كان جاسر حانقا بشدة لسبب مجهول لديها فقد صارت تصرفاته فى منتهى الغرابة بالنسبة لها وهى التى تعرفه حق المعرفة منذ نعومة أظفارهما بحكم صلة القربى بينهما ونظرا لأنهما نشآ سويا ببيت العائلة وحيث كان لجدهما أكبر الأثر فى تربيتهما على الرغم من وجود آبائهم على قيد الحياة , هذا الرجل الذى زرع فيهما الكبرياء وغرس نبتة وليدة ترعرعت واشتد عودها بمرور الأيام وها قد حان الوقت لجنى ثمار مجهوده بعد طول انتظار ... ولكنها تساءلت لمَ يبدو عليه هذا الوجوم الرهيب ,باتت تتجنّب الاصطدام به خشية أن ينفجر غضبا بوجهها ,صار على حافة الهاوية بانفعاله المنذر بالشر ,لجأت الى زوجها المستقبلى كما تفعل دوما فى الآونة الأخيرة ,ما أشد الاختلاف بينهما فهو صبور حليم لا يؤنبها بكلمة واحدة مهما كان رافضا لأفعالها ,وابتسمت لنفسها بسعادة قبل أن تدلف الى غرفة مكتبه الجديد وهى تتمايل باغراء واضح تجيده ببراعة ... وتعالت ثقتها أكثر حينما ارتسمت على وجهه دلائل الارتباك الواضح وهو يشاهدها بثوبها الأنيق الذى يحتضن جسدها الممشوق ترنو اليه بنظرة تجعل الطنين مرتفعا بأذنيه فتلعثم وهو ينهى مكالمته الهاتفية بسرعة قياسية حتى يتفرغ بكليته للقادمة ثم قال بترحاب بالغ:
-أهلا وسهلا , أشرقت الأنوار متأخرة هذا الصباح , ترى ما الذى عطّلها حتى هذا الوقت ؟
ازدادت ابتسامتها اتساعا باشراقة جميلة وهى تقول بدلال بينما تقترب من مقعده:
-كنت أنتظرك حتى تفرغ من عملك , فلا أريد أن أتسبب فى اثارة مشكلات بينك وبين السيد جاسر , يكفينى ما نلته منه حتى الآن.
كانت تشكو اليه بمهارة دون أن تشعره بهذا ,ويبدو أنها نجحت فى مسعاها فقد ضاقت عينا خالد تلقائيا وهو يتأملها بروية قبل أن يسألها باهتمام بالغ:
-ماذا فعل جاسر ؟ هل ضايقك بكلمة ؟
ترنحت قبل أن تجلس مقابلا له وتمسكّت بذراع المقعد وهى تعدّل من خصلات شعرها المنسابة لتزيحه عن عينيها قبل أن ترفع بصرها نحوه فى لمحة حب وهى تتصنّع البؤس قائلة:
-بل قل كلمات , يبدو أنه نافد الصبر هذه الأيام ولا يطيق أن تمر الى جواره ذبابة ,فما بالك بى وأنا التى أصطدم به يوميا عشرات المرات ,يبدو أنه علىّ أن أشكوه الى جدى ,فهو الوحيد الذى يملك زمام السيطرة على غضبه المنفلت , أم أنك سوف تقوم بهذا الدور نيابة عنه ؟
أسقط فى يده فهى تستحثه على الاقدام على خطوة جريئة غير محسوبة العواقب .. هل يملك أن يجابه صديق عمره من أجلها ,والأهم أنه يعد الآن رئيسه بالعمل , تزايدت دقات قلبه مع كل لفتة مقصودة منها .. أنها تتدلّل عليه واعية لما تثيره من مشاعر جمّة فى نفسه وهى الآن أقرب اليه من ذى قبل ,لا ينقصهما سوى الاعلان الرسمى وتبادل خاتمى الخطبة ليصبح الأمر واقعيّا تماما ,يعرف أن ارجاء هذا الأمر جاء تلبية لرغبة الجد لغرض فى نفسه ,وهو كبير العائلة الذى لا يجرؤ أحد على تخطّيه أو محاولة معاندته ,فاستسلم مضطرا على الرغم من شوقه الحارق الى الاستحواذ على كامل اهتمامها وأن تصبح زوجته فى أسرع وقت , كفاه ما ضاع منه منذ سنوات وهو بالانتظار ,,, لن يكرر خطأه فى المرة السابقة حينما ترك لمحبوبته الحرية فى الانفلات من قيد الارتباط به سامحا لها باتخاذ القرار فى الوقت الذى يناسبها فما كان منها ال أن طعنته بالصميم .
حينما وجدته ليلى ساهما متخلطا فى حيرته أشفقت عليه من ضغطها المتواصل عليه ليتغيّر ويصبح شخصا آخر ,فتنهدت بمرارة وهى تنعى حظها فى الحب والزواج ... خالد ... لا يمكنه أبدا أن يتغيّر فينقصه الطموح الزائد وعدم القدرة على التسلّط أو المراوغة ,ولكنها تعشق بساطته ونزاهته وشفافيته الواضحة.
تنحنح خالد مجليا لحنجرته وهو يقول بتردد بينما أصابعه تقبض على سماعة الهاتف مجددا:
-سوف أحادث جاسر حتى لا يضايقك بعد الآن.
هبّت من مقعدها لتتجه اليه على الفور تختطف من بين يديه السماعة وهو مذهول من تصرفها بينما اندفعا أصابعها تعمل بجد لتعيد الهاتف الى وضعه الثابت قبل أن تقول بمماطلة مقصودة:
-لم أقصد أن تفعل هذا , سيعتقد أننى جئت أشكوه اليك , وعليك أن تحزر بأن الأمر لن يروق له أبدا.
نظر لها بحيرة واضحة وهو يتساءل بخيبة أمل:
-وكيف ترين اذن التصرف الملائم ؟
ابتسمت له باغراء قاتل وهى تتمايل نحوه لتلفحه رائحة عطرها النفّاذ المثير للأعصاب قائلة بغنج:
-ننتظر حتى تحين الفرصة ,فلنصبر قليلا ... أنت تعرف أن الأمر يعد مسألة وقت , سينشغل حينها عنّا بعمله الجديد ونتفرّغ نحن لهذا المكتب.
تراجع مرغما الى الوراء حتى لا يستسلم لضعفه وهو يزدرد ريقه بصعوبة قبل أن يغمغم مستفسرا:
-نحن ؟
أرخت جسدها على ذراع مقعده متحاشية أن تلمسه وهى تقول مضيفة:
-نعم أنا وأنت.
وأشارت بسبابتها الى صدرها ثم اليه وهى تغمز بعينيها بشقاوة مرحة ,فانتقلت اليه عدوى الابتسام على الرغم من توتره البادى على ملامح وجهه فتنشق الهواء بعمق وهو يقول بارتياح:
-أنتِ محقة على الدوام , يعجبنى تفكيرك السليم.
زوت ما بين حاجبيها بضيق وهى تقول مغضبة:
-تفكيرى فقط ؟
سارع الى تصحيح خطئه فقال متلهفا:
-كل شئ فيكِ يعجبنى , كل شئ.
هتفت بسعادة:
-أعرف , وأنا أيضا معجبة جدا.
وقررت فى ذات اللحظة أن تبتعد وهو يتحرك بجسده ليعدّل وضعيته فتلامسا سويا لثانية أو أكثر كانت كفيلة باحداث ارتباك لكليهما فحاولت أن تحرّك ساقها بعيدا الا أن طرف كعب حذائها المرتفع اشتبك بشئ ما مما جعلها تنجذب نحو جسده وهو يجاهد حتى ينهض فوقعت فوقه بينما ذراعاه تحاولان امساكها من خصرها حتى لا تصبح فوق حجره.
دلف جاسر الى الداخل وهو يدير عينيه فى أرجاء المكان قبل أن تجحظا باندهاش وعدم قدرة على التصديق فصاح حانقا:
-ما الذى يدور هنا ؟
نظر له خالد مصدوما بدوره وبدلا من أن يزيح يديه عن جسد ليلى المتشنّج وجدهما تشددان من تطويقها بردة فعل لا ارادية عكسيّة ,بينما ألجمت الصدمة لسان ليلى ففتحت فاها لتنطق بشئ ما قبل أن تغلقه عدة مرات دون جدوى ,فاتخذ جاسر وضعية الهجوم رافعا ذراعيه قبل أن يتعالى صوته بأمر صارم:
-ابتعدى عنه على الفور يا ليلى .
ثم أردف محنقا:
-يبدو أنكما كنتما منشغلان للغاية فلم تسمعا صوت طرقاتى على الباب.
حاولت ليلى أن تخلّص كعب حذائها من اشتباكه وهى تجاهد فسمعت صوت تمزق لقماش قبل أن تقع فردة حذائها على الأرض فقامت لتبتعد عن خالد وهى تعرج نظرا لسيرها بفردة حذاء واحدة بينما اقترب جاسر مهددا وهو يحادث صديقه بغضب جارف قائلا:
-هيا انهض أنت الآخر , وتعالَ لتواجهنى.
نظر خالد الى أسفل حيث بنطاله الذى تمزّق جزءا كبيرا منه وهو يصدر حركة امتعاض واضحة قبل أن ينهض بدوره محرجا وهو يتجنّب النظر الى عينى صديقه قائلا بتلعثم:
-ليس الأمر كما تظن يا صديقى , أقسم لك.
هزّ جاسر رأسه عدة مرات وهو يهتف بسخرية مريرة:
-نعم , نعم ... وأنا أصدقك يا صديقى , هل هذا جزاء أننى أئتمنتك على عملى وعلى ابنة خالتى ؟
-أكررها مرة أخرى لم أفعل شيئا ولا هى , هذا كله فقط سوء تفاهم كبير.
وسبقته لكمة قوية الى فكه أسقطته فوق مقعده مرة أخرى فأخذ يصيح متألما وهو يقول لجاسر برجاء:
-اهدأ يا صديقى ...
ولكن جاسر عاجله بلكمة أخرى فى أنفه جعلت الدم بنزف بغزارة وهو يزيح ذراع ليلى بخشونة بعد أن حاولت منعه هاتفة:
-جاسر , توقف عن ضربه فهو ليس مذنب.
التفت اليها ينظر باحتقار قبل أن يقول بصوت كالرعد:
-خطأ كهذا يستلزم اثنين ,وأنتِ دورك قادم لا تقلقى , فلن تفلتى من عقابى ولكن ليس الآن ,يكفينا ما أثرتماه من فضائح.
كان خالد ممسكا لأنفه المتورم يحاول ايقاف نزيفه المتجدد بمنديب ورقى وهو يهتف فزعا:
-اهدأ يا رجل ... لم يحدث أى ضرر أقسم لك.
استفزه أكثر محاولته لتبرير الموقف بعدم حدوث أضرار فاقترب مجددا منه وهو يمسك بتلابيبه فقام خالد بوضع يديه أمامه لحماية وجهه من تلقى المزيد من الضربات من صديقه الهائج دون أن يحاول الافلات من قبضته بينما قامت ليلى باجراء مكالمة هاتفية عاجلة دون أن ينتبها لها ثم قالت بصوت مهتز تخاطب ابن خالتها:
-جاسر , جدى على الهاتف يود محادثتك.
تطاير الشرر غضبا من عينيه وهو يتوعدّها بصمت قبل أن يختطف الهاتف الخلوى من بين أصابعها المرتعشة وهى كل همها أن تخلّص خالد من بين براثنه وسارعت لتطمئن على حاله فيما أخذ جاسر يتكلم بصوت خفيض وهو بهز رأسه عدة مرات قبل أن يلجم غضبه وهو ينفّذ أوامر جده باحترام , فقال أخيرا باستسلام:
-حسنا , نرجئ الحديث لما بعد , لا تقلق.
ثم رفع نبرة صوته متعمّدا لتصل الى مسامعهما:
-حسنا سنؤجل وقت الحساب , ولكن لن يفلت من عملته هذه على خير.
ثم أردف بتقدير:
-الى اللقاء يا جدى.
ثم قذف بالهاتف على سطح المكتب فانحدر حتى كاد يقع على الأرض ال أنه استقر على الحافة بالضبط وهو يشير الى ليلى بسلطوية وأمر نافذ قائلا :
-اذهبى من هنا , اغربى عن وجهى الآن والا أقسم أننى لن أصبح مسؤولا عن تصرفاتى.
نظرت الى خالد وكأنها تستأذنه للانصراف فأومأ لها برأسه لتطيع جاسر المستشيط غضبا وهو يطمئنها:
-لا تشغلى بالك فكل الأمور ستصير على خير ما يرام.
-حسنا , اهتم بنفسك.
ورنت بنظرة خاطفة نحو ابن خالتها قبل أن تنصرف مسرعة وهى تحمل فردة حذائها المخلوعة بيدها فلم تنتظر حتى ترتديها أمام نظراته القاتلة ,وحينما أغلقت الباب خلفها أطرق خالد برأسه أرضا وهو يتمتم:
-ألن تسمح لى حتى بالشرح ؟ والله لم يصدر منى أى تصرف خارج , ألا تهدأ وتنصت الىّ ؟
حينما لم يتلقّ ردا على سؤاله رفع نظره ببطء نحو صديقه الذى كان يجلس على مقعد قريب محاولا استعادة هدوءه وتنظيم أنفاسه المتلاحقة ,وهو يقول نافيا:
-لا يمكن أن يمر هذا الموقف بسلام . ثم ماذا تنتظر منى وقد رأيتكما بعينىّ ,لم يخبرنى أحد بما شاهدته لكان أهون وأبسط ... كنت سأكذب ايا كان اذا تجرّأ وألمح الى وجود شئ كهذا بين صديقى وابنة خالتى , أيها الأبله ألا تستطيع أن تلجم نفسك لتنتظر , فقد كان زواجكما وشيكا ...
-أقسم لك ثانية أننى لم أقدم على هذا الأمر , على الأقل أنا لم أتحرك قيد أنملة من مكانى هذا منذ دخلت هى.
أخذ جاسر يمرر يديه على وجهه عدة مرات يستغفر الله وأخيرا صاح:
-أتعنى أنها هى التى ؟؟
ثم بتر عبارته بغتة وهو غير قادر على الاستيعاب.
-أرجوك لا تقفز الى مثل هذه الاستنتاجات الغير منطقية , لم أقصد شيئا سيئا عنها.
ثم أردف محاولا استعادة ثبات صوته وهو ما زال ممسكا بأنفه الذى ينبض بألم صارخ:
-لقد اشتبك كعب حذائها ببنطالى وهذا ما جعلها تتعثر فى خطواتها لـ . تسقط وكأنها ..... فى أحضانى كنما رأيت أنت.
قطب جاسر جبينه قبل أن يطلق سؤالا منطقيا:
-وما الذى جعلها قريبة منك الى هذه الدرجة من الأساس ؟
ابتلع خالد ريقه وهو يقاوم رغبة فى تعنيفها فى هذه اللحظة على تهورها وما آلت اليه الأمور بسببها فقال مترددا:
-كانت ... كانت تخبرنى بأمر ما.
رفع جاسر حاجبا بطريقة ساخرة قبل أن يقول هازئا:
-فهمت الآن ... لم تتغير ليلى ولن تتغير , تحب أن تدير اللعبة بطريقتها الخاصة وتصرّ على الاستمتاع حتى ولو ألحقت الأذى بالآخرين.
ثم أردف بلهجة أقل حدة:
-وأنت ... هذه المرة صرت ضحيتها , لقد وقعت فى شرك يا صديقى ولن تخرج منه أبدا سالما .. كان الله بعونك.
نظر له خالد محاولا تقييم عبارته وهل هو جادا فى حديثه ؟ أيعنى هذا أنه قد صدّقه ؟
فقال بصوت خفيض وكأنه لا يصدق حسن طالعه:
-هل أنت متأكد من كلامك ؟ ألا تسخر منى ؟
ابتسم له ببطء وهو يحاول تجنّب الاعتذار الصريح لصديقه فقال مؤازرا:
-هل تتألم كثيرا ؟ أعنى هل يوجعك أنفك ؟
قال خالد بمرح مصطنع:
-يا لها من لكمة قوية , احذر يا صديقى فأنت لا تعى مدى قوتك فلا تحاول المزاح مع أحد , أعتقد أن أنفى لم ينكسر ولكنه يضج بالألم ... لا تبتئس فقد توقف النزيف ويكننى أعتقد أنه سيكون علىّ المكوث بالمنزل لأسبوعين على الأقل حتى يخفّ هذا التورم الرهيب.
-لا بأس ... يمكنك أن تضع بعضا من الدهانات المخففة للتورم وسوف تصبح أفضل حالا.
-هكذا ببساطة ... تنهال علىّ باللكمات ثم تنصحنى فينتهى الأمر ,, يا لها من صداقة عميقة !
ثم أخذ يضحك بهستيرية وقد شاركه جاسر نفس الانفعال حتى دمعت أعينهما قبل أن يتلفّظ جاسر صراحة:
-أنا آسف حقا يا خالد , ولكن الأمر خرج عن سيطرتى فالموقف ما زال يستفزنى حتى الآن.
وكوّر قبضته مجددا حتى تراجع خالد بمقعده لا اراديا وهو يهتف:
-كفاك ضربا يا رجل , لن أتحمل لكمة أخرى,, آى.
بسط جاسر كفه وهو يقول بأسى:
-لا أعرف حقا ماذا دهانى , أصبحت أتصرف بغرابة شديدة ,ويبدو أننى لم أعد أتعرّف على نفسى حتى حين أنظر لوجهى بالمرآة أتعجّب كثيرا من نظرات عينىّ.
قال خالد بلهجة ذات مغزى:
-أنه الحب يا صاحبى , فهو يصنع المعجزات ,,, أنت عاشق !
حدّق جاسر بوجهه للحظات مرت بطيئة وكأنه يتعرّف على السبب لأول مرة ,ثم اشاح بوجهه بعيدا ينظر للفراغ من حوله ... نعم الفراغ منذ لقائهما الأخير وهو يشعر بخواء نفسىّ رهيب وكأنه لم يعد كما كان من قبل ,عليه أن يتهيّا للأسوأ فى حياته منذ الآن فصاعدا ... وغابت بسمة الأمل عن شفتيه.
***************