الخاتمة
جرت الاستعدادت على قدم وساق من أجل الاعداد لحفل مميز يليق باسم عائلة الشرقاوى بما لها من نفوذ واسع يتغلغل فى أعماق الطبقة العليا فى المجتمع المخملى ,وقد أصرت أميرة على الاقتصار على دعوة الأقارب والأصدقاء المقربين بدرجة كبيرة فقط كما امتثل رفيق لرغبتها بعدم السماح للصحافة بافساد بهجة هذا اليوم الهام فى حياتهما فخلت الفيلا الا من بعض المصورين الخاصين لتسجيل هذه اللحظات السعيدة بصورة احترافية عالية ... بينما تولت ريم مهمة تنسيق وتنظيم الحدث بمهارة أشاد بها الجميع ما جعل ابتسامتها تشرق من جديد فتناست هموم قلبها المثقل للحظات وتنسمت متعة الشعور بالأهمية لدى أفراد عائلتها وخاصة سيف الذى كان ملاصقا لكل خطوة من خطواتها يتبعها كظلها الذى لا يفارقها دون أن تشعر بأى تقييد لها ,كان مراعيا لشعورها الى أقصى درجة بل وتحوّل الى رجل فائق التهذيب بتخيّر كل حرف يتفوّه به حتى ظنت أنه لا بد وأن يكون مريضا حتى لا ينفلت لسانه الزلق بحديثه المشاكس الذى يثير دوما أعصابها ,وحينما كانت تبتعد عنه لتلقى بتعليماتها الى أحد أعضاء الفريق الذى يتولّى اعداد برنامج الحفل وترنو بنظرها اليه خلسة تجده مراقبا لها باهتمام بالغ قبل أن ينضم لها مجددا وكأنه يعلن للجميع أن هذه الفتاة تخصه حتى دون أن تعطيه الرد المناسب لعرضه السابق ,لم ترفض التصاقه بها على العكس ... تمتعت بكل ثانية من هذا التسلط الذكورى الذى كانت تضيق به ذرعا بالماضى وغفلت عن الهمسات الدائرة بين زوجة عمها منى وأمها والتى كانت تتمحور حول الثنائى الجديد بالعائلة أى ريم وسيف وكم أنهما متناغمان سويا بملاءمة رائعة.
فى حين قامت فريال بالوقوف الى جوار أخيها محمد لتشاركه استقبال المدعوين كما تقتضى الأعراف بتواجد والدى العروسين لتلقى التهانئ من الوافدين ...
ولم تتردد سماح التى كانت تدور كالفراشة هنا وهناك فى أن تتوقف لبرهة حتى تطلق زغرودة مجلجلة تعلن بها عن مولد فرحة بهذا المنزل بعد طول غياب ثم تنسل الى المطبخ حيث يتواجد خطيبها سعد والذى يبذل أقصى جهده لمد يد العون لهم فى هذا الاحتفال الضخم عن رغبة حسنة فى مشاركتهم السعادة وليس من أجل عمله الذى ينال منه مرتبه فكانت سماح تبدأ عملا وهو يكمله أو العكس بينما يراقبهما العم ( مصيلحى ) بشغف وهو يتصنّع الضيق فيوبّخ أحدهما بصوت مرتفع حتى ينتبه الآخر اذا شرد ذهنه , وبالطبع كان هناك بعض العمال المأجورين الذين انضموا الى الثلاثى الأساسى فى العمل وهم يتلقون الأوامر من الطبّاخ العجوز بتأفف من أسلوبه المزعج فى الصراخ ... وكان أحدهم شابا فى مقتبل العمر على قدر من السذاجة يبدو وكأنها المرة الأولى له فى هذا العمل فانبهر بجمال سماح الأخّاذ وحيويتها الفائقة حتى أنه كاد يفلت كأسا تناوله من يد زميل آخر أكثر حنكة فأسرع الأخير بالسيطرة على الموقف فى اللحظة الأخيرة ,فوقوع مثل هذا الكأس وتحطمه كان سيتسبب فى كارثة لهما ثم لكزه بمرفقه فى خصره حتى ينتبه لما يمسك به وتتبّع بعينيه نظراته الى الفتاة الوحيدة فى هذا المكان وحينما التقت عيناها بمن يحدّق بها بهذا الافتتان الواضح تخضبت وجنتاها احمرارا وابتعدت لتختبئ بسعد دون أن تدرى أنه على دراية بما يحدث , فما كان تصرفه الا أن وضع ذراعا متملكة على كتفها ليدفعها بعيدا عن مجال رؤية الشابين اليافعين وهو يكاد يتميز غيظا ويتساءل بقرارة نفسه : متى ينتهى هذا اليوم الطويل قبل أن يرتكب حماقة قد يندم عليها أو يتسبب لفتاته بمشكلة هى فى غنى عنها ,,, تنفس أخيرا الصعداء حين غابت هى عن نظر الجميع فى طريقها الى الخارج.
وفى تمام الساعة الثامنة مساءا فى الموعد المحدد بالدقيقة حضر المأذون الشرعى والذى تم تكليفه باتمام عقد القران الجديد ,,, كان تقليديا للغاية بقفطانه الواسع وعمامته الملفوفة بحزم حول رأسه وهو يحمل كتابه تحت ابطه ,,, استقبله كريم بالمدخل وقاده نحو البهو الداخلى ... حينما رأته ريم لأول مرة شهقت منبهرة وهى تهتف برفيقها:
-انظر يا سيف , أنه المأذون قد حضر ,وها هو يرتدى تماما كما كنا نشاهده بالأفلام القديمة ,,, يا له من مشهد !
نظر نحوها مصعوقا من جاذبيتها التى تمددت بفعل سحر ابتسامتها الطفولية وقال لنفسه : ألا توقع نفسك بورطة كبرى اذ تقدمت بطلب الزواج منها ؟
نفض عن ذهنه مثل هذه الأفكار المحطمة للآمال وهو يجيبها بلين:
-ما رأيك لو تعلنى موافقتك فى هذه اللحظة حتى نلحق بالمأذون الذى نال اعجابك فيعقد قراننا أيضا.
رفعت ريم حاجبيها باستغراب وهى تقول بتوتر:
-أتعنى الآن ؟
أومأ لها برأسه متلاعبا بحاجبه وهو يقول مغازلا:
-نعم الآن , وهل هناك مانع فخير البر عاجله ,وها أنا أعمل بنصيحتك لى فى تقليد رفيق.
أشاحت بوجهها بعيدا قبل أن يلمح العبرات اللامعة فى عينيها وقالت تتصنع المرح:
-كلا ... عليك أن تنتظر.
-ألا تترفقين بى يا ابنة العم وترحمين قلبى المسكين من عناء الانتظار ؟
التفت أصابعه تحكم قبضته حول ذقنها ليدير وجهها نحوه باصرار فاستسلمت مرغمة قبل أن تتمتم:
-ربما لا تضطر الى الانتظار طويلا , من يدرى !
تراقصت ابتسامة ماكرة على شفتيه قبل أن يقول هامسا:
-أتعنين كلامك هذا حقا يا ريم , أم أنكِ تتلاعبين بمشاعرى ؟
حركت يدها لتصارع رغبة داخلية فى أن تبقى على هذا الوضع وأخرى تحثها على الابتعاد قبل أن تتأذى ,فالتقط كفها الحائر فى الهواء وقرّبه من فمه ليطبع قبلة حانية بطيئة متحاشيا النظر الى أعماق عينيها حتى لا تنكشف حقيقة احساسه بهذا الوقت ,لم يكن متأكدا من ماهية مشاعره تجاه تلك الرقيقة الهشة التى كان يحلو له سابقا أن يثيرها فتجابهه بقوة وثبات لا مثيل لهما حتى تثبت تفوقها عليه.
تسمّرت عيناه على نقطة ما خلف ظهرها وقطّب جبينه بشدة الا أنه لم يفلت يدها من بين براثن يده المحتضنة بل شدد من قبضته القوية حتى كادت تشعر بعظام أصابعها اللينة تتحطم فاعترضت بهمهمة ضعيفة وهى تستدير بنصف التفاتة لترى فيما يحدّق متجاهلا محاولتها المستميتة للافلات منه فاصطدمت بزوج من العيون الزرقاء يغزوان كيانها المشتعل ليتعرّى ما بداخلها من أحاسيس متضاربة متناقضة فقد بانت الحيرة على وجهها المصدوم ,,, ما الذى يفعله هنا بهذه اللحظة العائلية جدا ثم وقع بصرها على ذراعه المستكينة بحماية على كتف الفتاة الشقراء التى لن تنسّ ملامحها أبدا فهى دوما تشكّل لها مصدر عذاب وهى تتخيّل الحميمية التى يتشاركان بها فالتمست بدورها باحثة عن الأمان لتجد ابن عمها يشدها الى جواره محيطا خصرها بذراعه الأخرى ليتقدم بضعة خطوات من عمهما محمد الذى كان يشير لهما حتى يقتربا وقد كان مشغولا بتحية رجل يبدو عليه سيماء الكبرياء والقوة وقد غزا الشيب محيط رأسه ,بدت ملامحه مألوفة لريم وكأنها قد سبق أن رأته بمكان ما ولكن لم تسعفها ذاكرة السمكة التى تتمتع بها وما أن وصلا الى غايتهما حتى ابتدرهما محمد بالقول بحفاوة وترحيب بالغين:
-هيا اقتربا لتلقيا التحية على جدكما ... عبد الله أنه عمى ...
ارتسمت ابتسامة مرتجفة على شفتى ريم وهى تحاول السيطرة على انتفاضة جسدها حينما مدت يدها لتسلم عليه فاستقبلها بمفاجأة حيث ضمها اليه ببساطة وهو يقول بصوت رخيم:
-لا بد وأنك ريم ,,, ابنة محمد أليس كذلك ؟
عقدت المفاجأة لسانها فأومأت برأسها ببطء وهى تجذب نفسها من بين أحضان الرجل العجوز الفاتن فقد تهيأت لها الفرصة لتتأمل تقاطيعه المليحة التى كشفت عن وسامة مدمرة قديمة وعينيه ,,, شعرت بأنها تعرفهما حق المعرفة ,,, ولكن هيهات أن تدرك قبل أن يحذو حذوها سيف مرحبا بالجد الغائب بدبلوماسية وصوت محمد يرن فى أذنيه :
-هذا هو سيف ابن عادل.
قبل أن يشير عبد الله الى الثنائى المجاور له وهو يقول بفخر:
-اسمحوا لى أن أعرفكما على حفيدىّ ... جاسر وليلى , ليلى هذا هو عمك محمد وهذه عمتك فريال أم العروس.
ضاقت عينا ريم فيما مد جاسر يده فى اشارة ودية للتحية الا أن عيناه أخبرتها بالنقيض تماما وهو يضغط بتعمّد على مفاصل أصابعها التى انسحقت تحت وطأة أصابعه المؤلمة قبل أن يغمغم بصوت خفيض:
-مرحبا ريم سعدت بلقائك وكم وددت لو كنا قد التقينا فى وقت أقرب من ذلك.
صرفت على أسنانها بغيظ وهى تشعر بالاهانة من طريقته الغاضبة فى تحيتها وتساءلت : كيف يجرؤ هذا السافل على مجاملتها بهذه الطريقة الباردة وكأنه يراها للمرة الأولى متغاضيا عن التفاف تلك الحية الرقطاء بنعومة حوله والتى سعت نحو سيف بابتسامة أنيقة لتقول بمغزى:
-تشرفنا يا سيف ... منزلكم رائع حقا ,ولكننى لم أتوقعه بهذه المساحة.
اعتصر سيف يدها الممدودة دون أن يأبه لشهقتها المكتومة ليجيبها باحتقار:
-أنه يبدو من الداخل أفضل بكثير من الخارج ,فالمظاهر الخارجية دائما ما تخدع أليس كذلك ؟
وافقته ريم بايماءة من رأسها وهى تعود لتلتصق بابن عمها تتلمس حمايته فعاد الى وضع ذراعا متملكة على كتفها بينما قالت باستخفاف:
-أنت على حق دوما يا سيف.
بينما أشار سيف متسائلا ببرود:
-معذرة ,,, ولكننى لم أفهم بعد صلة القرابة بينكما هل أنتما أبناء عمومة ؟
أجابه جاسر بخيلاء وهو يضع يده فى جيب بنطاله:
-كلا ... ليلى هى ابنة خالتى ,فجدى عبد الله هو جدى لأمى.
قالت ريم بنزق:
-آآآه لهذا أعتقد أنكما تخفيان صلة القربى هذه بمنتهى البساطة.
انعقد حاجبا جاسر بانزعاج قبل أن يهتف متسائلا:
-أرجو معذرتك ... لم أفهم ماذا تعنين ؟
كان يمثل دورا رخيصا بنظرها فهو لدية كامل الجرأة ليأتى الى زفاف أخيها منكرا معرفته بها وعلى مرأى من تلك الأفعى التى اتضح أنها ابنة خالته فواتتها الشجاعة لتستكمل انتقامها البارد قائلة بابتسامة قاتلة:
-أعنى أنكما لستما مثلى أنا وسيف مثلا , فنحن لا نخفى قرابتنا .. أقصد بسبب الاسم فنحن نمتلك ذات الكنية ... عبد العظيم الشرقاوى.
استدرجه تفاخرها بنسبهما الى أن يسألها متألما:
-اذن فهذا هو ما يجمعكما سويا ؟
التقطت مغزى سؤاله فأكملت فى طريقها المقرر حتى النهاية لتقول بتحفز:
-كلا , ليس هذا فقط ما يربطنا ببعضنا اضافة الى أنه ابن عمى وصديق طفولتى فأنا وسيف سوف نتزوج قريبا .
ثم التفتت باغراء الى ابن عمها الذى كان مسمّرا يتابع تفاصيل لعبتها قبل أن تلمح شبح ابتسامة متسلية تتراقص على زاوية فمه المزموم ليؤكد على صدق حديثها بجدية:
-نعم , ألست محظوظا لأنال موافقتها على الزواج منى ؟
ارتخت ذراع جاسر الحانق ليتخلّى عن ابنة خالته وهو ما زال محدّقا فيهما بنظرات ناريّة اخترقت قلبها المتوجع ليقول متمتما ببطء:
-اذن فالفرح انقسم لاثنين ... تهانىّ القلبية لكما ,هل ننتظر اعلان خطبتكما قريبا ؟
واتجهت أنظاره نحو أصابعهما الخالية من أية خواتم فأجابه سيف متسرعا:
-لا تسمح للمظاهر أن تخدعك كما قلنا فيما سبق ,فنحن لا نقيم وزنا لهذه الشكليات التافهة ,,, وخير البر عاجله كما يقال ... ربما ندعوك لعقد قراننا بأقرب ممما تتخيّل.
قالت ليلى بشماتة واضحة وقد شعرت بأن ريم قد خطفت منها دائرة الأضواء باعترافها المذهل:
-وأنا أيضا ألا تباركان لى فأنا على وشك أن أخطب.
ابتسم سيف دون رغبة حقيقية بزواية فمه وهو يقول محاولا اخفاء فضوله:
-هل أنتما الاثنان أيضا مخطوبان مثلنا ؟
كادت ليلى أن تتفوّه بكلمة الا أن جاسر أسكتها بلفتة بسيطة حين أسر فى أذنها ببضعة كلمات بدت وكأنها همسات عاشقين قبل أن يلتفت اليهما جاسر من جديد قائلا بثقة زائدة:
-تستطيع أن تقول هذا ,,,
لم تستطع ريم أن تمنع غصة رهيبة بحلقها حينما رأت زوجي العيون يتفاهمان بطريقتهما الخاصة بصورة فريدة ,, واعترفت لنفسها كارهة أنهما يشكلان ثنائيا مثاليا ,,, ليلى وجاسر ,,, يا للعجب فهما يعدان أبناء عمومة لهما وان كانت صلة القرابة بعيدة الى حد ما ,,, كيف ستتحمل رؤيتهما ثانية على هذا الحال وقد فهمت من حديث أبيها من قبل أن عائلة الجد الغائب سوف تشاركهم بميراثهم ,,, بمنزلهم ,,, بعملهم ,,, بحياتهم ,ماذا فعلتِ بحياتك يا ريم لتستحقى مثل هذا العقاب الشنيع ؟
جاسر ,,, حبيب القلب وتوأم الروح ,,, اعترفت لنفسها بجرأة غير مسبوقة وها هو هنا فى بيتها مدعوا حفلهم الخاص قريبا وبذات الوقت أبعد ما يكون عن منالها ,يتشدّق بخطبته لابنة خالته ... ذلك المنافق الحقير ,, أخفى صلة قرابته لها ببراعة يحسد عليها ثم سعى ليتعرف اليها ويوقعها بحبائله , ما الذى كان سيجنيه من هذا التصرف ؟ أكانت مجرد وسيلة لتحقيق هدف الانتقام من عائلتها ؟ وهى بغبائها وسذاجتها أعطته الفرصة على طبق من فضة بل من ذهب ,, ولكنها فكّرت على الأقل أنا من قطع العلاقة المريبة التى لم تكن معروفة التفاصيل ولا الملامح ,ولماذا يبدو غاضبا منها هكذا وكأنه المجنى عليه وليس الجانى , لا ... لن تستسلم لهذا الشعور الجارف بالاحساس بالذنب نحوه , بل كيف تشعر بأدنى قدر من التعاطف معه ؟ أنه شخص نذل وكاذب ادّعى البراءة وتودد اليها لغرض دنئ ,,, لن تعود لسابق عهدها ,,, لن تكون ريم الخانعة التى تصدّق كل من هب ودب بحسن نية ,,, الحياة صعبة.
كانت فريال الوحيدة التى تعرفت الى عمهم سابقا ولكنها أخفت هذه المعرفة ببراعة حتى لا تثير التكهنات حولها فحيّته بمودة وبساطة الا أنه همس فى أذنها قائلا:
-لدىّ حديث خاص معك.
أجابته فريال بارتباك:
-حسنا يا عمى ,ولكن ألا يمكن أن نرجئه لما بعد , فاليوم هو زفاف ابنتى كما تعلم ولست مستعدة للنبش فى الماضى الآن.
أرسل لها نظرة أبوية دافئة تشع حنانا وحبا قبل أن يغمغم باستسلام:
-كما تفضلين يا غاليتى ... مبارك لها ومبارك لكِ عودتها.
-شكرا يا عمى ...
وبترت عبارتها بغتة حينما تناهى الى مسامعها صوت دافئ اشتاقت لصاحبه طويلا يقول:
-مبارك لكم يا محمد ,,,
فاحتضنه محمد بقوة وهو يربت على ظهره قائلا:
-كنت سأغضب منك ان لم تأتِ.
-وهل يعقل أن أرفض دعوتك ؟ لم أكن لأسامح نفسى ان فاتتنى هذه المناسبة.
ارتعشت أهدابها مرفرفة وهى تمتّع نظرها بالنظر الى كل خلية من ملامحه التى افتقدتها الى أن توجه اليها بخطوات ثابتة مديدة ومد يده يتهذيب يقول برسمية:
-مبارك لكم يا فريال هانم.
احتاجت الى كل ذرة تعقّل حتى لا تلقى نفسها بين ذراعيه وهى تقول لائمة:
-الله يبارك فيك يا مجدى ,أكان لا بد أن يدعوك محمد بنفسه لتحضر ؟
-وماذا أفعل يا سيدتى اذا لم أكن فردا من العائلة ,فلهذا أنتظر دوما دعوة أحدهم.
كان يؤنبها ببساطة لعدم تلقيه الدعوة مباشرة منها الا أنها أشاحت بوجهها مطرقة الى الأرض قبل أن تقول بهمس:
-لم أستطع أن أهاتفك ,,, أنت تعرف انشغالـ ...
قاطعها محتدا:
-نعم بالتأكيد كنت مشغولة للغاية , لكِ عذرك سيدتى .
وقبل أن يهم بمغادرتها أمسكت بمرفقه تستوقفه وهى تقول محرجة:
-لم تفهم ما عنيته حقا , قصدت انشغالك أنت ... أعنى لقد سبق وهاتفتك ...
استدار بكليته ليواجهها باستطلاع قبل أن يتساءل باهتمام ملحوظ:
-هل تحدثتِ الىّ وكان الهاتف مشغولا ؟
نفت برأسها وهى تقول:
-كلا ,,, لم أتصل بهاتفك الخاص فأنت لم تجب على اتصالاتى السابقة ,لقد اتصلت بمكتبك وقد ردت سكرتيرتك علىّ ,,,
أشار لها بيده فى عدة دوائر اشارة لتكمل حديثها بينما قالت تتذكر كيف شعرت بالضيق والاهانة وقتها :
-قالت أنك مشغول للغاية ولن تستطيع مكالمتى فأخبرتها بابلاغك بالدعوة ,,,وكنت أنتظر ردك ,,, انتظرت طويلا الا أنك على ما يبدو لم تجد وقتا أو ربما لم ترغب فى ...
قاطعها بأن سحبها من ذراعها بعيدا عن بقية الحضور وهو يتخيّر ركنا قصيّا حتى يتفرد بالحوار معها بعيدا عن الأعين والآذان الفضولية أما هى فكانت ترتجف كورقة فى مهب الريح أمام نظراته الغاضبة قبل أن يقول بحرقة وهو يحرك أصابعه بقوة فى خصلات شعره:
-ربما أكون قد عاملتك بفظاظة وخشونة فى أخر مرة رأيتك فيها ولكننى أبدا لم أتلق أية افادة باتصالك هذا....
ظلت تحدّق به ذاهلة غير مصدقة أنه واقفا أمامها بشحمه ولحمه بعد طول غياب فأضاف بأسى وحسرة:
-لا أفهم كيف تتصرف هكذا ؟ لقد انتظرتك طويلا جدا حتى أستمع الى صوتك .. انتظرت أن تخبريننى بمدى أهميتى فى حياتك وأنك لا تقوين على الاستغناء عنى ,,,,
تنهّد بحرقة وهو يستطرد :
-كنت أنتظر اتصالا واحدا منك ,,, وبعدها لم أكن لأتردد اذا طلبت منى الذهاب حتى الى الجحيم ...
ضحك ساخرا من نفسه قبل أن يعطيها ظهره حتى لا ترى ضعفه الواضح فى عينيه قبل أن يقول بمرارة:
-نعم فقد كنت أحيا بالجحيم منذ فارقتنى ..
ثم التفت نحوها بغتة ليقبض على ذراعيها ويهزها بمنتهى القسوة مدنيا وجهه بأنفاسه اللاهثة من وجهها ليسألها:
-أتصدقيننى ؟ أتفهميننى ؟
تحمّلت عنفه القوى بمنتهى الصبر والجلد فهو بحاجة الى أن تفهم كنه مشاعره بهذه الفترة العصيبة من حياتهما وأخذت تقول بينما الدموع تترقرق فى مقلتيها مرددة:
-نعم أصدقك ,وأفهمك يا مجدى.
أخذ يعيد على مسمعها سؤاله مرارا وتكرارا وهى تعطيه ذات الاجابة قبل أن ترتمى بحضنه وهى تهمس بعشق:
-اشتقت لك يا مجدى ,,, افتقدتك لأقصى درجة ... نعم آذيتك كثيرا لأننى لم أفهم مشاعرى بشكل صحيح , لم أكن قادرة على اتخاذ أى قرار منطقى بحياتى ,,, أنت تدرك أنها كانت حياة متخبطة متشابكة ,لم أحيا أبدا الا بقربك منى , أنت وحدك من جعلنى أقدّر قيمة الحياة والحب والتسامح والغفران ... أتصدق أنه بسبب ابتعادك عنى ونكرانك لاعترافى بالحب جعلتنى أعيد النظر فى حياتى وفى ,,, علاقتى بأبى وأمى وأخوتى ... أنا .. أنا غفرت لأبى ما جناه علىّ ,,, بل لن تصدّق هذا ... ناجى ...
شعرت بعضلاته تتصلّب بعد أن ذكرت اسم زوجها السابق ,,ولكنها قدرت أنه لا بد أن يطردا أشباح الماضى مرة واحدة والى الأبد ,وحاول هو جاهدا أن يبعدها عنه الا أنها تمسكّت بذراعيه بطاقة وحيوية لم تعرف مصدرهما وقالت باصرار مؤكد:
-لا لا تتركنى ,, فقط استمع لى ,,, لقد سامحت ناجى على فعلته , نعم ليس لأننى أحمل له أدنى قدر من المشاعر وليس لأنه والد ابنتى ,,, بل لأننى أحبك أنت , نعم يا مجدى أحببتك منذ تفتحت براعم الحب فى قلبى للمرة الأولى ولولا ما حدث لى وزواجى من ناجى لما أدركت قوة حبى لك ,ولكنت ليومنا هذا غافلة عن السعادة التى تنتظرنى معك.
قبّل مفرق رأسها بحنو بالغ وهو يسألها غير واثقا مما يحدث له على الرغم من احساساه بمدى صدق اعترافها :
-هل أنت متأكدة مما تقولين يا فريال ؟
ثم أمسك برأسها يزيحه قليلا حتى يمعن النظر الى عينيها الجميلتين بلهفة واشتياق لا حدود لهما قبل أن يضيف بصوت مهتز:
-لأنك اذا كنت واثقة يا سيدة فريال من كلامك هذا ... فيسعدنى ويشرفنى أن تقبلى الزواج منى يا حبيبة العمر ؟
وضعت يديها على شفتيها تكتم شهقة سعادة وعدم تصديق ثم اغرورقت عيناها بالدموع .. دموع الفرحة التى غمرتها بمجرد أن عاد مجدى الى محيط حياتها ,, فاكتملت السعادة فى جوانح قلبها الذى كان يقتات على الحزن والتعاسة الى أن قام مجدى بمداواة جراحها فعاد قلبها ينبض بقوة بالحياة ... فتطلّع لها مجدى برجاء يستحثها على الاجابة التى
طال انتظاره لها سنوات وسنوات حتى أراحت قلبه المتأمل ونطقت بكلمتها الأخيرة:
-نعم طبعا أوافق يا حبيبى.
-لن ننتظر دقيقة واحدة ,سوف نعقد قراننا الآن.
-اذا كنت مصرّا.
-هذا من دواعى سرورى.