق الحال الذى تنغمس فيه حياتها , والشقة الضيقة التى تداعت جدرانها وتحول طلاؤها الى ألوان باهتة ,وكانت خاوية الا من بقايا اثاث متداعٍ ,وأجهزة قديمة بالية .
كانت وحيدة أبويها , مدللتهما الصغيرة التى لم يبخلا عليها بأى شئ , وكان والدها يعمل بمجال التصدير والاستيراد مديرا لشركة صغيرة ببداية طريقه ليشق الحياة بمثابرة وعناد لا يتزحزح ,أما والدتها فكانت تؤازر رفيق دربها بكل ما تملك فهى تنتمى لعائلة ثرية ذات نفوذ واسع فوضعت ارثها بالكامل تحت تصرفه ,لتسانده فى رحلة كفاحه ,فازدهرت أعمال زوجها وصعد بسرعة الصاروخ ليرتقى سلم المجد , حتى صارت شركته من أقوى الشركات وباتت تنافس بشراسة فى سوق العمل ,بل صار الجميع يحسب له ألف حساب ,وانتقلوا الى فيلا واسعة بحى راقى وألحقها أبوها بمدرسة دولية للغات وصار يغدق عليهما بالهدايا وكل ما تتوق له النفس فانتعشت حياتهم بدرجة كبيرة ,وكان هذا حلما قصير الأمد فقد انتزعتهم منه الحياة بقسوة لتلقى بهم فى جحيم بلا قرار ,حين دبر له منافسه مكيدة لتحطيمه ,وتدمير سمعة شركته ,فقد اشترى ذمة مدير أعماله بالمال الوفير وأغراه الشيطان بخيانة أقرب الناس اليه ,ليصدّق على المثل القائل ( اتق شر من أحسنت اليه ) ويتحقق بحذافيره.
فتهوى شركته الى القاع محطمة معها حياتهم المستقرة الى أشلاء ,خسر كل رأس ماله واضطر الى بيع شركته التى أسسها بعرقه وجهده بثمن بخس الى غريمه , ولم يكتف الظالم بما أثمت يداه فقد أمعن فى اذلال ابيها وحطّ من قدره أمام جميع العاملين بها ليعود يومها الى منزلهم القديم مكسورا مهزوما منكس الرأس ,لا يكاد يرى أمام عينيه ,أخذ يحطم كل ما يقع تحت طائلة يده وأمها أخذتها بين أحضانها بغرفتها الصغيرة مغلقة الباب من الداخل بالمفتاح ,وهى تحاول أن تهدئ من روع صغيرتها المذعورة من صراخ أبيها الجهورى وصوت تحطيم الأشياء بالخارج ينتزعها نزعا من السكينة التى تحاول أمها أن تبثها فى نفسها الخائفة ,وهى تناجى ربها بأن يهوّن على زوجها مصيبته ويمن عليهم بالسلام والأمان , فجأة ران عليهم الصمت فهدأت ثورة ابيها ولم يعد وقع أقدامه يتردد ,فحاولت أمها ازاحتها قليلا عن حضنها لتطمئن على زوجها الا أنها تشبثت بطرف ثوبها القطنى بتعلق مستميت لا تستطيع الفكاك منه فحادثتها بصوتها الرخيم الحنون وهى تربت على كتفيها بلمسة أمومة خالصة:
-اهدأى يا بنيتى ,ولا تخشى شيئا لن أتركك وحدك ,ولكننى سأخرج لأطمئن على أبيك وأحاول أن أواسيه فما أصابنا ليس هيّنا أبدا.
وابتسمت لها على الرغم من آلامها المريرة وهى تحاول اقناع طفلة لا يتجاوز عمرها التسعة سنوات بأن كل شئ سيكون على ما يرام ,الا أنها هى نفسها كانت ترتجف بعنف وتشعر بالتردد لرؤية ما لا يحمد عقباه ,فوضعت ابنتها بسريرها الخشبى وربتت على شعرها العسلى الناعم ثم توجهت بعزم نحو باب الغرفة المغلق لتفتحه على مصراعيه فتلقت صدمة رؤيتها لمشهد زوجها وهو ملقى على الأرض فاقدا للوعى لا تبدر منه أية دلالة تشير الى انتمائه لعالم الأحياء ,فصرخت بفزع وهى تهرع نحوه لتهزه بقوة واصرار تحاول افاقته:
-أرجوك يا سامى , أجبنى , انهض ,لا تتركنى وحيدة.
فيما غادرت مها سريرها ووقفت بباب غرفتها تنظر الى هذا المشهد الرهيب وهى تشهد سقوط أبيها وانهيار أمها ,التى تصارع من أجل اعادة أبيها الى الحياة التى فارقت جسده المنهك فتقوم باعطائه قبلة الحياة بلا جدوى, ولم يفارقها بحياتها , هذا المشهد الذى صار يتكرر بصورة يومية كل ليلة وهى تحاول أن تغفو ولو قليلا فى الليل المظلم الطويل ,الا أنه يكبر ويتضخم حتى يملأ كيان غرفتها الضيقة ,ويتمكن من واقعها فلا مفر منه ,وهى تجد أمها سليلة الحسب والنسب كريمة الأصل عزيزة النفس ,تقاتل بشراسة حتى تكفل لها قوت يومها وثيابا تسترها من عوز الفقر والحاجة ,فلم يبقَ لها سوى حب خالد , نسمة عليلة تلطف من الأجواء الخانقة التى صارت تحيط بها من كل اتجاه مطوقة ايها تسجنها بذكرياتها المؤلمة فلا تعى الا وهى تقسم على الانتقام ممن سعى لخراب حياتهم واغتيال لحظة فرحتهم القصيرة , وما زاد عليها الوجع وفاة والدتها بعد معاناة طويلة مع المرض اللعين , السرطان ,فكانت بحاجة الى المال للتخفيف عليها من آلامه القاتلة وربما لو امتلكت الوفرة منه لزاد عمرها بضعة أيام تقضيها بلا أطباء ولا جراح , ومرارة العجز تطاردها فتذكرها بضيق ذات اليد ,وتنكأ جراح مصيبتها السابقة فتقرر التخلى عن أحلام الحب والسعادة لتبدأ مشوارا جديدا تسعى فيه الى أن تكون مها أخرى لا تمت بصلة الى الفتاة التى أشقتها الحياة وأتعست ايامها ,بدون شفقة وبلا رحمة.
*****************