جلست لبنى مع أخيها كريم فى غرفة الجلوس الواسعة التى تشمل جميع وسائل الراحة والرفاهية, حيث أخذا جانبا من الأريكة الجلدية السوداء الوثيرة وبقيا يتحدثان وكأنهما صديقان افترقا وعادا ليلتقيا بعد طول غياب وشوق واهتمام , لم يكن كريم رجلا معقدا يستعصى فهمه مثل رفيق بل كان أمامها كالكتاب المفتوح ولديه فلب من ذهب , أخبرها بأنه يود نسيان الماضى وبدء صفحة جديدة فالحياة لا تحتمل الخصام .
وقد أسعدها تفهمه لوضعها الدقيق فى هذا المنزل وأشاد بموافقتها على الانتقال للسكن معهم حيث يكون بمقدورهما التعويض عن الأيام الماضية التى حرما فيها من نعمة الاخوة ورابطة الدم القوية التى تجمع كل أفراد العائلة.
كادت لبنى أن تشعر بالذنب لأنها لم تبح له بكل أسرارها مثلما فعل هو , كانت ماكثة فى ركنها البعيد تحمى نفسها من العيون الفضولية وحب الاستطلاع الذى لا يتجزأ من النفس البشرية.
فى حين استلقى سيف على الأرض فوق البساط العجمى ذى النقوش الجميلة والذى كان يعد تحفة فنية ساندا ظهره الى البف الذى كانت ريم جالسة فوقه تشاهد التلفاز الموضوع على طاولة منخفضة من الطراز الحديث للأثاث .
كان الجو عائليا دافئا مريحا بالنسبة للغريبة التى كانت متوترة بشأن علاقتها بهؤلاء الشباب , وقد أبدوا استعداد واضحا لضمها الى الفريق العائلى بدون تحيز أو تنمر, فى حين شعرت هى بابتعادهم عن وجهات نظر الأمهات فى تواجدها بالبيت الكبير.
كانت الوحيدة التى رحبت بها بحرارة هى زوجة عمها السيدة سوسن – والدة رفيق وريم – وكأنها تنتظر لقاءها على أحر من الجمر, على عكس عمتها فريال التى بدت متباعدة غير راغبة فى رؤيتها ولكنها ليست عدائية بقدر زوجة والدها , ولا متعالية مثل زوجة عمها السيدة منى.
بدأ فتيل الشجار يشتعل بين ريم وسيف بعد أن أصرّ هو على أن يحوّل القناة التى كانوا يتابعون معها المسرحية الكوميدية الى قناة رياضية حيث كانت تذاع مباراة لفريق الأهلى – الذى يشجعه بحرارة – وهى يتأهل لنهائيات دورى أبطال أفريقيا.
رفضت ريم – التى تكره كرة القدم بعنف – أن ترضى بسياسة الأمر الواقع التى يبدع سيف فيها , وقد حاول كريم أن يهدئ من هذا الوضع المحتدم بينهما بلا جدوى
-ريم , انتظرى قليلا , فهذه هى المبارة النهائية ولا يمكن تفويتها أما المسرحية فسوف تعاد عشرات المرات فيما بعد.
-واذا كنت أتابعها الآن , لم لا يخرج هو لمتابعة المباراة فى الخارج مع أصدقائه كالعادة؟
لم يكن كريم متابعا شغوفا لمباريات الكرة , الا أنه كان يبذل قصارى جهده للحيلولة دون وقوع مشاجرة تثير الأعصاب , فالتفت الى سيف راجيا:
-ألا يمكن التنازل قليلا ولو لربع ساعة حتى تنتهى المسرحية بأمان؟
-لا يمكن تفويت ردقيقة واحدة من الماتش , اذا أصرت على رأيها فلتتابع المسرحية فى غرفتها فلديها جهاز تلفاز هناك , ولتصطحبى معك لبنى فهى لا بد ستوافقك الرأى بالنسبة لمشاهدة المباراة.
ولدهشتهم جميعا , أبدت لبنى اهتماما بالمباراة وارتأت أن تغلف الجو بروح التسامح فقالت:
-لا يمكن , أريد أن أتابع النهائى فهو لا يتكرر كثيرا , وأنا أشجع فريق الأهلى منذ صغرى.
-أنت تشبهين أبى فى هذا.
كان هذا هو كريم الذى ألقى بجملته التى أثارت استغرابها فكيف عرف هو بهذه المعلومة , زلم تستطع اخفاء فضولها بداخلها فسألته:
-كيف عرفت أنه كان شغوفا بالأهلى؟
تردد قليلا فقد كانت هذه الذكرى تؤلمه وتهز كيانه كلما مرّت طيفها:
-ان هذه العادة متوارثة بالعائلة , فكلنا هنا نشجع الأهلى , ما عداى طبعا فأنا غير مهتم بهذا النوع من الرياضة ولكننا أعضاء بهذا النادى منذ قديم الأزل .
ومضت برأسها صورة تتكرر باستمرار ,والداها يسيران فى التراك وأبوها يدفع بدراجتها الصغيرة الى الأمام وهى متشبثة بمقبض جادون العجلة وكأنها هى التى تقود , ويأتى طفل صغير أطول منها قليلا ليدفعها بقوة وهى تصيح مذعورة , فيقبض على ذراعه صبى آخر ويوقف استمراره بهذه المزحة فى حزم عجيب لا يليق بسنه الصغيرة ويتلقفها بين ذراعيه حاملا اياها فوق كتفيه ليطوف بها فى أرجاء ملعب كرة السلة القريب من مضمار الجرى.
وهى تهلل بسعادة , وكان يناديانها بلؤلؤة , اسم التدليل هذا الذى صار مرتبطا بها بعد ذلك, كان أبواها لا يحرمانها من أى متعة , وقد كانت مسرورة بهذه الصداقة الا أنها بعد الحادثة التى أودت بحياتهما لم تطأ أرض هذا النادى من جديد.
لن ترحمها الذكريات فباتت تتحسر على سعادتها الضائعة الى الأبد , لن يهنأ بالها الا بعد أن تحقق ما سعت اليه ,حتى تحظى بلحظات النوم العميقة التى تجافيها فى عتمة الليل البهيم .
عندما استفاقت من شرودها وجدت أن الوضع المشتعل الذى اندلع منذ قليل قد أخمدت نيرانه بمهارة من أخيها كريم والذى كان يبدو دبلوماسيا عتيدا, ودفعها هذا الخاطر لسؤاله عن طبيعة عمله:
-أود أن أسألك عن عملك ؟ هل أنت فى ذات الشركة التى يعمل بها رفيق ؟
لم تكن قد اعتادت على نطق اسمه فبدت خائفة من شئ ما وهى تجمع الحروف , وانتظرت بفارغ الصبر اجابة أخيها.
-أنا أشرف على كافة الاجراءات القانونية التى تتعلق بالشركة بحكم دراستى , فقد تخرجت فى كلية الحقوق , وليس لى اختلاط مباشر بمجال ادارة الأعمال من الناحية التجارية البحتة , فهذا هو مجال الريّس
ثم غمز بعينه وتابع : رفيق
اذن فرفيق هو الريّس كما خمّنت ولذلك فهو يتعامل معها من هذا المنطلق .
-ولكن أليس عمى محمد هو الريّس كما سمعت من المحامى ؟
-بلى عمى هو رئيس مجلس الادارة ولكنه ليس المدير الفعلى للشركات.
-الشركات ؟ أليست هى شركة واحدة ؟ أقصد هل يدير رفيق وحده هذا الكم الهائل من الشركات التى ترجع الى العائلة ؟
-لا بالطبع , ليس وحده فهناك عمى عادل وابنه سيف , لا تنسى أنهما الطرف الآخر للخيط , أما أنا ... فلست طرفا بالمنافسة.
وأخفض صوته أكثر فصار همسا.
كان صوته يقطر مرارة وأسى فشعرت بقلبها يميل نحوه فى عطف فطرىّ لا تتخلله شوائب الكره والحقد والحسد التى زُرعت بداخلها طوال السنين الماضية , أدركت معنى جملته المبتورة أنه بسبب تصرف والدها وتخليه عن حقه منذ خمسة وعشرين عاما لم يعد كريم قادرا على الدخول الى هذا السباق العائلى.
اذن فالعائلة منقسمة , وكل فريق يحاول السيطرة وفرض مبدأه الخاص على سير الأعمال هكذا استشفت من حوارهما.
عليها أن تنتبه لهذه النقطة وتستغلها لصالحها , قالت لكريم وقد بدأت فكرة تتبلور وتتشكل أمامها حتى صارت كاملة مكتملة.
-علينا أن نتحدث , ولكن بعيدا عن هنا , فالجدران لها آذان.
وأشارت بمغزى للخارج , وقد أدرك كريم تلميحها بألمعية وذكاء متقد فرفع حاجبه متفهما وأومأ لها رافعا سبابته للأعلى دلالة التأكيد.
وتابعا ما فاتهما من المباراة التى كانت تشير الى خيبة أمل فى فريقهم المفضل الذى فشل فى تسجيل هدفا فى مرمى الخصم الشرس .
ولم يكف سيف عن التذمر أو القاء اللوم على كل لاعب فى الفريق بما فيهم اللاعبين الاحتياطيين , والمدرب ,المدير الفنى وحتى عامل غرفة تغيير الملابس.
بينما انسحبت ريم بهدوء من بينهم بعد أن يئست من أن يلاحظها أحد من المتابعين المهتمين بالمباراة التى أخذت تلفظ أنفاسها الأخيرة بدون تحسن.
وكانت داخليا ناقمة على سيف وأنانيته اللا معقولة بنظرها فهو لا يهتم الا بشيئين لا ثالث لهما : العمل, والكرة ,وان كان يشبه رفيقا فى شئ فهو شدة حرصهما على أعمال العائلة المتعاظمة.
وحينما أحرز اللاعب الأفريقى المحترف بصفوف النادى المصرى هدفا مفاجئا بآخر دقيقة محققا النصر المشرف لناديه الذى فاز بالبطولة , قام سيف بالصراخ عاليا وهو لا يكاد يصدق ما رأته عيناه وأخذت لبنى تصفق بيديها جذلا وهى تحتضن أخاها بسعادة ممزوجة بفرحة النصر, ثم قامت لتطوف بأرجاء الغرفة وهى تنشد بصوت مغرد :
-وااااااو أخيرا هدف, وكسبنا ..كسبناا
كانوا على حالة من الفرح الغير طبيعى ربما كان مرده لاجتماعهم بهذا المكان وليس فقط لفرحة الانتصار واحراز التقدم , ثم رأت رفيق واقفا على المدخل ويبدو عليه أمارات الارهاق والتعب بيد أنه عندما تشابكت نظراته بنظراتها شعرت بخجل غير مبرر ثم بدأت ابتسامة بطيئة تظهر على جانب شفتيه وهو يراها منتشية بسعادة طفولية
-هل انتهت المباراة ؟ أم أنه ما زال متبقيا الوقت بدل الضائع؟
ألقى رفيق السؤال عليهم وهو يأخذ مجلسه بالقرب من كريم بينما عيناه ما زالت متعلقة بها لا يخفى عليه أى تفصيلة منها , وكانت قد عادت الى الأريكة تستند عليها بقوة بعدما شعرت بعمق نظرته تخترقها حتى الأعماق وتجردها من الغطاء الذى تستر به مشاعرها.
-لا يا أخى لا زال باقيا ثلاثة دقائق , يمكن أن يحدث خلالها الكثير .
أجابه سيف وهو منشغل عنه بالتلفاز لا يرفع بصره عن المباراة.
-ما أخبار سير العمل بشركة التصدير ؟
بدأ كريم فى القاء الأسئلة على رفيق , وهو يجيبه بألغاز لم تستطع لبنى فك شفرتها فهى تجهل كليا عالم التصدير والاستيراد فمجال خبرتها كان منحصرا فى التسويق الxxxxى حيث كانت تعمل بمكتب السيد فهمى قبل أن ينهى رفيق مشوارها هناك بيده.
لم يلاحظ الاثنين أنها قد استعدت لمغادرة المكان بدون اثارة الازعاج من حولها , وهيهات أن يمر هروبها مرور الكرام على الرجل الذكى الذى لا تفوته شاردة ولا واردة , فأرسلت لها عيناه سهاما تحذيرية من أن تحاول الهروب منه, فقد اعتذر من كريم بحجة أنه مرهق ويريد أن يستريح بعد يوم عمل شاق متجاهلا سيف الذى كان منشغلا بمتابعة الاستوديو التحليلى للمباراة, لمحت اشارته الخاطفة ولم تخيّب أمله أبدا فتعللت هى الأخرى بحاجتها الى الراحة , فأبدى كريم تفهمه لها :
-سنتكلم غدا كما اتفقنا.
ابتسمت له باشراق وانحنت على كتف سيف لتهنئه بالفوز فى مشهد لم يرق كثيرا لأخيها الذى قطب جبينه مفكرا وان لم يقم بما يشير الى اعتراضه.
تطلعت حولها فلم تجد أثرا له بالصالة الواسعة فارتقت درجات السلم ببطء وقررت بالأخير أن تنفض عن نفسها هذا الخاطر الملح وهمت بأن تفتح باب غرفتها فتذكرت أن رفيق قد أخذ منها شريحة الخط الخاص بها ليقوم بتبديلها بواحدة جديدة وهى بحاجة اليها لتهاتف خالتها اليوم.
انفتح فجأة باب الغرفة المجاورة لغرفتها ورأت رفيق واقفا هناك يتطلع اليها وقد كان ما يزال مرتديا ملابسه التى خرج بها منذ الصباح الا أنه قد أرخى ربطة عنقه وتركها معلقة بياقة قميصه وقد فك أول أزراره العلوية ,بينما تهدلت خصلة من شعره الناعم الأسود على جبينه مما أعطته مظهرا صبيانيا محببا جعلها تشعر بقلبها يرفرف خافقا بقوة وهى تكتشف أنه جارها بنفس الطابق , ولم تدر لم ساورها الشك بأن هذه لم تكن من قبيل المصادفة البحتة.
-تأخرت كثيرا فقد ظننت أنك لن تأتى أبدا.
-لقد أسرعت بعد خروجك فلم أجدك بانتظارى.
تنهد وهو يزيح خصلة الشعر الشاردة :
-وهل كنت تظنين بأننى سأقف على الدرج بانتظارك كتلميذ صغير يقف على باب مدرسة حبيبته ذات الضفائر.
أرادت أن تشاكسه حتى تروى بداخلها رغبة دفينة
-ربما كان هذا سيضفى عليك بريقا من الانسانية التى تفتقر اليها , كما أننى قد تركت المدرسة منذ زمن بعيد, ولم أعد اضفّر شعرى.
حذرتها نظراته الداكنة من أن تتمادى أكثر فقررت الدخول الى لب الموضوع
-أين هى شريحتى ؟ ألم تخبرنى بأنك ستعيدها الىّ اليوم؟
أخرج من جيب قميصه الشريحة الجديدة وناولها للبنى
-كنت أنتظرك لهذا السبب , فلم أكن أنوى سرقتها , للتمتع برصيدك التافه.
وأدركت أنه يرد لها الصفعة انتقاما من سخريتها منه.
-شكرا , هل أصبحت الآن على النظام الجديد؟
-تأكدى بنفسك
وكادت أن تتوارى بداخل الحجرة الا أنه أجبرها على البقاء بقوله:
-لدىّ ما أريد أن أعطيكِ اياه
غاب قليلا وعاد حاملا علبة أنيقة مغلفة بورق مفضض لامع
-هيا خذيها وافتحيها
-أهى لى أنا ؟
تلفت حوله كمن يبحث عن أحد ما
-هل ترين أحدا سوانا؟
-ما الذى يوجد بداخلها؟
أمرها بحدة:
-افتحيها فانها لن تعضك
امتثلت لامره الغاضب فوجدت هاتفا محمولا من أحدث طراز لهذا العام يتألق لامعا بداخل العلبة, لم يكن لديها الخبرة فى أحدث الاصدارات من الهواتف ولكن يبدو أن قد كلفه كثيرا
-أنه ملكك الآن.
-لم يكن عليك اهدائى شيئا غاليا كهذا
وهمت برفضه , الا أنه أسكتها :
-انه ليس منى , فسوف تحتاجين اليه بالعمل لان هاتفك القديم لم يتوافق مع النظام الجديد , وكل هذا مضافا لفواتير الشركة.
-آه , فهمت
وشعرت بأنع قد حط من قدرها عندما انتقد طراز هاتفها المحمول ولكن خطرت لها فكرة فصارحته:
-وهل تقوم الشركة بلف العلب التى تحتوى على الهواتف بهذه الأغلفة التى تخص الهدايا؟
-لا بد أنها السكرتيرة الحمقاء من قامت بتغليفها , ربما ظنت أنه هدية الى صديقة.
شعرت بغيرة قاتلة حينما قام بذكر صديقته , ولامت نفسها على غبائها انه يمتلك خطيبة فلم تشعر بالضيق من وجود أخرى بحياته ؟
-حسنا , تصبح على خير
-انتظرى , عليك أن تطلعينى عندما تصبحى مستعدة حتى تتسلمى وظيفتك الجديدة بالشركة
-هكذا ! هل تنتهى الأمور بمثل هذه السرعة ؟
-عندما تصبحين شريكة فى امبراطورية عائلة الحيتان , عليك أن تتوقعى أى شئ وكل شئ.
**************