حينما وطأ رفيق بقدميه أرض المنزل شعر بحركة مريبة بالداخل ,وأصوات متداخلة تتقاطع مشكّلة معا سيمفونية غاضبة ..
أسرع بخطواته ينهب درجات السلم حتى تراءت له زوجته الحبيبة جالسة برفقة عمته وأمه بالبهو الفسيح على أريكة صغيرة أمام غرفة زوجة عمه هناء ,وما أن لمحته حتى هبّت واقفة تسعى الى لقياه وكأنها تبحث عن ملاذها الأمين ,فارتمت بحضنه وهو يضمها بشوق معتصرا جسدها الرقيق بين ذراعيه القويتين وقبّل مفرق شعرها بلمسة عاشقة هامسا فى أذنيها (حبيبتى , اشتقت لكِ ) ثم قال موجهّا حديثه نحو المرأتين الأكبر سنا:
-مرحبا أمى , مرحبا عمتى ... ما الذى يدعوكم الى الجلوس هنا بهذه الطريقة ؟
انتفضت أميرة مرتعبة:
-أنها عمتى هناء ... لقد ...
لم تستطع أن تتم جملتها بعد أن انتحبت متشنجة فهتف بها رفيق بنفاد صبر:
-ماذا بها تنت هناء ؟ فليخبرنى أحد بما يدور.
قالت أمه التى كانت تتمالك نفسها حتى لا تقع فريسة للانهيار مثل كنتها:
-لقد سقطت والتوى كاحلها.
-هل حالتها سيئة ؟
-يبدو أن عظامها لم تتحمل أثر الوقعة ,والطبيب ما زال بالداخل يجرى فحصا لها.
-وهل تركتماها وحدها بالغرفة ؟
هزت أميرة رأسها نفيا وهى تجيبه بلا تمهل:
-لا طبعا ,تنت منى معها .
-تنت منى !!
-نعم فهى من اكتشفت الحادث وكان خالى عادل معها ومنذ ذلك الحين لم تفارقها.
ربّت على كتفيها مهدئا وقال بصوته العميق ذى الرنة المميزة التى تثير بنفسها موجات من الراحة والطمأنينة:
-لا تشغلى بالك , ان شاء الله سليمة ..
ثم استطرد بصوت أكثر انخفاضا:
-وما لها أمك ... يبدو عليها كمن تتلقى عزاءا لفقيد لها.
نظرت له بلوم فهذا ليس بالوقت الأمثل للمزاح الا أنها لم تتمالك نفسها من الضحك بخفوت ,فابتسم لها بدوره قائلا:
-هكذا أفضلك أميرتى , باسمة الثغر ,, رائقة البال ,لا أحب أن أراكِ مقطبة الجبين ,فهذا لا يليق بكِ.
ثم توجّه بالحديث نحو المرأة الغافلة عن وجوده:
-مرحبا عمتى ... حماتى العزيزة... كيف حالك ؟
رنت فريال ببصرها الى ابن أخيها بوجه خالٍ من أى تعبير لترد بوجوم:
-بخير ... ألا ترى كيف هو حالنا جميعا ! الحمد لله على كل شئ.
-وما له حالنا ! علينا أن نرضى بالمقسوم لنا يا عمتى.
-أنت محق ... فلا ينقصك أى شئ ,تنعم بما لا يملكه أيا منا.
هل يلمح نبرة الحسد أم السخرية فى صوتها الحاد ,لو تعرف كيف يحمل جبلا من الهموم المتراكمة على كتفيه ؟ أنها لمسؤولية جسيمة ملقاة على عاتقه ,وهو يرزح تحت وطأة حملها الثقيل .
قالت أميرة فى محاولة منها لتلطيف الأجواء بينهما كدأبها فى الآونة الأخيرة:
-كان الله بعونك يا حبيبى ,فكلنا نعتمد عليك .. أليس كذلك يا ماما ؟
التزمت سوسن بالصمت ازاء دفاع كنتها عن ابنها وان أمطرتها بوابل من نظرات الامتنان العميق لمؤازرتها لرفيق ,أما فريال فراقبتها بعناء ولسان حالها يقول ( من يشهد للعروس ) وقالت أخيرا بصوت مرير:
-فلتهنآ سويا ,,,, أنا بغرفتى سأذهب لأستريح ... أميرة ... وافينى بالأخبار بعد انصراف الطبيب ,أستمحيكِ عذرا زوجة أخى فأنا مرهقة.
ونهضت لتغادر مقعدها دون أن تكلف نفسها عناء القاء نظرة واحدة على وجه الرجل العابس الذى كان واقفا يتلظى بنيران حمم غضبه البركانية الا أنه ملك زمام نفسه بآخر لحظة لئلا ينطق لسانه بكلمة خارجة عن حدود الذوق واللياقة ,فأشاح بوجهه بعصبية ,بينما رفعت سوسن حاجبيها تعجبا مما حدث وهى تغمغم:
-ماذا بها فريال ؟ أنها المرة الأولى التى تناديننى هكذا ... زوجة أخى ... هل صدر منى أى تصرف اثارها؟
أخذت أميرة تهدئ من غضب زوجها وهى تلامس وجنته بأصابعها الرقيقة لمسات حانية خفيفة كانت لجروح نفسه كالبلسم الشافى وهى تقول بلطف:
-لا تتضايق من أمى يا رفيق ,أنها لا تقصد اغضابك ... كل ما فى الأمر أنها تمر بظروف نفسية سيئة هذه الأيام ...
ثم التفتت نحو حماتها تعتذر لها برقة بالغة:
-أرجوك يا تنت ألا تضيق نفسك من تصرفها ,أنا أعتذر لكِ نيابة عنها ,كل ما فى الأمر أنها متوترة بعض الشئ ..
اندفع رفيق صائحا:
-لا أفهم ما الذى بدّلها من ناحيتى لهذه الدرجة , لقد صارت لا تطيق وجودى على ذات الأرض ... وكأننى أنازعها التنفس ...أظن أحيانا بأنها باتت تكرهنى.
قاطعته أميرة نافية التهمة عن أمها بصبر وتفهم:
-لا يا حبيبى ,لا يمكنها أن تكرهك ,لا يستطيع أحد أن يقاوم الوقوع فى حبك ... فقد التمس لها العذر ... لأجلى.
وكأنها نطقت سحرا ( لأجلى ) ,فماذا يمكنه أن يقول بعد ذلك , لأجلك أنتِ وحدك أتحمل النار وعذابها وأتمتع بكل لحظة ألم ,فابتسم لها بخفة وهو يقول بعطف:
-لا يهمنا الآن سوى الاطمئنان على زوجة عمى المسكينة ... بالمناسبة أين كريم ؟ أننى لا أراه ...
-أنه ليس موجودا ...
-ألم يعلمه أحد بعد بالحادثة التى وقعت لأمه ؟ لا بد أن أهاتفه حالا.
واتصل فعلا بهاتف كريم وفوجئ به غير متاح فاندفع يبحث عن ابن عمه الآخر قائلا بعصبية حارقة:
-وأين هو سيف أهو غائب هو الآخر ؟
استوقفته يد أمه بلمحة سريعة وهى تقول بصوت متعب:
-لا ترهق نفسك بما لا طاقة لك به يا رفيق ,سيف هو الذى أحضر الطبيب الى هنا أما كريم ... فعلى ما يبدو أنه قد صارت بينه وبين هناء مشادة كبيرة قبل أن يتركها مغادرا وهى تحاول اللحاق به ,سقطت أرضا.
تأفف ابنها بحرقة وهو يتساءل بعدم تصديق:
-أنها لعنة أبدية تلك التى اصابتنا جميعا ,لا يمر يوم علينا الا وحادثة تقع أو شجار حاد بيننا ...رحماك يا ربى !
وفجأة انفتح باب الغرفة ليخرج الطبيب بصحبة السيدة منى وهو يمليها تعليماته الخاصة فتومئ له برأسها متفهمة حتى قاطعهما صوت رفيق القلق وهو يسأله عن حال المريضة:
-كيف وجدت اصابتها يا دكتور ؟ من فضلك أخبرنا.
-لا أخفيك سرا أن اصابتها تبدو سيئة وربما لا أبالغ اذا ما قلت بأنها قد تحتاج الى اجراء عملية جراحية ,, ولكن أولا علينا اجراء عدة أشعات قبل أن أقرر أخيرا.
ثم استأذن للانصراف تصحبه سماح التى جاءت لتوها حتى تقوم بواجبها على أكمل وجه بعد أن أمرها رفيق بأت تخبر عم ( رياض ) السائق الخاص بهم ليقل الطبيب الى وجهته ,ثم أولى السيدات الى جواره كامل اهتمامه حيث قال لهن:
-حديث الطبيب لا يبشّر بالخير ؟ أليس كذلك ؟ علينا أن نبقى الى جوارها حتى لا نثير قلقها فيكفيها ما تعانيه من آلام من جراء اصابتها البليغة ... هل أنتن على استعداد لكتمان الأمر عنها ؟
أومأت النساء برؤوسهن موافقة على كلامه الدقيق ,فيما تأبّطت أميرة ذراعه قائلة:
-هيا لنطمئن على عمتى ونواسيها فى مصابها.
ولحقت بهما سوسن تتبعهما والدموع تتلألأ فى مقلتيها دون ارادة منها ,أما منى فقد سارت نحو جناحها المشترك مع زوجها ,وقبل أن تمتد اصابعها نحو مقبض الباب لتديره سمعت صوتا مرتفعا من الداخل يصيح:
-وما الذى تريد أن تصحّحه ؟ هل تريد أن تنفى عن أمى تهمة الخيانة البشعة التى ألقيتها بوجهها منذ عشرين عاما .. كيف تطالبنى بالنسيان فجأة ؟وهل تمحى الذكريات بين عشية وضحاها ؟
تصلبت مفاصلها دفعة واحدة ,وانقبض قلبها داخل ضلوعها مجزوعا ,أنه صوت ابنها ... سيف ... هل كان يظن طوال هذه السنوات أنها امرأة خائنة ؟ هل تبادر الى ذهنه أنها ملوثة السمعة ... وقبل أن تعى ما تقوم به امتدت يديها مجددا نحو الباب لتفتحه على مصراعيه ,بصورة أجفلت الرجلين المتواجهين ليقع نظر عادل على زوجته شاحبة اللون كالأموات تتطلع اليه بنظرات زائغة .. تصرخ بصمت مطالبة بالرحمة والشفقة ,مغيبة عن الواقع الأليم لا تنبس ببنت شفة تستند الى الباب متمسكة بمقبضه اللامع ... أشارت بأصابعها المرتجفة اندفع عادل نحوها ليحتضن جسدها المرتعش فأزاحته بحركة عنيفة لم تعرف مصدر قوتها رافضة لأية مواساة من جانبه , أما للظلم من نهاية !
-منى ... ليس الأمر كما تتصورين حبيبتى ...
لأول مرة تخترق هذه الكلمة السحرية ذات الرنين المميز ( حبيبتى ) مسامعه منذ سنوات طفولته البعيدة ,كان سيف قابعا بمكانه ينتظر مترقبا بينما تمر الدقائق بطيئة كالسلحفاة ووالده يعترف بذنبه بحق هذه المرأة الوفيّة ,والتى لم يعرف الشك طريقه يوما الى عقلها .. ربما أظهرت بعضا من الطباع السيئة ربما دفاعا عن نفسها ضد الظلم الذى اجتاح عالمها ليقوّضه بمعول حديدى ,فكانت بداخلها نقيّة كينبوع ماء صافٍ ينبثق من العدم ليروى ما حوله فيخضرّ مزدهرا .
قال عادل بصوت متألم يعتصره الاحساس بالذنب:
-عليكما أنتما الاثنان أن تنصتا لى جيدا ,فأنا لم اخطئ بحقك فقط يا منى بل أجرمت فيما يختص بابننا سيف ... حينما خذلته بهروبى المستمر من مسؤولياتى تجاهه كأب ومربٍ ,وصديق وسند ,دمّرت سعادتنا بيدى ... وها قد حان الوقت للاعتراف بالخطيئة ... أنا المجرم الحقيقى .. سيف , أمك سيدة شريفة مخلصة ,كان ما حدث مجرد سوء فهم للأمور التى اختلطت علىّ وهى التزمت الصمت لم تدافع عن نفسها أمام قسوتى وانجرافى لمحاكمتها ,أعترف بأننى أخطأت خطأ شنيعا , لا أدرِ ان كان متاحا لى التكفير عنه.
قاطعته زوجته بصوت حاد وهى مندفعة لتهاجمه بضراوة:
-وكيف أردت منى أن أقبل باهانتك لى ؟ لقد جررتنى من يدى على مرأى ومسمع من جميع الموظفين فى الشركة بذلك اليوم وكأننى مجرمة حقيرة أدينت بالجرم المشهود ,لقد صممت أذنيك عن سماع توسلاتى باذلال مهين ,واذا حاولت أن أخبرك بالحقيقة هل كنت مستعدا لتصديقى وتكذيب الطرف الآخر ,أم أنك كنت لتقف ضدى حتى لا تستسلم بمشاعر الضعف نحوى ,ألم يحذرك والدك من مغبة الرضوخ للحب حتى ولو كانت المرأة زوجتك وأم ولدك ؟
كان عادل مطرق الوجه خجلا من نفسه ومن سوء تصرفه وحكمه المتسرع على الأمور ,ها قد أفسد حياتهم ولوّث سمعة زوجته الناصعة البياض أمام ابنهما ,فيما واصلت منى دفاعها المستميت عن نفسها بقوة امرأة مقهورة قبعت فى مستنقع الذل والخنوع لسنوات طوال:
-لم أكن يوما آثمة يا بنى ,أتسمعنى ؟
-خطأ من هذا ؟ من هو الجانى ؟
تساءل سيف بذهول وانشداه بعد أن تحوّل تفكيره الى محاسبة المخطئ الذى أذاقه الأمرين ,شاعرا بالمرارة والاحباط وهو يجفن وجهه بين كفيه منهارا لا يصدق ما يحدث ,احتقاره لأم لم تجرم ,افتقاره لوجود أب غائب وهو حاضر ,آلام الوحدة تنغزه مجددا ... والتى طعنت بداخله مشاعر التعاطف معهما ,طفت الى السطح مرارات الأعوام الماضية يوما وراء يوم مخلّفة طعما مرا غير مستساغ فاستطرد قائلا بعصبية ملحوظة:
-لا يهم ... حقا لم يعد بوسعى أن أتحمل المزيد ,لقد اكتفيت بهذا القدر ,, فما انكسر لا يمكن اصلاحه ... هل ستكفيك كلمة آسف يا أمى ؟ هل ستعوّضك كفاية ؟هل ستعيد سمعتك المشوّهة بنظرى الى سيرتها الأولى النقية ؟لا ... هذه هى الحقيقة العارية ... لاااااااااااا .
وغادرهما شاعرا بدماء الخجل تحقن وجهه فما جرؤ على أن يرفع بصره فى مواجهة عينى والدته الممتلئتين دموعا ,, دموع القهر والذل ,غير قادر على هبة الغفران .. ولا يتمنى الا هبة النسيان ... لعل الله يمن عليه باحداهما أو كلتاهما.
*************