احتجّت هناء بقوة حينما رفض كريم الانصات لها وهو يطوّح بذراعيه فى الهواء ضاربا بكلامها عرض الحائط وهو يصيح منفعلا:
-ما الذى تسعين اليه هذه المرة يا أمى ؟ وماذا تعنين بأن أبتعد عن هديل ؟ ألا تدركين أنها سكرتيرتى الخاصة ؟
حاولت الأم أن تهجئ من غضب ابنها الغير مبرر وهى تلتقط كفه الكبير بين أصابع يدها الضئيلة مقارنة به وتجبره على الالتفات لها قائلة برجاء:
-أتمنى منك هذه المرة أن تسمعنى بقلبك وليس بعقلك ,أنت تعرف كم أحبك يا بنىّ وكم أتمنى أن أراك سعيدا.
-لا أفهمك يا أمى , رجاءا تحرّى الصدق والصراحة فى حديثك معى , ما الذى يجعلك تفكرين بهذه الطريقة ؟
أفلتت يده وهى تجلس على مقربة منه بيهنما غطّت وجهها بكفيها وقالت من بين أنفاسها المتلاحقة:
-أعرف أن علاقتكما فد تجاوزت كافة الخطوط الحمراء بين رئيس وسكرتيرته الخاصة ,أنا لا أشكّك فى أخلاقك يا كريم فأنت ولدى الوحيد الذى أفنيت زهرة شبابى من أجل تربيته وتنشئته حتى صرت رجلا محترما ذا شأن عظيم ,ولكننى لن أسمح لك أن تضعنى بهذا الموقف أبدا , أفهمت ؟
ضرب كريم كفا بكف متعجبا وهو يجلس الى جوارها ويزيح برفق يديها ليتأمل ملامحها المتغضنة وعينيها الدامعتين شاعرا بأسى بالغ من أجلها وسألها محاولا دفعها الى الكلام:
-ما زلت لا أفهم شيئا ,ما علاقة هديل بهذا الحوار ؟ وكيف عرفت أصلا ما يدور بيننا ؟
أسقط فى يد هناء فهى تدرك أن لحظة المواجهة آتية لا ريب فيها ,كانت تأمل فى أن ترجئ هذه الصدمة فلا تريد أن تتسبب بالأذى لوحيدها الغالى على قلبها والذى ضحّت من أجله حتى بسعادتها وكرامتها وما زالت على أتم استعداد لبذل النفيس والغالى من أجله ,وضعت يدها على فمها لتمنعه من الارتجاف وهى تقول بمرارة:
-يجب أن تعرف القصة كاملة منى أنا ,ولكن أرجوك يا حبيبى أن تسمعنى للنهاية بدون أن تقاطعنى ... اتفقنا ؟
ربّت بحنان على شعرها وهو يضمها الى صدره كأنها هى ابنته التى تحتاج الى عطفه لا أمه التى أنشأته صغيرا وساندته شابا ونصحته رجلا وقال بحرارة:
-كلى آذان صاغية لك يا ست الكل ... خذى راحتك بالحديث.
حاولت أن تتمالك نفسها لتقص عليه ما فات وعلى الرغم من أن مرور السنوات الطويلة كان كفيلا بمحو التفاصيل الصغيرة الا أن ذاكرتها استعادت الحدث بأدق تفاصيله وكأنه صار بالأمس فقط ... قالت هناء بصوت مرتجف خائفة من ردة فعل ابنها:
-الأمر يتعلّق بوالد هديل ... صلاح ...
سكتت عن عمد لترى تأثير ذكر اسمه على وجه كريم الذى تقلّص فمه ضيقا وقد شعر بانقباض فى صدره لا يعلم مصدره الا أنه بدا على والدته التردد بشأن مصارحته فلزم الصمت كما وعدها وقد تنبّهت كافة حواسه تحسّبا للقادم ,وأشار لها باصبعه لتستطرد وقد استمدّت بعضا من الشجاعة من حركته البسيطة:
-صلاح ... كان صديقا لنا , أعنى للعائلة ... كان يعرفنى و ... كانت تربطه بأبيك - رحمه الله - صداقة وطيدة ,باختصار كنا نتلاقى كثيرا ... وهذا قبل ارتباطى طبعا ,وحينما تم الزواج ,, ابتعد صلاح عن نطاق العائلة بأكملها ,وانشغل بحاله فأصبحنا لا نراه كما أننى أنجبتك أنت ...
توقفت وعيناها تشعان فخرا واعتزازا حينما تراءت لها ذكريات ولادتها لكريم وكيف أنها طارت فرحا بوجوده حتى وجدى بدا عليه أنه قد امتلك الدنيا بما فيها بعد أن صار أبا ,ولم يبخل على ابنه بأى شئ ,والحق يقال أنه أيضا أغدق عليها بالحب والحنان بدون حساب الا أنها قابلت عواطفه المتأججة بالصد والتمنّع ,استعادت تعقّلها المفقود بعد أن هجرها وجدى الى الأبد ,كانت كمن تلقّى ضربة قوية على رأسه فأفقدتها التوازن كليّا , وعادت لتكمل حديثها بصوت حزين:
-وانقطعت صلتنا به نهائيا ثم .... أنت تعرف تزوّج والدك بأخرى ,وتفاقم الشقاق بينه وبين جدك فقام بحرمانه من المكوث بالمنزل ولم أعد أراه بعد هذا اليوم الذى جمع فيه كل أغراضه ورحل عن البيت الى غير رجعة.
تسللت المرارة الى صوتها فهى لم تتعافَ بعد من قسوة فعلته هذه ,كانت تتمنى لو أعطاها فرصة أخرى للبدء من جديد بدلا من البحث عن الحب فى أحضان امرأة أخرى غيرها حتى ولو كانت زوجة له , أنها ملامة ومدانة بشهادة الجميع حتى نفسها فلا تجرؤ على الكذب أمام ضميرها الحىّ الذى أخذ يحاسبها بقسوة على اهمالها لزوجها ومعاقبته على ذنب لم يأتِ به ,كانت تنتقم من عمها الذى ساومها بدون أن يطرف له جفن فآذت أقرب الناس اليها وسقته من كأس العذاب ألوانا شتى ,فدرات لها الأيام وتجرعّت منه هى الأخرى .
-اذن هذا هو السبب فى أنه قد اعتنى بك فى يوم الحادث واصطحبك الى بيته لأنك زوجة صديقه ... أليس كذلك ؟
تساءل كريم بلهفة ممنيا نفسه بأن يكون هذا هو الدافع الوحيد لما رآه بينهما من انسجام واتفاق ,فارتعش جسد هناء لا اراديا وهى تتقن الكذبة على ابنها حتى لا تصدمه بالحقيقة:
-بالتأكيد هذا هو السبب ... كما أننى أعتبره صديق له معزّة خاصة.
-معزّة خاصة ! لماذا يا أمى ؟
-لا ... لا شئ ,مجرد أنه كان رفيقا لنا فى أيام الصبا , أتعرف أنه كان يودّ عمتك أيضا و ,,,, ومجدى ... المحامى , كنا جميعا أصدقاء.
ارتفع حاجباه دهشة وقد اندفقت المعلومات الجديدة تنحفر بعقله صانعة لوحة مجمّعة بقطعها الصغيرة المتكاملة ,قال وقد شعر بأن أمه لم تفرغ بعد كل ما فى جعبتها:
-ما زلت لا أرى لهذا علاقة بحديثك عن هديل ,هيا يا أمى أريد أن أعرف كافة التفاصيل.
ابتلعت ريقها بصعوبة وقد اقتربت من اللحظة الفاصلة فقالت بتوتر:
-ابتعد عن هديل يا كريم ,فهى ليست من هذا الصنف من الفتيات.
انعقد حاجبا كريم بشدة وهو يشعر بالضيق من تلميحات أمه فيما استطردت هى بتصميم:
-احذر فهى ليست للتسلية ,كما أن صلاح لن يسمح لك بأن تتلاعب بمشاعر ابنته.
-هل هذا ظنك بى يا أمى ؟ هل تعتقدين أننى من الرجال الذين يأخذون هذه الأمور بغرض التسلية ؟ أشكرك جدا على تقديرك لى.
هدر كريم عاصفا وهو يهب واقفا فيما ظلت نظراته مسلطة على وجه أمه التى اضطرت الى أن ترفع وجهها حتى تستطيع مواجهته فقالت نادمة على تسرعها:
-لم أقصد هذا المعنى يا حبيبى ,أنا أعرفك أكثر من نفسك ... ولكن أتنكر أنك تقابلها وتقضى معها وقتا خارج نطاق العمل ؟
أشاح كريم بوجهه هاربا من مراقبة عينى أمه التى لم تغفل عن حركته هذه فهو لا يتوانَ عن النظر اليها الا اذا كان يخفى عنها أمرا جللا ,فنهضت بدورها تقبض على ذقنه بطرف يدها وهى تواصل استجوابها بصوت حازم:
-لم ترد علىّ ,هل أنا مخطئة ؟
لم يفلت هذه المرة من حصار عينيها القوى فتنهد بحرقة وهو يهز رأسه نافيا ليؤكد على ظنها:
-لست مخطئة يا أمى , ولكن ... الأمر ليس كما تتصورين ,فأنا لا أتلاعب بعواطف أية فتاة مهما كانت.
انشرحت ملامح وجهها وهى تربت على ظهره بحنان ورقة قائلة بلهجة الناصح الأمين:
-حسنا ,ولكن احذر فوالدها لن يمرر هذه العلاقة ببساطة ... أنه ماذا أقول ؟ ليس من النوع المتخاذل بحق ابنته ,لن يهدأ حتى يبعدك عنها ... فالأفضل لكليكما أن تأخذا هذا القرار بمحض ارادتكما.
-لا أفهم ... هل تعنين أنه على علم بما يدور بيننا ؟
نظرت له بمكر وهى تقول بمغزى:
-ها قد اعترفت بنفسك ,هناك ما يدور فى الخفاء يا كريم.
-انصتى الىّ .. لم أكن أحاول اخفائه , فقط لمجرد أننا فى بداية العلاقة ... لم أشعر بهذه الأحاسيس من قبل ... كنت أراها يوميا دون أن أفكر بأى شئ سوى أنها سكرتيرتى التى تجتهد بعملها ولا استطيع الاستغناء عن مساعدتها لى ,صدقينى لم تتغير نظرتى لها الا بعد الحادث الذى صار لك ,وكأننى كنت معميّا عنها فرأيتها للمرة الأولى بمنظور مختلف تماما ,هناك دافعا لا أعرف كنهه يجعلنى أسعى لمعرفتها أكثر ...
-هل تعنى أنك تريد التودد اليها ؟
-لا يا ماما , مشاعرى أعمق من مجرد هذا ... وكأنها أميرة أحلامى ...
-أميرة أحلامك ! يا الهى ! كنت أظن أن الأمر لا يتعدى حدود الاعجاب بينكما ... هل تبادلك هديل هذه العواطف ؟
-ليتنى أعرف ,لست متأكدا بعد.
كان صوته يعكس حيرته وانعدام ثقته فعادت لتسأله من جديد بشكل مختلف:
-هل تحبها يا بنى ؟
-أحبها ؟ وما هو الحب ؟ أهى تلك المشاعر التى تتغلل فى أعماقنا لتكبلنا بالشخص الذى نحبه ,واذا كان هذا صحيحا فهل أضمن ألا تتغير هذه الأحاسيس بمرور الزمن ,أنك وأبى أكبر دليل على صدق كلامى ,فحتى هذا الحب الكبير الذى طالما سمعت الجميع يتحدث عنه تغيّر وتحوّل الى فتور وعداوة الى درجة أنه قد آثر أن يقترن بأخرى ؟ فما الذى يدعمنى لأرتبط بأية امرأة بحب أو زواج ؟ ربما تتغير مشاعرها هى الأخرى وتفضّل رجلا آخر.
تأوهت والدته هل يشعر ابنها بالضياع ؟ هل فقد ايمانه بوجود مشاعر الحب السامية بسبب انفصالها عن والده ؟ انه ليس فقط بحاجة الى يد حانية تربت على كتفه بل تؤازره وتأخذه الى بر الأمان ,قالت له على الرغم من آلام جراحها التى تأبى الالتئام:
-اسمعنى يا بنىّ ,ليس الجميع مثلى أنا وأبيك ,نحن نعد حالة منفردة بذاتها ,ربما حان الوقت لأشرح لك ما أخفيته عن الجميع ,انهيار علاقتى بوالدك لم تأتِ من فراغ ولا بين ليلة وضحاها ,ولم يكون هو المذنب الوحيد بالقضية فأنا أشاركه بالاثم ,ربما أحببته بشدة وكان هو فارسا لأحلام أية فتاة ولست أنا فقط ,ولكن الحي وحده لا يكفى لاستمرار العلاقة ,لا بد من وجود التفاهم والاحترام فلا غنى عنهما لانجاح الزواج.
-هل افتقرتما الى الاحترام المتبادل بينكما ؟ هل أهانك أبى ؟
هزت رأسها نفيا بقوة رافضة تحطيم صورة والده المثالية بنظره فقالت متلهفة لازالة سوء الفهم:
-كلا , لم أقصد هذا المعنى الذى توصلت اليه ,الذنب لم يكن من نصيبى هذه المرة ,فهذا خطأ جدك ... كنت أحب وجدى ولكنه هو من أجبرنى على الاقتران به حتى أنال نصيبى من ميراث أبى ,قالها صراحة : اذا أردت التمتع بحقك كاملا فلا بد وأن تصبحى واحدة من أسرتى ,عليك أن تتزوجى بابنى وحينها بصفتك كنّتى ستنالين كل ما تتوق له نفسك .
قال لها كريم بعدم تصديق وهو يردد بعنف:
-أتعنين أن جدى قد ابتزك للحصول على حقك الشرعى ؟
حاولت تهدئة انفعاله وهى تخشى عليه من أثر غضبه الأعمى فقالت بصبر وتأنٍ:
-ليس الأمر كما يبدو , فوالدى أيضا شارك من قبل بايذائنا أنا وأخى ,حينما تخلّى بارادته الحرة عن نصيبه بالميراث لأخيه الأكبر واكتفى بمصروف شهرى يحصل عليه بدون أن يبذل جهدا ,كنت أتعجب كثيرا حينما أعقد مقارنة بينه وبين عمى ,وأتساءل كيف اشتركا بالجينات الوراثية من أب واحد واختلفا كليا فى تكوينهما وتصرفاتهما ,لقد يئس أبى لدرجة أنه بات يطلب الموت كل يوم بعد وفاة أمى ,فزهد فى الحياة بما فيها ومن فيها على حد سواء ,لم يعد شغوفا بما يخصنا أنا وأخى الأصغر وترك أمر تربيتنا لزوجة عمى ... جدتك شريفة ,أننى أعتبرها بمثابة أمى الحقيقية فهى من تولّت رعايتنا ولم تفرّق بيننا وبين ابنائها ,
اذا بقيت بمنزل العائلة هنا فاكراما لها ولأجلك أنت.
-وما ذنب أبى فيما قام به جدى ؟
تساءل كريم وهو مصدوم فأصر على نكأ الجرح من جديد ,وأجابته هناء بتفهم:
-لم يكن مذنبا ولكننى بهذا الوقت كنت صغيرة السن عديمة الخبرة فأسأت التقدير ,نعم أخطأت بحق أبيك وبحق نفسى ,اعتقدت أننى بتدميرى لهذه الزيجة التى أرغمت على اتمامها بأننى أنتقم من عمى ,فى حين أننى انتقمت من شخص لم يجرم بحقى ولم يحاول حتى رد الاساءة ولو مرة واحدة ,كان أبوك نعم الرجال ... لن أعوّض حبه وحنانه مدى الحياة ولكننى أستحق هذا العقاب ... أنا أعترف لك بأننى المسؤولة عما وصل اليه حال زواجى ,وحين عدت الى رشدى كان الأوان قد فات ,تحوّلت مشاعره الى امرأة أخرى ... وجد لديها ما كان يفتقر اليه فى هذا المنزل ... الاستقرار والتفهم والمودة ,ولم أجد مفرا من الاعتراف بالهزيمة ... خسرت حبه وخسرته للأبد.
فى نهاية جملتها أجهشت بالبكاء تنتحب على مصيرها الذى صنعته بيديها ,معترفة بخطئها لعل الله يغفر لها ويتوب عليها ,فيما بقى كريم مذهولا بمكانه لا يعرف كيف يتصرف ويفكر : ما الذى يتعيّن عليه قوله فى هذه اللحظة الحرجة ؟
اندفع نحو أمه بجزء من الثانية ,لم يأخذ وقتا للتعمّق بالتفكير , تكفّلت غريزة البنوة بداخله باتخاذ القرار دون الرجوع الى عقله ,هى بأمس الحاجة لمن يتفهّم موقفها ويساندها بغض النظر عن صواب قرارها من عدمه ,وأخذ يضمها بين ذراعيه القويتين وهو يهدهدها كالطفل الصغير:
-كفى يا أمى ,بالله عليك لا تبكِ ,كفانا آلاما ودموعا , الماضى صفحة وانطوت الى الأبد ,وما نفع الندم بهذا الوقت ؟
-أيعنى هذا أنك لست ناقما علىّ يا كريم ؟ ألا تلومنى لحرمانك من حضن أبيك بينما كنت فى أشد الحاجة له ؟
-ومن أنا حتى أقف هنا لأنصب لك محاكمة ؟ أنت لست مجرد أم بالنسبة لى , أنتِ أمى وأبى والشخص الوحيد الذى يعنينى بهذه الحياة ,أتنفس عطرك وأحيا ببسمتك ... لا أريد للبسمة أن تفارق شفتيك بعد الآن ,ولا أريد أن نفتح صندوق الذكريات هذا مجددا ,فلينحصر تفكيرنا فى الحاضر فقط ,ولنخطط للمستقبل دون أن ننظر الى الخلف.
-هل يمكننا حقا أن نترك الماضى دون أن يلاحقنا ؟
اغتصب كريم بسمة على وجهه وقال مكرها:
-وماذا نملك سوى أن نحاول يا أمى ,لن يعيد العتاب ما دوّن فى الكتاب.
أشرق وجهها أملا وبهجة وقد هالها الأمر ... شبّ ولدها الوحيد وصار رجلا حكيما يٌعتمد عليه ,أنها تستند الى كتفه الآن دونما الآخرين ,وكانت هذه هى مكافأة صبرها ... وتضحيتها بسنوات عمرها ...
-فلنعد اذن لموضوعنا السابق يا كريم , ماذا تنوى بشأن هديل ؟
بدت ملامحه غامضة دون أن يأتى بأدنى خلجة تدل على ما يدور بذهنه ,وقال بثقة بالغة:
-لا تشغلى بالك بهذا الأمر ,فأنا لم أعد صغيرا وأستطيع تولّى أمر نفسى.
-لست قلقة بشأنك أنت يا حبيبى ,ولكن الفتاة ... أنها ابنة صلاح ولن أسمح لك باستغلال براءتها ...
-اطمئنى فلا أتمنى لها سوى الخير ,ولكن أخبرينى كيف عرفت بأمرنا ؟
تهرّبت هناء من نظرات عينيه المدققة وأطرقت برأسها تتأمل الأرض من تحتهما وأخيرا قالت معترفة:
-صلاح ... يعرف بأمركما وهو من فاتحنى بهذا الأمر.
-هل تعنين بأنك قد قابلتى هذا الرجل ؟ ماما واجهينى بالله عليك ,لا تتركيننى أتخبّط بحيرتى.
صاحت به منفعلة:
-نعم يا كريم , لقد رأيت صلاح وتحدثت اليه ...
-ماما ... لا أصدّق أنك فعلت هذا ...
-وما الذى فعلته ؟ لقد تقابلنا بمكان عام على مرأى ومسمع من الجميع ,كان قلقا على ابنته من جراء تصرفاتك الطائشة ...
قال لها مستهزئا:
-وهل كان يشكونى اليكِ ؟ كتلميذ صغير يتم استدعاء ولىّ أمره ...
أجابته معنّفة وهى تجذبه من ذراعه ليقف أمامها:
-نعم ألست أنا أمك ؟ وهل تظن لأنك قد أصبحت رجلا ألا أوجهك للصواب حينما أراك تقدم على الخطأ ؟
-ليس هذا هو لب الموضوع ,أننى لا أرتاح لهذه المسألة ... كيف تذهبين لمقابلة رجل غريب عنك ودون أن تعلمينى بالأمر ؟ وماذا لو رآك أحد من معارفنا وأخبر العائلة ؟
-لقد سبق وأخبرتك بما كان من لقائنا وأنا لا أخجل من تصرفاتى ومستعدة لمواجهة الجميع بمن فيهم العائلة الكريمة ,ثم اذا كنت معنيّا هكذا بأمرى وأنا على لقاء مع صديق قديم وأعرف تماما حدود اللياقة الأصول المتعارف عليها فماذا بخصوص تصرفك المتهور بمقابلة ابنته ومن وراء ظهره ؟ لقد أخبرنى بأنها أصبحت تتفنن فى اصطناع الكذبة تلو الأخرى بعد أن كانت مثالا يحتذى به فى الصدق والاستقامة ,وكل هذا بسببك أنت ,,, أنه لن يتوانَ عن الدفاع عن ابنته بشتى الطرق ,فالأفضل لكما أن تكفّا عن هذه اللقاءات فلن أسمح لا أنا ولا هو بأن يتطوّر الأمر عن هذا الحد ... أفهمت ؟
ضحك بأسى وهو يتشدق ساخرا:
-ولماذا تقفان فى طريق سعادتنا اذا اخترنا أنا وهى العكس ؟
-ماذا تقصد ؟
-أقصد يا أمى ما فهمته للتو وتصرّين على انكاره , ما العيب اذا أردت الزواج بها ؟
-لاااااااااا !
قالتها صائحة بعلو صوتها وهى مهتاجة لدرجة أنها قد ارتمت على أقرب مقعد لها بانهيار تام وشهقاتها تتلاحق فاضحة توترها الذى تفاقم الى درجة مزعجة فأخذ كريم يواجهها بنفاد صبر وهو يسألها بمرارة:
-ولمَ لا ؟
احتقن وجهها احمرارا وهى تقول بصوت تخنقه العبرات :
-لأن ... لأننى لن أسمح لك بأن تنبش الماضى حيث دفن وانتهى أمره , لن ترتبط عائلة الشرقاوى بعائلة السنهورى بأية صلات نسب ...لا يمكن.
لم تأخذه رأفة بحالها المزرى ولم يرحم ضعفها الواضح فواصل ضغطه على أعصابها بعنف صائحا:
-وما دخل الماضى بنا ؟ تكلمى يا أمى .... أخبرينى بالحقيقة ...
-حسنا أنت أردتها فلك ما تشاء ,لن يوافق صلاح على ارتباطك بابنته أبدا...
-لماذا ؟ ألم تقولى بأنه كان صديقا لأبى ؟ ألم تقولى بأنكما على معرفة سابقة ؟ لماذا يرفضنى صلاح زوجا لابنته ؟
-لأنك ابننا أنا ووجدى ,هذا هو السبب ... كيف يتحمّل أن تقترن ابنته بابنى ؟
ارتجف صوته وهو يسألها هذه المرة بخفوت:
-ما الذى يدفعه لرفض هذه الزيجة ؟ ماذا تخفين عنى أيضا ؟ هل لكِ علاقة برفضه ؟
-نعم يا بنى ,كان صلاح يحمل لى بعضا من المشاعر ... حينما كنا ...
لم تقدر على مواصلة اعترافها , فكيف تخبر ابنها وهو يفوقها طولا وحجما أنها كانت محبوبة من رجل آخر غير والده حتى ولو كان هذا قبل زواجها منه ,فغر كريم فاه بذهول وهو يقول بصوت كالفحيح مهددا:
-أكملى يا ... أمى العزيزة ... رجاءا لا تخجلى من قولها صراحة ... كان صلاح يحبك , أليس كذلك ؟
أشاحت بوجهها بعيدا وهى لا تجد بدا من الاعتراف وان كانت تعلم جيدا الثمن الذى ستدفعه غاليا جراء ظهور الحقيقة التى ينشدها ابنها فقالت ببطء:
-كان يود الارتباط بى ولكننى رفضت.
-وهل كان أبى على علم بهذا , أم أنك قد أخفيتِ الأمر عنه ؟
-أنك تقلب الحقائق .. تجعل الأمر يبدو كما لو أننى قد تلاعبت بأبيك.
تمسّك كريم باصرار على اتهامها بأقذع التهم وهو يقول متنمرا:
-ألم تفعلى هذا متعمدة ؟ هل كنت السبب فى الوقيعة بين الصديقين ؟ أم أنك قد فضلّت أن تختارى أبى حتى تحصلى على الثروة التى تكفل لكِ البقاء فى هذا النعيم ؟
وأشار بيديه الى ما يحيط بهما من مظاهر الثراء الفاحش ثم أكمل طعنه القاتل بلهجة مزدرية:
-ولكن أخبرينى من منهما كنتِ تحبينه ؟ أو بطريقة أخرى من كنت تفضلينه حقا زوجا لكِ ؟
-اخرس ! لا تحادثنى بهذه الطريقة الوقحة فأنا والدتك.
ورفعت سبابتها محذرة فى وجهه بعد أن شعرت بالمهانة من اتهامه لها , بدا عليه أنه لم يسمعها فأخذ يدور حولها كالصيّاد الذى يتحيّن الفرصة من أجل قنص فريسته الحبيسة وقال بشماتة:
-يبدو أن أبى قد عرف بالحقيقة أليس كذلك ؟ ألهذا السبب قرر الارتباط بامرأة أخرى مخلصة ؟
هوت صفعتها على وجهه بقوة ,فأخذ ينظر لها بذهول ثابتا بمكانه لا يتزحزح وهى تهتف به غير مصدقة:
-اخرس ! لا أريد أن اسمع صوتك , يا ليتنى ما أنجبتك ويا ليتنى ما عشت لهذا اليوم ,لكم أتمنى لو مت واندفنت قبل أن أراك تتهمنى بعدم الوفاء ... أتصدق عن أمك شئ كهذا ؟
بينما أصابعه تتلمس وجنته المشتعلة بفعل ضربتها قال متخاذلا:
-لقد اعترفت أنت بالحقيقة ... كان صلاح هذا يرغب بكِ وقد نال أبى ما كان يسعى اليه ,فما هو موقفك أنت من كل هذا ؟
كانت هناء ما تزال مصدومة مما قاله ابنها ومما فعلته هى فأخذت ترغى وتزبد:
-ما هى الحقيقة , أتريد أن تعرفها ؟ حسنا يا بطل اليك ما حدث وعلى لسانى أنا الوحيدة التى تملك كافة الاجوبة عن أسئلتك ... نعم لو عاد بى الزمن الى الوراء ما كنت رفضت صلاح ... كنت رضيت بالزواج منه ,على الأقل كنت سأعيش فى هدوء وراحة بال ,لم أكن لأعانى وأتعذب كما كان حالى فى هذا البيت , أتراه النعيم كما تتخيّل ؟ لا والله كان أشبه بالجحيم ,مجرد سجن بلا قضبان ,روحى حبيسة جوانبه مقيّدة بأغلال من حرير ,رضيت بالذل والهوان ونظرات الشفقة والحسرة على حالى ,مجرد امرأة منبوذة وحيدة هجرها زوجها من أجل واحدة أخرى أصغر سنا و... أنا التى عرّفته عليها ,كنت همزة الوصل بينهما دون أن أدرى ,بيدى سلمته اليها دون أن أنتبه لما يدور فى السر ,حتى فاجأنى ذات يوم بزواجه منها ... لم يدرِ ماذا صنع بى وهو يخيّرنى ببرود ما بين الموافقة على الجمع بينى وبينها أو تسريحى باحسان , هه وأى احسان هذا ؟ لم أعد أشكّل فارقا فى حياته مجرد خيال باهت لأننى والدة ابنه ,وابنة عمه قبل أن أكون زوجته وحبيبته السابقة ,هل تعرف كيف ذبحنى بنصل سكين بارد ؟ نعم يا كريم ,لو عاد بى الزمن للوراء ما تزوجت بأبيك ,ومستعدة لأكررها للمرة العاشرة ... حياتى مع صلاح كانت لتصبح مختلفة عما أنا فيه ,على الأقل كنت سأحيا بروحى ولو كانت مجرد عيشة بسيطة بدون هذه الرفاهية التى تمنّ بها علىّ ,ما فائدة المال بلا آمال ؟
-يا لقسوة الحياة ّ! لماذا تصر بعناد على تحطيم كل الذكريات الحلوة المتبقية ؟ اذن فلكِ ما أردتِ فى السابق ... لقد مات الرجل الذى كان يمثّل عقبة بينكما , هيا اذهبى لتتزوجيه , هيا يا أمى , افعلى ما شئتِ ... فلم يعد مهما أبدا ...
قالها وابتعد مهرولا دون أن يلتفت الى صياح المرأة خلفه وهى تحاول اللحاق به :
-لاااا كريم , انتظر يا بنىّ , لم أقص عليك ما حدث حتى أصبح قادرة على الزواج به ... كريم , كريم , أنت كل ما يهمنى ... كريم.
وتعثّرت بحافة البساط السميك الذى يغطّى الرواق فسقطت والتوى كاحلها تحت ثقل جسدها , صرخت من شدة ألمها النفسى قبل الجسمانى ,وقد توارى طيف ابنها تماما بعد أن طوى درجات السلم مسرعا وسمعت بوضوح صوت باب الفيلا وهو يرتطم بقوة محدثا رجة واضحة وصوتا مجلجلا.
-ماذا هناك ؟ هنااء ... ما الذى حدث لكِ ؟
كان صوت عادل يتناهى الى أذنيها قبل أن يتثاقل جفنيها بفعل الدوار الذى اصابها وهى تحاول أن تصارع غيبوبتها بصوت متألم خافت:
-كريم ... الحق به أرجوك , لا .... تتركه.
-منى , منى , تعالى فورا.
نادى على زوجته بصوت مرتفع وهو يقوم بمحاولة لافاقة زوجة أخيه وهو يربت بخفة على خديها بدون فائدة فقد غابت بظلام سحيق ,ولحقت منى بزوجها وهى تشهق مصدومة مما تراه فصاحت بدورها:
-ماذا حلّ بهناء ؟ ولماذا كانت تصرخ باسم كريم ؟
- ليس هذا وقت الاسئلة ,هيا يا منى تعالى ساعدينى لنحملها الى غرفتها , يبدو أنها قد سقطت وغابت عن الوعى.
أطاعته زوجته بدون نقاش وقد راعها شحوب وجه هناء وأسرعت نحو قدمها تحاول تعديل وضعها حتى لا تصاب بكسور بليغة ,وقامت بمساعدة عادل حتى يحملها بين ذراعيه بسهولة , وكان على تقدّم عمره قويا ذا جسد عضلىّ فهو ما زال محتفظا بلياقة الشباب , وقد سارت ورائه زوجته تدعو الله أن يسترهم ويفرّج كروبهم.
************