قررت فريال بعد أن خرجت أميرة متعللة بموعد مقابلتها لصديقة قديمة أن تستجمع شجاعتها لتقوم بأمر ضرورى تأخر كثيرا ,وأسرعت ترتدى ثيابها على عجل وان كانت قد انتقت أفضلهم وتعطّرت جيدا ,ثم هبطت الدرج مسرعة ولم تنتبه الى الصمت المخيّم على المنزل فى مثل هذا التوقيت حيث يكون الجميع مستيقظا وحاضرا ليتشاركوا فى موعد احتساء الشاى المقدّس ,أخذت تتأمل بروية التغيّرات التى طرأت فى الفترة الأخيرة على سلوكهم بلا استثناء ,أكان البيت شعلة من النشاط كخلية نحل ذات يوم ؟ كيف أصبح مقفرا خاليا كبيت تسكنه الأشباح ,أصبحت والدتها متعلقة بالبقاء وحيدة فى غرفتها لا تغادرها الا لماما ,هل يتهيأ لها أن أمها قد أصبحت تميل الى الانطواء على نفسها ,زفرت بحرقة وهى تودّع البيت الساكن فى طريقها الى مكتب مجدى ... لا بد أنه يتواجد فيه بهذا الوقت من النهار ... تتضرع الى الله ألا يكون منشغلا بمرافعة فى المحكمة ,فهى لا تجرؤ على الاتصال به مسبقا قبل أن تلقاه ,لن تتحمل أن يتركها بلا اجابة تتعذب بالانتظار المرير لكلمة تأبى أن تسكن أوجاعها المتقرّحة ,أو يغلق هاتفه بعد أن تسهب فى اتصالاتها العديدة ,عليها أن تفاجئه فلا تررك له فرصة للتهرّب منها كما أصبحت عادته مؤخرا ... لن تتراجع هذه المرة ... سوف تناضل من أجله .
حينما خطت بقدميها عتبة الباب شعرت بالحماس يختفى وشجاعتها الواهية تتلاشى بسرعة مخيفة ,ولكنها أقدمت على هذه الخطوة فلتكمل سعيها الى النهاية , أنه يستحق منها أكثر من هذا بكثير ,رسمت بسمة شاحبة على وجهها وهى تحيي سكرتيرته التى تراها لأول مرة ... وجدتها شابة صغيرة السن ... جميلة تشى ملامحها بالطيبة والهدوء ... ترتدى ملابسا محتشمة بأناقة رائعة ... لا تدرِ لمَ شعرت بقبضة باردة تعتصر قلبها حينما أدلت باسمها اليها حتى تستطيع مقابلة المحامى كانت الفتاة تعاملها بمهنية بحتة وهى تسألها بحيادية:
-ما هى قضيتك يا سيدتى ؟
-أنا أفضّل أن أحادث الأستاذ شخصيا ...
-يمكنك الانتظار قليلا ... فهو مشغول الآن.
انتابتها حالة من العصبية المفاجئة وهى ترى الفتاة تعاملها ببرود فأجابتها باستعلاء:
-لا يمكننى الانتظار , فقط أبلغيه أننى أريد أن أراه لأمر عاجل.
رفعت الفتاة حاجبيها دهشة والمرأة أمامها تواصل القاء أوامرها وكأنها صاحبة الحق بذلك:
-هيا ,اذهبى الآن لتخبريه ... لا وقت لدىّ لاضاعته بهذا الكلام الفارغ.
-سيدتى ... من فضلك ...
قاطعتها صيحة غاضبة من فريال التى استشاطت غضبا:
-أخبرتك أننى لن أنتظر ...
-اهدأى ... أرجوكِ
- ما هذا الصياح ؟ ما الذى يجرى هنا بالضبط يا ندى؟
صوتا رجوليا صارما أخرس الاثنتين اللتين كانتا على أتم استعداد لاكمال هذه المواجهة العارمة ,اندفعت السكرتيرة تدافع عن نفسها ببراءة:
-لا أدرى يا سيدى , هذه السيدة أرادت مقابلتك لأمر ضرورى وقد أخبرتها أنك مشغول فأبت الانتظار وأصرّت على ما تريد.
قبل أن تستدير فريال مقابل ملامح وجهه الغاضبة المحتقنة أحس بها قلبه الخائن فانتفض بين ضلوعه خافقا بقوة ,يستحيل عليه أن ينسَ ولو لمحة منها ... صوتها المرتفع أثار انتباهه وعطرها الذى لفحه بصدمة عاتية أيقظ حواسه الكامنة ,فحين أصبحت أمامه مباشرة تلاقت الأعين بنظرات طويلة صامتة وان كانت معبّرة تماما عما يجيش بداخلهما من انفعالات ومشاعر متأججة ,هى ترجوه باستعطاف ألا يرفضها وهو ... يصارع بين رغبة قلبه وسيطرة عقله ,وحسم أمره سريعا باشارة من يده نحو السكرتيرة ليقول بحزم:
-لا عليك يا ندى ,تفضلى يا سيدة فريال ...
وأشار لها حتى تتقدمه الى مكتبه تاركا الفتاة متخبطة بحيرتها ... كيف عرف اسمها فهى لم تخبره بعد ؟ لا بد أنه يعرفها جيدا ... فتنهدت لا عجب أنها تتعامل بغرور يليق بها ,يبدو عليها الثراء الشديد والأناقة المفرطة ... سيدة ارستقراطية بحق كما كانت تشاهد بعض الممثلات وهن يؤدين هذا الدور, ولكنها تفوقت عليهن جميعا .. يا لها من امرأة جميلة !
سبقته خطواتها المرتبكة وهى تلوم نفسها كيف تجرأت على القدوم الى عرينه بمثل هذه البساطة ؟ وعادت لتشد أزرها مرددة لنفسها قول ابنتها : ان بنات الشرقاوية لا تحنين قامتهن ولا تكسرهن الرياح.
وهى أقوى دليل على صدق هذه المقولة ... حياتها السابقة ومعاناتها وصبرها ... فلتنهِ ما جاءت من أجله ولتتحلَّ بالصبر والأناة حتى تنال مبتغاها ... وهو وحده من ترغب برضاه وحبه.
أغلق الباب باحكام خلفه وهو بتجه خلف مكتبه الأنيق ليجلس بعد أن تأكد من جلوسها أولا ,لا يفوته أدق قواعد اللياقة فى معاملتها حتى وهما متخاصمان ... لا تشكّ بأنه يتصرّف هكذا مع سائر النساء من عملاء مكتبه ,فهو يعد مثالا حيا على الرقى والذوق.
-والآن يا سيدة فريال ... ما هو الأمر الهام الذى لا يمكن تأجيله والذى أثرتِ بسببه كل هذه الضوضاء ,بدون مراعاة لأنك بمكتب محامٍ شهير وعليك اتباعه القواعد المتعارف عليها ,كلى آذان صاغية .. وان كنت سبق وأخبرتك أننى لن أقبل أية قضايا تتعلق بكِ أو بأى فرد آخر من عائلتك.
حديثه الجاف الخالى من أدنى لمحة من التعاطف أو المشاعر ,جعلها تجفل فهى لم تحسب لهذا حسابا , وهل ظنّت أنه لمجرد رؤيتها سوف يتهاوى تحت قدميها ,طالبا الوصال ... أنها واهمة فمجدى هذا غير الشخص الذى طالما عرفته طوال حياتها ....
-أنا لست هنا من أجل أية قضية ..
-ولكنك جئت الى المكتب ,وهنا فقط من اجل مناقشة أمور العمل.
-مجدى , أرجوك فقط اسمعنى ... أعرف أننى قد أخطأت بحقك كثيرا ,وأنك قد تحمّلت منى الكثير ,,,أنا آسفة حقا.
كل كلامها الذى أعدّته جاهدة تبخّر من ذهنها ,نظر لها متكدرا وهو يقول ساخرا:
-هل عذاب الضمير هو الذى أحضرك الىّ ؟ لا تقلقى فلقد نسيت كل شئ.
-مجدى ... أنا لا أنام ... لا أستطيع ..
قاطعها محتدا:
-حسنا يمكنك أن تنامى ملء جفنيك يا سيدتى ... لا شئ يهم.
-مجدى ! أنت تسيئ فهمى متعمدا ,فأنا لا أقصد هذا...
-وماذا عنكِ حينما كنتِ تتعمّدين التهرّب منى واساءة فهم تصرفاتى نحوك ؟
أهذا أمر عادى بالنسبة لكِ ؟
-أخبرتك أننى كنت مشوشة التفكير أشعر بالخوف بسبب الماضى الذى عشته فى آلام وجراح .. لقد عانيت كثيرا.
قهقه ساخرا وقال بأسى:
-ألهذا جعلتنى أتذوق مما عانيته أنت ؟ أسقيتنى المر كؤوسا واحدا تلو الآخر ولم تكتفِ ... تماديت نحو الأسوأ .. أنتِ يا عزيزتى كنتِ تنتقمين من ناجى وأبيك وكل الرجال الذين ظلموك فىّ أنا ,الوحيد الذى كان يحبك باخلاص دون النظر الى مقابل ,فقط كنت أريد أن أرى بسمتك المشرقة فوق وجهك ,أردت أن أجعلك سعيدة ... يا لها من خسارة فادحة كل هذه السنوات التى مضت من عمرى وحيدا .. أنتظر عودتك ...
-كنت تحبنى ؟ أتعنى أنك لم تعد ... هل أصبحت تكرهنى الآن يا مجدى ؟
هز رأسه نافيا وهو يعترف مكرها:
-يا ليتنى استطعت أن أكرهك , صدقيننى لقد حاولت مرارا ... وفشلت.
ازدردت ريقها وقد هالها ما وصلا اليه بسببها فقالت تحاول أن تتمسّك بضوء الأمل الخافت:
-لم يكن ذهنى صافيا حينما اتهمتك ظلما ... كنت أشعر بمرارة الغدر والخيانة , لقد تلاعب بى الجميع من أجل مصالحهم حتى أقرب الناس الىّ ... أبى وأخى كلاهما تصرّف على هواه وتشاركا بحرمانى من ابنتى ... أنها مأساة حقيقية.
-وأنا ؟ ما ذنبى ؟ هل أجرمت بحقك يوما ؟ على العكس كنت دائما الى جوارك أنحاز الى صفك ولم أتخلّ عنك أبدا فماذا كان جزائى !
نهض واقفا بثبات غير حقيقى وهو يعلن انتهاء المقابلة بدون تراجع فقال متصنّعا القوة:
-والآن أتمنى أن تتفهمى أننى بمكان عملى وأنتِ تأخذبن من وقت أشخاص آخرين هم بأمس الحاجة لمساعدتى ...
قامت فريال بدورها وهى تقترب منه فيما هو صامدا وملامح وجهه كجلمود صخر ,وقالت فى شبه رجاء:
-أنا أيضا بحاجتك ,لا يمكننى أن أعيش من دونك ...أنا ...
-لا جدوى من حديثك ,فقد انتهينا يا فريال ,وأنت بكل تأكيد تستطيعين الحياة من دونى فقد فعلتها سابقا وعشتِ خمسة وعشرين عاما بدون وجودى ,والآن لديكِ ابنتك فهذا تعويض كافٍ عن أحداث الماضى ...
لامست بأناملها أصابعه المتكوّرة وهى تستجديه من جديد قائلة بصوت هامس تتضرع اليه:
-مجدى , لقد عرفت الحقيقة التى كانت خافية حتى عنى ... أنا ... أحبك.
تنفّس بعمق محاولا ألا يتأثر بنبرة الاستجداء فى صوتها وانتزع يده من بين أصابعها الحانية فكأنما طرد من الجنة التى لم يهنأ بها الا ثوانٍ معدودة ,وقال مشيحا بوجهه حتى لا ينتابه الضعف أمام عينيها المتوسلتين كدأبه المعتاد قائلا بصرامة:
-أشكرك على مشاعرك هذه يا سيدتى ,أنها لفتة طيبة منك أن تحاولى مواساتى ...
ثم أعاد النظر اليها وهو يشدّد على كلماته محذرا:
-ايّاك والكذب علىّ مرة أخرى يا فريال , فعاقبة فعلتك هذه لن تعجبك أبدا ...
-أنا لا أكذب يا مجدى , أنا أحبك حقا ... بل لقد أحببتك منذ كنت بعمر المراهقة حينما كنت أراك وقتها كصديق لأخى ... تعدّى اعجابى بك كل الخطوط ..
-اخرسى ... كيف تجرؤين على اختلاق مثل هذه الأكاذيب بسهولة ويسر ,أكنتِ تكنين لى المشاعر بوقتها ؟ كيف أمكنك أن تخفيها اذن عنى ؟
-لقد كنت متباعدا وأنا كنت أشعر بالخجل من عواطفى ... وناجى ..
-لا تذكرى اسمه أمامى , هيا اذهبى من هنا ,لا أريد أن اراكِ مجددا , ألا تفهمين ؟
-أنت الذى يكذب الآن على نفسه ,لا يمكنك أن تنسانى ببساطة ... لا يمكن !
-أستطيع وبغمضة عين.
وطرقع بأصبعيه اشارة على انتهاء الأمر,شعرت بكبريائها الجريحة تئن ألما فنظرت له مرة أخيرة بتوسل وهى تملى عينيها من قسمات وجهه المحببة الى قلبها وقالت منتحبة:
-آسفة ان كنت قد عطّلتك عن أشغالك ,وأعدك بألا أزعجك بعد الآن ... وداعا يا مجدى.
ألقت بكلمة النهاية هذه المرة وقد تملّكها اليأس من أن يلين رأسه العنيد ويتراجع عن موقفه المتشدد منها ,وأدركت فريال بأنها قد خسرت المعركة هذه المرة ... بعد أن هزمت بالجولة الاخيرة.
**********