عاد رفيق مرهقا منهك القوى من مشواره الخاص الذى رفض أن يخبر أى فرد من العائلة حتى زوجته ,على الرغم من أنها هى الوحيدة التى يعنيها الأمر والتى يخصّها بأسراره دونا عن الجميع ,ولكنه وجد البيت هادئا ساكنا بلا حركة ولا صوت ,قطّب حاجبيه مفكّرا وهو يتساءل أين ذهب الجميع ؟ تغيّرت عادات كل قاطنى المنزل ,وتحوّلت لمتهم وتجمعهم الى تفرق وتشتت بينما كان من المفترض أن يترابطوا أكثر بعد انكشاف الحقائق كاملة وعودة أميرة الى حضن أمها والى ... حضنه , هز رأسه نفيا وهو يؤكد على أنها لم تعد بعد الى مكانها بين ذراعيه ,لقد نفد صبره هذه المرة فمشاعره تشتعل نارا حينما بشعر بقربها منه ,بمجرد تواجدها فى نفس المكان تتلاعب به الأفكار والظنون مشيرة الى الرابط الخفىّ الذى يقيّد مصيريهما سويا ,يتمنى لو يستطيع أن يلقى بكل أعبائه وراء ظهره ليتفرّغ لحبيبته الغائبة التى عادت مجددا اليه ,أبعد كل هذا العناء والسنوات الطوال التى انقضت وهو بمنفى بعيدا عنها يظل محروما من متعة اللقاء ,يحاول كبح جماح أحاسيسه المتقدة بحبها ... ما زالت الظروف التى تمنعهما عن ممارسة أبسط حقوقهما قائمة الى الآن.
تنهّد بحرقة وهو يحلّ أزرار قميصه بحركة مضجرة فيما يصعد الدرج نحو غرفته التى تشهد على وحدته ليلا ,الى متى تجرفهما هذه الدوامة اللعينة ,, دوامة الماضى الذى لا يكف عن ملاحقتهما ,عمته فريال تصر باستماتة على التمسّك بالفتوى الشرعية التى قضت بامكانية عقد قران جديد باسم زوجته الجديد وهويتها الحالية كابنة لناجى الشرقاوى ,لماذا لا تنظر الى الجانب الآخر فالشيخ الجليل أباح له حرية التمتع بكافة الحقوق التى يكفلها له الشرع على اعتبار أنها زوجته اعتمادا على العقد القديم ,فالزواج صحيح ما دام قد استوفى شروطه وأركانه ، ولا أثر لتغيير الاسم على صحته.
أصبحت عمته تتدّخل بصورة مجحفة فى أى حوار بينهما لا تترك له فرصة للانفراد بابنتها الى أن ضاق به الحال ,أيعقل أن يعيش هو وزوجته تحت سقف بيت واحد وكلا منهما ينام بغرفة منفصلة ؟أى شخص يملك ذرة من التفكير السليم لم يكن ليمنعه من مشاركته لحياتها بكل حذافيرها.
توقّف قليلا أمام باب غرفتها يتلصص علّه يسمع شيئا ليرى ان كانت مستيقظة وحينما رأى الظلام يتسلل دون أى أثر لاضاءة المصبح شتم فى سره ,لأنها تغفو هانئة البال غير شاعرة بالجحيم الذى يتقلّب فيه ,فهى لا تمانع فى الاستجابة لرغبات أمها التى تدس أنفها فيما لا يعنيها ,لهذا فهو لا يفضّل زواج الأقارب ,أنها لعنة أبدية عليه فعمته هى حماته وقد بان تسلّطها وجبروتها الذى تمارسه بحرية غير عابئة بما يريده.
اندفع نحو غرفته التى كانت غارقة فى ظلام دامس ,لم يجد داعيا لاضاءة زر المصباح فهو يحفظ تفاصيل الغرفة جيدا وعليه أن يأخذ دشا باردا ليهدئ من فورة أعصابه ,توجه نحو الحمام الملحق بالغرفة بعد أن خلع قميصه وبنطاله وألقاهما باهمال ,ترك قطرات الماء المنعشة تنساب فوق جسده الخائر القوى وأخذ يفرك فروة رأسه بعنف حتى شعر بالدماء تندفع اليها لتعطيه احساسا بالاسترخاء هو فى امس الحاجة اليه ,أغلق صنبور المياه وخرج يلف جسده بمنشفة صغيرة بعد أن مشّط شعره الأسود بعناية ,لم يكن بحاجة الى تجفيفه فالجو يميل الى الحرارة ,لم يشعر بميل الى تشغيل مكيف الهواء ولكنه عاد ليشعر بضيق من مجرى أفكاره الذى تسلل رغما عنه الى حبيبته التى تغطّ بنوم عميق فى غرفتها غافلة عن غضبه المتأجج ,فضغط على زر الجهاز ليعمل بأعلى كفاءته وقد أزاح منشفته بعيدا وارتمى على سريره الموحش ليحاول الشرود بعيدا عما يشغله لينال قسطا من النوم الذى يجافيه كل ليلة.
فى البداية لم ينتبه للجسد الطرىّ الذى لامسه بطرف أصبعه حينما أمسك بالوسادة الصغيرة ليضعها تحت رأسه ثم تناهى الى أذنيه صوت تنفس منتظم ,فتحفزّت عضلات جسده القوية وشعر بنفسه يتردد منقطعا من شدة الاثارة حينما أعاد يده للموضع السابق فتأكد من الحقيقة التى ظنها وهما ... هناك من يرقد بسريره ,أو على وجه الدقة هناك من ترقد الى جانبه ,فتباطأت أنامله حول خصرها متسللا ببطء مثير الى الأعلى حتى اصطدم برأسها الصغير وتلاعب بالخصلات الناعمة ,كان يشتم عطرا نفاذا يعشق رائحته التى تشى بزهور الياسمين ,كيف لم يستوعب لدى دخوله وجودها الطاغى بغرفته , هى معذبته وفتاة أحلامه البعيدة ... أنها نائمة بسريره على قيد سنتيمترات قليلة من جسده المتصلب ,ماذا تظن نفسها فاعلة هذه الحمقاء الصغيرة ؟ ليعينه الله على ما ينوى فعله ,احتاج أن يبذل جهدا خارقا ليوقظها بأقصى درجة من اللطف استطاع أن يتعمّدها .
-أميرة ,,, أميرة ... استيقظى.
وأخذ يهزّها برفق محاولا ألا يفزعها فما كان منها الا أن شهقت رعبا وهى تقول مرتجفة:
-ماذا هناك ؟ من ؟
-اهدأى أنه أنا رفيق ... حبيبتى ما الذى جاء بك الى غرفتى ؟
-رفيق , لقد تأخرت فشعرت بالقلق عليك ... قلت لنفسى أنتظرك بالغرفة لأننى أرغب بمحادثتك ضروريا , يبدو أن النعاس قد غلبنى.
كانت عيناه قد بدأت تعاد على الظلام رويدا رويدا فلمح أصابعها تتسلل لتضئ المصباح الجانبى ( الأباجورة ) ,كان تصرفه اسرع منها بكثير فقبض على رسغها بخشونة يمنعها صائحا:
-كلا.
انتفضت متأثرة من حركته العنيفة الغير مبررة وهى تسأله بصوت لائم:
-لماذا لا تريدنى أن أضيئه ؟
تسلل صوته خشنا بفعل الشوق البالغ الذى تمكّن منه:
-عليكِ أن تغادرى الغرفة حالا , هيا اذهبى الى غرفتك.
استدارت لتواجهه فى الظلام وكيانها كله يرتجف بفعل العاطفة المتسللة بجرأة تنهشها لتجيبه بصوت متهدج:
-لماذا تبعدنى عنك ؟ كل ما أردته أن أتحدث اليك , على الاقل اتركنى أنام الى جوارك ,وأعدك بأننى لن أزعجك.
أفلتها من قبضته وهو يحك ذقنه بقوة منفعلا يحاور نفسه :
-هذه المجنونة تظن نفسها بأمان تام معى ,هل تظن أننى صنعت من حجر ؟
-انصتى جيدا يا أميرة ,عليكِ بالذهاب قبل أن أقدم على فعل سوف نندم عليه غدا.
-وأنا لن اذهب قبل ان أفهم ما الذى يجعلك ترغب فى اقصائى عنك , ولماذا لا تريدينى أن أبقى معك.
شعرت به يقترب منها محيطا خصرها بيد واحدة فيما يده الأخرى تمتد لتعبث بشعرها مشيعة بنفسها الظمأ للارتواء بما حُرما منه طويلا فأطلق رفيق نفسا عميقا وهو يضمها اليه بشوق بالغ فتحركّت ذراعاها بطريقة لا شعورية لتمسك بكتفيه واعية للمشاعر المتصاعدة بينهما فيما همس لها بصوت متوتر:
-يا ربى ! أنت تدفعيننى نحو الجنون يا ميرا .. لن يكون هناك مجالا للتراجع بعد ذلك , هل أنت متأكدة من رغبتك بالبقاء معى ؟
-الى الأبد.
-وأمك ؟
ابتسمت بخفة لأنه يذكّرها بعمته التى أصبح يناديها بهذه الصفة مؤخرا كلما تكلمّا بشأنها ...
-ما شأنها بنا ؟
-حقا ؟
-أننى زوجتك شرعا , أليس كذلك ؟
تنهّد زافرا وقد فقد آخر قدرة له على السيطرة على نفسه وهو يطبع قبلة حملت كل مشاعره المحبطة على شفتيها اللتين انفرجتا مستقبلتين طعم الشهد بصدر رحب ,فأجابها بتمتمة:
-لقد طال انتظارى لهذه اللحظة وقد ظننت أنك تتعمّدين تعذيبى بتجاهلك لى ,يا لها من أيام!
انتظر قليلا ثم أعاد احتضانها فوبخته متلطفة وهى تربت على كتفه:
-أنا التى تجرعت المرارة يوما بعد يوم وأنت تنفذ رغبات أمى بحذافيرها دون أن تسألنى رأيى.
قال بارتباك:
-أتعنين أنه كان علىّ أن أختطفك دون مراعاة لشعورها ؟
-لم أقل هذا , لقد عنيت ...
أسكت اعتراضها بقبلة أخرى متملكة ,وأكثر عمقا ... شعرت بأن روحها تنسحب منها وانسحقت عظامها تحت ثقل جسده الذى تهاوى وهو يغمغم من بين أنفاسه المتلاحقة:
-حينما أضمك الى صدرى , اشعر كأن روحى قد عادت الى جسدى...
ثم استطرد مردفا بحماس:
-لقد عدت الى حيث تنتمين منذ الأزل.
منذ استعادت ذاكرتها ,وها هى تنهل من نبع حبه الجارف وتشعر أخير بالأمان الذى افتقدته بموت الرجل الذى قام بتربيتها متكفّلا برعايتها هو وزوجته على أكمل وجه لتتبين بعدها أنه أقرب اليها مما تتخيل , خالها ... ذلك الرجل الذى لم يبخل عليها بأى شئ ... حافظ على الأمانة التى تعلّقت بعنقه وردّها سالمة الى أمها ... حتى بعد وفاته ,ظلت تشعر بروحه تحلّق حولها وتمنحها نفس التشجيع كما كانت عادته كلما أقدمت على اختبار جديد ,قالت فى سرها :
-فلترقد بسلام مرتاحا ,لقد أدّيت دورك على أكمل وجه يا والدى الحبيب.
لم ولن تقلها لغيره أبدا ... سيظل هو الأب الوحيد الذى عرفته طوال حياتها بحنانه المعهود.
***************