بدأت العلاقة المتجمدة بينهما فى التغير بصورة وئيدة للأفضل ولو قليلا بعد مصارحتها له بحقيقة الأمر الذى أثار بنفسه الشكوك التى لا ترحم منذ سنوات طويلة ,وعكّر صفو حياتهما بل وامتد ليشمل تدمير حياة ابنهما الوحيد ,عليهما أن يستعيدا التوازن المختلّ فى حياتهما الأسرية قبل فوات الأوان ,ليحاولا معا مد جذور الثقة مجددا ليعيد سيف الى أحضانهما مرة أخرى ,هل سينجحان أم لا ؟ كانت منى أكثر من راغبة باصلاح ذات البين فقد تضررت كثيرا من جراء عنادها ,وعادل ... ماذا عنه ؟ أيعقل أنه كان صادقا معها حينما أخبرها بأنه هو الآخر يتمنى لو تعود المياه الى مجاريها ؟ أما زال يكن لها عاطفة أو حتى بقايا منها بعد كل مت حدث بينهما ؟ لقد أضفت الأحقاد والضغائن جفاءا ظاهرا فى تعاملهما البارد بينما الرماد يشتعل نارا من جديد ... تاقت روحها الى ملامسته ومعانقته كما كانا فى السابق ,هل تجازف بأن تبادر هى بالخطوة الأولى ؟ أخبرت نفسها ولمَ لا ؟ أنها على أتم استعداد لأن تدفع ما تبقى من عمرها حتى تنال نظرة واحدة من عينيه العاشقتين لها بجنون ,لو فقط لم يتدخل حماها بطريقة متلاعبة ليدفعها نحو الخطأ ... لما آلت حياتها الى هنا ,منبوذة من زوجها ومرفوضة من ابنها.
ابنها سيف الذى تغيّر كليا فى هذه الفترة القصيرة ,لم يعد نفس الشخص الذى تعرفه كظهر يديها ... تبدّلت أحواله الى النقيض تماما ,أصبح يهوى الخروج كثيرا ,ويمكث بالخارج ساعات طويلة لا تدرى أين يقضيها فهو كان معتادا على مرافقة أبناء عمومته أينما ذهبوا ,والحق يقال ... لم يكن سيف وحده الذى ذاق من هذه الكأس , أن أحوال الجميع انقلبت رأسا على عقب ... رفيق صار متباعدا بأميرته التى لم يعد خافيا على أحد أنهما صارا يتشاركان ذات الغرفة على الرغم من الاعتراض الواهن الذى أطلقته فريال بحجة انتظار العقد الجديد ,فقد أقنعها ابن أخيها بأن ابنتها زوجته شرعا ولا يجوز لها أن تفرقهما عن بعضهما ,أخيرا استسلمت لارادتهما ... أنها تراها طوال الوقت تجلس شاردة وحيدة حتى وهى وسط الآخرين ,نظراتها زائغة كمن تبحث عن شئ ما أو شخص ما ,وكريم ... هو الآخر زاد تغيبه عن المنزل بصورة مكثفة حتى أمه هناء صارت تتحضر بين الحين والآخر لقضاء الوقت بعيدا عن المنزل دون أن تهتم باعلام أيا منهم عن وجهتها ,وريم ... الفتاة المتعقلة المتزنة التى لم تكن تغادر المنزل الا لماماً ,كانت تأمل بأن تتزوج واحدا من اثنين سيف أو كريم ولكن يبدو عليها أن لها خططا خاصة بمستقبلها فقد أعلنت فجأة أنها تبحث عن فرصة عمل وقد بررت بهذا خروجها المستمر يوما بعد يوم ,فبعد خلافها الحاد مع رفيق بخصوص مسألة العمل بشركة العائلة أغلقت هذا الموضوع نهائيا ولم تعد تلمح له ولو من بعيد ,وحماتها السيدة شريفة .. لجأت الى مخدعها تجلس طوال النهار تائهة بعالم آخر ,ربما تستعيد ذكريات شبابها الهاربة ... وربما بدأت تستشعر أنه لا أهمية لوجودها بحياة أبنائها وأحفادها , فكل مشغول بحاله الخاص .
ترى ما الذى يدور فى حياتهم ؟ وكيف وصلوا لهذا الحال المرير ؟
لا تنكر أنها كانت تتسلّى بمناوشاتها مع هناء التى كانت تنتهى دوما بانتصارها عليها بعد أن تصل الى استفزازها بصورة مقيتة ,أصحيح أنها تفتقدها الى هذه الدرجة ؟ وتذكرت القول المأثور ( أن القط يحب خنّاقه ),هل تبادلها هناء هذا الشعور أم أنها تكن لها العداء والكراهية ؟ لا تملك أن تلومها اذا فعلت ,فهى كانت أبشع مثال للقسوة والأنانية المجردة من أية رحمة حينما اعترفت لحماها بزواج ابنته السرى دون علمه ,لم تدرِ أنها بهذا التصرف تؤذيها بدلا من أن تنقذها من براثن هذا الوحش الناعم الذى تسلل خفية ليلتف حولها مدمرا حياتها ,هى أدرى واحدة بأن فريال كانت واقعة تحت تأثير مخدر للمشاعر ,لم تقوَ على مقاومته وربما هى من سعت بقدميها نحو حتفها , كالهاربة من نار تلاحقها ألقت بنفسها فى الجحيم المستعر ,فى البداية تسترت على علاقتها بابن عمها ناجى كانت هى موضع سرها وائتمانها , وحينما فاجأتها بأنها قد تزوجت منه ولن تعود مجددا الى منزل العائلة أقسمت لها بالكتمان ,وعبثا حاولت أن تجادلها بشأن استقرارها فى منزل زوجها بعيدا عن العائلة فقد طالبتها مرارا أن تعود وتحاول اقناع والدها حتى لا يغضب عليها ,بيد أنها كانت متشددة فى انفعالها وأخبرتها حاقدة ( أنه لن يتزحزح قيد أنملة عن موقفه الرافض من اقترانها بناجى ) ,فاستسلمت منى وقد يئست من اقتناعها بالمنطق السليم فى هذا الوقت ,لقد غلبتها فورة الحب الذى أغرقها به ناجى بحديثه المعسول ومحاولاته للتصرف كرجل مهذب ابهر الشابة الصغيرة فى مقتبل عمرها والتى كانت تفتقر الى الخبرة الكافية لتفرّق بين الذهب النفيس والمعدن الرخيص ,هل كانت منى الوحيدة التى لاحظت اهتمام مجدى الواضح بفريال فى ذلك الحين كانت نظراته تلاحقها أينما ذهبت ,تراه يتلعثم فقط فى حوراه معها ,لماذا يا فريال تخليت عن هذا الحب الصادق البرئ ؟ لترمى بنفسك فى أتون الكذب والخداع ؟
لن تغفر لها فريال هذه الوشاية التى كانت بقصد الخير ,الجميع بمن فيهم عادل زوجها يعتقد أنها تحب اثارة الفتن والوقيعة بين أفراد العائلة الواحدة ,لا يعلم أنها تقدّر الجو الأسرى وتقدّس صلة الرحم ,هل يتذكر كيف كان مقدار سعادتها حينما أعلمها بعد شهور قليلة من زواجهما أنهما بصدد الانتقال الى فيلا العائلة ,انشرح صدرها أول ما وقع نظرها على حماتها .. تلك السيدة الفاتنة الأنيقة التى استقبلتها بترحاب بالغ وكأنها ابنة غائبة ,وقبّلتها هناء بحرارة وهى تحتضنها بقوة مؤكدة على قوة الصلة التى سوف تجمعهما مع الأيام ,ناهيك عن مؤازرة فريال لهما ومساندتها لاعلان هذا الزواج ,باختصار ضمتها نساء العائلة الى كنف الأسرة ولم يقض مضجعها وينقص من راحة بالها الا نظرات حماها الباردة تجاهها ,ببساطة تعمّد أن يقلل من شأنها بألا يوجه لها أى كلمة ,وظل على هذا الحال حتى أنجبت صبيا جميلا اعتقدت معه أن قلبه سيرق لها بعد أن أمّنت لعادل وريثا ,ولكن هيهات أن ينخ الجبل ... لم يسامحها طيلة عمره على خطيئتها من وجهة نظره ... استولت على لب ابنه الأصغر ... المدلل ... وكانت تمثّل له أسوأ ما يمكن أن يتجسّد بامرأة ... لأنها كانت تعمل لديهم كسكرتيرة ... تلك الفئة التى يحتقرها الى النخاع ... ولم تعرف حتى مماته ما السر وراء هذه الكراهية العمياء لها ؟
فجأة رفعت رأسها عاليا وقالت بصوت متقطع من البكاء:
-سامحك الله يا حماى ,وغفر لك ,لقد دمرتنى وحطّمت حياتى وزرعت بذور الشك بينى وبين زوجى بدون ذنب حقيقى جنيته سوى أننى وقعت فى حب ابنك وأردت أن أكون زوجة له وأما لأبنائه ,كنت أناشد أن نحيا جميعا سعداء بسلام.
تناهى الى مسامع زوجها نشيج بكائها المتزايد وسط ابتهالاتها الى الله ,كانت فى حالة صدق تام فهى وحيدة تناجى ربها ,أكان ظلمه لها بهذه القسوة محض صدفة أم هو مخطط مسبق من والده حتى يباعد بينهما لينتقم منها , وليته ما فعل هذا فانتقامه طاله هو شخصيا ومسّ سيف أيضاً.
تحركت رغبته ليخفف عنها بعضا من حزنها المتنامى ,فقد كان صوت نهنهاتها يقطع نياط قلبه يحرقه بسياط من لهيب ,أيمكن لهما أن يبدآ من جديد ؟
كانت منى جاثية على ركبتيها على الأرض تستند بمرفقيها على المقعد المخملى الوثير فيما تدفن رأسها بينهما ,اقتربت خطوات عادل منها دون أن تشعر به فصوت حذائه امتصه البساط السميك الذى يحتل الغرفة بأكملها ,وجدت من يفترش الأرض الى جوارها يحتضنها من الخلف وهو يربت على شعرها بحنان بالغ ,ارتعش جسدها بانتفاضة فقد أيقظها هذا الشعور الذى ظنت أنه قد ولّى الى الأبد ,هناك من يساندها ويقف بجانبها فى وقت محنتها ,ومن غيره ؟ أيمكن لها أن تنسَ دفء أحضانه ؟ أيمكن لها أن تتوه عن لمساته المميزة ؟ أيمكن لها أن تغفل رائحة أنفاسه العطرة ؟
-عادل ... أنت هنا.
شدد من ضمه لجسدها الهش بين ذراعيه القويتين لتستكين الى جوار نبضات قلبه الصارخة بعشق لا يمكن أن يموت ,وهو يهمس لها مؤكدا:
-ومن غيرى ؟ أنا هنا الى جانبك ,ولن أتخلّى عنك مرة أخرى.
شهقت بخوف وقالت:
-أتعدنى ؟
مسحت راحته على وجنتها برفق وهو يرسم ملامحها المحببة الى نفسه بطرف أنامله ليحدد كل معلم انحفر بذاكرته منذ لقائهما الأول وأخذ يقبّل يدها قبلات خفيفة متتالية :
-هذا قسم ,لن أعيد تكرار خطأى بحقك , كان علىّ أن أثق بك أكثر.
عانقت ذراعاها مؤخرة عنقه وهى تقول بوعد:
-وأنا لن أخفى عنك أى شئ مرة أخرى مهما كان ,لقد أخطأ كلانا.
وهكذا كان اعترافهما بالخطأ المشترك بداية جديدة لعلاقة كاد أن يجعلها الشك والحقد تذبل نهائيا ... وبقى فقط أمر اقناع سيف ابنهما بتجديد ثقته بهما وأنهما جديران بفرصة أخيرة لوصل حبل الوداد المقطوع.
*****************