الفصل الثلاثون والأخير ج1
حينما أنهى رفيق اتصاله السريع وضع سماعة الهاتف بعنف مما أصدر ضجيجا مزعجا أثار توتر ريم التى رأت أن الأمر لن يمر بسلام حتى وهى جاهلة بالتفاصيل كلية فيبدو على شقيقها معالم نفاد الصبر بجلاء شديد ,بينما أصرّت أميرة على فتح النقاش مرة أخرى دون أن تنتبه لأنها تضغط على أعصاب زوجها المنفعل فقالت بصوت عالِ تحادثه معلنة عن رأيها الخاص:
-أظن أن كليكما قد تسرّع بقراراته فمثل هذه الأمور لا تُعالج الا بالصبر والحكمة بدلا من التهوّر ...
قاطعها رفيق بصيحة غاضبة وهو يزفر بضيق:
-أميرة .... كفّى عن هذا الحوار , فلا طاقة لى بمناقشة مثالياتك التى لا تُمسّ مهما أخطأ من حولك تصرّين على تجاهل هذه الأخطاء ...
أردفت أميرة بحدة وهى تقوم من مجلسها لتتمشّى فى غرفة المكتب الفسيحة حتى تعطى لنفسها مجالا من الحرية حتى لا تستلم لغضبها من طريقته اللا مبالية فى معاملة موظفيه من وجهة نظرها:
-هذا ما يٌسمّى بالتسامح والغفران , ألا تعنى لك هذه الكلمات شيئا فى قاموسك؟
قال محاولا السيطرة على انفلات أعصابه الوشيك وهو يعاملها بهدوء كمن يهدّئ طفلة صغيرة غير راغبة فى التفاهم:
-أميرة ... لا يوجد لهذه الكلمات مرادفا فى مجال عملنا , من يخون أو يخطئ عن عمد فعليه تحمل وزر عمله ,وقد سبق وأخبرتك مرارا أننا لا نظلم أحدا أو نسئ الى موظف لدينا أبدا , ويمكنك أن تسألى بنفسك لتتأكدى.
لم تتوقف عن هذا الحد بل تمادت بارادتها القوية لتمس وترا حساسا فى القضية بسؤالها المترفع عما قامت به هديل لتستحق مثل هذا التعسّف فى قرار نقلها فأشاح هو بوجهه بعيدا عن نظرات عينيها اللائمتين وهو يغمغم بصوت خفيض:
-لا أعرف سبب قرار كريم ,ولهذا فقد استدعيته لأفهم الموضوع برمته قبل أن أتخذ أى قرار بشأن الفتاة , أرجوكِ أميرة كونى فقط موضوعية وعادلة حين توجهّين لى أصابع الاتهام بدون وجه حق.
استشعرت مدى الألم الذى ينضح فى صوته العميق بالرغم من قوة شخصيته وسيطرته على الموقف فقد استشفت حساسيته الواضحة لأى تصرف يبدر منها تجاهه ,هو يهتم حقا برأيها الخاص فيما يفعل حتى ولو كان قرارا يتعلّق بادارة الشركة فهما الآن ليس مجرد زوجين أو قريبين بل شريكين فى الحياة بكل تفاصيلها ,,, وانتقلت نبضات الألم تلقائيا الى قلبها فهى لا تتحمّل رؤيته هكذا ,وتساءلت فى قرارة نفسها : هل تسرّعت حين اتهمته بالقسوة حين اتخذ قراره بانهاء عمل السكرتيرة الخاصة به , ونفت أن يكون ظالما لها , هو أعلم بما فعلت ... ابتسمت له ابتسامة أذابت ثلوجه المتجمّدة على وجهه الحاد القسمات فأشعّ الدفء مطلا من نظرات عينيه الفضية وهو يلمح اعتذارها الصامت بعينيها فرقص قلبها طربا لتفهمه السريع لها ,هو من بين جميع الرجال ... رجلها الواثق المحب العطوف الذى يمكنها أن تلجأ اليه فى كافة حياتها ومهما كان اختلافهما فهو لا يتنمّر عليها بل يحاول جاهدا أن يجعلها ترى ما يفوتها ببصيرته الحادة وخبرته الواسعة ,وثقا به فى الماضى وسلمته زمام ادارة حياتها حين وافقت على الزواج منه ,وقد أثبت لها بالقرائن العملية أنه رجل أفعال وليس مجرد أقوال ,تولّى حمايتها ووقف الى جانبها حتى استعادت عافيتها وميراثها المستحق دون أن ينتظر مقابلا وهو الذى تخلّى عن كافة حقوقه عليها لسنوات طوال راضيا بالبقاء فى الظل حتى تهم هى بالخطوة الأولى نحوه دون أن يتعجلها أو يتأفف مللا ,, أنه رفيقها ,, رفيق دربها الى آخر العمر.
-من فضلكما أنتما الاثنان , هل يمكن ارجاء أية مناقشات مصيرية تتعلّق بالصراع الدائم بين الرجل والمرأة حينما أغادر أنا فأعصابى لم تعد تحتمل هذا الاستفزاز.
قالتها ريم بتوتر ملحوظ حتى بعد أن لمست الهدوء الذى سيطر على الموقف بينهما مما جعل رفيق يرفع حاجبا متسائلا وهو يراقب وجه أخته الصغيرة بتمهل وامعان قبل أن يعلن هجومه قائلا:
-وهل لنا أن نتشرف بمعرفة السبب الذى يجعلك حساسة تجاه مثل هذه المناقشات العادية ؟ ثم ما علاقة حديثنا هذا بالصراع بين الرجل والمرأة يا ريم ؟ هل تريننى أنا وأميرة نتقاتل لاثبات شئ ما ؟
هزّت ريم برأسها نفيا وهى تقول بصراحة:
-كلا لم أقصد هذا المعنى , أعرف أنكما متفاهمان بدرجة كبيرة بل أحيانا أشعر وكأنكما خلقتما الواحد للآخر بتناغم رهيب فى ردة الفعل ولا يخفى علىّ مدى اهتمامك بها ودفاعك المستميت عمّا يخصّها ,الأمر وما فيه أننى أشعر بترقب لما سوف يحدث الآن حينما تتبارز أنت وكريم شاهرين أسلحتكما الفتّاكة فى النقاش حتى ليصل الأمر بى الى درجة الرعب مما يمكن أن يؤول اليه الوضع بينكما.
اقتربت منها أميرة وهى تعود الى سابق جلستها قبل أن تطلق سؤالا فضوليا:
-ألهذه الدرجة يمكن أن يشتعل الوضع هنا ؟
أومأت لها ريم بأسف وهى تقول معترفة:
-لقد سبق لى أن شهدت على شجاراتهم المنزلية وقد كانت كارثية بحق فما بالك حين بتعلّق النقاش بأمور العمل ؟ فأخى كالقطار ... لا يرى أمامه فى الحق.
وأشارت بحد يدها علامة السير المستقيم فهزّت أميرة رأسها تفهما وخصلات شعرها الحرة تتراقص بأريحية ما جعل رفيق يحاول جاهدا أن يظل على تركيزه بدون أن يسمح لوجودها أن يشتت انتباهه عن متابعة العمل بنفس الأسلوب الحازم والجاد ,ولم يعلّق على حديث شقيقته فهو يدرك أنها لم تتفوّه سوى بجزء يسير من الحقيقة العارية ... لن يفلت كريم من تأنيبه لعدم استشارته قبل الاقدام على هذه الخطوة ما سوف ينقذه من غضبه المتصاعد بأعماقه أن يكون لديه سببا قويا.
فى اللحظة التالية كان الشخص المنتظر حضوره يدخل الى اجتماعهم بعد أن طرق على الباب مرة واحدة ودلف بهدوء وثقة وخطواته المتمهلة تشى بمحاولته لمنع التهوّر من افساد الأمر ,وزرع بسمة مجاملة قبل أن يقول مرحبا للفتاتين:
-أهلا وسهلا بكما يا بنات الشرقاوية فى عرين الأسد وأخيرا سوف نجتمع سويا لنضع العمل نصب أعيننا بدلا من البحث عن غرباء لا يسعنا وضع الثقة فيهم , لا بد أن نحتفل قبل أى شئ.
كان حواره موجهّا نحوهما الا أن رفيق قد التقط طرف الخيط فكريم سعى نحو هذه البداية وقد كان مقصده أن يصل بالمعنى الى ابن عمه دون أن يتعمّد مخاطبته فقال مقاطعا ترحيبه الحار بهما فى لهجة قاسية بعض الشئ:
-هل لنا أن نرجئ هذه الاحتفالات لبعض الوقت ريثما ننتهى من مناقشة أمر هام يخص ادارة هذه الشركة يا ابن العم.
نفض كريم يديه مستسلما وهو يقول ببساطة:
-أمرك يا ريّس كما تشاء , أنا طوع بنانك.
فانتحى به رفيق جانبا قصيّا بعيدا عن مجال السمع للفتاتين وان كان مهيئا لهما أن تشاهدا ملامح وجهيهما واستشعرت أميرة بمدى التوتر الغاضب الذى يغلب على ملامح وجه زوجها بينما كان كريم متخذا لهيئة المدافع عن نفسه الذى قال بصوت هامس:
-ولماذا تتضايق من مثل هذا القرار ؟ ألم تتخذ أنت قرارا أشد قسوة بطرد مها ؟
أخذ رفيق يحاول أن يهدئ من غضبه بحوقلة وهو يتمتم:
-يا بنى آدم ما علاقة هذا بذاك ؟ ثم لماذا تتخذ أنت موقفا مماثلا , هل أخطأت الفتاة فى شئ ؟ أخبرنى لأعاقبها بما تستحق , وربما تنال مثل معاملة صديقتها اذا لزم الأمر.
سارع كريم بنفى هذه التهمة عنها فان كان غير قادر على تحمّل رؤيتها لأسباب ليس لها ذنب فيها فعلى الأقل عليه أن يدفع عنها سوء الظن فيها ... هذا ما هو مدين لها به بعد ما قام به من اقصائها من حياته حتى ولو مجرد وجودها بمكتبه للعمل فقد حرم نفسه قبلها من هذه المتعة الجميلة وحرّم على نفسه التعلّق بها فقال بثبات:
-لا , لم تقم بشئ خاطئ حتى تفصلها , أنه مجرد استبعاد من محيط عملى أنا ... لا شئ أنا فقط لا أستريح لوجودها ولا أرغب برؤيتها فقررت نقلها الى قسم آخر وربما تنال به ترقية تستحقها أو تجد عملا أخف وطأة فهذا يعد مكافأة لماذا تتعامل مع الأمر وكأنه عقاب لها ؟
فرك رفيق جبينه براحة يده ببطء وهو يمعن التفكير فيما قاله ابن عمه حتى بادره بسؤال لم يكن متوقعا:
-هل للأمر علاقة بأية مشاعر تكنها لهذه الفتاة ؟
قطب كريم حاجبيه بشدة وهو يقول بلهفة:
-لماذا ؟ هل عرفت شيئا أو رأيت منى ما يدل على هذا ؟
ارتخت قسمات وجه رفيق المتصلبة فجأة وقد ضربته معرفة الحقيقة فقال متبسما:
-اذن فالأمر كما خمّنت بتعلق بالعواطف وليس بالعمل يا سيد كريم.
ثم لكزه بمرفقه فى جانبه بمرح جعل كريم يتصنّع الدهشة وهو يسارع لينفى:
-كلا , ثم ما الذى يجعلك ناقما هكذا علىّ بسببها , ألأنها لجأت اليك لتشكونى ؟
أجابه رفيق بهدوء:
-نعم , فهى تعترض على مثل هذا الظلم الواقع عليها ...
ثم أضاف بمكر:
-الفتاة لا ترغب بترك العمل معك , فلماذا تحرمها من هذه النعمة , هه ؟
قال كريم بعبوس واضح:
-لا أريدها بمكتبى , ولن أبدى اسبابا مرة أخرى ولن أوضح لها شيئا , عليها أن تلتزم بالقرار اذا أرادت أن تكمل عملها بشركتنا والا ...
قاطعه رفيق بضيق:
-والا ماذا يا حضرة المحامى ؟ والا طردتها ! أنا لا أفهمك لماذا تتعامل معها وكأنها مجرمة وأنت تقاضيها , على الرغم من اعترافك السابق بأنها لم تخطئ , اذن هى محقة بشكواها منك.
-لااا , هى كلمتى واحدة لن أعيدها ولن أتراجع فلن تجبرنى على استخدامها كسكرتيرة خاصة مجددا , كما أننى أرسلت فى طلب واحدة أخرى.
لم يشأ رفيق أن يزيد الأمور تعقيدا مع ابن عمه بدون داعِ فحتى ولو كانت مظلومة بقراره هذا فهو لن يجبره على اعادتها الى موقعها , فبالنهاية مسألة نقلها لن تضرها أبدا على الأقل من الناحية العملية وان كان للقلب رأي آخر فهو لا يحب خلط أمور اللهو بالجد , عليها أن تتحمّل وجع قلبها بل ربما هذا أفضل لكليهما حتى لا يتورطا أكثر بمسألة العواطف ,وقد استقر رأيه على أن يخطرها بضرورة تنفيذ الأمر وقرر أن يضيف لها مكافأة مالية سخيّة حتى لا تظن أنها معاقبة منهم , ثم تنهد ارتياحا بعد أن استقر على ما يفعله ولكنه ظل حائرا قلقا فيما يتعلق بكريم نفسه ... لم يعجبه حين رآه فقد ظهر على محياه علامات الارهاق الواضح اضافة الى بعض الدوائر السوداء التى تحيط بعينيه مما فضح قلة نومه ...
-حسنا والآن يمكننا متابعة أمر الاحتفال يا كريم بعد أن انتهينا من أمر هديل .
كان رفيق قاصدا للممازحة مع ابن عمه حتى يخرجه من مزاجه النكدىّ الا أن الأمر انقلب عليه حينما رأى زوجته تقلب شفتيها امتعاضا وهى تقول بمرارة:
-هكذا اذن اتفقتما على المسكينة , كان علىّ أن أعرف أن الرجال يقفون الى جانب بعضهم.
- الأمر ليس كما تتصوين عزيزتى , لقد فهمت حقيقة الوضع وتأكدت بأنه لا يوجد شبهة ظلم لها.
بقيت ريم على صمتها وهى تتلاعب بأصابعها على شاشة هاتفها الذى قبع ساكنا هو الآخر بدون أى اتصال قادم ,الا أن جملة رفيق الأخيرة التى أطلقها أخرجت الشيطان من معاقله الحبيسة بداخلها حين قال:
-ألا تدعوننا لديك بمكتبك يا كريم ؟ على الأقل حتى نتأكد أن السكرتيرة الجديدة على قدر من الكفاءة لتتولّى عملا هاما كهذا ؟
انتفضت ريم غاضبة وهى تهب على قدميها بصورة خرقاء لتقول مشيرة بأصبعها نحو كريم:
-لماذا تؤذى فتاة رقيقة مثل هديل بهذه الصورة المجحفة ؟ ماذا فعلت بحقك ؟
ضرب كريم كفا بالآخر متعجبا وهو يجيبها :
-وما شأنك أنتِ بها ؟ هل تعرفينها ؟
-وهل يجب أن أعرفها حتى أدافع عنها ؟ حسنا يا سيدى الفاضل , الاجابة هى نعم أعرفها فقد كانت زميلة لى بالكلية.
-لهذا أنت تقاتلين من أجل الدفاع عنها , ولكننى أحذرك فأمور العمل لا تتم بهذه الصورة , ولا وجود للمجاملات هنا .
اتجهت بنظرها نحو أخيها باستفسار واضح ما جعله بهز رأسه ببطء وهو يقول موضحا:
-هذا صحيح يا ريم , ولا تغضبا هكذا لأمرها فسوف أتأكد بنفسى أنها لن تعانى من أى مشكلات بمكانها الجديد.
-حسنا قرر السيدان وعلى الجميع السمع والطاعة.
ثم انحنت ريم بحركة مسرحية ساخرة قبل أن تتراجع مطلقة الرياح لستاقيها حتى تهرب من رؤية نظرات الانتصار والتشفّى فى أعينهما كما كانت تخشى ,هبّ كريم مندفعا ليلحق بها وقد ساءه ما رآه من علامات البؤس مرتسمة بحدقتى عينيها المتسعتين فلم يحاول رفيق أن يمنعه وقد بدأت ظلال الشكوك تتلاعب بخياله بحرية وفوضوية ... ماذا ألم بأخته ؟ ولماذا صارت حساسة الى هذه الدرجة تجاه أية كلمة تصدر عنه أو عن أبناء عمومتهما؟
لا بد أن يعرف اجابة لحيرته ... سينتظر حتى تهدأ وتستعيد صفاء ذهنها قبل أن يواجهها , ولن تفلت من استجوابه ... هكذا وعد نفسه.
-ما بالها ريم ؟ أراها شاردة على الدوام كما أنها تتضايق لأتفه الأسباب ؟ هل تعرف ما بها ؟
أسئلة زوجته المتتالية أكّدت على ضرورة الاسراع نحو معرفة الحقيقة فكما يبدو أنه الأمر بات واضحا للجميع ,, فزفر بضيق قبل أن يستعيد جموده وثباته الانفعالى بلمح البصر قائلا:
-سوف أعرف , أعدك بذلك ... فلنتركها حتى تهدأ , ولا تخشى شيئا فكريم لديه قدرة سحرية على اذابة جمودها وتليين عقلها الحجرى ,سوف تكون بخير.
وتمتم لنفسه : أرجو ذلك.
***********************