لمحت فريال طيفا بجانبها وهى تهبط درجات السلم الرخامى , فالتفتت بسرعة لتجد ابن أخيها رفيق يحاول لفت انتباهها بدون اثارة ضجة حيث همس لها
-أريد أن أتحدث معك لحظة يا عمتى
ثم اشار لها اشارة خفية لتلحق به ووجدت نفسها تتبعه متوجهة نحو غرفة المكتب حيث كانت هذه هى غرفة والدها المميزة التى يقضى فيها أغلب أوقاته بعيدا عن الازعاج والضوضاء دون أن تعى أن هناك زوجان من العيون كانتا تراقبهما بحذر وثبات من مكان خفى.
دلفت الى الغرفة التى لم تطأها منذ خمسة وعشرين عاما ولكنها الآن خالية من صاحبها الذى أثار رعبها فى آخر لقاء لها معه , وأغلقت الباب بحرص ورائها فلا بد وأن رفيق لديه سرا ما يريد أن يطلعها عليه , وقد كان ابن أخيها هذا مقربا منها أكثر من غيره فهو الوحيد الذى كان يودها طوال السنوات الماضية التى قضتها فى لندن الباردة بعيدا عن دفء الأسرة ولكنها كانت تشعر بأنها أرحم من البقاء فى ظل الأجواء المشحونة بعد خلافها الكبير مع أبيها , وكانا كثيرا ما يتقابلان فى انجلترا عندما يأتى لزيارتها.
استند رفيق على طرف المكتب الخشبى ذى اللون البنى الفاتح وهو عاقدا ذراعيه فوق صدره منتظرا أن تأخذ وقتها لتستريح على مقعد جلدى أمامه قبل أن يبادرها بسؤاله الذى اثار توترها
-ما الذى يدور بينك وبين مجدى فى الخفاء؟
على الرغم من أن الفارق فى العمر بينهما لم يتجاوز الاثنى عشر عاما الا أنه كان معتادا على احترامها وعدم تجاوز حدوده فى التعامل معها
-ما هذا السؤال الغريب يا رفيق ؟ وكيف تخاطبنى بهذه اللهجة؟
-لا أعرف , ربما تملكين أنت الاجابات على كل هذه الأسئلة.
أشاحت بوجهها بعيدا عنه وهى محتارة كيف عرف بمقابلتها لمجدى.
-بداية , أصر مجدى على احضار لبنى الى هنا بناءا على وصية جدى كما قال وتولى هو هذا الأمر بدون أن يطلع أحدا عليه , ثم أكتشف أنه على اتصال بها من وراء ظهورنا , ويأتى الآن دورك لتتلاعبى معه أيضا فى الخفاء , ما هو تفسيرك لما يحدث ؟
-أنا لا أعرف عما تتحدث فلم أقابل .. لبنى من قبل الا عندما حضرت الى هنا يوم اعلان الوصية , ولم أتبادل معها حتى حديثا شخصيا , فما الذى تسعى وراء اثباته يا ابن أخى ؟
فك رفيق عقدة ذراعيه واقترب خطوتين من عمته حتى بدا لها عملاقا مخيفا بطوله الفارع ووجهه العابس فشعرت بالتهديد ولكنها أوقفته عند حده
-لا تسمح لنفسك أبدا باستجوابى , واذا أردت مقابلة من أشاء فسوف أفعل وقتما أشاء , لم يعد لأحد هنا من سلطان علىّ.
رفع هو حاجبيه بطريقة مدروسة كأنما فوجئ بردة فعلها ثم قال بصوت كالفحيح:
-هكذا تبدلت الأحوال وصرت تدبرين المؤامرات مثلك كمثل زوجات أخوتك , ولكن ما الذى يهدف له مجدى , هذا ما أتعجب له , هل وعدتيه بالزواج هذه المرة حتى يساعدك؟
-اخرس
هدرت بغضب وهى تهب واقفة على قدميها غير محتملة هذه الاهانة الجارحة
-بأى حق تحدثنى هكذا؟ ما الذى جرى لعقلك؟
لم يأبه لغضبها المتفاقم بل وكأنه كان متوقعا لهذا فأجابها بثبات يحسد عليه
-ان عقلى عاجز عن استيعاب ما يدور بهذا البيت منذ فترة , أفاجئ بان جدى أضاف شرطا عجيبا لوصيته وهى اقامة لبنى معنا هنا اضافة الى استلامها لنصيبها فى الميراث وكأن شيئا لم يكن , وأراك تعودين بعد طول غياب فتتحدين مع مجدى الذى أراه يضع خطة محكمة ويحبك تفاصيلها مستغلا ضعفك تجاه ما حدث بالماضى.
لو لم يهاجمها رفيق بهذا العنف لكانت قد أخبرته بما دار بينها وبين مجدى بعد مقابلتهما , ولكنها الآن آثرت ابقاء هذا السر طىّ الكتمان فلا بد وأن رفيق له مطمعا بالثروة وهى التى كانت تتخيل أنه يختلف عن الآخرين الذين لا هم لهم سوى المال.
-وما الذى يضايقك فى بقاء لبنى معنا؟
كان سؤالها مباشرا بسيطا ومع ذلك كانت الاجابة عليه معقدة جدا وتتطلب وقتا طويلا ليستخلص هو بنفسه ما الذى اثار ضيقه من تواجدها بالمنزل , فهو لا يعرف هل الأفضل أن تكون قريبة منه وبعيدة بنفس الوقت أم من صالحه أن تبقى بعيدة كل البعد عن نطاق حياته على الأقل فى هذه الفترة العصيبة بعد وفاة جده وقبولها السريع بالشرط , هذا لا يعنى على الاطلاق أن لم يكن يتمنى أن يراها ولكنه أراد أن تستقر الأمور قبل أن تطأ بقدميها عش الدبابير , علاوة على أنها اصبحت فى نظره ساعية نحو الثروة وليس الترابط الاسرى هو ما حرك مشاعرها.
-أنا لست متضايقا من وجودها , على العكس أنا سعيد جدا لتقاربها مع ريم وسيف وكريم , كما يهمنى رؤية أنّا شريفة مرتاحة وهادئة البال بعد طول معاناة مع الألم والفراق , بالمناسبة ألا ترين أنك تعاملينها بحدة وقسوة لا مبرر لهما؟
تأففت فريال من حشرية ابن أخيها فى كل أمورها
-أليس لديك شيئا أفضل لتقوم به بدلا من مراقبة تصرفاتى وأفعالى ؟
-حسنا يا عمتى , افعلى ما شئتى ولكن لا تصرخى مستنجدة بى بعدما يقع المحظور.
لم تعرف عن أى محظور يتحدث , ولكنها خمنت بأنه يقصد علاقتها مع مجدى, وطمأنته:
-لا تشغل بالك بأمرى , كما أنه لا يوجد ما يجعلنى أخاف من مجدى , فهو يعزنى جدا
لم يكن رفيق عالما بما حدث فى الماضى بالتفصيل ولهذا لم يجد ما يطيل به الحديث أكثر من هذا , فهز كتفيه مستسلما
-أريدك أن تدع لبنى وشأنها يا رفيق , لا تحاول مضايقتها
-وبأى صفة تحذريننى الآن؟
-بصفتى عمتها كما أننى عمتك , فلا تنس هذا
-لا يوجد من يخاف عليها أكثر منى , وأنت بالذات لا أعتقد أن اهتمامك بها نابعا من القلب , فالكل يعرف بأنك قد هجرتى العائلة الى غير رجعة , وعدت فقط لأجل ... المال
رد اليها اتهامها السابق له بالسعى وراء المال
-أنت لا تعرف شيئا , فلا تبدأ فى اطلاق أحكامك على الناس.
-سنرى يا عمتى , الأيام ستثبث صدق هذا الكلام.
وابتعد عنها تاركا اياها مذهولة مما سمعته على لسان ابن أخيها المفضل , لا تصدق أنه يقصدها بهذا الاتهام المشين , ولكنها أعطته العذر فهو يجهل الخلاف العظيم الذى نشأ بينها وبين أبيها بسبب ناجى , وليته موجودا الآن ليساندها ولكنه رحل الى غير رجعة.
لا يفيد الندم الآن ! ولا محاولة استرجاع الماضى الا باثارة الجراح القديمة من جديد وذرف المزيد من الدموع الحبيسة التى لا تغير الواقع , ولكنها ستتمسك بالأمل الذى أعطاه لها مجدى فربما يكون محقا
**********