فى تمام الساعة الخامسة عصرا ,اجتمع كل أفراد العائلة على مائدة الطعام المستطيلة وكان كل واحد يشغل مقعده المعتاد بنظام ودقة اعتاد أهل هذا البيت عليها ,فلم يكن ممكنا أن يخلف أيا منهم هذا الموعد ,وجلست السيدة شريفة على رأس المائدة وفى الطرف المقابل لها جلس محمد الابن الأكبر فى مكان أبيه الراحل ,وجلست الى يساره زوجته سوسن وبجانبها ريم والى يمينه كان رفيق جالسا بهدوء والى جواره كان كريم يراقب مقعد والدته الفارغ وقد بدأ القلق يتمكن منه فهو قد أنهى عمله متأخرا عن أبناء عمه وعندما أشرف على غرفة الطعام كان الجميع ينتظرونه فلم يجد متسعا الا لغسل يديه وانسل الى مكانه بدون حتى أن يغير ثيابه ,وعندما رأى أن والدته لم تكن حاضرة ظن أنها ربما تعطى بعضا من أوامرها للخدم فى المطبخ ,فزوجة عمه منى ترى أنه ليس من مفردات حياتها أن تشغل بالها بهذه الأمور التافهة وعمته فريال تنأى بنفسها عن أى صلة بالعائلة منذ عودتها الغير متوقعة ,فلم يتبق سواها وزوجة عمه سوسن اللتان كانت تشرفان على شئون العناية بالمنزل,كانت سماح تعمل كالنحلة تأتى لتضع أطباق التقديم وتذهب لاحضار الشراشف ,فاستوقفها كريم بلهجة حادة:
-سماح , أين هى أمى ؟ أما زالت بالمطبخ ؟
توقفت الفتاة وكأنما لسعها عقرب وأخذت تهز راسها نفيا ,ففاض الكيل بكريم وأخذ يعنفها بلا داعى:
-هل أكلت القطة لسانك الطويل ؟ أجيبينى يا فتاة.
ابتلعت ريقها بصعوبة وهى تشعر بأنها فى مرمى الاتهام بشئ لم تفعله:
-أنا لم أرها منذ الظهيرة يا سيدى , ولا أعرف أين هى ؟
تصلبت ملامحه وهو يستمع لدفاعها الضعيف وقام ليدفه بكرسيه الى الخلف بصوت أحدث صريرا عاليا وقال بانفعال:
-لا يمكن , ألا تعرفين أين هى ؟ أليست بغرفتها ؟ هى اصعدى واطرقى الباب ,فلا بد أنها نائمة وأنت كسولة لا تفعلين شيئا نافعا أبدا ,هيا اذهبى لتوقظيها.
وضع رفيق يده على كتف كريم وهو يهدئ من روعه:
-اهدأ يا كريم , فلا بد أن المسكينة لديها عشرات الأشغال التى جعلتها تسهو عن هذا , كما أنه لم يقم أحد منا بتنبيهها , لماذا لم يلفت غياب عمتى هناء نظر أحد منكن ؟
كان حديثه موجها نحو السيدات الأكبر سنا واللاتى كن يحدقن بذهول غافلات عما يدور حقيقة أنه ولا واحدة بالفعل انتبهت لغيابها الذى طال بعد المشادة التى دارت بينها وبين فريال ,وعادت الخادمة المتوترة وهى تشعر بالذعر مما سوف تخبرهم به:
-لم , لقد . طرقت الباب فلم تفتح لى السيدة هناء وظللت واقفة حتى تأكدت أنه لا يوجد صوت ... ف .. ففتحت الباب ولم أجد أحدا بغرفتها.
-ماذا تعنين أيتها المعتوهة ؟ هل اختفت ؟ هل انشقت الأرض وابتلعتها؟
كان صوت كريم الصارخ يطغى على الآذان فيصمها وهو يطوّح بيديه الاثنتين فى الهواء باشارات غاضبة ثم استطرد وهو لا يعى تصرفاته:
-ألم يحدث أن شاهد أحدكم ماذا حدث ؟ ألم يرى أى منكم أمى ؟ هل هى مثل الهواء صارت شفافة لا تلقون بالا اليها !
فيما ألقت ريم نظرة اتهام الى عمتها فريال وبادلتها نظرتها بعداء واضح ثم اعترفت بصوت ينم عن تصميم:
-لقد صارت مشادة اليوم بينها وبين ..عمتى فريال ,وثارت اثرها فصعدت الى غرفتها .
ثم أخفضت صوتها بلهجة اعتذار:
-ولقد انشغل كل منا فى أحواله الخاصة فلم نعرف أين ذهبت بعدها.
ثم أطرقت برأسها وهى تشعر بالذنب لأنها انشغلت بأمر المكالمة الهاتفية الغامضة التى أنستها أن تطمئن على زوجة عمها.
ردت عليها فريال بتعالى متعمد:
-كيف تجرؤين أيتها الخرقاء على اتهامى ؟
حاول محمد التدخل للحيلولة بين أخته وابنته:
-لم يتهمك أحد بشئ يا فريال , فريم تحاول فقط تقرير بعض الحقائق
رنت سخرية فريال مجلجلة:
-عن أية حقائق تتحدث يا أخى العزيز ؟ الحقيقة الوحيدة هنا هو أنه لا يوجد من يهتم لأمر غيره , فالكل مشغول بنفسه , ألسنا كلنا كذلك؟
كانت نظرات منى شامتة متشفيّة , بينما صارت سوسن أكثر اهتماما بما يدور وهى تحاول أن تلقى اقتراحا مفيدا بالاتصال بها على هاتفها الخاص ,فيما جلس سيف عابسا وهو يشعر برغبة عارمة فى الابتعاد عن هذه الأجواء المشتعلة ,أما لبنى فكانت صامتة لا تظهر انفعالا ولا تبدى أى رد فعل وكأنها تنتظر من يحركها.
رفعت شريفة هانم بيدها النحيفة عاليا لتسكت الجميع, وقالت بصوت آمر:
-فلتتصل يا كريم بوالدتك أولا , ربما تكون قد خرجت لقضاء بعض المشاوير الخاصة بها ولن كانت لم تعلم أحد منّا بغيابها ولهذا فلم ننتبه يا عزيزى , فليس معقولا أن ننسى أمرها وما صار من حوار عاصف بينها وبين فريال كان مرده الى سوء تفاهم بسيط حول غياب لبنى هى الأخرى بدون علمنا.
قالت جملتها الأخيرة وهى توجه نظرات لوم جليدية نحو حفيدها الأثير ,الذى لم يبد عليه التأثر وظل صامتا ووجهه خاليا من أى تعابير ,ثم لم يلبث أن انتحى بكريم جانبا وقد أخذ هذا يحاول الاتصال بوالدته ولكن ظل هاتفها مغلقا بلا اجابة وهذا ما جعل قلقه يتضاعف ,وأخذ يعبث بخصلات شعره الكثيفة ويدلك رأسه عسى أن يصل الى حل ,وجد رفيق يسعفه بما عجز عنه ذهنه المشوش:
-فلنجرى اتصالاتنا مع صديقاتها المقربات فربما تكون قد قررت زيارة احداهن.
هز راسه يمينا ويسارا ويقول بيأس:
-لا فائدة من هذا , فليس لها أى صديقات مقربات ولا زميلات ,أنت تعرف أن حياتها كانت مقتصرة على مراعاتى والاهتمام بشئون البيت.
-لا يمكن يا كريم ! لا بد أن لديها صديقة مفضلة , ربما واحدة أو اثنتين, حاول أن تتذكر جيدا.
وربت على كتفه مشجعا بعزم , فيما أخذ كريم يقدح زناد فكره لعله يصل الى جديد ولكنه ما لبث أن شعر بالانهيار , فوالدته الغالية قد اختفت من المنزل بدون أن يعرف أحد , وصار يشعر بمسئوليته عنها , لقد كان مقصرا بحقها هذه الأيام وانشغل عنها فلم يجرى اتصاله بها كعادته اليومية ,لو كان فقط قد اتصل بها لعرف أين تتواجد ؟
قاطع خلوتهما محمد وهو يدنو منهما فيقول بثبات ورزانة:
-اسمع يا بنى , أنا أعرف لواء متقاعد بالشرطة , صديق مقرب لى ويتمنى أن يخدمنى برقبته ,سوف أتصل به وأدلى له بمواصفات والدتك واذا كنت تملك صورة لها فسوف أحتاجها معى , هيا أسرع فالوقت يداهمنا .
قالها ولكزه بمرفقه ليتحرك سريعا وهو تائه لا يعرف اين يذهب لقد كان حقا كالطفل الضائع بدون أمه ,أخذ يتعثر بخطواته وهو يفتش فى كل أنحاء الغرفة على صورة لها ,قام بفتح جميع الأدراج , وقلب محتوياتها على الأرض ,وأفرغ جميع العلب الخشبية والتى كانت أمه معتادة على وضع أغراضها الخاصة بها ,كان ثائرا غاضبا وفى نفس الوقت حائرا متخبطا ,لو فقط يعرف أين اختفت ؟ ثم خطر له هاجسا ملحا هل تم اختطافها ؟
وهو فى غمرة انفعالاته المختلفة رن هاتفه المحمول بنغمة أمه المألوفة ,فلم يصدق أذنيه ,اختطف هاتفه من جيبه وهو يرى اسم أمه على الشاشة فأجاب كالمسحور :
-أمى أين أنت ؟
أجابه صوت رجولى خشن :
-هل أنت السيد كريم ؟
-نعم , أنا هو , من أنت ؟ وماذا تفعل بهاتف أمى ؟
-انتظر قليلا , سوف أجيب عن جميع أسئلتك , لقد أصيبت والدتك فى حادثة تصادم بالطريق.
-يا الهى ! أمى هل أصابها مكروها ؟ تحدث.
-لا تقلق , لقد كانت حادثة بسيطة وأنا كنت قائد السيارة التى صدمتها ولكنها كانت سائرة بلا هدى ولم تكن منتبهة لما حولها .
طبعا يحاول الرجل تبرير فعلته القذرة , هكذا خطر لكريم ولكنه اطمأن قليلا لأن والدته بخير فسأله بحدة:
-أين هى الآن ؟
-انها فى منزلى و
قاطعه صوت هادر بغضب عنيف:
-ماذا تفعل فى منزلك أيها ..
-تمهل يا بنى , أنها فى منزلى وابنتى ترعاها بعناية , وقد استفاقت أمك الآن وهى تريد أن تحدثك.
سمع صوت والدته الواهن الضعيف وهى تحاول أن تتكلم على الرغم من آلامها المتزايدة:
-كريم , حبيبى لا تشغل بالك , أنا بخير.
-أمى , حمدا لله أننى سمعت صوتك ,وأنك بخير , هل يعاملونك بطريقة حسنة؟
ابتسمت هناء بضعف بالغ:
-نعم يا بنى , فابنة الرجل الذى صدمنى قد قامت بعمل اللازم وأكثر , لقد أحسنت الاهتمام بى وهى كالملاك الرقيق ,أرجوك لا تنفعل كثيرا فقد كان هذا خطأى أنا ,لقد كنت شاردة الذهن وأنا أعبر الطريق.
-أين كنتى يا أمى ؟ ولماذا خرجتى بدون أن تعلمى أحدا فى البيت ؟ ما كنا وصلنا لهذه الحالة.
-ليس هذا وقت العتاب يا حبيبى.
-طبعا يا ست الكل , المهم أننى قد اطمأننت عليك , هيا أخبرينى بعنوان المنزل حتى آتى لاصطحابك فورا.
-حسنا سأناول الهاتف للسيد صلاح حتى يعطيك العنوان بالتفصيل.
أخذ السيد صلاح يملى عليه تفاصيل عنوان منزله بدقة متناهية وكريم يسجل كل ما يسمعه بورقة صغيرة فى دفتر قريب منه وأنهى المحادثة معه وهو لا يصدق نفسه من الذهول الذى اصابه وأخذ يحمد الله ويشكره على كرمه الواسع , فيما صعد رفيق اليه ليرى ما الذى أخره بالعلية ,وفوجئ به يضحك ويبكى بجنون حتى شعر بقلق عليه وعلى سلامة عقله ,فأخذ يهزه بعنف وهو يصيح به:
-ما الذى اصابك يا كريم ؟ سوف نجدها لا تقلق أنها مسألة وقت فحسب.
- لقد ... لقد وجدتها يا رفيق .
وأخذ يعيد على مسامعه فى كلمات متخبطة متعثرة ما حدث منذ دقائق قليلة وهو سعيد بنجاة أمه من هذه الحادثة.
-حمدا لله على سلامتها , هيا بنا لنذهب ونحضرها.
-لا داعى لأن ترافقنى , فسأذهب وحيدا.
لم يجد رفيق داعيا لاصراره على الذهاب معه , فقد شعر بأنه يود الانفراد بوالدته بعيدا عن جو العائلة الذى صار خانقا , وقد احترم قراره هذا ,كما أنا لم يشأ فعليا بترك لبنى فى هذا الوقت الحرج.
**************