أخذت ريم تذرع غرفتها ايابا وذهابا وهى قلقة كأنها قطة على نار فما الذى قصده رفيق بقوله : أن لبنى ستظل أمام ناظريه فى العمل , ولماذا تستلم هى منصبا بالشركة بالرغم من حداثة عهدها بهذا النوع من الأعمال بينما هى أخته , شقيقته الوحيدة تظل جالسة فى البيت تتسكع طوال النهار تشاهد أفلاما سخيفة وتقضى وقتها بملل وضيق , فقد حاولت أكثر من مرة أن تقنع والدها بأن تعمل معهم كأبناء عمومتها ولكنه كان دائما ما ينصت لرأى رفيق بأفضلية بقائها بعيدا عن مجال ادارة العمل حتى لا تعرض نفسها للارهاق والمضايقات بدون سبب , كانت راضخة وقانعة بأن توافقهم على مضض , والآن لقد تغيرت الظروف المحيطة بهم وقد رحب أخوها بمشاركة ابنة عمهما الوافدة جديدا للادارة وحتى ولو تولت عملا صغيرا فهذا يعد ضربة لها , وقد تضايقت قليلا بسبب اهتمام الجميع بها حتى سيف اللا مبالى والذى لا يحلو له أن يستفزها على الدوام أصبح حملا وديعا عندما يتحدث الى لبنى وصارت ابتسامته البلهاء تملأ وجهه عندما ينظر اليها, فما السر وراء تغير كلا من رفيق وسيف ؟
انها ستثير عاصفة هوجاء حول هذا الموضوع , وقررت أن تناقش والدها من جديد برغبتها فى الذهاب الى العمل بدلا من البقاء بدون أى فائدة ترجى منها , ولكن عليها أولا أن تعرف كيف ستفاتحه وبأية طريقة ستلمح الى رغبتها بالمساواة بابنة عمها وهما تبلغان ذات العمر كما أنها خريجة جامعية مثلها , اضافة الى أنها تعد من الورثة الشرعيين حتى ولو بعد عمر طويل , حقيقة هى لا تسعى الى المال ولا تهتم به مثقال ذرة , الذى يكدرها أنها ظلت مقتنعة بابتعادها عن سوق العمل بناءا على نصيحة أخيها الذى يفضل طبعا أن تظل الفتاة حبيسة منزل أبيها وحتى تتزوج لتغير مكان السجن ليصبح بيت زوجها , وهى رافضة للزواج حتى هذا اليوم لم تجد من يقلب كيانها رأسا على عقب لن تكتفى بحب هادئ وشخص طيب يعاملها بلين ورفق , انها تعشق الاثارة وتحب أن تقضى كل يوم من حياتها برفقة شخص قوى الشكيمة يحب المغامرة ولا يخشى أن يخاطر فى سبيل ارضائها ويجعل كل يوم من حياتهما المشتركة ذكرى لا تٌنسى.
فيما هى تتآكل من الغيظ ولا تقوى على الانتظار حتى تتخذ خطوة نحو تنفيذ مرادها , وجدت هاتفها المحمول يرن بانتظام النغمة التى لا تميز اسم المتصل وصدق حدسها فكان رقما مجهولا غير مسجّل لديها , كادت أن تتجاهل هذا الاتصال ولكن شيئا غامضا دفعها للرد:
( آلو ...)
( آلو ... الآنسة ريم ؟ )
استغربت الفتاة من الشخص الذى يحدثها فيبدو أنه لا يعرفها وانما يستفسر عن هويتها , وكادت أن ترد بأنها هى الا أن الحذر قد تمكن من تهورها فى آخر لحظة فأجابت بثقة وقوة:
-أنا لست الآنسة ريم , أنا خادمتها وهى ليست موجودة , من المتحدث ؟
-صديق ,هل هى بالخارج؟
-نعم , لقد نسيت هاتفها , ما هو الاسم الذى أخبرها به عندما تعود
تردد الصوت قليلا وكأن صاحبه يفكر فيما يقوله:
-لا يهم , سأعاود الاتصال فى وقت لاحق
وأغلق الخط وقد وقفت ريم مشدوهة تفكر فى غرابة ما حدث , هذا اتصال يثير بداخلها الريبة فهذا الشخص ليس صديق كما يدعى والا لكان رقمه محفوظا على ذاكرة هاتفها أو على الأقل كانت تعرفت على نبرة صوته , ولكنه من يكون ؟
بالرغم من توتر الموقف الا أنه أضاف ليومها بريقا خاصا من الاثارة التى تعشقها فقد صار لديها ما يشغلها لتتعرف على صاحب الصوت المميز ذى الرنة الجميلة , وقامت بنقل رقم هاتفه على ورقة بيضاء صغيرة فى مفكرتها الصغيرة التى تحملها على الدوام تسجل بها مواعيد عرض الأفلام والبرامج المميزة لها , وقررت الاستعانة بسماح فى مساعدتها على تضليل هذا الشخص وكانت متحمسة للغاية وهى تقفز على درجات السلم هابطة الى القاعة السفلية وتوجهت نحو المطبخ حيث يتواجد كلا من الطباخ ( عم مصيلحى ) والذى يخدم العائلة منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما , كما أن له مساعدا صغيرا فى السن يأتى أحيانا ليمد له يد العون فكانت مهمته شاقة لخدمة عائلة مكونة من هذا العدد الكبير من الأفراد , وكانت سماح أحيانا تحدثها عن دماثة خلقه وطيبة قلبه فتكهنت على الفور بأن قلب الفتاة يميل له وكان اسمه ( سعد ) يبلغ حوالى السادسة والعشرين من عمره قمحى اللون نحيل له هيئة تذكرك بشكرى سرحان وقت أن كان الفتى الأول بملامحه المصرية الأصيلة .
كان العمل فى المطبخ الكبير يجرى على قدم وساق , اذا جاز التعبير لأنه يشبه ملعبا صغيرا فى اتساعه ويشتمل على جميع الأجهزة الكهربية الحديثة التى تساعد على منح الرفاهية لمن يطهو بهذا المكان كما أنه مقسم بطريقة عبقرية ليتسع لهذا الكم الهائل من الأغراض التى تحتل معظمه من طاولات ومقاعد وأحواض وخزائن , باختصار كان حلم كل سيدة منزل أن تمتلك واحدا مثله .
وجدت ريم ضالتها المنشودة وهى مشغولة بتجهيز الأطباق الخزفية فوق منضدة منعزلة جزئيا عن بقية المطبخ وهى تبتسم بخفة لنكتة ألقاها المساعد الصغير وهو يقطّع شرائح الخضروات الى قطع صغيرة بمهارة فائفة وسرعة قياسية وهو يتكلم بذات الوقت بدون أن يهمل عمله , الا أن عم (مصيلحى ) لم يعجبه الحال فبدأ بالتذمر والقاء العظات عليه طالبا منه الالتفات لعمله وترك المزاح جانبا لحين الانتهاء مما بين يديه.
كما أنه قد زجر ( سماح ) بصوت أهدأ قليلا ناعتا اياها بالكسولة , مما جعلها تبدى امتعاضها من هذه الاهانة التى وجهت اليها فى وجود ( سعد ) , وفجأة التفتت الى الباب حيث كانت ( ريم ) واقفة تراقب الموقف بتسلية وهى تشعر بأنهم على الرغم من ارهاق أعمالهم وطول يومهم فقلوبهم صافية وخالية من الهم الذى يحلّق فى سماء العائلة الثرية التى تعد واحدة من أعرق العائلات بمصر وأشهرها على الاطلاق , فيما تشعر هى بتعاسة غير محدودة لأنها لا تملك قرار العمل مثل ( سماح ) وهى مدركة تماما أن الخادمة مضطرة لهذا حتى تساعد اخوتها الصغار على المعيشة فهى تعد العائل الأساسى لهم بعد وفاة أبيها والذى كان يعمل ساعيا فى واحدة من شركات العائلة قبل أن يصاب بمرض عضال ويتوفاه الله تاركا ثلاثة أبناء غير سماح الابنة الكبرى,وشهقت الفتاة برعب:
-آنسة ريم ؟ هل من خدمة أؤديها لك ؟ نحن آسفون ان أزعجناك بأصواتنا المرتفعة.
وهرعت نحوها بخوف من أن تكون قد ألمّت بما حدث منذ دقائق قليلة , فهدّأت ريم من روعها وقالت مستبشرة:
-لا يوجد ما يسئ فى المزاح فهذا ينشر جوا من البهجة بداخل المطبخ وأنت تعملون طوال النهار , لماذا لا تعطيهما فترة من الراحة يا عم ( مصيلحى ) ؟
استطاع الرجل العجوز أن يستدير بخفة على الرغم من بدانته الواضحة ليجيب على استفسار سيدته قبل أن يعلن بصوت جهورى تميز به:
-أنهما بطيئان جدا فى العمل , الى جانب الثرثرة التى لا يملان منها فاذا أعطيتهما فترة للراحة فلن ينجزا ما هو مطلوب منهما ولو بعد أسبوع
تأففت سماح داخليا من تسلّط هذا الرجل ولكنها تحبه وتحترمه فهو من داخله شخص لطيف ومحب للعمل ويكره مخالفة أوامره فهو يعتبر نفسه سيد المطبخ , الذى لا يُقهر , فكانت دائما ما تشاكسه بمماطلة طلباته التى لا تنتهى , وشكرت ريم فى سرها على دفاعها عنهما أمام جبروته.
-لن يتأثر سير العمل من ربع ساعة يرتاحان فيها , بل هذا سيجدد نشاطهما ويعينهما على استكمال المطلوب بسرعة أكبر , هيا يا عم ( مصيلحى ) لا تكن متزمتا هكذا.
أمام اصرار ريم لم يجد بدا من أن يلتزم مصيلحى باعطائهما فترة راحة قصيرة جدا على ألا يغيبا طويلا وقد حذرهما من العقاب اذا تأخرا دقيقة واحدة عن الساعة الثانية, فشكرتها ريم على رأفتها بحالهما وأمسكت بسعد من ذراعه تدفعه الى الخارج حيث يتنفسان بعيدا عن جو المطبخ الخانق على الرغم من جودة تهويته الا أن يظل كالسجن بالنسبة لمن يعمل به.
وجدت ريم أن هذه فرصتها لتفاتح سماح فيما تريده منها وأخذتها الى جانب قصىّ من الحديقة المجاورة لباب المطبخ الخارجى , ثم بدأت تلقى عليها تفاصيل خطتها المدبرة بعناية حتى اتسعت عينا الفتاة بتفهم وذكاء وهى تنصت بامعان لسيدتها الصغيرة ولم تجرؤ على مجادلتها ولو بكلمة واحدة , فهى صاحبة فضل عليها وان طلبت منها القفز الى البحر وهى بكامل ملابسها فلسوف تنفذ بدون مناقشة.